الجزء التاسع - فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار

فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار

وما ورد في فضله من الأخبار عن جماعة من السادة الأخيار‏.‏

روي عن قتادة أنه قال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَالتِّينِ‏} قال‏‏ هو مسجد دمشق، ‏{‏وَالزَّيْتُونِ‏}‏ قال‏‏ هو مسجد بيت المقدس، ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏‏‏ حيث كلم الله موسى، ‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ‏}‏ ‏[‏التين‏‏ -‏]‏‏‏ وهو مكة‏.‏ رواه ابن عساكر‏.‏

وقال صفوان بن صالح‏‏ عن عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه، عن عطية بن قيس الكلابي، قال‏‏ قال كعب الأحبار‏‏ ليبنين في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عاماً‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏‏ عن عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، قال‏‏ أوحى الله تعالى إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك إلى جبل بيت المقدس، قال‏‏ ففعل، فأوحى الله إليه أما إذا فعلت فإني سأبني لي في خطتك بيتاً أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاماً، ولا تذهب الأيام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك، قال‏‏ فهو عند الله بمنزلة الرجل الضعيف المتضرع‏.‏

وقال دحيم‏‏ حيطان المسجد الأربعة من بناء هود عليه السلام، وما كان من الفسيفساء إلى فوق فهو من بناء الوليد بن عبد الملك -يعني أنه رفع الجدار فعلاه من حد الرخام والكرمة إلى فوق - وقال غيره‏‏ إنما بنى هود الجدار القبلي فقط‏.‏

ونقل عثمان بن أبي العاتكة عن أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى‏‏ ‏‏‏‏والتين‏‏‏‏ قالوا‏‏ هو مسجد دمشق‏.‏

وقال أبو بكر أحمد بن عبد الله بن الفرج المعروف بابن البرامي الدمشقي‏‏ ثنا إبراهيم بن مروان، سمعت أحمد بن إبراهيم بن ملاس، يقول‏‏ سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، قال‏‏ كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأكلته، وما لم يتقبل منه بقي على حاله‏.‏ قلت‏‏ وهذه الصخرة نقلت إلى داخل باب الساعات، وهي موجودة إلى الآن، وبعض العامة يزعم أنها الصخرة التي وضع عليها ابنا آدم قربانهما فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخرة، فالله أعلم‏.‏

وقال هشام بن عمار‏‏ ثنا الحسن بن يحيى الخشني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ‏‏‏‏صلى في موضع مسجد دمشق‏‏‏‏‏.‏ قال ابن عساكر‏‏ وهذا منقطع ومنكر جداً، ولا يثبت أيضاً لا من هذا الوجه ولا من غيره‏.‏ ‏‏  ‏‏

وقال أبو بكر البرامي‏‏ حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك بن المغيرة المقري، حدثني أبي، عن أبيه، أن الوليد بن عبد الملك تقدم إلى القوام ليلة من الليالي فقال‏‏ إني أريد أن أصلي الليلة في المسجد، فلا تتركوا أحداً يصلي الليلة، فقال له بعضهم‏‏ يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي في المسجد في كل ليلة‏.‏

وفي رواية أنه قال لهم‏‏ لا تتركوا أحداً يدخله، ثم إن الوليد أتى باب الساعات فاستفتح الباب ففتح له، فإذا رجل قائم بين الساعات وباب الخضراء الذي يلي المقصورة يصلي، وهو أقرب إلى باب الخضراء منه إلى باب الساعات، فقال الوليد للقوام‏‏ ألم آمركم أن لا تتركوا أحداً الليلة يصلي في المسجد‏؟‏ فقال له بعضهم‏‏ يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي كل ليلة في المسجد‏.‏ في إسناد هذه الحكاية وصحتها نظر، ولا يثبت بمثلها وجود الخضر بالكلية، ولا صلاته في المكان المذكور، والله أعلم‏.‏

وقد اشتهر في الأعصار المتاخرة أن الزاوية القبلية عند باب المئذنة الغربية تسمى زاوية الخضر، وما أدري ما سبب ذلك، والذي ثبت بالتواتر صلاة الصحابة فيه، وكفى بذلك شرفاً له ولغيره من المساجد التي صلوا فيها‏.‏

وأول من صلى فيه إماماً أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الأمراء بالشام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمين هذه الأمة، وصلى فيه خلق من الصحابة مثل‏‏ معاذ بن جبل وغيره، لكن قبل أن يغيره الوليد إلى هذه الصفة، فأما بعد أن غير إلى هذا الشكل فلم يره أحد من الصحابة كذلك إلا أنس بن مالك، فإنه ورد دمشق سنة ثنتين وتسعين، وهو يبني فيه الوليد، فصلى فيه أنس ورأى الوليد وأنكر أنس على الوليد تأخير الصلاة إلى آخر وقتها كما قدمنا ذلك في ترجمة أنس، عند ذكر وفاته سنة ثلاث وتسعين‏.‏

وسيصلي فيه عيسى بن مريم إذا نزل في آخر الزمان، إذا خرج الدجال وعمت البلوى به، وانحصر الناس منه بدمشق، فينزل مسيح الهدى فيقتل مسيح الضلالة، ويكون نزوله على المنارة الشرقية بدمشق وقت صلاة الفجر، فيأتي وقد أقيمت الصلاة، فيقول له إمام الناس‏‏ تقدم يا روح الله، فيقول‏‏ إنما أقيمت لك، فيصلي عيسى تلك الصلاة خلف رجل من هذه الأمة، يقال‏‏ إنه المهدي، فالله أعلم‏.‏

ثم يخرج عيسى بالناس فيدرك الدجال عند عقبة أفيق، وقيل‏‏ بباب لد فيقتله بيده هنالك‏.‏ وقد ذكرنا ذلك مبسوطاً عند قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏‏ ‏]‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، وإماماً عادلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام‏‏‏‏‏.‏

‏‏ ‏‏

والمقصود‏‏ أن عيسى ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، والبلد محصور محصن من الدجال، فينزل على المنارة - وهي هذه المنارة المبنية في زماننا من أموال النصارى - ثم يكون نزول عيسى حتفاً لهم وهلاكاً ودماراً عليهم، ينزل بين ملكين واضعاً يديه على مناكبهما، وعليه مهروذتان، وفي رواية‏‏ ممصرَّتان يقطر رأسه ماء كأنما خرج من ديماس، وذلك وقت الفجر، فينزل على المنارة وقد أقيمت الصلاة، وهذا إنما يكون في المسجد الأعظم بدمشق، وهو هذا الجامع‏.‏

وما وقع في صحيح مسلم، من رواية النواس بن سمعان الكلابي‏‏ فينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، كأنه والله أعلم مروي بالمعنى بحسب ما فهمه الراوي، وإنما هو ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، وقد أخبرت ولم أقف عليه إلا الآن أنه كذلك، في بعض ألفاظ هذا الحديث، في بعض المصنفات، والله المسؤول المأمول أن يوفقني فيوقفني على هذه اللفظة، وليس في البلد منارة تعرف بالشرقية سوى هذه، وهي بيضاء بنفسها، ولا يعرف في بلاد الشام منارة أحسن منها، ولا أبهى ولا أعلى منها، ولله الحمد والمنة‏.‏

قلت‏‏ نزول عيسى على المنارة التي بالجامع الأموي غير مستنكر، وذلك أن البلاء بالدجال يكون قد عم فينحصر الناس داخل البلد، ويحصرهم الدجال بها، ولا يتخلف أحد عن دخول البلد إلا أن يكون متبعاً للدجال، أو مأسوراً معه، فإن دمشق في آخر الزمان تكون معقل المسلمين وحصنهم من الدجال، فإذا كان الأمر كذلك فمن يصلي خارج البلد، والمسلمون كلهم داخل البلد، وعيسى إنما ينزل وقد أقيمت الصلاة فيصلي مع المسلمين، ثم يأخذهم ويطلب الدجال ليقتله‏.‏

وبعض العوام يقول‏‏ إن المراد بالمنارة الشرقية بدمشق، منارة مسجد بلاشو، خارج باب شرقي‏.‏

وبعضهم يقول‏‏ إنها المنارة التي على نفس باب شرقي‏.‏

فالله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه العالم بكل شيء، المحيط بكل شيء، القادر على كل شيء، القاهر فوق كل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏.‏

الكلام على ما يتعلق برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام

وروى ابن عساكر، عن زيد بن واقد، قال‏‏ وكلني الوليد على العمال في بناء جامع دمشق، فوجدنا مغارة فعرفنا الوليد ذلك، فلما كان الليل وافانا وبين يديه الشمع، فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة، ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق، ففتح الصندوق فإذا فيه سفط وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام‏.‏ ‏‏  ‏‏

مكتوب عليه هذا رأس يحيى بن زكرياء، فأمر به الوليد فرد إلى مكانه، وقال‏‏ اجعلوا العمود الذي فوقه مغيراً من بين الأعمدة، فجعل عليه عمود مسفط الرأس‏.‏

وفي رواية عن زيد بن واقد‏‏ أن ذلك الموضع كان تحت ركن من أركان القبة - يعني قبل أن تبنى - قال‏‏ وكان على الرأس شعر وبشر‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏‏ عن زيد بن واقد، قال‏‏ حضرت رأس يحيى بن زكريا وقد أخرج من الليطة القبلية الشرقية التي عند مجلس بجيلة، فوضع تحت عمود الكاسة، قال الأوزاعي والوليد بن مسلم‏‏ هو العمود الرابع المسفط‏.‏

وروى أبو بكر بن البرامي‏‏ عن أحمد بن أنس بن مالك، عن حبيب المؤذن، عن أبي زياد وأبي أمية الشعناييين، عن سفيان الثوري، أنه قال‏‏ صلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة‏.‏ وهذا غريب جداً‏.‏

وروى ابن عساكر، من طريق أبي مسهر، عن المنذر بن نافع - مولى أم عمرو بنت مروان - عن أبيه - وفي رواية‏‏ عن رجل قد سماه - أن واثلة بن الأسقع خرج من باب المسجد الذي يلي باب جيرون فلقيه كعب الأحبار فقال‏‏ أين تريد‏؟‏ قال واثلة‏‏ أريد بيت المقدس‏.‏ فقال‏‏ تعال أريك موضعاً في المسجد من صلى فيه فكأنما صلى في بيت المقدس، فذهب به فأراه ما بين الباب الأصفر الذي يخرج منه الوالي - يعني الخليفة - إلى الحنية - يعني القنطرة الغربية - فقال‏‏ من صلى فيما بين هذين فكأنما صلى في بيت المقدس، فقال واثلة‏‏ إنه لمجلسي ومجلس قومي‏.‏ قال كعب‏‏ هو ذاك‏.‏ وهذا أيضاً غريب جداً ومنكر ولا يعتمد على مثله‏.‏

وعن الوليد بن مسلم قال‏‏ لما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء مسجد دمشق وجدوا في حائط المسجد القبلي لوحاً من حجر فيه كتاب نقش، فبعثوا به إلى الوليد فبعثه إلى الروم فلم يستخرجوه، ثم بعث إلى من كان بدمشق من بقية الأسبان فلم يستخرجوه، فدل على وهب بن منبه فبعث إليه، فلما قدم عليه أخبره بموضع ذلك اللوح فوجدوه في ذلك الحائط - ويقال‏‏ ذلك الحائط بناه هود عليه السلام - فلما نظر إليه وهب حرك رأسه وقرأه فإذا هو‏‏

بسم الله الرحمن الرحيم، ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك، وإنما تلقى ندمك لو قد زل بك قدمك‏.‏ وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب وأسلمك الصاحب والقريب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا إلى عملك زائد‏.‏

فاعمل لنفسك قبل يوم القيامة، وقبل الحسرة والندامة، قبل أن يحل بك أجلك، وتنزع منك روحك، فلا ينفعك مال جمعته، ولا ولد ولدته، ولا أخ تركته، ثم تصير إلى برزخ الثرى، ومجاور الموتى، فاغتنم الحياة قبل الممات، والقوة قبل الضعف، والصحة قبل السقم، قبل أن تؤخذ بالكظم ويحال بينك وبين العمل، وكتب في زمن داود عليهما السلام‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال ابن عساكر‏‏ قرأت على أبي محمد السلمي، عن عبد العزيز التميمي، أنبأ تمام الرازي، ثنا ابن البرامي، سمعت أبا مروان عبد الرحمن بن عمر المازني يقول‏‏ لما كان في أيام الوليد بن عبد الملك وبنائه المسجد احتفروا فيه موضعاً فوجدوا باباً من حجارة مغلقاً، فلم يفتحوه وأعلموا به الوليد، فخرج حتى وقف عليه، وفتح بين يديه، فإذا داخله مغارة فيها تمثال إنسان من حجارة، على فرس من حجارة، في يد التمثال الواحدة الدَّرة التي كانت في المحراب، ويده الأخرى مقبوضة‏.‏

فأمر بها فكسرت، فإذا فيها حبتان، حبة قمح وحبة شعير، فسأل عن ذلك، فقيل له‏‏ لو تركت الكف لم تكسرها لم يسوس في هذا البلد قمح ولا شعير‏.‏

وقال الحافظ أبو حمدان الوراق - وكان قد عمَّر مائة سنة -‏‏ سمعت بعض الشيوخ يقول‏‏ لما دخل المسلمون دمشق وجدوا على العمود الذي على المقسلاط - على السفود الحديد الذي في أعلاه - صنماً ماداً يده بكف مطبقة، فكسروه فإذا في يده حبة قمح، فسألوا عن ذلك، فقيل لهم‏‏ هذه الحبة قمح جعلها حكماء اليونان في كف هذا الصنم طلسماً، حتى لا يسوس القمح في هذه البلاد، ولو أقام سنين كثيرة‏.‏

قال ابن عساكر‏‏ وقد رأيت أنا في هذا السفود على قناطر كنيسة المقسلاط كانت مبنية فوق القناطر التي في السوق الكبير، عند الصابونيين والعطارين اليوم، وعندها اجتمعت جيوش الإسلام يوم فتح دمشق، أبو عبيدة من باب الجابية، وخالد من باب الشرقي، ويزيد بن أبي سفيان من باب الجابية الصغير‏.‏

وقال عبد العزيز التميمي، عن أبي نصر عبد الوهاب بن عبد الله المري‏‏ سمعت جماعة من شيوخ أهل دمشق يقولون‏‏ إن في سقف الجامع طلاسم عملها الحكماء في السقف مما يلي الحائط القبلي، فيها طلاسم للصنونيات، لا تدخله ولا تعشش فيه من جهة الأوساخ التي تكون منها، ولا يدخله غراب، وطلسم للفأر والحيات والعقارب، فما رأى الناس من هذا شيئاً إلا الفأر، ويشك أن يكون قد عدم طلسمها، وطلسم للعنكبوت حتى لا ينسج فيه‏.‏ وفي رواية‏‏ فيركبه الغبار والوسخ‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏‏ وسمعت جدي أبا الفضل يحيى بن علي يذكر أنه أدرك في الجامع قبل حريقه طلسمات لسائر الحشرات، معلقة في السقف فوق البطائن مما يلي السبع، وأنه لم يكن يوجد في الجامع شيء من الحشرات قبل الحريق‏.‏

فلما احترقت الطلسمات حين أحرق الجامع ليلة النصف من شعبان بعد العصر سنة إحدى وستين وأربعمائة، وقد كانت بدمشق طلسمات كثيرة، ولم يبق منها سوى العمود الذي بسوق العلبيين الذي في أعلاه مثل الكرة العظيمة، وهي لعسر بول الدواب، إذا داروا بالدابة حوله ثلاث مرات انطلق باطنها‏.‏

وقد كان شيخنا ابن تيمية رحمه الله يقول‏‏ إنما هذا قبر مشرك مفرد مدفون هنالك يعذب، فإذا سمعت الدابة صراخه فزعت فانطلق باطنها وطبعها، قال‏‏ ولهذا يذهبون بالدواب إلى مقابر اليهود والنصارى إذا مغلت فتنطلق طباعها وتروث، وما ذاك إلا أنها تسمع أصواتهم وهم يعذبون، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

 ذكر الساعات التي على بابه

قال القاضي عبد الله بن أحمد بن زبر‏‏ إنما سمي باب الجامع القبلي باب الساعات لأنه عمل هناك بلشكار الساعات، كان يعمل بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير من نحاس، وحية من نحاس وغراب، فإذا تمت الساعة خرجت الحية، فصفرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطست، فيعلم الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة، وكذلك سائرها‏.‏

قلت‏‏ هذا يحتمل أحد شيئين‏‏ إما أن تكون الساعات كانت في الباب القبلي من الجامع، وهو الذي يسمى باب الزيادة، ولكن قد قيل‏‏ إنه محدث بعد بناء الجامع، ولا ينفي ذلك أن الساعات كانت عنده في زمن القاضي ابن زبر، وإما أنه قد كان في الجامع في الجانب الشرقي منه في الحائط القبلي باب آخر في محاكاة باب الزيادة، وعنده الساعات ثم نقلت بعد هذا كله إلى باب الوراقين اليوم، وهو باب الجامع من الشرق، والله أعلم‏.‏

قلت‏‏ باب الوراقين قبلي أيضاً، فيضاف إلى الجمع نسبة إلى من يدخل منه إلى الجامع الله أعلم، أو لمجارته للجامع ولبابه‏.‏

قلت‏‏ فأما القبة التي في وسط صحن الجامع التي فيها الماء الجاري، ويقول العامة لها قبة أبي نواس فكان بناؤها في سنة تسع وستين وثلاثمائة أرخ ذلك ابن عساكر عن خط بعض الدماشقة‏.‏

وأما القبة الغربية العالية التي في صحن الجامع التي يقال لها قبة عائشة، فسمعت شيخنا الذهبي يقول‏‏ إنها إنما بنيت في حدود سنة ستين ومائة في أيام المهدي بن منصور العباسي، وجعلوها لحواصل الجامع وكتب أوقافه، وأما القبة الشرقية التي على باب مسجد علي فيقال‏‏ إنها بنيت في زمن الحاكم العبيدي في حدود سنة أربع ومائة‏.‏

وأما الفوارة التي تحت درج جيرون فعملها الشريف فخر الدولة أبو علي حمزة بن الحسن بن العباس الحسني، وكأنه كان ناظراً بالجامع وجر إليها قطعة من حجر كبير من قصر حجاج، وأجرى منها الماء ليلة الجمعة لسبع ليال خلون من ربيع الأول سنة سبع عشرة وأربعمائة وعملت حولها قناطر، وعقد عليها قبة، ثم سقطت القبة بسبب جمال تحاكت عندها وازدحمت، وذلك في صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فأعيدت ثم سقطت أعمدتها وما عليها من حريق اللبادين والحجارة في شوال سنة اثنتين وستين وخمسمائة، ذكر ذلك كله الحافظ ابن عساكر‏.‏

قلت‏‏ وأما القصعة التي كانت في الفوارة، فما زالت وسطها، وقد أدركتها كذلك، ثم رفعت بعد ذلك‏.‏

‏‏ ‏‏

وكان بطهارة جيرون قصعة أخرى مثلها، فلم تزل بها إلى أن تهدمت اللبادين بسبب حريق النصارى في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثم استؤنف بناء الطهارة على وجه آخر أحسن مما كانت، وذهبت تلك القصعة فلم يبق لها أثر، ثم عمل الشاذروان الذي شرقي فوارة جيرون، بعد الخمسمائة - أظنه - سنة أربع عشرة وخمسمائة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ذكر ابتداء أمر السبع بالجامع الأموي

قال أبو بكر بن أبي داود‏‏ ثنا أبو عباس موسى بن عامر المري، ثنا الوليد - هو ابن مسلم - قال‏‏ قال أبو عمر الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال‏‏ الدراسة محدثة أحدثها هشام بن إسماعيل المخزومي، في قدمة قدمها على عبد الملك، فحجبه عبد الملك فجلس بعد الصبح في مسجد دمشق فسمع قراءة فقال‏‏ ما هذا‏؟‏ فأخبر أن عبد الملك يقرأ في الخضراء، فقرأ هشام بن إسماعيل، فجعل عبد الملك يقرأ بقراءة هشام، فقرأ بقراءته مولى له، فاستحسن ذلك من يليه من أهل المسجد فقرؤوا بقراءته‏.‏

وقال هشام ابن عمار خطيب دمشق‏‏ ثنا أيوب بن حسان، ثنا الأوزاعي، ثنا خالد بن دهقان، قال‏‏ أول من أحدث القراءة في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل بن المغيرة المخزومي، وأول من أحدث القراءة بفلسطين الوليد بن عبد الرحمن الجرشي‏.‏

قلت‏‏ هشام بن إسماعيل كان نائباً على المدينة النبوية، وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب لما امتنع من البيعة للوليد بن عبد الملك، قبل أن يموت أبوه، ثم عزله عنها الوليد وولى عليها عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا‏.‏

وقد حضر هذا السبع جماعات من سادات السلف من التابعين بدمشق، منهم هشام بن إسماعيل ومولاه رافع وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وكان مكتباً لأولاد عبد الملك بن مروان، وقد ولي إمرة إفريقية لهشام بن عبد الملك وابنيه عبد الرحمن ومروان‏.‏

وحضره من القضاة أبو إدريس الخولاني، ونمير بن أوس الأشعري، ويزيد بن أبي الهمداني، وسالم بن عبد الله المحاربي، ومحمد ابن عبد الله بن لبيد الأسدي‏.‏

ومن الفقهاء والمحدثين والحفاظ المقرئين أبو عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى معاوية ومكحول وسليمان بن موسى الأشدق، وعبد الله بن العلاء بن زبر، وأبو إدريس الأصغر عبد الرحمن بن عراك، وعبد الرحمن بن عامر اليحصبي - أخو عبد الله بن عامر - ويحيى بن الحارث الدماري، وعبد الملك بن نعمان المري، وأنس بن أنس العذري، وسليمان بن بذيغ القاري، وسليمان بن داود الخشني، وعران - أو هران - بن حكيم القرشي، ومحمد بن خالد ابن أبي ظبيان الأزدي، ويزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر، وعباس بن دينار وغيرهم‏.‏ و هكذا أوردهم ابن عساكر‏.‏

قال‏‏ وقد روى عن بعضهم أنه كره اجتماعهم وأنكره، ولا وجه لإنكاره‏.‏

ثم ساق من طريق أبي بكر بن أبي داود، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا الوليد - هو ابن مسلم -، عن عبد الله بن العلاء، قال‏‏ سمعت الضحاك بن عبد الرحمن بن عروب ينكر الدراسة ويقول‏‏ ما رأيت ولا سمعت وقد أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال ابن عساكر‏‏ وكان الضحاك بن عبد الرحمن أميراً على دمشق في أواخر سنة ست وثمانين في خلافة عمر بن عبد العزيز‏.‏

 فصل ‏‏بناء الجامع الأموي‏‏

كان ابتداء عمارة جامع دمشق في أواخر سنة ست وثمانين، هدمت الكنيسة التي كانت موضعه في ذي القعدة منها، فلما فرغوا من الهدم شرعوا في البناء، وتكامل في عشر سنين، فكان الفراغ منه في هذه السنة - أعني سنة ست وتسعين -

وفيها توفي بانيه الوليد بن عبد الملك، وقد بقيت فيه بقايا فكملها أخوه سليمان كما ذكرنا‏.‏

