الجزء التاسع - ثم دخلت سنة أربع وسبعين

بسم الله الرحمن الرحيم

ثم دخلت سنة أربع وسبعين

فيها عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن إمارة المدينة وأضافها إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، فقدمها فأقام بها أشهراً ثم خرج معتمراً ثم عاد إلى المدينة في صفر فأقام بها ثلاثة أشهر، وبنى في بنى سلمة مسجداًوهو الذي ينسب إليه اليوم، ويقال إن الحجاج في هذه السنة وهذه المدة شتم جابراً وسهل بن سعد وقرعهما لم لا نصراً عثمان بن عفان، وخاطبهما خطاباً غليظاً قبحه الله وأخزاه، واستقصى أبا إدريس الخولاني أظنه على اليمن، والله أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وفيها نقض الحجاج بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه وأعادها على بنيانها الأول، قلت‏‏ الحجاج لم ينقض بنيان الكعبة جميعه‏‏ بل إنما هدم الحائط الشامي حتى أخرج الحجر من البيت ثم سده وأدخل في جوف الكعبة ما فضل من الأحجار، وبقية الحيطان الثلاثة بحالها، ولهذا بقى البنيان الشرقي والغربي وهما ملصقان بالأرض كما هو المشاهد إلى يومنا هذا‏.‏

ولكن سد الغربي بالكلية وردم أسفل الشرقي حتى جعله مرتفعاً كما كان في الجاهلية، ولم يبلغ الحجاج وعبد الملك ما كان بلغ ابن الزبير من العلم النبوي الذي كانت أخبرته به خالته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم ذلك من قوله‏‏ ‏‏‏‏لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر - وفي رواية - بجاهلية لنقضت الكعبة وأدخلت فيها الحجر، وجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً، ولألصقتهما بالأرض، فان قومك قصرت بهم النفقة فلم يدخلوا فيها الحجر ولم يتمموها على قواعد إبراهيم ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاؤوا‏‏‏‏‏.‏

فلما تمكن ابن الزبير بناها كذلك، ولما بلغ عبد الملك هذا الحديث بعد ذلك قال‏‏ وددنا لو تركناه وما تولى من ذلك‏.‏

وفى هذه السنة ولى المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة عن أمر عبد الملك لأخيه بشر بن مروان أن يجهز المهلب إلى الخوارج في جيوش من البصرة والكوفة، ووجد بشر على المهلب في نفسه حيث عينه عبد الملك في كتابه‏.‏ فلم يجد بدَّاً من طاعته في تأميره على الناس في هذه الغزوة، وما كان له من الأمر شيء، غير أنه أوصى أمير الكوفيين عبد الله بن مخنف أن يستبد بالأمر دونه وأن لا يقبل له رأياً ولا مشورة، فسار المهلب بأهل البصرة وأمراء الأرباع معه على منازلهم حتى نزل برامهرمز، فلم يقم عليها إلا عشراً حتى جاء نعي بشر بن مروان، وأنه مات بالبصرة واستخلف عليها خالد بن عبد الله، فأرخى بعض الجيش ورجعوا إلى البصرة فبعثوا في آثارهم من يردهم، وكتب خالد بن عبد الله إلى الفارِّين يتوعدهم إن لم يرجعوا إلى أميرهم، ويتوعدهم بسطوة عبد الملك، فعدلوا يستأذنون عمرو بن حريث في المسير إلى الكوفة فكتب إليهم‏‏

إنكم تركتم أميركم وأقبلتم عاصين مخالفين، وليس لكم إذن ولا إمام ولا أمان، فلما جاءهم ذلك أقبلوا إلى رحالهم فركبوها ثم ساروا إلى بعض البلاد فلم يزالوا مختفين بها حتى قدم الحجاج والياً على العراق مكان بشر بن مروان كما سيأتي بيانه قريباً‏.‏

وفى هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح التميمي عن إمرة خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد القرشي ليجتمع عليه الناس، فإنه قد كادت الفتنة تتفاقم بخراسان بعد عبد الله بن خازم‏.‏

فلما قدم أمية بن عبد الله خراسان عرض على بكير بن وشاح أن يكون على شرطته فأبى وطلب منه أن يوليه طخارستان، فخوفوه منه أن يخلعه هنالك فتركه مقيماً عنده‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وحج بالناس فيها الحجاج وهو على إمرة المدينة ومكة واليمن واليمامة‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وقد قيل إن عبد الملك اعتمر في هذه السنة ولا نعلم صحة ذلك‏.‏

 

ذكر من توفي فيها من الأعيان‏‏

 رافع بن خديج بن رافع الأنصاري

صحابي جليل شهد أحداً وما بعدها، وصفين مع علي وكان يتعانا المزارع والفلاحة، توفي وهو ابن ستة وثمانين سنة، وأسند ثمانية وسبعين حديثاً وأحاديثه جيدة‏.‏ وقد أصابه يوم أحد سهم في ترقوته فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن ينـزعه منه وبين أن يترك فيه العطبة ويشهد له يوم القيامة، فاختار هذه، وانتقض عليه في هذه السنة فمات منه رحمه الله‏.‏

 أبو سعيد الخدري

هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي صحابي جليل من فقهاء الصحابة استصغر يوم أحد، ثم كان أول مشاهده الخندق، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى عشرة غزوة، وروى عنه أحاديث كثيرة، وعن جماعة من الصحابة، وحدث عنه خلق من التابعين وجماعة من الصحابة، كان من نجباء الصحابة وفضلائهم وعلمائهم‏.‏

قال الواقدي وغيره‏‏ مات سنة أربع وسبعين، وقيل‏‏ قبلها بعشر سنين، فالله أعلم‏.‏

قال الطبراني‏‏

حدثنا المقدام بن داود، ثنا خالد بن نزار، ثنا هشام بن سعيد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال‏‏ قلت‏‏ يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء‏؟‏ فقال‏‏ ‏‏‏‏النبيون‏‏‏‏‏.‏

قلت‏‏ ثم أي‏؟‏

قال‏‏ ‏‏‏‏ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا السترة - في رواية - إلا العباءة أو نحوها، وإن أحدهم ليبتلى بالقمل حتى ينبذ القمل، وكان أحدهم بالبلاء أشد فرحاً منه بالرخاء‏‏‏‏‏.‏

وقال قتيبة بن سعيد‏‏ ثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي سعيد الخدري‏‏ أن أهله شكوا إليه الحاجة فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل له شيئاً، فوافقه على المنبر وهو يقول‏‏ ‏‏‏‏أيها الناس، قد آن لكم أن تستغنوا عن المسألة فإنه من يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله، والذي نفس محمد بيده ما رزق الله عبداً من رزق أوسع له من الصبر، ولئن أبيتم إلا أن تسألوني لأعطينكم ما وجدت‏‏‏‏‏.‏

وقد رواه الطبراني، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، نحوه

 عبد الله بن عمر

ابن الخطاب القرشي العدوي‏.‏ أبو عبد الرحمن المكي ثم المدني أسلم قديماً مع أبيه ولم يبلغ الحلُم وهاجراً وعمره عشر سنين، وقد استصغر يوم أحد، فلما كان يوم الخندق أجازه وهو ابن خمس عشرة سنة فشهدها وما بعدها، وهو شقيق حفصة بنت عمر أم المؤمنين، أمهما زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون‏.‏

وكان عبد الله بن عمر ربعة من الرجال آدم له جمة تضرب إلى منكبيه جسيماً يخضب بالصفرة ويحفى شاربه، وكان يتوضأ لكل صلاة ويدخل الماء في أصول عينيه، وقد أراده عثمان على القضاء فأبى ذلك، وكذلك أبوه، وشهد اليرموك والقادسية وجلولاء وما بينهما من وقائع الفرس، وشهد فتح مصر، واختط بها داراً، وقدم البصرة وشهد غزو فارس وورد المدائن مراراً وكان عمره يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين سنة، وكان إذا أعجبه شيء من ماله يقربه إلى الله عز وجل، وكأن عبيده قد عرفوا ذلك منه، فربما لزم أحدهم المسجد فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال أعتقه، فيقال له‏‏ إنهم يخدعونك، فيقول‏‏ من خدعنا لله انخدعنا له، وكان له جارية يحبها كثيراً فأعتقها وزوجها لمولاه نافع، وقال‏‏ إن الله تعالى يقول‏‏ ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏‏ ‏]‏‏.‏

واشترى مرة بعيراً فأعجبه لما ركبه فقال‏‏ يا نافع أدخله في إبل الصدقة، وأعطاه ابن جعفر في نافع عشرة آلاف فقال‏‏ أو خيراً من ذلك‏؟‏ هو حر لوجه الله، واشترى مرة غلاماً بأربعين ألفاً وأعتقه فقال الغلام‏‏ يا مولاي قد أعتقتني فهب لي شيئاً أعيش به فأعطاه أربعين ألفا، واشترى مرة خمسة عبيد فقام يصلى فقاموا خلفه يصلون فقال‏‏ لمن صليتم هذه الصلاة‏؟‏ فقالوا‏‏ لله ‏!‏ فقال‏‏ أنتم أحرار لمن صليتم له، فأعتقهم‏.‏

والمقصود أنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً، وكانت تمضى عليه الأيام الكثيرة والشهر لا يذوق فيه لحماً إلا وعلى يديه يتيم، وبعث إليه معاوية بمائة ألف لما أراد أن يبايع ليزيد، فما حال عليه الحول وعنده منها شيء، وكان يقول‏‏ إني لا أسأل أحداً شيئاً وما رزقني الله فلا أرده‏.‏

وكان في مدة الفتنة لا يأتي أمير إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله، وكان أعلم الناس بمناسك الحج، وكان يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة وكان ابن عمر يتعاهدها ويصب في أصلها الماء، وكان إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا تلك الليلة، وكان يقوم أكثر الليل، وقيل‏‏ إنه مات وهو في الفضل مثل أبيه، وكان يوم مات خير من بقي، ومكث ستين سنة يفتي الناس من سائر البلاد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وروى عن الصديق وعن عمر وعثمان وسعد وابن مسعود وحفصة وعائشة وغيرهم‏.‏

وعنه خلق منهم بنوه حمزة وبلال وزيد وسالم وعبد الله وعبيد الله وعمر إن كان محفوظ، وأسلم مولى أبيه وأنس بن سيرين والحسن وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وطاووس وعروة وعطاء وعكرمة ومجاهد وابن سيرين والزهري ومولاه نافع‏.‏

وثبت في الصحيح عن حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏إن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم الليل‏‏‏‏‏.‏ وكان بعد يقوم الليل، وقال ابن مسعود‏‏ إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا ابن عمر‏.‏

وقال جابر‏‏ ما منا أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها، إلا ابن عمر، وما أصاب أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريماً‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏‏ مات ابن عمر يوم مات وما من الدنيا أحد أحب أن لقي الله بمثل عمله منه‏.‏

وقال الزهري‏‏ لا يعدل برأيه فإنه أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين سنة، فلم يخف عليه شيء من أمره ولا من أمر أصحابه رضي الله عنهم‏.‏

وقال مالك‏‏ بلغ ابن عمر ستاً وثمانين سنة وأفتى في الإسلام ستين سنة، تقدم عليه وفود الناس من أقطار الأرض‏.‏

قال الواقدي وجماعة‏‏ توفي ابن عمر سنة أربع وسبعين وقال الزبير بن بكار وآخرون‏‏ توفي سنة ثلاث وسبعين والأول أثبت، والله أعلم‏.‏

 عبيد بن عمير

ابن قتادة بن سعد بن عامر بن خندع بن ليث، الليثي ثم الخندعي، أبو عاصم المكي قاضي أهل مكة، قال مسلم بن الحجاج‏‏ ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره‏‏ ورآه أيضاً، وروى عن أبيه، وله صحبة وعن عمر وعلي و أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمر وأم سلمة وغيرهم، وعنه جماعة من التابعين وغيرهم، ووثقه ابن معين وأبو زرعة وغير واحد‏.‏

وكان ابن عمر يجلس في حلقته ويبكي وكان يعجبه تذكيره، وكان بليغاً، وكان يبكي حتى يبل الحصى بدموعه‏.‏

قال مهدي ابن ميمون، عن غيلان بن جرير، قال‏‏ كان عبيد بن عمير إذا آخى أحداً في الله استقبل به القبلة فقال‏‏ اللهم اجعلنا سعداء بما جاء به نبيك، واجعل محمداً شهيداً علينا بالإيمان، وقد سبقت لنا منك الحسنى غير متطاول علينا الأمد، ولا قاسية قلوبنا ولا قائلين ما ليس لنا بحق، ولا سائلين ما ليس لنا به علم‏.‏

وحكى البخاري، عن ابن جريج، أن عبيد بن عمير مات قبل ابن عمر رضى الله عنه‏.‏

 أبو جحيفة

وهب بن عبد الله السُّوائي، صحابي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان دون البلوغ عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لكن روى عنه عدة أحاديث، وعن علي والبراء بن عازب، وعنه جماعة من التابعين، منهم إسماعيل بن أبي خالد، والحكم وسلمة بن كهيل والشعبي وأبو إسحاق السبيعي، وكان قد نزل الكوفة وابتنى بها داراً وتوفي في هذه السنة، وقيل‏‏ في سنة أربع وتسعين، فالله أعلم‏.‏

وكان صاحب شرطة علي، وكان علي إذا خطب يقوم أبو جحيفة تحت منبره‏.‏

 سلمة بن الأكوع

ابن عمرو بن سنان الأنصاري وهو أحد من بايع تحت الشجرة، وكان من فرسان الصحابة ومن علمائهم، كان يفتي بالمدينة وله مشاهد معروفة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، توفي بالمدينة وقد جاوز السبعين سنة‏.‏

 مالك بن أبي عامر

الأصبحي المدني وهو جد الإمام مالك بن أنس، روى عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان فاضلاً عالماً توفي بالمدينة‏.‏

 أبو عبد الرحمن السلمي

مقرئ أهل الكوفة بلا مدافعة واسمه عبد الله بن حبيب، قرأ القرآن على عثمان بن عفان وابن مسعود، وسمع من جماعة من الصحابة وغيرهم، وأقرأ الناس القرآن بالكوفة من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج، قرأ عليه عاصم بن أبي النجود وخلق غيره، توفي بالكوفة‏.‏

 أبو معرض الأسدي

اسمه مغيرة بن عبد الله الكوفي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد على عبد الملك بن مروان وامتدحه، وله شعر جيد، ويعرف بالأقطشي، وكان أحمر الوجه كثير الشعر توفي بالكوفة في هذه السنة، وقد قارب الثمانين سنة‏.‏

 بشر بن مروان

الأموي أخو عبد الملك بن مروان، ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الملك، وله دار بدمشق عند عقبة اللباب، وكان سمحاً جواداً، وإليه ينسب دير مروان عند حجير، وهو الذي قتل خالد بن حصين الكلابي يوم مرج راهط، وكان لا يغلق دونه الأبواب ويقول‏‏ إنما يحتجب النساء، وكان طليق الوجه، وكان يجيز على الشعر بألوف، وقد امتدحه الفرزدق والأخطل، والجهمية تستدل على الاستواء على العرش بأنه الاستيلاء ببيت الأخطل‏‏

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق

وليس فيه دليل فإن هذا استدلال باطل من وجوه كثيرة، وقد كان الأخطل نصرانياً وكان سبب موت بشر أنه وقعت القرحة في عينه فقيل له يقطعها من المفصل فجزع فما أحس حتى خالطت الكتف، ثم أصبح وقد خالطت الجوف، ثم مات ولما احتضر جعل يبكي ويقول‏‏ والله لوددت أني كنت عبداً أرعى الغنم في البادية لبعض الأعراب، ولم أل ما وليت، فذكر قوله لأبي حازم - أو لسعيد بن المسيب -، فقال‏‏ الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يفرون إلينا ولم يجعلنا نفر إليهم، إنا لنرى فيهم عبراً، وقال الحسن‏‏ دخلت عليه فإذا هو يتململ على سريره ثم نزل عنه إلى صحن الدار، والأطباء حوله مات بالبصرة في هذه السنة، وهو أول أمير مات بها ولما بلغ عبد الملك موته حزن عليه وأمر الشعراء أن يرثوه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين

ففيها غزا محمد بن مروان - أخو عبد الملك بن مروان وهو والد مروان الحمار - صائفة الروم حين خرجوا من عند مرعش، وفيا ولي عبد الملك نيابة المدينة ليحيى بن الحكم بن أبي العاص، وهو عمه، وعزل عنها الحجاج‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها ولي عبد الملك الحجاج بن يوسف نيابة العراق والبصرة والكوفة وما يتبع ذلك من الأقاليم الكبار، وذلك بعد موت أخيه بشر، فرأى عبد الملك أنه لا يسد عنه أهل العراق غير الحجاج لسطوته وقهره وقسوته وشهامته، فكتب إليه وهو بالمدينة ولاية العراق، فسار من المدينة إلى العراق في اثني عشر راكباً، فدخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وكان تحتهم النجائب، فنزل قريب الكوفة فاغتسل واختضب ولبس ثيابه وتقلد سيفه وألقى عذبة العمامة بين كتفيه، ثم سار فنزل دار الإمارة، وذلك يوم الجمعة وقد أذن المؤذن الأول لصلاة الجمعة، فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فصعد المنبر وجلس عليه وأمسك عن الكلام طويلاً، وقد شخصوا إليه بأبصارهم وجثوا على الركب وتناولوا الحصى ليحذفوه بها، وقد كانوا حصبوا الذي كان قبله فلما سكت أبهتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان أول ما تكلم به أن قال‏‏ يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي ولقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم به فاتخذت هذا مكانه - وأشار إلى سيفه -، ثم قال‏‏ والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم، ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة‏.‏ فلما سمعوا كلامه جعل الحصى يتساقط من أيديهم، وقيل إنه دخل الكوفة في شهر رمضان ظهراً فأتى المسجد وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء متلثم بطرفها، ثم قال‏‏ عليَّ بالناس ‏!‏ فظنه الناس وأصحابه من الخوارج فهموا به حتى إذا اجتمع الناس قام وكشف عن وجهه اللثام وقال‏‏

أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني

ثم قال‏‏ أما والله إني لأحمل الشيء بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه بفتله، وإني لأرى رؤوساً قد أينعت وآن اقتطافها، وإني لأنظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى‏.‏ ‏‏ ‏‏

قد شمرت عن ساقها فشمري

ثم أنشد‏‏

هذا أوان الشد فاشتدي زِيمْ * قد لفَّها الليل بسوَّاق حطمْ

لست براعي إبل ولا غنمْ * ولا بجزَّارٍ على ظهرٍ وضمْ

ثم قال‏‏

قد لفَّها الليل بعصلبيِّ * أروع خراج من الدوي

مهاجر ليس بأعرابي *

ثم قال‏‏ إني يا أهل العراق ما أُغمز بغماز، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذُكاء وجربت من الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نثر كنانته ثم عجم عيدانها عوداً عوداً فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مغمزاً فوجهني إليكم فأنتم طالما رتعتم في أودية الفتن، وسلكتم سبيل الغي، واخترتم جدد الضلال، أما والله لألحونَّكم لحي العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلاً وقالاً، والله لتستقيمن على سبيل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلاً في جسده‏.‏

 

ثم قال‏‏ من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب -يعني الذين كانوا قد رجعوا عنه لما سمعوا بموت بشر ابن مروان كما تقدم -سفكت دمه وانتهبت ماله، ثم نزل فدخل منزله ولم يزد على ذلك، ويقال إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته أطال السكوت حتى أن محمد بن عمير أخذ كفاً من حصى وأراد أن يحصبه بها، وقال‏‏ قبحه الله ما أعياه وأذمه ‏!‏فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به، لما يرى من فصاحته وبلاغته‏.‏ ويقال إنه قال في خطبته هذه‏‏ شاهت الوجوه إن الله ضرب مثلاً‏‏ ‏{‏قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏} ‏[‏النحل‏‏‏]‏ وأنتم أولئك فاستووا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تذروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، وأقسم بالله لتقبلنّ على الإنصاف ولتدعن الأرجاف وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، وإيش الخبر وما الخبر، أو لأهبرنكم بالسيف هبراً يدع النساء أيامى والأولاد يتامى، حتى تمشوا السُّمَّهي وتقلعوا عن ها وها‏.‏

في كلام طويل بليغ غريب يشتمل على وعيد شديد ليس فيه وعد بخير‏.‏

فلما كان في اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق فخرج حتى جلس على المنبر فقال‏‏ يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيراً في الأسواق ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب، ولكنه تكبير يراد به الترهيب‏.‏ وقد عصفت عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الإماء والأيامى، ألا يربع كل رجل منكم على ظلمه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها‏.‏ قال فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي فقال‏‏ أصلح الله الأمير إنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير وعليل‏‏ وهذا ابني هو أشب مني‏.‏ ‏‏ ‏‏ قال‏‏ ومن أنت‏؟‏ قال عمير بن ضابئ التميمي، قال‏‏ أسمعت كلامنا بالأمس‏؟‏ قال‏‏ نعم ‏!‏ قال ألست الذي غزا عثمان بن عفان‏؟‏ قال‏‏ بلى قال‏‏ وما حملك على ذلك‏؟‏ قال‏‏ كان حبس أبي وكان شيخاً كبيراً، قال‏‏ أوليس هو الذي يقول‏‏

هممتُ ولم أفعل وكدت وليتني * فعلت وولَّيتُ البكاء حلائلا

ثم قال الحجاج‏‏ إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين، ثم قال‏‏ قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه وانتهب ماله، وأمر منادياً في الناس ألا إن عمير بن صابئ تأخر بعد سماع النداء ثلاثاً فأمر بقتله فخرج الناس حتى ازدحموا على الجسر فعبر عليه في ساعة واحدة أربعة آلاف من مذحج، وخرجت معهم العرفاء حتى وصلوا بهم إلى المهلب، وأخذوا منه كتاباً بوصولهم إليه، فقال المهلب‏‏ قدم العراق والله رجل ذكر، اليوم قوتل العدو‏.‏

ويروى أن الحجاج لم يعرف عمير بن ضابئ حتى قال له عنبسة بن سعيد‏‏ أيها الأمير ‏!‏ إن هذا جاء إلى عثمان بعد ما قتل فلطم وجهه، فأمر الحجاج عند ذلك بقتله‏.‏

وبعث الحجاج الحكم بن أيوب الثقفي نائباً على البصرة من جهته، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، وأقر على قضاء الكوفة شريحاً ثم ركب الحجاج إلى البصرة واستخلف على الكوفة أبا يعفور، وولى قضاء البصرة لزرارة بن أوفى، ثم عاد إلى الكوفة‏.‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان وأقر عمه يحيى على نيابة المدينة، وعلى بلاد خراسان أمية بن عبد الله‏.‏

وفي هذه السنة وثب الناس بالبصرة على الحجاج، وذلك أنه لما ركب من الكوفة بعد قتل عمير بن ضابئ قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما خطب أهل الكوفة من الوعيد والتشديد والتهديد الأكيد، ثم أُتي برجل من بني يشكر فقيل هذا عاص، فقال‏‏ إن بي فتقاً وقد عذرني الله وعذرني بشر بن مروان، وهذا عطائي مردود على بيت المال، فلم يقبل منه وأمر بقتله فقتل، ففزع أهل البصرة وخرجوا من البصرة حتى اجتمعوا عند قنطرة رامهرمز‏.‏ وعليهم عبد الله بن الجارود، وخرج إليهم الحجاج -وذلك في شعبان من هذه السنة -في أمراء الجيش فاقتتلوا هناك قتالاً شديداً، وقتل أميرهم عبد الله بن الجارود في رؤوس من القبائل معه، وأمر برؤوسهم فقطعت ونصبت عند الجسر من رامهرمز، ثم بعث بها إلى المهلب فقوي بذلك وضعف أمير الخوارج، وأرسل الحجاج إلى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف فأمرهما بمناهضة الأزارقة، فنهضا بمن معهما إلى الخوارج الأزارقة فأجلوهم عن أماكنهم من رامهرمز بأيسر قتال، فهربوا إلى أرض كازرون من إقليم سابور، وسار الناس وراءهم فالتقوا في العشر الأواخر من رمضان، ‏‏ ‏‏ فلما كان الليل بيت الخوارج المهلب من الليل فوجدوه قد تحصن بخندق حول معسكره، فجاؤوا إلى عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه غير محترز - وكان المهلب قد أمره بالاحتراز بخندق حوله فلم يفعل - فاقتتلوا في الليل فقتلت الخوراج عبد الرحمن بن مخنف وطائفة من جيشه وهزموهم هزيمة منكرة، ويقال إن الخوارج لما التقوا مع الناس في هذه الوقعة كان ذلك في يوم الأربعاء لعشرين بقين من رمضان، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله من الخوارج، وحملت الخوارج على جيش المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى معسكره، فجعل عبد الرحمن يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بعد العصر فاقتتلوا معه إلى الليل، فقتل عبد الرحمن في أثناء الليل، وقتل معه طائفة كثيرة من أصحابه الذين ثبتوا معه، فلما كان الصباح جاء المهلب فصلى عليه ودفنه وكتب إلى الحجاج بمهلكه، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يعزيه فيه فنعاه عبد الملك إلى الناس بمنى، وأمّر الحجاج مكانه عتاب بن ورقاء، وكتب إليه أن يطيع المهلب، فكره ذلك ولم يجد بدّاً من طاعة الحجاج، وكره أن يخالفه فسار إلى المهلب فجعل لا يطيعه إلا ظاهراً ويعصيه كثيراً، ثم تقاولا فهم المهلب أن يوقع بعتاب ثم حجز بينهما الناس، فكتب عتاب إلى الحجاج يشكو المهلب فكتب إليه أن يقدم عليه وأعفاه من ذلك وجعل المهلب مكانه ابنه حبيب بن المهلب‏.‏

وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة، فوجه إليه الحجاج أميراً على سرية فقتله‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس وكان يرى رأي الصفرية، وقيل إنه أول من خرج من الصفرية، وكان سبب ذلك أنه حج بالناس في هذه السنة ومعه شبيب بن يزيد، والبطين وأشبابهم من رؤوس الخوارج، واتفق حج أمير المؤمنين عبد الملك فهم شبيب بالفتك به، فبلغ عبد الملك ذلك من خبره بعد انصرافه من الحج، فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يتطلبهم، وكان صالح بن مسرح هذا يكثر الدخول إلى الكوفة والإقامة بها، وكان له جماعة يلوذون به ويعتقدونه، من أهل دارا وأرض الموصل، وكان يعلمهم القرآن ويقص عليهم وكان مصفراً كثير العبادة، وكان إذا قص يحمد الله ويثنى عليه ويصلي على رسوله، ثم يأمر بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ويحث على ذكر الموت ويترحم على الشيخين أبي بكر وعمر، ويثني عليهما ثناءً حسناً، ولكن بعد ذلك يذكر عثمان فيسبه وينال منه وينكر عليه أشياء من جنس ما كان ينكر عليه الذين خرجوا عليه وقتلوه من فجرة أهل الأمصار، ثم يحض أصحابه على الخروج مع الخوارج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ‏‏ ‏‏ وإنكار ما قد شاع في الناس وذاع، ويهون عليهم القتل في طلب ذلك، ويذم الدنيا ذماً بالغاً ويصغر أمرها ويحقره، فالتفت عليه جماعة من الناس، وكتب إليه شبيب بن يزيد الخارجي يستبطئه في الخروج ويحثه عليه ويندب إليه، ثم قدم شبيب على صالح وهو بدارا فتواعدوا وتوافقوا على الخروج في مستهل صفر من هذه السنة الآتية - وهي سنة ست وسبعين - وقدم على صالح شبيب وأخوه مصاد والمجلل والفضل بن عامر، فاجتمع عليه من الأبطال وهو بدارا نحو مائة وعشرة أنفس، ثم وثبوا على خيل لمحمد بن مروان فأخذوها ونفروا بها ثم كان من أمرهم بعد ذلك ما كان كما سنذكره في هذه السنة آلتي بعدها إن شاء الله تعالى‏.‏

 وكان ممن توفي فيها في قول أبي مسهر وأبي عبيد‏.‏

 العرباض بن سارية رضي الله عنه

السلمي أبو نجيح سكن حمص وهو صحابي جليل، أسلم قديماً هو وعمرو بن عنبسة ونزل الصفة، وكان من البكائين المذكورين في سورة براءة كما قد ذكرنا أسماءهم عند قوله‏‏ ‏{‏وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ‏} ‏[‏التوبة‏‏‏]‏ الآية‏.‏ وكانوا تسعة وهو راوي حديث‏‏ ‏‏‏‏خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون‏‏‏‏ الحديث إلى آخره‏.‏ ورواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره، وروي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏كان يصلي على الصف المقدم ثلاثاً وعلى الثاني واحدة‏‏‏‏ وقد كان العرباض شيخاً كبيراً، وكان يحب أن يقبضه الله إليه، وكان يدعو‏‏ اللهم كبرت سني ووهن عظمي فاقبضني إليك، وروى أحاديث‏.‏

