الجزء التاسع - ولاية مسلمة على بلاد العراق وخراسان

ولاية مسلمة على بلاد العراق وخراسان

وذلك أنه لما فرغ من حرب آل المهلب كتب إليه أخوه يزيد بن عبد الملك بولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فاستناب على الكوفة وعلى البصرة، وبعث إلى خراسان ختنه - زوج ابنته - سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، الملقب بخذينة، فسار إليها، فحرض أهلها على الصبر والشجاعة، وعاقب عمالاً ممن كان ينوب لآل المهلب، وأخذ منهم أموالاً جزيلةً، ومات بعضهم تحت العقوبة‏.‏

 ذكر وقعة جرت بين الترك والمسلمين

وذلك أن خاقان الملك الأعظم ملك الترك بعث جيشاً إلى الصغد لقتال المسلمين، عليهم رجل منهم يقال له‏‏ كورصول، فأقبل حتى نزل على قصر الباهلي فحصره وفيه خلق من المسلمين، ‏‏ ‏‏ فصالحهم نائب سمرقند - وهو عثمان بن عبد الله بن مطرف - على أربعين ألفاً، ودفع إليهم سبعة عشر دهقاناً رهائن عندهم، ثم ندب عثمان الناس، فانتدب رجل يقال له‏‏ المسيب بن بشر الرياحي في أربعة آلاف، فساروا نحو الترك، فلما كان في بعض الطريق خطبهم فحثهم على القتال وأخبرهم أنه ذاهب إلى الأعداء لطلب الشهادة، فرجع عنه أكثر من ألف، ثم لم يزل في كل منزل يخطبهم ويرجع عنه بعضهم، حتى بقي في سبعمائة مقاتل، فسار بهم حتى غالق جيش الأتراك، وهم محاصروا ذلك القصر، وقد عزم المسلمون الذين هم فيه على قتل نسائهم وذبح أولادهم أمامهم، ثم ينزلون فيقاتلون، حتى يقتلوا عن آخرهم، فبعث إليهم المسيب يثبتهم يومهم ذلك، فثبتوا ومكث المسيب حتى إذا كان وقت السحر فكبر وكبر أصحابه، وقد جعلوا شعارهم يا محمد، ثم حملوا على الترك حملة صادقة، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وعقروا دواب كثيرة، ونهض إليهم الترك فقاتلوهم قتالاً شديداً، حتى فرَّ أكثر المسلمين، وضربت دابة المسيب في عجزها فترجل وترجل معه الشجعان، فقاتلوا و هم كذلك قتالاً عظيماً، والتف الجماعة بالمسيب، وصبروا حتى فتح الله عليهم، وفرَّ المشركون بين أيديهم هاربين لا يلوون على شيء، وقد كان الأتراك في غاية الكثرة، فنادى منادي المسيب‏‏ أن لا تتبعوا أحداً، وعليكم بالقصر وأهله، فاحتملوهم، وحازوا ما في معسكر أولئك الأتراك من الأموال والأشياء النفيسة، وانصرفوا راجعين سالمين بمن معهم من المسلمين الذين كانوا محصورين، وجاءت الترك من الغد فلم يجدوا به داعياً ولا مجيباً، فقالوا في أنفسهم‏‏ هؤلاء الذين لقونا بالأمس لم يكونوا إنساً، إنما كانوا جنَّاً‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان والسادة‏‏

 الضحاك بن مزاحم الهلالي

أبو القاسم، ويقال‏‏ أبو محمد، الخراساني، كان يكون ببلخ وسمرقند ونيسابور، وهو تابعي جليل‏.‏

روى عن أنس، وابن عمر، وأبي هريرة، وجماعة من التابعين‏.‏

وقيل‏‏ إنه لم يصح له سماع من الصحابة حتى و لا من ابن عباس سماع، وإن كان قد روى عنه أنه جاوره سبع سنين‏.‏

وكان الضحاك إماماً في التفسير، قال الثوري‏‏ خذوا التفسير عن أربعة‏‏ مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ هو ثقة‏.‏

وأنكر شعبة سماعه من ابن عباس، وقال‏‏ إنما أخذ عن سعيد عنه‏.‏

وقال ابن سعيد القطان‏‏ كان ضعيفاً‏.‏

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال‏‏ لم يشافه أحداً من الصحابة، ومن قال‏‏ أنه لقى ابن عباس فقد وهم‏.‏

وحملت به أمه سنتين، و وضعته و له أسنان، وكان يعلم الصبيان حسبة‏.‏

وقيل‏‏ أنه مات سنة خمس، وقيل‏‏ سنة ست ومائة، والله وأعلم‏.‏

 أبو المتوكل الناجي

اسمه علي بن البصري، تابعي جليل، ثقة، رفيع القدر، مات وقد بلغ الثمانين، رحمه الله تعالى‏.‏ ‏‏ ‏‏

 ثم دخلت سنة ثلاث ومائة

فيها عزل أمير العراق وهو عمر بن هبيرة، سعيد - الملقب خذينة - عن نيابة خراسان، وولى عليها سعيد بن عمرو الجريشي بإذن أمير المؤمنين، وكان سعيد هذا من الأبطال المشهورين، انزعج له الترك وخافوه خوفاً شديداً، وتقهقروا من بلاد الصغد إلى ما وراء ذلك، من بلاد الصين وغيرها، وفيها جمع يزيد بن عبد الملك لعبد الرحمن بن الضحاك بن قيس بين إمرة المدينة وإمرة مكة، و ولى عبد الرحمن الواحد بن عبد الله النضري نيابة الطائف‏.‏

وحج بالناس فيها أمير الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

وممن توفى فيها من الأعيان‏‏

يزيد بن أبي مسلم

أبو العلاء المدني‏.‏

عطاء بن يسار الهلالي‏.‏

 أبو محمد القاص المدني‏.‏

مولى ميمونة، وهو أخو سليمان، وعبد الله، وعبد الملك، وكلهم تابعي‏.‏

وروى هذا عن جماعة من الصحابة، و وثقه غير واحد من الأئمة‏.‏

وقيل‏‏ أنه توفي سنة ثلاث - أو أربع - ومائة، وقيل‏‏ توفي قبل المائة بالإسكندرية، وقد جاوز الثمانين، والله سبحانه أعلم‏.‏

 مجاهد بن جبير المكي

أبو الحجاج القرشي المخزومي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، أحد أئمة التابعين والمفسرين، كان من أخِصَّاء أصحاب ابن عباس، وكان أعلم أهل زمانه بالتفسير، حتى قيل‏‏ إنه لم يكن أحد يريد بالعلم وجه الله إلا مجاهد وطاووس‏.‏

وقال مجاهد‏‏ أخذ ابن عمر بركابي وقال‏‏ وددت أن ابني سالماً وغلامي نافعاً يحفظان حفظك‏.‏

وقيل‏‏ إنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقيل‏‏ مرتين، أقفه عند كل آية، وأسأله عنها‏.‏

مات مجاهد وهو ساجد، سنة مائة، وقيل‏‏ إحدى، وقيل‏‏ ثنتين، وقيل‏‏ ثلاث ومائة، وقيل‏‏ أربع ومائة، وقد جاوز الثمانين، والله أعلم‏.‏

 فصل قول ابن عباس‏‏ لا تنامن إلا على وضوء‏.‏

أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمرو، وأبي سعيد، ورافع بن خديج‏.‏ وعنه خلق من التابعين‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال الطبراني‏‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، عن أبي بكر بن عياش، قال‏‏ أخبرني أبو يحيى، أنه سمع مجاهداً يقول‏‏ قال لي ابن عباس‏‏ لا تنامن إلا على وضوء، فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه‏.‏

وروى الطبراني عنه‏‏ أنه قال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏‏ ‏]‏ قال‏‏ يسلم عليه إذا لقيه، وقيل‏‏ هي المصافحة‏.‏

وروى عمرو بن مرة، عنه، أنه قال‏‏ أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام‏‏ اتق لا يأخذك الله على ذنب لا ينظر فيه إليك، فتلقاه حين تلقاه وليست لك حاجة‏.‏

وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أمامة، عن الأعمش، عن مجاهد‏.‏ قال‏‏ كان بالمدينة أهل بيت ذوي حاجة، عندهم رأس شاة، فأصابوا شيئاً، فقالوا‏‏ لو بعثنا بهذا الرأس إلى من هو أحوج إليه منا، فبعثوا به فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم أولاً‏.‏

وروى ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، قال‏‏ ما من مؤمن يموت إلا بكى عليه السماء والأرض أربعين صباحاً‏.‏

وقال‏‏ ‏{‏فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏‏ ‏]‏ قال‏‏ في القبر‏.‏

وروى الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبانة، عن مجاهد، قال‏‏ كان يحج من بني إسرائيل مائة ألف، فإذا بلغوا أرصاف الحرم خلعوا نعالهم، ثم دخلوا الحرم حفاة‏.‏

وقال يحيى بن سعيد القطان‏‏ قال مجاهد‏‏

في قوله تعالى‏‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏‏ ‏]‏ قال‏‏ اطلبي الركود‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ‏} ‏[‏الإسراء‏‏ ‏]‏ قال‏‏ المزامير‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏أَنْكَالاً وَجَحِيماً‏}‏ ‏[‏المزمل‏‏ ‏]‏ قال‏‏ قيود‏.‏

وقال في قوله‏‏ ‏{‏لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏‏ ‏]‏ قال‏‏ لا خصومة‏.‏

وقال‏‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏} ‏[‏التكاثر‏‏ ‏]‏ قال‏‏ عن كل لذة في الدنيا‏.‏

وروى أبو الديبع، عن جرير بن عبد الحسيب، عن منصور، عن مجاهد‏.‏ قال‏‏ رن إبليس أربع رنات حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت الحمد لله رب العالمين وأنزلت بالمدينة‏.‏

وكان يقال‏‏ الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر‏.‏

وروى ابن نجيح، عنه، في قوله تعالى‏‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏‏ ‏]‏ قال‏‏ بروج الحمام‏.‏

وقال‏‏ في قوله تعالى‏‏ ‏{‏أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ التجارة‏.‏

وروى ليث، عن مجاهد، قال‏‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏‏ ‏]‏ قال‏‏ استقاموا فلم يشركوا حتى ماتوا‏.‏

وروى يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن ابن أبجر، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد‏‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏‏ ‏]‏ قال‏‏ صاحبة‏.‏

وقال ليث، عن مجاهد، قال‏‏ النملة التي كلمت سليمان كانت مثل الذئب العظيم‏.‏

وروى الطبراني، عن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏ قال‏‏ كان الغلام من قوم عاد لا يحتلم حتى يبلغ مائتي سنة‏.‏

وقال‏‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ ‏[‏المعارج‏‏ ‏]‏‏‏ دعا داع‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الجن‏‏ -‏]‏‏‏ حتى يرجعوا إلى علمي فيه‏.‏

{‏لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً‏}‏ ‏[‏النور‏‏ ‏]‏ قال‏‏ لا يحبون غيري‏.‏

{‏وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ‏} ‏[‏فاطر‏‏ ‏]‏ قال‏‏ هم المراؤون‏.‏

‏‏ ‏‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏‏ ‏]‏ قال‏‏ هم الذين لا يدرون أنعم الله عليهم أم لم ينعم‏.‏

ثم قرأ‏‏ ‏{‏وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏‏ ‏]‏ قال‏‏ أيامه نعمه ونقمه‏.‏

{‏فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏} ‏[‏النساء‏‏ ‏]‏‏‏ فردوه إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حياً، فإذا مات فإلى سنته‏.‏

{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً‏}‏ ‏[‏لقمان‏‏ ‏]‏ قال‏‏ أما الظاهرة فالإسلام والقرآن والرسول و الرزق، وأما الباطنة فما ستر من العيوب والذنوب‏.‏

وروى الحكم، عن مجاهد، قال‏‏ لما قدمت مكة نساء على سليمان عليه السلام رأت حطباً جزلاً فقالت لغلام سليمان‏‏ هل يعرف مولاك كم وزن دخان هذا الحطب‏؟‏ فقال الغلام‏‏ دعي مولاي أنا أعرف كم وزن دخانه فكيف مولاي‏؟‏ قالت‏‏ فكم وزنه‏؟‏ فقال الغلام‏‏ يوزن الحطب، ثم يحرق الحطب ويوزن رماده، فما نقص فهو دخانه‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏‏ ‏]‏ قال‏‏ من لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى فهو من الظالمين‏.‏

وقال‏‏ ما من يوم ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم‏‏ الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ثم يطوى عليه فيختم إلى يوم القيامة، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يفض خاتمه‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ العلم والفقه، وقال‏‏ إذا ولي الأمر منكم الفقهاء‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏ قال‏‏ البدع والشبهات‏.‏

وقال‏‏ أفضل العبادة الرأي الحسن -يعني‏‏ اتباع السنة -

وقال‏‏ ما أدري أي النعمتين أفضل أن هداني للإسلام أو عافاني من الأهواء‏.‏

وقال في رواية‏‏ ألو الأمر منكم، أصحاب محمد، وربما قال‏‏ أولو العقل والفضل في دين الله عز وجل‏.‏

{‏بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏‏ ‏]‏ قال‏‏ السرية، ‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏‏ ‏]‏ قال‏‏ السوس في الثياب، ‏{‏وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي‏}‏ ‏[‏مريم‏‏ ‏]‏ قال‏‏ الأضراس، ‏{‏حَفِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏‏ ‏]‏ قال‏‏ رحيماً‏.‏

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال‏‏ وجدت في كتاب محمد بن أبي حاتم بخط يده، حدثنا بشر بن الحارث، حدثنا يحيى بن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال‏‏ لو أن رجلاً أنفق مثل أحد في طاعة الله عز وجل لم يكن من المسرفين‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏‏ ‏]‏ قال‏‏ العداوة، ‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏‏ ‏]‏ قال‏‏ بينهما حاجز من الله فلا يبغي الحلو على المالح ولا المالح على الحلو‏.‏

وقال ابن مندة‏‏ ذكر محمد بن حميد، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، قال‏‏ كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها، قال‏‏ وذهب إلى حضرموت إلى بئر برهوت، قال‏‏ وذهب إلى بابل، قال‏‏ وعليها والٍ صديق لمجاهد فقال مجاهد‏‏ تعرض على هاروت وماروت، قال‏‏ فدعا رجلاً من السحرة فقال‏‏ اذهب بهذا فاعرض عليه هاروت وماروت‏.‏ فقال اليهودي‏‏ بشرط أن لا تدعو الله عندهما، قال مجاهد‏‏ فذهب بي إلى قلعة فقطع منها حجراً، ثم قال‏‏ خذ برجلي فهوى بي حتى انتهى إلى حوبة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين العظيمين، فلما رأيتهما قلت‏‏ سبحان الله خالقكما، قال‏‏ فاضطربا فكأن جبال الدنيا قد تدكدت، قال‏‏ فغشى علي وعلى اليهودي، ثم أفاق اليهودي قبلي، فقال‏‏ قم ‏!‏ كدت أن تهلك نفسك وتهلكني‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، قال‏‏ يؤتى يوم القيامة بثلاثة نفر بالغنى والمريض والعبد المملوك، قال‏‏ فيقول الله عز وجل للغني ما شغلك عن عبادتي التي إنما خلقتك لها‏؟‏ فيقول‏‏ يا رب أكثرت لي من المال فطغيت، فيؤتى بسليمان عليه السلام في ملكه فيقول‏‏ لذا أنت كنت أكثر مالاً وأشد شغلاً أم هذا‏؟‏ قال‏‏ فيقول‏‏ بل هذا يا رب، فيقول الله له‏‏ فإن هذا لم يمنعه ما أوتي من الملك والمال والشغل عن عبادتي‏.‏

قال‏‏ ويؤتى بالمريض فيقول‏‏ ما منعك عن عبادتي التي خلقتك لها‏؟‏ فيقول‏‏ يا رب شغلني عن هذا مرض جسدي، فيؤتى بأيوب عليه السلام في ضره وبلائه فيقول له‏‏ أأنت كنت أشد ضراً ومرضاً أم هذا‏؟‏ فيقول‏‏ بل هذا، فيقول‏‏ إن هذا لم يشغله ضره ومرضه عن عبادتي‏.‏

