ثم دخلت سنة ثمان وستين
ففيها: رد عبد الله أخاه مصعباً إلى إمرة البصرة، فأتاها فأقام بها، واستخلف على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، قباع، واستعمل على المدينة جابر بن الأسود الزهري.
وعزل عنها عبد الرحمن بن الأشعث لكونه ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطاً، فإنه أراد منه أن يبايع لابن الزبير فامتنع من ذلك فضربه، فعزله ابن الزبير.
وفيها: هلك ملك الروم قسطنطين بن قسطنطين ببلده.
وفيها: كانت وقعة الأزارقة.
وذلك أن مصعباً كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة، وكان قاهراً لهم وولاه الجزيرة، وكان المهلب قاهراً للأزارقة، وولى على فارس عمر بن عبيد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر بن عبيد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير بن ماحوز، ففروا بين يديه إلى اصطخر فاتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه.
ثم ظفر بهم مرة أخرى ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا هنالك وكثر عَدَدهم وعُدَتهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد فارس وتركوا عمر بن عبيد الله بن معمر وراء ظهورهم.
فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبيد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعباً أمامهم، وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم.
فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الأشتر، وشبت بن ربعي، فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الأمير بإعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فاتبعهم عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف فمروا على الكوفة، ثم صاروا إلى أرض أصبهان فانصرف عنهم ولم يقاتلهم.
ثم أقبلوا فحاصروا وعتاب بن ورقاء شهراً، بمدينة جيا، حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم وقتلوا أميرهم الزبير بن الماحوز وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم قطري بن الفجاءة، ثم ساروا إلى بلاد الأهواز.
فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة -وهو على الموصل - أن يسير إلى قتال الخوارج وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر فانصرف المهلب إلى الأهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية أشهر قتالاً لم يسمع بمثله.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان القحط الشديد ببلاد الشام بحيث لم يتمكنوا معه من الغزو لضعفهم وقلة طعامهم وميرتهم.
قال ابن جرير: وفيها: قتل عبيد الله بن الحر وكان من خبره أنه كان رجلاً شجاعاً تتقلب به الأحوال والأيام والآراء، حتى صار من أمره أنه لا يطاع لأحد من بني أمية ولا لآل الزبير.
وكان يمر على عامل الكورة من العراق وغيره فيأخذ منه جميع ما في بيت المال قهراً، ويكتب له براءة ويذهب فينفقه على أصحابه.
وكان الخلفاء والأمراء يبعثون إليه الجيوش فيطردها ويكسرها قلت أو كثرت، حتى كاع فيه مصعب بن الزبير وعماله ببلاد العراق، ثم إنه وفد على عبد الملك بن مروان فبعثه في عشرة نفر وقال: ادخل الكوفة وأعلمهم أن الجنود ستصل إليهم سريعاً.
فبعث في السر إلى جماعة من إخوانه فظهر على أمره فأعلم أمير الكوفة الحارث بن عبد الله فبعث إليه جيشاً فقتلوه في المكان الذي هو فيه، وحمل رأسه إلى الكوفة، ثم إلى البصرة، واستراح الناس منه.
قال ابن جرير: وفيها شهد موقف عرفة أربع رايات متباينة، كل واحدة منها لا تأتم بالأخرى، الواحدة: لمحمد بن الحنفية في أصحابه، والثانية: لنجدة الحروري وأصحابه، والثالثة: لبني أمية، والرابعة: لعبد الله بن الزبير.
وكان أول من دفع رايته ابن الحنفية، ثم نجدة، ثم بنو أمية، ثم دفع ابن الزبير فدفع الناس معه، وكان عبد الله بن عمر فيمن انتظر دفع ابن الزبير، ولكنه تأخر دفعه، فقال ابن عمر: أشبه بتأخره دفع الجاهلية.
فدفع ابن عمر فدفع ابن الزبير، وتحاجز الناس في هذا العام فلم يكن بينهم قتال.
وكان على نيابة المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري من جهة ابن الزبير، وعلى الكوفة والبصرة أخوه مصعب، وعلى ملك الشام ومصر عبد الملك بن مروان، والله أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان
عبد الله بن يزيد الأوسي، شهد الحديبية، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث.
وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي، ابن أخي عمر بن الخطاب، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالمدينة عن نحو سبعين سنة.
عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري.
عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن امرئ القيس، صحابي جليل، سكن الكوفة، ثم سكن قوميسيا.
زيد بن أرقم بن زيد صحابي جليل.
وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر هذه الأمة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له: الحبر والبحر.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، وعن جماعة من الصحابة، وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله، رضي الله عنه وأرضاه.
وأمه: أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو والد الخلفاء العباسيين، وله أخوة عشرة ذكور من أم الفضل للعباس، وهو آخرهم مولداً، وقد مات كل واحد منهم في بلد بعيد عن الآخر كما سيأتي ذلك.
قال مسلم بن خالد الزنجي المكي: عن ابن نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس.
قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد، أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل.
فقال: ((لعل الله أن يقر أعينكم)).
قال: فلما ولدتني أتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في خرقة فحنكني بريقه.
قال مجاهد: فلا نعلم أحداً حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه غيره.
وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام))، فولدت عبد الله بن عباس.
وعن عمرو بن دينار قال: ولد ابن عباس عام الهجرة.
وروى الواقدي: من طريق شعبة، عن ابن عباس أنه قال: ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونحن في الشعب، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة.
ثم قال الواقدي: وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
واحتج الواقدي: بأنه كان قد ناهز الحلم عام حجة الوداع.
وفي (صحيح البخاري): عن ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مختون، وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم.
وقال شعبة، وهشام، وابن عوانة: عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين مختون.
زاد هشام: وقد جمعت المحكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وما المحكم؟
قال: المفصل.
وقال أبو داود الطيالسي: عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة مختون، وهذا هو الأصح ويؤيده صحة ما ثبت في (الصحيحين).
ورواه مالك: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر عليّ ذلك أحد.
وثبت عنه في (الصحيح) أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، كانت أمي من النساء، وكنت أنا من الولدان، وهاجر مع أبيه الفتح فاتفق لقياهما النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وهو ذاهب لفتح مكة، فشهد الفتح وحنيناً والطائف عام ثمان.
وقيل: كان في سنة تسع وحجة الوداع سنة عشر، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ولزمه، وأخذ عنه وحفظ وضبط الأقوال والأفعال والأحوال، وأخذ عن الصحابة علماً عظيماً مع الفهم الثاقب، والبلاغة والفصاحة والجمال والملاحة، والأصالة والبيان.
ودعا له رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم كما وردت به الأحاديث الثابتة الأركان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بأن يعلمه التأويل، وأن يفقهه في الدين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال: إن عمر كان يدعو عبد الله بن عباس فيقر به ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوماً فمسح رأسك وتفل في فيك وقال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)).
وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك فيه وانشر منه)).
وقال حماد بن سلمة: عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: بت في بيت خالتي ميمونة فوضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً، فقال: ((من وضع هذا؟))
قالوا: عبد الله بن عباس.
فقال: ((اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين)).
وقد رواه غير واحد عن ابن خيثم بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكر بن أبي صفرة، أبو يونس، عن عمرو بن دينار: أن كريباً أخبره أن ابن عباس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه.
فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته قال: ((ما شأني أجعلك في حذائي فتخنس؟)).
فقلت: يا رسول الله أوينبغي لأحد أن يصلي في حذائك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله عز وجل؟ قال: فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً.
ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعت نفخه، ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله: الصلاة، فقام فصلى ما أعاد وضوءاً.
وقال الإمام أحمد وغيره: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا ورقاء، وسمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءاً، فلما خرج قال: ((من وضع ذا؟))
فقيل: ابن عباس.
فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)).
وقال الثوري وغيره: عن ليث، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن ابن عباس أنه رأى جبريل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بالحكمة، وفي رواية بالعلم، مرتين.
وقال الدار قطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي وآخرون قالوا: حدثنا العباس بن محمد، حدثنا محمد بن مصعب بن أبي مالك النخعي، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأيت جبريل مرتين، ودعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين.
ثم قال: غريب من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عكرمة تفرد به عنه أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((اللهم علمه الحكمة)).
ورواه أحمد أيضاً، عن إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة عنه قال: ضمني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((اللهم علمه الكتاب)).
وقد رواه البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث خالد، وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة عنه به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، ثنا سليمان بن بلال، ثنا حسين بن عبد الله بن عكرمة، عن ابن عباس.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل)).
تفرد به أحمد، وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا.
ومنهم من أرسله عن عكرمة، والمتصل هو الصحيح، فقد رواه غير واحد من التابعين عن ابن عباس.
وروى من طريق أمير المؤمنين المهدي، عن أبيه، عن أبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عباس.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم علمه الكتاب وفقهه في الدين)).
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، وعفان المعني قالا: ثنا حماد، ثنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.
قال: كنت مع أبي عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه.
قال عفان: وهو كالمعرض عن العباس، فخرجنا من عنده فقال العباس: ألم أر ابن عمك كالمعرض عني؟
فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه.
قال عفان: قال عباس: أوَكان عنده أحد؟
قلت: نعم.
فرجع إليه فقال: يا رسول الله هل كان عندك أحد آنفاً؟ فإن عبد الله أخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك.
قال: ((هل رأيته يا عبد الله؟))
قال: قلت: نعم !
قال: ((ذاك جبريل عليه السلام)).
وقد روي من حديث المهدي عن آبائه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أما إنك ستصاب في بصرك)).
وكان كذلك، وقد روي من وجه آخر أيضاً والله أعلم.
ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل
رواها قتيبة عن الدراوردي، عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أن العباس بعث ابنه عبد الله في حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده رجلاً فرجع ولم يكلمه من أجل مكان ذلك الرجل.
فلقي العباس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس: يا رسول الله أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلاً فلم يستطع أن يكلمك فرجع وراءه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عم تدري من ذاك الرجل؟)).
قال: لا !
قال: ((ذاك جبريل، ولن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علماً)).
ورواه سليمان بن بلال، عن ثور بن يزيد كذلك، وله طريق أخرى.
وقد ورد في فضائل ابن عباس أحاديث كثيرة منها ما هو منكر جداً أضربنا عن كثير منها صفحاً، وذكرنا ما فيه مقنع وكفاية عما سواه.
وقال البيهقي: أنبأ أبو عبد الله الحافظ، أنبأ عبد الله بن الحسن القاضي بمرو، ثنا الحارث بن محمد، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير.
فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس !! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟
قال: فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليّ فآتيك؟
فأقول: لا ! أنا أحق أن آتيك.
قال: فأساله عن الحديث
قال: فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: ثنا محمد بن عمرو ابن علقمة، ثنا أبو سلمة، عن ابن عباس قال: وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقبل بباب أحدهم، ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي، ولكن ابتغي بذلك طيب نفسه.
وقال محمد بن سعد: أنبأ محمد بن عمر، حدثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سر بإتياني إليه، لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً - وكان من الراسخين في العلم - عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي.
وقال أحمد: عن عبد الرزاق، عن معمر قال: عامة علم ابن عباس من ثلاثة: من عمر، وعلي، وأبيَّ بن كعب.
وقال طاوس: عن ابن عباس أنه قال: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد من ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مغيرة: عن الشعبي قال: قيل لابن عباس: أنى أصبت هذا العلم؟
قال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
وثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجلس ابن عباس مع مشايخ الصحابة ويقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس.