 أبو ثعلبة الخشني

صحابي جليل شهد بيعة الرضوان وغزا حنيناً وكان ممن نزل الشام بداريا غربي دمشق إلى جهة القبلة، وقيل ببلاط قرية شرقي دمشق، فالله أعلم‏.‏

وقد اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة والأشهر منها جرثوم بن ناشر، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث وعن جماعة من الصحابة، وعنه جماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب ومكحول الشامي وأبو إدريس الخولاني، وأبو قلابة الجرمي، وكان ممن يجالس كعب الأحبار، وكان في كل ليلة يخرج فينظر إلى السماء فيتفكر ثم يرجع إلى المنزل فيسجد لله عز وجل، وكان يقول‏‏ إني لأرجو أن لا يخنقني الله عند الموت كما أراكم تختنقون، فبينما هو ليلة يصلي من الليل إذ قبضت روحه وهو ساجد‏.‏ ‏‏ ‏‏ ورأت ابنته في المنام كان أباها قد مات فانتبهت مذعورة فقالت لأمها أين أبي‏؟‏ قالت‏‏ هو في مصلاه، فنادته فلم يجبها، فجاءته فحركته فسقط لجنبه فإذا هو ميت رحمه الله، قال أبو عبيدة ومحمد بن سعد وخليفة وغير واحد‏‏ كانت وفاته سنة خمس وسبعين، وقال غيرهم‏‏ كانت وفاته في أول إمرة معاوية، فالله أعلم‏.‏ وقد توفي في هذه السنة‏.‏

 الأسود بن يزيد

صاحب ابن مسعود، وهو الأسود بن يزيد النخعي من كبار التابعين، ومن أعيان أصحاب ابن مسعود، ومن كبار أهل الكوفة، وكان يصوم الدهر، وقد ذهبت عينه من كثرة الصوم، وقد حج البيت ثمانين حجة وعمرة‏.‏ وكان يهل من الكوفة، توفي في هذه السنة، وكان يصوم حتى يخضر ويصفر، فلما احتضر بكى فقيل له‏‏ ما هذا الجزع ‏؟‏فقال‏‏ مالي لا أجزع‏؟‏ ومن أحق بذلك مني‏؟‏ والله لو أنبئت بالمغفرة من الله لأهابن الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيياً منه‏.‏

 حمران بن أبان

مولى عثمان بن عفان كان من سبي عين النمر اشتراه عثمان، وهو الذي كان يأذن الناس على عثمان توفي في هذه السنة، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعين

كان في أولها في مستهل صفر منها ليلة الأربعاء اجتماع صالح بن مسرح أمير الصفرية، وشبيب بن يزيد أحد شجعان الخوارج، فقام فيهم صالح بن مسرح فأمرهم بتقوى الله وحثهم على الجهاد، وأن لا يقاتلوا أحداً حتى يدعوه إلى الدخول معهم، ثم مالوا إلى دواب محمد بن مروان نائب الجزيرة فأخذوها فنفروا بها، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار، فبعث إليهم محمد بن مروان نائب الجزيرة خمسمائة فارس عليهم عدي بن عدي بن عُميرة، ثم زاده خمسمائة أخرى فسار في ألف من حران إليهم، وكأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، لما يعلموا من جلد الخوارج وقوتهم وشدة بأسهم، فلما التقوا مع الخوارج هزمتهم الخوارج هزيمة شنيعة بالغة، واحتووا على ما في معسكرهم، ورجع فلّهم إلى محمد بن مروان، فغضب وبعث إليهم ألفاً وخمسمائة مع الحارث بن جعونة وألفاً وخمسمائة مع خالد بن الحر، وقال لهما‏‏ أيكما سبق إليهم فهو الأمير على الناس، فساروا إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل والخوارج في نحو من مائة نفس وعشرة أنفس، فلما انتهوا إلى آمد توجه صالح في شطر الناس إلى خالد بن الحر، ‏‏ ‏‏ ووجه شبيباً في الباقي إلى الحارث ابن جعونة، فاقتتل الناس قتالاً شديداً إلى الليل، فلما كان المساء انكشف كل من الفريقين عن الآخر، وقد قتل من الخوارج نحو السبعين وقتل من أصحاب ابن مروان نحو الثلاثين، وهربت الخوارج في الليل فخرجوا من الجزيرة وأخذوا في أرض الموصل ومضوا حتى قطعوا الدسكرة، فبعث إليهم الحجاج ثلاثة آلاف مع الحارث بن عميرة، فسار نحوهم حتى لحقهم بأرض الموصل وليس مع صالح سوى تسعين رجلاً، فالتقى معهم وقد جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس، وشبيب عن يمينه في كردوس، وسويد بن سليمان عن يساره في كردوس، وحمل عليهم الحارث بن عميرة، وعلى ميمنته أبو الرواع الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، فصبرت الخوارج على قلتهم صبراً شديداً، ثم انكشف سويد بن سليمان، ثم قتل صالح بن مسرِّح أميرهم، وصرع شبيب عن فرسه فالتف عليه بقية الخوارج حتى احتملوه فدخلوا به حصناً هنالك، وقد بقي معهم سبعون رجلاً، فأحاط بهم الحارث بن عميرة وأمر أصحابه أن يحرقوا الباب ففعلوا، ورجع الناس إلى معسكرهم ينتظرون حريق الباب فيأخذون الخوارج قهراً، فلما رجع الناس واطمأنوا خرجت عليهم الخوارج على الصعب والذلول من الباب فبيتوا جيش الحارث بن عميرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب الناس سراعاً إلى المدائن، واجتاز شبيب وأصحابه ما في معسكرهم، وكان جيش الحارث بن عميرة أول جيش هزمه شبيب، وكان مقتل صالح بن مسرح في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

وفيها دخل شبيب الكوفة ومعه زوجته غزالة، وذلك أن شبيباً جرت له فصول يطول تفصيلها بعد مقتل صالح بن مسرح، واجتمعت عليه الخوارج وبايعوه، وبعث إليه الحجاج جيشاً آخر فقاتلوه فهزموه ثم هزمهم بعد ذلك، ثم سار فجاز المدائن فلم ينل منهم شيئاً فسار فأخذ دواباً للحجاج من كلوذا، وفي عزمه أن يبيت أهل المدائن فهرب من فيها من الجند إلى الكوفة، فلما وصل فلُّهم إلى الحجاج جهز جيشاً أربعة آلاف مقاتل إلى شبيب، فمروا على المدائن ثم ساروا في طلب شبيب فجعل يسير بين أيديهم قليلاً قليلاً، وهو يريهم أنه خائف منهم، ثم يكر في كل وقت على المقدمة فيكسرها وينهب ما فيها، ولا يواجه أحداً إلا هزمه، والحجاج يلح في طلبه ويجهز إليه السرايا والبعوث والمدد وشبيب لا يبالي بأحد وإن ما معه مائة وستون فارساً، وهذا من أعجب العجب، ‏‏ ‏‏ ثم سار من طريق أخرى حتى واجه الكوفة وهو يريد أن يحاصرها، فخرج الجيش بكماله إلى السبخة لقتاله، وبلغه ذلك فلم يبال بهم بل انزعج الناس له وخافوا منه وفرقوا منه، وهم الجيش أن يدخل الكوفة خوفاً منه، ويتحصنوا بها منه حتى قيل لهم إن سويد بن عبد الرحمن في أثارهم وقد اقترب منهم، وشبيب نازل بالمدائن بالدير ليس عنده حبر منهم ولا خوف، وقد أمر بطعام وشواء أن يصنع له فقيل له‏‏ قد جاءك الجند فأدرك نفسك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك ولا يكترث بهم ويقول للدهقان الذي يصنع له الطعام‏‏ أجده وأنضجه وعجل به، فلما استوى أكله ثم توضأ وضوءاً تاماً ثم صلى بأصحابه صلاة تامة بتطويل وطمأنينة، ثم لبس درعه وتقلد سيفين وأخذ عمود حديد ثم قال‏‏ أسرجوا لي البغلة، فركبها فقال له أخوه مصاد‏‏ اركب فرساً، فقال‏‏ لا ‏!‏ حارس كل أمر أجله فركبها ثم فتح باب الدير الذي هو فيه وهو يقول‏‏ أنا أبو المدله لا حكم إلا لله، وتقدم إلى أمير الجيش الذي يليه بالعمود الحديد فقتله، وهو سعيد بن المجالد، وحمل على الجيش الآخر الكثيف فصرع أميره وهرب الناس من بين يديه ولجأوا إلى الكوفة، ومضى شبيب إلى الكوفة من أسفل الفرات، وقتل جماعة هناك، وخرج الحجاج من الكوفة هارباً إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، ثم اقترب شبيب من الكوفة يريد دخولها، فأعلم الدهاقين عروة بن المغيرة بذلك فكتب إلى الحجاج يعلمه بذلك فأسرع الحجاج الخروج من البصرة وقصد الكوفة فأسرع السير، وبادره شبيب إلى الكوفة فسبقه الحجاج إليها فدخلها العصر، ووصل شبيب إلى المربد عند الغروب، فلما كان آخر الليل دخل شبيب الكوفة وقصد قصر الإمارة فضرب بابه بعموده الحديد فأثرت ضربته في الباب، فكانت تعرف بعد ذلك، يقال هذه ضربة شبيب، وسلك في طرق المدينة وتقصد محال القتال، وقتل رجالاً من رؤوساء أهل الكوفة وأشرافهم، منهم أبو سليم والدليث بن أبي سليم، وعدي بن عمرو، وأزهر بن عبد الله العامري، في طائفة كثيرة من أهل الكوفة، وكان مع شبيب امرأته غزالة، وكانت معروفة بالشجاعة، فدخلت مسجد الكوفة وجلست علي منبره وجعلت تذم بني مروان‏.‏ ‏‏  ‏‏

ونادى الحجاج في الناس‏‏ يا خيل الله اركبي، فخرج شبيب من الكوفة إلى مجال الطعن والضرب، فجهز الحجاج في أثره ستة آلاف مقاتل، فساروا وراءه وهو بين أيديهم ينعس ويهز رأسه، وفي أوقات كثيرة يكر عليهم فيقتل منهم جماعة، حتى قتل من جيش الحجاج خلقاً كثيراً، وقتل جماعة من الأمراء منهم رائدة بن قدامة، قتله شبيب، وهو ابن عم المختار، فوجه الحجاج مكانه لحربه عبد الرحمن بن الأشعث، فلم يقابل شبيباً ورجع، فوجه مكانه عثمان بن قطن الحارثي، فالتقوا في أواخر السنة فقتل عثمان بن قطن وانهزمت جموعه بعد أن قتل من أصحابه ستمائة نفس، فمن أعيانهم عقيل بن شداد السلولي، وخالد بن نهيك الكندي، والأسود بن ربيعة، واستفحل أمر شبيب وتزلزل له عبد الملك بن مروان والحجاج وسائر الأمراء وخاف عبد الملك منه خوفاً شديداً، فبعث له جيشاً من أهل الشام فقدموا في السنة الآتية، وإن ما مع شبيب شرذمة قليلة، وقد ملأ قلوب الناس رعباً، وجرت خطوب كثيرة له معهم، ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم حتى استهلت هذه السنة‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة نقش عبد الملك بن مروان على الدراهم والدنانير وهو أول من نقشها‏.‏

وقال الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية‏‏ اختلف في أول من ضربها بالعربية في الإسلام فقال سعيد بن المسيب‏‏ أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان، وكانت الدنانير والدراهم رومية وكسروية، قال أبو الزناد‏‏ وكان نقشه لها في سنة أربع وسبعين، وقال المدائني‏‏ خمس وسبعين، وضربت في الآفاق سنة ستة وسبعين، وذكر أنه ضرب على الجانب الواحد منها الله أحد، وعلى الوجه الآخر الله الصمد، قال‏‏ وحكى يحيى بن النعمان الغفاري عن أبيه أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر أخيه عبد الله بن الزبير، سنة سبعين على ضرب الأكاسرة، عليها الملك من جانب، والله من جانب، ثم غيرها الحجاج وكتب اسمه عليها من جانب، ثم خلصها بعده يوسف بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك، ثم خلصها أجود منها خالد بن عبد الله القسيري في أيام هشام، ثم يوسف بن عمر أجود منهم كلهم، ولذلك كان المنصور لا يقبل منها إلا الهبيرية والخالدية واليوسفية وذكر أنه قد كان للناس نقود مختلفة منها الدراهم البعلية، وكان الدرهم منها ثمانية دوانق، والطبرية وكان الدرهم منها أربعة دوانيق، واليمني دانق، فجمع عمر بن الخطاب بين البعلي والطبري ثم أخذ بنصفها فجعل الدرهم الشرعي وهو نصف مثقال وخمس مثقال، وذكروا أن المثقال لم يغيروا وزنه في جاهلية ولا إسلام، وفى هذا نظر، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وهو مروان الحمار آخر من تولى الخلافة من بنى أمية، ومنه أخذها بنو العباس‏.‏

وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان نائب المدينة، وعلى إمرة العراق الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله، والله أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان

 أبو عثمان النهدي القضاعي

 اسمه عبد الرحمن بن مل، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وغزا جلولاء والقادسية وتستر، ونهاوند، وأذربيجان وغيرهما، وكان كثير العبادة زاهداً عالماً يصوم النهار ويقوم الليل، توفي وعمره مائة وثلاثين سنة بالكوفة‏.‏

 صلة بن أشيم العدوي

من كبار التابعين من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع وعبادة وزهد، كنيته أبو الصبهاء، كان يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي الفراش إلا حبواً، وله مناقب كثيرة جداً، منها أنه كان يمر عليه شباب يلهون ويلعبون فيقول‏‏ أخبروني عن قوم أرادوا سفراً فحادوا في النهار عن الطريق وناموا الليل فمتى يقطعون سفرهم‏؟‏ فقال لهم يوماً هذه المقالة، فقال شاب منهم‏‏ والله يا قوم إنه ما يعني بهذا غيرنا، نحن بالنهار نلهو، وبالليل ننام‏.‏

ثم تبع صلة فلم يزل يتعبد معه حتى مات‏.‏

ومر عليه فتى يجر ثوبه فهمَّ أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم فقال‏‏ دعوني أكفكم أمره، ثم دعاه فقال‏‏ يا ابن أخي لي إليك حاجة، قال‏‏ وما حاجتك‏؟‏ قال‏‏ أن ترفع إزارك، قال‏‏ نعم، ونعمت عين، فرفع إزاره، فقال صلة‏‏ هذا أمثل مما أردتم، لو شتمتوه لشتمكم‏.‏

ومنها ما حكاه جعفر بن زيد قال‏‏ خرجنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة فقلت‏‏ لأرمقن عمله الليلة، فدخل غيضة ودخلت في أثره فقام يصلي وجاء الأسد حتى دنا منه وصعدت أنا في شجرة، ‏‏  ‏‏ قال‏‏ فتراه التفت أو عدَّه جرواً حتى سجد فقلت‏‏ الآن يفترسه، فجلس ثم سلم فقال‏‏ أيها السبع إن كنت أمرت بشيء فافعل وإلا فاطلب الرزق من مكان آخر، فولى الأسد وإن له لزئيراً تصدع منه الجبال، فلما كان عند الصباح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال‏‏ اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة‏.‏ ثم رجع إلى الجيش فأصبح كأنه بات على الحشا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم‏.‏ قال‏‏ وذهبت بغلته بثقلها فقال‏‏ اللهم إني أسألك أن ترد علي بغلتي بثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه، قال‏‏ فلما التقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعناً وضرباً، فقال العدو‏‏ رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا كلهم‏؟‏ أعطوا المسلمين حاجتهم - يعني انزلوا على حكمهم - وقال صلة‏‏ جعت مرة في غزاة جوعاً شديداً فبينما أنا أسير أدعو ربي وأستطعمه، إذ سمعت وجبة من خلفي، فالتفت فإذا أنا بمنديل أبيض فإذا فيه دوخلة ملآنة رطباً فأكلت منه حتى شبعت، وأدر كنى المساء فملت إلى دير راهب فحدثته الحديث فاستطعمني من الرطب فأطعمته، ثم إني مررت على ذلك الراهب بعد زمان فإذا نخلات حسان فقال‏‏ إنهن لمن الرطبات التي أطعمتني، وجاء بذلك المنديل إلى امرأته فكانت تريه للناس، ولما أهديت معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيت العروس بيتاً مطيباً فقام يصلي فقامت تصلي معه، فلم يزالا يصليان حتى برق الصبح، قال‏‏ فأتيته فقلت له‏‏ أي عمْ أُهديت إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها‏؟‏ قال‏‏ إنك أدخلتني بيتاً أول النهار أذكرتني به النار، وأدخلتني بيتاً آخر النهار أذكرتني به الجنة، فلم تزل فكرتي فيهما حتى أصبحت، البيت الذي أذكره به النار هو الحمام، والبيت الذي أذكره به الجنة هو بيت العروس‏.‏

وقال له رجل‏‏ أدعو الله لي‏.‏ فقال‏‏ رغَّبك الله فيما يبقى، وزهَّدك فيما يفنى، ورزقك اليقين الذي لا يُركن إلا إليه، ولا يعوَّل في الدين إلا عليه‏.‏

وكان صلة في غزاة ومعه ابنه فقال له‏‏ أي بنيّ تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة فقاتل حتى قتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت‏‏ إن كنتن جئتن لتهنيني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لتعزينني فارجعن‏.‏

توفي صلة في غزاة هو وابنه نحو بلاد فارس في هذه السنة‏.‏

 زهير بن قيس الهلوي

شهد فتح مصر وسكنها، له صحبة، قتلته الروم ببرقة من بلاد المغرب، وذلك أن الصريح أبي الحاكم بمصر وهو عبد العزيز بن مروان أن الروم نزلوا برقة، فأمره بالنهوض إليهم، فساق زهير ومعه أربعون نفساً فوجد الروم فأراد أن يكف عن القتال حتى يلحقه العسكر، فقالوا‏‏ يا أبا شداد احمل بنا عليهم، فحملوا فقتلوا جميعاً المنذر بن الجارود‏.‏ مات في هذه السنة‏.‏ تولى بيت المال ووفد على معاوية، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

 ثم دخلت سنة سبع وسبعين

فيها أخرج الحجاج مقاتلة أهل الكوفة وكانوا أربعين ألفاً، وانضاف عليهم عشرة آلاف، فصاروا خمسين ألفاً، وأمر عليهم عتاب بن ورقاء وأمره أن يقصد لشبيب أين كان، وأن يصمم على قتاله - وكان قد اجتمع على شبيب ألف رجل - وأن لا يفعلوا كما كانوا يفعلون قبلها من الفرار والهزيمة‏.‏ ولما بلغ شبيباً ما بعث به الحجاج إليه من العساكر والجنود، لم يعبأ بهم شيئاً، بل قام في أصحابه خطيباً فوعظهم وذكرهم وحثهم على الصبر عند اللقاء ومناجزة الأعداء، ثم سار شبيب بأصحابه نحو عتاب بن ورقاء، فالتقيا في آخر النهار عند غروب الشمس، فأمر شبيب مؤذنه سلام بنى يسار الشيباني فأذن المغرب ثم صلى شبيب بأصحابه المغرب صلاة تامة الركوع والسجود، وصف عتاب، أصحابه - وكان قد خندق حوله وحول جيشه من أول النهار - فلما صلى شبيب بأصحابه المغرب انتظر حتى طلع القمر وأضاء ثم تأمل الميمنة والميسرة ثم حمل على أصحاب رايات عتاب وهو يقول‏‏ أنا شبيب أبو المدله لا حكم إلا لله فهزمهم وقتل أميرهم قبيصة بن والق وجماعة من الأمراء معه، ثم كر على الميمنة وعلى الميسرة ففرق شمل كل واحدة منهما، ثم قصد القلب فما زال حتى قتل الأمير عتاب بن ورقاء وزهرة بن جونة، وولى عامة الجيش مدبرين وداسوا الأمير عتاب، وزهرة فوطئته الخيل‏.‏ وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي‏.‏ ثم قال شبيب لأصحابه‏‏ لا تتبعوا منهزماً، وانهزم جيش الحجاج عن بكرة أبيهم راجعين إلى الكوفة، وكان شبيب لما احتوى على المعسكر أخذ ممن بقي منهم البيعة له بالإمارة وقال لهم‏‏ إلى أي ساعة تهربون‏؟‏ ثم احتوى على ما في المعسكر من الأموال والحواصل، واستدعى بأخيه مصاد من المدائن، ثم قصد نحو الكوفة، وقد وفد إلى الحجاج سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ستة آلاف فارس ومعهما خلق من أهل الشام، فاستغنى الحجاج بهم عن نصرة أهل الكوفة، وقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏‏ يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، فلا يقاتلن معنا إلا من كان عاملاً لنا، ومن لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء، وعزم الحجاج على قتال شبيب بنفسه وسار شبيب حتى بلغ الصراة، وخرج إليه الحجاج بمن معه من الشاميين وغيرهم، فلما تواجه الفريقان نظر الحجاج إلى شبيب وهو في ستمائة فخطب الحجاج أهل الشام وقال‏‏ يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين لا يغلبن باطل هؤلاء الأراجس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوا بأطراف الأسنة، ففعلوا ذلك، وأقبل شبيب وقد عبى أصحابه ثلاث فرق، واحدة معه، وأخرى مع سويد بن سليم، وأخرى مع المجلل بن وائل‏.‏ ‏‏ ‏‏ وأمر شبيب سويداً أن يحمل فحمل على جيش الحجاج فصبروا له حتى إذا دنا منهم وثبوا إليه وثبة واحدة فانهزم عنهم، فنادى الحجاج‏‏ يا أهل السمع والطاعة هكذا فافعلوا، ثم أمر الحجاج فقدم كرسيه الذي هو جالس عليه إلى الأمام، ثم أمر شبيب المجلل أن يحمل فحمل فثبتوا له وقدم الحجاج كرسيه إلى أمام، ثم إن شبيباً حمل عليهم في كثيبته فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنة وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلاً، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى‏‏ يا سويد احمل في خيلك على أهل هذه السرية لعلك تزيل أهلها عنها فأت الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه‏.‏

فحمل فلم يفد ذلك شيئاً وذلك أن الحجاج كان قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة فارس رداً له من ورائه لئلا يؤتوا من خلفهم، وكان الحجاج بصيراً بالحرب أيضاً، فعند ذلك حرض شبيب أصحابه على الحملة وأمرهم بها ففهم ذلك الحجاج، فقال‏‏ يا أهل السمع والطاعة اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء والأرض ما شيء دون الفتح فجثوا على الركب وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويطعنون وهم مستظهرون على شبيب وأصحابه حتى ردوهم عن مواقفهم إلى ما ورائها، فنادى شبيب في أصحابه يا أولياء الله الأرض الأرض، ثم نزل ونزلوا ونادى الحجاج‏‏ يا أهل الشام يا أهل السمع والطاعة هذا أول النصر، والذي نفسي بيده وصعد مسجداً هنالك وجعل ينظر إلى الفريقين، ومع شبيب نحو عشرين رجلاً معهم النبل، واقتتل الناس قتالاً شديداً عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد منهم لصاحبه، والحجاج ينظر إلى الفريقين من مكانه، ثم إن خالد بن عتاب، استأذن الحجاج في أن يركب في جماعة فيأتي الخوارج من خلفهم فأذن له، فانطلق في جماعة معه نحو من أربعة آلاف، فدخل عسكر الخوارج من روائهم فقتل مصاداً أخا شبيب، وغزالة امرأة شبيب قتلها رجل يقال له فروة بن دقاق الكلبي، وخرق في جيش شبيب، ففرح بذلك الحجاج وأصحابه وكبروا، وانصرف شبيب وأصحابه كل منهم عل فرس، فأمر الحجاج أن ينطلقوا في طلبهم، فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس، ثم انطلق واتبعه الطلب فجعل ينعس وهو على فرسه حتى يخفق برأسه، ودنا منه الطلب فجعل بعض أصحابه ينهاه عن النعاس في هذه الساعة فجعل لا يكترث بهم‏.‏ ويعود فيخفق رأسه فلما طال ذلك بعث الحجاج إلى أصحابه يقول‏‏ دعوه في حرق النار فتركوه ورجعوا‏.‏ ‏‏ ‏‏

ثم دخل الحجاج الكوفة فخطب الناس فقال في خطبته‏‏ إن شبيباً لم يهزم قبلها ثم قصد شبيب الكوفة فخرجت إليه سرية من جيش الحجاج فالتقوا يوم الأربعاء فلا زالوا يتقاتلون إلى يوم الجمعة وكان على سرية الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي في ألف معه، فحمل شبيب على الحارث ابن معاوية فكسره ومن معه، وقتل منهم طائفة، ودخل الناس الكوفة هاربين، وحصن الناس السكك فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج في طائفة من الجيش فقاتل حتى قتل، ثم هرب أصحابه ودخلوا الكوفة ثم خرج إليه أمير آخر فانكسر أيضاً، ثم سار شبيب بأصحابه نحو السواد فمروا بعامل الحجاج على تلك البلاد فقتلوه، ثم خطب أصحابه وقال‏‏ اشتغلتم بالدنيا عن الآخرة، ثم رمى بالمال في الفرات، ثم سار بهم حتى افتتح بلاداً كثيرة ولا يبرز له أحد إلا قتله، ثم خرج إليه بعض الأمراء الذين على بعض المدن فقال له‏‏ يا شبيب ابرز إلى وأبرز إليك، - وكان صديقه - فقال له شبيب‏‏ إني لا أحب قتلك، فقال له‏‏ لكني أحب قتلك فلا تغرنك نفسك وما تقدم من الوقائع، ثم حمل عليه فضربه شبيب على رأسه فهمس رأسه حتى اختلط دماغه بلحمه وعظمه، ثم كفنه ودفنه، ثم إن الحجاج أنفق أموالاً كثيرة على الجيوش والعساكر في طلب شبيب فلم يطيقوه ولم يقدروا عليه، وإنما سلط الله عليه موتاً قدراً من غير صنعهم ولا صنعه‏.‏ في هذه السنة‏.‏

 مقتل شبيب عند ابن الكلبي

وكان سبب ذلك أن الحجاج كتب إلى نائبه على البصرة - وهو الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل وهو زوج ابنة الحجاج - يأمره أن يجهز جيشاً أربعة آلاف في طلب شبيب، ويكونون تبعاً لسفيان بن الأبرد، ففعل وانطلقوا في طلبه فالتقوا معه‏.‏ وكان ابن الأبرد معه خلق من أهل الشام، فلما وصل جيش البصرة إلى ابن الأبرد التقوا معه جيشاً واحداً هم وأهل الشام، ثم ساروا إلى شبيب فالتقوا به فاقتتلوا قتالاً شديداً وصبر كل من الفريقين لصاحبه، ثم عزم أصحاب الحجاج فحملوا على الخوارج حملة منكرة والخوارج قليلون ففروا بين أيديهم ذاهبين حتى اضطروهم إلى جسر هناك، فوقف عنده شبيب في مائة من أصحابه، وعجز سفيان بن الأبرد عن مقاومته، ورده شبيب عن موقفه هذا بعد أن تقاتلوا نهاراً طويلاً كاملاً عند أول الجسر أشد قتال، يكون ثم أمر ابن الأبرد أصحابه فرشقوهم بالنبال رشقاً واحداً، ففرت الخوارج ثم كرت على الرماة فقتلوا نحواً من ثلاثين رجلاً من أصحاب ابن الأبرد، وجاء الليل بظلامه فكف الناس بعضهم عن بعض، وبات كل من الفريقين مصراً على مناهضة الآخر، فلما طلع الفجر عبر شبيب وأصحابه على الجسر، فبينما شبيب على متن الجسر راكباً على حصان له وبين يديه فرس أنثى إذ نزا حصانه عليها وهو على الجسر فنزل حافز فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فقال‏‏ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً،‏‏ ‏‏ ثم انغمر في الماء ثم ارتفع، وهو يقول‏‏ ‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏ فغرق‏.‏ فلما تحققت الخوارج سقوطه في الماء كبروا وانصرفوا ذاهبين متفرقين في البلاد، وجاء أمير جيش الحجاج فاستخرج شبيباً من الماء وعليه درعه، ثم أمر به فشق صدره فاستخرج قلبه فإذا هو مجتمع صلب كأنه صخرة، وكانوا يضربون به الأرض فيرتفع قامة الإنسان‏.‏ وقيل‏‏ إنه كان معه رجال قد أبغضوه لما أصاب من عشائرهم، فلما تخلف في الساقة اشتوروا وقالوا‏‏ نقطع الجسر به ففعلوا ذلك فمالت السفن بالجسر ونفر فرسه فسقط في الماء فغرق، ونادوا غرق أمير المؤمنين، فعرف جيش الحجاج ذلك فجاؤوا فاستخرجوه، ولما نعي شبيب إلى أمه قالت‏‏ صدقتم إني كنت رأيت في المنام وأنا حامل به أنه قد خرج منها شهاب من نار فعلمت أن النار لا يطفئها إلا الماء وأنه لا يطفئه إلا الماء، وكانت أمه جارية اسمها‏‏ جهبرة، وكانت جميلة، وكانت من أشجع النساء، تقاتل مع ابنها في الحروب‏.‏ وذكر ابن خلكان‏‏ أنها قتلت في هذه الغزوة وكذلك قتلت زوجته غزالة، وكانت أيضاً شديدة البأس تقاتل قتالاً شديداً يعجز عنه الأبطال من الرجال، وكان الحجاج يخاف منها أشد خوف حتى قال فيه بعض الشعراء‏‏