ثم يؤتى بالمملوك فيقول الله له‏‏ ما منعك من عبادتي التي خلقتك لها‏؟‏ فيقول‏‏ رب فضلت علي أرباباً فملكوني وشغلوني عن عبادتك‏.‏ فيؤتى بيوسف عليه السلام في رقه وعبوديته فيقول الله له‏‏ أأنت كنت أشد في رقك وعبوديتك أم هذا‏؟‏ فيقول‏‏ بل هذا يا رب، فيقول الله‏‏ فإن هذا لم يشغله ما كان فيه من الرق عن عبادتي‏.‏

وروى حميد، عن الأعرج، عن مجاهد، قال‏‏ كنت أصحب ابن عمر في السفر فإذا أردت أن أركب مسك ركابي، فإذا ركبت سوى على ثيابي فرآني مرة كأني كرهت ذلك فيَّ، فقال‏‏ يا مجاهد إنك لضيق الخلق، وفي رواية‏‏ صبحت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن رجل، عن مجاهد‏.‏ قال‏‏ جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول منها حيث شاء، وجعل له أعوان يتوفون الأنفس ثم يقبضها منهم‏.‏

وقال‏‏ لما هبط آدم إلى الأرض قال له‏‏ ابن للخراب ولد للفناء‏.‏

وروى قتيبة، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد‏.‏

{‏وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ تلعن عصاة بني آدم دواب الأرض وما شاء الله حتى الحيات والعقارب، يقولون‏‏ منعنا القطر بذنوب بني آدم‏.‏

وقال غيره‏‏ تسلط الحشرات على العصاة في قبورهم لما كان ينالهم من الشدة بسبب ذنوبهم، فتلك الحشرات من العقارب والحيات‏‏ هي السيئات التي كانوا يعملونها في الدنيا، ويستلذونها صارت عذاباً عليهم‏.‏ نسأل الله العافية‏.‏

وقال‏‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ‏} ‏[‏العاديات‏‏ ‏]‏‏‏ لكفور‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا عمر بن سليمان، حدثني مسلم أبو عبد الله، عن ليث، عن مجاهد، قال‏‏ من لم يستحي من الحلال خفت مؤنته وأراح نفسه‏.‏

وقال عمرو بن زروق‏‏ حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال‏‏ ‏{‏فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏‏ ‏]‏‏‏ أن لن نعاقبه بذنبه‏.‏

وبهذا الإسناد قال‏‏ لم أكن أحسن ما الزخرف حتى سمعتها في قراءة عبد الله بيتاً من ذهب‏.‏

وقال قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد‏‏ إن الله عز وجل ليصلح بصلاح العبد ولده‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال‏‏ وبلغني أن عيسى عليه السلام كان يقول‏‏ طوبى للمؤمن كيف يخلفه الله فيمن ترك بخير‏.‏

وقال الفضيل بن عياض، عن عبيد المكتب، عن مجاهد، في قوله تعالى‏‏ {‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏‏‏ الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا‏.‏

وروى سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى‏‏ ‏{‏لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ الإل‏‏ الله عز وجل‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏‏ ‏]‏‏‏ طاعة الله عز وجل‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏‏ ‏]‏ قال‏‏ هو الذي يذكر الله عند الهم بالمعاصي‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏‏ عن منصور، عن مجاهد‏‏ ‏{‏سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏‏ ‏]‏‏‏ الخشوع‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ القنوت الركود والخشوع وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله‏.‏

وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصا، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من الدنيا، إلا خاشعاً مادام في صلاته‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏‏ حدثنا أبو عمرو، حدثنا ابن إدريس، حدثني عقبة بن إسحاق - وأثنى عليه خيراً - حدثنا ليث، عن مجاهد، قال‏‏ كنت إذا رأيت العرب استخفيتها وجدتها من وراء دينها، فإذا دخلوا في الصلاة فكأنما أجساد ليست فيها أرواح‏.‏

وروى الأعمش، عنه، قال‏‏ إنما القلب منزلة الكف فإذا أذنب الرجل ذنباً قبض هكذا - ضم الخنصر حتى ضم أصابعه كلها إصبعاً إصبعاً - قال‏‏ ثم يطبع فكانوا يريدون ذلك الران، قال الله تعالى‏‏ ‏{‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏‏ ‏]‏‏.‏

وروى قبيصة، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد‏‏ ‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ الذنوب تحيط بالقلوب كالحائط المبني على الشيء المحيط، كلما عمل ذنباً ارتفعت حتى تغشى القلب حتى تكون هكذا - ثم قبض يده - ثم قال‏‏ هو الران‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏‏ ‏]‏، قال‏‏ أول عمل العبد وآخره‏.‏

{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الانشراح‏‏ ‏]‏ قال‏‏ إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فاجعل رغبتك إليه، ونيتك له‏.‏

وعن منصور، عن مجاهد‏‏ ‏{‏النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ‏}‏ ‏[‏الفجر‏‏ ‏]‏، قال‏‏ هي النفس التي قد أيقنت أن الله ربها وضربت حاشا لأمره وطاعته‏.‏

وروى عبد الله بن المبارك، عن ليث، عن مجاهد، قال‏‏ ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه، إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر، وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو‏.‏

وقال أحمد، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مجاهد، قال‏‏ قال إبليس‏‏ إن يعجزني ابن آدم فلن يعجزني من ثلاث خصال‏‏ أخذ مال بغير حق، وإنفاقه في غير حقه‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال أحمد‏‏ حدثنا ابن نمير، قال‏‏ قال الأعمش‏‏ كنت إذا رأيت مجاهداً ظننت أنه حر مندح قد ضل حماره فهو مهتم‏.‏

وعن ليث، عن مجاهد، قال‏‏ من أكرم نفسه وأعزها أذل دينه، ومن أذل نفسه أعز دينه‏.‏

وقال شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال‏‏ قال لي‏‏ يا أبا الغازي كم لبث نوح في الأرض‏؟‏ قال‏‏ قلت‏‏ ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال‏‏ فإن الناس لم يزدادوا في أعمارهم وأجسادهم وأخلاقهم إلا نقصاً‏.‏

وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي علية، عن ليث، عن مجاهد، قال‏‏ ذهبت العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم‏.‏

وروى ابن أبي شيبة أيضاً، عن ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، قال‏‏ لو لم يصب المسلم من أخيه إلا أن حياء منه يمنعه من المعاصي لكان في ذلك خير‏.‏

وقال‏‏ الفقيه‏‏ من يخاف الله وإن قل علمه، والجاهل‏‏ من عصى الله وإن كثر علمه‏.‏

وقال‏‏ إن العبد إذا أقبل على الله بقلبه أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏‏ ‏]‏ قال‏‏ عملك فأصلح‏.‏

{‏وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏‏ ‏]‏ قال‏‏ ليس من عرض الدنيا‏.‏

{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏} ‏[‏الزمر‏‏ ‏]‏ قال‏‏ هم الذين يجيئون بالقرآن قد اتبعوه وعملوا بما فيه‏.‏

وقال‏‏ يقول القرآن للعبد‏‏ إني معك ما اتبعتني فإذا لم تعمل بي اتبعتك‏.‏

{‏وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا‏} ‏[‏القصص‏‏ ‏]‏ قال‏‏ خذ من دنياك لآخرتك، وذلك أن تعمل فيها بطاعة الله عز وجل‏.‏

وقال داود بن المحبر، عن عباد بن كثير، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه‏‏ مجاهد بن جبير، قال‏‏ قلت لابن عمر‏‏ أي حجاج بيت الله أفضل وأعظم أجراً‏؟‏ قال‏‏ من جمع ثلاث خصال‏‏ نية صادقة، وعقلاً وافراً، ونفقةً من حلال، فذكرت ذلك لابن عباس فقال‏‏ صدق‏.‏ فقلت‏‏ إذا صدقت نيته، وكانت نفقته من حلال فماذا يضره قلة عقله‏؟‏ فقال‏‏ يا أبا حجاج، سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏‏ ‏‏‏‏والذي نفسي بيده ما أطاع العبد الله بشيء أفضل من حسن العقل، ولا يقبل الله صوم عبد ولا صلاته، ولا شيئاً مما يكون من عمله من أنواع الخير إن لم يعمل بعقل‏.‏ ولو أن جاهلاً فاق المجتهدين في العبادة كان ما يفسد أكثر مما يصلح‏‏‏‏‏.‏