وكان إذا أقبل يقول عمر: جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول، والقلب العقول.
وثبت في (الصحيح) أن عمر سأل الصحابة عن تفسير: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: 1] فسكت بعض وأجاب بعض بجواب لم يرتضه عمر.
ثم سأل ابن عباس عنها فقال: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه.
فقال: لا أعلم منها إلا بما تعلم، وأراد عمر بذلك أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته في العلم والفهم.
وسأله مرة عن ليلة القدر فاستنبط أنها في السابعة من العشر الأخير، فاستحسنه عمر واستجاده كما ذكرنا في التفسير.
وقد قال الحسن بن عرفة: حدثنا يحيى بن اليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن عمر أنه قال لابن عباس: لقد علمت علماً ما علمناه.
وقال الأوزاعي: قال عمر لابن عباس: إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم عقلاً، وأفقههم في كتاب الله عز وجل.
وقال مجاهد: عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قال لي أبي: إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً.
قال الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف.
فقال ابن عباس: بل كل واحدة خير من عشرة آلاف.
وقال الواقدي: حدثنا عبد الله بن الفضل بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عطاء بن يسار: أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات.
قلت: وشهد فتح إفريقية سنة سبع وعشرين مع ابن أبي سرح.
وقال الزهري: عن علي بن الحسين، عن أبيه قال: نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفين، فقال: أقر الله عين من له ابن عم مثل هذا.
وقد شهد مع علي الجمل وصفين، وكان أميراً على الميسرة، وشهد معه قتال الخوارج، وكان ممن أشار على علي أن يستنيب معاوية على الشام، وأن لا يعزله عنها في بادئ الأمر، حتى قال له فيما قال: إن أحببت عزله فوله شهراً واعزله دهراً، فأبى علي إلا أن يقاتله، فكان ما كان مما قد سبق بيانه.
ولما تراض الفريقان على تحكيم الحكمين طلب ابن عباس أن يكون من جهة علي ليكافئ عمرو بن العاص، فامتنعت مذحج وأهل اليمن إلا أن يكون من جهة علي أبو موسى الأشعري، وكان من أمر الحكمين ما سلف.
وقد استنابه علي على البصرة، وأقام للناس الحج في بعض السنين فخطب بهم في عرفات خطبة وفسر فيها سورة البقرة.
وفي رواية سورة النور، قال: من سمعه فسر ذلك تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
وهو أول من عرّف بالناس في البصرة، فكان يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله فيفسر شيئاً من القرآن، ويذكر الناس من بعد العصر إلى الغروب، ثم ينزل فيصلي بهم المغرب.
وقد اختلف العلماء بعده في ذلك، فمنهم من كره ذلك وقال: هو بدعة لم يعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه إلا ابن عباس.
ومنهم من استحب ذلك لأجل ذكر الله وموافقة الحجاج.
وقد كان ابن عباس ينتقد على علي في بعض أحكامه فيرجع إليه علي في ذلك، كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن عكرمة أن علياً حرق ناساً ارتدوا عن الإسلام.
فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تعذبوا بعذاب الله)) بل كنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)).
، فبلغ ذلك علياً فقال: ويح ابن عباس.
وفي رواية ويح ابن عباس، إنه لغواص على الهنات، وقد كافأه علي فإن ابن عباس كان يرى إباحة المتعة، وأنها باقية، وتحليل الحمر الأنسية.
فقال علي: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر.
وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وغيرهما، وله ألفاظ هذا من أحسنها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال البيهقي: أنبأ أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا بكر بن المؤمل يقول: سمعت أبا نصر بن أبي ربيعة يقول: ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبي طالب من البصرة فسأله عن ابن عباس - وكان علي خلفه بها -.
فقال صعصعة: يا أمير المؤمنين، إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف.
وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه.
وقال الواقدي: ثنا أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه.
قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً ولا ألب لباً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس.
ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار.
وقال الأعمش: عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد.
وكان يقول: نعم ترجمان القرآن ابن عباس.
وعن ابن عمر أنه قال: ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني يحيى بن العلاء، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول حين بلغه موت ابن عباس وصفق بإحدى يديه على الأخرى: مات اليوم أعلم الناس وأحلم الناس، وقد أصيبت به هذه الأمة لا ترتق.
وبه إلى يحيى بن العلاء، عن عمر بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
قال: لما مات ابن عباس قال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه مَن بين المشرق والمغرب في العلم.
قال الواقدي: وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو: عن عكرمة قال: سمعت معاوية يقول: مات والله أفقه من مات ومن عاش.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس قال: دخلت على معاوية حين كان الصلح وهو أول ما التقيت أنا وهو، فإذا عنده أناس فقال: مرحباً بابن عباس، ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز علي بعداً ولا أحب إليّ قرباً، الحمد لله الذي أمات علياً.
فقلت له: إن الله لا يذم في قضائه.
وغير هذا الحديث أحسن منه، ثم قلت له: أحب أن تعفيني من ابن عمي وأعفيك من ابن عمك.
قال: ذلك لك.
وقالت عائشة وأم سلمة حين حج ابن عباس بالناس: هو أعلم الناس بالمناسك.
وقال ابن مبارك: عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت فأخذ ابن عباس بركابه فقال: لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فقال زيد: أنى يداك؟
فأخرج يديه فقبّلهما فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
وقال الواقدي: حدثني داود بن هند، عن سعيد بن جبير سمعت ابن المسيب يقول: ابن عباس أعلم الناس.
وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عتبة.
قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال، بعلم ما سبق إليه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر، وعمر، وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير القرآن ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً ما يذكر فيه إلا التأويل، ويوماً ما يذكر فيه إلا المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب.
وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، ولا وجدت سائلاً سأله إلا وجد عند علماً.
قال: وربما حفظت القصيدة من فيه ينشدها ثلاثين بيتاً.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت مثل ابن عباس قط.
وقال عطاء: ما رأيت مجلساً أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهاً، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، وأصحاب الشعر عنه يسألونه، فكلهم يصدر في وادٍ أوسع.
وقال الواقدي: حدثني بشر بن أبي سليم، عن ابن طاوس، عن أبيه.
قال: كان ابن عباس قد يسبق على الناس في العلم كما تسبق النخلة السحوق على الودى الصغار.
وقال ليث بن أبي سليم قلت لطاوس: لم لزمت هذا الغلام؟ - يعني: ابن عباس - وتركت الأكابر من الصحابة؟
فقال: إني رأيت سبعين من الصحابة إذا تماروا في شيء صاروا إلى قوله.
وقال طاوس أيضاً: ما رأيت أفقه منه.
قال: وما خالفه أحد قط فتركه حتى يقرره.
وقال علي بن المديني: ويحيى بن معين، وأبو نعيم وغيرهم، عن سفيان بن عيينة، عن ابن نجيج، عن مجاهد.
قال: ما رأيت مثله قط، ولقد مات يوم مات وأنه لحبر هذه الأمة - يعني: ابن عباس -.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة وغيره: عن أبي أسامة، عن الأعمش، عن مجاهد.
قال: كان ابن عباس أمدهم قامة، وأعظمهم جفنة، وأوسعهم علماً.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلساً أجمع لكل خير من مجلسه - يعني: ابن عباس - الحلال والحرام، وتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والطعام.
وقال مجاهد: ما رأيت أعرب لساناً من ابن عباس.
وقال محمد بن سعد: ثنا عفان بن مسلم، ثنا سليم بن أخضر، عن سليمان التيمي - وهو ممن أرسله الحكم بن أديب - إلى الحسن سأله عن أول من جمّع بالناس في هذا المسجد يوم عرفه؟
قال: ابن عباس، وكان رجلاً مثجى - أحسب في الحديث - كثير العلم، وكان يصعد المنبر فيقرأ سورة البقرة ويفسرها آية آية.
وقد روي من وجه آخر، عن الحسن البصري نحوه.
وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: روى سفيان عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: كان ابن عباس أول من عرّف بالبصرة، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ففسرهما حرفاً حرفاً.
مثجى: قال ابن قتيبة: مثجى من الثج وهو السيلان، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً}[النبأ: 14].
وقيل: كثيراً بسرعة.
وقال يونس بن بكير: حدثنا أبو حمزة الثمالي، عن أبي صالح قال: لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا يذهب.
قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه.
فقال لي: ضع لي وضوءاً.
قال: فتوضأ وجلس وقال: اخرج فقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل.
قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر.
ثم قال: إخوانكم، فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل.
قال: فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر.
ثم قال: إخوانكم فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها، فليدخل.
فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر.
ثم قال: إخوانكم فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل.
فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله.
ثم قال: إخوانكم فخرجوا.
قال أبو صالح: فلو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس.
وقال طاوس وميمون بن مهران: ما رأينا أورع من ابن عمر، ولا أفقه من ابن عباس.
قال ميمون: وكان ابن عباس أفقههما.
وقال شريك القاضي: عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا نطق، قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن الزبير بن الحارث، عن عكرمة قال: كان ابن عباس أعلمهما بالقرآن، وكان علي أعلمهما بالمبهمات.
وقال إسحاق بن راهويه: إنما كان كذلك لأن ابن عباس كان قد أخذ ما عند علي من التفسير، وضم إلى ذلك ما أخذه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبيَّ بن كعب وغيرهم من كبار الصحابة.
مع دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يعلمه الله الكتاب.
وقال أبو معاوية: عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: خطب ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأها ويفسرها فجعلت أقول ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت.
وقد روى أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، أن ابن عباس حج بالناس عام قتل عثمان فقرأ سورة النور، وذكر نحو ما تقدم.
فلعل الأول كان في زمان علي فقرأ في تلك الحجة سورة البقرة، وفي فتنة عثمان سورة النور، والله أعلم.
وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقف عند كل آية فأسأل عنها.
وروي عنه أنه قال: أربع من القرآن لا أدري ما به جيء، الأواه، والحنان، والرقيم، والغسلين.
وكل القرآن أعلمه إلا هذه الأربع.
وقال ابن وهب وغيره: عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن مسألة فإن كانت في كتاب الله قال بها، وإن لم تكن وهي في السنة قال بها، فإن لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدها عن أبي بكر وعمر قال بها، وإلا اجتهد رأيه.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو عاصم، وعبد الرحمن بن الشعبي، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة.
قال: شتم رجل ابن عباس فقال له: إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال، لآتي على الآية من كتاب الله فأود أن الناس علموا منها مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو إليه، ولعلي لا أقاضي إليه ولا أحاكم أبداً، وإني لأسمع بالغيث يصيب الأرض من أرض المسلمين، فأفرح به ومالي بها من سائمة أبداً.
ورواه البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن يزيد بن هارون، عن كهمس به.
وقال ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس من المدينة إلى مكة، وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفاً حرفاً، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب، ويقرأ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: 19].
وقال الأصمعي: عن المعتمر بن سليمان، عن شعيب بن درهم قال: كان في هذا المكان - وأومأ إلى مجرى الدموع من خديه - يعني: خدي ابن عباس - مثل الشراك البالي من البكاء.
وقال غيره: كان يصوم يوم الاثنين والخميس.
وقال: أحب أن يرتفع عملي وأنا صائم.
وروى هاشم وغيره، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن ملك الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أحب الكلام إلى الله عز وجل.
ومن أكرم العباد على الله عز وجل، ومن أكرم الإماء على الله عز وجل.
وعن أربعة فيهم الروح، فلم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن مكان في الأرض لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة، وعن قوس قزح ما هو؟ وعن المجرة.