فأما قول يعقوب بن سفيان‏‏ سألت هشام بن عمار عن قصة مسجد دمشق وهذه الكنيسة قال‏‏ كان الوليد قال للنصارى‏‏ ما شئتم أنا أخذنا كنيسة توما عنوة وكنيسة الداخلة صلحاً، فأنا أهدم كنيسة توما - قال هشام وتلك أكبر من هذه الداخلة - قال فرضوا أن يهدم كنيسة الداخلة وأدخلها في المسجد، قال‏‏ وكان بابها قبلة المسجد اليوم، وهو المحراب الذي يصلى فيه‏.‏

قال‏‏ وهدم الكنيسة في أول خلافة الوليد سنة ست وثمانين، ومكثوا في بنائها سبع سنين حتى مات الوليد ولم يتم بناءه، فأتمه هشام من بعده ففيه فوائد وفيه غلط، وهو قوله إنهم مكثوا في بنائه سبع سنين، والصواب عشر سنين، فإنه لا خلاف أن الوليد بن عبد الملك توفي في هذه السنة - أعني سنة ست وتسعين - وقد حكى أبو جعفر بن جرير على ذلك إجماع أهل السير، والذي أتم ما بقي من بنائه أخوه سليمان لا هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قلت‏‏ نقل من خط ابن عساكر وقد تقدم، وقد جددت فيه بعد ذلك أشياء، منها القباب الثلاث التي في صحنه‏.‏ وقد تقدم ذكرها‏.‏ وقيل إن القبة الشرقية عمرت في أيام المستنصر العبيدي في سنة خمسين وأربعمائة وكتب عليه اسمه واسم الاثني عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمتهم، وأما العمودان الموضوعان في صحنه فجعلا للتنوير ليالي الجمع، وصنعا في رمضان سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، بأمر قاضي البلد أبي محمد‏.‏ وهذه‏‏

 ترجمة الوليد بن عبد الملك

باني جامع دمشق وذكر وفاته في هذا العام

هو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو العباس الأموي، بويع له بالخلافة بعد أبيه بعهد منه في شوال سنة ست وثمانين، وكان أكبر ولده، والولي من بعده، وأمه ولادة بنت العباس بن حزن بن الحارث بن زهير العبسي‏.‏ ‏‏  ‏‏

وكان مولده سنة خمسين، وكان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان طويلاً أسمر به أثر جدري خفي، أفطس الأنف سائله، وكان إذا مشى يتوكف في المشية - أي يتبختر - وكان جميلاً وقيل دميماً، وقد شاب في مقدم لحيته، وقد رأى سهل بن سعد وسمع أنس بن مالك لما قدم عليه سأله ما سمع في أشراط الساعة، كما تقدم في ترجمة أنس، وسمع سعيد بن المسيب وحكى عن الزهري وغيره‏.‏

وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه ثم توقف لأنه لا يحسن العربية فجمع الوليد جماعة من أهل النحو عنده فأقاموا سنة، وقيل ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان، فقال عبد الملك‏‏ قد أجهد وأعذر، وقيل إن أباه عبد الملك أوصاه عند موته فقال له‏‏ لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك، وتحن حنين الأمة، ولكن شمر واتزر، ودلني في حفرتي، وخلني وشأني، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا‏.‏

وقال الليث‏‏ وفي سنة ثمان وتسعين غزا الوليد بلاد الروم، وفيها حج بالناس أيضاً‏.‏

وقال غيره‏‏ غزا في التي قبلها وفي التي بعدها بلاد ملطية وغيرها، وكان نقش خاتمه أؤمن بالله مخلصاً‏.‏ وقيل كان نقشه يا وليد إنك ميت، ويقال إن آخر ما تكلم به سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، وقال إبراهيم بن أبي عبلة قال لي الوليد بن عبد الملك يوماً‏‏ في كم تختم القرآن‏؟‏ قلت‏‏ في كذا وكذا، فقال‏‏ أمير المؤمنين على شغله يختمه في كل ثلاث، وقيل في كل سبع، قال‏‏ وكان يقرأ في شهر رمضان سبع عشرة ختمة‏.‏

قال إبراهيم رحمه الله‏‏ الوليد وأين مثله بنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قطع الفضة فأقسمها على قراء بيت المقدس‏.‏

وروى ابن عساكر بإسناد رجاله كلهم ثقات عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبيه، قال‏‏ خرج الوليد يوماً من الباب الأصغر فرأى رجلاً عند المئذنة الشرقية يأكل شيئاً، فأتاه فوقف عليه فإذا هو يأكل خبزاً وتراباً، فقال له‏‏ ما حملك على هذا‏؟‏ قال‏‏ القنوع يا أمير المؤمنين، فذهب إلى مجلسه ثم استدعى به فقال‏‏ إن لك لشأناً فأخبرني به وإلا ضربت الذي فيه عيناك، فقال‏‏ نعم يا أمير المؤمنين كنت رجلاً حمالاً، فبينما أنا أسير من مرج الصفر قاصداً إلى الكسوة، إذ زرمني البول فعدلت إلى خربة لأبول، فإذا سرب فحفرته فإذا مال صبيب، فملأت منه غرائري، ثم انطلقت أقود برواحلي وإذا بمخلاة معي فيها طعام فألقيته منها، وقلت‏‏ إني سآتي الكسوة، ورجعت إلى الخربة لأملأ تلك المخلاة من ذلك المال فلم أهتد إلى المكان بعد الجهد في الطلب، فلما أيست رجعت إلى الرواحل فلم أجدها ولم أجد الطعام، فآليت على نفسي أني لا آكل إلا خبزاً وتراباً‏.‏ قال‏‏ فهل لك عيال‏؟‏ قال‏‏ نعم، ففرض له في بيت المال‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال ابن جرير‏‏ وبلغنا أن تلك الرواحل سارت حتى أتت بيت المال فتسلمها حارسه فوضعها في بيت المال، وقيل إن الوليد قال له‏‏ ذلك المال وصل إلينا واذهب إلى إبلك فخذها، وقيل إنه دفع إليه شيئاً من ذلك المال يقيته وعياله‏.‏

وقال نمير بن عبد الله الشعناني، عن أبيه، قال‏‏ قال الوليد بن عبد الملك‏‏ لولا أن الله ذكر قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكراً يفعل هذا بذكر‏.‏

قلت‏‏ فنفى عن نفسه هذه الخصلة القبيحة الشنيعة، والفاحشة المذمومة، التي عذب الله أهلها بأنواع العقوبات، وأحل بهم أنواعاً من المثلات، التي لم يعاقب بها أحداً من الأمم السالفات، وهي فاحشة اللواط التي قد ابتلى بها غالب الملوك والأمراء، والتجار والعوام والكتاب، والفقهاء والقضاة ونحوهم، إلا من عصم الله منهم، فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد، ولهذا تنوعت عقوبات فاعليه، ولأن يقتل المفعول به خير من أن يؤتى في دبره، فإنه يفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاح أبداً، إلا أن يشاء الله ويذهب خبر المفعول به‏.‏ فعلى الرجل حفظ ولده في حال صغره وبعد بلوغه، وأن يجنبه مخالطة هؤلاء الملاعين، الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد اختلف الناس‏‏ هل يدخل الجنة مفعول به‏؟‏ على قولين، والصحيح في المسألة أن يقال إن المفعول به إذا تاب توبة صحيحة نصوحاً، ورزق إنابة إلى الله وصلاحاً، وبدل سيئاته بحسنات، وغسل عنه ذلك بأنواع الطاعات، وغض بصره وحفظ فرجه، وأخلص معاملته لربه، فهذا إن شاء الله مغفور له، وهو من أهل الجنة، فإن الله يغفر الذنوب للتائبين إليه ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏} ‏[‏الحجرات‏‏ ‏]‏‏.‏ ‏{‏فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏‏ ‏]‏ وأما مفعول به صار في كبره شراً منه في صغره، فهذا توبته متعذرة، وبعيد أن يؤهل لتوبة صحيحة، أو لعمل صالح يمحو به ما قد سلف، ويخشى عليه من سوء الخاتمة، كما قد وقع ذلك لخلق كثير ماتوا بأدرانهم وأوساخهم، لم يتطهروا منها قبل الخروج من الدينا، وبعضهم ختم له بشر خاتمة، حتى أوقعه عشق الصور في الشرك الذي لا يغفره الله‏.‏ وفي هذا الباب حكايات كثيرة وقعت للوطية وغرهم من أصحاب الشهوات يطول هذا الفصل بذكرها‏.‏

والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له‏.‏ فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان‏.‏ فيقع في سوء الخاتمة‏.‏ قال الله تعالى‏‏ ‏{‏وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً‏} ‏[‏الفرقان‏‏ ‏]‏ بل قد وقع سوء الخاتمة لخلق لم يفعلوا فاحشة اللواط، وقد كانوا متلبسين بذنوب أهون منها‏.‏ وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به كما ذكره عبد الحق الأشبيلي، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة‏.‏ ‏‏ ‏‏

والمقصود أن مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، وكانت لا تعرف بين العرب قديماً كما قد ذكر ذلك غير واحد منهم‏.‏ فلهذا قال الوليد بن عبد الملك‏‏ لولا أن الله عز وجل قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكراً‏.‏

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏‏‏‏ رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من عمل عمل قوم لوط ثلاث مرات، ولم يلعن على ذنب ثلاث مرات إلا عليه، وإنما أمر بقتل الفاعل والمفعول به لأنه لا خير في بقائهما بين الناس، لفساد طويتهما، وخبث بواطنهما، فمن كان بهذه المثابة فلا خير للخلق في بقائه، فإذا أراح الله الخلق منهما صلح لهم أمر معاشهم ودينهم‏.‏ وأما اللعنة فهي الطرد والبعد، ومن كان مطروداً مبعداً عن الله وعن رسوله وعن كتابه وعن صالح عباده فلا خير فيه ولا في قربه‏.‏ ومن رزقه الله تعالى توسماً وفراسة ونوراً وفرقاناً عرف من سحن الناس ووجوههم أعمالهم، فإن أعمال العمال بائنة ولائحة على وجوههم وفي أعينهم وكلامهم‏.‏

وقد ذكر الله اللوطية وجعل ذلك آيات للمتوسمين فقال تعالى‏‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏‏ -‏]‏ وما بعدها‏.‏ وقال تعالى‏‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏‏ -‏]‏ ونحو ذلك من الآيات‏.‏ والأحاديث فاللوطي قد عكس الفطرة، وقلب الأمر، فأتى ذكراً فقلب الله قلبه، وعكس عليه أمره، بعد صلاحه وفلاحه، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏.‏

وخصال التائب قد ذكرها الله في آخر سورة براءة فقال‏‏ ‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏‏ ‏]‏ فلا بد للتائب من العبادة والاشتغال بالعمل للآخرة، وإلا فالنفس همامة متحركة، إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، فلا بد للتائب من أن يبدل تلك الأوقات التي مرت له في المعاصي بأوقات الطاعات، وأن يتدراك ما فرط فيها وأن يبدل تلك الخطوات بخطوات إلى الخير، ويحفظ لحظاته وخطواته، ولفظاته وخطراته‏.‏

قال رجل للجنيد‏‏ أوصني، قال‏‏ توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل العزة، ورجاء مزعج إلى طرق الخيرات، ومراقبة الله في خواطر القلب‏.‏ فهذه صفات التائب‏.‏ ثم قال الله تعالى‏‏ ‏{‏الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏‏ ‏]‏ الآية‏.‏ فهذه خصال التائب كما قال تعال‏‏ ‏{‏التَّائِبُونَ‏}‏ فكأن قائلاً يقول‏‏ من هم‏؟‏ قيل‏‏ هم العابدون السائحون إلى آخر الآية، وإلا فكل تائب لم يتلبس بعد توبته بما يقر به إلى من تاب إليه فهو في بعد وإدبار، لا في قرب وإقبال، كما يفعل من اغتر بالله من المعاصي المحظورات، ويدع الطاعات، فإن ترك الطاعات وفعل المعاصي أشد وأعظم من ارتكاب المحرمات بالشهوة النفسية‏.‏ ‏‏ ‏‏

فالتائب هو من اتقى المحذورات، وفعل المأمورات، وصبر على المقدورات، والله سبحانه وتعالى هو المعين الموفق، وهو عليم بذات الصدور‏.‏

قالوا‏‏ وكان الوليد لحاناً كما جاء من غير وجه أن الوليد خطب يوماً فقرأ في خطبته‏‏ يا ليتها كانت القاضية فضم التاء من ليتها، فقال عمر بن عبد العزيز‏‏ يا ليتها كانت عليك وأراحنا الله منك، وكان يقول‏‏ يا أهل المدينة‏.‏ وقال عبد الملك يوماً لرجل من قريش‏‏ إنك لرجل لولا أنك تلحن، فقال‏‏ وهذا ابنك الوليد يلحن، فقال‏‏ لكن ابني سليمان لا يلحن، فقال الرجل‏‏ وأخي أبو فلان لا يلحن، وقال ابن جرير، حدثني عمر، ثنا علي - يعني ابن عبد المدائني - قال‏‏ كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلفائهم، بنى المساجد بدمشق، ووضع المنائر، وأعطى الناس، وأعطى المجذومين، وقال لهم‏‏ لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادماً، وكل ضرير قائداً، وفتح في ولايته فتوحات كثيرة عظاماً، وكان يرسل بنيه في كل عزوة إلى بلاد الروم، ففتح الهند والسند والأندلس وأقاليم بلاد العجم، حتى دخلت جيوشه إلى الصين وغير ذلك، قال‏‏ وكان مع هذا يمر بالبقال فيأخذ حزمة البقل بيده، ويقول‏‏ بكم تبيع هذه‏؟‏ فيقول‏‏ بفلس، فيقول‏‏ زد فيها فإنك تربح‏.‏

وذكروا أنه كان يبر حملة القرآن ويكرمهم ويقضي عنهم ديونهم، قالوا‏‏ وكانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول‏‏ ماذا بنيت‏؟‏ ماذا عمرت‏؟‏ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول‏‏ كم تزوجت‏؟‏ ماذا عندك من السراري‏؟‏ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول‏‏ كم وردك‏؟‏ كم نقرأ كل يوم‏؟‏ ماذا صليت البارحة‏؟‏

والناس يقولون‏‏ الناس على دين مليكهم، إن كان خماراً كثر الخمر، وإن كان لوطياً فكذلك، وإن كان شحيحاً حريصاً كان الناس كذلك، وإن كان جواداً كريماً شجاعاً كان الناس كذلك، وإن كان طماعاً ظلوماً غشوماً فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال الواقدي‏‏ كان الوليد جباراً ذا سطوة شديدة لا يتوقف إذا غضب، لجوجاً كثير الأكل والجماع مطلاقاً، يقال‏‏ إنه تزوج ثلاثاً وستين امرأة غير الإماء‏.‏ قلت‏‏ يراد بهذا الوليد بن يزيد الفاسق لا الوليد بن عبد الملك باني الجامع، والله أعلم‏.‏

قلت‏‏ بنى الوليد الجامع على الوجه الذي ذكرنا فلم يكن له في الدنيا نظير، وبنى صخرة بيت المقدس عقد عليها القبة، وبنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه حتى دخلت الحجرة التي فيها القبر فيه، وله آثار حسان كثيرة جداً، ثم كانت وفاته في يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة من هذه السنة، قال ابن جرير‏‏ هذا قول جميع أهل السير، وقال عمر بن علي الفلاس وجماعة‏‏ كانت وفاته يوم السبت للنصف من ربيع الأول من هذه السنة، عن ست وقيل‏‏ ثلاث، وقيل‏‏ تسع، وقيل‏‏ أربع وأربعين سنة، وكانت وفاته بدير مران، فحمل على أعناق الرجال حتى دفن بمقابر باب الصغير، وقيل‏‏ بمقابر باب الفراديس، حكاه ابن عساكر‏.‏

وكان الذي صلى عليه عمر بن عبد العزيز لأن أخاه سليمان كان بالقدس الشريف، وقيل‏‏ صلى عليه ابنه عبد العزيز، وقيل‏‏ بل صلى عليه أخوه سليمان، والصحيح عمر بن عبد العزيز، والله أعلم‏.‏ وهو الذي أنزله إلى قبره وقال حين أنزله‏‏ لننزلنه غير موسد ولا ممهد، قد خلفت الأسلاب وفارقت الأحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، فقيراً إلى ما قدمت، غنياً عما أخرت‏.‏

وجاء من غير وجه عن عمر أنه أخبره أنه لما وضعه - يعني الوليد - في لحده ارتكض في أكفانه وجمعت رجلاه إلى عنقه‏.‏

وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر على المشهور‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال المدائني‏‏ وكان له من الولد تسعة عشر ولداً ذكراً، وهم عبد العزيز، ومحمد والعباس، وإبراهيم، وتمام وخالد وعبد الرحمن ومبشر ومسرور وأبو عبيدة وصدقة ومنصور ومروان وعنبسة وعمر وروح وبشر ويزيد ويحيى‏.‏ فأم عبد العزيز ومحمد أم البنين بنت عمه عبد العزيز بن مروان، وأم أبي عبيدة فزرية، وسائرهم من أمهات أولاد شتى‏.‏

قال المدائني وقد رثاه جرير فقال‏‏

يا عين جودي بدمع ماجه الذكر * فما لدمعك بعد اليوم مدخر ‏‏ ‏‏

إن الخليفة قد وارت شمائله * غبراء ملحدة في جولها زور

أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم * مثل النجوم هوى من بينها القمر

كانوا جميعاً فلم يدفع منيته * عبد العزيز ولا روح ولا عمر

وممن هلك أيام الوليد بن عبد الملك زياد بن حارث التميمي الدمشقي، كانت داره غربي قصر الثقفيين، روى عن حبيب بن مسملة الفهري في النهي عن المسألة لمن له ما يغديه ويعشيه، وفي النفل‏.‏

ومنهم من زعم أن له صحبة، والصحيح أنه تابعي‏.‏

روى عنه عطية بن قيس ومكحول و يونس بن ميسرة بن حلبس، ومع هذا قال فيه أبو حاتم‏‏ شيخ مجهول، ووثقه النسائي وابن حبان ، روى ابن عساكر أنه دخل يوم الجمعة إلى مسجد دمشق وقد أخرت الصلاة، فقال‏‏ والله ما بعث الله نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم أمركم بهذه الصلاة هذا الوقت، قال‏‏ فأخذ فأدخل الخضراء فقطع رأسه وذلك في زمن الوليد بن عبد الملك‏.‏

عبد الله بن عمر بن عثمان

أبو محمد، كان قاضي المدينة، وكان شريفاً كثير المعروف، جواداً ممدحاً، والله أعلم‏.‏

 خلافة سليمان بن عبد الملك

بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الوليد يوم مات وكان يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وكان سليمان بالرملة، وكان ولي العهد من بعد أخيه عن وصية أبيهما عبد الملك‏.‏ وقد كان الوليد قد عزم قبل موته على خلع أخيه سليمان، وأن يجعل ولاية العهد من بعده لولده عبد العزيز بن الوليد، وقد كان الحجاج طاوعه على ذلك وأمره به، وكذلك قتيبة بن مسلم وجماعة، وقد أنشد في ذلك جرير وغيره من الشعراء قصائد، فلم ينتظم ذلك له حتى مات، وانعقدت البيعة إلى سليمان، فخافه قتيبة بن مسلم وعزم على أن لا يبايعه، فعزله سليمان وولى على إمرة العراق ثم خراسان يزيد بن المهلب، فأعاده إلى إمرتها بعد عشر سنين، وأمره بمعاقبة آل الحجاج بن يوسف، وكان الحجاج هو الذي عزل يزيد عن خراسان‏.‏ ‏‏ ‏‏

ولسبع بقين من رمضان من هذه السنة عزل سليمان عن إمرة المدينة عثمان بن حيان وولى عليها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان أحد العلماء، وقد كان قتيبة بن مسلم حين بلغه ولاية سليمان الخلافة كتب إليه كتاباً يعزيه في أخيه، ويهنئه بولايته، ويذكر فيه بلاءه وعناه وقتاله وهيبته في صدور الأعداء، وما فتح الله من البلاد والمدن والأقاليم الكبار على يديه، وأنه له على مثل ما كان للوليد من الطاعة والنصيحة، إن لم يعزله عن خراسان، ونال في هذا الكتاب من يزيد بن المهلب، ثم كتب كتاباً ثانياً يذكر ما فعل من القتال والفتوحات وهيبته في صدور الملوك والأعاجم، ويذم يزيد بن المهلب أيضاً، ويقسم فيه لئن عزله وولى يزيد ليخلعن سليمان عن الخلافة، وكتب كتاباً ثالثاً فيه خلع سليمان بالكلية، وبعث بها مع البريد وقال له‏‏ ادفع إليه الكتاب الأول، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد ابن المهلب فادفع إليه الثالث، فلما قرأ سليمان الكتاب الأول - واتفق حضور يزيد عند سليمان - دفعه إلى يزيد فقرأه، فناوله البريد الكتاب الثاني فقرأه ودفعه إلى يزيد، فناوله البريد الكتاب الثالث فقرأه فإذا فيه التصريح بعزله وخلعه، فتغير وجهه، ثم ختمه وأمسكه بيده ولم يدفعه إلى يزيد، وأمر بإنزال البريد في دار الضيافة، فلما كان من الليل بعث إلى البريد فأحضره ودفع إليه ذهباً وكتاباً فيه ولاية قتيبة على خراسان، وأرسل مع ذلك البريد بريداً آخر من جهته ليقرره عليها، فلما وصلا بلاد خراسان بلغهما أن قتيبة قد خلع الخليفة، فدفع بريد سليمان الكتاب الذي معه إلى بريد قتيبة، ثم بلغهما مقتل قتيبة قبل أن يرجع بريد سليمان‏.‏

 مقتل قتيبة بن مسلم رحمه الله

وذلك أنه جمع الجند والجيوش وعزم على خلع سليمان بن عبد الملك من الخلافة وترك طاعته، وذكر لهم همته وفتوحه وعدله فيهم، ودفعه الأموال الجزيلة إليهم، فلما فرغ من مقالته لم يجبه أحد منهم إلى مقالته، فشرع في تأنيبهم وذمهم، قبيلة قبيلة، وطائفة طائفة، فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرقوا، وعملوا على مخالفته، وسعوا في قتله، وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له وكيع بن أبي سود، فجمع جموعاً كثيرة، ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذي الحجة من هذه السنة، ‏‏ ‏‏ وقتل معه أحد عشر رجلاً من إخوته وأبناء إخوته، ولم يبق منهم سوى ضرار بن مسلم، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زرارة، فحمته أخواله، وعمرو بن مسلم كان عامل الجوزجان وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح ويسار، وهؤلاء أبناء مسلم، وأربعة من أبنائهم فقتلهم كلهم وكيع بن سود‏.‏

وقد كان قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي، من سادات الأمراء وخيارهم، وكان من القادة النجباء الكبراء، والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة، وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئاً كثيراً كما تقدم ذلك مفصلاً مبيناً، والله سبحانه لا يضيع سعيه ولا يخيب تعبه وجهاده‏.‏