قلت‏‏ ذكر العقل في هذا الحديث ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المنكرات والموضوعات، والثلاث الخصال موقوفة على ابن عمر، من قوله من جمع ثلاث خصال، إلى قوله قال ابن عباس صدق، والباقي لا يصح رفعه ولا وقفه، وداود بن المحبر كنيته‏‏ أبو سليمان، قال الحاكم‏‏ حدث ببغداد عن جماعة من الثقات بأحاديث موضوعة، حدث بها عنه الحارث بن أبي أسامة، وله كتاب العقل، وأكثر ما أودع ذلك الكتاب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر العقل مرفوعاً في هذه الرواية لعلة من جملتها، والله أعلم‏.‏ وقد كذبه أحمد بن حنبل‏.‏ ‏‏ ‏‏

مصعب بن سعد بن أبي وقاص

تابعي جليل القدر‏.‏

 موسى بن طلحة بن عبيد الله التميمي

كان يلقب بالمهدي لصلاحه، كان تابعياً جليل القدر من سادات المسلمين، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع ومائة

فيها قاتل سعيد بن عمرو الحرشي نائب خراسان أهل الصغد، وحاصر أهل خجندة، وقتل خلقاً كثيراً، وأخذ أموالاً جزيلةً، وأسر رقيقاً كثيراً جداً، وكتب بذلك إلى يزيد بن عبد الملك، لأنه هو الذي ولاه‏.‏

وفي ربيع الأول منها عزل يزيد بن عبد الملك عن إمرة الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان سببه أنه خطب فاطمة بنت الحسين فامتنعت من قبول ذلك، فألح عليها وتوعدها، فأرسلت إلى يزيد تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النضري نائب الطائف فولاه المدينة، وأن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صوته أمير المؤمنين وهو متكئ على فراشه بدمشق، وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار‏.‏

فلما بلغ ذلك عبد الرحمن ركب إلى دمشق واستجار بمسلمة بن عبد الملك، فدخل على أخيه فقال‏‏ إن لي إليك حاجة، فقال‏‏ كل حاجة تقولها فهي لك إلا أن تكون ابن الضحاك، فقال‏‏ هو والله حاجتي، فقال‏‏ والله لا أقبلها ولا أعفو عنه، فرده إلى المدينة فتسلمه عبد الواحد، فضربه وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوف، فسأل الناس بالمدينة‏.‏

وكان قد باشر نيابة المدينة ثلاث سنين وأشهراً، وكان الزهري قد أشار عليه برأي سديد وهو‏‏ أن يسأل العلماء إذا أشكل عليه أمر فلم يقبل، ولم يفعل، فأبغضه الناس وذمه الشعراء، ثم كان هذا آخر أمره‏.‏

وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي، وذلك أنه كان يستخف بأمر ابن هبيرة، فلما عزله أحضره بين يديه وعاقبه وأخذ منه أموالاً كثيرةً، وأمر بقتله ثم عفا عنه، وولى على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فسار إليها فاستخلص أموالاً كانت منكسرة في أيام سعيد بن عمرو الحرشي‏.‏

وفيها غزا الجراح بن عبد الله الحكمي نائب أرمينية وأذربيجان، أرض الترك، ففتح بلنجر وهزم الترك وغرقهم وذراريهم في الماء، وسبى منهم خلقاً كثيراً، وافتتح عامة الحصون التي تلي بلنجر، وأجلى عامة أهلها، والتقى هو والخاقان الملك فجرت بينهم وقعة هائلة آل الأمر فيها إلى أن انهزم خاقان، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، قتل فيها خلق كثير لا يحصون‏.‏ ‏‏ ‏‏

وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري أمير الحرمين والطائف، وعلى نيابة العراق وخراسان عمر، ونائبه على خراسان مسلم بن سعيد يومئذ‏.‏

وفي هذه السنة ولد السفاح وهو‏‏ أبو العباس، عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الملقب‏‏ بالسفاح، أول خلفاء بني العباس، وقد بايع أباه في الباطن جماعة من أهل العراق‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏‏

 خالد بن سعدان الكلاعي

له روايات عن جماعة من الصحابة، وكان تابعياً جليلاً، وكان من العلماء وأئمة الدين المعدودين المشهورين، وكان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة وهو صائم، وكان إمام أهل حمص، وكان يصلي التراويح في شهر رمضان، فكان يقرأ فيها في كل ليلة ثلث القرآن‏.‏

وروى الجوزجاني، عنه، أنه قال‏‏ من اجترأ على الملاوم في مراد الحق، قلب الله تلك المحامد عليه ذماً‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا، عنه، قال‏‏ ما من عبد إلا وله أربعة أعين‏‏ عينان في وجهه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بالعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما أمر آخرته وهما غيب، فأمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بالعبد خلاف ذلك ترك العبد القلب على ما هو عليه، فتراه ينظر فلا ينتفع، فإذا نظر بقلبه نفع‏.‏

وقال‏‏ بصر القلب من الآخرة، وبصر العينين من الدنيا و له فضائل كثيرة رحمه الله تعالى‏.‏

 عامر بن سعد بن أبي وقاص الليثي

له روايات كثيرة عن أبيه وغيره، وهو تابعي جليل، ثقة مشهور‏.‏

 عامر بن شراحيل الشعبي

توفي فيها في قول، كان الشعبي من شعب همدان، كنيته أبو عمرو، وكان علامة أهل الكوفة، كان إماماً حافظاً، ذا فنون، وقد أدرك خلقاً من الصحابة وروى عنهم وعن جماعة من التابعين، وعنه أيضاً روى جماعة من التابعين‏.‏

قال أبو مجلز‏‏ ما رأيت أفقه من الشعبي‏.‏

وقال مكحول‏‏ ما رأيت أحداً أعلم بسنة ماضية منه‏.‏

وقال داود الأودي‏‏ قال لي الشعبي‏‏ قم معي هاهنا حتى أفيدك علماً بل هو رأس العلم‏.‏ قلت‏‏ أي شيء تفيدني‏؟‏ قال‏‏ إذا سئلت عما لا تعلم فقل‏‏ الله أعلم، فإنه عالم حسن‏.‏

وقال‏‏ لو أن رجلاً سافر من أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره ما رأيت سفره ضائعاً، ولو سافر في طلب الدنيا أو الشهوات إلى خارج هذا المسجد، لرأيت سفره عقوبة وضياعاً‏.‏

وقال‏‏ العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كل شيء أحسنه‏.‏ ‏‏ ‏‏

 أبو بردة بن أبو موسى الأشعري

تولى قضاء الكوفة قبل الشعبي، فإن الشعبي تولى في خلافة عمر بن عبد العزيز، واستمر إلى أن مات، وأما أبو بردة فإنه كان قاضياً في زمن الحجاج، ثم عزله الحجاج وولى أخاه أبا بكر، وكان أبو بردة فقيهاً حافظاً عالماً، له روايات كثيرة‏.‏

 أبو قلابة الجرمي

عبد الله بن يزيد البصري، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان من كبار الأئمة والفقهاء، وطلب للقضاء فهرب منه وتغرب، قدم الشام فنزل داريا وبها مات رحمه الله‏.‏

قال أبو قلابة‏‏ إذا أحدث الله لك علماً فأحدث له عبادة، ولم يكن همك ما تحدث به الناس، فلعل غيرك ينتفع ويستغني، وأنت في الظلمة تتعثر، وإني لأرى هذه المجالس إنما هي مناخ البطالين‏.‏

وقال‏‏ إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له عذراً جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل‏‏ لعل لأخي عذراً لا أعلمه‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس ومائة

فيها غزا الجراح بن عبد الله الحكمي بلاد اللان، وفتح حصوناً كثيرةً، وبلاداً متسعة الأكناف من وراء بلنجر، وأصاب غنائم جمة، وسبى خلقاً من أولاد الأتراك‏.‏

وفيها غزا مسلم بن سعيد بلاد الترك، وحاصر مدينة عظيمة من بلاد الصغد، فصالحه ملكها على مالٍ كثيرٍ يحمله إليه‏.‏