فبعث معاوية فسأل ابن عباس عنهن فكتب ابن عباس إليه: أما أحب الكلام إلى الله فسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأكرم العباد على الله آدم، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء.
وأكرم الإماء على الله مريم بنت عمران.
وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء وعصى موسى، وكبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل.
وفي رواية: وناقة صالح.
وأما القبر الذي سار بصاحبه فهو حوت يونس.
وأما المكان الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، فهو البحر لما انفلق لموسى حتى جاز بنو إسرائيل فيه.
وأما قوس قزح فأمان لأهل الأرض من الغرق، والمجرة باب في السماء.
وفي رواية: الذي ينشق منه.
فلما قرأ ملك الروم ذلك أعجبه وقال: والله ما هي من عند معاوية ولا من قوله، وإنما هي من عند أهل النبي صلى الله عليه وسلم، من وقد ورد هذه الأسئولة روايات كثيرة فيها، وفي بعضها نظر والله أعلم.
فصل تولي ابن عباس إمامة الحج.
تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور، وفي غيبته هذه قتل عثمان، وحضر ابن عباس مع علي الجمل، وكان على الميسرة يوم صفين.
وشهد قتال الخوارج وتأمّر على البصرة من جهة علي، وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به، يفقههم ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي.
ويقال: إن علياً عزله عنها قبل موته، ثم وفد على معاوية فأكرمه وقربه واحترمه وعظمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه.
ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن العباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية، ورد عليه ابن عباس رداً حسناً كما قدمنا.
وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس، وعزاه بعبارة فصيحة وجيزة، شكره عليها ابن عباس.
ولما مات معاوية ورام الحسين الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس أشد النهي، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين - لأن ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه، فلما بلغه موته حزن عليه حزناً شديداً ولزم بيته، وكان يقول: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لا تفعل تندم.
وجاء إليه رجل يقال له: جندب، فقال له: أوصني.
فقال: أوصيك بتوحيد الله والعمل له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع، يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قرباً، فصلِّ صلاة مودعٍ.
وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك.
وقال بعضهم: أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم.
قال: لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعاً، ولا تمار سفيهاً ولا حليماً، فإن الحليم يغلبك، والسفيه يزدريك، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
فقال رجل عنده: يا ابن عباس ! هذا خير من عشرة آلاف.
فقال ابن عباس: كلمة منه خير من عشرة آلاف.
وقال ابن عباس: تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره - يعني: أن تعجل العطية للمعطى - وأن تصغر في عين المعطي - وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها ! فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى، واستحياءه من الناس.
وقال ابن عباس: أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت.
وقال أيضاً: لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعاً إلا الله عز وجل، وكذا رجل بدأني بالسلام أو أوسع لي في مجلس، أو قام لي عن المجلس، أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ، ورجل حفظني بظهر الغيب.
والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جداً، وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره.
وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الأشراف، وفي بعض الأحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك، وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل له في ذلك فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي.
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا علي بن الجعد، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه وقع في عينيه الماء فقال له الطبيب: ننزعك من عينيك الماء على أن لا تصلي سبعة أيام.
فقال: لا ! إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان
وفي رواية أنه قيل له: نزيل هذا الماء من عينيك على أن تبقى خمسة أيام ولا تصلي إلا على عود.
وفي رواية: إلا مستلقياً.
فقال: لا والله ولا ركعة واحدة، إنه من ترك صلاة واحدة متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان.
وقد أنشد المدائني لابن عباس حين عمي:
إن يأخذ الله من عيني نورهما * ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي دخلٍ * وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثور
ولما وقع الخلف بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان اعتزل ابن عباس ومحمد بن الحنفية الناس، فدعاهما ابن الزبير ليبايعاه فأبيا عليه، وقال كل منهما: لا نبايعك ولا نخالفك، فهمّ بهما فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة فاستنجد لهما من العراق من شيعتهما.
فقدم أربعة آلاف فكبروا بمكة تكبيرة واحدة، وهموا بابن الزبير فهرب فتعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ بالله، فكفوهم عنه، ثم مالوا إلى ابن عباس وابن الحنفية وقد حمل ابن الزبير حول دورهم الحطب ليحرقهم، فخرجوا بهما حتى نزلوا الطائف، وأقام ابن عباس سنتين لم يبايع أحداً كما تقدم.
فلما كان في سنة ثمان وستين توفي ابن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية، فلما وضعوه ليدخلوه في قبره جاء طائر أبيض لم ير مثل خلقته، فدخل في أكفانه، والتف بها حتى دفن معه.
قال عفان: وكانوا يرون علمه وعمله، فلما وضع في اللحد تلا تالٍ لا يعرف من هو، وفي رواية: أنهم سمعوا من قبره: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30].
هذا القول في وفاته هو الذي صححه غير واحد من الأئمة، ونص عليه أحمد بن حنبل، والواقدي، وابن عساكر، وهو المشهور عند الحافظ.
وقيل: أنه توفي سنة ثلاث وستين.
وقيل: سنة ثلاث وسبعين.
وقيل: سنة سبع وستين.
وقيل: سنة تسع وستين.
وقيل: سنة سبعين، والأول أصح، وهذه الأقوال كلها شاذة غريبة مردودة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمره يوم مات ثنتين وسبعين سنة.
وقيل: إحدى وسبعين.
وقيل: أربع وسبعين، والأول أصح والله أعلم.
صفة ابن عباس
كان جسيماً إذا جلس يأخذ مكان رجلين، جميلاً له وفرة، قد شاب مقدم رأسه، وشابت لمته، وكان يخضب بالحناء.
وقيل: بالسواد، حسن الوجه يلبس حسناً ويكثر من الطيب بحيث إنه كان إذا مر في الطريق يقول النساء: هذا ابن عباس أو رجل معه مسك، وكان وسيماً، أبيض طويلاً، جسيماً فصيحاً، ولما عمي اعترى لونه صفرة يسيرة.
وقد كان بنو العباس عشرة، وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم، وعبد الرحمن، وكثير، والحارث، وعون، وتمام.
وكان أصغرهم تمام، ولهذا كان يحمله ويقول:
تموا بتمامٍ فصاروا عشرة * يا رب فاجعلهم كراماً بررة
واجعلهم ذكراً وانم الثمرة
فأما الفضل فمات بأجنادين شهيداً، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، ومعبد وعبد الرحمن بإفريقية، وقثم وكثير بينبع.
وقيل: إن قثماً مات بسمرقند.
وقد قال مسلم بن حماد المكي مولى بني مخزوم: ما رأيت مثل بني أمٍ واحدة أشراف ولدوا في دار واحدة أبعد قبوراً من بني أم الفضل، ثم ذكر مواضع قبورهم كما تقدم، إلا أنه قال: الفضل مات بالمدينة، وعبيد الله بالشام.
وقد كان عبد الله بن عباس يلبس الحلة بألف درهم، وكان له من الولد العباس وعلي، وكان علي يدعى السجاد لكثرة صلاته، وكان أجمل قرشي على وجه الأرض.
وقد قيل: إنه كان يصلي كل يوم ألف ركعة.
وقيل: في الليل والنهار مع الجمال التام، وعلى هذا فهو أبو الخلفاء العباسيين، ففي ولده كانت الخلافة العباسية كما سيأتي.
وكان لابن العباس أيضاً محمد، والفضل، وعبد الله، وأمهم: زرعة بنت مسرح بن معدي كرب، وله أسماء وهي لأم ولد.
وكان له من الموالي: عكرمة، وكريب، وأبو معبد، وشعبة، ودقيق، وأبو عمرة، وأبو عبيدة.
وأسند ألفاً وستمائة وسبعين حديثاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها: توفي أبو شريح الخزاعي العدوي الكعبي، اختلف في اسمه على أقوال أصحها خويلد بن عمرو، أسلم عام الفتح، وكان معه أحد ألوية بني كعب الثلاثة.
قال محمد بن سعد: مات في هذه السنة، وله أحاديث.
وفيها: توفي أبو واقد الليثي صحابي جليل، مختلف في اسمه وفي شهوده بدراً.
قال الواقدي: توفي سنة ثمان وستين عن خمس وستين سنة، وكذا قال غير واحد في تاريخ وفاته.
وزعم بعضهم أنه عاش سبعين سنة، مات بمكة بعد ما جاوز بها سنة، ودفن في مقابر المهاجرين والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وستين
ففيها: كان مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الأموي
قتله عبد الملك بن مروان، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ركب في أول هذه السنة في جنوده قاصداً قرقيسيا ليحاصر زفر بن الحارث الكلابي الذي أعان سليمان بن صرد على جيش مروان حين قاتلوهم بعين وردة.
ومن عزمه إذا فرغ من ذلك أن يقصد مصعب بن الزبير بعد ذلك، فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الأشدق، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال.
وقيل: بل كان مع عبد الملك ولكنه انخذل عنه في طائفة من الجيش وكر راجعاً إلى دمشق في الليل، ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي، وزهير بن الأبرد الكلبي، فانتهوا إلى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم نائباً من جهة عبد الملك.
فلما أحس بهم هرب وترك البلد، فدخلها عمرو بن سعيد الأشدق فاستحوذ على ما فيها من الخزائن، وخطب بالناس فوعدهم العدل والنصف والعطاء الجزيل والثناء الجميل.
ولما علم عبد الملك بما فعله الأشدق كر راجعاً من فوره، فوجد الأشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح، وانحاز الأشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله.
فحاصره عبد الملك وقاتله الأشدق مدة ستة عشر يوماً، ثم اصطلحا على ترك القتال، وعلى أن يكون ولي العهد بعد عبد الملك، وعلى أن يكون لكل عامل لعبد الملك عامل له، وكتبا بينهما كتاب أمان، وذلك عشية الخميس.
ودخل عبد الملك إلى دمشق إلى دار الإمارة على عادته، وبعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق يقول له: ردَّ على الناس أعطياتهم التي أخذتها من بيت المال.
فبعث إليه الأشدق: أن هذا ليس إليك، وليس هذا البلد لك فاخرج منه.
فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى الأشدق يأمره بالإتيان إلى منزله بدار الإمارة الخضراء، فلما جاءه الرسول صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو زوج ابنته أم موسى بنت الأشدق، فاستشاره عمرو في الذهاب إليه.
فقال له: يا أبا سعيد والله لأنت أحب إليّ من سمعي وبصري، وأرى أن لا نأتيه، فإن تبيعاً الحميري ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيماً من عظماء بني إسماعيل يغلق أبواب دمشق فلا يلبث أن يقتل.
فقال عمرو: والله لو كنت نائماً ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، وما كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه.
وقال عمرو بن سعيد: أبلغه السلام وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله.
فلما كان العشي - يعني: بعد الظهر - لبس عمرو درعاً بين ثيابه وتقلد سيفه ونهض فعثر بالبساط، فقالت امرأته وبعض من حضره: إنا نرى أن لا تأتيه، فلم يلتفت إلى ذلك ومضى في مائة من مواليه.
وكان عبد الملك قد أمر بني مروان فاجتمعوا كلهم عنده، فلما انتهى عمرو إلى الباب أمر عبد الملك أن يدخل وأن يحبس من معه عند كل باب طائفة منهم.
فدخل حتى انتهى إلى صرحة المكان الذي فيه عبد الملك، ولم يبق معه من مواليه سوى وصيف، فرمى ببصره فإذا مروان عن بكرة أبيهم مجتمعون عند عبد الملك، فأحس بالشر فالتفت إلى ذلك الوصيف فقال له همساً: ويلك انطلق إلى أخي يحيى فقل له فليأتني.