ولكن زل زلة كان فيها حتفه، وفعل فعلة رغم فيها أنفه، وخلع الطاعة فبادرت المنية إليه، وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية لكن سبق له من الأعمال الصالحة ما قد يكفر الله به سيئاته، ويضاعف به حسناته، والله يسامحه ويعفو عنه، ويتقبل منه ما كان يكابده من مناجزة الأعداء، وكانت وفاته بفرغانه من أقصى بلاد خراسان، في ذي الحجة من هذه السنة، وله من العمر ثمان وأربعون سنة، وكان أبوه أبو صالح مسلم فيمن قتل مع مصعب بن الزبير، وكانت ولايته على خراسان عشر سنين، واستفاد وأفاد فيها خيراً كثيراً، وقد رثاه عبد الرحمن بن جمانة الباهلي فقال‏‏

كان أبا حفص قتيبة لم يسرُ * بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا

ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوفٌ ولم يشهد له الناس عسكرا

دعته المنايا فاستجاب لربه * وراح إلى الجنات عفاً مطهرا

فما رزئ الإسلام بعد محمد * بمثل أبي حفص فبكّيه عبهرا

ولقد بالغ هذا الشاعر في بيته الأخير‏.‏ وعبهر ولد له‏.‏

وقال الطرماح في هذه الوقعة التي قتل فيها على يد وكيع بن سود‏‏

لولا فوارس مذحج ابنه مذحج * والأزد زعزع واستبيح العسكر

وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب * منهم إلى أهل العراق مخبر

واستضلعت عقد الجماعة وازدرى * أمر الخليفة واستحل المنكر ‏‏ ‏‏

قوم همو قتلوا قتيبة عنوة * والخيل جامحة عليها العثير

بالمرج مرج الصين حيث تبينت * مضر العراق من الأعز الأكبر

إذ حالفت جزعاً ربيعة كلها * وتفرقت مضر ومن يتمضر

وتقدمت ازد العراق ومذحج * للموت يجمعها أبوها الأكبر

قحطان تضرب رأس كل مدجج * تحمي بصائرهن إذ لا تبصر

والأزد تعلم أن تحت لوائها * ملكاً قراسيةً وموت أحمر

فبعزنا نصر النبي محمد * وبنا تثبت في دمشق المنبر

وقد بسط ابن جرير هذه القصيدة بسطاً كثيراً وذكر أشعاراً كثيرةً جداً‏.‏

وقال ابن خلكان وقال جرير يرثي قتيبة بن مسلم رحمه الله وسامحه، وأكرم مثواه وعفا عنه‏‏

ندمتم على قتل الأمير ابن مسلم * وأنتم إذا لا قيتم الله أندم

لقد كنتم من غزوه في غنيمة * وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم

على أنه أفضى إلى حور جنة * وتطبق بالبلوى عليكم جهنم

قال‏‏ وقد ولي من أولاد وذريته جماعة الأمرة في البلدان، فمنهم عمر بن سعيد بن قتيبة بن مسلم وكان جواداً ممدحاً، رثاه حين مات أبو عمر وأشجع بن عمرو السلمي المري نزيل البصرة يقول‏‏

مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق * ولا مغرب إلا له فيه مادح

وما كنت أدري ما فواضل كفه * على الناس حتى غيبته الصفائح

وأصبح في لحد من الأرض ضيق * وكانت به حياً تضيق الضحاضح

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض * فحسبك مني ما تجر الجوانح

فما أنا من رزئي وإن جل جازع * ولا بسرور بعد موتك فارح ‏‏ ‏‏

كأن لم يمت حي سواك ولم تقم * على أحد إلا عليك النوائح

لئن حسنت فيك المراثي وذكرها * لقد حسنت من قبل فيك المدائح

قال ابن خلكان‏‏ وهي من أحسن المراثي وهي في الحماسة، ثم تكلم على باهلة وأنها قبيلة مرذولة عند العرب، قال‏‏ وقد رأيت في بعض المجاميع أن الأشعث بن قيس قال‏‏ يا رسول الله أتتكافأ دماؤنا‏؟‏ قال‏‏ ‏‏‏‏نعم ‏!‏ ولو قتلت رجلاً من باهلة لقتلتك‏‏‏‏‏.‏ وقيل لبعض العرب‏‏ أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي‏؟‏ قال‏‏ بشرط أن لا يعلم أهل الجنة بذلك‏.‏ وسأل بعض الأعراب رجلاً ممن أنت‏؟‏ فقال‏‏ من باهلة، فجعل يرثي له، قال‏‏ وأزيدك أني لست من الصميم وإنما أنا من مواليهم‏.‏ فجعل يقبل يديه ورجليه، فقال‏‏ ولم تفعل هذا‏؟‏ فقال‏‏ لأن الله تعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ليعوضك الجنة في الآخرة‏.‏

ثم قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي أمير مصر وحاكمها‏.‏ قلت‏‏ هو قرة بن شريك أمير مصر من جهة الوليد، وهو الذي بنى جامع الفيوم‏.‏

وفيها حج بالناس أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وكان هو الأمير على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى نيابة البصرة ليزيد بن المهلب سفيان بن عبد الله الكندي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن سود، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وتسعين

وفيها جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية، وفيها أمر ابنه داود على الصائفة، ففتح حصن المرأة، قال الواقدي‏‏ وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي بناه الوضاح صاحب الوضاحية‏.‏

وفيها غزا مسلمة أيضاً برجمة ففتح حصوناً وبرجمة وحصن الحديد وسرراً، وشتى بأرض الروم‏.‏

وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم وشتى بها‏.‏

وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وقدم برأسه على سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين‏.‏ مع حبيب بن أبي عبيد الفهري‏.‏

وفيها ولى سليمان نيابة خراسان ليزيد بن المهلب مضافاً إلى ما بيده من إمرة العراق، وكان سبب ذلك أن وكيع بن أبي سود لما قتل قتيبة بن مسلم وذريته، بعث برأس قتيبة إلى سليمان فحظي عنده وكتب له بإمرة خراسان، فبعث يزيد بن المهلب عبد الرحمن ابن الأهتم إلى سليمان بن عبد الملك ليحسن عنده أمر يزيد بن المهلب في إمرة خراسان، ‏‏  ‏‏ وينتقص عنده وكيع بن أبي سود، فسار ابن الأهتم - وكان ذا دهاء ومكر - إلى سليمان بن عبد الملك، فلم يزل به حتى عزل وكيعاً عن خراسان وولى عليها يزيد مع إمرة العراق، وبعث بعهده مع ابن الأهتم، فسار في سبع حتى جاء يزيد، فأعطاه عهد خراسان مع العراق، وكان يزيد وعده بمائة ألف فلم يف بها، وبعث يزيد ابنه مخلداً بين يديه إلى خراسان، ومعه كتاب أمير المؤمنين مضمونه أن قيساً زعموا أن قتيبة بن مسلم لم يكن خلع الطاعة، فإن كان وكيع قد تعرض له وثار عليه بسبب أنه خلع ولم يكن خلع فقيده وابعث به إلي فتقدم مخلد فأخذ وكيعاً فعاقبه وحبسه قبل أن يجيء أبوه، فكانت إمرة وكيع بن أبي سود الذي قتل قتيبة تسعة أشهر أو عشرة أشهر ثم قدم يزيد بن المهلب فتسلم خراسان وأقام بها واستناب في البلاد نواباً ذكرهم ابن جرير قال‏‏ ثم سار يزيد بن المهلب فغزا جرجان ولم يكن يومئذ مدينة بأبواب وصور، وإنما هي جبال وأودية وكان ملكها يقال له‏‏ صول فتحول عنها إلى قلعة هناك، وقيل‏‏ إلى جزيرة في بحيرة هناك ثم أخذوه من البحيرة وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وأسروا وغنموا، قال‏‏ وفيها حج بالناس سليمان بن عبد الملك ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها، غير أن خراسان عزل عنها وكيع بن سود ووليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة مع العراق، وممن

 

 

 

توفي فيها من الأعيان‏‏

 الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب

أبو محمد القرشي الهاشمي روى عن أبيه، عن جده مرفوعاً من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه، وعن عبد الله بن جعفر، عن علي، في دعاء الكرب، وعن زوجته فاطمة بنت الحسين، وعن ابنه عبد الله وجماعة‏.‏

وفد على عبد الملك بن مروان فأكرمه ونصره على الحجاج وأقره وحده على ولاية صدقة علي، وقد ترجمه ابن عساكر فأحسن وذكر عنه آثاراً تدل على سيادته قيل‏‏ إن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة إن الحسن بن الحسن كاتب أهل العراق فإذا جاءك كتابي هذا فاجلده مائة ضربه، وقفه للناس، ولا تراني إلا قاتله‏.‏ ‏‏ ‏‏

فأرسل خلفه فعلمه علي بن الحسين كلمات الكرب فقالها حين دخل عليه فنجاه الله منهم، وهي‏‏ لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض رب العرش العظيم‏.‏

توفي بالمدينة، وكانت أمه خولة بنت منظور الفزاري‏.‏ وقال يوماً لرجل من الرافضة‏‏ والله إن قتلك لقربة إلى الله عز وجل، فقال له الرجل‏‏ إنك تمزح، فقال‏‏ الله ما هذا مني بمزح ولكنه الجد‏.‏

وقال له آخر منهم‏‏ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏من كنت مواه فعلي مولاه‏‏‏‏ ‏؟‏‏.‏ فقال‏‏ بلى، ولو أراد الخلافة لخطب الناس فقال‏‏ أيها الناس اعلموا أن هذا ولي أمركم من بعدي، وهو القائم عليكم فاسمعوا له وأطيعوا، والله لئن كان الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر ثم تركه علي لكان أول من ترك أمر الله ورسوله، وقال لهم أيضاً‏‏ والله لئن ولينا من الأمر شيئاً لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لا نقبل لكم توبة، ويلكم غررتمونا من أنفسنا، ويلكم لو كانت القرابة تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه، لو كان ما تقولون فينا حقاً لكان آباؤنا إذ لم يعلمونا بذلك قد ظلمونا وكتموا عنا أفضل الأمور، والله إني لأخشى أن يضاعف العذاب للعاصي منا ضعفين، كما أني لأرجو للمحسن منا أن يكون له الأجر مرتين، ويلكم أحبونا إن أطعنا الله على طاعته، وأبغضونا إن عصينا الله على معصيته‏.‏

 موسى بن نصير أبو عبد الرحمن اللخمي

مولاهم، كان مولى لا مرأة منهم، وقيل كان مولى لبني أمية، افتتح بلاد المغرب، وغنم منها أموالاً لا تعد ولا توصف، وله بها مقامات مشهورة هائلة، ويقال إنه كان أعرج، ويقال إنه ولد في سنة تسع عشرة، وأصله من عين التمر، وقيل أنه من أراشة من بلِّي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في أيام الصديق، وكان اسم أبيه نصراً فصغر، روى عن تميم الداري، وروى عنه ابنه عبد العزيز، ويزيد بن مسروق اليحصبي، وولي غزو البحر لمعاوية، فغزا قبرص، وبنى هنالك حصوناً كالماغوصة وحصن بانس وغير ذلك من الحصون التي بناها بقبرص، وكان نائب معاوية عليها بعد أن فتحها معاوية في سنة سبع وعشرين، وشهد مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك لجأ موسى بن نصير لعبد العزيز بن مروان، ثم لما دخل مروان بلاد مصر كان معه فتركه عند ابنه عبد العزيز، ثم لما أخذ عبد الملك بلاد العراق جعله وزيراً عند أخيه بشر بن مروان‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكان موسى بن نصير هذا ذا رأي وتدبير وحزم و خبرة بالحرب، قال البغوي‏‏ ولي موسى ابن نصير إمرة بلاد إفريقية سنة تسع وسبعين فافتتح بلاداً كثيرة جداً مدناً وأقاليم، وقد ذكرنا أنه افتتح بلاد الأندلس، وهي بلاد ذات مدن وقرى وريف، فسبى منها ومن غيرها خلقاً كثيراً، وغنم أموالاً كثيرةً جزيلةً، ومن الذهب والجواهر النفيسة شيئاً لا يحصى ولا يعد، وأما الآلات والمتاع والدواب فشيء لا يدرى ما هو وسبى من الغلمان الحسان والنساء الحسان شيئاً كثيراً، حتى قيل أنه لم يسلب أحد مثله من الأعداء، وأسلم أهل المغرب على يديه وبث فيهم الدين والقرآن، وكان إذا سار إلى مكان تحمل الأموال معه على العجل لكثرتها وعجز الدواب عنها‏.‏

وقد كان موسى بن نصير هذا يفتح في بلاد المغرب، وقتيبة يفتح في بلاد المشرق، فجزاهما الله خيراً فكلاهما فتح من الأقاليم والبلدان شيئاً كثيراً، ولكن موسى بن نصير حظي بأشياء لم يحظ بها قتيبة، حتى قيل أنه لما فتح الأندلس جاءه رجل فقال له‏‏ ابعث معي رجالاً حتى أدلك على كنز عظيم، فبعث معه رجالاً فأتى بهم إلى مكان فقال‏‏ احفروا، فحفروا فأفضى بهم الحفر إلى قاعة عظيمة ذات لواوين حسنة، فوجدوا هناك من اليواقيت والجواهر والزبرجد ما أبهتهم، وأما الذهب فشيء لا يعبر عنه، ووجدوا في ذلك الموضع الطنافس، الطنفسة منها منسوجة بقضبان الذهب، منظومة باللؤلؤ الغالي المفتخر، والطنفسة منظومة بالجوهر المثمن، واليواقيت التي ليس لها نظير في شكلها وحسنها وصفاتاه، ولقد سمع يومئذ مناد ينادي لا يرون شخصه أيها الناس إنه قد فتح عليكم باب من أبوب جهنم فخذوا حذركم‏.‏ وقيل إنهم وجدوا في هذا الكنز مائدة سليمان بن داود التي كان يأكل عليها‏.‏ وقد جمع أخباره وما جرى له في حروبه وغزواته رجل من ذريته يقال له أبو معاوية معارك بن مروان بن عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير النصيري‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر‏‏ أن عمر بن عبد العزيز سأل موسى بن نصير حين قدم دمشق أيام الوليد عن أعجب شيء رأيت في البحر، فقال‏‏ انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة مختومة بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، قال‏‏ فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فنقبت فإذا قد خرج منها شيطان ينفض رأسه ويقول‏‏ والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها أفسد في الأرض، قال‏‏ ثم إن ذلك الشيطان نظر فقال‏‏ إني لا أرى بهاء سليمان وملكه، فانساخ في الأرض فذهب، قال‏‏ فأمرت بالثلاث البواقي فرددن إلى مكانهن‏.‏

وقد ذكر السمعاني وغيره عنه أنه سار إلى مدينة النحاس التي بقرب البحر المحيط الأخضر، في أقصى بلاد المغرب، وأنهم لما أشرفوا عليها رأوا بريق شرفاتها وحيطانها من مسافة بعيدة، وأنهم لما أتوها نزلوا عندها، ثم أرسل رجلاً من أصحابه ومعه مائة فارس من الأبطال، وأمره أن يدور حول سورها لينظر هل لها باب أو منفذ إلى داخلها، فقيل‏‏ إنه سار يوماً وليلة حول سورها، ثم رجع إليه فأخبره أنه لم يجد باباً ولا منفذاً إلى داخلها، فأمرهم فجمعوا ما معهم من المتاع بعضه على بعض فلم يبلغوا أعلى سورها، ‏‏ ‏‏ فأمر فعمل سلالم فصعدوا عليها، وقيل‏‏ إنه أمر رجلاً فصعد على سورها، فلما رأي ما في داخلها لم يملك نفسه أن ألقاها في داخلها فكان آخر العهد به، ثم آخر فكذلك، ثم امتنع الناس من الصعود إليها، فلم يحط أحد منهم بما في داخلها علماً، ثم ساروا عنها فقطعوها إلى بحيرة قريبة منها، فقيل‏‏ إن تلك الجرار المذكورة وجدها فيها، ووجد عليها رجلاً قائماً، فقال له‏‏ ما أنت‏؟‏ قال‏‏ رجل من الجن وأبي محبوس في هذه البحيرة حبسه سليمان، فأنا أجيء إليه في كل سنة مرة أزوره‏.‏ فقال له‏‏ هل رأيت أحداً خارجاً من هذه المدينة أو داخلاً إليها‏؟‏ قال‏‏ لا إلا أن رجلاً يأتي في كل سنة إلى هذه البحيرة يتعبد عليها أياماً ثم يذهب فلا يعود إلى مثلها، والله أعلم ما هو‏.‏

ثم رجع إلى إفريقية، والله أعلم بصحة ذلك، والعهدة على من ذكر ذلك أولاً‏.‏

وقد استسقى موسى بن نصير بالناس في سنة ثلاث وتسعين حين أقحطوا بأفريقية، فأمرهم بصيام ثلاثة أيام قبل الاستسقاء، ثم خرج بين الناس وميز أهل الذمة عن المسلمين، وفرق بين البهائم وأولادها، ثم أمر بارتفاع الضجيج والبكاء، وهو يدعو الله تعالى حتى انتصف النهار، ثم نزل فقيل له‏‏ ألا دعوت لأمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏‏ هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله عز وجل، فسقاهم عز وجل لما قال ذلك‏.‏

وقد وفد موسى بن نصير على الوليد بن عبد الملك في آخر أيامه، فدخل دمشق في يوم جمعة والوليد على المنبر، وقد لبس موسى ثياباً حسنةً وهيئةً حسنةً، فدخل ومعه ثلاثون غلاماً من أبناء الملوك الذين أسرهم، والأسبان، وقد ألبسهم تيجان الملوك مع ما معهم من الخدم والحشم والأبهة العظيمة، فلما نظر إليهم الوليد وهو يخطب الناس على منبر جامع دمشق بهت إليهم لما رأى عليهم من الحرير والجواهر والزينة البالغة، وجاء موسى بن نصير فسلم على الوليد وهو على المنبر، وأمر أولئك فوقفوا عن يمين المنبر وشماله، فحمد الله الوليد وشكره على ما أيده به ووسع ملكه، وأطال الدعاء والتحميد والشكر حتى خرج وقت الجمعة، ثم نزل فصلى بالناس، ثم استدعى بموسى بن نصير فأحسن جائزته وأعطاه شيئاً كثيراً، وكذلك موسى بن نصير قدم معه بشيء كثير، من ذلك مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، التي كان يأكل عليها، وكانت من خليطين ذهب وفضة، وعليها ثلاثة أطواق لؤلؤ وجوهر لم ير مثله، وجدها في مدينة طليطلة من بلاد الأندلس مع أموال كثيرة‏.‏

وقيل‏‏ إنه بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس، وبعث ابن أخيه في جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس أيضاً من البربر، فلما جاء كتابه إلى الوليد وذكر فيه أن خمس الغنائم أربعون ألف رأس قال الناس‏‏ إن هذا أحمق، من أين له أربعون ألف رأس خمس الغنائم‏؟‏ فبلغه ذلك فأرسل أربعين ألف رأس وهي خمس ما غنم، ولم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير أمير المغرب‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد جرت له عجائب في فتحه بلاد الأندلس وقال‏‏ ولو انقاد الناس لي لقدتهم حتى أفتح بهم مدينة رومية - وهي المدينة العظمى في بلاد الفرنج - ثم ليفتحها الله على يدي إن شاء الله تعالى، ولما قدم على الوليد قدم معه بثلاثين ألفاً من السبي غير ما ذكرنا، وذلك خمس ما كان غنمه في آخر غزاة غزاها ببلاد المغرب، وقدم معه من الأموال والتحف واللآلي والجواهر ما لا يحد ولا يوصف، ولم يزل مقيماً بدمشق حتى مات الوليد وتولى سليمان، وكان سليمان عاتباً على موسى فحبسه عنده وطالبه بأموال عظيمة‏.‏ ولم يزل في يده حتى حج بالناس سليمان في هذه السنة وأخذه معه فمات بالمدينة، وقيل بوادي القرى، وقد قارب الثمانين، وقيل توفي في سنة تسع وتسعين، فالله أعلم ورحمه الله وعفا عنه بمنه وفضله آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين

ففي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو القسطنيطينية وراء الجيش الذين هم بها، فسار إليها ومعه جيش عظيم، ثم التف عليه ذلك الجيش الذين هم هناك وقد أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام، فلما وصل إليها جمعوا ذلك فإذا هو أمثال الجبال، فقال لهم مسلمة‏‏ اتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه وابنوا لكم بيوتاً من خشب، فإنا لا نرجع عن هذا البلد إلا أن نفتحها إن شاء الله‏.‏

ثم إن مسلمة داخل رجلاً من النصارى يقال له اليون، وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم، فظهر منه نصح في بادئ الأمر، ثم إنه توفي ملك القسطنطينية، فدخل إليون في رسالة من مسلمة وقد خافته الروم خوفاً شديداً، فلما دخل إليهم إليون قالوا له‏‏ رده عنا ونحن نملكك علينا، فخرج فأعمل الحيلة في الغدر والمكر، ولم يزل قبحه الله حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين، وذلك أنه قال لمسلمة إنهم ما داموا يرون هذا الطعام يظنون أنك تطاولهم في القتال، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم، وسلموا إليك البلد سريعاً، فأمر مسلمة بالطعام فأحرق، ‏‏ ‏‏ ثم انشمر إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعه الجيش في الليل، وأصبح وهو في البلد محارباً للمسلمين، وأظهر العداوة الأكيدة، وتحصن واجتمعت عليه الروم، وضاق الحال على المسلمين حتى أكلوا كل شيء إلا التراب، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك، وتوليه عمر بن عبد العزيز، فكروا راجعين إلى الشام وقد جهدوا جهداً شديداً، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجداً بالقسطنطينية شديد البناء محكماً، رحب الفناء شاهقاً في السماء‏.‏

وقال الواقدي‏‏ لما ولي سليمان بن عبد الملك أراد الإقامة ببيت المقدس، ثم يرسل العساكر إلى القسطنطينية، فأشار عليه موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون، حتى يبلغ المدينة فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد، ثم استشار أخاه مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك، فقال سليمان‏‏ هذا هو الرأي ثم أخذ في تجهيز الجيوش من الشام والجزيرة فجهز في البر مائة وعشرين ألفاً، وفي البحر مائة وعشرين ألفاً من المقاتلة، وأخرج لهم الأعطية وأنفق فيهم الأموال الكثيرة، وأعلمهم بغزو القسطنطينية والإقامة إلى أن يفتحوها، ثم سار سليمان من بيت المقدس فدخل دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة، ثم قال‏‏ سيروا على بركة الله وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف‏.‏

ثم سار سليمان حتى نزل مرج دابق، فاجتمع إليه الناس أيضا من المتطوعة المحتسبين أجورهم على الله، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله، ثم أمر مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه إليون الرومي المرعشي، ثم ساروا حتى نزلوا على القسطنطينية، فحاصرها إلى أن برح بهم وعرض أهلها الجزية على مسلمة فأبى إلا أن يفتحها عنوة، قالوا‏‏ فابعث إلينا إليون نشاوره، فأرسله إليهم، فقالوا له‏‏ رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملكك علينا، فرجع إلى مسلمة، فقال‏‏ قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها حتى تتنحى عنهم، فقال مسلمة‏‏ إني أخشى غدرك، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار‏.‏ وغدر إليون بالمسلمين قبحه الله‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة أخذ سليمان بن عبد الملك العهد لولده أيوب أنه الخليفة من بعده، وذلك بعد موت أخيه مروان بن عبد الملك، فعدل عن ولاية أخيه يزيد إلى ولاية ولده أيوب، وتربص بأخيه الدوائر، فمات أيوب في حياة أبيه، فبايع سليمان إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يكون الخليفة من بعده، ونعم ما فعل‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها فتحت مدينة الصقالبة‏.‏