وفيها غزا سعيد بن عبد الملك بن مروان بلاد الروم، فبعث بين يديه سرية ألف فارس، فأصيبوا جميعاً‏.‏

وفيها لخمس بقين من شعبان منها توفي أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بن مروان بأربد من أرض البلقاء، يوم الجمعة، وعمره ما بين الثلاثين والأربعين، وهذه ترجمته‏‏

 هو يزيد بن عبد الملك بن مروان

أبو خالد القرشي الأموي، أمير المؤمنين، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، قيل‏‏ إنها دفنت بقبر عاتكة فنسبت المحلة إليها، والله أعلم‏.‏

بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومائة بعهد من أخيه سليمان، أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز لخمس بقين من رجب‏.‏

قال محمد بن يحيى الذهلي‏‏ حدثنا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن برقان، حدثني الزهري، قال‏‏ كان لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما ولي الخلافة معاوية ورث المسلم من الكافر، ولم يورث الكافر من المسلم، وأخذ بذلك الخلفاء من بعده، فلما قام عمر بن عبد العزيز راجع السُنَّة الأولى، وتبعه في ذلك يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام أخذ بسنة الخلفاء - يعني أنه ورث المسلم من الكافر -

‏‏ ‏‏

وقال الوليد بن مسلم‏‏ عن ابن جابر، قال‏‏ بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن نوسع له، فقال مكحول‏‏ دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس يتعلم التواضع‏.‏

وقد كان يزيد هذا يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، فلما ولي عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسنوا له الظلم‏.‏

قال حرملة‏‏ عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال‏‏ لما ولي يزيد بن عبد الملك قال‏‏ سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتي بأربعين شيخاً فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب‏.‏

وقد اتهمه بعضهم في الدين وليس بصحيح، إنما ذاك ولده الوليد بن يزيد، كما سيأتي، أما هذا فما كان به بأس‏.‏

وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز‏‏ أما بعد فإني لا أراني إلا ملماً بي، وما أرى الأمر إلا سيفضي إليك، فالله الله في أمة محمد، فإنك عما قليل ميت فتدع الدنيا إلى من لا يعذرك، والسلام‏.‏

وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام‏‏ أما بعد فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته وتمنيت وفاته ورمت الخلافة، وكتب في آخره‏‏

تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد

وقد علموا لو ينفع العلم عندهم * متى مت ما الباغي علي بمخلد

منيته تجري لوقت وحتفه * يصادفه يوماً على غير موعد

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لأخرى مثلها وكأن قد

فكتب إليه هشام‏‏ جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل ولدك، فلا خير في العيش بعدك‏.‏

ولقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها‏‏ حبابة - بتشديد الباء الأولى، والصحيح تخفيفها - واسمها عالية، وكانت جميلةً جداً، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان‏‏ لقد هممت أحجر على يديك، فباعها، فلما أفضت إليه الخلافة قالت له امرأته سعدة يوماً‏‏ يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء‏؟‏ قال‏‏ نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له، ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضاً‏‏ يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء‏؟‏ قال‏‏ أو ما أخبرتك‏؟‏ فقالت‏‏ هذه حبابة - وأبرزتها له وأخلته بها وتركته وإياها - فحظيت الجارية عنده، وكذلك زوجته أيضاً، فقال يوماً‏‏ أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك‏.‏

‏‏ ‏‏

وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده في أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة فبينما هو معها في ذلك القصر على أسر حال، وأنعم بال، وبين يديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك فشرقت بها فماتت، فمكث أياماً يقبلها ويرشفها وهي ميتة، حتى أنتنت وجيفت، فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أياماً عندها على قبرها هائماً، ثم رجع إلى المنزل ثم عاد إلى قبرها فوقف عليه وهو يقول‏‏

فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا * فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد

وكل خليل زارني فهو قاتل * من أجلك هذا هامة اليوم أو غد

ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه وكان مرضه بالسل‏.‏ وذلك السواد سواد الأردن يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة -

وكانت خلافته أربع سنين وشهراً على المشهور، وقيل‏‏ أقل من ذلك، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل‏‏ خمساً، وقيل‏‏ ستاً، وقيل‏‏ ثمانياً، وقيل‏‏ تسعاً وثلاثين، وقيل‏‏ أنه بلغ الأربعين، فالله أعلم‏.‏

وكان طويلاً جسيماً، أبيض مدور الوجه، أفقم الفم لم يشب‏.‏

وقيل‏‏ أنه مات بالجولان، وقيل‏‏ بحوران، وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وعمره خمس عشرة سنة، وقيل‏‏ بل صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك، وهو الخليفة بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دفن بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد عهد بالأمر من بعده لأخيه هشام، ومن بعده لولده الوليد بن يزيد، فبايع الناس من بعده هشاماً‏.‏ ‏‏ ‏‏

 خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان

بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه، لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة - وله من العمر أربع وثلاثون سنة وأشهر، لأنه ولد لما قتل أبوه عبد الملك مصعب بن الزبير في سنة ثنتين وسبعين، فسماه منصوراً تفاؤلاً، ثم قدم فوجد أمه قد أسمته باسم أبيها هشام، فأقره‏.‏

قال الواقدي‏‏ أتته الخلافة وهو بالديثونة في منزلٍ له، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، فسلم عليه بالخلافة فركب من الرصافة حتى أتى دمشق، فقام بأمر الخلافة أتم القيام، فعزل في شوال منها عن إمرة العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وولى عليها خالد بن عبد الله القسري‏.‏ وقيل‏‏ إنه استعمله على العراق في سنة ست ومائة، والمشهور‏‏ الأول‏.‏

وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال أمير المؤمنين، أخو أمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل، ولم تلد من عبد الملك سواه حتى طلقها، لأنها كانت حمقاء‏.‏

وفيها قوي أمر دعوة بني العباس في السر بأرض العراق، وحصل لدعاتهم أموال جزيلة يستعينون بها على أمرهم، وما هم بصدده‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏‏

 أبان بن عثمان بن عفان

تقدم ذكر وفاته سنة خمس وثمانين، كان من فقهاء التابعين وعلمائهم‏.‏

قال عمرو بن شعيب‏‏ ما رأيت أعلم منه بالحديث والفقه‏.‏

وقال يحيى بن سعيد القطان‏‏ فقهاء المدينة عشرة فذكر أبان بن عثمان أحدهم، وخارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة، والقاسم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن‏.‏

قال محمد بن سعد‏‏ كان به صمم ووضح، وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة، وتوفي سنة خمس ومائة‏.‏

 أبو رجاء العطاردي

عامر الشعبي في قول وقد تقدم‏.‏

 وكثير عزة

في قول، وقيل‏‏ في التي بعدها كما سيأتي‏.‏

 

 ثم دخلت سنة ست ومائة

ففيها عزل هشام بن عبد الملك عن إمرة المدينة ومكة والطائف، عبد الواحد بن عبد الله النضري، وولى على ذلك كله ابن خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي‏.‏

وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة‏.‏

وفيها غزا مسلم بن سعيد، مدينة فرغانة ومعاملتها، فلقيه عندها الترك، وكانت بينهم وقعة هائلة، قتل فيها الخاقان وطائفة كبيرة من الترك‏.‏

وفيها أوغل الجراح الحكمي في أرض الخزر، فصالحوه وأعطوه الجزية والخراج‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها غزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فقتل خلقاً كثيراً، وغنم وسلم‏.‏

وفيها عزل خالد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان مسلم بن سعيد، وولى عليها أخاه أسد بن عبد الله القسري‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ويكتب له مناسك الحج ففعل، فتلقاه الناس من المدينة إلى أثناء الطريق، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أمر به، وتلقاه فيمن تلقاه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، فقال له‏‏ يا أمير المؤمنين إن أهل بيتك في مثل هذه المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب فالعنه أنت أيضاً، قال أبو الزناد‏‏ فشق ذلك على هشام واستثقله، وقال‏‏ ما قدمت لشتم أحد، ولا لعنة أحد، إنما قدمنا حجاجاً‏.‏