فلم يفهم عنه وقال له: لبيك.
فأعاد عليه ذلك فلم يفهم أيضاً، وقال: لبيك.
فقال: ويلك أغرب عني في حرق الله وناره.
وكان عند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل، وقبيصة بن ذؤيب، فأذن لهما عبد الملك بالانصراف، فلما خرجا غلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك فرحب به وأجلسه معه على السرير، ثم جعل يحدثه طويلاً.
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام خذ السيف عنه.
فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين.
فقال له عبد الملك: أوتطمع أن تتحدث معي متقلداً سيفك؟
فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدثا ساعة.
ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية.
قال: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأت عيني منك، وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة.
فقالت بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين.
فقال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أمية.
فقال بنو مروان: بر يمين أمير المؤمنين.
فقال عمرو: بر قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها.
فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس.
فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لاها الله إذا ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولما نخرجها منك إلا صعداً.
ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك.
فقال عبد الملك: والله لو أعلم أنك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلد قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه.
وفي رواية أنه قال له: أما علمت يا عمرو وأنه لا يجتمع فحلان في شرك ؟.
فلما تحقق عمرو ما يريد من قتله قال له: أغدراً يا ابن الزرقاء؟ وأسمعه كلاماً رديئاً بشعاً، وبينما هما كذلك إذ أذن مؤذن للعصر، فقام عبد الملك ليخرج إلى الصلاة.
وأمر أخاه عبد العزيز بن مروان بقتله، وخرج عبد الملك وقام إليه عبد العزيز بالسيف.
فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن لا تلي ذلك مني، وليتولّ ذلك غيرك، فكف عنه عبد العزيز.
ولما رأى الناس عبد الملك قد خرج وليس معه عمرو، أرجف الناس بعمرو، فأقبل أخوه يحيى بن سعيد في ألف عبدٍ لعمرو بن سعيد وأناس معهم كثير، وأسرع عبد الملك الدخول إلى دار الإمارة.
وجاء أولئك فجعلوا يدقون باب الإمارة ويقولون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وضرب رجل منهم الوليد بن عبد الملك في رأسه بالسيف فجرحه، فأدخله إبراهيم بن عدي صاحب الديوان بيتاً، وأحرزه فيه، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وضجت الأصوات.
ولما رجع عبد الملك وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبه وسب أمه - ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك -فقال له: ناشدني الله والرحم، وكان ابن عمّه عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام أتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئاً، ثم ثنى فلم تغن شيئاً. : 8/340)
فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال: أدارع أيضاً؟ إن كنت معداً، يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع، ثم جلس على صدره فذبحه، وهو يقول:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
قالوا: وانتفض عبد الملك بعد ما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جداً، بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولاً، فوضوعه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قبله صاحب دنيا ولا آخرة.
ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فخرج إلى الناس فألقاه بين أظهرهم، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدر من الأموال تحمل، فألقيت بين الناس، فجعلوا يختطفونها.
ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك من الناس إلى بيت المال.
ويقال: إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزعيزعة بعد ما خرج عبد الملك إلى الصلاة فالله أعلم.
وقد دخل يحيى بن سعيد - أخو عمرو بن سعيد - دار الإمارة بعد مقتل أخيه بمن معه فقام إليهم بنو مروان فاقتتلوا، وجرح جماعات من الطائفتين، وجاءت يحيى بن سعيد صخرة في رأسه أشغلته عن نفسه وعن القتال.
ثم إن عبد الملك بن مروان خرج إلى المسجد الجامع فصعد المنبر فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم.
فأتاه إبراهيم بن عدي الكناني فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس.
ثم أمر عبد الملك بيحيى بن سعيد أن يقتل، فتشفع فيه أخوه عبد العزيز بن مروان، وفي جماعات آخرين معه كان عبد الملك قد أمر بقتلهم، فشفعه فيهم وأمر بحبسه فحبس شهراً، ثم سيره وبني عمرو بن سعيد وأهليهم إلى العراق، فدخلوا على مصعب بن الزبير فأكرمهم وأحسن إليهم.
ثم لما انعقدت الجماعة لعبد الملك بعد مقتل ابن الزبير، وفدوا عليه فكاد يقتلهم فتلطف بعضهم في العبارة حتى رق لهم رقة شديدة.
فقال لهم عبد الملك: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم، فأحسن جائزتهم وقربهم.
وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إليّ بكتاب الأمان الذي كنت كتبته لعمرو.
فقالت: إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله.
وقد كان مروان بن الحكم وعد عمرو بن سعيد هذا أن يكون ولي العهد من بعد ولده عبد الملك، كلاماً مجرداً، فطمع في ذلك وقويت نفسه بسبب ذلك، وكان عبد الملك يبغضه بغضاً شديداً من حال الصغر، ثم كان هذا صنيعه إليه في الكبر.
قال ابن جرير: وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: أعجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرته حتى قتلته؟
فقال
وأدنيته مني ليسكن روعه * فأصول صولة حازمٍ مستمكن
غضباً ومحمية لديني إنه * ليس المسيء سبيله كالمحسن
قال خليفة بن خياط: وهذا الشعر للضبي بن أبي رافع، تمثل به عبد الملك.
وروى ابن دريد: عن أبي حاتم، عن الشعبي أن عبد الملك قال: لقد كان عمرو بن سعيد أحب إليّ من دم النواظر، ولكن الله لا يجتمع فحلان في الإبل إلا أخرج أحدهما الآخر، وأنا لَكَما قال أخو بني يربوع:
أجازي من جزاني الخير خيراً * وجازى الخير يجزى بالنوال
وأجزي من جزاني الشر شراً * كما تحذا النعال على النعال
قال خليفة بن خياط: وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد:
صحت ولا تشلل وضرت عدوها * يمين أراقت مهجة ابن سعيد
وجدت ابن مروان ولا نبل عنده * شديدٌ ضرير الناس غر بليد
هو ابن أبي العاصي لمروان ينتهي * إلى أسرةٍ طابت له وجدود
وكان الواقدي يقول: أما حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الأشدق فكان في سنة تسع وستين، رجع إليه من بطنان فحاصره بدمشق، ثم كان قتله في سنة سبعين والله أعلم.
وهذه ترجمة الأشدق
هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أمية القرشي الأموي، المعروف: بالأشدق.
يقال: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال: ((ما نحل والد ولداً أحسن من أدب حسن)).
وحديثاً آخر في العتق، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وحدث عنه بنوه أمية، وسعيد، وموسى، وغيرهم.
واستنابه معاوية على المدينة، وكذلك يزيد بن معاوية بعد أبيه كما تقدم، وكان من سادات المسلمين، ومن الكرماء المشهورين، يعطي الكثير، ويتحمل العظائم، وكان وصي أبيه من بين بنيه، وكان أبوه كما قدمنا من المشاهير الكرماء، والسادة النجباء.
قال عمرو: ما شتمت رجلاً منذ كنت رجلاً، ولا كلفت من قصدني أن يسألني، لهو أمنّ علي مني عليه. وقال سعيد بن المسيب: خطباء الناس في الجاهلية الأسود بن عبد المطلب، وسهيل بن عمرو.
وخطباء الناس في الإسلام معاوية وابنه، وسعيد بن العاص وابنه، وعبد الله بن الزبير.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد، ثنا علي بن زيد، أخبرني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية حتى يسيل رعافه)).
قال: فأخبرني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال رعافه.
وهو الذي كان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، فنهاه أبو شريح الخزاعي وذكر له الحديث الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم مكة.
فقال: نحن أعلم بذلك منك يا شريح، إن الحرام لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدمٍ، ولا فاراً بجزية.
الحديث كما تقدم وهو في (الصحيحين).
ثم إن مروان دخل إلى مصر بعد ما دعا إلى نفسه واستقر له الشام، ودخل معه عمرو بن سعيد ففتح مصر، وقد كان وعد عمراً أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك، وأن يكون قبل ذلك نائباً بدمشق، فلما قويت شوكة مروان رجع عن ذلك، وجعل الأمر من بعد ذلك لولده عبد العزيز، وخلع عمراً.
فما زال ذلك في نفسه حتى كان من أمره ما تقدم، فدخل عمرو دمشق وتحصن بها وأجابه أهلها، فحاصره عبد الملك ثم استنزله على أمان صوري، ثم قتله كما قدمنا.
وكان ذلك في هذه السنة على المشهور عند الأكثرين.
وقال الواقدي، وأبو سعيد بن يونس: سنة سبعين فالله أعلم.
ومن الغريب ما ذكره هشام بن محمد الكلبي بسند له: أن رجلاً سمع في المنام قائلا يقول على سور دمشق قبل أن يخرج عمرو بالكلية، وقبل قتله بمدة هذه الأبيات:
ألا يا قوم للسفاهة والوهن * وللفاجر الموهون والرأي الأفن
ولا ابن سعيدٍ بينما هو قائم * على قدميه خرّ للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجأ * إليه فزارته المنية في الحصن
قال: فأتى الرجل عبد الملك فأخبره فقال: ويحك سمعها منك أحد؟
قال: لا !
قال: فضعها تحت قدميك.
قال: ثم بعد ذلك خلع عمرو الطاعة وقتله عبد الملك بن مروان.
وقد قيل: إن عبد الملك لما حاصره راسله وقال: أنشدك الله والرحم أن تدع أمر بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة فإن فيما صنعت قوة لابن الزبير علينا، فارجع إلى بيعتك ولك عليّ عهد الله وميثاقه، وحلف له بالأيمان المؤكدة أنك ولي عهدي من بعدي.
وكتبا بينهما كتاباً فانخدع له عمرو وفتح له أبواب دمشق فدخلها عبد الملك وكان من أمرهما ما تقدم.
وممن توفي فيها من الأعيان
أبو الأسود الدؤلي
ويقال له: الديلي.
قاضي الكوفة، تابعي جليل، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن جلس بن شباثة بن عدي بن الدؤل بن بكر، أبو الأسود الذي نسب إليه علم النحو.
ويقال: أنه أول من تكلم فيه، وإنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلف في اسمه على أقوال: أشهرها أن اسمه ظالم بن عمرو.
وقيل: عكسه.
وقال الواقدي: اسمه عويمر بن ظويلم.
قال: وقد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وشهد الجمل وهلك في ولاية عبد الله بن زياد.
وقال يحيى بن معين، وأحمد بن عبد الله العجلي: كان ثقة وهو أول من تكلم في النحو.
وقال ابن معين وغيره: مات بالطاعون الجارف سنة تسع وستين.
قال ابن خلكان: وقيل: أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد كان ابتداؤها في سنة تسع وتسعين.
قلت: وهذا غريب جداً.
قال ابن خلكان وغيره: كان أول من ألقى إليه علم النحو علي بن أبي طالب، وذكر له أن الكلام اسم وفعل وحرف.
ثم أن أبا الأسود نحى نحوه وفرع على قوله، وسلك طريقه، فسمى هذا العلم النحو لذلك.
وكان الباعث لأبي الأسود على ذلك تغير لغة الناس، ودخول اللحن في كلام بعضهم أيام ولاية زياد على العراق، وكان أبو الأسود مؤدب بنيه، فإنه جاء رجل يوماً إلى زياد فقال: توفي أبانا وترك بنون، فأمره زياد أن يضع للناس شيئاً يهتدون به إلى معرفة كلام العرب.