أسد علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تنفر من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغا * بل كان قلبك في جناحي طائر

قال‏‏ وقد كان شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن شراحيل بن صبرة بن ذهل بن شيبان الشيباني، يدعي الخلافة ويتسمى بأمير المؤمنين، ولولا أن الله تعالى قهره بما قهره به من الغرق لنال الخلافة إن شاء الله، ولما قدر عليه أحد، وإنما قهره الله على يدي الحجاج لما أرسل إليه عبد الملك بعسكر الشام لقتاله، ولما ألقاه جواده على الجسر في نهر دجيل قال له رجل‏‏ أغرقاً يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏‏ ‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏} ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏ ‏‏ ‏‏ قال‏‏ ثم أخرج وحمل إلى الحجاج فأمر فنزع قلبه من صدره فإذا هو مثل الحجر، وكان شبيب رجلاً طويلاً أشمط جعداً، وكان مولده في يوم عيد النحر سنة ست وعشرين، وقد أمسك رجل أصحابه فحمل إلى عبد الملك بن مروان فقال له‏‏ أنت القائل‏‏

فإن يك منكم كان مروان وابنه * وعمرو ومنكم هاشم وحبيب

فمنا حصين والبطين وقعنب * ومنا أمير المؤمنين شبيب

فقال‏‏ إنما قلت ومنا يا أمير المؤمنين شبيب‏.‏ فأعجبه اعتذاره وأطلقه، والله سبحانه أعلم‏.‏

وفي هذه السنة كانت حروب كثيرة جداً بين المهلب بن أبي صفرة نائب الحجاج، وبين الخوارج من الأزارقة وأميرهم قطري بن الفجاءة، وكان قطري أيضاً من الفرسان الشجعان المذكورين المشهورين وقد تفرق عنه أصحابه ونفروا في هذه السنة، وأما هو فلا يدري أحد أين ذهب، فإنه شرد في الأرض وقد جرت بينهم مناوشات ومجاولات يطول بسطها، وقد بالغ ابن جرير في ذكرها في تاريخه‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة ثار بكير بن وشاح الذي كان نائب خراسان على نائبها أمية بن عبد الله بن خالد وذلك أن بكيراً استجاش عليه الناس وغدر به وقتله، وقد جرت بينهما حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير في تاريخه‏.‏

وفي هذه السنة كانت وفاة شبيب بن يزيد كما قدمنا، وقد كان من الشجاعة والفروسة على جانب كبير لم ير بعد الصحابة مثله، ومثل الأشتر وابنه إبراهيم ومصعب بن الزبير وأخيه عبد الله ومن يناط بهؤلاء في الشجاعة مثل قطري بن الفجاءة من الأزارقة، والله أعلم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان

 كثير بن الصلت

بن معدي كرب الكندي كان كبيراً مطاعاً في قومه، وله بالمدينة دار كبيرة بالمصلى، وقيل‏‏ إنه كان كاتب عبد الملك على الرسائل توفي بالشام‏.‏

 محمد بن موسى

ابن طلحة بن عبيد الله كانت أخته تحت عبد الملك وولاه سجستان، فلما سار إليها قيل له‏‏ إن شبيباً في طريقك وقد أعيا الناس فاعدل إليه لعلك أن تقتله فيكون ذكر ذلك وشهرته لك إلى الأبد، فلما سار لقيه شبيب فاقتتل معه فقتله شبيب وقيل غير ذلك، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

 عياض بن غنم الأشعري

شهد اليرموك وحدث عن جماعة من الصحابة وغيرهم، توفي بالبصرة رحمه الله‏.‏

 مطرف بن عبد الله

وقد كانوا إخوة عروة ومطرف وحمزة، وقد كانوا يميلون إلى بني أمية فاستعملهم الحجاج على أقاليم، فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرف على المدائن، وحمزة على همدان‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين

ففيها كانت غزوة عظيمة للمسلمين ببلاد الروم افتتحوا إرقيلية، فلما رجعوا أصابهم مطر عظيم وثلج وبرد، فأصيب بسببه ناس كثير‏.‏

وفيها ولى عبد الملك موسى بن نصير غزو بلاد المغرب جميعه فسار إلى طنجة وقد جعل على مقدمته طارقاً فقتلوا ملوك تلك البلاد، وبعضهم قطعوا أنفه ونفوه‏.‏

وفيها عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن إمرة خراسان وأضافها إلى الحجاج مع سجستان أيضاً، وركب الحجاج بعد فراغه من شأن شبيب من إمرة الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن عامر الحضرمي، فقدم المهلب على الحجاج وهو بالبصرة وقد فرغ من شأن الأزارقة أيضاً، فأجلسه معه على السرية واستدعى بأصحاب البلاء من جيشه، فمن أثنى عليه المهلب أجزل الحجاج له العطية، ثم ولى الحجاج المهلب إمرة سجستان، وولى عبد الله بن أبي بكرة إمرة خراسان، ثم ناقل بينهما قبل خروجهما من عنده، فقيل‏‏ كان ذلك بإشارة المهلب، وقيل‏‏ إنه استعان بصاحب الشرطة وهو عبد الرحمن بن عبيد بن طارق العبشمي، حتى أشار على الحجاج بذلك فأجابه إلى ذلك، وألزم المهلب بألف ألف درهم، لأنه اعترض على ذلك‏.‏

قال أبو معشر‏‏ وحج بالناس فيها الوليد بن عبد الملك وكان أمير المدينة أبان بن عثمان، وأمير العراق وخراسان وسجستان وتلك النواحي كلها الحجاج، ونائبه على خراسان المهلب بن أبي صفرة، ونائبه على سجستان عبد الله بن أبي بكرة الثقفي، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس بن مالك الأنصاري‏.‏

 وقد توفي في هذه السنة من الأعيان

 جابر بن عبد الله

 بن عمرو بن حرام، أبو عبد الله الأنصاري السلمي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وله روايات كثيرة، وشهد العقبة وأراد أن يشهد بدراً فمنعه أبوه وخلَّفه على إخوانه وأخواته، وكانوا تسعة، وقيل‏‏ إنه ذهب بصره قبل موته‏.‏

توفي جابر بالمدينة وعمره أربع وتسعون سنة، وأسند إليه ألف وخمسمائة وأربعين حديثاً‏.‏ ‏‏ ‏‏

 شريح بن الحارث

ابن قيس أبو أمية الكندي، وهو قاضي الكوفة، وقد تولى القضاء لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبى طالب، ثم عزله علي، ثم ولاه معاوية ثم استقل في القضاء إلى أن مات في هذه السنة، وكان رزقه على القضاء في كل شهر مائة درهم، وقيل‏‏ خمسمائة درهم، وكان إذا خرج إلى القضاء يقول‏‏ سيعلم الظالم حظ من نقص، وقيل إنه كان إذا جلس للقضاء قرأ هذه الآية‏‏ ‏{‏يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى‏}‏ الآية، ‏[‏ص‏‏ ‏]‏‏.‏

وكان يقول‏‏ إن الظالم ينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر‏.‏

وقيل‏‏ إنه مكث قاضياً نحو سبعين سنة‏.‏

وقيل‏‏ إنه استعفى من القضاء قبل موته بسنة، فالله أعلم‏.‏

وأصله من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، توفي بالكوفة وعمره مائة وثمان سنين‏.‏

وقد روى الطبراني قال‏‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب، عن إبراهيم التيمي، قال‏‏ كان شريح يقول‏‏ سيعلم الظالمون حق من نقصوا‏.‏ إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر‏.‏

ورواه الإمام أخمد، عن إسماعيل بن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، به‏.‏

وقال الأعمش‏‏ اشتكى شريح رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس فدخل عليه عواده فقالوا‏‏ كيف تجدك‏؟‏ فقال‏‏ صالحاً‏.‏ فقالوا‏‏ ألا أريتها الطبيب‏؟‏ قال‏‏ قد فعلت، قالوا‏‏ فماذا قال لك‏؟‏ قال‏‏ وعد خيراً‏‏ وفي رواية أنه خرج بإبهامه قرحة فقالوا‏‏ ألا أريتها الطبيب‏؟‏ قال‏‏ هو الذي أخرجها‏.‏

وقال الأوزاعي‏‏ حدثني عبدة بن أبي لبابة قال‏‏ كانت فتنة ابن الزبير تسع سنين وكان شريح لا يختبر ولا يستخبر‏.‏

ورواه ابن ثوبان، عن عبدة، عن الشعبي، عن شريح، قال‏‏ لما كانت الفتنة لم أسأل عنها‏.‏ فقال رجل‏‏ لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح‏‏ فكيف بما في قلبي‏.‏

وقد رواه شقيق بن سلمة، عن شريح، قال‏‏ في الفتنة ما استخبرت ولا أخبرت ولا ظلمت مسلماً ولا معاهداً ديناراً ولا درهماً، فقال أبو وائل‏‏ لو كنت على حالك لأحببت أن أكون قدمت، فأوى إلى قلبه فقال‏‏ كيف يهدأ، وفي رواية كيف بما في صدري تلتقي الفتيتان وإحداهما أحب إلي من الأخرى‏.‏

وقال لقوم رآهم يلعبون‏‏ مالي أراكم تلعبون‏؟‏ قالوا‏‏ فرغنا ‏!‏ قال‏‏ ما بهذا أمر الفارغ‏.‏ ‏‏  ‏‏

وقال سوار بن عبد الله العنبري‏‏ حدثنا العلاء بن جرير العنبري، حدثني سالم أبو عبد الله أنه قال‏‏ شهدت شريحاً وتقدم إليه رجل فقال‏‏ أين أنت‏؟‏ فقال‏‏ بينك وبين الحائط، فقال‏‏ إني رجل من أهل الشام، فقال‏‏ بعيد سحيق، فقال‏‏ إني تزوجت امرأة، فقال‏‏ بالرفاء والبنين، قال‏‏ إني اشترطت لها دارها، قال‏‏ الشرط أملك، قال‏‏ اقض بيننا، قال‏‏ قد فعلت‏.‏

وقال سفيان‏‏ قيل لشريح بأي شيء أصبت هذا العلم‏؟‏ قال‏‏ بمعاوضة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم‏.‏

وروى عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن محمد بن سالم، عن إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، أنه سمع علياً يقول‏‏ يا أيها الناس ‏!‏ يأتوني فقهاؤكم يسألوني وأسألهم، فلما كان من الغد غدونا إليه حتى امتلأت الرحبة، فجعل يسألهم‏‏ ما كذا ما كذا، ويسألونه ما كذا ما كذا فيخبرهم ويخبرونه حتى إذا ارتفع النهار تصدعوا غير شريح فإنه جاث على ركبتيه لا يسأله عن شيء إلا أخبره به، قال‏‏ سمعت علياً يقول‏‏ قم يا شريح فأنت أقضى العرب‏.‏

وأتت شريحاً امرأتان جدة صبي وأمه يختصمان فيه كل واحدة تقول‏‏ أنا أحق به

أبا أميه أتيناكَ وأنتَ المستعانُ بهِ * أتاكَ جدةُ ابنٍ وأمٌ وكلتانا تفديه

فلو كنتِ تأيمتِ لما نازعتكي فيهِ * تزوجتِ فهاتيه ولا يذهبْ بكِ القيهِ

ألا أيها القاضي فهذهِ قصتي فيهِ *

قالت الأم‏‏

ألا أيها القاضي قد قالت لك الجدة * قولاً فاستمع مني ولا تطردني ردهْ

تعزى النفسَ عن ابني * وكبِدي حملتْ كَبدهْ

فلما صار في حجري * يتيماً مفرداً وحدهْ

تزوجتُ رجاءَ الخيرِ * منْ يكفينيَ فقدهْ

ومن يُظهرُ لي الودَ * ومنْ يحسنُ لي رِفدهْ

فقال شريح‏‏

قد سمع القاضي ما قلتما ثم قضى * وعلى القاضي جهد إن غفل

قال للجدة‏‏ بيني بالصبي * وخذي ابنك من ذات العلل

إنها لو صبرت كان لها * قبل دعوى ما تبتغيه للبدل

فقضى به للجدة‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال عبد الرازق‏‏ حدثنا معمر بن عون، عن إبراهيم، عن شريح، أنه قضى على رجل باعترافه فقال‏‏ يا أبا أميه قضيت عليَّ بغير بينة، فقال شريح‏‏ أخبرني ابن أخت خالتك‏.‏

وقال علي بن الجعد، أنبأنا المسعودي، عن أبي حصين، قال‏‏ سئل شريح، عن شاة تأكل الذباب فقال‏‏ علف مجان ولبن طيب‏.‏

وقال الإمام أحمد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان التيمي، حدثنا أبي، قال‏‏ كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن له مشعب ‏"‏ شارع ‏"‏ إلا في جوف داره يفعل ذلك اتقاء أن تؤذي المسلمين -يعني أنه يلقي السنور في جوف داره لئلا تؤذي بنتن ريحها المسلمين -، وكانت مياذيب أسطحة داره في جوف الدار لئلا يؤذي بها المارة من المسلمين‏.‏

وقال الرياشي، قال رجل لشريح‏‏ إن شأنك لشوين‏.‏ فقال له شريح‏‏ أراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك‏.‏

وقال الطبراني، حدثنا أحمد بن يحيى تغلب النحوي، حدثنا عبد الله بن شبيب، قال‏‏ حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن زياد بن سمعان‏.‏

قال‏‏ كتب شريح إلى أخ له هرب من الطاعون‏‏ أما بعد فإنك والمكان الذي أنت فيه والمكان الذي خرجت منه بعين من لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، والمكان الذي خلفته لم يعد أمراً لكمامه ومن تظلمه أيامه‏.‏

وإنك وإياهم لعلى بساط واحد، وإن المنتجع من ذي قدرة لقريب‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح، أن عمر، كتب إليه‏‏ إذا جاءك الشيء من كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه رجاء ما ليس في كتاب الله، وانظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، وفي رواية‏‏ فانظر فيما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيراً، والسلام‏.‏

وقال شريح‏‏ كنت مع علي في سوق الكوفة فانتهى إلى قاص يقص فوقف عليه وقال‏‏ أيها القاص ‏!‏ تقص ونحن قريبو العهد‏؟‏ أما إني سائلك فإن تجب فما سألتك وإلا أدبتك، فقال القاص‏‏ سل يا أمير المؤمنين عما شئت، فقال علي‏‏ ما ثبات الإيمان وزواله‏؟‏ قال القاص‏‏ ثبات الإيمان الورع وزواله الطمع‏.‏ قال علي‏‏ فذلك فقص‏.‏ قيل إن هذا القاص هو نوف البكالي‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال رجل لشريح‏‏ إنك لتذكر النعمة في غيرك وتنساها في نفسك، قال‏‏ إني والله لأحسدك على ما أرى بك‏.‏ قال‏‏ ما نفعك الله بهذا ولا ضرني‏.‏

وروى جرير، عن الشيباني، عن الشعبي، قال‏‏ اشترى عمر فرساً من رجل على أن ينظر إليه، فأخذ الفرس فسار به فعطب، فقال لصاحب الفرس‏‏ خذ فرسك، فقال‏‏ لا ‏!‏ فاجعل بيني وبينك حكماً، قال الرجل‏‏ نعم ‏!‏ شريح، قال عمر‏‏ ومن شريح‏؟‏ قال‏‏ شريح العراقي، قال‏‏ فانطلقا إليه فقصا عليه القصة، فقال‏‏ يا أمير المؤمنين رد كما أخذت أو خذ بما ابتعته، فقال عمر‏‏ وهل القضاء إلا هذا‏؟‏ سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها، فإنه لأول يوم عرفه يومئذ‏.‏

وقال هشام بن محمد الكلبي، حدثني رجل من ولد سعد بن وقاص، قال‏‏ كان لشريح ابن يدعو الكلاب ويهارش بين الكلاب، فدعا بداوة وقرطاس فكتب إلى مؤدبه فقال‏‏

ترك الصلاة لأكلب يسعى بها * طلب الهراش مع الغواة الرجس

فإذا أتاك فعفَّه بملامة * وعظه من عظة الأديب الأكيس

فإذا هممت بضربه فبدرة * فإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس

واعلم بأنك ما أتيت فنفسه * مع ما تجرعني أعز الأنفس

وروى شريح، عن عمر، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏‏

‏‏‏‏يا عائشة، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏ إنهم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب الأهواء والبدع، أنا منهم بريء وهم مني براء‏‏‏‏‏.‏ وهذا حديث ضعيف غريب رواه محمد بن مصفى، عن بقية، عن شعبة - أو غيره - عن مجالد، عن الشعبي، وإنما تفرد به بقية بن الوليد، من هذا الوجه وفيه علة أيضاً‏.‏

وروى محمد بن كعب القرظي، عن الحسن، عن شريح، عن عمر بن الخطاب، قال‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏إنكم ستغربلون حتى تصيروا في حثالة من الناس قد مزجت عهودهم وخربت أمانتهم، فقال قائل‏‏ فكيف بنا يا رسول الله‏؟‏ فقال‏‏ تعملون بما تعرفون وتتركون ما تنكرون، وتقولون‏‏ أحد أحد، انصرنا على من ظلمنا وأكفنا من بغانا‏‏‏‏‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى الحسن بن سفيان، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الجبار بن وهب، عن عبد الله السلمي، عن شريح، قال‏‏ حدثني البدريون منهم عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏ما من شاب يدع لذة الدنيا ولهوها ويستقبل بشبابه طاعة الله تعالى إلا أعطاه الله تعالى أجر اثنين وسبعين صديقاً، ثم قال‏‏ يقول الله تعالى‏‏ أيها الشاب التارك شهوته من أجلي، المبتذل شبابه لي، أنت عندي كبعض ملائكتي‏‏‏‏‏.‏ وهذا حديث غريب‏.‏

وقال أبو داود، حدثنا صدقة بن موسى، حدثنا أبو عمران الجوني، عن قيس بن زيد - وقال أبو داود أو عن زيد بن قيس -عن قاضي المصرين شريح، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق‏‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏إن الله تعالى يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول‏‏ يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الناس‏؟‏ فيم أذهبت أموالهم‏؟‏ فيقول يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقاً وإما حرقاً، فيقول الله سبحانه‏‏ أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة‏‏‏‏‏.‏ لفظ أبي داود ورواه يزيد بن هارون، عن صدقة به، وقال فيه‏‏ ‏‏‏‏فيدع الله بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل‏‏‏‏ ورواه الطبراني من طريق أبي نعيم، عن صدقة به، ورواه الطبراني أيضاً، عن حفص بن عمر، وأحمد ابن داود المكي، قالا‏‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا صدقة به، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 عبد الله بن غنم الأشعري

نزيل فلسطين وقد روى عن جماعة من الصحابة وقيل إن له صحبة وقد بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام ليفقه أهلها في الدين وكان من العباد الصالحين‏.‏

 جنادة بن أمية الأزدي

شهد فتح مصر وكان أميراً على غزو البحر لمعاوية، وكان موصوفاً بالشجاعة والخير، توفي بالشام وقد قارب الثمانين‏.‏

 

 

العلاء بن زياد البصري

كان من العباد الصالحين من أهل البصرة، وكان كثير الخوف والورع، وكان يعتزل في بيته ولا يخالط الناس، وكان كثير البكاء، لم يزل يبكي حتى عمي، وله مناقب كثيرة، توفي بالبصرة في هذه السنة‏.‏ قلت‏‏ إنما كان معظم بكاء العلاء بن زياد بعد تلك الرؤيا التي رآها له رجل من أهل الشام أنه من أهل الجنة، فقال له العلاء‏‏ أما أنت يا أخي فجزاك الله عن رؤياك لي خيراً، وأما أنا فقد تركتني رؤياك لا أهدأ بليل ولا نهار، وكان بعدها يطوي الأيام لا يأكل فيها شيئاً وبكى حتى كاد يفارق الدنيا، ويصلي لا يفتر، حتى جاء أخوه إلى الحسن البصري فقال‏‏ أدرك أخي فإنه قاتل نفسه، يصوم لا يفطر، ويقوم لا ينام، ويبكي الليل والنهار لرؤيا رآها بعض الناس له أنه من أهل الجنة، فجاء الحسن فطرق عليه بابه فلم يفتح، فقال له‏‏ افتح فإني أنا الحسن، فلما سمع صوت الحسن فتح له، فقال له الحسن‏‏ يا أخي الجنة وما الجنة للمؤمن، إن للمؤمن عند الله ما هو أفضل من الجنة، فقاتل أنت نفسك‏؟‏ فلم يزل به حتى أكل وشرب وقصر عما كان فيه قليلاً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أتاه آت في مقامه فأخذ بناصيته وقال‏‏ يا غلام قم فاذكر الله يذكرك‏.‏ فما زالت تلك الشعرات التي أخذ بها قائمة حتى مات، وقد قيل إنه كان يرفع له إلى الله كل يوم من العمل الصالح بقدر أعمال خلق كثير من الناس كما رأى ذلك بعض أصحابه في المنام‏.‏ وقال العلاء نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجنا‏.‏ وقال كان رجل يرائي بعمله فجعل يشمر ثيابه ويرفع صوته إذا قرأ فجعل لا يأتي على أحد إلا سبه، ثم رزقه الله الإخلاص واليقين فخفض من صوته وجعل صلاحه بينه وبين الله، فجعل لا يأتي على أحد بعد ذلك إلا دعا له بخير‏.‏

 سراقة بن مرداء الأزدي

 كان شاعراً مطبقاً، هجا الحجاج فنفاه إلى الشام فتوفي بها‏.‏

النابغة الجعدي الشاعر‏.‏

السائب بن يزيد الكندي، توفي في هذه السنة‏.‏

سفيان بن سلمة الأسدي‏.‏

معاوية بن قرة البصري‏.‏

زر بن حبيش‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وسبعين

ففيها وقع طاعون عظيم بالشام حتى كادوا يفنون من شدته، ولم يغز فيها أحد من أهل الشام لضعفهم وقلتهم، ووصلت الروم فيها إنطاكية فأصابوا خلقاً من أهلها لعلمهم بضعف الجنود والمقاتلة‏.‏

وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك حتى أوغل في بلاده، ثم صالحه على مال يحمله إليه في كل سنة‏.‏

وفيها قتل عبد الملك بن مروان الحارث بن سعيد المتنبئ الكذاب، ويقال له الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقي، مولى أبي الجلاس العبدري، ويقال مولى الحكم بن مروان، كان أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد ثم مكر به ورجع القهري على عقبيه، وانسلخ من آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع الشيطان فكان من الغاوين، ولم يزل الشيطان يزج في قفاه حتى أخسره دينه ودنياه، وأخزاه وأشقاه‏.‏ فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا عبد الوهاب نجدة الجولي، حدثنا محمد بن مبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان، قال‏‏ كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلاً متعبداً زاهداً لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة‏‏ يا أبتاه أعجل عليَّ فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه غيَّاً على غيه، فكتب إليه أبوه‏‏ يا بني أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول‏‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏‏  - ‏]‏ ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً رجلاً، فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال‏‏ وكان يريهم الأعاجيب‏.‏ كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحاً بليغاً حتى يضج من ذلك الحاضرون‏.‏

قلت‏‏ وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول‏‏ كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقاً‏.‏

قال ابن أبى خيثمة في روايته وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم‏‏ اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالاً على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو رضي أمر قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له‏‏ إني نبي‏.‏

فقال القاسم‏‏ كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي‏‏‏‏ وأنت أحدهم ولا عهد لك، ثم قام فخرج إلى أبي إدريس - وكان على القضاء بدمشق - فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك، وفي رواية أخرى أن مكحولاً وعبد الله بن زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال، ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلباً حثيثاً، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سراً واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل من عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه، انتدب نائب القدس لخدمته فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته، فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال لبوابة‏‏ استأذن على نبي الله، فقال‏‏ في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، ‏‏ ‏‏ فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهمَّ النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال‏‏ فأخذوه فقيدوه، فيقال‏‏ إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مراراً ويعيدونها وجعل يقول‏‏ ‏{‏قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏‏ ‏]‏ وقال لأولئك الأتراك‏‏ ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ‏} ‏[‏المؤمن‏‏ ‏]‏ فقالوا له بلسانهم ولغتهم‏‏ هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلاً فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك‏‏ ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته‏؟‏

فقال‏‏ نسيت، فقال‏‏ ويحك سم الله ثم اطعنه، قال‏‏ فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك وهذا من تمام العدل والدين‏.‏

وقد قال الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، فحدثني من سمع الأعور، يقول‏‏ سمعت العلاء بن زياد العدوي‏.‏

يقول‏‏ ما غبطت عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله حارثاً حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، فمن قاله فاقتلوه، ومن قتل منهم أحداً فله الجنة‏‏‏‏‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏‏ بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك‏‏ لو حضرتك ما أمرتك بقتله، قال‏‏ ولم‏؟‏ قال‏‏ إنه إنما كان به المذهب فلو جوعته لذهب ذلك عنه، وقال الوليد، عن المنذر بن نافع، سمعت خالد بن الجلاخ، يقول لغيلان‏‏ ويحك يا غيلان ألم تأخذك في شبيبتك ترا من النساء في شهر رمضان بالتفاح، ثم صرت حارثياً تحجب امرأته وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت فصرت قدرياً زنديقاً‏.‏

وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك الأعظم فيهم، وقد كان يصانع المسلمين تارة ويتمرد أخرى، فكتب الحجاج إلى ابن أبي بكرة تأخذه بمن معك من المسلمين حتى تستبيح أرضه وتهدم قلاعه وتقتل مقاتلته، فخرج في جمع من الجنود من بلاده وخلق من أهل البصرة والكوفة ثم التقى مع رتبيل ملك الترك فكسره وهدم أركانه بسطوة بتارة، وجاس ابن أبي بكرة وجنده خلال ديارهم، واستحوذ على كثير من أقاليمه ومدنه وأمصاره، وتبر ما هنالك تتبيراً، ثم إن رتبيل تقهقر منه وما زال يتبعه حتى اقترب من مدينته العظمى، حتى كانوا منها على ثمانية عشر فرسخاً وخافت الأتراك منهم خوفاً شديداً، ثم إن الترك أخذت عليهم الطرق والشعاب وضيقوا عليهم المسالك حتى ظن كل من المسلمين أنه لا محالة هالك، فعند ذلك طلب عبيد الله أن يصالح رتبيل على أن يأخذ منه سبعمائة ألف، ويفتحوا للمسلمين طريقاً يخرجون عنه ويرجعون عنهم إلى بلادهم، فانتدب شريح بن هانئ - وكان صحابياً، وكان من أكبر أصحاب عليَّ وهو المقدم على أهل الكوفة - فندب الناس إلى القتال والمصابرة والنزال والجلاد بالسيوف والرماح والنبال، فنهاه عبيد الله بن أبي بكرة فلم ينته، وأجابه شرذمة من الناس من الشجعان وأهل الحفائظ، فما زال يقاتل بهم الترك حتى فني أكثر المسلمين رضي الله عنهم، قالوا وجعل شريح بن هانئ يرتجز، ويقول‏‏ ‏‏ ‏‏