قال الواقدي‏‏ وقد أغارت البرجان على جيش مسلمة وهو في قلة من الناس في هذه السنة‏.‏ فبعث إليه سليمان جيشاً فقاتل البرجان حتى هزمهم الله عز وجل‏.‏

وفيها غزا يزيد بن المهلب قهستان من أرض الصين، فحاصرها وقاتل عندها قتالاً شديداً، ولم يزل حتى تسلمها، وقتل من الترك الذين بها أربعة آلاف صبراً، وأخذ منها من الأموال والأثاث والأمتعة ما لا يحد ولا يوصف كثرة وقيمة وحسناً، ثم سار منها إلى جرجان فاستجاش صاحبها بالديلم، فقدموا لنجدته فقاتلهم يزيد بن المهلب وقاتلوه، فحمل محمد بن عبد الرحمن أبي سبرة الجعفي - وكان فارساً شجاعاً باهراً - على ملك الديلم فقتله وهزمهم الله، ولقد بارز ابن أبي سبرة هذا يوماً بعض فرسان الترك، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دماً وسيق التركي ناشب في خودته، فنظر إليه يزيد بن المهلب فقال‏‏ ما رأيت منظرا أحسن من هذا، من هذا الرجل‏؟‏ قالوا‏‏ ابن أبي سبرة‏.‏ فقال‏‏ نعم الرجل لولا انهماكه في الشراب‏.‏ ثم صمم يزيد على محاصرة جرجان وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف دينار، ومائتي ألف ثوب وأربعمائة حمار موقرة زعفراناً، وأربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس‏‏ على الترس طيلسان وجام من فضة وسرقة من حرير، وهذه المدينة كان سعيد بن العاص فيها فتحها صلحاً على أن يحملوا الخراج في كل سنة مائة ألف، وفي سنة مائتي ألف، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف، ويمنعون ذلك في بعض السنين، ثم امتنعوا جملة وكفروا، فغزاهم يزيد بن المهلب وردها صلحاً على ما كانت عليه في زمن سعيد بن العاص‏.‏

قالوا‏‏ وأصاب يزيد بن المهلب من غيرها أموالاً كثيرةً جداً، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسه، فقال‏‏ أترون أحداً يزهد في هذا‏؟‏ قالوا‏‏ لا نعلمه، فقال‏‏ والله إني لأعلم رجلاً لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه، ثم دعا بمحمد بن واسع - وكان في الجيش مغازياً - فعرض عليه أخذ التاج فقال‏‏ لا حاجة لي فيه، فقال أقسمت عليك لتأخذنه، فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلاً أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج، فمر بسائل فطلب منه شيئاً فأعطاه التاج بكماله، وانصرف فبعث يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالاً كثيراً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال علي بن محمد المدائني، قال أبو بكر الهذلي‏‏ كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب فرفعوا إليه أنه أخذ خريطة فيها مائة دينار، فسأله عنها فقال‏‏ نعم وأحضرها، فقال له يزيد‏‏ هي لك ثم استدعى الذي وشى به فشتمه، فقال‏‏ في ذلك القطامي الكلبي، ويقال‏‏ إنها لسنان بن مكمل النميري‏‏

لقد باع شهر دينه بخريطة * فمن يأمن القراء بعدك يا شهر

أخذت به شيئاً طفيفاً وبعته * من ابن جونبوذان هذا هو الغدر

وقال مرة بن النخعي‏‏

يا ابن المهلب ما أردت إلى امرئ * لولاك كان كصالح القراء

قال ابن جرير‏‏ ويقال إن يزيد بن المهلب كان في غزوة جرجان في مائة ألف وعشرين ألفاً، منهم ستون ألفاً من جيش الشام أثابهم الله، وقد تمهدت تلك لبلاد بفتح جرجان وسلكت الطرق، وكانت قبل ذلك مخوفة جداً، ثم عزم يزيد على المسير إلى خوزستان، وقدم بين يديه سرية هي أربعة آلاف من سراة الناس، فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل من المسلمين في المعركة أربعة آلاف و إنا لله و إنا إليه راجعون‏.‏

ثم إن يزيد عزم على فتح البلاد لا محالة، وما زال حتى صالحه صاحبها - وهو الأصبهبذ - بمال كثير سبعمائة، ألف في كل عام، وغير ذلك من المتاع والرقيق‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏‏

 عبد الله بن عبد الله بن عتبة

كان إماماً حجةً، وكان مؤدب عمر بن عبد العزيز، وله روايات كثيرة عن جماعات من الصحابة‏.‏

أبو الحفص النخعي

عبد الله بن محمد بن الحنفية

وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين

فيها كانت وفاة سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين يوم الجمعة لعشر مضين، وقيل بقين من صفر منها، عن خمس وأربعين سنة، وقيل عن ثلاث وأربعين، وقيل أنه لم يجاوز الأربعين‏.‏

وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، وزعم أبو أحمد الحاكم‏‏ أنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقيت من رمضان منها، وأنه استكمل في خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، والصحيح قول الجمهور وهو الأول، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وهو سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أبو أيوب‏.‏

كان مولده بالمدينة في بني جذيلة، ونشأ بالشام عند أبيه، وروى الحديث عن أبيه، عن جده، عن عائشة أم المؤمنين، في قصة الإفك، رواه ابن عساكر من طريق ابنه عبد الواحد بن سليمان، عنه، وروى عن عبد الرحمن بن هنيدة أنه صحب عبد الله بن عمر إلى الغابة قال‏‏ فسكت، فقال لي ابن عمر‏‏ مالك‏؟‏ فقال‏‏ إني كنت أتمنى‏.‏ فقال ابن عمر‏‏ فما تتمنى يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ فقال لي‏‏ لو أن لي أحداً هذا ذهباً أعلم عدده وأخرج زكاته ما كرهت ذلك، أو قال‏‏ ما خشيت أن يضرّ بي‏.‏ رواه محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي صالح، عن الليث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عنه‏.‏

قال ابن عساكر‏‏ وكانت داره بدمشق موضع ميضأة جيرون الآن في تلك المساحة جميعها، وبنى داراً كبيرةً مما يلي باب الصغير، موضع الدرب المعروف بدرب محرز، وجعلها دار الإمارة، وعمل فيها قبة صفراء تشبيهاً بالقبة الخضراء، قال‏‏ وكان فصيحاً مؤثراً للعدل محباً للغزو، وقد أنفذ الجيش لحصار القسطنطينية حتى صالحوهم على بناء الجامع بها‏.‏

وقد روى أبو بكر الصولي‏‏ أن عبد الملك جمع بنيه، الوليد وسليمان و مسلمة، بين يديه فاستقرأهم القرآن فأجادوا القراءة، ثم استنشدهم الشعر فأجادوا، غير أنهم لم يكملوا أو يحكموا شعر الأعشى، فلامهم على ذلك، ثم قال‏‏ لينشدني كل رجل منكم أرق بيت قالته العرب ولا يفحش، هات يا وليد، فقال الوليد‏‏

ما مركبٌ وركوبُ الخيلِ يعجبني * كمركب بين دملوجٍ وخلخالِ

فقال عبد الملك‏‏ وهل يكون من الشعر أرق من هذا‏؟‏ هات يا سليمان، فقال‏‏

حبذا رجعها يديها إليها * في يدي درعها تحل الإزارا

فقال‏‏ لم تصب، هات يا مسلمة، فأنشده قول امرئ القيس‏‏

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتَّل

فقال‏‏ كذب امرؤ القيس ولم يصب، إذا ذرفت عيناها بالوجد فما بقى إلا اللقاء، وإنما ينبغي للعاشق أن يغتضي منها الجفاء ويكسوها المودة، ثم قال‏‏ أنا مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام فمن أتاني به فله حكمه، أي مهما طلب أعطيته، فنهضوا من عنده فبينما سليمان في موكب إذا هو بأعرابي يسوق إبله وهو يقول‏‏ ‏‏ ‏‏

لو ضربوا بالسيف رأسي في مودتها * لمال يهوي سريعاً نحوها رأسي

فأمر سليمان بالأعرابي فاعتقل، ثم جاء إلى أبيه فقال‏‏ قد جئتك بما سألت، فقال‏‏ هات، فأنشده البيت فقال‏‏ أحسنت، وأنى لك هذا‏؟‏ فأخبره خبر الأعرابي، فقال‏‏ سل حاجتك ولا تنس صاحبك‏.‏ فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إنك عهدت بالأمر من بعدك للوليد، وإني أحب أن أكون ولي العهد من بعده، فأجابه إلى ذلك، وبعثه على الحج في إحدى وثمانين، وأطلق له مائة ألف درهم، فأعطاها سليمان لذلك الأعرابي الذي قال ذلك البيت من الشعر، فلما مات أبوه سنة ست وثمانين وصارت الخلافة إلى أخيه الوليد، كان بين يديه كالوزير والمشير، وكان هو المستحث على عمارة جامع دمشق، فلما توفي أخوه الوليد يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، كان سليمان بالرملة، فلما أقبل تلقاه الأمراء ووجوه الناس، وقيل إنهم ساروا إليه إلى بيت المقدس فبايعوه هناك، وعزم على الإقامة بالقدس، وأتته الوفود إلى بيت المقدس، فلم يروا وفادة هناك، وكان يجلس في قبة في صحن المسجد مما يلي الصخرة من جهة الشمال، وتجلس أكابر الناس على الكراسي، وتقسم فيهم الأموال، ثم عزم على المجيء إلى دمشق، فدخلها وكمل عمارة الجامع‏.‏

وفي أيامه جددت المقصورة واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشاراً ووزيراً، وقال له‏‏ إنا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به فليكتب، وكان من ذلك عزل نواب الحجاج وإخراج أهل السجون منها، وإطلاق الأسرى، وبذل الأعطية بالعراق، ورد الصلاة إلى ميقاتها الأول، بعد أن كانوا يؤخرونها إلى آخر وقتها، مع أمور حسنة كان يسمعها من عمر بن عبد العزيز، وأمر بغزو القسطنطينية فبعث إليها من أهل الشام والجزيرة والموصل في البر نحواً من مائة ألف وعشرين ألف مقاتل، وبعث من أهل مصر وإفريقية ألف مركب في البحر عليهم عمر بن هبيرة، وعلى جماعة الناس كلهم أخوه مسلمة، ومعه ابنه داود بن سليمان بن عبد الملك في جماعة من أهل بيته، وذلك كله عن مشورة موسى بن نصير‏‏ حين قدم عليه من بلاد المغرب، والصحيح أنه قدم في أيام أخيه الوليد، والله أعلم‏.‏

قال ابن أبي الدنيا‏‏ حدثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الكوفي، عن جابر بن عون الأسدي‏.‏ قال‏‏ أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك حين ولى الخلافة أن قال‏‏ الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع وما شاء وضع، ومن شاء أعطى ومن شاء منع‏.‏ إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، وزينة تقلب، تضحك باكياً وتبكي ضاحكاً، وتخيف آمناً وتؤمن خائفاً، تفقر مثريها، وتثري فقيرها، ميالة لاعبة بأهلها‏.‏ يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إماماً، وارضوا به حكماً، ‏‏ ‏‏ واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخ لما قبله، ولم ينسخه كتاب بعده‏.‏ اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس أدبار الليل إذا عسعس‏.‏

وقال يحيى بن معين، عن حجاج بن محمد، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال‏‏ سمعت سليمان بن عبد الملك يقول في خطبته‏‏ فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه‏.‏

وقال حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم‏.‏ قال‏‏ كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة لا يدع أن يقول في خطبته وإنما أهل الدنيا على رحيل، لم تمض لهم نية ولم تطمئن بهم حتى يأتي أمر الله ووعده وهم على ذلك، كذلك لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها ولا تبقى من شر أهلها ثم يتلو‏‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏‏ -‏]‏‏.‏

وروى الأصمعي أن نقش خاتم سليمان كان‏‏ آمنت بالله مخلصاً، وقال أبو مسهر، عن أبي مسلم سلمة بن العيار الفزاري‏.‏ قال‏‏ كان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول‏‏ افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز‏.‏

قد أجمع علماء الناس والتواريخ أنه حج بالناس في سنة سبع وتسعين وهو خليفة، قال الهيثم بن عدي قال الشعبي‏‏ حج سليمان بن عبد الملك فلما رأى الناس بالموسم قال لعمر بن عبد العزيز‏‏ ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره، فقال‏‏ يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غداً خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاءً شديداً، ثم قال‏‏ بالله أستعين‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا، ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، قال‏‏ كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد الملك فأصابهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة، حتى فزعوا لذلك، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان‏‏ ما يضحكك يا عمر‏؟‏ أما ترى ما نحن فيه‏؟‏ فقال له‏‏ يا أمير المؤمنين هذه آثار رحمته فيها شدائد ما نرى، فكيف بآثار سخطه وغضبه‏؟‏

ومن كلامه الحسن رحمه الله قوله‏‏ الصمت منام العقل والنطق يقظته، ولا يتم هذا إلا بهذا‏.‏

ودخل عليه رجل فكلمه فأعجبه منطقه ثم فتشه فلم يحمد عقله، فقال‏‏ فضل منطق الرجل على عقله خدعه، وفضل عقله على منطقه هجنة، وخير ذلك ما أشبه بعضه بعضاً‏.‏

وقال‏‏ العاقل أحرص على إقامة لسانه منه على طلب معاشه‏.‏

وقال أيضاً‏‏ إن من تكلم فأحسن قادر على أن يسكت فيحسن، وليس كل من سكت فأحسن قادراً على أن يتكلم فيحسن‏.‏

ومن شعره يتسلى عن صديق له مات فقال‏‏ ‏‏ ‏‏

وهون وجدي في شراحيل أنني * متى شئت لاقيت امرءاً مات صاحبه

ومن شعره أيضاً‏‏

ومن شيمي ألا أفارق صاحبي * وإن ملني إلا سألت له رشدا

وإن دام لي بالواد دمت ولم أكن * كآخر لا يرعى ذماماً ولا عهدا

وسمع سليمان ليلة صوت غناء في معسكره فلم يزل يفحص حتى أتى بهم، فقال سليمان‏‏ إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الجمل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخذى له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم أمر بهم فقال‏‏ اخصوهم، فيقال إن عمر بن عبد العزيز قال‏‏ يا أمير المؤمنين إنها مثلة، ولكن انفهم، فنفاهم‏.‏ وفي رواية أنه خصى أحدهم، ثم سأل عن أصل الغناء فقيل‏‏ إنه بالمدينة فكتب إلى عامله بها وهو أبو بكر بن محمد بن حزم يأمره أن يخصي من عنده من المغنين المخنثين‏.‏

وقال الشافعي‏‏ دخل أعرابي على سليمان فدعاه إلى أكل الفالوذج وقال له‏‏ إن أكلها يزيد في الدماغ فقال‏‏ لو كان هذا صحيحاً لكان ينبغي أن يكون رأس أمير المؤمنين مثل رأس البغل‏.‏

وذكروا أن سليمان كان نهما في الأكل، وقد نقلوا عنه أشياء في ذلك غريبة، فمن ذلك أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على العادة في السماط العام‏.‏

ودخل ذات يوم بستاناً له وكان قد أمر قيمه أن يجثى ثماره، فدخله ومعه أصحابه فأكل القوم حتى ملوا، واستمر هو يأكل أكلا ذريعاً من تلك الفواكه، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها ثم اقبل على أكل الفاكهة، ثم أتي بدجاجتين فأكلهما، ثم عاد إلى الفاكهة فأكل منها، ثم أتي بقعب يقعد فيه الرجل مملوءاً سويقاً وسمناً وسكراً فأكله، ثم عاد إلى دار الخلافة، وأتي بالسماط فما فقدوا من أكله شيئاً‏.‏

وقد روى أنه عرضت له حمى عقب هذا الأكل أدته إلى الموت، وقد قيل أن سبب مرضه كان من أكل أربعمائة بيضة وسلتين تيناً، فالله أعلم‏.‏

وذكر الفضل بن أبي المهلب أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء و اعتم بعمامة خضراء وجلس على فراش أخضر وقد بسط ما حوله بالخضرة، ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه، فشمر عن ذراعيه و قال‏‏ أنا الخليفة الشاب، وقيل‏‏ إنه كان ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه و يقول‏‏ أنا الملك الشاب، وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول‏‏ كان محمد نبياً، و كان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان علي شجاعاً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جبارا ً، وأنا الملك الشاب‏.‏ ‏‏ ‏‏

قالوا‏‏ فما حال عليه بعد ذلك شهر، وفي رواية جمعة، حتى مات‏.‏

قالوا‏‏ ولما حم شرع يتوضأ فدعا بجارية فصبت عليه ماء الوضوء ثم أنشدته‏‏

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للإنسان

أنت خلوٌ من العيوب ومما * يكره الناس غير أنك فان

قالوا‏‏ صاح بها، وقال‏‏ عزتني في نفسي، ثم أمر خاله الوليد بن العباس القعقاع العنسي أن يصب عليه وقال‏‏

قرب وضوءك يا وليد فإنما * دنياك هذي بلغة ومتاع

فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً * فالدهر فيه فرقة وجماع

ويروى أن الجارية لما جاءته بالطست جعلت تضطرب من الحمى، فقال‏‏ أين فلانة‏؟‏ فقالت‏‏ محمومة، قال‏‏ ففلانة‏؟‏ قالت‏‏ محمومة، وكان بمرج دابق من أرض قنسرين، فأمر خاله فوضأه ثم خرج يصلي بالناس فأخذته بحة في الخطبة، ثم نزل وقد أصابته الحمى فمات في الجمعة المقبلة، ويقال‏‏ إنه أصابه ذات الجنب فمات بها رحمه الله‏.‏

وكان قد أقسم أنه لا يبرح بمرج دابق حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية، أو يموت قبل ذلك، فمات قبل ذلك رحمه الله وأكرم مثواه، قالوا‏‏ وجعل يلهج في مرضه ويقول‏‏

إن بنيَّ صغار * أفلح من كان له كبار

فيقول له عمر بن عبد العزيز‏‏ قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين، ثم يقول‏‏

إن بنيَّ صبية صيفيون * قد أفلح من كان له ربعيون

ويروى أن هذا آخر ما تكلم به، والصحيح أن آخر ما تكلم به أن قال‏‏ أسألك منقلباً كريماً، ثم قضى‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى ابن جرير عن رجاء بن حيوة - وكان وزير صدق لبني أمية - قال‏‏ استشارني سليمان بن عبد الملك وهو مريض أن يولي له ابناً صغيراً لم يبلغ الحلم، فقلت‏‏ إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولي على المسلمين الرجل الصالح، ثم شاورني في ولاية ابنه داود، فقلت‏‏ إنه غائب عنك بالقسطنطينية ولا تدري أحي هو أو ميت، فقال‏‏ من ترى‏؟‏ فقلت‏‏ رأيك يا أمير المؤمنين، قال‏‏ فكيف ترى في عمر بن عبد العزيز‏؟‏ فقلت‏‏ أعلمه والله خيراً فاضلاً مسلماً يحب الخير وأهله، ولكن أتخوف عليه إخوتك أن لا يرضوا بذلك، فقال‏‏ هو والله على ذلك وأشار رجال أن يجعل يزيد بن عبد الملك ولي العهد من بعد عمر بن عبد العزيز ليرضى بذلك بنو مروان، فكتب‏‏

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم‏.‏

وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة، فقال له‏‏ اجمع أهل بيتي فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً، فمن أبى منهم ضرب عنقه‏.‏ فاجتمعوا ودخل رجال منهم فسلموا على أمير المؤمنين، فقال لهم‏‏ هذا الكتاب عهدي إليكم، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا من وليت فيه، فبايعوا لذلك رجلاً رجلاً، قال رجاء‏‏ فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال‏‏ أنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان كتب لي ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة، فقلت‏‏ والله لا أخبرك حرفاً واحداً‏.‏ قال‏‏ ولقيه هشام بن عبد الملك فقال‏‏ يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة، فأخبرني هذا الأمر إن كان إلي علمت، وإن كان لغيري فما مثلي قصر به عن هذا، فقلت‏‏ والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسره إلي أمير المؤمنين، قال رجاء‏‏ ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت أحرفه إلى القبلة، فإذا أفاق يقول‏‏ لم يأن لذلك بعد يا رجاء، فلما كانت الثالثة قال‏‏ من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال‏‏ فحرفته إلى القبلة فمات رحمه الله‏.‏ قال‏‏ فغطيته بقطيغة خضراء وأغلقت الباب عليه وأرسلت إلى كعب بن حامد فجمع الناس في مسجد دابق، فقلت‏‏ بايعوا لمن في هذا الكتاب، فقالوا‏‏ قد بايعنا، فقلت‏‏ بايعوا ثانية، ففعلوا، ثم قلت‏‏ قوموا إلى صاحبكم فقد مات، وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز تغيرت وجوه بني مروان، فلما قرأت وإن هشام بن عبد الملك بعده، تراجعوا بعض الشيء‏.‏ ونادى هشام لا نبايعه أبداً، فقلت‏‏ أضرب عنقك والله، قم فبايع، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، فلما تحقق ذلك قال‏‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ‏‏ ‏‏ ولم تحمله رجلاه حتى أخذوا بضبعية فأصعدوه على المنبر، فسكت حيناً، فقال رجاء بن حيوة‏‏ ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه، فنهض القوم فبايعوه، ثم أتى هشام فصعد المنبر ليبايع وهو يقول‏‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عمر‏‏ نعم ‏!‏ إنا لله وإنا إليه راجعون الذي صرت أنا وأنت نتنازع هذا الأمر‏.‏

ثم قام فخطب الناس خطبة بليغة وبايعوه، فكان مما قال في خطبته‏‏ أيها الناس، إني لست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ، ثم نزل، فأخذوا في جهاز سليمان، قال الأوزاعي‏‏ فلم يفرغوا منه حتى دخل وقت المغرب، فصلى عمر بالناس صلاة المغرب، ثم صلى على سليمان ودفن بعد المغرب، فلما انصرف عمر أُتي بمراكب الخلافة فأبى أن يركبها وركب دابته وانصرف مع الناس حتى أتوا دمشق، فمالوا به نحو دار الخلافة فقال‏‏ لا أنزل إلا في منزلي حتى تفرغ دار أبي أيوب، فاستحسنوا ذلك منه، ثم استدعى بالكاتب فجعل يملي عليه نسخة الكتاب الذي يبايع عليه الأمصار، قال رجاء‏‏ فما رأيت أفصح منه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏‏ وكان وفاة سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال خلت من صفر سنة تسع وتسعين، على رأس سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوماً من متوفى الوليد، وكذا قال الجمهور في تاريخ وفاته، ومنهم من يقول‏‏ لعشر بقين من صفر، وقالوا‏‏ كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، زاد بعضهم إلا خمسة أيام، والله أعلم‏.‏