ويقال: إن أول من وضع منه باب التعجب من أجل أن ابنته قالت له ليلة: يا أبة ما أحسن السماء.
قال: نجومها.
فقالت: إني لم أسأل عن أحسنها إنما تعجبت من حسنها.
فقال: قولي: ما أحسن السماء.
قال ابن خلكان: وقد كان أبو الأسود يبخل.
وكان يقول: أطعنا المساكين في أموالنا لكنا مثلهم، وعشى ليلة مسكيناً ثم قيده وبيته عنده ومنعه أن يخرج ليلة تلك لئلا يؤذي المسلمين بسؤاله.
فقال له المسكين: أطلقني.
فقال: هيهات، إنما عشيتك لأريح منك المسلمين الليلة، فلما أصبح أطلقه.
وله شعر حسن.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وقد أظهر خارجي التحكيم بمنى فقتل عند الحجرة.
والنواب فيها هم الذين كانوا في السنة التي قبلها.
وممن توفي فيها
جابر بن سمرة بن جنادة
له صحبة ورواية، ولأبيه أيضاً صحبة ورواية.
وقيل: توفي سنة ست وستين فالله أعلم.
أسماء بنت يزيد
بن السكن الأنصارية، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتلت بعمود خيمتها يوم اليرموك تسعة من الروم ليلة عرسها، وسكنت دمشق، ودفنت بباب الصغير.
حسان بن مالك
أبو سليمان البحدلي، قام ببيعة مروان لما تولى الخلافة، مات في هذه السنة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة
فيها: ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبد الملك ملك الروم وهادنه على أن يدفع إليه عبد الملك في كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على الشام.
وفيها: وقع الوباء بمصر فهرب منه عبد العزيز بن مروان إلى الشرقية، فنزل حلوان وهي على مرحلة من القاهرة، واتخذها منزلاً واشتراها من القبط بعشرة آلاف دينار، وبنى بها داراً للإمارة وجامعاً، وأنزلها الجند.
وفيها: ركب مصعب بن الزبير من البصرة إلى مكة ومعه أموال جزيلة.
فأعطى وفرق وأطلق الجماعة من رؤوس الناس بالحجاز أموالاً كثيرة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عاصم بن عمر بن الخطاب
القرشي العدوي، وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرو إلا عن أبيه حديثاً واحداً: ((إذا أقبل الليل من ههنا)) الحديث.
وعنه ابناه حفص، وعبد الله، وعروة بن الزبير، وقد طلق أبوه أمه فأخذته جدته الشموس بنت أبي عامر، أتى به الصديق وقال: شمها ولطفها أحب إليه منك.
ثم لما زوجه أبوه في أيام إمارته، أنفق عليه من بيت المال شهراً، ثم كف عن الإنفاق عليه، وأعطاه من ماله، وأمره أن يتجر وينفق على عياله.
وذكر غير واحد: أنه كان بين عاصم وبين الحسن والحسين منازعة في أرض، فلما تبين عاصم من الحسن الغضب، قال: هي لك.
فقال له: بل هي لك.
فتركاها ولم يتعرضا لها، ولا أحد من ذريتهما حتى أخذها الناس من كل جانب، وكان عاصم رئيساً وقوراً، كريماً فاضلاً.
قال الواقدي: مات سنة سبعين بالمدينة.
قبيصة بن دؤيب الخزاعي الكلبي
أبو العلاء من كبار التابعين، وهو أخو معاوية من الرضاعة، كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، انتقل إلى الشام وكان معلم كتّاب.
قيس بن ذريج
المشهور أنه من بادية الحجاز.
وقيل: إنه أخو الحسين بن علي من الرضاعة، وكان قد تزوج لبنى بنت الحباب ثم طلقها، فلما طلقها هام لما به من الغرام، وسكن البادية، وجعل يقول فيها الأشعار ونحل جسمه.
فلما زاد ما به أتاه ابن أبي عتيق فأخذه ومضى به إلى عبد الله بن جعفر، فقال له: فداك أبي وأمي، اركب معي في حاجة، فركب واستنهض معه أربعة نفر من وجوه قريش، فذهبوا معه وهم لا يدرون ما يريد، حتى أتى بهم باب زوج لبنى، فخرج إليهم فإذا وجوه قريش، فقال: جعلني الله فداكم ! ما جاء بكم؟
قالوا: حاجة لابن أبي عتيق.
فقال الرجل: اشهدوا أن حاجته مقضية، وحكمه جائز.
فقالوا: أخبره بحاجتك.
فقال ابن أبي عتيق: اشهدوا على أن زوجته لبنى منه طالق.
فقال عبد الله بن جعفر: قبحك الله ! ألهذا جئت بنا؟
فقال: جعلت فداكم يطلق هذا زوجته ويتزوج بغيرها، خير من أن يموت رجل مسلم في هواها صبابة، والله لا أبرح حتى ينتقل متاعها إلى بيت قيس.
ففعلت، وأقاموا مدة في أرغد عيش وأطيبه رحمهم الله تعالى.
يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري
الشاعر، كان كثير الشعر والهجو، وقد أراد عبيد الله بن زياد قتله لكونه هجا أباه زياداً، فمنعه معاوية من قتله.
وقال: أدبه فسقاه دواء مسهلاً وأركبه على حمار، وطاف به في الأسواق، وهو يسلح على الحمار، فقال في ذلك:
يغسل الماء ما صنعت وشعري * راسخٌ منك في العظام البوالي
بشير بن النضر
قاضي مصر، كان رزقه في العام ألف دينار، توفي بمصر، وولى بعده عبد الرحمن بن حمزة الخولاني، والله سبحانه أعلم.
مالك بن يخامر
السكسكي الألهاني الحمصي تابعي جليل.
ويقال له: صحبة فالله أعلم.
روى البخاري من طريق معاوية عنه، عن معاذ بن جبل في حديث الطائفة الظاهرة على الحق أنهم بالشام، وهذا من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، إلا أن يقال له: صحبة
والصحيح: أنه تابعي وليس بصحابي، وكان من أخص أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال غير واحد: مات في هذه السنة.
وقيل: سنة اثنتين وسبعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
ففيها: كان مقتل مصعب بن الزبير
وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصداً مصعب بن الزبير، فالتقيا في هذه السنة، وقد كانا قبلها يركب كل واحد ليلتقي بالآخر فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده.
فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك وبعث بين يديه السرايا، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر، فاستجاب له بعضهم.
وقد كان مصعب سار إلى الحجاز فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك، فأنب الكبراء من الناس وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم، وإقرارهم لهم على ذلك، وهدم دور بعضهم، ثم شخص إلى الكوفة، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه ووصل عبد الملك إلى مسكِن.
وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان فقال: نعم - وهم جماعة كثيرة من الأمراء - وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية.
وخرج مصعب وقد اختلف عليه أهل العراق، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك، وقال: لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع من إلقائه يده، ومن الذلة لعبيد الله بن زياد.
وجعل ينشد ويقول مسلياً نفسه:
وإن الأولى بألطف من آل هاشمٍ * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أصحابه أن يقيم بالشام وأن يبعث إلى مصعب جيشاً، فأبى وقال: لعلي إن بعثت رجلاً شجاعاً كان لا رأي له، ومن له رأي ولا شجاعة له، وإني أجد من نفسي بصيراً بالحرب والشجاعة.
وإن مصعباً في بيت شجاعة، أبوه أشجع قرشي، وأخوه لا تجهل شجاعته، وهو شجاع ومعه من يخالفه، ولا علم له بالحرب، وهو يحب الدعة والصفح، ومعي من ينصح لي ويوافقني على ما أريد.
فسار بنفسه فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات، فجاء إبراهيم بن الأشتر إلى مصعب فألقى إليه كتاباً مختوماً وقال: هذا جاءني من عبد الملك، ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الإتيان إليه، وله نيابة العراق.
وقال لمصعب: أيها الأمير ! إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا، فإن أطعتني ضربت أعناقهم.
فقال له مصعب: إني لو فعلت ذلك لم ينصحنا عشائرهم بعدهم.
فقال: فابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه، فإن كانت لك النصرة ضربت أعناقهم، وإن كانت عليك خرجوا بعد ذلك.
فقال له: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن هذا.
ثم قال مصعب: رحم الله أبا بحر - يعني: الأحنف - إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن.
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن، فحمل إبراهيم بن الأشتر - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب على محمد بن مروان، وهو أمير مقدمة الشام - فأزالهم عن موضعهم، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على ابن الأشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الأشتر رحمه الله وعفا عنه، وقتل معه جماعة من الأمراء.
وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضاً ولجأ إلى عبد الملك بن مروان، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا يتحرك أحد.
فجعل يقول: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم، وتفاقم الأمر واشتد القتال، وتخاذلت الرجال، وضاق الحال، وكثر النزال.
قال المدائني: أرسل عبد الملك أخاه إلى مصعب يعطيه الأمان، فأبى وقال: إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالباً أو مغلوباً.
قالوا: فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال: يا ابن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان.
فقال له مصعب: قد أمنك عمك فامض إليه.
فقال: لا يتحدث نساء قريش إني أسلمتك للقتل.
فقال له: يا بني فاركب خيل السبق فالحق بعمك فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول ههنا.
فقال: والله إني لا أخبر عنك أحداً أبداً، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك، ولا أقتل إلا معك، ولكن إن شئت ركبت خيلك وسرنا إلى البصرة فإنهم على الجماعة.
فقال: والله لا يتحدث قريش بأني فررت من القتال.
فقال لابنه: تقدم بين يدي حتى أحتسبك، فتقدم ابنه فقاتل حتى قتل.
وأُثخن مصعب بالرمي فنظر إليه زائدة بن قدامة وهو كذلك فحمل عليه فطعنه وهو يقول: يا ثارات المختار.
ونزل إليه رجل يقال له: عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فقتله وحز رأسه، وأتى به عبد الملك بن مروان، فسجد عبد الملك وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها وقال: لم أقتله على طاعتك ولكن بثأر كان لي عنده، وكان قد ولي له عملاً قبل ذلك فعزله عنه وأهانه
قالوا: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال عبد الملك: لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة، وكان من أحب الناس إليّ، ولكن هذا الملك عقيم.
وقال: لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى: لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم، فإنك قد ضعفت جداً.
فلم يرد عليه جواباً، ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي، وكيف قتل كريماً ولم يلق بيده، ولم يجد من أهل العراق وفاء.
وكذلك أبوه وأخوه، ونحن ما وجدنا لهم وفاء، ثم انهزم أصحابه وبقي في قليل من خواصه، ومال الجميع إلى عبد الملك، وقد كان عبد الملك يحب مصعباً حباً شديداً، وكان خليلاً له قبل الخلافة.
فقال لأخيه محمد: اذهب إليه فأمنه.
فجاءه فقال له: يا مصعب قد أمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك، فاذهب حيث شئت من البلاد، ولو أراد بك غير ذلك لكان أنزله بك، فأنشدك الله في نفسك.
فقال مصعب: قضي الأمر، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً.
فتقدم ابنه عيسى فقاتل، فقال محمد بن مروان: يا ابن أخي لا تقتل نفسك.
ثم ذكر من قوله ما تقدم، ثم قاتل حتى قتل رحمه الله، ثم ذكر من قتل منهم بعده كما تقدم.
قال: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم.
ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب؟
ثم أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة.
قال المدائني: وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور.
وقال: المدائني: سنة ثنتين وسبعين والله أعلم.