أصبحت ذا بثٍ أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا

ثم أدركت النبي المنذرا * وبعده صدِّيقه وعمرا

ويوم مهران ويوم تسترا * والجمع في صفينهم والنهرا

هيهات ما أطول هذا عمرا *

ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه، وقتل معه خلق من أصحابه، ثم خرج من خرج من الناس صحبة عبيد الله بن أبي بكرة من أرض رتبيل، وهم قليل، وبلغ ذلك الحجاج فأخذ ما تقدم وما تأخر، وكتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستشيره في بعث جيش كثيف إلى بلاد رتبيل لينتقموا منه بسبب ما حل بالمسلمين في بلاده، فحين وصل البريد إلى عبد الملك كتب إلى الحجاج بالموافقة على ذلك، وأن يعجل ذلك سريعاً، فحين وصل البريد إلى الحجاج بذلك أخذ في جمع الجيوش فجهز جيشاً كثيفاً لذلك على ما سيأتي تفصيله في السنة الآتية‏.‏ بعدها وقيل‏‏ إنه قتل من المسلمين مع شريح بن هانئ ثلاثون ألفاً وابتيع الرغيف مع المسلمين بدينار وقاسوا شدائد، ومات بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ وقد قتل المسلمون من الترك خلقاً كثيراً أيضاً قتلوا أضعافهم‏.‏

ويقال إنه في هذه السنة استعفى شريح من القضاء فأعفاه الحجاج من ذلك وولى مكانه أبا بردة ابن أبي موسى الأشعري، وقد تقدمت ترجمة شريح عند وفاته في السنة الماضية والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال الواقدي وأبو معشر وغير واحد من أهل السير‏‏ وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان أمير المدينة النبوية، وفيها قتل قطري بن الفجاءة التميمي أبو نعامة الخارجي، وكان من الشجعان المشاهير، ويقال إنه مكث عشرين سنة يسلم عليه أصحابه بالخلافة، وقد جرت له خطوب وحروب مع جيش المهلب بن أبي صفرة من جهة الحجاج وغيره، وقد قدمنا منها طرفاً صالحاً في أماكنه، وكان خروجه في زمن مصعب بن الزبير، وتغلب على قلاع كثيرة وأقاليم وغيرها، ووقائعه مشهورة وقد أرسل إليه الحجاج جيوشاً كبيرة فهزمها، وقيل إنه برز إليه رجل من بعض الحرورية وهو على فرس أعجف وبيده عمود حديد، فلما قرب منه كشف قطري عن وجهه فولى الرجل هارباً فقال له قطري إلى أين‏؟‏ أما تستحي أن تفر ولم تر طعناً ولا ضرباً‏؟‏ فقال‏‏ إن الإنسان لا يستحي أن يفر من مثلك، ثم إنه في آخر أمره توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش فاقتتلوا بطبرستان، فعثر بقطري فرسه فوقع إلى الأرض فتكاثروا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحجاج، وقيل‏‏ إن الذي قتله سودة بن الحر الدارمي وكان قطري بن الفجاءة مع شجاعته المفرطة وإقدامه من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة وجودة الكلام والشعر الحسن، فمن مستجاد شعره قوله يشجع نفسه وغيره ومن سمعها انتفع بها‏‏

أقول لها وقد طارت شعاعاً * من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو طلبت بقاء يومٍ * على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً * فما نيل الخلود بمستطاعي

ولا ثوب الحياة بثوب عز * فيطوى عن أخي الخنع اليراعي

سبيل الموت غاية كل حيٍ * وداعيه لأهل الأرض داع

فمن لا يغتبط يسأم ويهرم * وتسلمه المنون إلى انقطاعي

وما للمرء خير في حياة * إذا ما عدَّ من سقط المتاعي

ذكرها صاحب الحماسة واستحسنها ابن خلكان كثيراً ‏‏ ‏‏

 وفيها توفي

 عبيد الله بن أبي بكرة

 رحمه الله وهو أمير الجيش الذي دخل بلاد الترك وقاتلوا رتبيل ملك الترك، وقد قتل من جيشه خلق كثير من شريح بن هانئ كما تقدم ذلك، وقد دخل عبيد الله بن أبي بكرة على الحجاج مرة وفي يده خاتم فقال له الحجاج‏‏ وكم ختمت بخاتمك هذا‏؟‏ قال علي أربعين ألف ألف دينار قال ففيم أنفقتها‏؟‏ قال‏‏ في اصطناع المعروف، ورد الملهوف والمكافأة بالصناع وتزويج العقائل‏.‏

وقيل‏‏ إن عبيد الله عطش يوماً فأخرجت له امرأة كوز ماء بارد فأعطاها ثلاثين ألفاً، وقيل‏‏ إنه أهدي إليه وصيف ووصيفة وهو جالس بين أصحابه فقال لبعض أصحابه‏‏ خذهما لك، ثم فكر وقال‏‏ والله إن إيثار بعض الجلساء على بعض لشح قبيح ودناءة رديئة، ثم قال‏‏ يا غلام ادفع إلى كل واحد من جلسائي وصيفاً ووصيفة، فأحصى ذلك فكانوا ثمانين وصيفاً ووصيفة‏.‏

توفي عبيد الله بن أبي بكرة ببست، وقيل‏‏ بذرخ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم، والحمد لله رب العالمين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمانين من الهجرة النبوية

ففيها كان السيل الحجاف بمكة لأنه حجف على كل شيء فذهب به، وحمل الحجاج من بطن مكة الجمال بما عليها، والرجال والنساء لا يستطيع أحد أن ينقذهم منه، وبلغ الماء إلى الحجون، وغرق خلق كثير، وقيل إنه ارتفع حتى كاد أن يغطي البيت والله أعلم‏.‏

وحكى ابن جرير، عن الواقدي، أنه قال‏‏ كان بالبصرة في هذه السنة الطاعون، والمشهور أنه كان في سنة تسع وستين كما تقدم‏.‏ وفيها قطع المهلب بن أبي صفرة نهر بلخ، وأقام بكش سنتين صابراً مصابراً للأعداء من الأتراك وجرت له معهم هناك فصول يطول ذكرها، وفد عليه في غضون هذه المدة كتاب ابن الأشعث بخلعه الحجاج، فبعثه المهلب برمته إلى الحجاج حتى قرأه ثم كان ما سيأتي بيانه وتفصيله فيما بعد من حروب ابن الأشعث، وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقضوا منه ما كان من قتل جيش عبيد الله بن أبي بكرة في السنة الماضية، فجهز أربعين ألفاً من كل من المصرين عشرين ألفاً، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث مع أنه كان الحجاج يبغضه جداً، حتى قال ما رأيته قط إلا هممت بقتله‏.‏

‏‏ ‏‏ ودخل ابن الأشعث يوماً على الحجاج وعنده عامر الشعبي فقال انظر إلى مشيته والله لقد هممت أن أضرب عنقه، فأسرها الشعبي إلى ابن الأشعث فقال ابن الأشعث‏‏ وأنا والله لأجهدت أن أزيله عن سلطانه إن طال بي وبه البقاء‏.‏ والمقصود أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجنود وبذل فيهم العطاء ثم اختلف رأيه فيمن يؤمر عليهم، ثم وقع اختياره على عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدمه عليهم، فأتى عمه إسماعيل بن الأشعث فقال للحجاج‏‏ إني أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز جسر الصراه، فقال‏‏ ليس هو هنالك هو لي حبيب، ومتى أرهب أن يخالف أمري أو يخرج عن طاعتي، فأمضاه عليهم، فسار ابن الأشعث بالجيوش نحو أرض رتبيل، فلما بلغ رتبيل مجيء ابن الأشعث بالجنود إليه كتب إليه رتبيل يعتذر مما أصاب المسلمين في بلاده في السنة الماضية وأنه كان لذلك كارهاً، وأن المسلمين هم الذين ألجأوه إلى قتالهم، وسأل من ابن الأشعث أن يصالحه وأن يبذل للمسلمين الخراج، فلم يجبه ابن الأشعث إلى ذلك وصمم على دخول بلاده، وجمع رتبيل جنوده وتهيأ له ولحربه، وجعل ابن الأشعث كلما دخل بلداً أو مدينة أو أخذ قلعة من بلاد رتبيل استعمل عليها نائباً من جهته يحفظها له، وجعل المشايخ على كل أرض ومكان مخوف، فاستحوذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد رتبيل، وغنم أموالاً كثيرة جزيلة، وسبى خلقاً كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل في بلاد رتبيل حتى يصلحوا ما بأيديهم من البلاد ويتقووا بما فيها من المغلات والحواصل، ثم يتقدمون في العام المقبل إلى أعدائهم فلا يزالون يجوزون الأراضي والأقاليم حتى يحاصروا رتبيل وجنوده في مدينتهم مدينة العظماء على الكنوز والأموال والذراري حتى يغنموها ثم يقتلون مقاتلتهم، وعزموا على ذلك، وكان هذا هو الرأي، وكتب ابن الأشعث إلى الحجاج يخبره بما وقع من الفتح وما صنع الله لهم، وبهذا الرأي الذي رآه لهم، وقال بعضهم كان الحجاج قد وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان مسلحة لأهلها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى ذلك، فعصي هميان ومن معه على الحجاج، فوجه الحجاج إليه ابن الأشعث فهزمه وأقام ابن الأشعث بمن معه ومات عبيد الله بن أبي بكرة فكتب الحجاج إلى ابن الأشعث بإمرة سجستان مكان ابن أبي بكرة وجهز إلى ابن الأشعث جيشاً أنفق عليه ألفي ألف سوى أعطياتهم، وكان يدعى هذا الجيش جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل فكان من أمره معه ما تقدم‏.‏

‏‏ ‏‏

قال الواقدي وأبو معشر‏‏ وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان وقال غيرهما‏‏ بل حج بهم سليمان بن عبد الملك، وكان على الصائفة في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، وعلى المدينة أبان بن عثمان، وعلى المشرق بكماله الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس بن مالك‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان

 أسلم مولى عمر بن الخطاب

وهو أبو زيد بن أسلم أصله من سبي عين التمر اشتراه عمر بمكة لما حج سنة إحدى عشرة،وتوفي وعمره مائة وأربع عشرة سنة، وروى عن عمر عدة أحاديث، وروى عن غيره من أصحابه أيضاً وله مناقب كثيرة رحمه الله‏.‏

 جبير بن نفير

ابن مالك الحضرمي له صحبة ورواية، وكان من علماء أهل الشام وكان مشهوراً بالعبادة والعلم توفي بالشام وعمره مائة وعشرون سنة، وقيل أكثر وقيل أقل‏.‏

 عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

ولد بأرض الحبشة وأمه أسماء بنت عميس، وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وفاة، سكن المدينة، ولما استشهد أبوه جعفر بمؤتة ‏‏‏‏أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمهم فقال‏‏ ائتوني ببني أخي، فأتي بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق رؤوسهم ثم قال‏‏ اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقته، فجاءت أمهم فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس لهم شيء، فقال أنا لهم عوضاً من أبيهم‏‏‏‏‏.‏

وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وعمرهما سبع سنين، وهذا لم يتفق لغيرهما، وكان عبد الله بن جعفر من أسخى الناس، يعطي الجزيل الكثير ويستقله، وقد تصدق مرة بألفي ألف، وأعطى مرة رجلاً ستين ألفاً، ومرة أعطى رجلاً أربعة آلاف دينار، وقيل إن رجلاً جلب مرة سكراً إلى المدينة فكسد عليه فلم يشتره أحد فأمر ابن جعفر قيمه أن يشتريه وأن يهديه للناس‏.‏

وقيل‏‏ إن معاوية لما حج ونزل في دار مروان قال يوماً لحاجبه‏‏ انظر هل ترى بالباب الحسن أو الحسين أو ابن جعفر أو فلاناً - وعد جماعة - فخرج فلم ير أحداً، فقيل له‏‏ هم مجتمعون عند عبد الله بن جعفر يتغدون، فأتى معاوية فأخبره فقال‏‏ ما أنا إلا كأحدهم، ثم أخذ عصا فتوكأ عليها ثم أتى باب ابن جعفر فاستأذن عليه ودخل فأجلسه في صدر فراشه، فقال له معاوية‏‏ أين غداؤك يا ابن جعفر‏؟‏

فقال‏‏ وما تشتهي من شيء فأدعوا به‏؟‏

فقال‏‏ معاوية أطعمنا مخاً‏.‏

فقال‏‏ يا غلام هات مخاً‏.‏

فأتى بصحيفة فأكل معاوية، ثم قال ابن جعفر لغلامه‏‏ هات مخاً‏.‏

فجاء بصحيفة أخرى ملآنة مخاً إلى أن فعل ذلك ثلاث مرات‏.‏

‏‏ ‏‏

فتعجب معاوية وقال‏‏ يا ابن جعفر ما يشبعك إلا الكثير من العطاء، فلما خرج معاوية أمر له بخمسين ألف دينار، وكان ابن جعفر صديقاً لمعاوية وكان يفد عليه كل سنة فيعطيه ألف ألف درهم، ويقضي له مائة حاجة‏.‏

ولما حضرت معاوية الوفاة أوصى ابنه يزيد، فلما قدم ابن جعفر على يزيد قال له‏‏ كم كان أمير المؤمنين يعطيك كل سنة‏؟‏

قال‏‏ ألف ألف، فقال له‏‏ قد أضعفناها لك، وكان يعطيه ألفي ألف كل سنة، فقال له عبد الملك بن جعفر‏‏ بأبي أنت وأمي ما قلتها لأحد قبلك ولا أقولها لأحد بعدك، فقال يزيد‏‏ ولا أعطاكها أحد قبلي ولا يعطيكها أحد بعدي، وقيل‏‏ إنه كان عند ابن جعفر جارية تغنيه تسمي عمارة، وكان يحبها محبة عظيمة، فحضر عنده يزيد بن معاوية يوماً فغنت الجارية، فلما سمعها يزيد افتتن بها ولم يجسر على ابن جعفر أن يطلبها منه، فلم يزل في نفس يزيد منها حتى مات أبوه معاوية، فبعث يزيد رجلاً من أهل العراق وأمره أن يتطلع في أمر هذه الجارية، فقدم الرجل المدينة ونزل جواز ابن جعفر وأهدى إليه هدايا وتحفاً كثيرة، وأنس به، ولا زال حتى أخذ الجارية وأتى يزيد‏.‏ وكان الحسن البصري يذم ابن جعفر على سماعه الغنى واللهو وشرائه المولدات، ويقول‏‏ أما يكفيه هذا الأمر القبيح المتلبس به من هذه الأشياء وغيرها‏؟‏ حتى زوج الحجاج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحجاج يقول إنما تزوجتها لأذل بها آل أبي طالب‏.‏

وقيل‏‏ إنه لم يصل إليها، وقد كتب عبد الملك إليه أن يطلقها فطلقها‏.‏

أسند عبد الله ابن جعفر ثلاثة عشر حديثاً‏.‏

 أبو إدريس الخولاني

اسمه عائذ الله بن عبد الله، له أحوال ومناقب، كان يقول‏‏ قلب نقي في ثياب دنسة خير من قلب دنس في ثياب نقية، وقد تولى القضاء بدمشق، وقد ذكرنا ترجمته في كتابنا التكميل‏.‏

معبد الجهني القدري

يقال إنه معبد بن عبد الله بن عليم، راوي حديث‏‏ ‏‏‏‏لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏‏‏‏‏.‏ وقيل غير ذلك في نسبه، سمع الحديث من ابن عباس وابن عمر ومعاوية وعمران بن حصين وغيرهم‏.‏ وشهد يوم التحكيم، وسأل أبا موسى في ذلك ووصاه ثم اجتمع بعمرو بن العاص فوصاه في ذلك فقال له‏‏ أيها يا تيس جهنة ما أنت من أهل السر والعلانية، وإنه لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل‏.‏ وهذا توسم فيه من عمرو بن العاص، ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر ويقال إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوس، وأخذ غيلان القدر من معبد‏.‏

‏‏ ‏‏

وقد كانت لمعبد عبادة وفيه زهادة، ووثقه ابن معين وغيره في حديثه، وقال الحسن البصري‏‏ إياكم ومعبداً فإنه ضال مضل، وكان ممن خرج مع ابن الأشعث فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله‏.‏ وقال سعيد بن عفير‏‏ بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله، وقال خليفة بن خياط‏‏ مات قبل التسعين فالله أعلم، وقيل إن الأقرب قتل عبد الملك له والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين

ففيها فتح عبيد الله بن عبد الملك بن مروان مدينة قاليقلا وغنم المسلمون منها غنائم كثيرة‏.‏

وفيها قتل بكير بن وشاح، قتله بجير بن ورقاء الصريمي، وكان بكير من الأمراء الشجعان ثم ثار لبكير ابن وشاح رجل من قومه يقال له صعصعة بن حرب العوفي الصريمي، فقتل بجير بن ورقاء الذي قتل بكيراً، طعنه بخنجر وهو جالس عند المهلب بن أبي صفرة فحمل إلى منزله وهو بآخر رمق، فبعث المهلب بصعصعة إليه، فلما تمكن منه بجير بن ورقاء قال ضعوا رأسه عند رجلي، فوضعوه فطعنه بجير بحربته حتى قتله ومات على إثره‏.‏ وقد قال له أنس بن طارق‏‏ اعف عنه فقد قتلت بكير بن وشاح، فقال‏‏ لا والله لا أموت وهذا حي ثم قتله وقد قيل إنه إنما قتل بعد موته فالله أعلم‏.‏

 فتنة بن الأشعث

قال أبو مخنف‏‏ كان ابتداؤها في هذه السنة، وقال الواقدي‏‏ في سنة ثنتين وثمانين، وقد ساقها ابن جرير في هذه السنة فوافقناه في ذلك، وكان سبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء وزوال الملك عنه، فلما أمره الحجاج على ذلك الجيش المتقدم ذكره، وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك فمضى وصنع ما قدمناه من أخذه بعض بلاد الترك، ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتماً بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثاني ثم ثالث مع البريد، وكتب في جملة ذلك يا ابن الحائك الغادر المرتد، امض إلى ما أمرتك به من الإيغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق‏.‏

وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث ويقول‏‏ هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذي سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم ين عقيل حتى قتله، وجده الأشعث ارتد عن الإسلام وما رأيته قط إلا هممت بقتله‏.‏ 

ولما كتب الحجاج إلى ابن الأشعث بذلك وترادفت إليه البرد بذلك غضب ابن الأشعث وقال‏‏ يكتب إلي بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض جندي ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته‏؟‏ أما يذكر أباه من ثقيف هذا الجبان صاحب غزالة - يعني أن غزالة زوجة شبيب حملت على الحجاج وجيشه فانهزموا منها وهي امرأة لما دخلت الكوفة - ثم إن ابن الأشعث جمع رؤوس أهل العراق وقال لهم‏‏ إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم أما أنا فلست مطيعه ولا أنقض رأيا رأيته بالأمس، ثم قام فيهم خطيباً فأعلمهم بما كان رأى من الرأي له ولهم، وطلب في ذلك من إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلداً بلداً إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء، ثم أعلمهم بما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعالجة رتبيل‏.‏ فثار إليه الناس وقالوا‏‏ لا بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع‏.‏ قال أبو مخنف‏‏ فحدثني مطرف بن عامر بن وائلة الكناني، أن أباه، كان أول من تكلم في ذلك، وكان شاعراً خطيباً، وكان مما قال‏‏ إن مثل الحجاج في هذا الرأي ومثلنا كما قال الأول لأخيه أحمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فلك، أنتم إذا ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطانه، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء، ثم قال‏‏ اخلعوا عدو الله الحجاج - ولم يذكر خلع عبد الملك - وبايعوا لأميركم عبد الرحمن ابن الأشعث فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج‏.‏ فقال الناس من كل جانب‏‏ خلعنا عدو الله ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضاً عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان، وبعث ابن الأشعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بالحجاج فلا خراج على رتبيل أبداً‏.‏ ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلاً من سجستان إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا‏‏ إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين، فإذا قالوا‏‏ نعم بايعهم‏.‏ فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع ابن مروان، كتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة، وبلغ المهلب خبر ابن الأشعث، وكتب إليه يدعوه إلى ذلك فأبى عليه، وبعث بكتابه إلى الحجاج، وكتب المهلب إلى ابن الأشعث يقول له‏‏ إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، ابق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك‏.‏ ‏‏ ‏‏ وكتب المهلب إلى الحجاج أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من علو ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم‏.‏ ثم واقعهم عندها فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله‏.‏ فلما قرأ الحجاج كتابه قال‏‏ فعل الله به وفعل، لا والله مالي نظر ولكن لابن عمه نصح‏.‏

ولما وصل البريد بكتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ذلك، ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه كتاب الحجاج فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إن كان هذا الحدث من قبل خراسان فخفه، وإن كان من قبل سجستان فلا تخفه، ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود من الشام إلى العراق في نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه، وكان في شوره النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحاً ومساءً، أين نزل ومن أين ارتحل، وأي الناس إليه أسرع‏.‏

وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب، حتى قيل أنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج في جنود الشام من البصرة نحو ابن الأشعث، فنزل تستر وقدم بين يديه مطهر بن حيي الكعبي أميراً على المقدمة، ومعه عبد الله بن زميت أميراً آخر، فانتهوا إلى دجيل فإذا مقدمة ابن الأشعث في ثلاثمائة فارس عليها عبد الله بن أبان الحارثي، فالتقوا في يوم الأضحى عند نهر دجيل، فهزمت مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث منهم خلقاً كثيراً نحو ألف وخمسمائة، واحتازوا ما في معسكرهم من خيول وقماش وأموال‏.‏

وجاء الخبر إلى الحجاج بهزيمة أصحابه وأخذه مادب ودرج‏.‏ وقد كان قائماً يخطب فقال‏‏ أيها الناس ارجعوا إلى البصرة فإنه أرفق بالجند، فرجع بالناس وتبعهم خيول ابن الأشعث لا يدركون منهم شاذاً إلا قتلوه، ولا فإذاً إلا أهلكوه، ومضى الحجاج هارباً لا يلوي على شيء حتى أتى الزاوية فعسكر عندها وجعل يقول‏‏ لله در المهلب أي صاحب حرب هذا، قد أشار علينا بالرأي ولكنا لم نقبل، وأنفق الحجاج على جيشه وهو بهذا المكان مائة وخمسين ألف ألف درهم، وخندق حول جيشه خندقاً، وجاء أهل العراق فدخلوا البصرة واجتمعوا بأهاليهم وشموا أولادهم، ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بهم وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج بن يوسف، وقال لهم ابن الأشعث‏‏ ليس الحجاج بشيء، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك، لنقاتله، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب، ثم أمر ابن الأشعث بخندق حول البصرة فعمل ذلك، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة من هذه السنة‏.‏ ‏‏ ‏‏

وحج بالناس فيها إسحاق بن عيسى فيما ذكره الواقدي وأبو معشر والله سبحانه، وتعالى أعلم‏.‏

وفيها غزا موسى بن نصير أمير بلاد المغرب من جهة عبد الملك بلاد الأندلس فافتتح مدناً كثيرة، وأراضي عامرة، وأوغل في بلاد المغرب إلى أن وصل إلى الرقاق المنبثق من البحر الأخضر المحيط، والله أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان

 بجير بن ورقاء الصريمي

 أحد الأشراف بخراسان، والقواد والأمراء الذي حارب ابن خازم وقتله، وقتل بكير بن وشاح ثم قتل في هذه السنة‏.‏

سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر

 

أبو أمية الجعفي الكوفي

شهد اليرموك وحدث عن جماعة من الصحابة، وكان من كبار المخضرمين ويقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مولده عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى معه، والصحيح أنه لم يره، وقيل أنه ولد بعده بسنتين، وعاش مائة وعشرين سنة، لم ير يوماً محتنياً ولا متسانداً، وافتض بكراً عام وفاته في سنة إحدى وثمانين، قاله أبو عبيد وغيره واحد‏.‏ وقيل إنه توفي في سنة ثنتين وثمانين، فالله أعلم‏.‏

 عبد الله بن شداد بن الهاد

كان من العباد الزهاد، والعلماء، وله وصايا وكلمات حسان، وقد روى عدة أحاديث عن الصحابة وعن خلق من التابعين‏.‏

 محمد بن علي بن أبي طالب

أبو القاسم وأبو عبد الله أيضاً، وهو المعروف بابن الحنفية، وكانت سوداء سندية من بني حنيفة اسمها خولة‏.‏

ولد محمد في خلافة عمر بن الخطاب، ووفد على معاوية وعلى عبد الملك بن مروان وقد صرع مروان يوم الجمل وقعد على صدره وأراد قتله فناشده مروان بالله وتذلل له فأطلقه، فلما وفد على عبد الملك ذكره بذلك فقال‏‏ عفواً يا أمير المؤمنين فعفا عنه وأجزل له الجائزة، وكان محمد بن علي من سادات قريش، ومن الشجعان المشهورين، ومن الأقوياء المذكورين، ولما بويع لابن الزبير لم يبايعه، فجرى بينهما شر عظيم، حتى هم ابن الزبير به وبأهله كما تقدم ذلك، فلما قتل ابن الزبير واستقر أمر عبد الملك وبايعه ابن عمر تابعه ابن الحنفية، وقدم المدينة فمات بها في هذه السنة وقيل‏‏ في التي قبلها أو في التي بعدها، ودفن بالبقيع‏.‏

والرافضة يزعمون أنه بجبل رضوى وأنه حي يرزق، وهم ينتظرونه، وقد قال كثير عزة في ذلك‏‏ ‏‏ ‏‏

ألا إن الأئمة من قريشٍ * ولاة الحق أربعة سواءُ

علي والثلاثة من بنيه * هم الأسباط ليس بهم خفاءُ

فسبط سبط إيمان وبر * وسبط غيبته كربلاءُ

وسبط لا تراه العين حتى * تعود الخيل يقدمها لواءُ

ولما هم ابن الزبير بابن الحنفية كتب ابن الحنفية إلى شيعتهم بالكوفة مع أبي الطفيل وأثلة بن الأسقع وعلى الكوفة المختار بن عبيد الله، وقد كان ابن الزبير جمع لهم حطباً كثيراً على أبوابهم ليحرقهم بالنار، فلما وصل كتاب ابن الحنفية إلى المختار، وقد كان المختار يدعو إليه ويسميه المهدي، فبعث المختار أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فاستنقذوا بني هاشم من يدي ابن الزبير، وخرج معهم ابن عباس فمات بالطائف وبقي ابن الحنفية في شيعته، فأمره ابن الزبير أن يخرج عنه فخرج إلى أرض الشام بأصحابه وكانوا نحو سبعة آلاف، فلما وصل إلى أيلة كتب إليه عبد الملك‏‏ إما أن تبايعني وإما أن تخرج من أرضي، فكتب إليه ابن الحنفية‏‏ أبايعك على أن تؤمن أصحابي، قال‏‏ نعم، فقام ابن الحنفية في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، فقال‏‏ الحمد لله الذي حقن دماءكم وأحرز دينكم فمن أحب منكم أن يأتي مأمنه إلى بلده محفوظاً فليفعل، فرحل عنه الناس إلى بلادهم حتى بقي في سبعمائة رجل، فأحرم بعمرة وقلد هدياً وسار نحو مكة، فلما أراد دخول الحرم بعث إليه ابن الزبير خيلاً فمنعه أن يدخل، فأرسل إليه‏‏ إنا لم نأت لحرب ولا لقتال دعنا ندخل حتى نقضي نسكناً ثم نخرج عنك، فأبى عليه وكان معه بدن قد قلدها فرجع إلى المدينة فأقام بها محرماً حتى قدم الحجاج وقتل ابن الزبير، فكان ابن الحنفية في تلك المدة محرماً، فلما سار الحجاج إلى العراق مضى ابن الحنفية إلى مكة وقضى نسكه وذلك بعد عدة سنين، ‏‏ ‏‏ وكان القمل يتناثر منه في تلك المدة كلها، فلما قضى نسكه رجع إلى المدينة أقام بها حتى مات، وقيل‏‏ إن الحجاج لما قتل ابن الزبير بعث إلى ابن الحنفية‏‏ قد قتل عدو الله فبايع، فكتب إليه إذا بايع الناس كلهم بايعت، فقال الحجاج‏‏ والله لأقتلنك، فقال ابن الحنفية‏‏ إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ، في كل نظرة ثلاثمائة وستون قضية، فلعل الله تعالى أن يجعلني في قضية منها فيكفينيك، فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك، فأعجبه قوله، وكتب إليه قد عرفنا أن محمداً ليس عنده خلاف فارفق به فهو يأتيك ويبايعك، وكتب عبد الملك بكلامه ذلك - إن لله ثلاثمائة وستين نظرة - إلى ملك الروم، وذلك أن ملك الروم كتب إلى عبد الملك يتهدده بجموع من الجنود لا يطيقها أحد، فكتب بكلام ابن الحنفية، فقال ملك الروم‏‏ إن هذا الكلام ليس من كلام عبد الملك، وإنما خرج من بيت نبوة، ولما اجتمع الناس على بيعة عبد الملك قال ابن عمر لابن الحنفية‏‏ ما بقي شيء فبايع فكتب بيعته إلى عبد الملك ووفد عليه بعد ذلك‏.‏