وقول الحاكم أبي أحمد‏‏ إنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقين من رمضان سنة تسع وتسعين، حكاه ابن عساكر، وهو غريب جداً، وقد خالفه الجمهور في كل ما قاله، وعندهم أنه جاوز الأربعين فقيل‏‏ بثلاث، وقيل‏‏ بخمس، والله أعلم‏.‏

قالوا‏‏ وكان طويلاً جميلاً أبيض نحيفاً، حسن الوجه، مقرون الحاجبين، وكان فصيحاً بليغاً، يحسن العربية ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، واتباع القرآن والسنة، وإظهار الشرائع الإسلامية رحمه الله، وقد كان رحمه الله آلى على نفسه حين خرج من دمشق إلى مرج دابق - ودابق قريبة من بلاد حلب - لما جهز الجيوش إلى مدينة الروم العظمى المسماة بالقسطنطينية، أن لا يرجع إلى دمشق حتى تفتح أو يموت، فمات هنالك كما ذكرنا، فحصل له بهذه النية أجر الرباط في سبيل الله، فهو إن شاء الله ممن يجرى له ثوابه إلى يوم القيامة رحمه الله‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة شراحيل بن عبيدة بن قيس العقيلي ما مضمونه‏‏ إن مسلمة ابن عبد الملك لما ضيق بمحاصرته على أهل القسطنطينية، وتتبع المسالك واستحوذ على ما هنالك من الممالك، كتب إليون ملك الروم إلى ملك البرجان يستنصره على مسلمة، ويقول له‏‏ ليس لهم همة إلا في الدعوة إلى دينهم، الأقرب منهم فالأقرب، وإنهم متى فرغوا مني خلصوا إليك، فمهما كنت صانعاً حينئذ فاصنعه الآن، فعند ذلك شرع لعنه الله في المكر والخديعة، فكتب إلى مسلمة يقول له‏‏ إن إليون كتب إليّ يستنصرني عليك، وأنا معك فمرني لما شئت‏.‏ فكتب إليه مسلمة‏‏ إني لا أريد منك رجالاً ولا عدداً، ولكن أرسل إلينا بالميرة فقد قلَّ ما عندنا من الأزواد‏.‏ فكتب إليه‏‏ إني قد أرسلت إليك بسوق عظيمة إلى مكان كذا وكذا، فأرسل من يتسلمها ويشتري منها‏.‏ فأذن مسلمة لمن شاء من الجيش أن يذهب إلى هناك فيشتري له ما يحتاج إليه، فذهب خلق كثير فوجدوا هنالك سوقاً هائلةً، فيها من أنواع البضائع الأمتعة والأطعمة، فأقبلوا يشترون، واشتغلوا بذلك، ولا يشعرون بما أرصد لهم الخبيث من الكمائن بين تلك الجبال التي هنالك، فخرجوا عليهم بغتة واحدة فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين وأسروا آخرين، وما رجع إلى مسلمة إلا القليل منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فكتب مسلمة بذلك إلى أخيه سليمان يخبره بما وقع من ذلك، فأرسل جيشاً كثيفاً صحبة شراحيل بن عبيدة هذا، وأمرهم أن يعبروا خليج القسطنطينية أولاً فيقاتلوا ملك البرجان، ثم يعودوا إلى مسلمة، فذهبوا إلى بلاد البرجان وقطعوا إليهم تلك الخلجان، فاقتتلوا معهم قتالاً شديداً، فهزمهم المسلمون بإذن الله، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسبوا وأسروا خلقاً كثيراً، وخلصوا أسرى المسلمين، ثم تحيزوا إلى مسلمة فكانوا عنده حتى استقدم الجميع عمر بن عبد العزيز خوفاً عليهم من غائلة الروم وبلادهم، ومن ضيق العيش، وقد كان لهم قبل ذلك مدة طويلة أثابهم الله‏.‏

 خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

قد تقدم أنه بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر مضين، وقد قيل‏‏ بقين من صفر من هذه السنة - أعني سنة تسع وتسعين - يوم مات سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه إليه من غير علم من عمر كما قدمنا، وقد ظهرت عليه مخايل الورع والدين والتقشف والصيانة والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال أنه خطب الناس فقال في خطبته‏‏ أيها الناس إن لي نفساً تواقةً لا تعطى شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة، فأعينوني عليها يرحمكم الله‏.‏ ‏‏ ‏‏

وستأتي ترجمته عند وفاته إن شاء الله، وكان مما بادر إليه عمر في هذه السنة أن بعث إلى مسلمة بن عبد الملك ومن معه من المسلمين وهم بأرض الروم محاصروا القسطنطينية، وقد اشتد عليهم الحال وضاف عليهم المجال، لأنهم عسكر كثير، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى الشام إلى منازلهم‏.‏ وبعث إليهم بطعام كثير وخيول كثيرة عتاق، يقال‏‏ خمسمائة فرس، ففرح الناس بذلك‏.‏

وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، فوجه إليهم عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الأتراك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وبعث منهم أسارى إلى عمر وهو بخناصرة‏.‏

وقد كان المؤذنون يذكرونه بعد أذانهم باقتراب الوقت وضيقه لئلا يؤخرها كما كان يؤخرها من قبله، لكثرة الاشتغال ، وكان ذلك عن أمره لهم بذلك، والله أعلم‏.‏ فروى ابن عساكر في ترجمة جرير بن عثمان الرحبي الحمصي قال‏‏ رأيت مؤذني عمر بن عبد العزيز يسلمون عليه في الصلاة‏‏ السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة قد قاربت‏.‏

وفي هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن إمرة العراق وبعث عدي بن أرطاة الفزاري على إمرة البصرة، فاستقضى عليها الحسن البصري، ثم استعفاه فأعفاه، واستقضى مكانه إياس بن معاوية الذكي المشهور، وبعث على إمرة الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وضم إليه أبا الزناد كاتباً بين يديه، واستقضى عليها عامراً الشعبي‏.‏ قال الواقدي‏‏ فلم يزل قاضياً عليها مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، وجعل على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي، وكان نائب مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى إمرة المدينة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، وعزل عن إمرة مصر عبد الملك بن أبي وداعة وولى عليها أيوب بن شرحبيل، وجعل الفتيا إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، فهؤلاء الذين كانوا يفتون الناس، واستعمل على إفريقية وبلاد المغرب إسماعيل بن عبد الله المخزومي، وكان حسن السيرة، وأسلم في ولايته على بلاد المغرب خلق كثير من البربر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏‏

 الحسن بن محمد بن الحنفية

تابعي جليل، يقال‏‏ إنه أول من تكلم في الأرجاء، وقد تقدم أن أبا عبيد قال‏‏ توفي في سنة خمس وتسعين، وذكر خليفة أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وذكر شيخنا الذهبي في الإعلام‏‏ أنه توفي هذا العام، والله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

 عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد

القرشي الجمحي المكي، نزيل بيت المقدس، تابعي جليل، روى عن زوج أم أبي محذورة المؤذن، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، ومعاوية، وغيرهم، وعنه خالد بن معدان، ومكحول، وحسان بن عطية، والزهري، وآخرون‏.‏

وقد وثقه غير واحد، وأثنى عليه جماعة من الأئمة، حتى قال رجاء بن حيوة‏‏ إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا عبد الله بن محيريز‏.‏

وقال بعض ولده‏‏ كان يختم القرآن كل جمعة، وكان يفرش له الفراش فلا ينام عليه‏.‏

قالوا‏‏ وكان صموناً معتزلاً للفتن، وكان لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يذكر شيئاً من خصاله المحمودة‏.‏

ورأى على بعض الأمراء حلة من حرير فأنكر عليه، فقال‏‏ إنما ألبسها من أجل هؤلاء - وأشار إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين - فقال له ابن محيريز‏‏ لا تعدل بخوفك من الله خوف أحد من المخلوقين‏.‏

وقال الأوزاعي‏‏ من كان مقتدياً فليقتد بمثله، فإن الله لا يضل أمة فيها مثله‏.‏

قال بعضهم‏‏ توفي أيام الوليد، وقال خليفة بن خياط‏‏ توفي أيام عمر بن عبد العزيز، وذكر الذهبي في الأعلام أنه توفي في هذا العام، والله سبحانه أعلم‏.‏

دخل ابن محيريز مرة حانوت بزاز ليشتري منه ثوباً فرفع في السوم، فقال له جاره‏‏ ويحك هذا ابن محيريز ضع له، فأخذ ابن محيريز بيد غلامه وقال‏‏ اذهب بنا، إنما جئت لنشتري بأموالنا لا بأدياننا، فذهب وتركه‏.‏

 محمود بن لبيد بن عقبة

أبو نعيم الأنصاري الأشهلي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث لكن حكمها حكم الإرسال‏.‏ وقال البخاري‏‏ له صحبة‏.‏ وقال ابن عبد البر‏‏ هو أحسن من محمود بن الربيع‏.‏ قيل‏‏ إنه توفي سنة ست، وقيل‏‏ سبع وتسعين، وذكر الذهبي في الأعلام أنه توفي في هذا العام والله أعلم باليقين‏.‏

 نافع بن جبير بن مطعم

ابن عدي بن نوفل القرشي النوفلي المدني، روى عن أبيه وعثمان وعلي والعباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان ثقة عابداً يحج ماشياً ومركوبه يقاد معه، قال غير واحد‏‏ توفي سنة تسع وتسعين بالمدينة‏.‏

 كريب بن مسلم

مولى ابن عباس روى عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان عنده حمل كتب، وكان من الثقات المشهورين بالخير والديانة‏.‏ ‏‏ ‏‏

 محمد بن جبير بن مطعم

كان من علماء قريش وأشرافها، وله روايات كثيرة، وكان يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وعمره أربع سنين، توفي وعمره ثلاث وتسعون سنة بالمدينة‏.‏

 مسلم بن يسار

أبو عبد الله البصري، الفقيه الزاهد، له روايات كثيرة، كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وكان عابداً ورعاً زاهداً كثير الصلاة كثير الخشوع، وقيل‏‏ إنه وقع في داره حريق فأطفاؤه وهو في الصلاة لم يشعر به‏.‏ وله مناقب كثيرة رحمه الله‏.‏

قلت‏‏ وانهدمت مرة ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في صلاته فما التفت‏.‏

وقال ابنه‏‏ رأيته ساجداً وهو يقول‏‏ متى ألقاك وأنت عني راض، ثم يذهب في الدعاء، ثم يقول‏‏ متى ألقاك وأنت عني راض، وكان إذا كان في غير صلاة كأنه في الصلاة، وقد تقدمت ترجمته‏.‏

 حنش بن عمرو الصنعاني

كان والي إفريقية وبلاد المغرب، وبإفريقية توفي غازياً، وله روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة‏.‏

 

خارجة بن زيد

ابن الضحاك الأنصاري المدني الفقيه، كان يفتي بالمدينة، وكان من فقهائها المعدودين، كان عالماً بالفرائض وتقسيم المواريث، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين مدار الفتوى على قولهم‏.‏

 سنة مائة من الهجرة النبوية

قال الإمام أحمد‏‏ حدثنا علي بن حفص، أنبأ ورقاء، عن منصور، عن المنهال بن عمرو، عن نعيم بن دجاجة، قال‏‏ دخل ابن مسعود على علي فقال‏‏ أنت القائل قال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏‏‏ ‏‏‏‏لا يأتي على الناس مائة عام وعلى الأرض نفس منفوسة‏‏‏‏‏؟‏ إنما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏لا يأتي على الناس مائة عام وعلى الأرض نفس منفوسة ممن هو حي، وإن رخاء هذه الأمة بعد المائة‏‏‏‏‏.‏ تفرد به أحمد وفي رواية لابنه عبد الله أن علياً قال له‏‏ يا فروخ أنت القائل لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف ممن هو حي اليوم، وإنما رخاء هذه الأمة وفرحها بعد المائة‏؟‏ إنما قال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏‏‏ ‏‏‏‏لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف، أخطأت أستك الحفرة، وإنما أراد ممن هو اليوم حي‏‏‏‏‏.‏ تفرد به وهكذا جاء في الصحيحين عن ابن عمر، فوهل الناس في مقالة رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ تلك، وإنما أراد انخرام قرنه‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها خرجت خارجة من الحرورية بالعراق فبعث أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد نائب الكوفة، يأمره بأن يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى يفسدوا في الأرض، فلما فعلوا ذلك بعث إليهم جيشاً فكسرهم الحرورية، فبعث عمر إليه يلومه على جيشه، وأرسل عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك من الجزيرة إلى حربهم، فأظفره الله بهم، وقد أرسل عمر إلى كبير الخوارج - وكان يقال له‏‏ بسطام - يقول له‏‏ ما أخرجك عليّ‏؟‏ فإن كنت خرجت غضاً لله فأنا أحق بذلك منك، ولست أولى بذلك مني، وهلم أناظرك، فإن رأيت حقاً اتبعته، وإن أبديت حقاً نظرنا فيه‏.‏ فبعث طائفة من أصحابه إليه فاختار منهم عمر رجلين فسألهما‏‏ ماذا تنقمون‏؟‏ فقالا‏‏ جعلك يزيد بن عبد الملك من بعدك، فقال‏‏ إني لم أجعله أبداً وإنما جعله غيري‏.‏ قالا‏‏ فكيف ترضى به أميناً للأمة من بعدك‏؟‏ فقال‏‏ أنظراني ثلاثة، فيقال إن بني أمية دست إليه سماً فقتلوه خشية أن يخرج الأمر من أيديهم ويمنعهم الأموال، والله أعلم‏.‏

وفيها غزا عمر بن الوليد بن هشام المعيطي، وعمر بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة‏.‏

وفيها ولي عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الجزيرة فسار إليها‏.‏

وفيها حمل يزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز من العراق، فأرسله عدي بن أرطاة نائب البصرة مع موسى بن وجيه، وكان عمر يبغض يزيد بن المهلب وأهل بيته، ويقول هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، فلما دخل على عمر طالبه بما قبله من الأموال التي كان قد كتب إلى سليمان أنها حاصلة عنده، فقال‏‏ إنما كتبت ذلك لأرهب الأعداء بذلك، ولم يكن بيني وبين سليمان شيء، وقد عرفت مكانتي عنده‏.‏ فقال له عمر‏‏ لا أسمع منك هذا، ولست أطلقك حتى تؤدي أموال المسلمين، وأمر بسجنه‏.‏

وكان عمر قد بعث على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي عوضه، وقدم ولد يزيد بن المهلب، مخلد بن يزيد، فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد منَّ على هذه الأمة بولايتك عليها، فلا نكونن نحن أشقى الناس بك، فعلام تحبس هذا الشيخ وأنا أقوم له أتصالحني عنه‏؟‏ فقال عمر‏‏ لا أصالحك عنه إلا أن تقوم بجميع ما يطلب منه، ولا آخذ منه إلا جميع ما عنده من مال المسلمين‏.‏ فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة عليه بما تقول وإلا فاقبل يمينه أو فصالحني عنه، فقال‏‏ لا آخذ منه إلا جميع ما عنده‏.‏ فخرج مخلد بن يزيد من عند عمر، فلم يلبث أن مات مخلد‏.‏ وكان عمر يقول‏‏ هو خير من أبيه‏.‏

ثم إن عمر أمر بأن يلبس يزيد بن المهلب جبة صوف ويركب على بعير إلى جزيرة دهلك التي كان ينفي إليها الفساق، فشفعوا فيه فرده إلى السجن، فلم يزل به حتى مرض عمر مرضه الذي مات فيه، فهرب من السجن وهو مريض، وعلم أنه يموت في مرضه ذلك، وبذلك كتب إليه كما سيأتي، وأظنه كان عالماً أن عمر قد سقى سماً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها في رمضان منها عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان، بعد سنة وخمسة أشهر، وإنما عزله لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول‏‏ أنتم إنما تسلمون فراراً منها‏.‏ فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر‏‏ إن الله إنما بعث محمداً ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ داعياً، ولم يبعثه جابياً‏.‏ وعزله وولى بدله عبد الرحمن بن نعيم القشيري على الحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج‏.‏

وفيها كتب عمر إلى عماله يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم الحق ويوضحه لهم ويعظهم فيما بينه وبينهم، ويخوفهم بأس الله وانتقامه، وكان فيما كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم القشيري‏‏

أما بعد فكن عبد الله ناصحاً لله في عباده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، ولا تولين شيئاً من أمور المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم‏.‏ وأدَّى الأمانة فيما استرعي، وإياك أن يكون ميلك ميلاً إلى غير الحق، فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهباً، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه‏.‏

وكتب مثل ذلك مواعظ كثيرة إلى العمال‏.‏ وقال البخاري في صحيحه‏‏ وكتب عمر إلى عدي بن عدي‏‏ إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص‏.‏

 وفيها كان بدوّ دعوة بني العباس

وذلك أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وكان مقيماً بأرض انشراة - بعث من جهته رجلاً يقال له‏‏ ميسرة إلى العراق، وأرسل طائفة أخرى وهم محمد بن خُنَيس وأبو عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار - خال إبراهيم بن سلمة - إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي قبل أن يعزل في رمضان، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب منهم إلى ميسرة الذي بالعراق، فبعث بها إلى محمد بن علي ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ أمر قد كتب الله إتمامه، ‏‏ ‏‏ وأول رأي قد أحكم الله إبرامه، أن دولة بني أمية قد بان عليها مخايل الوهن والضعف، ولا سيما بعد موت عمر بن عبد العزيز، كما سيأتي بيانه‏.‏

وقد اختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر نقيباً، وهم سليمان بن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي، وعمران بن إسماعيل أبو النجم - مولى لآل أبي معيط - ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين أبو حمزة - مولى لخزاعة - وشبل بن طهمان أبو علي الهروي - مولى لبني حنيفة - وعيسى بن أعين - مولى لخزاعة أيضاً‏.‏ واختار سبعين رجلاً أيضاً‏.‏ وكتب إليهم محمد بن علي كتاباً يكون مثالاً وسيرة يقتدون بها ويسيرون بها‏.‏

وقد حج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم نائب المدينة، والنواب على الأمصار هم المذكورون في التي قبلها، سوى من ذكرنا ممن عزل وتولى غيره، والله أعلم‏.‏

ولم يحج عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته لشغله بالأمور، ولكنه كان يبرد البريد إلى المدينة فيقول له‏‏ سلم على رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏ عني، وسيأتي بإسناده إن شاء الله‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏‏

 سالم بن أبي الجعد الأشجعي

مولاهم الكوفي، أخو زياد وعبد الله وعبيد الله وعمران ومسلم، وهو تابعي جليل، روى عن ثوبان وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير وغيرهم‏.‏ وعنه قتادة والأعمش وآخرون، وكان ثقة نبيلاً جليلاً‏.‏

 

 

أبو أمامة سهل بن حنيف

الأنصاري الأوسي المدني، ولد في حياة النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏، ورآه وحدث عن أبيه وعمر وعثمان وزيد بن ثابت ومعاوية وابن عباس‏.‏ وعنه الزهري وأبو حازم وجماعة‏.‏

قال الزهري‏‏ كان من علِّية الأنصار وعلمائهم، ومن أبناء الذين شهدوا بدراً‏.‏

وقال يوسف بن الماجشون، عن عتبة بن مسلم، قال‏‏ آخر خرجة خرجها عثمان بن عفان إلى الجمعة حصبة الناس وحالوا بينه وبين الصلاة، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة سهل بن حنيف‏.‏

قالوا‏‏ توفي سنة مائة، والله أعلم‏.‏ ‏‏  ‏‏

أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي

تابعي جليل، سمع أبا أمامة صدي بن عجلان، وعبد الله بن بسر، ويقال‏‏ أنه أدرك أبا الدرداء، والصحيح أن روايته عنه وعن حذيفة مرسلة، وقد حدث عنه جماعة من أهل بلده، وقد وثقه ابن معين وغيره‏.‏

ومن أغرب ما روى عنه قول قتيبة‏‏ ثنا شهاب بن خراش، عن حميد، عن أبي الزاهرية، قال‏‏ أغفيت في صخرة بيت المقدس فجاءت السدنة فأغلقوا عليّ الباب، فما انتبهت إلا بتسبيح الملائكة فوثبت مذعوراً فإذا الملائكة صفوف، فدخلت معهم في الصف‏.‏

قال أبو عبيدة وغيره‏‏ مات سنة مائة‏.‏

 أبو الطفيل عامر بن واثلة

ابن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي، وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفاة بالإجماع، قال‏‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه، وذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود، وحدث عنه الزهري وقتادة وعمرو بن دينار وأبو الزبير وجماعة من التابعين، وكان من أنصار علي بن أبي طالب، شهد معه حروبه كلها، لكن نقم بعضهم عليه كونه كان مع المختار بن أبي عبيد، ويقال‏‏ إنه كان حامل رايته، وقد روى أنه دخل على معاوية فقال‏‏ ما أبقى لك الدهر من ثكلك علياً‏؟‏ فقال‏‏ ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب، فقال‏‏ كيف حبك له‏؟‏ قال‏‏ حب أم موسى لموسى، و إلى الله أشكو التقصير‏.‏

قيل‏‏ إنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ومات سنة مائة‏.‏ وقيل‏‏ سنة سبع ومائة، فالله أعلم‏.‏

قال مسلمة بن الحجاج‏‏ وهو آخر من مات من الصحابة مطلقاً، ومات سنة مائة‏.‏

 أبو عثمان النهدي

واسمه عبد الرحمن بن مُلِ البصري، أدرك الجاهلية وحج في زمن الجاهلية مرتين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وأدى في زمانه الزكاة ثلاث سنين إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يسميه أئمة الحديث مخضرماً وهاجر إلى المدينة في زمان عمر بن الخطاب، فسمع منه ومن علي وابن مسعود وخلق من الصحابة، وصحب سلمان الفارسي ثنتي عشرة سنة حتى دفنه، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، منهم أيوب، و حميد الطويل، و سليمان بن طرخان التيمي، وقال عاصم الأحول‏‏ سمعته يقول‏‏ أدركت في الجاهلية يغوث صنماً من رصاص يحمل على جمل أجرد، فإذا بلغ وادياً برك فيه، فيقولون‏‏ قد رضي ربكم لكم هذا الوادي فينزلون فيه، قال‏‏ وسمعته وقد قيل له أدركت النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏‏ نعم ‏!‏ أسلمت على عهده، وأديت إليه الزكاة ثلاث مرات، ولم ألقه، وشهدت اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند‏.‏

كان أبو عثمان صواماً قواماً، يسرد الصوم ويقوم الليل لا يتركه، وكان يصلي حتى يغشى عليه، وحج ستين مرة ما بين حجة وعمرة، ‏‏ ‏‏ قال سليمان التيمي‏‏ إني لأحسبه لا يصيب ذنباً، لأنه ليله قائماً ونهاره صائماً، وقال بعضهم‏‏ سمعت أبا عثمان النهدي يقول‏‏ أتت عليَّ ثلاثون ومائة سنة وما مني شيء إلا وقد أنكرته خلا أملي فإني أجده كما هو‏.‏