قالوا: ولما قتل عبد الملك مصعباً ارتحل إلى الكوفة فنزل النخيلة فوفدت عليه الوفود من رؤساء القبائل وسادات العرب.
وجعل يخاطبهم بفصاحة وبلاغة واستشهاد بأشعار حسنة، وبايعه أهل العراق، وفرق العمالات في الناس، وولى الكوفة قطن بن عبد الله الحري أربعين يوماً، ثم عزله وولى أخاه بشر بن مروان عليها.
وخطب عبد الملك يوماً بالكوفة فقال في خطبته:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز ذنبه في الحرم.
ثم قال لهم: إني قد استخلفت عليكم أخي بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، وبالشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وأما أهل البصرة فإنهم لما بلغهم مقتل مصعب، تنازع في إمارتها أبان بن عثمان بن عفان، وعبيد الله بن أبي بكرة، فغلبه أبان عليها، فبايعه أهلها فكان أشرف الرجلين.
قال أعرابي: والله لقد رأيت رداء أبان مال عن عاتقه يوماً فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه على منكبيه.
وقال غيره: مد أبان يوماً رجله فابتدرها معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها.
قال: فبعث عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد والياً عليها - يعني: على البصرة - فأخذها من أبان واستناب فيها عبيد الله بن أبي بكرة، وعزل أباناً عنها.
قالوا: وقد أمر عبد الملك بطعام كثير فعمل لأهل الكوفة فأكلوا من سماطه، ومعه يومئذ على السرير عمرو بن حريث.
فقال له عبد الملك: ما ألذ عيشنا لو أن شيئاً يدوم؟ ولكن كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى البلى * وكل امرئ يوماً يصير إلى كان
فلما فرغ الناس من الأكل نهض فدار في القصر وجعل يسأل عمرو بن حريث عن أحوال القصر، ومن بنى أماكنه وبيوته، ثم عاد إلى مجلسه فاستلقى وهو يقول:
اعمل على مهلٍ فإنك ميتٌ * واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى * وكأن ما هو كائنٌ قد كان
قال ابن جرير: وفيها: رجع عبد الملك كما زعم الواقدي إلى الشام.
وفيها: عزل ابن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة وولى عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان هو آخر أمرائه عليها، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان من جهة عبد الملك.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير ولم يبق له ولاية على العراق.
قال الواقدي: وفيها: عقد عبد العزيز بن مروان نائب مصر لحسان العاني على غزو إفريقية، فسار إليها في عدد كثير، فافتتح قرطاجنة وكان أهلها روماً عبّاد أصنام.
وفيها: قتل نجدة الحروري الذي تغلب على اليمامة.
وفيها: خرج عبد الله بن ثور في اليمامة.
وهذه ترجمة مصعب بن الزبير
وهو مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي
ويقال له: أبو عيسى أيضاً الأسدي، وأمه كرمان بنت أنيف الكلبية، كان من أحسن الناس وجهاً، وأشجعهم قلباً، وأسخاهم كفاً.
وقد حكى عن عمر بن الخطاب، وروى عن أبيه الزبير، وسعد، وأبي سعيد الخدري.
وروى عنه الحكم بن عيينة، وعمرو بن دينار الجمحي، وإسماعيل أبي خالد.
ووفد على معاوية، وكان ممن يجالس أبا هريرة، وكان من أحسن الناس وجهاً.
حكى الزبير بن بكار: أن جميلاً نظر إليه وهو واقف بعرفة فقال: إن ههنا فتى أكره أن تراه بثينة.
وقال الشعبي: ما رأيت أميراً على منبر قط أحسن منه، وكذا قال إسماعيل بن خالد.
وقال الحسن: هو أجمل أهل البصرة.
وقال الخطيب البغدادي: ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الله حتى قتله عبد الملك بمسكن بموضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن معروف هناك.
وقد ذكرنا صفة مقتله المختار بن أبي عبيد، وأنه قتل في غداة واحدة من أصحاب المختار سبعة آلاف.
قال الواقدي: لما قتل مصعب المختار طلب أهل القصر من أصحاب المختار من مصعب الأمان فأمنهم، ثم بعث إليهم عباد بن الحصين فجعل يخرجهم ملتفين، فقال له رجل: الحمد لله الذي نصركم علينا وابتلانا بالأسر، يا ابن الزبير من عفا عفا الله عنه، ومن عاقب لا يأمن القصاص، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم، وقد قدرت فاسمح واعف عنا.
قال: فرقّ لهم مصعب وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وغيره من كل قبيلة فقالوا: قد قتلوا أولادنا وعشائرنا وجرحوا منا خلقاً، اخترنا أو اخترهم، فأمر حينئذ بقتلهم.
فنادوا بأجمعهم: لا تقتلنا واجعلنا مقدمتك في قتال عبد الملك بن مروان، فإن ظفرنا فلكم، وإن قتلنا لا نقتل حتى نقتل منهم طائفة، وكان الذي تريد، فأبى ذلك مصعب.
فقال له مسافر: اتق الله يا مصعب، فإن الله عز وجل أمرك أن لا تقتل نفساً مسلمة بغير نفس، وإن {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[النساء: 93].
فلم يسمع له بل أمر بضرب رقابهم جميعهم، وكانوا سبعة آلاف نفس، ثم كتب مصعب إلى ابن الأشتر أن أجبني فلك الشام وأعنة الخيل، فسار ابن لأشتر إلى مصعب.
وقيل: إن مصعباً لما قدم مكة أتى عبد الله بن عمر فقال: أي عم: إني أسألك عن قوم خلعوا الطاعة وقاتلوا حتى غلبوا تحصنوا وسألوا الأمان فأعطوه، ثم قتلوا بعد ذلك.
فقال: وكم هم؟
فقال: خمسة آلاف، فسبح ابن عمر واسترجع وقال: لو أن رجلاً أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف ماشية في غداة واحدة ألست تعده مسرفاً؟
قال: نعم.
قال: أفتراه إسرافاً في البهائم ولا تراه إسرافاً في من ترجو توبته؟ يا ابن أخي أصب من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
ثم إن مصعباً بعث برأس المختار إلى أخيه بمكة، وتمكن مصعب في العراق تمكناً زائداً، فقرر بها الولايات والعمال.
وحظي عنده ابن الأشتر فجعله على الوفادة، ثم رحل مصعب إلى أخيه بمكة فأعلمه بما فعل فأقره على ما صنع، إلا ابن الأشتر لم يمض له ما جعله عليه، وقال له: أتراني أحب الأشتر وهو الذي جرحني هذه الجراحة.
ثم استدعى بمن قدم مع مصعب من أهل العراق فقال لهم: والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلاً من أهل الشام.
فقال له أبو حاجز الأسدي - وكان قاضي الجماعة بالبصرة -: إن لنا ولكم مثلاً قد مضى يا أمير المؤمنين، وهو ما قال الأعشى:
علقتها عرضاً وعلقت رجلاً * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
قلت كما قيل أيضاً:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدها
علقناك يا أمير المؤمنين وعلقت أهل الشام وعلق أهل الشام إلى مروان، فما عسينا أن نصنع؟
قال الشعبي: ما سمعت جواباً أحسن منه.
وقال غيره: وكان مصعب من أشد الناس محبة للنساء وقد أمضى من ذلك شيئاً كثيراً، كما روى أنه اجتمع عند الحجر الأسود جماعة منهم ابن عمر، ومصعب بن الزبير، فقالوا: ليقم كل واحد منكم وليسأل من الله حاجته.
فسأل ابن عمر المغفرة، وسأل مصعب أن يزوجه الله سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وكانتا من أحسن النساء في ذلك الزمان، وأن يعطيه الله إمرة العراقين، فأعطاه الله ذلك، تزوج بعائشة بنت طلحة وكان صداقها مائة ألف دينار، وكانت باهرة الجمال جداً، وكان مصعب أيضاً جميلاً جداً وكذلك بقية زوجاته.
قال الأصمعي: عن عبد الرحمن بن أبي زناد، عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب، وعروة، وابن الزبير، وابن عمر.
فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة.
وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم.
وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين.
وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر الله له.
وقال عامر الشعبي: بينما أنا جالس إذ دعاني الأمير مصعب بن الزبير فأدخلني دار الإمارة ثم كشف فإذا وراءه عائشة بنت طلحة، فلم أر منظراً أبهى ولا أحسن منها.
فقال: أتدري من هذه؟
فقلت: لا.
فقال: هذه عائشة بنت طلحة.
ثم خرجت فقالت: من هذا الذي أظهرتني عليه؟
قال: هذا عامر الشعبي.
قالت: فأطلق له شيئاً.
فأطلق لي عشرة آلاف درهم.
قال الشعبي: فكان أول من مال ملكته.
وحكى الحافظ ابن عساكر: أن عائشة بنت طلحة تغضبت مرة على مصعب فترضّاها بأربعمائة ألف درهم، فأطلقتها هي للمرأة التي أصلحت بينهما.
وقيل: إنه أهديت له نخلة من ذهب ثمارها من صنوف الجواهر المثمنة، فقومت بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس فأعطاها لعائشة بنت طلحة.
وقد كان مصعب من أجود الناس وأكثرهم عطاء، لا يستكثر ما يعطي ولو كان ما عساه أن يكون فكانت عطاياه للقوي والضعيف، والوضيع والشريف متقاربة، وكان أخوه عبد الله يبخل.
وروى الخطيب البغدادي في (تاريخه): أن مصعباً غضب مرة على رجل فأمر بضرب عنقه.
فقال له الرجل: أعز الله الأمير ! ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك هذه الحسنة، وبوجهك هذا الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني.
فعفا عنه، فقال الرجل: أعز الله الأمير إن رأيت ما وهبتني من حياتي في عيش رضي، فأطلق له مائة ألف.
فقال الرجل: إني أشهدك أن نصفها لابن قيس الرقيات حيث يقول فيك:
إنّ مصعباً شهابٌ من الله * تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمةٍ ليس فيه * جبروتٌ منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور * وقد أفلح من كان همه الاتقاء
وفي رواية أنه قال له: أيها الأمير قد وهبتني حياة، فإن استطعت أن تجعل ما قد وهبتني من الحياة في عيش رضي وسعة فافعل، فأمر له بمائة ألف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن يزيد قال: بلغ مصعباً، عن عريف الأنصاري شيء فهَمَّ به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((استوصوا بالأنصار خيراً)) - أو قال: ((معروفاً)) - ((اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)).
فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط وقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين فتركه.
ومن كلام مصعب في التواضع أنه قال: العجبُ من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين.
وقال محمد بن يزيد المبرد: سئل القاسم بن محمد، عن مصعب فقال: كان نبيلاً رئيساً تقياً أنيساً.
وقد تقدم أنه لما ظهر على المختار قتل من أصحابه في غداة واحدة خمسة آلاف.
وقيل: سبعة آلاف، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم يعرفه ابن عمر، لأنه كان قد انضر في عينيه، فتعرف له فعرفه، قال: أنت الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله؟
فاعتذر إليه بأنهم بايعوا المختار.
فقال: أما كان فيهم من هو مستكره أو جاهل فينظر حتى يتوب؟ أرأيت لو أن رجلاً جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في غداة واحدة، أما كان مسرفاً؟
قال: بلى !
قال: وهي لا تعبد الله ولا تعرفه كما يعرفه الآدمي، فكيف بمن هو موحد؟
ثم قال له: يا بني تمتع من الماء البارد ما استطعت.
وفي رواية أنه قال له: عش ما استطعت.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن زفر بن قتيبة، عن الكلبي قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب والروم؟
قالوا: شبيب.