توفي ابن الحنفية في المحرم بالمدينة وعمره خمس وستون سنة، وكان له من الولد عبد الله وحمزة وعلي وجعفر الأكبر والحسن وإبراهيم والقاسم وعبد الرحمن وجعفر الأصغر وعون ورقية، وكلهم لأمهات شتى‏.‏ وقال الزبير بن بكار‏‏ كانت شيعته تزعم أنه لم يمت وفيه يقول السيد‏‏

ألا قل للوصي فدتك نفسي * أطلت بذلك الجبل المقاما

أضر بمعشر والوكَ منا * وسموك الخليفة والإماما

وعادوا فيك أهل الأرض طراً * مقامك فيهم ستين عاما

وما ذاق ابن خولة طعم موت * ولا وارث له أرض عظاما

لقد أمسى بمورق شعب رضوى * تراجعه الملائكة الكلاما

وإن له به لمقيل صدق * وأندية تحدثه كراما

هدانا الله ادخرتم لأمر * به عليه يلتمس التماما

تمامٌ ثورة المهدي حتى * تروا راياته تترى نظاما ‏‏  ‏‏

وقد ذهب طائفة من الرافضة إلى إمامته وأنه ينتظر خروجه في آخر الزمان، كما ينتظر طائفة أخرى منهم الحسن بن محمد العسكري، الذي يخرج في زعمهم من سرداب سامراً، وهذا من خرافاتهم وهذيانهم وجهلهم وضلالهم وترهاتهم، وسنزيد ذلك وضوحاً في موضعه وإن شاء الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين

ففي المحرم منها كانت وقعة الزاوية بين ابن الأشعث والحجاج في آخره، وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم تواقفوا يوماً آخر فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها وقتل خلقاً كثيراً من القراء من أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخر الحجاج لله ساجداً بعدما كان جثى على ركبتيه وسل شيئاً من سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير ويقول‏‏ ما كان أكرمه حتى صبر نفسه للقتل، وكان من جملة من قتل من أصحاب ابن الأشعث أبو الطفيل بن عامر بن وائلة الليثي، ولما فر أصحاب ابن الأشعث رجع ابن الأشعث بمن بقي معه ومن تبعه من أهل البصرة، فسار حتى دخل الكوفة فعمد أهل البصرة إلى عبد الرحمن بن عياش بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل الحجاج خمس ليال أشد القتال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وتبعه طائفة من أهل البصرة فاستناب الحجاج على البصرة أيوب بن الحكم ابن أبي عقيل، ودخل ابن الأشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد الملك بن مروان‏.‏

وتفاقم الأمر وكثر متابعو ابن الأشعث على ذلك، واشتد الحال، وتفرقت الكلمة جداً وعظم الخطب، واتسع الخرق على الراقع‏.‏

قال الواقدي‏‏ ولما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة، فقال القراء‏‏ - وكان عليهم جبلة بن زحر -‏‏ أيها الناس ليس الفرار من أحد بأقبح منكم فقاتلوا عن دينكم ودنياكم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏‏ نحو ذلك، وقال الشعبي‏‏ قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة، ثم حملت القراء - وهم العلماء - على جيش الحجاج حملة صادقة فبرعوا فيهم ثم رجعوا فإذا هم بمقدمهم جبلة بن زحر صريعاً، ‏‏  ‏‏ فهدّهم ذلك فناداهم جيش الحجاج‏‏ يا أعداء الله قد قتلنا طاغيتكم، ثم حمل سفيان بن الأبرد وهو على خيل الحجاج على ميسرة ابن الأشعث وعليها الأبرد بن مرة التميمي، فانهزموا ولم يقاتلوا كثير قتال، فأنكر الناس منهم ذلك‏.‏

وكان أمير ميسرة ابن الأشعث الأبرد شجاعاً لا يفر، وظنوا أنه قد خامر، فنقضت الصفوف وركب الناس بعضهم بعضاً، وكان ابن الأشعث يحرض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ من اتبعه وذهب إلى الكوفة فبايعه أهلها، ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة‏.‏

 وقعة دير الجماجم

قال الواقدي‏‏ وذلك أن ابن الأشعث لما قصد الكوفة خرج إليه أهلها فتلقوه وحفوا به ودخلوا بين يديه، غير أن شرذمة قليلة أرادت أن تقاتله دون مطر بن ناجية نائب الحجاج فلم يمكنهم من ذلك، فعدلوا إلى القصر، فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة أمر بالسلالم فنصبت على قصر الإمارة فأخذه واستنزل مطر بن ناجية وأراد قتله، فقال له‏‏ استبقني فإني خير من فرسانك فحبسه، ثم استدعاه فأطلقه وبايعه واستوثق لابن الأشعث أمر الكوفة وانضم إليه من جاء من أهل البصرة، وكان ممن قدم عليه عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن عبد المطلب، وأمر بالمسالح من كل جانب، وحفظت الثغور والطرق والمسالك‏.‏ ثم إن الحجاج ركب فيمن معه من الجيوش الشامية من البصرة في البر حتى مر بين القادسية والعذيب وبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من المصرين فمنعوا الحجاج من دخول القادسية، فسار الحجاج حتى نزل دير قره، وجاء ابن الأشعث بمن معه من الجيوش البصرية والكوفية حتى نزل دير الجماجم، ومعه جنود كثيرة وفيهم القراء وخلق من الصالحين، وكان الحجاج بعد ذلك يقول‏‏ قاتل الله ابن الأشعث أما كان يزجر الطير حيث رآني قد نزلت دير قره، ونزل هو بدير الجماجم‏.‏ وكان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم، وقدم على الحجاج في غبون ذلك أمداد كثيرة من الشام، وخندق كل من الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقاً يمتنع به من الوصول إليهم، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالاً شديداً في كل حين، حتى أصيب من رؤوس الناس خلق من قريش وغيرهم، واستمر هذا الحال مدة طويلة، واجتمع الأمراء من أهل المشورة عند عبد الملك بن مروان، فقالوا له‏‏ إن كان أهل العراق يرضيهم منك أن تعزل عنهم الحجاج فهو أيسر من قتالهم وسفك دمائهم، فاستحضر عبد الملك عند ذلك أخاه محمد بن مروان وابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ومعهما جنود كثيرة جداً، وكتب معهما كتاباً إلى أهل العراق، يقول لهم‏‏ إن كان يرضيكم مني عزل الحجاج عنكم عزلته عنكم، وبعثت عليكم أعطياتكم مثل أهل الشام، وليختر ابن الأشعث أي بلد شاء يكون عليه أميراً ما عاش وعشت، وتكون إمرة العراق لمحمد بن مروان، وقال في عهده هذا‏‏ فإن لم تجب أهل العراق إلى ذلك فالحجاج على ما هو عليه إليه إمرة الحرب، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعة الحجاج وتحت أمره لا يخرجون عن رأيه في الحرب وغيره‏.‏ ‏‏ ‏‏

ولما بلغ الحجاج ما كتب به عبد الملك إلى أهل العراق من عزله إن رضوا به شق عليه ذلك مشقة عظيمة جداً وعظم شأن هذا الرأي عنده، وكتب إلى عبد الملك‏‏ يا أمير المؤمنين والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي عنهم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر و تسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر النخعي على ابن عفان‏؟‏ فلما سألهم ما تريدون‏؟‏ قالوا‏‏ نزع سعيد بن العاص فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه‏؟‏ وإن الحديد بالحديد يُفلَح، كان الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك‏.‏

قال‏‏ فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، فتقدم عبد الله ومحمد فنادى عبد الله‏‏ يا معشر أهل العراق أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإنه يعرض عليكم كيت وكيت، فذكر ما كتب به أبوه معه إليهم من هذه الخصال، وقال محمد بن مروان وأنا رسول أخي أمير المؤمنين إليكم بذلك، فقالوا‏‏ ننظر في أمرنا غداً ونرد عليكم الخبر عشية، ثم انصرفوا فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث فقام فيهم خطيباً، وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم من عزل الحجاج عنهم وبيعة عبد الملك وإبقاء الأعطيات وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج، فنفر الناس من كل جانب، وقالوا‏‏ لا والله لا نقبل ذلك نحن أكثر عدداً وعدداً وهم في ضيق من الحال، وقد حكمنا عليهم، وذلوا لنا والله لا نجيب إلى ذلك أبداً‏.‏ ثم جددوا خلع عبد الملك ونائبه ثانية، واتفقوا على ذلك كلهم‏.‏

فلما بلغ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمداً الخبر قالا للحجاج‏‏ شأنك بهم إذاً فنحن في طاعتك كما أمرنا أمير المؤمنين، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة ويسلم هو أيضاً عليهم بالإمرة، وتولى الحجاج أمر الحرب وتدبيرها كما كان قبل ذلك، فعند ذلك برز كل من الفريقين للقتال والحرب، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليمان، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد وعلى الرجالة عبد الرحمن بن حبيب الحكمي‏.‏ ‏‏ ‏‏

وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الجشمي، وعلى الميسرة الأبرد بن قرة التميمي، وعلى الخيالة عبد الرحمن ابن عياش بن أبي ربيعة، وعلى الرجالة محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكميل بن زياد - وكان شجاعاً فاتكاً على كبر سنه - وأبو البختري الطائي وغيرهم، وجعلوا يقتتلون في كل يوم، وأهل العراق تأتيهم الميرة من الرساتيق والأقاليم، من العلف والطعام، وأما أهل الشام الذين مع الحجاج فهم في أضيق حال من العيش، وقلة من الطعام، وقد فقدوا اللحم بالكلية فلا يجدونه، وما زالت الحرب في هذه المدة كلها حتى انسلخت هذه السنة وهم على حالهم وقتالهم في كل يوم أو يوم بعد يوم، والدائرة لأهل العراق على أهل الشام في أكثر الأيام‏.‏ وقد قتل من أصحاب الحجاج زياد بن غنم، وكسر بسطام بن مصقلة في أربعة آلاف جفون سيوفهم واستقتلوا وكانوا من أصحاب ابن الأشعث‏.‏

 وفي هذه السنة

 كانت وفاة المهلب بن أبي صفرة

 وهو المهلب بن أبي صفرة ظالم أبو سعيد الأزدي أحد أشراف أهل البصرة ووجوههم ودهاتهم وأجوادهم وكرمائهم، ولد عام الفتح، وكانوا ينزلون فيما بين عمان والبحرين، وقد ارتد قومه فقاتلهم عكرمة بن أبي جهل فظفر بهم، وبعث بهم إلى الصديق وفيهم أبو صفرة وابنه المهلب غلام لم يبلغ الحنث، ثم نزل المهلب البصرة وقد غزا في أيام معاوية أرض الهند سنة أربع وأربعين، وولى الجزيرة لابن الزبير سنة ثمان وستين، ثم ولى حرب الخوارج أول دولة الحجاج، وقتل منهم في وقعة واحدة أربعة آلاف وثمانمائة، فعظمت منزلته عند الحجاج‏.‏ وكان فاضلاً شجاعاً كريماً يحب المدح، وله كلام حسن، فمنه‏‏ نعم الخصلة السخاء تستر عورة الشريف وتلحق خسيسة الوضيع، وتحبب المزهود فيه، وقال‏‏ يعجبني في الرجل خصلتان أن أرى عقله زائداً على لسانه، ولا أرى لسانه زائداً على عقله‏.‏

توفي المهلب غازياً بمرو الروذ وعمره ستة وسبعون سنة رحمه الله‏.‏

وكان له عشرة من الولد وهم‏‏ يزيد، وزياد، والمفضل، ومدرك، وحبيب، والمغيرة، وقبيصة، ومحمد، وهند، وفاطمة‏.‏

توفي المهلب في ذي الحجة منها، وكان من الشجعان وله مواقف حميدة، وغزوات مشهورة في الترك والأزارقة وغيرهم من أنواع الخوارج، وجعل الأمر من بعده ليزيد بن المهلب على إمرة خراسان فأمضى له ذلك الحجاج وعبد الملك بن مروان‏.‏

أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي

وكان جواداً ممدحاً، حكي أنه رأى يوماً شاباً على باب داره جالساً فسأله عن قعوده على بابه فقال‏‏ حاجة لا أستطيع ذكرها، فألح عليه فقال‏‏ جارية رأيتها دخلت هذه الدار لم أر أحسن منها وقد خطفت قلبي معها، فأخذ بيده وأدخله داره وعرض عليه كل جارية عنده حتى مرت تلك الجارية فقال‏‏ هذه فقال له اخرج فاجلس على الباب مكانك فخرج الشاب فجلس مكانه، ثم خرج إليه بعد ساعة والجارية معه قد ألبسها أنواع الحلي، وقال له‏‏ ما منعني أن أدفعها إليك وأنت داخل الدار إلا أن الجارية كانت لأختي، وكانت ضنينة بها، فاشتريتها لك منها بثلاثة آلاف، وألبستها هذا الحلي، فهي لك بما عليها، فأخذها الشاب وانصرف‏.‏

 المغيرة بن المهلب

ابن أبي صفرة، كان جواداً ممدحاً شجاعاً، له مواقف مشهورة‏.‏

 

الحارث بن عبد الله

ابن ربيعة المخزومي المعروف بقباع، ولي إمرة البصرة لابن الزبير‏.‏

 محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة

كان من فضلاء أبناء الصحابة وأعقلهم، توفي بالمدينة ودفن بالبقيع‏.‏

عبد الله بن أبي طلحة بن أبي الأسود

والد الفقيه إسحاق حملت به أمه أم سليم ليلة مات ابنها فأصبح أبو طلحة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏عرستم بارك الله لكما في ليلتكما‏‏‏‏ ولما ولد حنكه بتمرات‏.‏

 عبد الله بن كعب بن مالك

كان قائد كعب حين عمي، له روايات، توفي بالمدينة هذه السنة‏.‏

 عفان بن وهب

أبو أيمن الخولاني المصري له صحبة ورواية، وغزا المغرب، وسكن مصر وبها مات‏.‏

 جميل بن عبد الله

ابن معمر بن صباح بن ظبيان بن الحسن بن ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبيد بن كثير بن عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سرهد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة‏.‏

أبو عمرو الشاعر صاحب بثينة، كان قد خطبها فمنعت منه، فتغزل فيها واشتهر بها، وكان أحد عشاق العرب، كانت إقامته بوادي القرى، وكان عفيفاً حيياً ديناً شاعراً إسلامياً، من أفصح الشعراء في زمانه، وكان كثير عزة راويته، وهو يروي عن هدبة بن خثرم عن الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، قال كثير عزة‏‏ كان جميل أشعر العرب حيث يقول‏‏

وأخبرتماني أن تيماء منزل * لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا

فهذي شهور الصيف عنَّا قد انقضت * فما للنوى ترمي بليلى المراميا

ومنها قوله‏‏

وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني * من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا

وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا

وما أحدث النأي المفرق بيننا * سلوَّاً ولا طول اجتماع تقاليا

ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني * أظل إذا لم ألق وجهك صاديا

لقد خفت أن ألقى المنية بغتة * وفي النفس حاجات إليك كما هيا

وله أيضاً‏‏

إني لأحفظ غيبكم ويسرني * لو تعلمين بصالح أن تذكري

إلى أن قال‏‏

ما أنت والوعد الذي تعدينني * إلا كبرق سحابة لم تمطر

وقوله وروى لعمرو بن أبي ربيعة فيما رواه ابن عساكر‏‏

ما زلت أبغي الحي أتبع فلهم * حتى دفعت إلى ربيبة هودج ‏‏ ‏‏

فدنوت مختفياً ألمُّ ببيتها * حتى ولجت إلى خفي المولج

قالت‏‏ وعيش أخي ونعمة والدي * لأنبهن الحي إن لم تخرج

فتناولت رأسي لتعرف مسه * بمخضب الأطراف غير مشنج

فخرجت خيفة أهلها فتبسمت * فعلمت أن يمينها لم تحرج

فلثمت فاها آخذاً بقرونها * فرشفت ريقاً بارداً متثلج

قال كثير عزة‏‏ لقيني جميل بثينة فقال‏‏ من أين أقبلت‏؟‏

فقلت‏‏ من عند هذه الحبيبة، فقال‏‏ وإلى أين‏؟‏ فقلت‏‏ وإلى هذه الحبيبة - يعني عزة - فقال‏‏ أقسمت عليك لما رجعت إلى بثينة فواعدتها لي فإن لي من أول الصيف ما رأيتها، وكان آخر عهدي بها بوادي القرى، وهي تغسل هي وأمها ثوباً فتحادثنا إلى الغروب، قال كثير‏‏ فرجعت حتى أنخت بهم‏.‏

فقال أبو بثينة‏‏ ما ردك يا ابن أخي‏؟‏

فقلت‏‏ أبيات قلتها فرجعت لأعرضها عليك‏.‏

فقال‏‏ وما هي‏؟‏

فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الحجاب‏‏

فقلت لها‏‏ يا عز أرسل صاحبي * إليك رسولاً والرسول موكل

بأن تجعلي بيني وبينك موعداً * وأن تأمريني مال الذي فيه أفعل

وآخر عهدي منك يوم لقيتني * بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل

فلما كان الليل أقبلت بثينة إلى المكان الذي واعدته إليه، وجاء جميل وكنت معهم فما رأيت ليلة أعجب منها ولا أحسن منادمات، وانفضَّ ذلك المجلس وما أدري أيهما أفهم لما في ضمير صاحبه منه‏.‏

وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي أنه دخل على جميل وهو يموت فقال له‏‏ ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن قط ولم يسرق ولم يقتل النفس وهو يشهد أن لا إله إلا الله‏؟‏

قال‏‏ أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا‏؟‏

قال‏‏ أنا، فقلت‏‏ الله ما أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء منذ عشرين سنة، ببثينة‏.‏

فقال‏‏ لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها بريبة، قال‏‏ فما برحنا حتى مات‏.‏ ‏‏ ‏‏

قلت‏‏ كانت وفاته بمصر لأنه كان قد قدم على عبد العزيز بن مروان فأكرمه وسأله عن حبه بثينة فقال‏‏ شديداً، واستنشده من أشعاره ومدائحه فأنشده فوعده أن يجمع بينه وبينها، فعاجلته المنية في سنة ثنتين وثمانين رحمه الله آمين‏.‏

وقد ذكر الأصمعي عن رجل أن جميلاً قال له‏‏ هل أنت مبلغ عني رسالة إلى حي بثينة ولك ما عندي‏؟‏ قال‏‏ نعم ‏!‏ قال‏‏ إذا أنا متُّ فاركب ناقتي وألبس حلتي هذه وأمره أن يقول أبياتاً منها قوله‏‏

قومي بثينة فاندبي بعويل * وابكي خليلاً دون كل خليل

فلما انتهى إلى حيهم أنشد الأبيات فخرجت بثينة كأنها بدر سرى في جنة وهي تتثنى في مرطها فقالت له‏‏ ويحك إن كنت صادقاً فقد قتلتني، وإن كنت كاذباً فقد فضحتني‏.‏ فقلت‏‏ بلى والله صادق وهذه حلته وناقته، فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتاً ترثيه بها وتتأسف عليه فيها، وأنه لا يطيب لها العيش بعده، ولا خير لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها‏‏ قال الرجل‏‏ فما رأيت أكثر باكياً ولا باكية من يومئذ‏.‏

وروى ابن عساكر عنه أنه قيل له بدمشق‏‏ لو تركت الشعر وحفظت القرآن‏؟‏

فقال‏‏ هذا أنس بن مالك يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏‏ ‏‏‏‏إن من الشعر لحكمة‏‏‏‏‏.‏

 عمر بن عبيد الله

ابن معمر بن عثمان أبو حفص القرشي التميمي أحد الأجواد والأمراء الأمجاد، فتحت على يديه بلدان كثيرة، وكان نائباً لابن الزبير على البصرة، وقد فتح كابل مع عبد الله بن خازم، وهو الذي قتل قطري بن الفجاءة، روى عن ابن عمر وجابر وغيرهما، وعن عطاء بن أبي رباح، وابن عون، ووفد على عبد الملك فتوفي بدمشق سنة ثنتين وثمانين‏.‏ قاله المدائني‏.‏

وحكي أن رجلاً اشترى جارية كانت تحسن القرآن والشعر وغيره فأحبها حباً شديداً وأنفق عليها ماله كله حتى أفلس ولم يبق له شيء سوى هذه الجارية، فقالت له الجارية‏‏ قد أرى ما بك من قلة الشيء‏.‏ فلو بعتني وانتفعت بثمني صلح حالك، فباعها لعمر بن عبيد الله هذا - وهو يومئذ أمير البصرة - بمائة ألف درهم، فلما قبض المال ندم وندمت الجارية، فأشارت تخاطب سيدها بأبيات شعر وهي‏‏ ‏‏ ‏‏

هنيئاً لك المال الذي قد أخذته * ولم يبق في كفِّي إلا تفكُّري

أقول لنفسي وهي في كرب عيشةٍ * أقلي فقد بان الخليط أو أكثري

إذا لم يكن في الأمر عندك حيلةٌ * ولم تجدي بداً من الصبر فاصبري

فأجابها سيدها فقال‏‏

ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن * لفرقتنا شيءٌ سوى الموت فاصبري

أأوب بحزن من فراقك موجعٌ * أناجي به قلباً طويل التذكر

عليك سلام لا زيارة بيننا * ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

فلما سمعهما ابن معمر قد شببت قال‏‏ والله لا فرقت بين محبين أبداً، ثم أعطاه المال - وهو مائة ألف - والجارية لما رأى من توجعهما على فراق كل منهما صاحبه، فأخذ الرجل الجارية وثمنها وانطلق‏.‏

توفي عمر بن عبيد الله بن معمر هذا بدمشق بالطاعون، وصلى عليه عبد الملك بن مروان، ومشى في جنازته وحضر دفنه وأثنى عليه بعد موته، وكان له من الولد طلحة وهو من سادات قريش تزوج فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر على صداق أربعين ألف دينار، فأولدها إبراهيم ورملة، فتزوج رملة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس على صداق مائة ألف دينار رحمهم الله‏.‏

 كُمَيل بن زياد

ابن نهيك بن خيثم النخعي الكوفي‏.‏ روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي هريرة، وشهد مع علي صفين، وكان شجاعاً فاتكاً، وزاهداً عابداً، قتله الحجاج في هذه السنة، وقد عاش مائة سنة قتله صبراً بين يديه‏‏ وإنما نقم عليه لأنه طلب من عثمان بن عفان القصاص من لطمة لطمها إياه‏.‏ فلما أمكنه عثمان من نفسه عفا عنه، فقال له الحجاج‏‏ أو مثلك يسأل من أمير المؤمنين القصاص‏؟‏ ثم أمر فضربت عنقه، قالوا‏‏ وذكر الحجاج علياً في غبون ذلك فنال منه وصلى عليه كُميل، فقال له الحجاج‏‏ والله لأبعثن إليك من يبغض علياً أكثر مما تحبه أنت، فأرسل إليه ابن أدهم، وكان من أهل حمص، ويقال أبا الجهم بن كنانة فضرب عنقه، وقد روى عن كميل جماعة كثيرة من التابعين وله الأثر المشهور عن علي بن أبي طالب الذي أوله ‏‏‏‏القلوب أوعية فخيرها أوعاها‏‏‏‏ وهو طويل قد رواه جماعة من الحفاظ الثقات وفيه مواعظ وكلام حسن رضي الله عن قائله‏.‏ ‏‏ ‏‏

 زاذان أبو عمرو الكندي

أحد التابعين كان أولاً يشرب المسكر ويضرب بالطنبور، فرزقه الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود وحصلت له إنابة ورجوع إلى الحق، وخشية شديدة، حتى كان في الصلاة كأنه خشبة‏.‏

قال خليفة‏‏ وفيها توفي زر بن حبيش أحد أصحاب ابن مسعود وعائشة، وقد أتت عليه مائة وعشرون سنة‏.‏

وقال أبو عبيد‏‏ مات سنة إحدى وثمانين، وقد تقدمت له ترجمة ‏‏شقيق بن سلمة‏‏ أبو وائل، أدرك من زمن الجاهلية سبع سنين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 أم الدرداء الصغرى

اسمها هجيمة ويقال جهيمة تابعية عابدة عالمة فقيهة كان الرجال يقرؤون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة يشتغل عليها وهو خليفة، رضي الله عنها‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين

استهلت هذه السنة والناس متوافقون لقتال الحجاج وأصحابه بدير قرة، وابن الأشعث وأصحابه بدير الجماجم، والمبارزة في كل يوم بينهم واقعة، وفي غالب الأيام تكون النصرة لأهل العراق على أهل الشام، حتى قيل إن أصحاب ابن الأشعث وهم أهل العراق كسروا أهل الشام وهم أصحاب الحجاج بضعاً وثمانين مرة ينتصرون عليهم، ومع هذا فالحجاج ثابت في مكانه صابر ومصابر لا يتزحزح عن موضعه الذي هو فيه، بل إذا حصل له ظفر في يوم من الأيام يتقدم بجيشه إلى نحو عدوه، وكان له خبرة بالحرب، وما زال ذلك دأبه ودأبهم حتى أمر بالحملة على كتيبة القراء، لأن الناس كانوا تبعاً لهم، وهم الذين يحرضونهم على القتال والناس يقتدون بهم، فصبر القراء لحملة جيشه، ثم جمع الرماة من جيشه وحمل بهم، وما انفكَّ حتى قتل منهم خلقاً كثيراً، ثم حمل على ابن الأشعث وعلى من معه من الجيش فانهزم أصحاب ابن الأشعث وذهبوا في كل وجه، وهرب ابن الأشعث بين أيديهم ومعه فلّ قليل من الناس، فأتبعه الحجاج جيشاً كثيفاً مع عمارة بن غنم اللخمي ومعه محمد بن الحجاج والإمرة لعمارة، فساقوا وراءهم يطاردونهم لعلهم يظفرون به قتلا أو أسرا، فما زال يسوق ويخترق الأقاليم والكور والرساتيق، وهم في أثره حتى وصل إلى كرمان، واتبعه الشاميون فنزلوا في قصر كان فيه أهل العراق قبلهم، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من أصحاب ابن الأشعث الذين فروا معه من شعر أبي خلدة اليشكري يقول‏‏ ‏‏ ‏‏

أيا لهَفاً ويا حُزناً جميعاً * ويا حر الفؤاد لما لقينا

تركنا الدين والدنيا جميعاً * وأسلمنا الحلائل والبنينا

فما كنا أناساً أهل دنيا * فنمنعها ولو لم نرج دينا

تركنا دُورَنا لطغامِ عكٍّ * وأنباط القرى والأشعرينا

ثم إن ابن الأشعث دخل هو ومن معه من الفل إلى بلاد رُتبيل ملك الترك، فأكرمه رتبيل وأنزله عنده وأمنه وعظمه‏.‏

قال الواقدي‏‏ ومر ابن الأشعث وهو ذاهب إلى بلاد رتبيل على عامل له في بعض المدن كان ابن الأشعث قد استعمله على ذلك عند رجوعه إلى العراق، فأكرمه ذلك العامل وأهدى إليه هدايا وأنزله، فعل ذلك خديعةً به ومكراً، وقال له‏‏ ادخل إلى عندي إلى البلد لتتحصن بها من عدوك ولكن لا تدع أحداً ممن معك يدخل المدينة، فأجابه إلى ذلك، وإنما أراد المكر به، فمنعه أصحابه فلم يقبل منهم، فتفرق عنه أصحابه، فلما دخل المدينة وثب عليه العامل فمسكه وأوثقه بالحديد وأراد أن يتخذ به يداً عند الحجاج، وقد كان الملك رُتبيل سر بقدوم ابن الأشعث، فلما بلغه ما حدث له من جهة ذلك العامل بمدينة بست، سار حتى أحاط ببست، وأرسل إلى عاملها يقول له‏‏ والله لئن آذيت ابن الأشعث لا أبرح حتى أستنزلك وأقتل جميع من في بلدك، فخافه ذلك العامل وسير إليه ابن الأشعث فأكرمه رتبيل، فقال ابن الأشعث لرتبيل‏‏ إن هذا العامل كان عاملي ومن جهتي، فغدر بي وفعل ما رأيت، فأذن لي في قتله، فقال‏‏ قد أمنته‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكان مع ابن الأشعث عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان هو الذي يصلي بالناس هنالك في بلاد رُتبيل، ثم إن جماعة من الفل الذين هربوا من الحجاج اجتمعوا وساروا وراء ابن الأشعث ليدركوه فيكونوا معه - وهم قريب من ستين ألفاً - فلما وصلوا إلى سجستان وجدوا ابن الأشعث قد دخل إلى عند رُتبيل فتغلبوا على سجستان وعذبوا عاملها عبد الله بن عامر النعار وإخوته وقرابته، واستحوذوا على ما فيها من الأموال وانتشروا، في تلك البلاد وأخذوها، ثم كتبوا إلى ابن الأشعث‏‏ أن اخرج إلينا حتى نكون معك ننصرك على من يخالفك، ونأخذ بلاد خراسان، فإن بها جنداً ومنعة كثيرة منا، فنكون بها حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، فنرى بعد ذلك رأينا‏.‏ فخرج إليهم ابن الأشعث وسار بهم قليلاً إلى نحو خراسان فاعتزله شرذمة من أهل العراق مع عبيد الله بن سمرة، فقام فيهم ابن الأشعث خطيباً فذكر غدرهم ونكولهم عن الحرب، وقال‏‏ لا حاجة لي بكم، وأنا ذاهب إلى صاحبي رُتبيل فأكون عنده، ثم انصرف عنهم وتبعه طائفة منهم وبقي معظم الجيش‏.‏ فلما انفصل عنهم ابن الأشعث بايعوا عبد الرحمن بن عباس بن أبي ربيعة الهاشمي، وساروا معه إلى خراسان فخرج إليهم أميرها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فمنعهم من دخول بلاده، وكتب إلى عبد الرحمن بن عباس يقول له‏‏ إن في البلاد متسعاً فاذهب إلى أرض ليس بها سلطان فإني أكره قتالك، وإن كنت تريد مالاً بعثت إليك‏.‏ فقال له‏‏ إنا لم نجيء لقتال أحد، وإنما جئنا نستريح ونريح خيلنا ثم نذهب وليست بنا حاجة إلى شيء مما عرضت‏.‏ ثم أقبل عبد الرحمن على أخذ الخراج مما حوله من البلاد من كور خراسان، فخرج إليه يزيد بن المهلب ومعه أخوه المفضل في جيوش كثيفة، فلما صادفوهم اقتتلوا غير كثير ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن بن عباس، وقتل يزيد منهم مقتلة كبيرة واحتاز ما في معسكره، وبعث بالأسارى وفيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص إلى الحجاج، ويقال إن محمد بن سعد قال ليزيد بن المهلب‏‏ أسألك بدعوة أبي لأبيك لما أطلقتني، فأطلقه‏.‏