ثم أعرض عنه وقطع كلامه وأقبل على أبي الزناد يحادثه ولما انتهى إلى مكة عرض له إبراهيم بن طلحة فتظلم إليه في أرض، فقال له‏‏ أين كنت عند عبد الملك‏؟‏ قال‏‏ ظلمني، قال‏‏ فالوليد‏؟‏ قال‏‏ ظلمني، قال‏‏ فسليمان‏؟‏ قال‏‏ ظلمني، قال‏‏ فعمر بن عبد العزيز‏؟‏ قال‏‏ ردها علي، قال‏‏ فيزيد‏؟‏ قال‏‏ انتزعها من يدي، وهي الآن في يدك، فقال له هشام‏‏ أما لو كان فيك مضرب لضربتك، فقال‏‏ بلى في مضرب بالسوط والسيف، فانصرف عنه هشام وهو يقول لمن معه‏‏ ما رأيت أفصح من هذا‏.‏

وفيها كان العامل على مكة والمدينة والطائف، إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وعلى العراق وخراسان خالد القسري، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها‏‏

 سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب

أبو عمرو الفقيه، أحد الفقهاء وأحد العلماء‏.‏

وله روايات عن أبيه وغيره، وكان من العباد الزهاد، ولما حج هشام بن عبد الملك دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له‏‏ سالم‏؟‏ سلني حاجة، فقال‏‏ إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج سالم خرج هشام في أثره، فقال له‏‏ الآن قد خرجت منٌ بيت الله فسلني حاجة، فقال سالم‏‏ من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة‏؟‏ قال‏‏ من حوائج الدنيا، فقال سالم‏‏ إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها‏.‏

وكان سالم خشن العيش، يلبس الصوف الخشن، وكان يعالج بيده أرضاً له وغيرها من الأعمال، ولا يقبل من الخلفاء، وكان متواضعاً وكان شديد الأدمة وله من الزهد والروع شيءٌ كثيرٌ‏.‏

 وطاوس بن كيسان اليماني

من أكبر أصحاب ابن عباس، وقد ترجمناهم في كتابنا ‏‏التكميل‏‏، ولله الحمد، انتهى‏.‏

وقد زدنا هنا في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب زيادة حسنة‏.‏

فأما طاوس فهو‏‏ أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني، فهو أول طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن‏.‏

‏‏ ‏‏ أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وكان أحد الأئمة الأعلام، قد جمع العبادة والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وقد أدرك خمسين من الصحابة، وأكثر روايته عن ابن عباس، وروى عنه خلق من التابعين وأعلامهم، منهم‏‏ مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، وإبراهيم بن ميسرة، وأبو الزبير ومحمد بن المنكدر، والزهري وحبيب بن أبي ثابت، وليث بن أبي سليم والضحاك بن مزاحم، وعبد الملك بن ميسرة، وعبد الكريم بن المخارق، ووهب بن منبه، والمغيرة بن حكيم الصنعاني، وعبد الله بن طاوس، وغير هؤلاء‏.‏

توفي طاوس بمكة حاجاً، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ودفن بها رحمه الله تعالى‏.‏

قال الإمام أحمد‏‏ حدثنا عبد الرزاق، قال‏‏ قال أبي‏‏ مات طاوس بمكة، فلم يصلوا عليه حتى بعث هشام ابنه بالحرس، قال‏‏ فلقد رأيت عبد الله بن الحسن واضعاً السرير على كاهله، قال‏‏ ولقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومزق رداؤه من خلفه - يعني من كثرة الزحام - فكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏الإيمان يمان‏‏‏‏، وقد خرج من اليمن خلق من هؤلاء المشار إليهم في هذا وغيره، منهم‏‏ أبو مسلم، وأبو إدريس، ووهب وكعب وطاوس وغير هؤلاء كثير‏.‏

وروى ضمرة، عن ابن شوذب، قال‏‏ شهدت جنازة طاوس بمكة سنة خمس ومائة، فجعلوا يقولون‏‏ رحم الله أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة‏.‏

وقال عبد الرزاق‏‏ حدثنا أبي، قال‏‏ توفي طاوس بالمزدلفة - أو بمنى - حاجاً، فلما حمل أخذ عبد الله بن الحسن بن علي بقائمة سريره، فما زايله حتى بلغ القبر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا عبد الرزاق، قال‏‏ قدم طاوس بمكة، فقدم أمير المؤمنين، فقيل لطاوس‏‏ إن من فضله ومن، ومن فلو أتيته قال‏‏ مالي إليه حاجة، فقالوا‏‏ إنا نخاف عليك، قال‏‏ فما هو إذا كما تقولون‏.‏

وقال ابن جرير‏‏ قال لي عطاء‏‏ جاءني طاوس فقال لي‏‏ يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه، وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الإجابة‏.‏

وقال ابن جريج‏‏ عن مجاهد، عن طاوس، ‏{‏أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏‏ ‏]‏ قال‏‏ بعيد من قلوبهم‏.‏

وروى الأحجري، عن سفيان، عن ليث، قال‏‏ قال لي طاوس‏‏ ما تعلمت من العلم فتعلمه لنفسك، فإن الأمانة والصدق قد ذهبا من الناس‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن الصلت بن راشد‏.‏ قال‏‏ كنا عند طاوس، فجاءه مسلم بن قتيبة بن مسلم، صاحب خراسان، فسأله عن شيء فانتهره طاوس، فقلت‏‏ هذا مسلم بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، قال‏‏ ذاك أهون له علي‏.‏ وقال لطاوس‏‏ إن منزلك قد استرم، فقال‏‏ أمسينا‏.‏ ‏‏ ‏‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، في قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏‏ ‏]‏ قال‏‏ في أمور النساء، ليس يكون في شيء أضعف منه في النساء‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏‏ حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏‏ لقي عيسى بن مريم عليه السلام إبليس، فقال إبليس لعيسى‏‏ أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك‏؟‏

قال‏‏ نعم، قال إبليس‏‏ فأوف بذروة هذا الجبل فترد منه، فانظر أتعيش أم لا‏؟‏

قال عيسى‏‏ أما علمت أن الله تعالى قال‏‏ لا يجربني عبدي، فإني أفعل ما شئت‏.‏

وفي رواية‏‏ عن الزهري، عنه، قال‏‏ قال عيسى‏‏ إن العبد لا يختبر ربه، ولكن الرب يختبر عبده‏.‏

وفي رواية أخرى‏‏ إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الرب يبتلي عبده‏.‏ قال‏‏ فخصمه عيسى عليه السلام‏.‏

وقال فضيل بن عياض، عن ليث، عن طاوس، قال‏‏ حج الأبرار على الرحال، رواه عبد الله بن أحمد، عنه‏.‏

وقال الإمام أحمد، حدثنا أبو ثميلة، عن ابن أبي داود‏.‏ قال‏‏ رأيت طاوساً وأصحاباً له إذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا أحداً، وابتهلوا إلى الله تعالى في الدعاء‏.‏

وقال‏‏ من لم يبخل ولم يل مال يتيم لم ينله جهد البلاء‏.‏ روى عنه أبو داود الطيالسي‏.‏

وقد رواه الطبراني، عن محمد بن يحيى بن المنذر، عن موسى بن إسماعيل، عن أبي داود، فذكره‏.‏ وقال لابنه‏‏ يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية وغاية المرء حسن عقله‏.‏

وسأله رجل عن مسألة فانتهره، فقال‏‏ يا أبا عبد الرحمن إني أخوك، قال‏‏ أخي من دون الناس ‏؟‏

وفي رواية‏‏ أن رجلاً من الخوارج سأله فانتهره، فقال‏‏ إني أخوك، قال‏‏ أمن بين المسلمين كلهم ‏؟‏

وقال عفان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال‏‏ سأل رجل طاوساً عن شيء فانتهره، ثم قال‏‏ تريد أن تجعل في عنقي حبلاً ثم يطاف بي‏؟‏

ورأى طاوس رجلاً مسكيناً في عينه عمش وفي ثوبه وسخ، فقال له‏‏ عد ‏!‏ إن الفقر من الله، فأين أنت من الماء‏؟‏