وقال ثابت البناني، عن أبي عثمان‏.‏ قال‏‏ إني لأعلم حين يذكرني ربي عز وجل، قال‏‏ فيقول‏‏ من أين تعلم ذلك‏؟‏ فيقول‏‏ قال الله تعالى‏‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏فإذا ذكرت الله ذكرني‏.‏

قال‏‏ وكنا إذا دعونا الله قال‏‏ والله لقد استجاب الله لنا، قال الله تعالى‏‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏} ‏[‏غافر‏‏ ‏]‏ قالوا‏‏ وعاش مائة وثلاثين سنة، قاله هشيم وغيره‏.‏

قال المدائني وغيره‏‏ توفي سنة مائة، وقال الفلاس‏‏ توفي سنة خمس وتسعين، والصحيح سنة مائة، والله أعلم‏.‏

وفيها توفي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وكان يفضل على والده في العبادة والانقطاع عن الناس، وله كلمات حسان مع أبيه ووعظه إياه‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى ومائة

فيها كان هرب يزيد بن المهلب من السجن حين بلغه مرض عمر بن عبد العزيز، فواعد غلمانه يلقونه بالخيل في بعض الأماكن، وقيل بإبل له، ثم نزل من محبسه ومعه جماعة وامرأته عاتكة بنت الفرات العامرية، فلما جاء غلمانه ركب رواحله وسار وكتب إلى عمر بن عبد العزيز‏‏ إني والله ما خرجت من سجنك إلا حين بلغني مرضك، ولو رجوت حياتك ما خرجت، ولكني خشيت من يزيد بن عبد الملك فإنه يتوعدني بالقتل، وكان يزيد يقول‏‏ لئن وليت لأقطعن من يزيد بن المهلب طائفة، وذلك أنه لما ولي العراق عاقب أصهاره آل عقيل، وهم بيت الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان يزيد بن عبد الملك مزوجاً ببنت محمد بن يوسف، وله ابنه الوليد بن يزيد الفاسق المقتول كما سيأتي‏.‏

ولما بلغ عمر بن عبد العزيز أن يزيد بن المهلب هرب من السجن قال‏‏ اللهم إن كان يريد بهذه الأمة سوءاً فاكفهم شره، واردد كيده في نحره، ثم لم يزل المرض يتزايد بعمر بن عبد العزيز حتى مات وهو بخناصرة، من دير سمعان بين حماه وحلب، في يوم الجمعة، وقيل‏‏ في يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب من هذه السنة - أعنى سنة إحدى ومائة - عن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل‏‏ إنه جاوز الأربعين بأشهر، فالله اعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكانت خلافته فيما ذكر غير واحد سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكماً مقسطاً، وإماماً عادلاً ورعاً ديِّناً، لا تأخذه في الله لومة لائم رحمه الله تعالى‏.‏

 وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الإمام المشهور رحمه الله

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو حفص القرشي الأموي المعروف أمير المؤمنين، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال له‏‏ أشج بني مروان، وكان يقال‏‏ الأشج والناقص أعدل بني مروان‏.‏ فهذا هو الأشج وسيأتي ذكر الناقص‏.‏

كان عمر تابعياً جليلاً، روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام، ويوسف صحابي صغير‏.‏

وروى عن خلق من التابعين، وعنه جماعة من التابعين وغيرهم‏.‏

قال الإمام أحمد بن حنبل‏‏ لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز‏.‏

بويع له بالخلافة بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه له بذلك كما تقدم، ويقال‏‏ كان مولده في سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي بمصر، قاله غير واحد‏.‏

وقال محمد بن سعد‏‏ ولد سنة ثلاث وستين، وقيل‏‏ سنة تسع وخمسين، فالله أعلم‏.‏

وكان له جماعة من الأخوة ولكن الذين هم من أبويه أبو بكر وعاصم ومحمد، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، عن يحيى بن بكير، عن الليث‏.‏ قال‏‏ بلغني أن عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة كان يحدث أن رجلاً رأى في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز - أو ليلة ولي الخلافة شك أبو بكر - أن منادياً بين السماء والأرض ينادي‏‏ أتاكم اللّين والديّن وإظهار العمل الصالح في المصلين، فقلت‏‏ ومن هو‏؟‏ فنزل فكتب في الأرض ع م ر‏.‏

وقال آدم بن إياس، ثنا أبو علي ثروان مولى عمر بن عبد العزيز‏.‏ قال‏‏ دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول‏‏ إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد‏.‏ رواه الحافظ ابن عساكر من طريق هارون بن معروف، عن ضمرة، وقال نعيم بن حماد‏‏ ثنا ضمام بن إسماعيل، عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فبلع أمه فأرسلت إليه فقالت‏‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏‏ ذكرت الموت، فبكت أمه‏.‏ وكان قد جمع القرآن وهو صغير، وقال الضحاك بن عثمان الخزامي‏.‏ كان أبوه قد جعله عند صالح بن كيسان يؤدبه، فلما حج أبوه اجتاز به في المدينة فسأله عنه فقال‏‏ ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى يعقوب بن سفيان أن عمر بن عبد العزيز تأخر عن الصلاة مع الجماعة يوماً، فقال صالح بن كيسان‏‏ ما شغلك‏؟‏ فقال‏‏ كانت مرجِّلتي تسكن شعري، فقال له‏‏ قدمت ذلك على الصلاة‏؟‏ وكتب إلى أبيه وهو على مصر يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص علياً، فلما أتاه عمر أعرض عبيد الله عنه وقام يصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل على عمر مغضباً وقال له‏‏ متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم‏؟‏ قال‏‏ ففهمها عمر وقال‏‏ معذرة إلى الله ثم إليك، والله لا أعود، قال‏‏ فما سمع بعد ذلك يذكر علياً إلا بخير‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏‏ ثنا أبي، ثنا المفضل بن عبد الله، عن داود بن أبي هند‏.‏ قال‏‏ دخل علينا عمر بن عبد العزيز من هذا الباب - وأشار إلى باب من أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من القوم‏‏ بعث الفاسق لنا بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة، ويسير سيرة عمر بن الخطاب‏.‏ قال داود‏‏ والله ما مات حتى رأينا ذلك فيه‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏‏ حدثني العتبي قال‏‏ إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فقال‏‏ يا أبت أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك‏؟‏ قال‏‏ وما هو‏؟‏ قال‏‏ ترحِّلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر ذكره، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول الشاعر فيها‏‏

بنت الخليفة والخليفة جدها * أخت الخلائف والخليفة زوجها

قال‏‏ ولا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها‏.‏

قال العتبي‏‏ ولم يكن حاسد عمر بن عبد العزيز ينقم عليه شيئاً سوى متابعته في النعمة، والاختيال في المشية، وقد قال الأحنف بن قيس‏‏ الكامل من عدت هفواته ولا تعد إلا من قلة‏.‏

وقد ورث عمر من أبيه من الأموال والمتاع والدواب هو وإخوته ما لم يرثه غيره فيما نعلم، كما تقدم ذلك، ودخل يوماً على عمه عبد الملك وهو يتجانف في مشيته، فقال‏‏ يا عمر مالك تمشي غير مشيتك‏؟‏ قال‏‏ إن في جرحاً، فقال‏‏ وأين هو من جسدك‏؟‏ قال‏‏ بين الرانقة والصفن - يعني بين طرف الإلية وجلدة الخصية - فقال عبد الملك لروج بن زنباع‏‏ بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا ما أجاب بمثل هذا الجواب، قالوا‏‏ ولما مات عمه عبد الملك حزن عليه ولبس المسوح تحت ثيابه سبعين يوماً، ولما ولي الوليد عامله بما كان أبوه يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وأقام للناس الحج سنة تسع وثمانين، وسنة تسعين، وحج الوليد بالناس سنة إحدى وتسعين، ثم حج بالناس عمر سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين‏.‏ ‏‏ ‏‏

وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه عن أمر الوليد له بذلك، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمراً بدونهم أو من حضر منهم، وهم عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت‏.‏

وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحداً من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، وقال إبراهيم بن عبلة‏‏ قدمت المدينة وبها ابن المسيب وغيره، وقد ندبهم عمر يوماً إلى رأي‏.‏

وقال ابن وهب‏‏ حدثني الليث، حدثني قادم البربري أنه ذاكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوماً شيئاً من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال له الربيع‏‏ كأنك تقول‏‏ أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط‏.‏

وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك‏.‏ قال‏‏ ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة‏.‏

قالوا‏‏ وكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً‏.‏

وقال ابن وهب‏‏ حدثني الليث، عن أبي النضر المديني، قال‏‏ رأيت سليمان بن يسار خارجاً من عند عمر بن عبد العزيز فقلت له‏‏ من عند عمر خرجت‏؟‏ قال‏‏ نعم ‏!‏ قلت‏‏ تعلمونه‏؟‏ قال‏‏ نعم، فقلت‏‏ هو والله أعلمكم‏.‏

وقال مجاهد‏‏ أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه‏.‏

وقال ميمون بن مهران‏‏ كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة، وفي رواية قال ميمون‏‏ كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء‏.‏

وقال الليث‏‏ حدثني رجل كان قد صحب ابن عمر وابن عباس، وكان عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة، قال‏‏ ما التمسنا علم شيء إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة‏.‏

وقال عبد الله بن طاووس‏‏ رأيت أبي تواقف هو وعمر بن عبد العزيز من بعد صلاة العشاء حتى أصبحنا، فلما افترقا قلت‏‏ يا أبت من هذا الرجل‏؟‏ قال‏‏ هذا عمر بن عبد، العزيز وهو من صالحي هذا البيت - يعني بني أمية - وقال عبد الله بن كثير‏‏ قلت لعمر بن عبد العزيز‏‏ ما كان بدء إنابتك‏؟‏ قال‏‏ أردت ضرب غلام لي فقال لي‏‏ اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال الإمام مالك‏‏ لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني في سنة ثلاث وتسعين - وخرج منها التفت إليها وبكى وقال لمولاه‏‏ يا مزاحم، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة - يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد - وينصع طيبها‏.‏

قلت‏‏ خرج من المدينة فنزل بمكان قريب منها يقال له‏‏ السويداء حيناً، ثم قدم دمشق على بني عمه‏.‏ قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي حكيم، قال‏‏ سمعت عمر بن عبد العزيز، يقول‏‏ خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني، فلما قدمت الشام نسيت‏.‏

وقال الإمام أحمد، حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، عن معمر، عن الزهري، قال‏‏ سهرت مع عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فحدثته، فقال‏‏ كل ما حدثت فقد سمعته ولكن حفظت ونسيت‏.‏

وقال ابن وهب، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، قال‏‏ قال عمر بن عبد العزيز‏‏ بعث إلي الوليد ذات ساعة من الظهيرة، فدخلت عليه فإذا هو عابس، فأشار إلي أن اجلس، فجلست فقال‏‏ ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل‏؟‏ فسكت، ثم عاد فسكت، ثم عاد فسكت، ثم عاد فقلت‏‏ أقتل يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏‏ لا، ولكن سب، فقلت‏‏ ينكل به، فغضب وانصرف إلى أهله، وقال لي ابن الريان السياف‏‏ اذهب، قال‏‏ فخرجت من عنده وما تهب ريح إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه، وقال عثمان بن زبر‏‏ أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان‏‏ ما تقول يا عمر في هذا‏؟‏ فقال‏‏ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً وأنت المسئول عن ذلك كله، فلما اقتربوا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبة، فقال له سليمان‏‏ ما هذا يا عمر‏؟‏ فقال لا أدري، فقال‏‏ ما ظنك أنه يقول‏؟‏ قلت‏‏ كأنه يقول‏‏ من أين جاءت وأين يذهب بها‏؟‏ فقال له سليمان‏‏ ما أعجبك‏؟‏ فقال عمر‏‏ أعجب ممن عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها‏.‏

وتقدم أنه لما وقف سليمان وعمر بعرفة ورأى سليمان كثرة الناس فقال له عمر‏‏ هؤلاء رعيتك اليوم وأنت مسؤول عنهم غداً‏.‏ وفي رواية وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال‏‏ بالله نستعين‏.‏

وتقدم أنهم لما أصابهم ذلك المطر والرعد فزع سليمان وضحك عمر فقال له‏‏ أتضحك‏؟‏ فقال‏‏ نعم هذه آثار رحمته ونحن في هذه الحال، فكيف بآثار غضبه وعقابه ونحن في تلك الحال‏؟‏

وذكر الإمام مالك أن سليمان وعمر تقاولا مرة فقال له سليمان في جملة الكلام‏‏ كذبت، فقال‏‏ تقول كذبت‏؟‏ والله ما كذبت منذ عرفت أن الكذب يضر أهله، ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى مصر، فلم يمكنه سليمان، ثم بعث إليه فصالحه وقال‏‏ له ما عرض لي أمر يهمني إلا خطرت على بالي‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد ذكرنا أنه لما حضرته الوفاة أوصى بالأمر من بعده إلى عمر بن عبد العزيز فانتظم الأمر على ذلك ولله الحمد‏.‏

 فصل وقد كان منتظراً فيما يؤثر من الأخبار

قال أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الله ابن دينار، قال‏‏ قال ابن عمر‏‏ يا عجباً ‏!‏‏!‏ يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر، قال‏‏ وكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال‏‏ وكان بوجهه أثر، فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمه ابنة عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب‏.‏

وقال البيهقي‏‏ أنبأ الحاكم، أنبأ أبو حامد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان، ثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بنت أسماء، عن نافع، قال‏‏ بلغنا أن عمر بن الخطاب قال‏‏ إن من ولدي رجلاً بوجهه شجان يلي فيملأ الأرض عدلاً‏.‏ قال نافع من قبله‏‏ ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز‏.‏

ورواه مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن نافع، وقال‏‏ كان ابن عمر يقول‏‏ ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً‏؟‏

قال وهيب بن الورد‏‏ بينما أنا نائم رأيت كأن رجلاً دخل من باب بني شيبة وهو يقول‏‏ يا أيها الناس ‏!‏ولي عليكم كتاب الله‏.‏ فقلت‏‏ من‏؟‏ فأشار إلى ظفره، فإذا مكتوب عليه ع م ر، قال‏‏ فجاءت بيعة عمر بن عبد العزيز‏.‏

وقال بقية، عن عيسى بن أبي رزين، حدثني الخزاعي، عن عمر بن عبد العزيز، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضة خضراء فقال له‏‏ ‏‏‏‏إنك ستلي أمر أمتي فزع عن الدم فزع عن الدم، فإن اسمك في الناس عمر بن عبد العزيز، واسمك عند الله جابر‏‏‏‏‏.‏

وقال أبو بكر بن المقري‏‏ ثنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن مودود الحراني، ثنا أيوب بن محمد الوزان، ثنا ضمرة بن ربيعة، ثنا السري بن يحيى، عن رياح بن عبيدة، قال‏‏ خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي‏‏ إن هذا شيخ جاف، فلما صلى ودخل لحقته فقلت‏‏ أصلح الله الأمير من هذا الشيخ الذي أتكأته يدك‏؟‏ فقال‏‏ يا رياح رأيته قلت‏‏ نعم ‏!‏ قال‏‏ ما أحسبك يا رياح إلا رجلاً صالحاً ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة وأني سأعدل فيها‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال يعقوب بن سفيان‏‏ حدثنا أبو عمير، ثنا ضمرة، عن علي بن خولة، عن أبي عنبس، قال‏‏ كنت جالساً مع خالد بن يزد بن معاوية فجاء شاب عليه مقطعات فأخذ بيد خالد، فقال‏‏ هل علينا من عين‏؟‏ فقال أبو عنبس‏‏ فقلت‏‏ عليكما من الله عين بصيرة، وأذن سميعة، قال‏‏ فترقرت عينا الفتى‏.‏ فأرسل يده من يد خالد وولى، فقلت‏‏ من هذا‏؟‏ قال‏‏ هذا عمر بن عبد العزيز ابن أخي أمير المؤمنين، ولئن طالت بك حياة لترينه إمام هدى‏.‏ قلت‏‏ قد كان عند خالد بن يزيد بن معاوية شيء جيد من أخبار الأوائل وأقوالهم، وكان ينظر في النجوم والطب‏.‏

وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك أنه لما حضرته الوفاة أراد أن يعهد إلى بعض أولاده، فصرفه وزيره الصالح رجاء بن حيوة عن ذلك، وما زال به حتى عهد إلى عمر بن عبد العزيز من بعده وصوب ذلك رجاء فكتب سليمان العهد في صحيفة وختمها ولم يشعر بذلك عمر ولا أحد من بني مروان سوى سليمان ورجاء، ثم أمر صاحب الشرطة بإحضار الأمراء ورؤوس الناس من بني مروان وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا، ثم لما مات الخليفة استدعاهم رجاء بن حيوة فبايعوا ثانية قبل أن يعلموا موت الخليفة، ثم فتحها فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوه فأجلسوه على المنبر وبايعوه فانعقدت له البيعة‏.‏

وقد اختلف العلماء في مثل هذا الصنيع في الرجل يوصي الوصية في كتاب ويشهد على ما فيه من غير أن يقرأ على الشهود‏.‏ ثم يشهدون على ما فيه فينفذ، فسوغ ذلك جماعات من أهل العلم، قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري‏‏ أجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم به جمهور أهل الحجاز، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله‏.‏ وهو مذهب مالك ومحمد بن مسلمة المخزومي ومكحول، ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم، والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهم من فقهاء الشام‏.‏

وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد فيمن وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم‏.‏

وروى عن قتادة وعن سوار ابن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبري فيمن سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد كثير من أصحاب الحديث، منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه‏.‏ قلت‏‏ وقد اعتنى به البخاري في صحيحه‏.‏

قال المعافى‏‏ وأبي ذلك جماعة من فقهاء العراق، منهم إبراهيم وحماد والحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، قال‏‏ وهو قول شيخنا أبي جعفر، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول، قال الجريري‏‏ وإلى القول الأول نذهب‏.‏

وتقدم أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أتى بمراكب الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول‏‏

فلولا التقى ثم النهى خشية الردى * لعاصيت في حب الصبا كل زاجر

قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى * له صبوة أخرى الليالي الغوابر

ثم قال‏‏ ما شاء الله لا قوة إلا بالله‏.‏ قدموا إليَّ بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية فيمن يزيد، ‏‏ ‏‏ وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال‏.‏

قالوا‏‏ ولما رجع من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه‏‏ مالك هكذا مغتماً مهموماً وليس هذا بوقت هذا‏؟‏ فقال‏‏ ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إليَّ في ذلك أو لم يكتب، طلبه مني أو لم يطلب‏.‏

قالوا‏‏ ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله‏.‏

وقال له رجل‏‏ تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول‏‏

قد جاء شغل شاغل * وعدلت عن طريق السلامة

ذهب الفراغ فلا فرا * غ لنا إلى يوم القيامة

وقال الزبير بن بكار‏‏ حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم، قال‏‏ لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏‏ أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا‏‏ يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا أحداً، ولا يعرض فيما لا يعنيه‏.‏

فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا‏‏ ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏‏ لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاء بن حيوة وسالم بن عبد الله فقال لهم‏‏ قد ترون ما ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم‏؟‏

فقال محمد بن كعب‏‏ اجعل الشيخ أباً، والشاب أخاً، والصغير ولداً، وبر أباك، وصل أخاك، وتعطف على ولدك‏.‏

وقال رجاء‏‏ ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت‏.‏

وقال سالم‏‏ اجعل الأمر واحداً وصم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك فيه الموت‏.‏ فكأن قد‏.‏

فقال عمر‏‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وقال غيره‏‏ خطب عمر بن عبد العزيز يوماً الناس فقال - وقد خنقته العبرة -‏‏ أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبداً ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمعرق له في الموت‏.‏

وقال في بعض خطبه‏‏ كم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن‏.‏ فأحسنوا رحمكم الله من الدنيا الرحلة بأحسن ما يحضر بكم من النقلة، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس قرير العين فيها يانع، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بسهم حتفه، فسلبه أثارة دنياه، وصبر إلى قوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلاً وتحزن طويلاً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجر، قال‏‏ لما استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏‏ أيها الناس ‏!‏ إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض ولكني منفذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم إلا أن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل‏.‏ وفي رواية أنه قال فيها‏‏ وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني لأثقلكم حملاً، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت‏؟‏

وقال أحمد بن مروان، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا محمد بن عبيد، ثنا إسحاق بن سليمان، عن شعيب بن صفوان، حدثني ابن لسعيد بن العاص، قال‏‏ كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز، حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏‏ أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدىً، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر اليوم الآخر وخافه، وباع فانياً بباق، ونافداً بما لا نفاد له، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب، وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا، ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله‏.‏ وفي رواية‏‏ وأيم الله إني لأقول قولي هذا ولا أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، وأستغفر الله، ووضع كمه على وجهه فبكى حتى بل لحيته، فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله‏.‏

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن عبد العزيز، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول‏‏ ‏‏‏‏أدن يا عمر، فدنوت حتى خشيت أن أصيبه، فقال‏‏ إذا وليت فاعمل نحواً من عمل هذين، فإذا كهلان قد اكتنفاه، فقلت‏‏ ومن هذان‏؟‏ قال‏‏ هذا أبو بكر وهذا عمر‏‏‏‏‏.‏

وروينا أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر‏‏ اكتب لي سيرة عمر حتى أعمل بها، فقال له سالم‏‏ إنك لا تستطيع ذلك، قال‏‏ ولم‏؟‏ قال ‏‏ إنك إن عملت بها كنت أفضل من عمر، لأنه كان يجد على الخير أعواناً وأنت لا تجد من يعينك على الخير‏.‏

وقد روى أنه كان نقش خاتمه لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وفي رواية آمنت بالله، وفي رواية الوفاء عزيز‏.‏

وقد جمع يوماً رؤوس الناس فخطبهم فقال‏‏ إن فدك كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك، قال الأصمعي‏‏ وما أدري ما قال في عثمان، قال‏‏ ثم إن مروان أقطعها فحصل لي منها نصيب، ووهبني الوليد وسليمان نصيبهما، ولم يكن من مالي شيء أرده أغلى منها، وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏‏ ‏‏ قال‏‏ فيئس الناس عند ذلك من المظالم، ثم أمر بأموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجع فيه شيء، وقال لهم‏‏ لتدعني وإلا ذهبت إلى مكة فنزلت عن هذا الأمر لأحق الناس به، وقال‏‏ والله لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما أقمت فيكم إلا ما أريد من العدل، وإني لأريد الأمر فما أنفذه إلا مع طمع من الدنيا حتى تسكن قلوبهم‏.‏

وقال الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن وهب بن منبه، أنه قال‏‏ إن كان في هذه الأمة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز، ونحو هذا قال قتادة وسعيد بن المسيب وغير واحد‏.‏ وقال طاووس‏‏ هو مهدي وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله، إذا كان المهدي ثبت على المسيء من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال شديد على العمال رحيم بالمساكين‏.‏