قال ابن جرير‏‏ ولهذا الكلام خبر فيه طول، ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفا عن بعضهم، وقد كان الحجاج يوم ظهر على ابن الأشعث نادى مناديه في الناس‏‏ من رجع فهو آمن ومن لحق بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمن، فلحق بمسلم خلق كثير ممن كان مع ابن الأشعث فأمنهم الحجاج، ومن لم يلحق به شرع الحجاج في تتبعهم، فقتل منهم خلقاً كثيراً حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير على ما سيأتي بيانه‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكان الشعبي من جملة من صار إلى مسلم بن قتيبة فذكره الحجاج يوماً فقيل له‏‏ إنه سار إلى مسلم بن قتيبة، فكتب إلى مسلم أن ابعث لي بالشعبي قال الشعبي‏‏ فلما دخلت عليه سلمت عليه بالأمرة ثم قلت‏‏ أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق كائنا في ذلك ما كان، قد والله تمردنا عليك وخرجنا وجهدنا كل الجهد فما ألونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليك أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فلك الحجة علينا‏.‏ فقال الحجاج‏‏ أنت والله يا شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول‏‏ ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي‏.‏ قال‏‏ فانصرفت فلما مشيت قليلاً قال‏‏ هلم يا شعبي، قال فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله قد أمنت يا شعبي فاطمأنت نفسي، فقال‏‏ كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي‏؟‏ - قال‏‏ وكان لي مكرماً قبل الخروج عليه - فقلت‏‏ أصلح الله الأمير، قد اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت السهل، واستوخمت الجناب، واستجلست الخوف، واستحليت الهم، وفقدت صالح الأخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً‏.‏ قال‏‏ انصرف يا شعبي، فانصرفت‏.‏ ذكر ذلك ابن جرير وغيره‏.‏ ورواه أبو مخنف، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن الشعبي‏.‏

وروى البيهقي‏‏ أنه سأله عن مسألة في الفرائض وهي أم زوج وأخت وما كان يقوله فيها الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وكان لكل منهم قول فيها، فنقل ذلك كله الشعبي في ساعة فاستحسن قول علي وحكم بقول عثمان، وأطلق الشعبي بسبب ذلك‏.‏

وقيل‏‏ إن الحجاج قتل خمسة آلاف أسير ممن سيرهم إليه يزيد بن المهلب كما تقدم ذلك، ثم سار إلى الكوفة فدخلها فجعل لا يبايع أحداً من أهلها إلا قال‏‏ أشهد على نفسك أنك قد كفرت، فإذا قال نعم بايعه، وإن أبى قتله، فقتل منهم خلقاً كثيراً ممن أبى أن يشهد على نفسه بالكفر، قال‏‏ فأُتي برجل فقال الحجاج‏‏ ما أظن هذا يشهد على نفسه بالكفر لصلاحه ودينه - وأراد الحجاج مخادعته - فقال‏‏ أخادعي أنت عن نفسي‏؟‏ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون وهامان ونمروذ‏.‏ قال‏‏ فضحك الحجاج وخلَّى سبيله‏.‏ ‏‏ ‏‏

وذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف‏‏ أن أعشى همدان أُتي به إلى الحجاج - وكان قد عمل قصيدة هجا فيها الحجاج وعبد الملك بن مروان ويمدح فيها ابن الأشعث وأصحابه - فاستنشده إياها فأنشده قصيدة طويلة دالية، فيها مدح كثير لعبد الملك وأهل بيته، فجعل أهل الشام يقولون‏‏ قد أحسن أيها الأمير، فقال الحجاج‏‏ إنه لم يحسن، إنما يقول هذا مصانعة، ثم ألح عليه حتى أنشده قصيدته الأخرى، فلما أنشدها غضب عندك ذلك الحجاج وأمر به فضربت عنقه صبراً بين يديه‏.‏ واسم الأعشى هذا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث أبو المصبح الهمداني الكوفي الشاعر، أحد الفصحاء البلغاء المشهورين، وقد كان له فضل وعبادة في مبتداه، ثم ترك ذلك وأقبل على الشعر فعرف به، وقد وفد على النعمان بن بشير وهو أمير بحمص فامتدحه، وكان محصوله في رحلته إليه منه ومن جند حمص أربعين ألف دينار، وكان زوج أخت الشعبي، كما أن الشعبي كان زوج أخته أيضاً، وكان ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج كما ذكرنا رحمه الله‏.‏

وقد كان الحجاج وهو مواقف لابن الأشعث بعث كميناً يأتون جيش ابن الأشعث من ورائه، ثم توافق الحجاج وابن الأشعث وهرب الحجاج بمن معه وترك معسكره، فجاء ابن الأشعث فاحتاز ما في المعسكر وبات فيه، فجاءت السرية إليهم ليلاً وقد وضعوا أسلحتهم فمالوا عليهم ميلة واحدة، ورجع الحجاج بأصحابه فأحاطوا بهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل من أصحاب ابن الأشعث خلق كثير وغرق خلق كثير منهم في دجلة ودجيل، وجاء الحجاج إلى معسكرهم فقتل من وجده فيه، فقتل منهم نحواً من أربعة آلاف، منهم جماعة من الرؤساء والأعيان، واحتازوه بكماله، وأنطلق ابن الأشعث هارباً في ثلاثمائة فركبوا دجيلاً في السفن وعقروا دوابهم وجازوا إلى البصرة، ثم ساروا من هنالك إلى بلاد الترك، وكان في دخوله بلاد رُتبيل ما تقدم، ثم شرع الحجاج في تتبع أصحاب ابن الأشعث فجعل يقتلهم مثنى و فرادى، حتى قيل إنه قتل منهم بين يديه صبراً مائة ألف وثلاثين ألفاً، قاله النضر بن شميل عن هشام بن حسان، منهم محمد بن سعد بن أبي وقاص، و جماعات من السادات الأخيار، والعلماء الأبرار، حتى كان آخرهم سعيد بن جبير رحمهم الله ورضي عنهم كما سيأتي ذلك في موضعه‏.‏ ‏‏  ‏‏

بناء واسط

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة بنى الحجاج واسط، وكان سبب بنائه لها أنه رأى راهباً على أتان قد أجاز دجلة، فلما مر بموضع واسط وقفت أتانه فبالت، فنزل عنها وعمد إلى موضع بولها فاحتفره ورمى به دجلة، فقال الحجاج‏‏ عليَّ به، فأتي به فقال له‏‏ لم صنعت هذا‏؟‏ قال‏‏ إنا نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده‏.‏ فعند ذلك اختط الحجاج مدينة واسط في ذلك المكان وبنى المسجد في ذلك الموضع‏.‏

وفيها كانت غزوة عطاء بن رافع صقلية‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏‏

 عبد الرحمن بن جحيرة

الخولاني المصري، روى عن جماعة من الصحابة وكان عبد العزيز بن مروان أمير مصر قد جمع له بين القضاء والقصص وبيت المال‏‏ وكان رزقه في العام ألف دينار، وكان لا يدخر منها شيئاً‏.‏

 طارق بن شهاب

ابن عبد شمس الأحمسي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وغزا في خلافة الصديق وعمر رضي الله عنهما بضعاً وأربعين غزاة، توفي بالمدينة هذه السنة‏.‏

 عبيد الله بن عدي

ابن الخيار أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وحدث عن جماعة من الصحابة عبد الله بن قيس بن مخرمة، كان قاضي المدينة‏.‏

وكان من فقهاء قريش وعلمائهم وأبوه عدي ممن قتل يوم بدر كافراً‏.‏

وتوفي بها في هذه السنة مرثد بن عبد الله أبو الخير اليزني‏.‏

وفيها فقد جماعة من القراء والعلماء الذين كانوا مع الأشعث، منهم من هرب ومنهم من قتل في المعركة، ومنهم من أسر فضرب الحجاج عنقه، ومنهم من تتبعه الحجاج حتى قتله، وقد سمي منهم خليفة بن خياط طائفة من الأعيان، فمنهم مسلم بن يسار المزني وأبو مرانة العجلي قتل، وعقبة بن عبد الغفار قتل، وعقبة بن وشاح قتل، وعبد الله بن خالد الجهضمي قتل، وأبو الجوزاء الربعي قتل، والنضر بن أنس، وعمران والد أبي حمزة الضبعي، وأبو المنهال سيار بن سلامة الرياحي، ومالك بن دينار، ومرة بن ذباب الهدادي وأبو نجيد الجهضمي، وأبو سبيج الهنائي، وسعيد بن أبي الحسن، وأخوه الحسن البصري قال أيوب‏‏ قيل لابن الأشعث‏‏ إن أحببت أن يقتل الناس حولك كما قتلوا حول هودج عائشة يوم الجمل فأخرج الحسن معك، فأخرجه‏.‏

ومن أهل الكوفة سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شداد، والشعبي، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، والمعرور بن سويد، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وأبو البختري، وطلحة بن مصرف، وزبيد بن الحارث الياميان، وعطاء بن السائب‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال أيوب‏‏ فما منهم صرع مع ابن الأشعث إلا رغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلَّمه‏.‏

ومن أعيان من قتل الحجاج عمران بن عصام الضبعي، والد أبي حجزة، كان من علماء أهل البصرة، وكان صالحاً عابداً، أُتي به أسيراً إلى الحجاج فقال له‏‏ اشهد على نفسك بالكفر حتى أطلقك، فقال‏‏ والله إن ما كفرت بالله منذ آمنت به، فأمر به فضربت عنقه‏.‏

عبد الرحمن بن أبي ليلى، روى عن جماعة من الصحابة، ولأبيه أبي ليلى صحبة، أخذ عبد الرحمن القرآن عن علي بن أبي طالب‏‏ خرج مع ابن الأشعث فأُتي به الحجاج فضرب عنقه بين يديه صبراً‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وثمانين

قال الواقدي‏‏ فيها افتتح عبد الله بن عبد الملك المصيصة، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فقتل منهم خلقاً وصرف كنائسهم وضياعهم وتسمى سنة الحريق‏.‏

وفيها استعمل الحجاج على فارس محمد ابن القاسم الثقفي، وأمره بقتل الأكراد‏.‏

وفيها ولى عبد الملك الإسكندرية عياض بن غنم البجيني وعزل عنها عبد الملك بن أبي الكنود الذي كان قد وليها في العام الماضي‏.‏

وفيها افتتح موسى بن نصير طائفة من بلاد المغرب من ذلك بلد أرومة، وقتل من أهلها بشراً كثيراً جداً، وأسر نحواً من خمسين ألفاً‏.‏

وفيها قتل الحجاج أيضاً جماعة من أصحاب ابن الأشعث، منهم‏‏

 أيوب بن القِريّة

وكان فصيحاً بليغاً واعظاً، قتله صبراً بين يديه، ويقال إنه ندم على قتله‏.‏ وهو أيوب بن زيد بن قيس أبو سليمان الهلالي المعروف بابن القرية‏.‏ وعبد الله بن الحارث بن نوفل‏.‏ وسعد بن إياس الشيباني، وأبو غنينما الخولاني‏.‏ له صحبة ورواية، سكن حمص وبها توفى وقد قارب المائة سنة‏.‏

عبد الله بن قتادة، وغير هؤلاء جماعة منهم من قتلهم الحجاج، ومنهم من توفي‏.‏

 أبو زرعة الجذامي الفلسطيني

 كان ذا منزلة عند أهل الشام، فخاف منه معاوية ففهم منه ذلك أبو زرعة فقال‏‏ يا أمير المؤمنين لا تهدم ركناً بنيته، ولا تحزن صاحباً سررته، ولا تشمت عدواً كبته، فكف عنه معاوية‏.‏

وفيها توفي عتبة بن منذر السلمي صحابي جليل، كان يعد في أهل الصفة‏.‏

 عمران بن حطان الخارجي

كان أولاً من أهل السنة والجماعة فتزوج امرأة من الخوارج حسنة جميلة جداً فأحبها‏.‏ وكان هو دميم الشكل، فأراد أن يردها إلى السنة فأبت، فارتد معها إلى مذهبها‏.‏ وقد كان من الشعراء المفلقين، وهو القائل في قتل علي وقاتله‏‏

يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوماً فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا

أكرم بقوم بطون الطير قبرهم * لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا ‏‏  ‏‏

وقد كان الثوري يتمثل بأبياته هذه في الزهد في الدنيا وهي قوله‏‏

أرى أشقياء الناس لا يسأمونها * على أنهم فيها عراة وجوَّع

أراها وإن كانت تحب فإنها * سحابة صيف عن قليل تقشع

كركب قضوا حاجاتهم وترحلوا * طريقهم بادي العلامة مهيع

مات عمران بن حطان سنة أربع وثمانين‏.‏ وقد رد عليه بعض العلماء في أبياته المتقدمة في قتل علي رضي الله عنه بأبيات على قافيتها ووزنها‏.‏

بل ضربة من شقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا

إني لأذكره يوما فأحسبه * أشقى البرية عند الله ميزانا

 روح بن زنباع الجذامي

كان من أمراء الشام وكان عبد الملك يستشيره في أموره

وفيها كان مهلك عبد الرحمن بن الأشعث الكندي وقيل‏‏ في التي بعدها، فالله أعلم‏.‏ وذلك أن الحجاج كتب إلى رتبيل ملك الترك الذي لجأ إليه ابن الأشعث يقول له‏‏ والله الذي لا إله إلا هو لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل، ولأخربنها‏.‏ فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الأشعث إليه قبل أن يخرب الحجاج دياره ويأخذ عامة أمصاره، فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه أن لا يقاتل عشر سنين، وأن لا يؤدي في كل سنة منها إلا مائة ألف من الخراج، فأجابه الحجاج إلى ذلك، وقيل إن الحجاج وعده أن يطلق له خراج أرضه سبع سنين، فعند ذلك غدر رتبيل بابن الأشعث فقيل إنه أمر بضرب عنقه صبراً بين يديه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وقيل‏‏ بل كان ابن الأشعث قد مرض مرضاً شديداً فقتله وهو بآخر رمق، والمشهور أنه قبض عليه وعلى ثلاثين من أقربائه فقيدهم في الأصفاد وبعث بهم مع رسل الحجاج إليه، فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له الرجح، صعد ابن الأشعث وهو مقيد بالحديد إلى سطح قصر ومعه رجل موكل به لئلا يفر، وألقى نفسه من ذلك القصر وسقط معه الموكل به فماتا جميعاً، ‏‏ ‏‏ فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث فاحتزه، وقتل من معه من أصحاب ابن الأشعث وبعث برؤوسهم إلى الحجاج فأمر فطيف برأسه في العراق، ثم بعثه إلى عبد الملك فطيف برأسه في الشام، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هنالك، ثم دفنوا رأسه بمصر وجثته بالرجح، وقد قال بعض الشعراء في ذلك‏‏

هيهات موضع جثة من رأسها * رأس بمصر وجثة بالرجح

وإنما ذكر ابن جرير مقتل ابن الأشعث في سنة خمس وثمانين، فالله أعلم‏.‏

وعبد الرحمن هذا هو أبو محمد بن الأشعث بن قيس، ومنهم من يقول عبد الرحمن بن قيس بن محمد الأشعث بن قيس الكندي الكوفي، قد روى له أبو داود والنسائي عن أبيه عن جده عن ابن مسعود‏‏ حديث‏‏ ‏‏‏‏إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما قال البائع أو تشاركا‏‏‏‏‏.‏ وعنه أبو العميس ويقال إن الحجاج قتله بعد التسعين سنة فالله أعلم‏.‏

والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الأمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى إن الأمصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك، ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة الذي دعا إلى ذلك أولاً ثم رجع عنه كما قررنا ذلك فيما تقدم‏.‏ فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه وهو من صلبية قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد‏؟‏ ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه خلق كثير فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏‏ ‏‏

 أيوب بن القرية

وهي أمه واسم أبيه يزيد بن قيس بن زرارة بن مسلم النمري الهلالي، كان أعرابياً أمياً، وكان يضرب به المثل في فصاحته وبيانه وبلاغته، صحب الحجاج ووقد على عبد الملك، ثم بعثه رسولاً إلى ابن الأشعث فقال له ابن الأشعث‏‏ لئن لم تقم خطيباً فتخلع الحجاج لأضربن عنقك، ففعل وأقام عنده، فلما ظهر الحجاج استحضره وجرت له معه مقامات ومقالات في الكلام، ثم آخر الأمر ضرب عنقه وندم بعد ذلك على ما فعل من ضرب عنقه، ولكن ندم حيث لا ينفعه الندم‏.‏ كما قيل‏‏ وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل *‏.‏

وقد ذكره ابن عساكر في تاريخه وابن خلكان في الوفيات وأطال ترجمته وذكر فيها أشياء حسنة، قال‏‏ والقِريِّة بكسر القاف وتشديد الياء وهي جدته واسمها جماعة بنت جشم قال ابن خلكان‏‏ ومن الناس من أنكر وجوده ووجود مجنون ليلى، وابن أبي العقب صاحب الملحمة، وهو يحيى بن عبد الله بن أبي العقب والله أعلم‏.‏

 روح بن زنباع

ابن سلامة الجذامي أبو زرعة ويقال‏‏ أبو زنباع الدمشقي، داره بدمشق في طرف البزوريين عند دار ابن عقب صاحب الملحمة‏.‏ وهو تابعي جليل، روى عن أبيه - وكانت له صحبة - وتميم الداري، وعبادة بن الصامت ومعاوية وكعب الأحبار وغيرهم، وعنه جماعة منهم عبادة بن نسي‏.‏

كان روح عند عبد الملك كالوزير لا يكاد يفارقه، وكان مع أبيه مروان يوم مرج راهط وقد أمره يزيد بن معاوية على جند فلسطين، وزعم مسلم بن الحجاج أن روح بن زنباع كانت له صحبة، ولم يتابع مسلم على هذا القول، والصحيح أنه تابعي وليس بصحابي، ومن مآثره التي نفرد بها أنه كان كلما خرج من الحمام يعتق نسمة، قال ابن زيد‏‏ مات سنة أربع وثمانين بالأردن، وزعم بعضهم أنه بقى إلى أيام هشام بن عبد الملك، وقد حج مرة فنزل على ماء بين مكة والمدينة فأمر فأصلحت له أطعمة مختلفة الألوان، ثم وضعت بين يديه، فبينما هو يأكل إذ جاء راع من الرعاة يرد الماء، فدعاه روح بن زنباع إلى الأكل من ذلك الطعام، فجاء الراعي فنظر إلى طعامه وقال‏‏ إني صائم فقال له روح‏‏ في مثل هذا اليوم الطويل الشديد الحر تصوم يا راعي‏؟‏ فقال الراعي‏‏ أفأغبن أيامي من أجل طعامك‏؟‏ ثم إن الراعي ارتاد لنفسه مكاناً فنزله وترك روح بن زنباع، فقال روح بن زنباع‏‏

لقد ضننت بأيامك يا راعي * إذ جاد بها روح بن زنباع ‏‏ ‏‏

ثم إن روحاً بكى طويلاً وأمر بتلك الأطعمة فرفعت، وقال‏‏ انظروا هل تجدون لها آكلاً من هذه الأعراب أو الرعاة‏؟‏ ثم سار من ذلك المكان وقد أخذ الراعي بمجامع قلبه وصغرت إليه نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثمانين

فيها كما ذكر ابن جرير‏‏ كان مقتل عبد الرحمن بن الأشعث فالله أعلم، وفيها عزل الحجاج عن إمرة خراسان يزيد بن المهلب وولى عليها أخاه المفضل بن المهلب، وكان سبب ذلك أن الحجاج وفد مره على عبد الملك فلما انصرف مر بدير فقيل له‏‏ إن فيه شيخاً كبيراً من أهل الكتاب عالماً فدعي فقال‏‏ يا شيخ هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه وما نحن فيه‏؟‏ قال‏‏ نعم‏.‏ قال له فما تجدون صفة أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏‏ نجده ملكاً أقرع، من يقم في سبيله بصرع، قال‏‏ ثم من‏؟‏ قال‏‏ ثم رجل يقال له الوليد، قال‏‏ ثم ماذا‏؟‏ قال ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس، قال‏‏ فتعرفني له قال‏‏ قد أخبرت بك‏.‏ قال‏‏ أفتعرف مآلي‏؟‏ قال‏‏ نعم ‏!‏ قال‏‏ فمن يلي العراق بعدي‏؟‏ قال‏‏ رجل يقال له يزيد، قال أفي حياتي أو بعد موتي‏؟‏ قال لا أدري، قال‏‏ أفتعرف صفته‏؟‏ قال يغدر غدرة لا أعرف غيرها قال‏‏ فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن المهلب، وسار سبعاً وهو وجل من كلام الشيخ، ثم بعث إلى عبد الملك يستعفيه من ولاية العراق ليعلم مكانته عنده‏؟‏ فجاء الكتاب بالتقريع والتأنيب والتوبيخ والأمر بالثبات والاستمرار على ما هو عليه‏.‏ ثم إن الحجاج جلس يوماً مفكراً واستدعى بعبيد بن موهب فدخل عليه وهو ينكت في الأرض فرفع رأسه إليه فقال‏‏ ويحك يا عبيد، إن أهل الكتاب يذكرون أن ما تحت يدي سيليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة ويزيد بن حصين بن نمير ويزيد بن دينار وليسوا هناك، وما هو إلا يزيد بن المهلب‏.‏ فقال عبيد‏‏ لقد شرفهم وعظمت ولايتهم وإن لهم لقدراً وجلداً وحظاً فأخلق به‏.‏ فأجمع رأى الحجاج على عزل يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الملك يذمه ويخوفه غدره ويخبره بما أخبره به ذلك الشيخ الكتابي، فجاء البريد بكتاب فيه قد أكثرت في شأن يزيد فسم رجلاً يصلح لخراسان، فوقع اختيار الحجاج على المفضل بن المهلب فولاه قليلاً تسعة أشهر، فغزا بلاد عبس وغيرها وغنم مغانم كثيرة، وامتدحه الشعراء ثم عزله بقتيبة بن مسلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ، ثم ذكر سبب ذلك وملخصه أنه بعد مقتل أبيه لم يبق بيده بلد يلجأ إليه بمن معه من أصحابه، فجعل كلما اقترب من بلدة خرج إليه ملكها فقاتله، فلم يزل ذلك دأبه حتى نزل قريباً من ترمذ وكان ملكها فيه ضعف، فجعل يهادنه ويبعث إليه بالألطاف والتحف، حتى جعل يتصيد هو وهو، ثم عن للملك فعمل له طعاماً وبعث إلى موسى بن عبد الله بن خازم أن ائتني في مائة من أصحابك، فاختار موسى من جيشه مائة من شجعانهم، ثم دخل البلد فلما فرغت الضيافة اضطجع موسى في دار الملك وقال‏‏ والله لا أقوم من هنا حتى يكون هذا المنزل منزلي أو يكون قبري‏‏ فثار أهل القصر إليه فحاجف عنه أصحابه، ثم وقعت الحرب بينهم وبين أهل ترمذ، فاقتتلوا فقتل من أهل ترمذ خلق كثير وهرب بقيتهم، واستدعى موسى ببقية جيشه إليه واستحوذ موسى على البلد فحصنها ومنعها من الأعداء وخرج منها ملكها هارباً فلجأ إلى إخوانه من الأتراك فاستنصرهم فقالوا له‏‏ هؤلاء قوم نحو من مائة رجل أخرجوك من بلدك، لا طاقة لنا بقتال هؤلاء ثم ذهب ملك ترمذ إلى طائفة أخرى من الترك فاستصرخهم فبعثوا معه قصاداً نحو موسى ليسمعوا كلامه، فلما أحس بقدومهم - وكان ذلك في شدة الحر - أمر أصحابه أن يؤججوا ناراً ويلبسوا ثياب الشتاء ويدنوا أيديهم من النار كأنهم يصطلون، بها فلما وصلت إليهم الرسل رأوا أصحابه وما يصنعون في شدة الحر فقالوا لهم‏‏ ما هذا الذي نراكم تفعلون‏؟‏ فقالوا لهم‏‏ إنا نجد البرد في الصيف والكرب في الشتاء، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا‏‏ ما هؤلاء بشر، ما هؤلاء إلا جن ثم عادوا إلى ملكهم فأخبروه بما رأوا فقالوا‏‏ لا طاقة لنا بقتال هؤلاء‏.‏ ثم ذهب صاحب ترمذ فاستجاش بطائفة أخرى فجاؤوا فحاصرهم بترمذ وجاء الخزاعي فحاصرهم أيضاً، فجعل يقاتل الخزاعي أول النهار ويقاتل آخره العجم، ثم إن موسى بيتهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وأفزع ذلك عمر الخزاعي فصالحه وكان معه، فدخل يوماً عليه وليس عنده، أحد وليس يرى معه سلاحاً فقال له على وجه النصح‏‏ أصلح الله الأمير، إن مثلك لا ينبغي أن يكون بلا سلاح، فقال‏‏ إن عندي سلاحاً، ثم رفع صدر فراشه فإذا سيفه منتضى فأخذه عمرو فضربه به حتى برد وخرج هارباً، ثم تفرق أصحاب موسى بن عبد الله بن خازم‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة عزم عبد الملك على عزل أخيه عبد العزيز بن مروان عن إمرة الديار المصرية، وحسن له ذلك روح بن زنباع الجذامي، فبينما هما في ذلك إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب في الليل، وكان لا يحجب عنه في أي ساعة جاء من ليل أو نهار، فعزاه في أخيه عبد العزيز فندم على ما كان منه من العزم، على عزله وإنما حمله على إرادة عزله أنه أراد أن يعهد بالأمر من بعده لأولاده الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وذلك عن رأي الحجاج وترتيبه ذلك لعبد الملك، وكان أبوه مروان عهد بالأمر إلى عبد الملك ثم من بعده إلى عبد العزيز، فأراد عبد الملك أن ينحيه عن الأمرة من بعده بالكلية، ويجعل الأمر في أولاده وعقبه وأن تكون الخلافة باقية فيهم والله أعلم‏.‏