وروى الطبراني، عنه، قال‏‏ إقرار ببعض الظلم خير من القيام فيه‏.‏

وعن عبد الرزاق، عن داود، عن ابن إبراهيم‏‏ أن الأسد حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضاً، فلما كان السحر ذهب عنهم الأسد، فنزل الناس يميناً وشمالاً فألقوا أنفسهم، وقام طاوس يصلي، فقال له رجل - وفي رواية فقال ابنه -‏‏ ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت هذه الليلة‏؟‏ فقال‏‏ وهل ينام السحر أحد‏؟‏ وفي رواية‏‏ ما كنت أظن أحداً ينام السحر‏.‏

وروى الطبراني، من طريق عبد الرزاق، عن أبي جريج وابن عيينة‏.‏ قالا‏‏ حدثنا ابن طاوس‏.‏ قال‏‏ قلت لأبي‏‏ ما أفضل ما يقال على الميت‏؟‏ قال‏‏ الاستغفار‏.‏

وقال الطبراني‏‏ حدثنا عبد الرزاق، قال‏‏ سمعت النعمان بن الزبير الصنعاني يحدث أن محمد بن يوسف - أو أيوب بن يحيى - بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار، وقال للرسول‏‏ إن أخذها منك فإن الأمير سيكسوك ويحسن إليك‏.‏

‏‏ ‏‏

قال‏‏ فخرج بها حتى قدم على طاوس الجند، فقال‏‏ يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها الأمير إليك، فقال‏‏ مالي بها من حاجة، فأراده على أخذها بكل طريق فأبى أن يقبلها، فغفل طاوس فرمى بها الرجل من كوة في البيت، ثم ذهب راجعاً إلى الأمير، وقال‏‏ قد أخذها، فمكثوا حيناً ثم بلغهم عن طاوس ما يكرهون - أو شيء يكرهونه - فقالوا‏‏ ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول فقال‏‏ المال الذي بعثه إليك الأمير رده إلينا، فقال‏‏ ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول إليهم فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقالوا‏‏ انظروا الذي ذهب بها إليه، فأرسلوه إليه‏.‏

فجاءه فقال‏‏ المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال‏‏ هل قبضت منك شيئاً‏؟‏ قال‏‏ لا ‏!‏ قال‏‏ فقام إلى المكان الذي رمى به فيه فوجدها كما هي، وقد بنت عليها العنكبوت، فأخذها فذهب بها إليهم‏.‏

ولما حج سليمان بن عبد الملك قال‏‏ انظروا إلى فقيهاً أسأله عن بعض المناسك، قال‏‏ فخرج الحاجب يلتمس له، فمر طاوس فقالوا‏‏ هذا طاوس اليماني، فأخذه الحاجب، فقال‏‏ أجب أمير المؤمنين، فقال‏‏ اعفني، فأبى، فأدخله عليه، قال طاوس‏‏ فلما وقفت بين يديه، قلت‏‏ إن هذا المقام يسألني الله عنه، فقال‏‏ يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جهنم هوت فيها سبعين خريفاً حتى استقرت في قرارها، أتدري لمن أعدها الله‏؟‏ قال‏‏ لا ‏!‏‏!‏ ويلك لمن أعدها الله‏؟‏ قال‏‏ لمن أشركه الله في حكمه فجار‏.‏

وفي رواية ذكرها الزهري‏‏ أن سليمان رأى رجلاً يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال‏‏ من هذا يا زهري‏؟‏ فقلت‏‏ هذا طاوس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان فأتاه فقال‏‏ لو ما حدثتنا‏؟‏ فقال‏‏ حدثني أبو موسى قال‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏إن أهون الخلق على الله عز وجل من ولى من أمور المسلمين شيئاً فلم يعدل فيهم‏‏‏‏‏.‏ فتغير وجه سليمان فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه فقال‏‏ لو ما حدثتنا‏؟‏ فقال‏‏ حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب‏‏ ظننت أنه أراد علياً - قال‏‏ دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال‏‏ ‏‏‏‏إن لكم على قريش حقاً، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً‏‏‏‏، قال‏‏ فتغير وجه سليمان وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه وقال‏‏ لوما حدثتنا‏؟‏ فقال‏‏ حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب الله‏‏ {‏وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏‏ حدثني أبو معمر، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، قال‏‏ قال عمر بن عبد العزيز لطاوس‏‏ ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين - يعني سليمان - فقال طاوس‏‏ مالي إليه من حاجة، فكأنه عجب من ذلك، قال سفيان وحلف لنا إبراهيم وهو مستقبل الكعبة‏‏ ورب هذا البيت ما رأيت أحداً الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاوس‏.‏

قال وجاء ابن لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه، فقيل له‏‏ جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه‏؟‏ قال‏‏ أردت أن يعلم هو وأبوه أن لله عباداً يزهدون فيهم وفيما في أيديهم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد روى عبد الله بن أحمد، عن ابن طاوس، قال‏‏ خرجنا حجاجاً فنزلنا في بعض القرى، وكنت أخاف أبي من الحكام لشدته وغلظه عليهم، قال‏‏ وكان في تلك القرية عامل لمحمد بن يوسف - أخي الحجاج بن يوسف - يقال له‏‏ أيوب بن يحيى، وقيل‏‏ يقال له‏‏ ابن نجيح، وكان من أخبث عمالهم كبراً وتجبراً‏.‏

قال‏‏ فشهدنا صلاة الصبح في المسجد، فإذا ابن نجيح قد أخبر بطاوس، فجاء فقد بين يدي طاوس، فسلم عليه فلم يجبه، ثم كلمه فأعرض عنه، ثم عدل إلى الشق الآخر فأعرض عنه، فلما رأيت ما به قمت إليه وأخذت بيده، ثم قلت له‏‏ إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك، فقال طاوس‏‏ بلى ‏!‏ إني به لعارف، فقال الأمير‏‏ إنه بي لعارف، ومعرفته بي فعلت بي ما رأيت‏.‏ ثم مضى وهو ساكت لا يقول شيئاً، فلما دخلت المنزل قال لي أبي‏‏ يا لكع، بينما أنت تقول‏‏ أريد أخرج عليهم بالسيف لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك‏.‏

وقال أبو عبد الله الشامي‏‏ أتيت طاوساً فاستأذنت عليه فخرج إلى ابنه شيخٌ كبيرٌ، فقلت‏‏ أنت طاوس‏؟‏ فقال‏‏ لا ‏!‏ أنا ابنه، فقلت‏‏ إن كنت أنت ابنه فإن الشيخ قد خرف، فقال‏‏ إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه فقال طاوس‏‏ سل فأوجز، فقلت‏‏ إن أوجزت أوجزت لك، فقال‏‏ تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا التوراة والإنجيل والفرقان‏؟‏ قال‏‏ قلت‏‏ نعم ‏!‏ قال‏‏ خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لنفسك‏.‏

وقال الطبراني‏‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه‏.‏ قال‏‏ يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان، فيقول صاحب المال للمال‏‏ جمعتك في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، فيقول المال‏‏ ألم أقض لك الحوائج‏؟‏ أنا الذي حلت بينك وبين أن تصنع فيما أمرك الله عز وجل من حبك إياي، فيقول صاحب المال‏‏ إن هذا الذي نفد على حبال أوثق بها وأقيد‏.‏

وقال عثمان بن أبي شيبة‏‏ حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن الضريس، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، قال‏‏ اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم قط‏‏ عطاء وطاووس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة‏.‏

وقال سفيان‏‏ قلت لعبيد الله بن أبي يزيد‏‏ مع من كنت تدخل على ابن عباس‏؟‏ قال‏‏ مع عطاء والعامة، وكان طاوس يدخل مع الخاصة‏.‏

وقال حبيب‏‏ قال لي طاوس‏‏ إذا حدثتك حديثاً قد أثبته فلا تسأل عنه أحداً - وفي رواية‏‏ فلا تسأل عنه غيري -

وقال أبو أسامة‏‏ حدثنا الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، قال‏‏ أدركت خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏‏ ‏‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني ابن طاوس، قال‏‏ قلت لأبي‏‏ أريد أن أتزوج فلانة، قال‏‏ اذهب فانظر إليها، قال‏‏ فذهبت فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي، وأدهنت، فلما رآني في تلك الحال، قال‏‏ اجلس فلا تذهب‏.‏