وقال آخر: قطري بن الفجاءة وفلان وفلان.
فقال عبد الملك: إن أشجع الناس لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وأمه الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنه ريان بن أنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، مع ما لنفسه من الأموال، وملك غير ذلك من الأثاث والدواب والأموال ما لا يحصى.
وأعطى مع هذا الأمان، وأن يسلم هذا له جميعه مع الحياة فزهد في هذا كله وأبى واختار القتل على مقام ذل، ومفارقة هذا كله ومشى بسيفه فقاتل حتى مات، وذلك بعد خذلان أصحابه، فذلك مصعب بن الزبير رحمه الله.
وليس هو كمن قطع الجسور مرة ههنا ومرة ههنا.
فهذا هو الرجل وهذا هو الزهد.
قالوا: وكان مقتله يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى سنة ثنتين وسبعين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني فليح بن إسماعيل، وجعفر بن أبي بشير، عن أبيه.
قال: لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال:
لقد أردى الفوارس يوم عبسٍ * غلامٌ غير مناع المتاع
ولا فرحٌ بخيرٍ إن أتاه * ولا هلع من الحدثان لاع
ولا رقابةً والخيل تعدو * ولا خالٌ كانبوب اليراع
فقال الرجل الذي جاء برأسه: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة والسيف تارة يفري بهذا، ويطعن بهذا لرأيت رجلاً يملأ القلب والعين شجاعة، لكنه لما تفرقت عنه رجاله وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد:
وإني على المكروه عند حضوره * أكذب نفسي والجفون فلم تغض
وما ذاك من ذلٍ ولكن حفيظةٌ * أذبُّ بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصدٌ * وإني لذي سلمٍ أذلُّ من الأرض
فقال عبد الملك: كان والله كما وصف به نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إليّ، وأشدهم لي ألفة ومودة، ولكن الملك عقيم.
وروى يعقوب بن سفيان: عن سليمان بن حرب، عن غسان بن مضر، عن سعيد بن يزيد: أن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قتل مصعباً عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له: دجيل، من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك فسجد شكراً لله.
وكان ابن ظبيان فاتكاً رديئاً، وكان يقول: ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذ فأكون قد قتلت ملكي العرب.
قال يعقوب: وكان ذلك سنة ثنتين وسبعين فالله أعلم.
وحكى الزبير بن بكار في عمره يوم قتل ثلاثة أقوال:
أحدها: خمس وثلاثون سنة، والثاني: أربعون سنة، والثالث: خمس وأربعون سنة فالله أعلم.
وروى الخطيب البغدادي: أن امرأته سكينة بنت الحسين كانت معه في هذه الوقعة، فلما قتل طلبته في القتلى حتى عرفته بشامة في خده فقالت: نِعم بعل المرأة المسلمة، كنت أدركك والله ما قال عنتر:
وخليل غانيةٍ تركت مجندلاً * بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه * ليس الكريم على القنا بمحرم
قال الزبير: وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير رحمه الله تعالى:
لقد أورث المصرين حزناً وذلةً * قتيلٌ بدير الجاثليق مقيمٌ
فما نصحت لله بكر بن وائلٍ * ولا صدقت يوم اللقاء تميمٌ
ولو كان بكرياً يعطف حوله * كتائب يبقى حرها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن * بها مضريُّ يوم ذاك كريمٌ
جزى الله كوفياً هناك ملامة * وبصرِّيهم إنَّ الملوم ملوم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا * ونحن صريحٌ بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقي أولئك بعدنا * لذي حرمةٍ في المسلمين حريمٌ
وقد قال أبو حاتم الرازي: ثنا يحيى بن مصعب الكلبي، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الملك بن عمير قال: دخلت القصر بالكوفة فإذا رأس الحسين بن علي على ترس بين يدي عبيد الله بن زياد، وعبيد الله على السرير.
ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار، والمختار على السرير، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار على ترس بين يدي مصعب بن الزبير، ومصعب على السرير.
ثم دخلت القصر بعد حين فرأيت رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يدي عبد الملك، وعبد الملك على السرير.
وقد حكى ذلك الإمام أحمد وغير واحد عن عبد الملك بن عمير.
وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعباً أيضاً:
نعت السحائب والغمام بأسرها * جسداً بمسكن عاري الأوصال
تمسي عوائذه السباع وداره * بمنازلٍ أطلالهن بوالي
رحل الرفاق وغادروه ثاوياً * للريح بين صبا وبين شمالي
فصل خطبة عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب.
وكان لمصعب من الولد عكاشة، وعيسى الذي قتل معه، وسكينة، وأمهم: فاطمة بنت عبد الله بن السائب.
وعبد الله، ومحمد، وأمهما: عائشة بنت طلحة، وأمها: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
وجعفر، ومصعب، وسعيد، وعيسى الأصغر، والمنذر لأمهات شتى.
والرباب، وأمها: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم.
قال ابن جرير: وذكر أبو زيد، عن أبي غسان محمد بن يحيى، حدثني مصعب بن عثمان قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب، قام في الناس خطيباً فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ألا وإنه لن يُذِلَّ الله من كان الحق معه وإن كان فرداً وحده، ولن يفلح من كان وليه الشيطان وحزبه ولو كان معه الآنام طُرَاً، ألا وأنه أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب فأحزننا، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة.
وأما الذي أحزننا فإن الحميم لفراقه لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعدها، وذو الرأي جميل الصبر كريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله، وعون من أعواني.
ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام، وما نموت إلا بأطراف الرماح أو تحت ظل السيوف، فإن بني أبي العاص يجمعون الناس بالرغبات والرهبات، ثم يقاتلون بهم أعداءهم ممن هو خير منهم وأكرم ولا يقاتلون تابعيهم زحفاً.
ألا وإن الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا لآخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحزين الأسف المهين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وممن توفي فيها من الأعيان
إبراهيم بن الأشتر
كان أبوه ممن قام على عثمان وقتله، وكان إبراهيم هذا من المعروفين بالشجاعة وله شرف، وهو الذي قتل عبيد الله بن زياد كما ذكرنا.
عبد الرحمن بن غسيلة
أبو عبد الله المرادي الصنابحي، كان من الصلحاء، وكان عبد الملك يجلسه معه على السرير، وكان عالماً فاضلاً، توفي بدمشق.
عمر بن سلمة
المخزومي المدني ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، ولد بأرض الحبشة.
سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو عبد الرحمن، كان عبداً لأم سلمة فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا لا أزال أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم تعتقيني ما عشت.
وقد كان سفينة بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم أليفاً، وبهم خليطاً.
وروى الطبراني: أن سفينة سئل عن اسمه لِمَ سُمِّي سفينة؟
قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة، خرج مرة ومعه أصحابه فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ابسط كساءك)).
فبسطته فجعل فيه متاعهم، ثم قال لي: ((احمل ما أنت إلا سفينة)).
قال: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو خمسة أو ستة ما ثقل علي.
وروى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت مرة سفينة في البحر فانكسرت بنا، فركبت لوحاً منها فطرحني البحر إلى غيضة فيها الأسد فجاءني فقلت: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكفه حتى وضعني على الطريق، ثم همهم همهمة فظننت أنه يودعني.
وقال حماد بن سلمة: ثنا سعيد بن جهمان، عن سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت فاطمة فرأى في ناحية البيت قرماً مضروباً فرجع ولم يدخل.
فقالت فاطمة لعلي: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي رده؟
فسأله، فقال: ((ليس لي ولا لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً)).
عمر بن أخطب
أبو زيد الأنصاري الأعرج، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة.
يزيد بن الأسود الجرشي السكوني
كان عابداً زاهداً صالحاً، سكن الشام بقرية زيدين.
وقيل: بقرية جرين، وكانت له دار داخل باب شرقي، وهو مختلف في صحبته، وله روايات عن الصحابة، وكان أهل الشام يستسقون به إذا قحطوا، وقد استسقى به معاوية والضحاك بن قيس، وكان يجلسه معه على المنبر
قال معاوية: قم يزيد، اللهم إن نتوسل إليك بخيارنا وصلحائنا، فيستسقي الله فيسقون، وكان يصلي الصلوات في الجامع بدمشق، وكان إذا خرج من القرية يريد الصلاة بالجامع في الليلة المظلمة يضيء له إبهام قدمه.
وقيل: أصابع رجليه كلها حتى يدخل الجامع، فإذا رجع أضاءت له حتى يدخل القرية.
وذكروا أنه لم يدع شجرة في قرية زيدين إلا صلى عندها ركعتين، وكان يمشي في ضوء إبهامه في الليلة المظلمة ذاهباً إلى صلاة العشاء بالجامع بدمشق وآتياً إلى قريته، وكان يشهد الصلوات بالجامع بدمشق لا تفوته به صلاة.
مات بقرية زيدين أو جرين من غوطة دمشق رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين
ففيها: كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الأزارقة من الخوارج بمكان يقال له: سولاق، ثم مكثوا نحواً من ثمانية أشهر متواقفين، وجرت بينهم حروب يطول بسطها، وقد استقصاها ابن جرير، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير.
ثم إن عبد الملك أقر المهلب بن أبي صفرة على الأهواز وما معها، وشكر سعيه وأثنى عليه ثناء كثيراً، ثم تواقع الناس في دولة عبد الملك بالأهواز فكسر الناس الخوارج كسرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد، واتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس ودواد بن محندم فطردوهم.
وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف، فبعث إليه أربعة آلاف عليهم عتاب بن ورقاء فطردوا الخوارج كل مطرد، ولكن لقي الجيش جهداً عظيماً وماتت خيولهم، ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الحارثي وهو من قيس بن ثعلبة، وغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحارثي، فبعث إليه خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جيش كثيف، فهزمهم أبو فديك وأخذ جارية لأمية واصطفاها لنفسه.
وكتب خالد أمير البصرة إلى عبد الملك يعلمه بما وقع، واجتمع على خالد هذا حرب أبي فديك وحرب الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة بالأهواز.
قال ابن جرير: وفيها: بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير ليحاصره بمكة.
قال: وكان السبب في بعثه له دون غيره، أن عبد الملك بن مروان لما أراد الرجوع إلى الشام بعد قتله مصعباً وأخذه العراق، ندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير بمكة فلم يجبه أحد إلى ذلك.
فقام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين أنا له.
وقص الحجاج على عبد الملك مناماً زعم أنه رآه، قال: رأيت يا أمير المؤمنين كأني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعث بي إليه فإني قاتله.
فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، وكتب معه أماناً لأهل مكة إن أطاعوه.
قالوا: فخرج الحجاج في جمادى من هذه السنة ومعه ألفا فارس من أهل الشام، فسلك طريق العراق ولم يعرض للمدينة حتى نزل الطائف، وجعل يبعث البعوث إلى عرفة، ويرسل ابن الزبير الخيل فيلتقيان فيهزم خيل ابن الزبير وتظفر خيل الحجاج.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم ومحاصرة ابن الزبير، فإنه قد كلت شوكته، وملت جماعته، وتفرق عنه عامة أصحابه، وسأله أن يمده برجال أيضاً.
فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه بالحجاج، وارتحل الحجاج من الطائف فنزل بئر ميمونة، وحصر ابن الزبير بالمسجد، فلما دخل ذو الحجة حج بالناس الحجاج في هذه السنة، وعليه وعلى أصحابه السلاح وهم وقوف بعرفات.