 عبد العزيز بن مروان

هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو الأصبغ القرشي الأموي ولد بالمدينة ثم دخل الشام مع أبيه مروان، وكان ولي عهده من بعد أخيه عبد الملك، وولاه أبوه إمرة الديار المصرية في سنة خمس وستين فكان والياً عليها إلى هذه السنة، وشهد قتل سعيد بن عمرو بن العاص كما قدمنا، وكانت له دار بدمشق وهي دار الصوفية، اليوم المعروفة بالخانقاه السميساطية ثم كانت من بعده لولده عمر بن عبد العزيز، ثم تنقلت إلى أن صارت خانقاها للصوفية‏.‏ وقد روي عبد العزيز بن مروان الحديث عن أبيه وعبد الله بن الزبير وعقبة بن عامر وأبي هريرة، وحديثه عنه في مسند أحمد وسنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏شر ما في الرجل جبن خالع وشح هالع‏‏‏‏‏.‏ وعنه ابنه عمر والزهري وعلي بن رباح وجماعة‏.‏ قال محمد بن سعد‏‏ كان ثقة قليل الحديث، وقال غيره‏‏ كان يلحن في الحديث وفي كلامه، ثم تعلم العربية فأتقنها وأحسنها فكان من أفصح الناس، وكان سبب ذلك أنه دخل عليه رجل يشكو ختنه -وهو زوج ابنته -فقال‏‏ له عبد العزيز من ختَنَك‏؟‏ فقال الرجل‏‏ ختني الخاتن الذي يختن الناس، فقال لكاتبه ويحك بماذا أجابني‏؟‏ فقال الكاتب‏‏ يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن تقول من خِتنُك، فآلى على نفسه أن لا يخرج من منزله حتى يتعلم العربية، فمكث جمعة واحدة فتعلمها فخرج وهو من أفصح الناس، ‏‏  ‏‏ وكان بعد ذلك يجزل عطاء من يعرب كلامه وينقص عطاء من يلحن فيه، فتسارع الناس في زمانه إلى تعلم العربية‏.‏

قال عبد العزيز يوماً إلى رجل‏‏ ممن أنت‏؟‏ قال‏‏ من بنو عبد الدار، فقال‏‏ تجدها في جائزتك، فنقصت جائزته مائة دينار‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏‏ حدثنا مجاهد بن موسى، ثنا إسحاق بن يوسف، أنبأنا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، قال‏‏ كتب عبد العزيز بن مروان إلى عبد الله بن عمر‏‏ ارفع إلي حاجتك‏.‏ فكتب إليه ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول‏‏‏‏‏.‏ ولست أسألك شيئاً ولا أرد رزقاً رزقنيه الله عز وجل منك‏.‏ وقال ابن وهب، حدثنا يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، قال‏‏ بعثني عبد العزيز بن مروان بألف دينار إلى ابن عمر قال‏‏ فجئت فدفعت إليه الكتاب فقال‏‏ أين المال‏؟‏ فقلت‏‏ لا أستطيعه الليلة حتى أصبح، قال‏‏ لا والله لا يبيت ابن عمر الليلة وله ألف دينار، قال‏‏ فدفع إلي الكتاب حتى جئته بها ففرقها رضي الله عنه‏.‏

ومن كلامه رحمه الله عجباً لمؤمن يؤمن ويوقن أن الله يرزقه ويخلف عليه، كيف يحبس مالاً عن عظيم أجر وحسن ثناء‏.‏

ولما حضرته الوفاء أحضر له مال يحصيه وإذا هو ثلاثمائة مد من ذهب، فقال‏‏ والله لوددت أنه بعر خائل بنجد، وقال‏‏ والله لوددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، لوددن أن أكون هذا الماء الجاري، أو نباتة بأرض الحجاز، وقال لهم‏‏ ائتوني بكفني الذي تكفنوني فيه، فجعل يقول‏‏ أف لك ما أقصر طويلك، وأقل كثيرك‏.‏

قال يعقوب بن سفيان، عن ابن بكير، عن الليث بن سعد، قال‏‏ كانت وفاته ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين، قال ابن عساكر‏‏ وهذا وهم من يعقوب بن سفيان والصواب سنة خمس وثمانين، فإنه مات قبل عبد الملك أخيه، ومات عبد الملك بعده بسنة سنة ست وثمانين‏.‏ وقد كان عبد العزيز بن مروان من خيار الأمراء كريماً جواداً ممدحاً، وهو والد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وقد اكتسى عمر أخلاق أبيه وزاد عليه بأمور كثيرة‏.‏ وكان لعبد العزيز من الأولاد غير عمر، عاصم وأبو بكر ومحمد والأصبغ - مات قبله بقليل فحزن عليه حزناً كثيراً ومرض بعده ومات - وسهيل وكان له عدة بنات، أم محمد وسهيل وأم عثمان وأم الحكم وأم البنين وهن من أمهات شتى، وله من الأولاد غير هؤلاء، مات بالمدينة التي بناها على مرحلة من مصر وحمل إلى مصر في النيل ودفن بها، وقد ترك عبد العزيز من الأموال والأثاث والدواب من الخيل والبغال والإبل وغير ذلك ما يعجز عنه الوصف من جملة ذلك ثلاثمائة مد من ذهب غير الورق، مع جوده وكرمه وبذله وعطاياه الجزيلة، فإنه كان من أعطى الناس للجزيل رحمه الله تعالى‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد ذكر ابن جرير أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز وهو بالديار المصرية يسأله أن ينزل عن العهد الذي له من بعده لولده الوليد أو يكون ولي العهد من بعده، فإنه أعز الخلق علي‏.‏ فكتب إليه عبد العزيز يقول‏‏ إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد‏.‏ فكتب إليه عبد الملك يأمره بحمل خراج مصر - وقد كان عبد العزيز لا يحمل إليه شيئاً من الخراج ولا غيره، وإنما كانت بلاد مصر بكمالها وبلاد المغرب وغير ذلك كلها لعبد العزيز، مغانمها وخراجها وحملها - فكتب عبد العزيز إلى عبد الملك‏‏ إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سناً لا يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً، فإن رأيت أن لا تعتب علي بقية عمري فافعل فرق له عبد الملك، وكتب إليه‏‏ لعمري لا أعتب عليك بقية عمرك‏.‏ وقال عبد الملك لابنه الوليد‏‏ إن يرد الله أن يعطيكها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك عنك، ثم قال لابنه الوليد وسليمان‏‏ هل قارفتما محرماً أو حراماً قط‏؟‏ فقالا‏‏ لا والله، فقال‏‏ الله أكبر نلتماها ورب الكعبة‏.‏ ويقال إن عبد الملك لما امتنع أخوه من إجابته إلى ما طلب منه في بيعته لولده الوليد دعا عليه، وقال‏‏ اللهم إنه قطعني فاقطعه، فمات في هذه السنة كما ذكرنا فلما جاءه الخبر بموت أخيه عبد العزيز ليلاً حزن وبكى وبكى أهله بكاء كثيراً على عبد العزيز ولكن سره ذلك من جهة ابنيه فإنه نال فيها ما كان يؤمله لهما من ولايته إياهما بعده‏.‏ وقد كان الحجاج بعث إلى عبد الملك يحسّن له ولاية الوليد ويزينها له من بعده، وأوفد إليه وفداً في ذلك عليهم عمران بن عصام العثري، فلما دخلوا عليه قام عمران خطيباً فتكلم وتكلم الوفد في ذلك وحثوا عبد الملك على ذلك وأنشد عمران بن عصام في ذلك‏‏

أمير المؤمنين إليك نهدي * على النأي التحية والسلاما

أجبني في بنيك يكن جوابي * لهم عادية ولنا قواما

فلو أن الوليد أطاع فيه * جعلت له الخلافة والذماما

شبيهك حول قبته قريش * به يستمطر الناس الغماما

ومثلك في التقى لم يصب يوماً * لدن خلع القلائد والتماما

فإن تؤثر أخاك بها فإنا * وجدك لا نطيق لها اتهاما ‏‏ ‏‏

ولكنا نحاذر من بنيه * بني العلات مأثرة سماما

ونخشى إن جعلت الملك فيهم * سحاباً أن تعود لهم جهاما

فلا يك ما حلبت غداً لقوم * وبعد غد بنوك هم العياما

فأقسم لو تخطاني عصام * بذلك ما عذرت به عصاما

ولو أني حبوت أخاً بفضلٍ * أريد به المقالة والمقاما

لعقَّب في بنيَّ على بنيه * كذلك أو لرمت له مراما

فمن يك في أقاربه صدوع * فصدع الملك أبطؤه التئاما

قال فهاجه ذلك على أن كتب لأخيه يستنزله عن الخلافة للوليد فأبى عليه، وقدر الله سبحانه موت عبد العزيز قبل موت عبد الملك بعام واحد، فتمكن حينئذ مما أراد من بيعة الوليد وسليمان، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

بيعة عبد الملك لولده الوليد ثم من بعده لولده سليمان

وكان ذلك في هذه السنة بعد موت عبد العزيز بن مروان، بويع له بدمشق ثم في سائر الأقاليم ثم لسليمان من بعده، ثم لما انتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع في حياة عبد الملك لأحد، فأمر به هشام بن إسماعيل نائب المدينة فضربه ستين سوطاً، وألبسه ثياباً من شعر وأركبه جملاً وطاف به في المدينة، ثم أمر به فذهبوا به إلى ثنية ذباب - وهي الثنية التي كانوا يصلون عندها ويقيلون - فلما وصلوا إليها ردوه إلى المدينة فأودعوه السجن، فقال لهم‏‏ والله لو أعلم أنكم لا تقتلوني لم ألبس هذه الثياب‏.‏ ثم كتب هشام بن إسماعيل المخزومي إلى عبد الملك يعلمه بمخالفة سعيد في ذلك، فكتب إليه يعنفه في ذلك ويأمره بإخراجه ويقول له‏‏ إن سعيداً كان أحق منك بصلة الرحم مما فعلت به، وإنا لنعلم أن سعيداً ليس عنده شقاق ولا خلاف، ويروى أنه قال له‏‏ ما ينبغي إلا أن يبايع، فإن لم يبايع ضربت عنقه أو خليت سبيله‏.‏ وذكر الواقدي أن سعيداً لما جاءت بيعة الوليد امتنع من البيعة فضربه نائبها في ذلك الوقت - وهو جابر بن الأسود بن عوف -ستين سوطاً أيضاً وسجنه، فالله أعلم‏.‏

قال أبو مخنف وأبو معشر والواقدي‏‏ وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي نائب المدينة، وكان على العراق والمشرق بكماله الحجاج، قال شيخنا الحافظ الذهبي‏‏

 وتوفي في هذه السنة‏‏

 أبان بن عثمان بن عفان

أمير المدينة، كان من فقهاء المدينة العشرة، قاله يحيى بن القطان‏.‏ ‏‏ ‏‏ وقال محمد بن سعد‏‏ كان ثقة وكان به صمم ووضح كثير، وأصابه الفالج قبل أن يموت‏.‏

عبد الله بن عامر

بن ربيعة‏.‏

عمرو بن حريث‏.‏

عمرو بن سلمة‏.‏

واثلة بن الأسقع‏.‏ شهد واثلة تبوك ثم شهد فتح دمشق ونزلها، ومسجده بها عند حبس باب الصغير من القبلة‏.‏ قلت‏‏ وقد احترق مسجده في فتنة تمرلنك ولم يبق منه إلا رسومه، وعلى بابه من الشرق قناة ماء‏.‏

 خالد بن يزيد

بن معاوية ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، كان أعلم قريش بفنون العلم، وله يد طولى في الطب، وكلام كثير في الكيمياء، وكان قد استفاد ذلك من راهب اسمه مريانش، وكان خالد فصيحاً بليغاً شاعراً منطقياً كأبيه، دخل يوماً على عبد الملك بن مروان بحضرة الحكم بن أبي العاص، فشكى إليه أن ابنه الوليد يحتقر أخاه عبد الله بن يزيد، فقال عبد الملك‏‏ ‏{‏إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏‏ ‏]‏‏.‏

فقال له خالد‏‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏‏ ‏]‏‏.‏

فقال عبد الملك‏‏ والله لقد دخل علي أخوك عبد الله فإذا هو لا يقيم اللحن، فقال خالد‏‏ والوليد لا يقيم اللحن، فقال عبد الملك‏‏ إن أخاه سليمان لا يلحن، فقال خالد‏‏ وأنا أخو عبد الله لا ألحن، فقال الوليد -وكان حاضراً - لخالد بن يزيد‏‏ اسكت فوالله ما تعد في العير ولا في النفير‏.‏

فقال خالد‏‏ اسمع يا أمير المؤمنين ‏!‏ ثم أقبل خالد على الوليد‏.‏

فقال‏‏ ويحك وما هو العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات وجبيلات والطائف، ورحم الله عثمان، لقلنا صدقت - يعني أن الحكم كان منفياً بالطائف يرعى غنماً ويأوي إلى جبلة الكرم حتى آواه عثمان بن عفان حين ولي - فسكت الوليد وأبوه ولم يحيرا جواباً، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثمانين

ففيها غزا قتيبة بن مسلم نائب الحجاج على مرو وخراسان، بلاداً كثيرة من أرض الترك وغيرهم من الكفار، وسبى وغنم وسلم وتسلم قلاعاً وحصوناً وممالك، ثم قفل فسبق الجيش، فكتب إليه الحجاج يلومه على ذلك، ويقول له‏‏ إذا كنت قاصداً بلاد العدو فكن في مقدمة الجيش، وإذا قفلت راجعاً فكن في ساقة الجيش - يعني لتكون ردءاً لهم من أن ينالهم أحد من العدو وغيرهم بكيد - وهذا رأي حسن وعليه جاءت السنة، وكان في السبي امرأة برمك - والد خالد بن برمك -جمح فيقول‏‏ أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حناناً‏.‏ ‏‏ ‏‏

قلت‏‏ قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول‏‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏‏ ‏]‏ فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب وفيه نظر‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود فأعتقه وأراحه من العذاب وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والإماء، منهم‏‏ بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما‏‏ والله لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر‏‏ حل يا أم فلان، فقالت‏‏ حل أنت أفسدتهما فأعتقهما، فقال‏‏ بكم هما‏؟‏ قالت‏‏ بكذا وكذا‏.‏

قال‏‏ قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا لها طحينها‏.‏ قالتا‏‏ أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها‏؟‏

قال‏‏ أو ذلك إن شئتما‏.‏

واشترى جارية بني مؤمل - حي من بين عدي - كان عمر يضربها على الإسلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏‏ فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله‏.‏ قال‏‏ قال أبو قحافة لابنه أبي بكر‏‏ يا بني إني أراك تعتق ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداء يمنعونك ويقومون دونك‏؟‏ قال‏‏ فقال أبو بكر‏‏ يا أبت إني إنما أريد ما أريد‏.‏

قال‏‏ فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه‏‏ {‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏‏ -‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود، قال‏‏ أول من أظهر الإسلام سبعة‏‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد‏.‏

فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول‏‏ أحد أحد‏.‏

ورواه الثوري، عن منصور، عن مجاهد مرسلاً‏.‏

‏‏‏وكان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ست وعشرين، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء الملازمين للمسجد التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر‏.‏ وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، فربما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب، ولهذا كان يقال له أبو الذباب‏.‏ وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن، مقرون الحاجبين أشهل كبير العينين دقيق الأنف مشرق الوجه أبيض الرأس واللحية حسن الوجه لم يخضب، ويقال إنه خضب بعد‏.‏ وقد قال نافع لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان، وقال الأعمش، عن أبي الزناد‏‏ كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذويب، وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل في الإمارة‏.‏

وعن ابن عمر أنه قال‏‏ ولد الناس أبناء وولد مروان أبا - يعني عبد الملك - ورآه يوماً وقد ذكر اختلاف الناس، فقال‏‏ لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه، وقال عبد الملك‏‏ كنت أجالس بريدة بن الحصيب، فقال لي يوماً‏‏ يا عبد الملك إن فيك خصالاً، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة، فاحذر الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏‏ ‏‏‏‏إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق‏‏‏‏‏.‏

وقد أثنى عليه قبل الولاية معاوية وعمرو بن العاص في قصة طويلة‏.‏

وقال سعيد بن داود الزبيري، عن مالك، عن يحيى بن سعيد بن داود الزبيري قال‏‏ كان أول من صلى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه، فقال سعيد بن المسيب‏‏ ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله والورع عن محارم الله‏.‏

وقال الشعبي‏‏ ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني منه، ولا شعراً إلا زادني فيه‏.‏

وذكر خليفة بن خياط أن معاوية كتب إلى مروان وهو نائبه على المدينة سنة خمسين أن ابعث ابنك عبد الملك على بعث المدينة إلى بلاد المغرب مع معاوية بن خديج، فذكر من كفايته وغنائه ومجاهدته في تلك البلاد شيئاً كثيراً‏.‏

ولم يزل عبد الملك مقيماً بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة، واستولى ابن الزبير على بلاد الحجاز، وأجلى بني أمية من هنالك، فقدم مع أبيه الشام، ثم لما صارت الإمارة مع أبيه وبايعه أهل الشام كما تقدم أقام في الإمارة تسعة أشهر ثم عهد إليه بالإمارة من بعده فاستقل عبد الملك بالخلافة في مستهل رمضان أو ربيع الأول من سنة خمس و ستين، واجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين في جمادى الأولى إلى هذه السنة‏.‏

وقال ثعلب، عن ابن الأعرابي لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف فأطبقه وقال‏‏ هذا فارق بيني وبينك‏.‏

وقال أبو الطفيل‏‏ صنع لعبد الملك مجلس توسع فيه، وقد كان بنى له فيه قبة قبل ذلك، فدخله وقال‏‏ لقد كان حثمة الأحوازي - يعني عمر بن الخطاب - يرى أن هذا عليه حرام، وقيل أنه لما وضع المصحف من حجره قال‏‏ هذا آخر العهد منك‏.‏

وكان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء، وكان حازماً فهماً فطناً سائساً لأمور الدنيا، لا يكل أمر دنياه إلى غيره وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبوها معاوية هو الذي جدع أنف حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقال سعيد بن عبد العزيز‏‏ لما خرج عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير خرج معه يزيد بن الأسود الجرشي، فلما التقوا قال‏‏ اللهم احجز بين هذين الجبلين وولِ الأمر أحبهما إليك‏.‏ فظفر عبد الملك - وقد كان مصعب من أعز الناس على عبد الملك - وقد ذكرنا كيفية قتله مصعباً‏.‏

وقال سعيد بن عبد العزيز‏‏ لما بويع لعبد الملك بالخلافة كتب إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عمر إلى عبد الملك أمير المؤمنين ‏!‏سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنك راع وكل راع مسؤول عن رعيته ‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏‏ ‏]‏ لا أحد والسلام‏.‏ وبعث به مع سلام فوجدوا عليه إذ قدم اسمه على اسم أمير المؤمنين، ثم نظروا في كتبه إلى معاوية فوجدوها كذلك، فاحتملوا ذلك منه‏.‏

وقال الواقدي‏‏ حدثني ابن أبي ميسرة، عن أبي موسى الخياط، عن أبي كعب، قال‏‏ سمعت عبد الملك بن مروان، يقول‏‏ يا أهل المدينة أنا أحق الناس أن يلزم الأمر الأول، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق ولا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الإمام المظلوم، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه الله، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله، فأحكما ما أحكما، واستقصيا ما شذ عنهما‏.‏

وقال ابن جريج عن أبيه‏‏ حج علينا عبد الملك سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين، فخطبنا فقال‏‏ أما بعد فإنه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون من المال ويوكلون، وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، ولست بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن معاوية - ‏‏ ‏‏ أيها الناس إنا نحتمل منكم كل الغرمة ما لم يكن عقد راية أو وثوب على منبر‏‏ هذا عمرو بن سعيد حقه حقه، قرابته وابنه، قال برأسه هكذا فقلنا بسيفنا هكذا، وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهداً أن لا أضعها في رأس أحد إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب‏.‏

وقال الأصمعي، ثنا عباد بن سلم بن عثمان بن زياد، عن، أبيه، عن جده، قال‏‏ ركب عبد الملك بن مروان بكراً فأنشأ قائده يقول‏‏

يا أيها البكر الذي أراكا * عليك سهل الأرض في ممشاكا

ويحك هل تعلم من علاكا * خليفة الله الذي امتطاكا

لم يحب بكراً مثل ما حباكا *

فلما سمعه عبد الملك قال‏‏ أيها يا هناه، قد أمرت لك بعشرة آلاف‏.‏

وقال الأصمعي خطب عبد الملك فحصر فقال‏‏ إن اللسان بضعة من الإنسان، وإنا نسكت حصراً ولا ننطق هذراً، ونحن أمراء الكلام، فينا رسخت عروقه، وعلينا تدلت أغصانه، وبعد مقامنا هذا مقام، وبعد عينا هذا مقال، وبعد يومنا هذا أيام، يعرف فيها فصل الخطاب وموضع الصواب‏.‏

قال الأصمعي‏‏ قيل لعبد الملك أسرع إليك الشيب، فقال‏‏ وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين‏؟‏ وقال غيره‏‏ قيل لعبد الملك‏‏ أسرع إليك الشيب، فقال‏‏ وتنسى ارتقاء المنبر ومخافة اللحن‏؟‏ ولحن رجل عند عبد الملك - يعني أسقط من كلامه ألفاً - فقال له عبد الملك‏‏ زد ألف فقال الرجل‏‏ وأنت فزد ألفاً، وقال الزهري‏‏ سمعت عبد الملك يقول في خطبته‏‏ إن العلم سيقبض قبضاً سريعاً، فمن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه ولا جاف عنه، وروى ابن أبي الدنيا أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره‏‏ إذا رفعت له شجرة، سبحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة، كبروا بنا حتى نأتي تلك الحجرة، ونحو ذلك‏.‏

وروى البيهقي أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك فقال‏‏ إنه كان عليه اسم الله عز وجل‏.‏

وقال غير واحد‏‏ كان عبد الملك إذا جلس للقضاء بين الناس يقوم السيافون على رأسه بالسيف فينشد، وقال بعضهم يأمر من ينشد فيقول‏‏

إنا إذا نالت دواعي الهوى * وأنصت السامع للقائل ‏‏ ‏‏

واصطرع الناس بألبابهم * نقضي بحكم عادل فاصل

لا نجعل الباطل حقاً ولا * نلفظ دون الحق بالباطل

نخاف أن تسفه أحلامنا * فنجهل الحق مع الجاهل

وقال الأعمش‏‏ أخبرني محمد بن الزبير‏‏ أن أنس بن مالك كتب إلى عبد الملك يشكو الحجاج ويقول في كتابه‏‏ لو أن رجلاً خدم عيسى بن مريم أو رآه أو صحبه تعرفه النصارى أو تعرف مكانه لهاجرت إليه ملوكهم، ولنزل من قلوبهم بالمنزلة العظيمة، ولعرفوا له ذلك، ولو أن رجلاً خدم موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير ذلك ما استطاعوا، وإني خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ورأيته وأكلت معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداءه، وإن الحجاج قد أضر بي وفعل وفعل، قال‏‏ أخبرني من شهد عبد الملك يقرأ الكتاب وهو يبكي وبلغ به الغضب ما شاء الله، ثم كتب إلى الحجاج بكتاب غليظ، فجاء إلى الحجاج فقرأه فتغير ثم قال إلى حامل الكتاب‏‏ انطلق بنا إليه نترضّاه‏.‏

وقال أبو بكر بن دريد‏‏ كتب عبد الملك إلى الحجاج في أيام ابن الأشعث‏‏ إنك أعز ما تكون بالله أحوج ما تكون إليه، وأذل ما تكون للمخلوق أحوج ما تكون إليهم، وإذا عززت بالله فاعف له، فإنك به تعز وإليه ترجع‏.‏

قال بعضهم‏‏ سأل رجل من عبد الملك أن يخلو به فأمر من عنده بالانصراف، فلما خلا به وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك‏‏ احذر في كلامك ثلاثاً إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى إلي بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وإن شئت أقلتك‏.‏ فقال الرجل‏‏ أقلني فأقاله‏.‏ وكذا كان يقول للرسول إذا قدم عليه من الآفاق‏‏ اعفني من أربع وقل ما شئت، لا تطرني، ولا تجبني فيما لا أسألك عنه، ولا تكذبني، ولا تحملني على الرعية فإنهم إلى رأفتي ومعدلتي أحوج‏.‏

وقال الأصمعي، عن أبيه، قال‏‏ أتى عبد الملك برجل كان مع بعض من خرج عليه فقال‏‏ اضربوا عنقه، فقال‏‏ يا أمير المؤمنين ما كان هذا جزائي منك، فقال‏‏ وما جزاؤك‏؟‏ فقال‏‏ والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك، وذلك أني رجل مشؤوم ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادعيت، وكنت عليك خيراً من مائة ألف معك تنصحك، لقد كنت مع فلان فكسر وهزم وتفرق جمعه، وكنت مع فلان فقتل، وكنت مع فلان فهزم - حتى عد جماعة من الأمراء - فضحك وخلى سبيله‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقيل لعبد الملك‏‏ أي الرجال أفضل‏؟‏ قال‏‏ من تواضع عن رفعة وزهد عن قدرة، وترك النصرة عن قوة‏.‏

وقال أيضاً‏‏ لا طمأنينة قبل الخبرة، فإن الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم‏.‏

وقال‏‏ خير المال ما أفاد حمداً ودفع ذماً، ولا يقولن أحدكم ابدأ بمن تعول، فإن الخلق كلهم عيال الله، وينبغي أن يحمل هذا على غير ما ثبت به الحديث‏.‏

وقال المدائني‏‏ قال عبد الملك لمؤدب أولاده - وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر -‏‏ علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رغبة في الخير وأقلهم أدباً، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، واحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضاً، ويمصوا الماء مصاً، ولا يعبوا عباً، وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بأدب فليكن ذلك في سر لا يعلم بهم أحد من الغاشية فيهونوا عليهم‏.‏

وقال الهيثم بن عدي‏‏ أذن عبد الملك للناس في الدخول عليه إذناً خاصاً، فدخل شيخ رث الهيئة لم يأبه له الحرس، فألقى بين يدي عبد الملك صحيفة وخرج فلم يدر أين ذهب، وإذا فيها‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها الإنسان إن الله قد جعلك بينه وبين عباده فاحكم بينهم ‏{‏بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏‏ ‏]‏‏.‏

{‏أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏} ‏[‏المطففين‏‏ -‏]‏‏.‏

{‏ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏‏ ‏]‏‏.‏

{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ‏} ‏[‏هود‏‏ ‏]‏ إن اليوم الذي أنت فيه لو بقي لغيرك ما وصل إليك، ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا‏}‏ ‏[‏النمل‏‏ ‏]‏ وإني أحذرك يوم ينادي المنادي ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ‏} ‏[‏الصافات‏‏ ‏]‏‏.‏

{‏أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏} ‏[‏هود‏‏ ‏]‏ قال فتغير وجه عبد الملك فدخل دار حرمه ولم تزل الكآبة في وجهه بعد ذلك أياما‏.‏

وكتب زر بن حبيش إلى عبد الملك كتاباً وفي آخره‏‏ ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في، طول البقاء ما يظهر لك في صحتك فأنت أعلم بنفسك واذكر ما تكلم به الأولون‏‏

إذا الرجال ولدت أولادها * وبليت من كبر أجسادها

وجعلت أسقامها تعتادها * تلك زروع قد دنا حصادها فلما قرأه عبد الملك بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال‏‏ صدق زر، ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق‏.‏

وسمع عبد الملك جماعة من أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب فقال‏‏ أنهى عن ذكر عمر فإنه مرارة للأمراء مفسدة للرعية‏.‏

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى القباني، عن أبيه، عن جده، قال‏‏ كان عبد الملك يجلس في حلقة أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق، فقالت له‏‏ بلغني أنك شربت الطلا بعد العبادة والنسك، فقال‏‏ أي والله والدما أيضاً قد شربتها‏.‏ ثم جاءه غلام كان قد بعثه في حاجة فقال‏‏ ما حبسك لعنك الله‏؟‏ فقالت أم الدرداء‏‏ لا تفعل يا أمير المؤمنين فإني سمعت أبا الدرداء يقول‏‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏‏ ‏‏‏‏لا يدخل الجنة لعان‏‏‏‏‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، ثنا الحسين بن عبد الرحمن، قال‏‏ قيل لسعيد بن المسيب‏‏ إن عبد الملك بن مروان قال‏‏ قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال سعيد‏‏ الآن تكامل موت قلبه‏.‏

وقال الأصمعي، عن أبيه، عن جده، قال‏‏ خطب عبد الملك يوماً خطبةً بليغةً ثم قطعها وبكى بكاء شديداً ثم قال‏‏ يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي‏.‏ قال فبلغ ذلك الحسن فبكى وقال‏‏ لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام، وقد روى عن غير واحد نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن‏.‏

وقال مسهر الدمشقي‏‏ وضع سماط عبد الملك يوماً بين يديه فقال لحاجبه ائذن لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال‏‏ مات يا أمير المؤمنين، قال‏‏ فلأبيه عبد الله بن خالد بن أسيد، قال‏‏ مات، قال‏‏ فلخالد بن يزيد بن معاوية، قال‏‏ مات، قال‏‏ فلفلان وفلان - حتى عد أقواماً قد ماتوا وهو يعلم ذلك قبلنا - فأمر برفع السماط وأنشأ يقول‏‏