وقال مالك، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، أنه قال‏‏ الخلفاء أبو بكر والعمران، فقيل له‏‏ أبو بكر وعمر قد عرفناهما، فمن عمر الآخر‏؟‏ قال يوشك إن عشت أن تعرفه، يريد عمر بن عبد العزيز، وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏‏ هو أشج بني مروان‏.‏

وقال عباد السماك وكان يجالس سفيان الثوري‏‏ سمعت الثوري يقول‏‏ الخلفاء خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز‏.‏ وهكذا روي عن أبي بكر بن عياش والشافعي وغير واحد‏.‏

وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين‏.‏ وذكره غير واحد في الأئمة الاثني عشر، الذين جاء فيهم الحديث الصحيح‏‏ ‏‏‏‏لا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى يكون فيهم اثني عشر خليفة كلهم من قريش‏‏‏‏‏.‏

وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي أين الغارمون‏؟‏ أين الناكحون‏؟‏ أين المساكين‏؟‏ أين اليتامى‏؟‏ حتى أغني كلا من هؤلاء‏.‏

وقد اختلف العلماء أيهم أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان‏؟‏ ففضل بعضهم عمر لسيرته ومعدلته وزهده وعبادته، وفضل آخرون معاوية لسابقته وصحبته، حتى قال بعضهم‏‏ ليوم شهده معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأيامه وأهل بيته‏.‏

وذكر ابن عساكر في تاريخه‏‏ أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعاً أو هبة، ‏‏ ‏‏ فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له‏‏ يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي‏؟‏ فقال‏‏ والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت‏‏ يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك‏.‏ فقال عمر‏‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها‏.‏

وقالت زوجته فاطمة‏‏ دخلت يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت‏‏ مالك‏؟‏ فقال‏‏ ويحك يا فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت‏.‏

وقال ميمون بن مهران‏‏ ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة ثم قال لي‏‏ إذا جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الأرض‏.‏

وكتب إلى بعض عماله‏‏ إذا دعتك قدرتك على الناس إلى مظلمة، فاذكر قدرة الله عليك ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدي‏‏ عن جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم، قال‏‏ كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي إن للإسلام سنناً وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش أبينها لكم لتعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص‏.‏ وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به‏.‏

وذكر الصولي‏‏ أن عمر كتب إلى بعض عماله‏‏ عليك بتقوى الله فإنها هي التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل‏.‏

وقال‏‏ من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدنيا باليسير‏.‏

وقال‏‏ من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه‏.‏

وكلمه رجل يوماً حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل‏‏ أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غداً‏؟‏ قم عافاك الله لا حاجة لن في مقاولتك‏.‏

وكان يقول‏‏ إن أحب الأمور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة‏.‏

وخرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاؤوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مريئة تقول‏‏ إنه ابني وإنه يتيم، فقال لها عمر‏‏ هوني عليك، ثم قال لها عمر‏‏ أله عطاء في الديوان‏؟‏ ‏‏ ‏‏ قالت‏‏ لا ‏!‏ قال‏‏ فاكتبوه في الذرية‏.‏ فقالت زوجته فاطمة‏‏ أتفعل هذا به وقد شج ابنك‏؟‏ فعل الله به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية‏.‏ فقال‏‏ ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه‏.‏

وقال مالك بن دينار‏‏ يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي‏؟‏ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة‏.‏

قالوا‏‏ ولم يكن له سوى قميص واحد فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له‏‏ ويحك عظني، فقال له‏‏ عليك بقول الشاعر‏‏

تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد

قال‏‏ وكان يعجبه ويكرره وعمل به حق العمل‏.‏ قالوا‏‏ ودخل على امرأته يوماً فسألها أن تقرضه درهماً أو فلوساً يشتري له بها عنباً، فلم يجد عندها شيئاً، فقالت له‏‏ أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنباً‏؟‏ فقال‏‏ هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غداً في نار جهنم‏.‏

قالوا‏‏ وكان سراج بيته على ثلاث قصبات في رأسهن طين، قالوا‏‏ وبعث يوماً غلامه ليشوي له لحمة فجاءه بها سريعاً مشوية، فقال‏‏ أين شويتها‏؟‏ قال‏‏ في المطبخ، فقال‏‏ في مطبخ المسلمين‏؟‏ قال‏‏ نعم‏.‏ فقال‏‏ كلها فإني لم أرزقها، هي رزقك‏.‏

وسخنوا له الماء في المطبخ العام فرد بدل ذلك بدرهم حطباً‏.‏

وقالت زوجته‏‏ ما جامع ولا احتلم وهو خليفة‏.‏

قالوا‏‏ وبلغ عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلام الأسود، أنه يحدث عن ثوبان، بحديث الحوض فبعث إليه فأحضره على البريد وقال له، كالمتوجع له‏‏ يا أبا سلام ما أردنا المشقة عليك، ولكن أردت أن تشافهني بالحديث مشافهة، فقال‏‏ سمعت ثوبان، يقول‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد‏‏‏‏‏.‏ فقال عمر‏‏ لكني نكحت المتنعمات، فاطمة بنت عبد الملك، فلا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ألقى ثوبي حتى يتسخ‏.‏

قالوا‏‏ وكان له سراج يكتب عليه حوائجه، وسراج لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين، لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفاً‏.‏

وكان يقرأ في المصحف كل يوم أول النهار، ولا يطيل القراءة، وكان له ثلاثمائة شرطي، وثلاثمائة حرسي، وأهدى له رجل من أهل بيته تفاحاً فاشتمه ثم رده مع الرسول، وقال له‏‏ قل له قد بلغت محلها، فقال له رجل‏‏ يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وهذا رجل من أهل بيتك، فقال‏‏ إن الهدية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأما نحن فهي لنا رشوة‏.‏

قالوا‏‏ وكان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار، وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين، فقالوا له‏‏ لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك‏؟‏ فقال‏‏ لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم‏.‏

وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم فاعتذر بأن معهم سلفاً كثيراً من قبل ذلك، ‏‏  ‏‏ وقال يوماً لرجل من ولد علي‏‏ إني لأستحي من الله أن تقف ببابي ولا يؤذن لك، وقال لآخر منهم‏‏ إني لأستحي من الله وأرغب بك أن أدنسك بالدنيا لما أكرمكم الله به‏.‏

وقال أيضاً‏‏ كنا نحن وبنو عمنا بنو هاشم مرة لنا ومرة علينا، نلجأ إليهم ويلجئون إلينا، حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق، وأخرست كل منافق، وأسكتت كل ناطق‏.‏

وقال أحمد بن مروان، ثنا أبو بكر ابن أخي خطاب، ثنا خالد بن خداش، ثنا حماد بن زيد، عن موسى بن أيمن الراعي - وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة - قال‏‏ كانت الأسد والغنم والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب فقلت‏‏ إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك‏.‏ قال‏‏ فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة‏.‏

ورواه غيره عن حماد فقال‏‏ كان يرعى الشاة بكرمان فذكر نحوه، وله شاهد من وجه آخر، ومن دعائه‏‏ اللهم إن رجالاً أطاعوك فيما أمرتهم وانتهوا عما نهيتهم، اللهم وإن توفيقك إياهم كان قبل طاعتهم إياك، فوفقني‏.‏

ومنه‏‏ اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر‏.‏

وقال له رجل‏‏ أبقاك الله ما كان البقاء خيراً لك، فقال‏‏ هذا شيء قد فرغ منه، ولكن قل‏‏ أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الأبرار‏.‏

وقال له رجل‏‏ كيف أصبحت يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏‏ أصبحت بطيئاً بطيناً، متلوثاً بالخطايا، أتمنى على الله عز وجل‏.‏

ودخل عليه رجل فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زين، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر‏‏

وإذا الدر زان حسنَ وجوهٍ * كان للدر حسنُ وجهكَ زيناً

قال‏‏ فأعرض عنه عمر‏.‏

وقال رجاء بن حيوة‏‏ سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشى السراج فقلت‏‏ يا أمير المؤمنين ألا أنبه هذا الغلام يصلحه‏؟‏ فقال‏‏ لا ‏!‏ دعه ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين‏.‏ فقلت‏‏ أفلا أقوم أصلحه‏؟‏ فقال‏‏ لا ‏!‏ ليس من المروءة استخدام الضيف، ثم قام بنفسه فأصلحه وصب فيه زيتاً ثم جاء وقال‏‏ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، وقال‏‏ أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها‏.‏ وقال‏‏ إنه ليمنعني من كثرة ذكرها مخافة المباهاة‏.‏

وبلغه أن رجلاً من أصحابه توفي، فجاء إلى أهله ليعزيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبكاء عليه، فقال‏‏ مه، إن صاحبكم لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت، وإن صاحبكم هذا لم يسد شيئاً من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وإن لكل امرئ منكم حفرة لابد والله أن يسدها، إن الله عز وجل لما خلق الدنيا حكم عليها بالخراب، وعلى أهلها بالفناء، وما امتلأت دار خبرة إلا امتلأت عبرة، ولا اجتمعوا إلا تفرقوا، حتى يكون الله هو الذي يرث الأرض ومن عليها، فمن كان منكم باكيا فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه صاحبكم كل الناس يصيرون إليه غداً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال ميمون بن مهران‏‏ خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي‏‏ يا أبا أيوب ‏!‏ هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء‏؟‏ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال‏‏ انطلقوا بنا فوالله لا أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله، ينتظر ثواب الله‏.‏

وقال غيره‏‏ خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لأصحابه‏‏ قفوا حتى آتي قبور الأحبة‏‏ فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذ هتف به التراب فقال‏‏ يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الأحبة‏؟‏ قال‏‏ قلت‏‏ وما فعلت بهم‏؟‏ قال‏‏ مزقت الأكفان، وأكلت اللحوم، وشدخت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصلب‏.‏ فلما أراد أن يذهب قال له‏‏ يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى‏؟‏ قال‏‏ وما هي‏؟‏ قال‏‏ تقوى الله والعمل الصالح‏.‏

وقال مرة لرجل من جلسائه‏‏ لقد أرقت الليلة مفكراً، قال‏‏ وفيم يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏‏ في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجري فيه الصديد، مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال‏‏ ثم شهق شهقةً خرَّ مغشياً عليه‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏‏ صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏‏ ‏]‏ فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها‏.‏

وقالت امرأته فاطمة‏‏ ما رأيت أحداً أكثر صلاة وصياماً منه، ولا أحداً أشد فَرَقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت‏‏ ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول‏‏ يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها‏.‏

وقال علي بن زيد‏‏ ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز‏.‏

وقال بعضهم‏‏ رأيته يبكي حتى بكى دماً، قالوا‏‏ وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏ الآية، ويقرأ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ‏} ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏ ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة‏.‏

وقال أبو بكر الصولي‏‏ كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر‏‏

فما تزود مما كان يجمعهُ * سوى حنوط غداة البين في خرقِ ‏‏ ‏‏

وغير نفحة أعواد تشبُّ له * وقلَّ ذلك من زاد لمنطلق

بأيما بلد كانت منيته * إن لا يسرّ طائعاً في قصدها يُسقِ

ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس وانحازوا إلى الظل فبكى وأنشد‏‏

من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا

في قعر مظلمة غبراء موحشة * يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا

تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

هذه الأبيات ذكرها الآجري في أدب النقوس بزيادة فيها فقال‏‏ أخبرنا أبو بكر، أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القراطيسي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني محمد بن صالح القرشي، أخبرني عمر بن الخطاب الأزدي، حدثني ابن لعبد الصمد بن عبد الأعلى بن أبي عمرة قال‏‏ أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولاً إلى إليون طاغية الروم يدعوه إلى الإسلام، فقال له عبد الأعلى‏‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ائذن لي في بعض بنيَّ يخرج معي - وكان عبد الأعلى له عشرة من الذكور - فقال له‏‏ انظر من يخرج معك من ولدك‏.‏ فقال‏‏ عبد الله، فقال له عمر‏‏ إني رأيت ابنك عبد الله يمشي مشية كرهتها منه ومقتّه عليها، وبلغني أنه يقول الشعر‏.‏ فقال عبد الأعلى‏‏ أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة ينوح بها على نفسه، فقال له‏‏ مر عبد الله يأتيني وخذ معك غيره، فراح عبد الأعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم‏‏

تجهزي بجهاز بتلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

ولا تكدي لمن يبقى وتفتقري * إن الردى وارث الباقي وما ورثا

واخشي حوادث صرف الدهر في مهل * واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا

عن مدية كان فيها قطع مدته * فوافتْ الحرث موفوراً كما حرثا

لا تأمني فجع دهرٍ مترفٍ ختلٍ * قد استوى عنده من طاب أو خبثا

يا رب ذي أملٍ فيه على وجلٍ * أضحى به آمناً أمسى وقد حدثا

من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا ‏‏ ‏‏

ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فكيف يسكن يوماً راغماً جدثا

قفراء موحشة غبراء مظلمةٍ * يطيل تحت الثرى من قعرها اللبثا

وقد ذكرها ابن أبي الدنيا فعمر أنشدها عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وكان عمر يتمثل بها كثيراً ويبكي‏.‏

وقال الفضل بن عباس الحلبي‏‏ كان عمر بن عبد العزيز لا يجف فوه من هذا البيت‏‏

ولا خير في عيش امرئ لم يكن له * من الله في دار القرار نصيب

وزاد غيره معه بيتاً حسناً وهو قوله‏‏

فإن تُعجبْ الدنيا أناساً فإنها * متاعٌ قليلٌ والزوال قريب

ومن شعره الذي أنشده ابن الجوزي‏‏

أنا ميت وعز من لا يموت * قد تيقنت أنني سأموت

ليس ملكٌ يزيله الموت ملكاً * إنما الملكُ ملكَ من لا يموت

وقال عبد الله بن المبارك‏‏ كان عمر بن عبد العزيز يقول‏‏

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى * كما اغتر باللذات في النوم حالم

نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ * وليلك نوم والردى لك لازمٌ

وسعيك فيما سوف تكره غبهُ * كذلك في الدنيا تعيش البهائم

وقال محمد بن كثير‏‏ قال عمر بن عبد العزيز يلوم نفسه‏‏

أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم * وكيف يطبق النوم حيران هائم

فلو كنت يقظان الغداة لحرّقت * محاجر عينيك الدموع السواجم

أصبحت في النوم الطويل وقد دنت * إليك أمور مفظعات عظائم

وتكدح فيما سوف تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم ‏‏ ‏‏

فلا أنت في النوامِ يوماً بسالمٍ * ولا أنت في الأيقاظ يقظان حازم

وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن فاطمة بنت عبد الملك قالت‏‏ انتبه عمر ذات ليلة وهو يقول‏‏ لقد رأيت الليلة رؤيا عجيبة، فقلت‏‏ أخبرني بها، فقال‏‏ حتى نصبح، فلما صلى بالمسلمين دخل فسألته فقال‏‏ رأيت كأني دفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر وإذا فيها قصر كأنه الفضة فخرج منه خارج فنادى‏‏ أين محمد بن عبد الله‏؟‏ أين رسول الله‏؟‏ إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى‏‏ أين أبو بكر الصديق‏؟‏ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى‏‏ أين عمر بن الخطاب‏؟‏ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى‏‏ أين عثمان بن عفان‏؟‏ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى‏‏ أين علي بن أبي طالب‏؟‏ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى‏‏ أين عمر بن عبد العزيز‏؟‏ فقمت فدخلت فجلست إلى جانب أبي عمر بن الخطاب، وهو عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقلت‏‏ لأبي‏‏ من هذا‏؟‏ قال‏‏ هذا عيسى بن مريم، ثم سمعت هاتفاً يهتف بيني وبينه نور لا أراه، وهو يقول‏‏ يا عمر بن عبد العزيز تمسك بما أنت عليه، واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت، فالتفت فإذا عثمان بن عفان، وهو خارج من القصر، وهو يقول‏‏ الحمد لله الذي نصرني ربي، وإذا علي في إثره وهو يقول‏‏ الحمد لله الذي غفر لي ربي‏.‏

 

 فصل حديث إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

وهو ذكرنا في دلائل النبوة الحديث الذي رواه أبو داود في سننه‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها‏‏‏‏‏.‏

فقال جماعة من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن الجوزي وغيره‏‏ إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الأولى، وإن كان هو أولى من دخل في ذلك وأحق، لإمامته وعموم ولايته، وقيامه واجتهاده في تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيراً ما تشبه به‏.‏

وقد جمع الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي سيرة لعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقد أفردنا سيرة عمر بن الخطاب في مجلد على حدة، ومسنده في مجلد ضخم، وأما سيرة عمر بن عبد العزيز فقد ذكرنا منها طرفاً صالحاً هنا، يستدل به على ما لم نذكره‏.‏

وقد كان عمر رحمه الله يعطي من أنقطع إلى المسجد الجامع من بلده وغيرها، للفقه ونشر العلم وتلاوة القرآن، في كل عام من بيت المال مائة دينار، وكان يكتب إلى عماله أن يأخذوا بالسنة، ويقول‏‏ إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله، وكتب إلى سائر البلاد أن لا يركب ذمي من اليهود والنصارى وغيرهم على سرج، ولا يلبس قباء ولا طيلساناً ولا السراويل، ولا يمشين أحد منهم إلا بزنار من جلد، وهو مقرون الناصية، ومن وجد منهم في منزله سلاح أخذ منه‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكتب أيضاً أن لا يستعمل على الأعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير‏.‏

وكان يكتب إلى عماله‏‏ اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلاة، فإن من أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشد تضييعاً‏.‏

وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الموعوظ‏.‏

وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل، ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك‏.‏

وكتب إلى بعض عماله‏‏ أذكر ليلة تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيالها من ليلة وياله من صباح، وكان يوماً على الكافرين عسيراً‏.‏

وكتب إلى آخر‏‏ أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قالوا‏‏ فخلع هذا العامل نفسه من العمالة، وقدم على عمر فقال له‏‏ مالك‏؟‏ فقال‏‏ خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبداً‏.‏

 فصل صفات عمر بن عبد العزيز ووصاياه‏.‏

وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى أنه رد فص خاتم كان في يده، قال‏‏ أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى أنه ترك التمتع بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال‏‏ كانت من أحسن النساء، ويقال‏‏ أنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم‏.‏

وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم‏.‏

وكان له من الأولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال‏‏ إنه كان خيراً من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال‏‏ أمر رضيه الله فلا أكرهه‏.‏

وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الرفيع اللين جداً فيقول‏‏ ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع، و لا يغسله حتى يتسخ جداً، ويقول‏‏ ما أحسنه لولا لينه‏.‏ وكان يلبس الفروة الغليظة‏.‏

وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئاً في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال‏‏ ما تركت شيئاً من الدنيا إلا عوضني الله ما هو خير منه‏.‏

وكان يأكل الغليظ، ولا يبالي بشيء من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده، حتى قال أبو سليمان الداراني‏‏ كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لأن عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون‏؟‏ ليس من جرب كمن لم يجرب‏.‏

وتقدم قول مالك بن دينار‏‏ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز‏.‏

وقال عبد الله بن دينار‏‏ لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئاً‏.‏

وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ المروحة من يدها وجعل يروحها، ويقول‏‏ أصابك من الحر ما أصابني‏.‏ ‏‏  ‏‏

وقال له رجل‏‏ جزاك الله عن الإسلام خيراً‏.‏ فقال‏‏ بل جزى الله الإسلام عني خيراً‏.‏

ويقال‏‏ إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحاً غليظاً من شعر، ويضع في رقبته غلاً إذا قام يصلي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنونه مالاً أو جوهراً من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غل و مسح‏.‏

وكان يبكي حتى يبكي الدم من الدموع، ويقال‏‏ إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وقرأ رجل عنده ‏{‏وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏‏ ‏]‏، فبكى بكاءً شديداً، ثم قام فدخل منزله، وتفرق الناس عنه‏.‏

وكان يكثر أن يقول‏‏ اللهم سلِّم سلِّم‏.‏

وكان يقول‏‏ اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال‏‏ أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم‏.‏

وقال‏‏ لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة‏.‏

وقال‏‏ الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الأولياء فغمتهم و أحزنتهم، وأما الأعداء فغرتهم وشتتهم وأبعدتهم عن الله‏.‏

وقال‏‏ قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع‏.‏

وقال لرجل‏‏ من سيد قومك‏؟‏ قال‏‏ أنا، قال‏‏ لو كنت كذلك لم تقله‏.‏

وقال‏‏ أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب‏.‏

وقال‏‏ لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطى أو منع‏.‏

وقال‏‏ قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل‏‏ علم ولدك الفقه الأكبر‏‏ القناعة وكف الأذى‏.‏

وتكلم رجل عنده فأحسن فقال‏‏ هذا هو السحر الحلال‏.‏

وقصته مع أبي حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير حاله، فقال له‏‏ ألم يكن ثوبك نقياً‏؟‏ ووجهك وضياً‏؟‏ وطعامك شهياً‏؟‏ ومركبك وطياً‏؟‏ فقال له‏‏ ألم تخبرني عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏إن من ورائكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول‏‏‏‏‏؟‏ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الأربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل‏‏ فمن أنت‏؟‏ قال‏‏ أنا الحجاج بن يوسف قتلني ربي كل قتلة قتلة، ثم ها أنا انتظر ما ينتظره الموحدون‏.‏

وفضائله ومآثره كثيرةً جداً، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا به‏.‏

 ذكر سبب وفاته رحمه الله

كان سببها السل، وقيل‏‏ سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطى على ذلك ألف دينار، ‏‏ ‏‏ فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم، فقال‏‏ لقد علمت يوم سقيت السّم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له‏‏ ويحك ‏!‏‏!‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ فقال‏‏ ألف دينار أعطيتها‏.‏ فقال‏‏ هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له‏‏ اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك، ثم قيل لعمر‏‏ تدارك نفسك، فقال‏‏ والله لو أنّ شفائي أن أمسّ شحمة أذني، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له‏‏ هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء‏؟‏ فقال‏‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏ والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه‏.‏

وفي رواية‏‏ فلا أبالي في أي واد هلك‏.‏

وفي رواية‏‏ أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت‏؟‏ ما كنت لأفعل‏.‏

ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام، ثم قال‏‏ انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم‏.‏

قال‏‏ فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الأموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لأن عمر وكَّل ولده إلى الله عز وجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏‏ ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال‏‏ قيل لعمر بن عبد لعزيز‏‏ يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتاً دفنت في القبر الرابع مع رسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال‏‏ و الله لأن يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل‏.‏

قالوا‏‏ وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص، وكانت مدة مرضه عشرين يوماً، ولما احتضر قال‏‏ أجلسوني، فأجلسوه، فقال‏‏ إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاثاً، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا‏‏ إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين، فقال‏‏ إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته‏.‏

وفي رواية أنه قال لأهله‏‏ اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول‏‏ مرحباً بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏‏ ‏]‏ ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏‏ ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب، فقرأوها فإذا فيها‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، فأدخلوها بين أكفانه، ودفنوها معه‏.‏

وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده، عن عمير بن حبيب السلمي، قال‏‏ أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته، فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت‏‏ ما يمنعك من ذلك‏؟‏ فقلت‏‏ يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء‏.‏ فقالت‏‏ تريد الذهاب إلى بلادك‏؟‏ قلت‏‏ نعم، فقالت‏‏ سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال‏‏ فسرت كذلك، قال‏‏ فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيلٍ مقبلةٍ، فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا‏‏ عمير‏؟‏ فقلت‏‏ عمير‏.‏ فقلت لهم‏‏ أوليس قد قتلتم، قالوا‏‏ بلى، ولكن الله عز وجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال‏‏ ثم قال لي بعضهم‏‏ ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيراً ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر‏.‏

وقال رجاء بن حيوة‏‏ كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فأدلي ، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضاً، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة‏.‏

وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال‏‏ بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن ماهك، فذكره وفيه غرابة شديدة، والله أعلم‏.‏

وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير عزة يرثي عمر‏‏ ‏‏ ‏‏

عمت صنائعه فعم هلاكه * فالناس فيه كلهم مأجور

والناس مأتمهم عليه واحد * في كل دار رنة وزفير

يثني عليك لسان من لم توله * خيراً لأنك بالثناء جدير

ردت صنائعه عليه حياته * فكأنه من نشرها منشور

وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏‏

ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا

حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا عمرا

الشمس كاسفة ليست بطالعة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى‏‏

لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر

كم من شريعة عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر

يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي * على العدول التي تغتالها الحفر

ثلاثة ما رأت عيني لهم شبهاً * تضم أعظمهم في المسجد الحفر

وأنت تتبعهم لم تأل مجتهداً * سقياً لها سنن بالحق تفتقر

لو كنت أملك والأقدار غالبة * تأتي روحاً وتبياناً وتبتكر

صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر

قالوا‏‏ وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل‏‏ الجمعة لخمس مضين، وقيل‏‏ بقين من رجب، وقيل‏‏ لعشر بقين منه، سنة إحدى، وقيل‏‏ ثنتين ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل‏‏ صلى عليه يزيد بن عبد الملك، وقيل‏‏ ابنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ‏‏ ‏‏ وكان عمره يوم مات تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وقيل‏‏ أنه جاوز الأربعين بأشهر، وقيل‏‏ بسنة ، وقيل‏‏ بأكثر، وقيل‏‏ أنه عاش ثلاثاً وستين سنة، وقيل‏‏ ستاً وثلاثين، وقيل‏‏ سبعاً وثلاثين، وقيل‏‏ ثمانياً وثلاثين سنة، وقيل‏‏ ما بين الثلاثين إلى الأربعين ولم يبلغها‏.‏

وقال أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر‏‏ مات على رأس خمس وأربعين سنة‏.‏

قال ابن عساكر‏‏ وهذا وهم، والصحيح الأول تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً‏.‏

وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل‏‏ أربعة عشر يوماً، وقيل‏‏ سنتان ونصف‏.‏

وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة، وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه أعلم‏.‏

 فصل خلافة عمر بن عبد العزيز‏.‏

لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر‏‏ مالي ولك‏؟‏ تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين‏.‏ ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه، فقال‏‏ أيها الناس ‏!‏ إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون‏.‏ فصاح المسلمون صيحة واحدة‏‏ قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك‏.‏

فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال‏‏ أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً، ثم رفع صوته فقال‏‏ أيها الناس ‏!‏ من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم‏.‏

ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلاً فأتاه ابنه عبد الملك فقال‏‏ يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع‏؟‏ قال‏‏ يا بني أقيل، قال‏‏ تقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها، فقال‏‏ إني سهرت البارحة في أمر سليمان فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال له ابنه‏‏ ومن لك أن تعيش إلى الظهر‏؟‏ قال‏‏ ادن مني أي بني، فدنا منه فقبل بين عينيه وقال‏‏ الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني‏.‏ ‏‏ ‏‏ ثم قام وخرج وترك القائلة، وأمر مناديه فنادى‏‏ ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال‏‏ يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال‏‏ ما ذاك‏؟‏ قال‏‏ العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له عمر‏‏ يا عباس ما تقول‏؟‏ قال‏‏ نعم ‏!‏ أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر‏‏ ما تقول يا ذمي‏؟‏ قال‏‏ يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر‏‏ نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته، فردها عليه، ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها سواء كانت في يده أو في يد غيره، حتى أخذ أموال بني مروان وغيرهم مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئاً، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان - وكانت عمته - فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم، ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأساً، وكانت هذه المرأة لا تحجب عن الخلفاء، و لا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها لأنها أخت أبيه، وألقى لها وسادة وشرع يحادثها فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر‏‏ يا عمة مالك‏؟‏ فقالت‏‏ بنو أخي عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك‏؟‏ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر‏؟‏ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجد‏.‏

فقال‏‏ يا عمة‏.‏ اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك الناس على نهر مورود، فولي ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئاً حتى مات، ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئاً حتى مات، ثم ولي ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابساً لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقاني الله لأردنه إلى مجراه الأول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الأقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم‏؟‏ فقالت‏‏ فلا يسبوا عندك‏؟‏ قال‏‏ ومن يسبهم‏؟‏ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها‏.‏ ذكر ذلك ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية‏.‏

وقال مسلمة بن عبد الملك‏‏ دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة‏‏ ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين‏؟‏ فقالت‏‏ والله ماله قميص غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة‏‏ ما أبكاك يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏‏ إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في الجنة و فريق في السعير، ثم صرخ وغشى عليه‏.‏ ‏‏  ‏‏

وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال‏‏ وهل ينتفع من المسك إلا بريحه‏؟‏

ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكراً، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال‏‏ بنفسي الفتية‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيراً بهذه الأبيات‏‏

يرى مستكيناً وهو للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله

وأزعجه علم عن الجهل كله * وما عالم شيئاً كمن هو جاهله

عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم خدين يهازله

تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله

وروى ابن أبي الدنيا، عن ميمون بن مهران، قال‏‏ دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري وهو ينشده شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات‏‏

فكم من صحيح بات للموت آمناً * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع

فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فراراً ولا منه بقوته امتنع

فأصبح تبكيه النساء مقنعاً * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع

وقرب من لحد فصار مقيله * وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع

فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع

وقال رجاء بن حيوة‏‏ لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد‏‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن هذا المرائي - يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر‏.‏ فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر‏‏ بلغني أن عمر خلف جوهراً ودراً في بيتين مقفولين، فأرسلت إليه‏‏ يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد إلا ما في هذا المنديل، وأرسلت إليه به فحله فوجد فيه قميصاً غليظاً مرفوعاً، ورداء قشباً، وجبةً محشوةً غليظةً واهية البطانة‏.‏ فقال يزيد للرسول‏‏ قل لها ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين، فأرسلت تقول له‏‏ و الذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك، فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين، فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي وقمقم‏.‏ فقال عمر بن الوليد‏‏ أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجداً مفروشاً بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق بقدر ما يدخل الإنسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، ‏‏ ‏‏ كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، و وجدوا صندوقاً مقفلاً ففتح فوجدوا فيه سفطاً ففتحه، فإذا فيه دراعة وتبان كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن معه وقال‏‏ يرحمك الله يا أخي، إن كنت لنقي السريرة نقي العلانية‏.‏ و خرج عمر بن الوليد و هو مخذول وهو يقول‏‏ أستغفر الله، إنما قلت ما قيل لي‏.‏

وقال رجاء‏‏ لما احتضر جعل يقول‏‏ اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب لما عجلت تأخيراً، ولا لما أخرت تعجيلاً، فلا زال يقول ذلك حتى مات‏.‏

وكان يقول‏‏ لقد أصبحت ومالي في الأمور هوى إلا في مواضع قضاء الله فيها‏.‏

وقال شعيب بن صفوان‏‏ كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة‏‏ أما بعد يا عمر فإنه قد ولي الخلافة والملك قبلك أقوام فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، فانفقأت عينهم التي كانت لا تفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الأموال والأطعمة، وصاروا جيفاً بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا يحقرونه و هم أحياء لتأذى بهم ولنفر منهم، بعد إنفاق الأموال على أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الأموال إسرافاً في أغراضهم و أهوائهم، و يقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم و أنت غير محبوس ولا مرتهن بشيء فافعل، واستعن بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه‏‏

وما ملك عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه ومواكبه

ومن كان ذا باب شديد وحاجب * فعما قليل يهجر الباب حاجبه

وما كان غير الموت حتى تفرقت * إلى غيره أعوانه وحبائبه

فأصبح مسروراً به كل حاسد * وأسلمه أصحابه وحبائبه ‏‏ ‏‏

وقيل‏‏ إن هذه الأبيات لغيره‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص‏‏ حدثنا عاصم بن عامر، حدثنا أبي، عن عبد ربه بن أبي هلال، عن ميمون بن مهران، قال‏‏ تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم وعنده رهط من إخوانه، ففتح له منطق و موعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له‏‏ يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فإني أرجو أن يمن الله به على من سمعه أو بلغه، فقال‏‏ إليك عني يا أبا أيوب، فإن في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمن من المقال‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال‏‏ استعملنا أقواماً كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله أما كانوا يمشون على القبور ‏!‏

وروى عبد الرزاق قال‏‏ سمعت معمراً يذكر قال‏‏ كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وبلغه عنه بعض ما يكره -‏‏ أما بعد فإنه غرني بك مجالستك القراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثير مما تعملون‏.‏

وروى الطبراني والدارقطني وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى عامل له‏‏ أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما أحدث المحدثون بعده ممن قد حارب سنته وكفوا مؤنته، ثم أعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها، - أو قال دليل عليها - فعليك لزوم السنة فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، و إنما كان عملهم على الأسد، و لو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لأنهم السابقون إلى كل خير، فإن قلت‏‏ قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، و رغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفي، و وصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز‏.‏ ما أحسن هذا القول الذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلأ بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء و غيرهم‏؟‏ فرحمه الله وعفا عنه‏.‏

وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ، عن سعيد بن أبي مريم، عن رشيد بن سعيد، قال‏‏ حدثني عقيل، عن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز‏.‏ قال‏‏ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدي، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس‏‏ الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته‏‏ إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله و الدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر‏.‏ ثم تلا قوله تعالى‏‏ ‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏‏ ‏]‏، وقوله تعالى‏‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏‏ ‏]‏‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب إليه عمر‏‏ بئس ما علمت إذ قدمت إمام المسلمين صبياً لم يعرف النية - أو لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له‏‏ يا بني، ليس الخير أن يسمع لك و تطاع، و إنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عز وجل ثم أطعته، يا بني لا تأذن اليوم لأحد علي حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عني، فقال له مولاه‏‏ رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال‏‏ فبكى، ثم قال‏‏ يا بني إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عز وجل‏.‏ قال‏‏ ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال‏‏ فما رأيته بعد ذلك متبسماً حتى مات‏.‏

وقرأ ذات يوم ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً‏} ‏[‏يونس‏‏ ‏]‏ الآية، فبكى بكاءاً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال فقال له‏‏ يا أبتما يبكيك‏؟‏ فقال‏‏ يا بني خير ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا، عن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنبري، قال‏‏ رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال‏‏ هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏‏ ‏]‏‏.‏

فقال‏‏ و ما شأن الشمس‏؟‏ ‏{‏وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏‏ -‏]‏ فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء، حتى رأيت حيطان المسجد تبكي معه، ودخل عليه أعرابي فقال‏‏ يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عني‏.‏ فبكى عمر وقال له‏‏ كم أنتم‏؟‏ فقال‏‏ أنا وثلاث بنات‏.‏ ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من ماله، وقال له اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وجاءه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه، وقال‏‏ يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا بين يديك مقامك غداً بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يخاصم من الخلائق، من يوم يلقاه بلائقة من العمل، ولا براءة من الذنب، قال‏‏ فبكى عمر بكاءاً شديداً، ثم قال له‏‏ ما حاجتك‏؟‏ فقال‏‏ إن عاملك بأذربيجان عدا عليَّ فأخذ مني اثني عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال‏.‏ فقال عمر‏‏ اكتبوا له الساعة إلى عاملها فليرد عليه، ثم أرسله مع البريد‏.‏

وعن زياد مولى ابن عياش قال‏‏ دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردة شاتية، فجعلت أصطلي على كانون هناك، فجاء عمر وهو أمير المؤمنين فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي‏‏ يا زياد‏؟‏ قلت‏‏ نعم يا أمير المؤمنين، قال‏‏ قص علي، قلت‏‏ ما أنا بقاصٍّ، فقال‏‏ تكلم، فقلت‏‏ زياد، فقال‏‏ ماله‏؟‏ فقلت‏‏ لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار إذا دخل الجنة، فقال‏‏ صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون‏.‏

وقال له زياد العبدي‏‏ يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف واعملها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد‏‏ يا أمير المؤمنين أخبرني عن رجل له خصم ألد ما حاله‏؟‏ قال‏‏ سيء الحال، قال‏‏ فإن كانا خصمين ألدين‏؟‏ قال‏‏ فهو أسوأ حالاً، قال‏‏ فإن كانوا ثلاثة‏؟‏ قال‏‏ ذاك حيث لا يهنئه عيش‏.‏ قال‏‏ فوالله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا و هو خصمك، قال‏‏ فبكى عمر حتى تمنيت أني لم أكن حدثته ذلك‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة‏‏ أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أموراً انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الأدم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنا من وجدناه شرب شيئاً مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه جعلنا له عقوبة شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلاً‏.‏

 خلافة يزيد بن عبد الملك

بويع له بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك أن يكون ولي الأمر من بعد عمر بن عبد العزيز، فلما توفي عمر في رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة - بايعه الناس البيعة العامة، وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة، فعزل في رمضان منها عن إمرة المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وولى عليها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، فجرت بينه وبين أبي بكر بن حزم منافسات وضغائن، حتى آل الأمر إلى أن استدرك عليه حكومة فحدَّه حدين فيها‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها كانت وقعة بين الخوارج، وهم أصحاب بسطام الخارجي، وبين جند الكوفة، وكانت الخوارج جماعة قليلة، وكان جيش الكوفة نحواً من عشرة آلاف فارس، وكادت الخوارج أن تكسرهم، فتذامروا بينهم فطحنوا الخوارج طحناً عظيماً، وقتلوهم عن آخرهم، فلم يبقوا منهم ثائرة‏.‏

وفيها خرج يزيد بن المهلب فخلع يزيد بن عبد الملك واستحوذ على البصرة، وذلك بعد محاصرة طويلة، وقتال طويل، فلما ظهر عليها بسط العدل في أهلها، وبذل الأموال، وحبس عاملها عدي بن أرطاة، لأنه كان قد حبس آل المهلب الذين كانوا بالبصرة، حين هرب يزيد بن المهلب من محبس عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا، ولما ظهر على قصر الأمارة أتي بعدي بن أرطاة فدخل عليه وهو يضحك، فقال يزيد بن المهلب‏‏ إني لأعجب من ضحكك، لأنك هربت من القتال كما تهرب النساء، وإنك جئتني وأنت تُتَلُّ كما يُتَل العبد‏.‏ فقال عدي‏‏ إني لأضحك لأن بقائي بقاء لك، وأن من ورائي طالباً لا يتركني، قال‏‏ ومن هو‏؟‏ قال‏‏ جنود بني أمية بالشام، ولا يتركونك، فدارك نفسك قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فتطلب الإقالة فلا تقال‏.‏ فرد عليه يزيد جواب ما قال، ثم سجنه كما سجن أهله‏.‏

واستقر أمر يزيد بن المهلب على البصرة، وبعث نوابه في النواحي والجهات، واستناب في الأهواز، وأرسل أخاه مدرك بن المهلب عن نيابة خراسان، ومعه جماعة من المقاتلة، فلما بلغ خبره الخليفة يزيد بن عبد الملك جهز ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف، مقدمة بين يدي عمه مسلمة بن عبد الملك، وهو في جنود الشام، قاصدين البصرة لقتاله، ولما بلغ يزيد بن المهلب مخرج الجيوش إليه خرج من البصرة واستناب عليها أخاه مروان بن المهلب، وجاء حتى نزل واسط، واستشار من معه من الأمراء فيماذا يعتمده‏؟‏ فاختلفوا عليه في الرأي، فأشار عليه بعضهم بأن يسير إلى الأهواز ليتحصن في رؤوس الجبال، فقال‏‏ إنما تريدون أن تجعلوني طائراً في رأس جبل‏؟‏ وأشار عليه رجال أهل العراق أن يسير إلى الجزيرة فينزلها بأحصن حصن فيها، ويجتمع عليه أهل الجزيرة فيقاتل بهم أهل الشام، وانسلخت هذه السنة وهو نازل بواسط، وجيش الشام قاصده‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس أمير المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وعلى قضائها عامر الشعبي، وعلى البصرة يزيد بن المهلب‏.‏ قد استحوذ عليها وخلع أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك‏.‏ ‏‏ ‏‏

 وفيها توفي‏‏

عمر بن عبد العزيز‏.‏

وربعي بن حراش‏.‏

وأبو صالح السمان‏.‏

وكان عابداً صادقاً ثبتاً، وقد ترجمناه في كتابنا التكميل، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين ومائة

فيها كان اجتماع مسلمة بن عبد الملك مع يزيد بن المهلب، وذلك أن يزيد بن المهلب ركب من واسط واستخلف عليها ابنه معاوية، وسار هو في جيش، و بين يديه أخوه عبد الملك بن المهلب، حتى بلغ مكاناً يقال له‏‏ العقر، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنود لا قبل ليزيد بها، وقد التقت المقدمتان أولاً فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزم أهل البصرة أهل الشام، ثم تذامر أهل الشام فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة من الشجعان منهم‏‏ المنتوف، وكان شجاعاً مشهوراً، وكان من موالي بكر بن وائل، فقال في ذلك الفرزدق‏‏

تبكي على المنتوف بكر بن وائل * وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما

فأجابه الجعد بن درهم مولى الثوريين من همدان وهذا الرجل هو أول الجهمية، وهو الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى فقال الجعد‏‏

تبكي على المنتوف في نصر قومه * وليتنا نبكي الشائدين أباهما

أرادا فناء الحي بكر بن وائل * فعز تميمٌ لو أصيب فناهما

فلا لقيا روحاً من الله ساعة * ولا رقأت عيناً شجيٍّ بكاهما

أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما * وقد لقيا بالغش فينا رداهما

ولما اقترب مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد من جيش يزيد بن المهلب، خطب يزيد بن المهلب الناس وحرضهم على القتال - يعني قتال أهل الشام - وكان مع يزيد نحو من مائة ألف، وعشرين ألفاً، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏‏، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، ومن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن خالفنا قاتلناه‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكان الحسن البصري في هذه الأيام يحرض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة، وينهاهم أشد النهي، وذلك لما وقع من القتال الطويل العريض في أيام ابن الأشعث، وما قتل بسبب ذلك من النفوس العديدة، وجعل الحسن يخطب الناس، ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك بن المهلب، فقام في الناس خطيباً فأمرهم بالجد والجهاد، والنفر إلى القتال، ثم قال‏‏ ولقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس، أما والله ليكفن عن ذلك أو لأفعلن ولأفعلن، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال‏‏ أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه حتى زالت دولتهم، وذلك أن الجيوش لما تواجهت تبارز الناس قليلاً، ولم ينشب الحرب شديداً حتى فر أهل العراق سريعاً، وبلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه حرق، فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب‏‏ ما بال الناس‏؟‏ ولم يكن من الأمر ما يفرّ من مثله، فقيل له‏‏ إنه بلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه قد حرق‏.‏ فقال‏‏ قبحهم الله، ثم رام أن يرد المنهزمين فلم يمكنه، فثبت في عصابة من أصحابه، وجعل بعضهم يتسللون منه حتى بقي في شرذمة قليلة، وهو مع ذلك يسير قدماً لا يمر بخيل إلا هزمهم، وأهل الشام يتجاورون عنه يميناً وشمالاً، وقد قتل أخوه حبيب بن المهلب، فازداد حنقاً وغيظاً، وهو على فرس له أشهب، ثم قصد نحو مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره، فلما واجهه حملت عليه خيول الشام فقتلوه، وقتلوا معه أخاه محمد بن المهلب، وقتلوا السميذع، وكان من الشجعان، وكان الذي قتل يزيد بن المهلب رجل يقال له‏‏ القجل بن عياش، فقتل إلى جانب يزيد بن المهلب، وجاؤوا برأس يزيد إلى مسلمة بن عبد الملك، فأرسله مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى أخيه أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما في معسكر يزيد بن المهلب، وأسر منهم نحواً من ثلاثمائة، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، فسار مسلمة فنزل الحيرة‏.‏

ولما انتهت هزيمة ابن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمد إلى نحو من ثلاثين أسيراً في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عدي بن أرطاة رحمه الله وابنه، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع، وجماعة من الأشراف، ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه الخزائن من الأموال، وجاء معه عمه المفضل بن المهلب إليه، فاجتمع آل المهلب بالبصرة فأعدوا السفن وتجهزوا أتم الجهاز واستعدوا للهرب، ‏‏ ‏‏ فساروا بعيالهم وأثقالهم، حتى أتوا جبال كرمان فنزلوها، واجتمع عليهم جماعة ممن فل من الجيش الذي كان مع يزيد بن المهلب، وقد أمروا عليهم المفضل بن المهلب، فأرسل مسلمة جيشاً عليهم هلال بن ماجور المحاربي في طلب آل المهلب، ويقال‏‏ إنهم أمروا عليهم رجلاً يقال له‏‏ مدرك بن ضب الكلبي، فلحقهم بجبال كرمان، فاقتتلوا هنالك قتالاً شديداً، فقتل جماعة من أصحاب المفضل وأسر جماعة من أشرافهم وأنهزم بقيتهم، ثم لحلقوا المفضل فقتلوه، وحمل رأسه إلى مسلمة بن عبد الملك، وأقبل جماعة من أصحاب يزيد بن المهلب فأخذوا لهم أماناً من أمير الشام، منهم‏‏ مالك بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، ثم أرسلوا بالأثقال والأموال والنساء والذرية فوردت على مسلمة بن عبد الملك، ومعهم رأس المفضل، ورأس عبد الملك بن المهلب، فبعث مسلمة بالرؤوس وتسعة من الصبيان الحسان إلى أخيه يزيد، فأمر بضرب أعناق أولئك، ونصبت رؤوسهم بدمشق، ثم أرسلها إلى حلب فنصبت بها، وحلف مسلمة بن عبد الملك ليبيعن ذراري آل المهلب، فاشتراهم بعض الأمراء إبراراً لقسمه بمائة ألف، فأعتقهم وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة من ذلك الأمير شيئاً، وقد رثا الشعراء يزيد بن المهلب بقصائد ذكرها ابن جرير‏.‏