وكذا فيما بعدها من المشاعر، وابن الزبير محصور لم يتمكن من الحج هذه السنة، بل نحر بدناً يوم النحر، وهكذا لم يتمكن كثير ممن معه من الحج، وكذا لم يتمكن كثير ممن مع الحجاج وطارق بن عمرو أن يطوفوا بالبيت، فبقوا على إحرامهم لم يحصل لهم التحلل الثاني.
والحجاج وأصحابه نزول بين الحجون وبئر ميمونة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم أمير خراسان يدعوه إلى بيعته ويقطعه خراسان سبع سنين، فلما وصل إليه الكتاب قال للرسول: بعثك أبو الذبان؟ والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك، ولكن كل كتابه فأكله.
وبعث عبد الملك إلى بكير بن وشاح نائب ابن خازم على مرو يعده بإمرة خراسان إن هو خلع عبد الله بن خازم، فخلعه، فجاء ابن خازم فقاتله فقتل في المعركة عبد الله بن خازم أمير خراسان، قتله رجل يقال له: وكيع بن عميرة، لكن كان قد ساعده غيره، فجلس وكيع على صدره وفيه رمق، فذهب لينوء فلم يتمكن من ذلك
وجعل وكيع يقول: يا ثارات دَويلة - يعني: أخاه - وكان دويلة قد قتله ابن خازم، ثم إن ابن خازم تنخم في وجه وكيع.
قال وكيع: لم أر أحداً أكثر ريقاً منه في تلك الحال، وكان أبو هريرة إذا ذكر هذا يقول: هذه والله هي البسالة.
وقال له ابن خازم: ويحك أتقتلني بأخيك؟ لعنك الله، أتقتل كبش مصر بأخيك العلج؟ وكان لا يساوي كفاً من تراب - أو قال من نوىً -.
قال: فاحتز رأسه وأقبل بكير بن وشاح فأراد أخذ الرأس فمنعه منه بجير بن ورقاء فضربه بجير بعموده وقيده، ثم أخذ الرأس، ثم بعثه إلى عبد الملك بن مروان وكتب إليه بالنصر والظفر.
فسر بذلك سروراً كثيراً، وكتب إلى بكير بن وشاح بإقراره على نيابة خراسان.
وفي هذه السنة أخذت المدينة من ابن الزبير، واستناب فيها عبد الملك طارق بن عمرو، الذي كان بعثه مدداً للحجاج.
وهذه ترجمة عبد الله بن خازم
هو عبد الله بن خازم بن أسماء السلمي أبو صالح البصري أمير خراسان أحد الشجعان المذكورين، والفرسان المشكورين.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في (تهذيبه): ويقال له: صحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في العمامة السوداء، وهو عند أبي داود، والترمذي، والنسائي، لكن لم يسموه.
وروى عنه سعد بن عثمان الرازي، وسعيد بن الأزرق.
روى أبو بشير الدولابي: أنه قتل في سنة إحدى وسبعين.
وقيل: في سنة سبع وثمانين، وليس هذا القول بشيء.
انتهى ما ذكره شيخنا، وقد ذكره أبو الحسن ابن الأثير في (أسد الغابة في أسماء الصحابة).
فقال: عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن نهية بن سليم بن منصور، أبو صالح السلمي، أمير خراسان، شجاع مشهور، وبطل مذكور.
وروى عنه سعيد بن الأزرق، وسعد بن عثمان.
قيل: إن له صحبة وفتح سرخس، وكان أميراً على خراسان أيام فتنة ابن الزبير، وأول ما وليها سنة أربع وستين بعد موت يزيد بن معاوية وابنه معاوية، وجرى له فيها حروب كثيرة حتى تم أمره بها، وقد استقصينا أخباره في كتاب (الكامل في التاريخ)، وقتل سنة إحدى وسبعين.
وهكذا حكى شيخنا عن الدولابي، وكذا رأيت في (التاريخ) لشيخنا الذهبي.
والذي ذكره ابن جرير في (تاريخه): أنه قتل سنة ثنتين وسبعين.
قال: وزعم بعضهم أنه قتل بعد مقتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك بعث برأس ابن الزبير إلى ابن خازم بخراسان، وبعث يدعوه إلى طاعته ولّه خراسان عشر سنين.
وإن ابن خازم لما رأى رأس ابن الزبير حلف لا يعطي عبد الملك طاعة أبداً، ودعا بطست فغمس رأس ابن الزبير وكفنه وطيبه، وبعث به إلى أهله بالمدينة.
ويقال: بل دفنه عنده بخراسان والله أعلم.
وأطعم الكتاب للبريد الذي جاء به وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك.
وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه.
وممن توفي فيها من الأعيان
الأحنف بن قيس
أبو معاوية بن حصين التميمي السعدي أبو بحر البصري ابن أخي صعصعة بن معاوية، والأحنف لقب له، وإنما اسمه: الضحاك.
وقيل: صخر.
أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وجاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له، وكان سيداً شريفاً مطاعاً مؤمناً، عليم اللسان، وكان يضرب بحلمه المثل، وله أخبار في حلمه سارت بها الركبان.
قال عنه عمر بن الخطاب: هو مؤمن عليم اللسان.
وقال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل منه.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو بصري، تابعي ثقة، وكان سيد قومه، وكان أعور، أحيف الرجلين، ذميماً، قصيراً كوسجاً له بيضة واحدة.
احتبسه عمر عن قومه سنة يختبره، ثم قال: هذا والله السيد - أو قال: السؤدد -.
وقيل: إنه خطب عند عمر فأعجبه منطقه.
قيل: ذهبت عينه بالجدري.
وقيل: في فتح سمرقند.
وقال يعقوب بن سفيان: كان الأحنف جواداً حليماً، وكان رجلاً صالحاً.
أدرك الجاهلية ثم أسلم، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فاستغفر له، وقال: كان ثقة مأموناً قليل الحديث، وكان كثير الصلاة بالليل، وكان يسرج المصباح ويصلي ويبكي حتى الصباح، وكان يضع إصبعه في المصباح ويقول: حسَّ يا أحنف، ما حملك على كذا؟ ما حملك على كذا؟
ويقول لنفسه: إذا لم تصبر على المصباح فكيف تصبر على النار الكبرى؟
وقيل له: كيف سودك قومك وأنت أرذلهم خلقة؟
قال: لو عاب قومي الماء ما شربته.
كان الأحنف من أمراء علي يوم صفين، وهو الذي صالح أهل بلخ على أربعمائة ألف دينار في كل سنة.
وله وقائع مشهودة مشهورة، وقتل من أهل خراسان خلقاً كثيراً في القتال بينهما، وانتصر عليهم.
وقال الحاكم: وهو الذي افتتح مرو الروذ، وكان الحسن وابن سيرين في جيشه، وهو الذي افتتح سمرقند وغيرها من البلاد.
وقيل: أنه مات سنة سبع وستين.
وقيل غير ذلك، عن سبعين سنة.
وقيل: عن أكثر من ذلك.
ومن كلامه وقد سئل عن الحلم ما هو؟
فقال: الذل مع الصبر.
وكان إذا تعجب الناس من حلمه يقول: والله إني لأجد ما يجدون، ولكني صبور.
وقال: وجرت الحلم أنصر لي من الرجال، وقد انتهى إليه الحلم والسؤدد، وقال: أحيي معروفك بإماتة ذكره.
وقال: عجبت لمن يجري مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟
وقال: ما أتيت باب أحد من هؤلاء إلا أن أُدعى، ولا دخلت بين اثنين إلا أن يدخلاني بينهما.
وقيل له: بم سدت قومك؟
قال: بتركي من الأمر ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وأغلظ له رجل في الكلام وقال: والله يا أحنف لئن قلت لي واحدة لتسمعن بدلها عشراً.
فقال له: إنك إن قلت لي عشراً لا تسمع مني واحدة.
وكان يقول في دعائه: اللهم إن تعذبني فأنا أهل لذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل لذلك.
وقد كان زياد بن أبيه يقربه ويدنيه، فلما مات زياد وولى ابنه عبيد الله لم يرفع به رأساً، فتأخرت عنده منزلته، فلما وفد برؤساء أهل العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عنده، فكان الأحنف آخر من أدخله عليه.
فلما رآه معاوية أجله وعظمه، وأدناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شرع الحاضرون في الثناء على ابن زياد والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: مالك لا تتكلم؟
قال: إن تكلمت خالفتهم.
فقال معاوية: أشهدكم أني قد عزلته عن العراق، ثم قال لهم: انظروا لكم نائباً، وأَجَّلَهُم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافاً كثيراً، ولم يذكر أحد منهم بعد ذلك عبيد الله، ولا طلبه أحد منهم، ولم يتكلم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.
فلما اجتمعوا بعد ثلاث أفاضوا في ذلك الكلام وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: تكلم.
فقال له: إن كنت تريد أن تولي فيها أحداً من أهل بيتك فليس فيهم من هو مثل عبيد الله، فإنه رجل حازم لا يسد أحد منهم مسده، وإن كنت تريد غيره فأنت أعلم بقرابتك.
فرده معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلت مثل الأحنف؟ إنه هو الذي عزلك وولاك وهو ساكت، فعظمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جداً.
توفي الأحنف بالكوفة وصلى عليه مصعب بن الزبير، ومشى في جنازته، وقد تقدمت له حكاية.
ذكر الواقدي أنه قدم على معاوية فوجده غضبان على ابنه يزيد، وأنه أصلح بينهما بكلام.
قال: فبعث معاوية إلى يزيد بمالٍ جزيل وقماش كثير، فأعطى يزيد نصفه للأحنف، والله سبحانه أعلم.
البراء بن عازب
بن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارت بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري الحارثي الأوسي.
صحابي جليل، وأبوه أيضاً صحابي، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وحدث عن أبي بكر، وعمر، وعلي وغيرهم، وعنه جماعة من التابعين وبعض الصحابة
وقيل: إنه مات بالكوفة أيام ولاية مصعب بن الزبير على العراق.
عبيدة السلماني القاضي
وهو عبيدة بن عمرو.
ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي، أبو عمرو الكوفي.
وسلمان بطن من مراد، أسلم عبيدة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن ابن مسعود، وعلي، وابن الزبير.
وحدث عنه جماعة من التابعين.
وقال الشعبي: كان يوازي شريحاً في القضاء.
قال ابن نمير: كان شريح إذا أشكل عليه أمر كتب إلى عبيدة فيه، وانتهى إلى قوله، وقد أثنى عليه غير واحد، وكانت وفاته في هذه السنة.
وقيل: سنة ثلاث.
وقيل: أربع وسبعين فالله أعلم.
وقد قيل: إن مصعب بن الزبير قتل فيها فالله أعلم.
وممن توفي أيضاً عبد الله بن السائب بن صيفي المخزومي، له صحبة ورواية، وقرأ على أبيّ بن كعب، وقرأ عليه مجاهد وغيره.
عطية بن بشر
المازني له صحبة ورواية.
عبيدة بن نضيلة
أبو معاوية الخزاعي الكوفي مقري أهل الكوفة، مشهور بالخير والصلاح، توفي بالكوفة في هذه السنة.
عبد الله بن قيس الرقيّات
القرشي العامري أحد الشعراء، مدح مصعباً وابن جعفر.
عبد الله بن حمام
أبو عبد الرحمن الشاعر السلولي هجا بني أمية بقوله:
شربنا الغيض حتى لو سقينا * دماء بني أمية ما روينا
ولو جاؤوا برملة أو بهندٍ * لبايعنا أمير المؤمنينا
وكان عبيدة السلماني أعوراً، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يفتنون الناس، توفي بالكوفة.