ذهبت لداتي وانقضت أيامهم * وغبرت بعدهم ولست بخالد

وقيل‏‏ إنه لما احتضر دخل عليه ابنه الوليد فبكى فقال له‏‏ عبد الملك ما هذا أتحن حنين الجارية والأمة، إذا أنا مت فشمر واتزر والبس جلد النمر، وضع الأمور عند أقرانها، واحذر قريشاً‏.‏ ثم قال له‏‏ يا وليد اتق الله فيما أستخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وانظر إلى أخي معاوية فصل رحمه واحفظني فيه، وانظر إلى أخي محمد فأمره على الجزيرة ولا تعزله عنها، وانظر إلى ابن عمنا علي بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته وله نسب وحق فصل رحمه واعرف حقه، وانظر إلى الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي مهد لك البلاد وقهر الأعداء وخلص لكم الملك وشتت الخوارج، وأنهاك وإخوتك عن الفرقة وكونوا أولاد أم واحدة، وكونوا في الحرب أحراراً، وللمعروف مناراً، فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه ويميل القلوب بالمحبة، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل، ولله در القائل‏‏

إن الأمور إذا اجتمعن فرامها * بالكسر ذو حنق وبطش مفند

عزت فلم تكسر وإن هي بدِّدت * فالكسر والتوهين للمتبدد ‏‏ ‏‏

ثم قال‏‏ إذا أنا مت فادع الناس إلى بيعتك فمن أبى فالسيف، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فأكرمهن وأحبهن إليَّ - فاطمة وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة - ثم قال‏‏ اللهم احفظني فيها‏.‏ فتزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها‏.‏

ولما احتضر سمع غسالاً يغسل الثياب فقال‏‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏‏ غسال، فقال‏‏ يا ليتني كنت غسالاً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم، ولم أل الخلافة‏.‏ ثم تمثل فقال‏‏

لعمري لقد عمرت في الملك برهةً * ودانت لي الدنيا بوقع البواتر

وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر

فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحلم مضى في المزمنات الغوابر

فيا ليتني لم أعن بالملك ليلةً * ولم أسع في لذات عيش نواضر

وقد أنشد هذه الأبيات معاوية بن أبي سفيان عند موته‏.‏

وقال أبو مسهر‏‏ قيل لعبد الملك في مرض موته‏‏ كيف تجدك‏؟‏ فقال‏‏ أجدني كما قال الله تعالى‏‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏‏.‏ وقال سعيد بن عبد العزيز‏‏ لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من قصره، فلما فتحت سمع قصاراً بالوادي فقال‏‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏‏ قصار، فقال‏‏ يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله قال‏‏ الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم‏.‏ وقال لما حضره الموت جعل يندم ويندب ويضرب بيده على رأسه ويقول‏‏ وددت أني اكتسبت قوتي يوماً بيوم واشتغلت بعبادة ربي عز وجل وطاعته‏.‏ وقال غيره‏‏ لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم ثم قال‏‏ الحمد لله الذي لا يسأل أحداً من خلقه صغيراً أو كبيراً ثم ينشد‏‏

فهل من خالد إما هلكنا * وهل بالموت للباقين غارُ

ويروي أنه قال‏‏ ارفعوني، فرفعوه حتى شم الهواء وقال‏‏ يا دنيا ما أطيبك ‏!‏ إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإنا كنا بك لفي غرور، ثم تمثل بهذين البيتين‏‏ ‏‏ ‏‏

إن تناقش يكن نقاشك يا رب ُّ* عذاباً لا طوق لي بالعذابِ

أو تجاوز فأنت رب صفوحٌ * عن مسيء ذنوبه كالترابِ

قالوا‏‏ وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة وقيل يوم الأربعاء وقيل الخميس، في النصف من شوال سنة ست وثمانين، وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده، وكان عمره يوم مات ستين سنة‏.‏ قاله أبو معشر وصححه الواقدي، وقيل ثلاثاً وستين سنة‏.‏ قاله المدائني، وقيل ثماني وخمسين‏.‏ ودفن بباب الجابية الصغير، قال ابن جرير‏‏ ذكر أولاده وأزواجه منهم الوليد وسليمان ومروان الأكبر درج وعائشة، وأمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض، ويزيد ومروان الأصغر ومعاوية درج وأم كلثوم وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهشام وأمه أم هشام عائشة - فيما قاله المدائني - بنت هشام بن إسماعيل المخزومي وأبو بكر واسمه بكار وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، والحكم درج وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان الأموي، وفاطمة وأمها المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي‏.‏ وعبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعد الخير والحجاج لأمهات أولاد شتى فكان جملة أولاده تسعة عشر ذكوراً وإناثاً‏.‏

وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة، منها تسع سنين مشاركاً لابن الزبير وثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصف مستقلاً بالخلافة وحده‏.‏

وكان قاضيه أبو إدريس الخولاني، وكاتبه روح بن زنباع، وحاجبه يوسف مولاه، وصاحب بيت المال والخاتم قبيصة بن ذؤيب، وعلى شرطته أبو الزعيزعة، وقد ذكرنا عماله فيما مضى‏.‏

قال المدائني‏‏ وكان له زوجات أخر‏‏ شقراء بنت سلمة بن حلبس الطائي، وابنة لعلي بن أبي طالب، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر‏.‏

 وممن يذكر أنه توفي في هذه السنة تقريباً‏‏

 أرطأة بن زفر

ابن عبد الله بن مالك بن شداد بن ضمرة بن غقعان بن أبي حارثة بن مرة بن شبة بن نميط بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان الوليد المري، ويعرف بابن شهبة، وهي أمه بنت رامل بن مروان بن زهير بن ثعلبة بن خديج بن جشم بن كعب بن عون بن عامر بن عوف - سبية من كلب - وكانت عند ضرار بن الأزور، ثم صارت إلى زفر وهي حامل فأتت بأرطاة على فراشه، ‏‏ ‏‏ وقد عمر أرطاة دهراً طويلاً حتى جاوز المائة بثلاثين سنة وقد كان سيداً شريفاً مطاعاً ممدحاً شاعراً مطبقاً قال المدائني‏‏ ويقال إن بني غقعان بن حنظلة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث دخلوا في بني مرة بن شبة فقالوا بني غقعان بن أبي حارثة بن مرة‏.‏ وقد وفد أبو الوليد أرطاة بن زفر هذا على عبد الملك فأنشده أبياتاً‏‏

رأيت المرء تأكله الليالي * كأكل الأرض ساقطة الحديدِ

وما تبقى المنية حين تأتي * على نفس ابن آدم من مزيدِ

وأعلم أنها ستكرُّ حتى * توفي نذرها بأبي الوليدِ

قال‏‏ فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه بذلك فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إنما عنيت نفسي، فقال عبد الملك‏‏ وأنا والله سيمر بي ما الذي يمر بك وزاد بعضهم في هذه الأبيات‏‏

خلقنا أنفساً وبني نفوسٍ * ولسنا بالسلام ولا الحديد

لئن أفجعت بالقُرناء يوماً * لقد متعت بالأمل البعيد

وهو القائل‏‏

وإني لقوام لدى الضيف موهناً * إذا أسبل الستر البخيل المواكلُ

دعا فأجابته كلابٌ كثيرةٌ * على ثقة مني بأني فاعلُ

وما دون ضيفي من تلادٍ تحوزه * لي النفس إلا أن تصان الحلائلُ

 مطرف بن عبد الله بن الشخير

كان من كبار التابعين وكان من أصحاب عمران بن حصين، وكان مجاب الدعوة وكان يقول‏‏ ما أوتي أحد أفضل من العقل وعقول الناس على قدر زمانهم‏.‏ وقال‏‏ إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله هذا عبدي حقاً‏.‏ وقال‏‏ إذا دخلتم على مريض فإن استطعتم أن يدعو لكم فإنه قد حرك - أي قد أوقظ من غفلته بسبب مرضه - فدعاؤه مستجاب من أجل كسره ورقة قلبه‏.‏ وقال‏‏ إن أقبح ما طلبت به الدنيا عمل الآخرة‏.‏

 خلافة الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق

لما رجع من دفن أبيه خارج باب الجابية الصغير - وكان ذلك في يوم الخميس وقيل الجمعة للنصف من شوال من هذه السنة - لم يدخل المنزل حتى صعد المنبر - منبر المسجد الأعظم بدمشق فخطب الناس فكان مما قال‏‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا في أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا‏.‏ فكان أول من قام إليه عبد الله بن همام السلولي وهو يقول‏‏ ‏‏ ‏‏

الله أعطاك التي لا فوقها * وقد أراد الملحدون عوقها

عنك ويأبى الله إلا سوقها * إليك حتى قلدوك طوقها

ثم بايعه وبايع الناس بعده‏.‏ وذكر الواقدي أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏‏ أيها الناس إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابقته ما كتبه على أنبيائه وحملة عرشه وملائكته الموت، وقد صار إلى منازل الأبرار بما لاقاه في هذه الأمة - يعني بالذي يحق لله عليه - من الشدة على المريب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وإعلائه من حج هذا البيت وغزو هذه الثغور وشن هذه الغارات على أعداء الله عز وجل فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً، أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه‏.‏

ثم نزل فنظر ما كان من دواب الخلافة فحازها‏.‏ وكان جباراً عنيداً‏.‏ وقد ورد في ولاية الوليد حديث غريب، وإنما هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سيأتي، وكما تقدم تقريره في دلائل النبوة في باب الأخبار عن الغيوب المستقبلة، فيما يتعلق بدولة بني أمية، وأما الوليد بن عبد الملك هذا فقد كان صيناً في نفسه حازماً في رأيه، يقال إنه لا تعرف له صبوة، ومن جملة محاسنة ما صح عنه أنه قال‏‏ لولا أن الله قص لنا قصة قوم لوط في كتابه ما ظننا أن ذكراً كان يأتي ذكراً كما تؤتى النساء، كما سيأتي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته، وهو باني مسجد جامع دمشق الذي لا يعرف في الآفاق أحسن بناء منه، وقد شرع في بنائه في ذا القعدة من هذه السنة، فلم يزل في بنائه وتحسينه مدة خلافته وهي عشر سنين، فلما أنهاه انتهت أيام خلافته كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً‏.‏ وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يقال لها كنيسة يوحنا، فلما فتحت الصحابة دمشق جعلوها مناصفة، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجداً، وبقى الجانب الغربي كنيسة بحاله من لدن سنة أربع عشرة إلى هذه السنة، فعزم الوليد على أخذ بقية الكنيسة منهم وعوضهم عنها كنيسة مريم لدخولها في جانب السيف، وقيل عوضهم عنها كنيسة توما، وهدم بقية هذه الكنيسة وأضافها إلى مسجد الصحابة، وجعل الجميع مسجداً واحداً على هيئة بديعة لا يعرف كثير من الناس أو أكثرهم لها نظيراً في البنيان والزينات والآثار والعمارات، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين

ففيها عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن إمرة المدينة وولي عليها ابن عمه وزوج أخته فاطمة بنت عبد الملك عمر بن عبد العزيز، فدخلها على ثلاثين بعيراً في ربيع الأول منها، فنزل دار مروان وجاء الناس للسلام عليه، ‏‏ ‏‏ وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏‏ إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرِّج على من بلغه ذلك إلا أبلغني‏.‏ فخرجوا من عنده يجزونه خيراً، وافترقوا على ذلك‏.‏ وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بأن يوقف هشام بن إسماعيل للناس عند دار مروان - وكان يسيء الرأي فيه - لأنه أساء إلى أهل المدينة في مدة ولايته عليهم، وكانت نحواً من أربع سنين ولا سيما إلى سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين‏.‏ قال سعيد بن المسيب لابنه ومواليه‏‏ لا يعرض منكم أحد لهذا الرجل فيَّ، تركت ذلك لله وللرحم‏.‏ وأما كلامه فلا أكلمه أبداً، وأما علي بن الحسين فإنه مر به وهو موقوف فلم يتعرض له وكان قد تقدم إلى خاصته أن لا يعرض أحد منهم له، فلما اجتاز به وتجاوزه ناداه هشام ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏‏.‏

وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وفتح حصوناً كثيرة وغنم غنائم جمة، ويقال إن الذي غزا بلاد الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق، وحصن الأخرم، وبحيرة الفرمسان، وحصن بولس، وقميقم، وقتل من المستعربة نحواً من ألف وسبى ذراريهم‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الترك وصالحه ملكهم نيزك على مال جزيل، وعلى أن يطلق كل من ببلاده من أسارى المسلمين‏.‏

وفيها غزا قتيبة بيكند فاجتمع له من الأتراك، عندها بشر كثير وجم غفير وهي من أعمال بخارى، فلما نزل بأرضهم استنجدوا عليه بأهل الصغد ومن حولهم من الأتراك، فأتوهم في جمع عظيم فأخذوا على قتيبة الطرق والمضايق، فتواقف هو وهم قريباً من شهرين وهو لا يقدر أن يبعث إليهم رسولاً ولا يأتيه منهم رسول وأبطأ خبره على الحجاج حتى خاف عليه وأشفق على من معه من المسلمين من كثرة الأعداء من الترك، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وكتب بذلك إلى الأمصار‏.‏

وقد كان قتيبة ومن معه من المسلمين يقتتلون مع الترك في كل يوم، وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تنذر، فأعطاه أهل بخارى مالاً جزيلاً على أن يأتي قتيبة فيخذله عنهم، فجاء إليه فقال له‏‏ أخلني فأخلاه فلم يبق عنده سوى رجل يقال له ضرار بن حصين، فقال له تندر‏‏ هذا عامل يقدم عليك سريعاً بعزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو، فقال قتيبة لمولاه سياه اضرب عنقه فقتله‏.‏ ‏‏ ‏‏

ثم قال لضرار‏‏ لم يبق أحد سمع هذا غيري وغيرك وإني أعطي الله عهدا إن ظهر هذا حتى ينقضي حربنا ألحقتك به،فاملك علينا لسانك، فإن انتشار هذا في مثل هذا الحال ضعف في أعضاد الناس ونصرة للأعداء، ثم نهض قتيبة فحرض الناس على الحرب، ووقف على أصحاب الرايات يحرضهم، فاقتتل الناس قتالاً شديداً ثم أنزل الله على المسلمين الصبر فما انتصف النهار حتى أنزل الله عليهم النصر فهزمت الترك هزيمة عظيمة، واتبعهم المسلمون يقتلون فيهم ويأسرون ما شاؤوا، واعتصم من بقي منهم بالمدينة‏.‏

فأمر قتيبة الفعلة بهدمها فسألوه الصلح على مال عظيم فصالحهم، وجعل عليهم رجلاً من أهله وعنده طائفة من الجيش ثم سار راجعاً، فلما كان منهم على خمس مراحل نقضوا العهد وقتلوا الأمير وجدعوا أنوف من كان معه‏.‏

فرجع إليها وحاصرها شهراً‏.‏ وأمر النقابين والفعلة فعلقوا سورها على الخشب وهو يريد أن يضرم النهار فيها، فسقط السور فقتل من الفعلة أربعين نفساً، فسألوه الصلح فأبى، ولم يزل حتى افتتحها فقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم الأموال، وكان الذي ألب على المسلمين رجل أعور منهم‏.‏

فأسر فقال‏‏ أنا أفتدي نفسي بخمسة آلاف أثواب صينية قيمتها ألف ألف، فأشار الأمراء على قتيبة بقبول ذلك منه‏.‏

فقال قتيبة‏‏ لا والله لا أروع بك مسلماً مرة ثانية، وأمر به فضربت عنقه‏.‏ وهذا من الزهد في الدنيا، ثم إن الغنائم سيدخل فيها ما أراد أن يفتدي به نفسه فإن المسلمين قد غنموا من بيكند شيئاً كثيراً من آنية الذهب والفضة والأصنام من الذهب، وكان من جملتها صنم سبك فخرج منه مائة ألف وخمسون ألف دينار من الذهب، ووجدوا في خزائن الملك أموالاً كثيرةً وسلاحاً كثيراً وعدداً متنوعةً، وأخذوا من السبي شيئاً كثيراً، فكتب قتيبة إلى الحجاج يسأله أن يعطي ذلك للجند فأذن له فتمول المسلمون وتقووا على قتال الأعداء، وصار لكل واحد منهم مال مستكثر جداً‏.‏ وصارت لهم أسلحة وعدد وخيول كثيرة فقووا بذلك قوة عظيمة ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد حج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز نائب المدينة وقاضيه بها أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعلى العراق والمشرق بكماله الحجاج، ونائبه على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي وقاضيه بها عبد الله بن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله البجلي، وقاضيه بها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، ونائبه على خراسان وأعمالها قتيبة بن مسلم ‏‏ ‏‏

 وفيها توفي من الأعيان‏‏

 عتبة بن عبد السلمي

صحابي جليل، نزل حمص، يروى أنه شهد بني قريظة، وعن العرباض أنه كان يقول‏‏ هو خير مني أسلم قبلي بسنة‏.‏

قال الواقدي وغيره‏‏ توفي في هذه السنة، وقال غيره بعد التسعين، والله أعلم‏.‏

قال أبو سعيد بن الأعرابي‏‏ كان عتبة بن عبد السلمي من أهل الصفة‏.‏

وروى بقية، عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عتبة بن عبد السلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله لحقره يوم القيامة‏‏‏‏‏.‏

وقال إسماعيل بن عياش، عن عقيل بن مدرك، عن لقمان بن عامر، عن عتبة بن عبد السلمي قال‏‏ اشتكيت إلى رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ العُري فكساني خيشتين فلقد رأيتني وأنا أكسي الصحابة‏‏‏‏‏.‏

 المقدام بن معدي كرب

صحابي جليل، نزل حمص أيضاً، له أحاديث، وروى عنه غير واحد من التابعين‏.‏

قال محمد بن سعد والفلاس وأبو عبيدة‏‏ توفي في هذه السنة، وقال غيرهم‏‏ توفي بعد التسعين، فالله أعلم‏.‏

أبو أمامة الباهلي

واسمه صَديّ بن عجلان، نزل حمص، وهو راوي حديث ‏‏‏‏تلقين الميت بعد الدفن‏‏‏‏ رواه الطبراني في الدعاء، وقد تقدم له ذكر في الوفيات‏.‏

 قبيصة بن ذؤيب

أبو سفيان الخزاعي المدني، ولد عام الفتح وأُتي به النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ ليدعو له، روى عن جماعة كثيرة من الصحابة، وأصيبت عينه يوم الحرة، وكان من فقهاء المدينة، وكانت له منزلة عند عبد الملك، ويدخل عليه بغير إذن، وكان يقرأ الكتب إذا وردت من البلاد ثم يدخل على عبد الملك فيخبره بما ورد من البلاد فيها، وكان صاحب سره، وكان له دار بدمشق بباب البريد، وتوفي بدمشق‏.‏

 عروة بن المغيرة بن شعبة

ولي إمرة الكوفة للحجاج، وكان شريفاً لبيباً مطاعاً في الناس، وكان أحول‏.‏

توفي بالكوفة ‏‏يحيى بن يعمر‏‏، كان قاضي مرو، وهو أول من نقط المصاحف، وكان من فضلاء الناس وعلمائهم وله أحوال ومعاملات، وله روايات، وكان أحد الفصحاء، أخذ العربية عن أبي الأسود الدؤلي‏.‏ ‏‏ ‏‏

 شريح بن الحارث بن قيس القاضي

أدرك الجاهلية واستقضاه عمر على الكوفة فمكث بها قاضياً خمساً وستين سنة، وكان عالماً عادلاً كثير الخير، حسن الأخلاق، فيه دعابة كثيرة، وكان كوسجاً لا شعر بوجهه، وكذلك كان عبد الله بن الزبير، والأحنف بن قيس، وقيس بن سعد بن عبادة، وقد اختلف في نسبه وسنه وعام وفاته على أقوال، ورجح ابن خلكان وفاته في هذه السنة‏.‏

قلت‏‏ قد تقدمت ترجمة شريح القاضي في سنة ثمان وسبعين بما فيها من الزيادة الكثيرة غير ما ذكره المؤلف هنا وهناك‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين

فيها غزا الصائفة مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، فافتتحا بمن معهما من المسلمين حصن طوانه في جمادى من هذه السنة - وكان حصيناً منيعاً - اقتتل الناس عنده قتالاً عظيماً ثم حمل المسلمون على النصارى فهزموهم حتى أدخلوهم الكنيسة، ثم خرجت النصارى فحملوا على المسلمين فانهزم المسلمون ولم يبق أحد منهم في موقفه إلا العباس بن الوليد ومعه ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز‏‏ أين قراء القرآن الذين يريدون وجه الله عز وجل‏؟‏ فقال‏‏ نادهم يأتوك، فنادى يا أهل القرآن، فتراجع الناس فحملوا على النصارى فكسروهم ولجأوا إلى الحصن فحاصروهم حتى فتحوه‏.‏

وذكر ابن جرير‏‏ أنه في شهر ربيع الأول من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏، وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، فمن باعك ملكه فاشتره منه وإلا فقوِّمه له قيمة عدل ثم اهدمه وادفع إليهم أثمان بيوتهم، فإن لك في ذلك سلف صدق عمر وعثمان‏.‏

فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس والفقهاء العشرة وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد، فشق عليهم ذلك وقالوا‏‏ هذه حجر قصيرة السقوف وسقوفها من جريد النخل، وحيطانها من اللبن، وعلى أبوابها المسوح، وتركها على حالها أولى لينظر إليها الحجاج والزوار والمسافرون، وإلى بيوت النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ فينتفعوا بذلك ويعتبروا به، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة وهو ما يستر ويُكن، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة، وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها‏.‏

فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم، فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر، وأن يعلى سقوفه‏.‏

فلم يجد عمر بداً من هدمها، ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم، وتباكوا مثل يوم مات النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏، وأجاب من له ملك متاخم للمسجد للبيع فاشترى منهم، وشرع في بنائه وشمر عن إزاره واجتهد في ذلك، وأرسل الوليد إليه فعولاً كثيرة، فأدخل فيه الحجرة النبوية - حجرة عائشة - فدخل القبر في المسجد، ‏‏ ‏‏ وكانت حده من الشرق وسائر حجر أمهات المؤمنين كما أمر الوليد، وروينا أنهم لما حفروا الحائط الشرقي من حجرة عائشة بدت لهم قدم فخشوا أن تكون قدم النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ حتى تحققوا أنها قدم عمر رضي الله عنه، ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد - كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً - والله أعلم‏.‏

وذكر ابن جرير‏‏ أن الوليد كتب إلى ملك الروم يسأله أن يبعث له صناعاً للبناء، فبعث إليه بمائة صانع وفصوص كثيرة من أجل المسجد النبوي، والمشهور أن هذا إنما كان من أجل مسجد دمشق، فالله أعلم‏.‏

وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة، وأن يجري ماءها ففعل، وأمره أن يحفر الآبار وأن يسهل الطرق والثنايا، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد عند بقعة رآها فأعجبته‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم ملك الترك كوربغانون ابن أخت ملك الصين، ومعه مائتا ألف مقاتل، من أهل الصغد وفرغانة وغيرهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان مع قتيبة نيزك ملك الترك مأسوراً فكسرهم قتيبة بن مسلم وغنم من أموالهم شيئاً كثيراً، وقتل منهم خلقاً وسبى وأسر‏.‏

وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز ومعه جماعات من أشراف قريش، فلما كان بالتنعيم لقية طائفة من أهل مكة فأخبروه عن قلة الماء بمكة لقلة المطر، فقال لأصحابه‏‏ ألا نستمطر‏؟‏ فدعا ودعا الناس فما زالوا يدعون حتى سقوا ودخلوا مكة ومعهم المطر، وجاء سيل عظيم حتى خاف أهل مكة من شدة المطر، ومطرت عرفة ومزدلفة ومنى، وأخصبت الأرض هذه السنة خصباً عظيماً بمكة وما حولها، وذلك ببركة دعاء عمر ومن كان معه من الصالحين‏.‏ وكان النواب على البلدان في هذه السنة هم الذين كانوا قبلها‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏‏

 عبد الله بن بُسر بن أبي بُسر المازني‏‏

صحابي كأبيه، سكن حمص، وروى عنه جماعة من التابعين، قال الواقدي‏‏ توفي في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة، زاد غيره وهو آخر من توفي من الصحابة بالشام، وقد جاء في الحديث أنه يعيش قرناً، فعاش مائة سنة‏.‏

 عبد الله بن أبي أوفى

وعلقمة بن خالد بن الحارث الخزاعي ثم الأسلمي، صحابي جليل، وهو آخر من بقي من الصحابة بالكوفة، وكانت وفاته فيما قاله البخاري سنة تسع أو ثمان وثمانين، وقال الواقدي وغير واحد‏‏ سنة ست وثمانين، وقد جاوز المائة، وقيل قاربها رضي الله عنه‏.‏ ‏‏ ‏‏

 وفيها توفي هشام بن إسماعيل

ابن هشام بن الوليد المخزومي المدني، وكان حما عبد الملك بن مروان ونائبه على المدينة، وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب كما تقدم، ثم قدم دمشق فمات بها، وهو أول من أحدث دراسة القرآن بجامع دمشق فمات فيها في السبع‏.‏

 عمير بن حكيم

العنسي الشامي، له رواية، ولم يكن أحد في الشام يستطيع أن يعيب الحجاج علانية إلا هو وابن محيريز أبو الأبيض، قتل في غزوة طوانة من بلاد الروم في هذه السنة‏.‏

 

ثم دخلت سنة تسع وثمانين

فيها غزا مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس بلاد الروم فقتلا خلقاً كثيراً وفتحا حصوناً كثيرةً، منها حصن سورية وعمورية وهرقلة وقمودية‏.‏ وغنما شيئاً كثيراً وأسرا جماً غفيراً‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الصغد ونسف وكش، وقد لقيه هنالك خلق من الأتراك فظفر بهم فقتلهم، وسار إلى بخارى فلقيه دونها خلق كثير من الترك فقاتلهم يومين وليلتين عند مكان يقال له خرقان، وظفر بهم فقال في ذلك نهار بن توسعة‏‏

وباتت لهم منا بخرقان ليلة * وليلتنا كانت بخرقان أطولا

ثم قصد قتيبة وردان خُذاه ملك بخارى فقاتله وردان قتالاً شديداً فلم يظفر به قتيبة، فرجع عنه إلى مرو، فجاءه البريد بكتاب الحجاج يعنفه على الفرار والنكول عن أعداء الإسلام، وكتب إليه أن يبعث بصورة هذا البلد - يعني بخارى - فبعث إليه بصورتها فكتب إليه أن أرجع إليها وتب إلى الله من ذنبك وائتها من مكان كذا وكذا، ورد وردان خذاه، وإياك والتحويط، ودعني وبنيات الطريق‏.‏

وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك إمرة مكة لخالد بن عبد الله القسري، فحفر بئراً بأمر الوليد عند ثنية طوى وثنية الحجون، فجاءت عذبة الماء طيبة، وكان يستقى منها الناس‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى الواقدي‏‏ حدثني عمر بن صالح، عن نافع مولى بني مخزوم، قال‏‏ سمعت خالد بن عبد الله القسري، يقول على منبر مكة وهو يخطب الناس‏‏ أيها الناس ‏!‏ أيهما أعظم خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم‏؟‏ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً، واستسقى الخليفة فسقاه عذباً فراتاً - يعني البئر التي احتفرها بالثنيتين ثنية طوى وثنية الحجون - فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم‏.‏ قال ثم غارت تلك البئر فذهب ماؤها فلا يدري أين هو إلى اليوم، وهذا الإسناد غريب، وهذا الكلام يتضمن كفراً إن صح عن قائله، وعندي أن خالد بن عبد الله لا يصح عنه هذا الكلام، وإن صح فهو عدو الله، وقد قيل عن الحجاج بن يوسف نحو هذا الكلام من أنه جعل الخليفة أفضل من الرسول الذي أرسله الله، وكل هذه الأقوال تتضمن كفر قائلها‏.‏

وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم الترك حتى بلغ باب الأبواب من ناحية أذربيجان وفتح حصوناً ومدائن كثيرة هنالك‏.‏

وحج بالناس فيها عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال شيخنا الذهبي‏‏ وفي هذه السنة فتحت صقلية وميورقة وقيل ميرقة، وهما في البحر بين جزيرة صقلية وخدرة من بلاد الأندلس‏.‏

وفيها سير موسى بن نصير ولده إلى النقريس ملك الفرنج فافتتح بلاداً كثيرةً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏‏

 عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير

 أحد التابعين العَذَري الشاعر، وقد قيل إنه أدرك حياة النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏، ومسح على رأسه، وكان الزهري يتعلم منه النسب‏.‏ والعمال في هذه السنة هم المذكورون في التي قبلها‏.‏