وقال عبد الله بن طاوس‏‏ كان أبي إذا سار إلى مكة سار شهراً، وإذا رجع رجع في شهر، فقلت له في ذلك، فقال‏‏ بلغني أن الرجل إذا خرج في طاعة لا يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله‏.‏

وقال حمزة‏‏ عن هلال بن كعب، قال‏‏ كان طاوس إذا خرج من اليمن لم يشرب إلا من تلك المياه القديمة الجاهلية‏.‏

وقال له رجل‏‏ ادع الله لي، فقال‏‏ ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه‏.‏

وقال الطبراني‏‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏‏ كان رجل فيما خلا من الزمان، وكان عاقلاً لبيباً، فكبر فقعد في البيت، فقال لابنه يوماً‏‏ إني قد اغتممت في البيت، فلو أدخلت علي رجالاً يكلموني‏؟‏ فذهب ابنه فجمع نفراً فقال‏‏ ادخلوا على أبي فحدثوه، فإن سمعتم منه منكراً فاعذروه فإنه قد كبر، وإن سمعتم منه خيراً فاقبلوه‏.‏ قال‏‏ فدخلوا عليه، فكان أول ما تكلم به أن قال‏‏ إن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإذا تزوج الرجل فليتزوج من معدن صالح، فإذا اطلعتم على فجرة رجل فاحذروه فإن لها أخوات‏.‏

وقال سلمة بن شبيب‏‏ حدثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدثنا عبد الله بن عمر بن مسلم الجيري، عن أبيه، قال‏‏ قال طاوس لابنه‏‏ إذا قبرتني فانظر في قبري، فإن لم تجدني فاحمد الله تعالى، وإن وجدتني فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ قال عبد الله‏‏ فأخبرني بعض ولده أنه نظر فلم يره ولم يجد في قبره شيئاً، ورؤي في وجهه السرور‏.‏

وقال قبيصة‏‏ حدثنا سفيان، عن سعيد بن محمد، قال‏‏ كان من دعاء طاوس‏‏ يدعو اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل‏.‏

وقال سفيان‏‏ عن معمر، حدثنا الزهري، قال‏‏ لو رأيت طاوس بن كيسان علمت أنه لا يكذب‏.‏

وقال عون بن سلام‏‏ حدثنا جابر بن منصور - أخو إسحاق بن منصور - السلولي، عن عمران بن خالد الخزاعي‏.‏ قال‏‏ كنت جالساً عند عطاء، فجاء رجل فقال‏‏ أبا محمد إن طاوساً يزعم أن من صلى العشاء ثم صلى بعدها ركعتين يقرأ في الأولى‏‏ ألم تنزيل السجدة، وفي الثانية‏‏ تبارك الذي بيده الملك كتب له مثل وقوف عرفة وليلة القدر‏.‏ فقال عطاء‏‏ صدق طاوس ما تركتهما‏.‏

وقال ابن أبي السري‏‏ حدثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه‏.‏ قال‏‏ كان رجل من بني إسرائيل، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجيء بها إليه، فنزلت عنده فأعجبته، فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال‏‏ إن علم بها افتضحت، فاقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه عنها، قال‏‏ ماتت، فلم يتهموه لصلاحه ومنزلته، فجاءهم الشيطان فقال‏‏ إنها لم تمت، ولكن قد وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها في بيته، في مكان كذا و كذا، فجاء أهلها فقالوا‏‏ ما نتهمك ولكن أخبرنا أين دفنتها، ومن كان معك‏؟‏ فنبشوا بيته فوجدوها حيث دفنها، فأخذوه فحبسوه وسجنوه، فجاءه الشيطان فقال‏‏ أنا صاحبك، فإن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فاكفر بالله، فأطاع الشيطان، فكفر بالله عز وجل، فقتل فتبرأ منه الشيطان حينئذ‏.‏

وقال طاوس‏‏ ولا أعلم أن هذه الآية نزلت إلا فيه وفي مثله‏‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ‏} ‏[‏الحشر‏‏ ‏]‏‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال الطبراني‏‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏‏ كان رجل من بني إسرائيل له أربعة بنين، فمرض، فقال أحدهم‏‏ إما أن تمرضوا أبانا، وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء، فمرضه حتى مات ودفنه ولم يأخذ من ميراثه شيئاً‏.‏

وكان فقيراً وله عيال، فأتي في النوم فقيل له‏‏ إيتِ مكان كذا وكذا فاحفره تجد فيه مائة دينار فخذها، فقال للآتي في المنام‏‏ ببركة أو بلا بركة‏؟‏ فقال‏‏ بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت‏‏ اذهب فخذها فإن من بركتها أن تكسوني منها ونعيش منها‏.‏ فأبى وقال‏‏ لا آخذ شيئاً ليس فيه بركة‏.‏ فلما أمسى أتي في منامه فقيل له‏‏ إيت مكان كذا و كذا فخذ منه عشرة دنانير، فقال‏‏ ببركة أو بلا بركة‏؟‏ قال‏‏ بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته، فقالت له مثل ذلك، فأبى أن يأخذها، ثم أتي في الليلة الثالثة فقيل له‏‏ إيت مكان كذا وكذا فخذ منه ديناراً، فقال‏‏ ببركة أو بلا بركة‏؟‏ قال‏‏ ببركة، قال‏‏ نعم إذاً‏.‏

فلما أصبح ذهب إلى ذلك المكان الذي أشير إليه في المنام فوجد الدينار فأخذه، فوجد صياداً يحمل حوتين فقال‏‏ بكم هما‏؟‏ قال‏‏ بدينار، فأخذهما منه بذلك الدينار، ثم انطلق بهما إلى امرأته فقامت تصلحهما، فشقت بطن أحدهما فوجدت فيه درة لا يقوم بها شيء، ولم ير الناس مثلها، ثم شقت بطن الآخر فإذا فيه درة مثلها‏.‏

قال‏‏ فاحتاج ملك ذلك الزمان درة فبعث يطلبها حيث كانت ليشتريها، فلم توجد إلا عنده، فقال الملك‏‏ إيت بها، فأتاه بها، فلما رآها حلاها الله عز وجل في عينيه، فقال‏‏ بعنيها، فقال‏‏ لا أنقصها عن وقر ثلاثين بغلاً ذهباً، فقال الملك‏‏ ارضوه، فخرجوا به فوقروا له ثلاثين بغلاً ذهباً‏.‏

ثم نظر إليها الملك فأعجبته إعجاباً عظيماً، فقال‏‏ ما تصلح هذه إلا بأختها، اطلبوا لي أختها‏.‏ قال‏‏ فأتوه، فقالوا له‏‏ هل عندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك‏؟‏ قال‏‏ وتفعلون‏؟‏ قالوا‏‏ نعم‏.‏ فأتي الملك بها، فلما رآها أخذت بقلبه، فقال‏‏ أرضوه، فأضعفوا له ضعف أختها، والله أعلم‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك‏‏ حدثنا وهيب بن الورد، حدثنا عبد الجبار بن الورد، قال‏‏ حدثني داود بن سابور، قال‏‏ قلنا لطاوس‏‏ أدع بدعوات، فقال‏‏ لا أجد لذلك حسبة‏.‏

وقال ابن جرير‏‏ عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏‏ البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يحب أن له ما في أيدي الناس بالحرام لا يقنع‏.‏

وقيل‏‏ الشح هو ترك القناعة‏.‏

وقيل‏‏ هو أن يشح بما في يد غيره، وهو مرض من أمراض القلب ينبغي للعبد أن يعزله عن نفسه، وينفيه ما استطاع، وهو يأمرنا بالبخل‏.‏ ‏‏ ‏‏

كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وبالقطيعة فقطعوا، وهذا هو الحرص على الدنيا وحبها‏‏‏‏‏.‏

وقال ابن أبي شيبة‏‏ حدثنا المحاربي، عن ليث، عن طاوس، قال‏‏ ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل فيصبح قد كتب له مائة حسنة أو أكثر من ذلك، ومن زاد زيد في ثوابه‏.‏

وقال قتيبة بن سعيد‏‏ حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، قال‏‏ لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج‏.‏

وعن سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، قال‏‏ قال لي طاوس‏‏ لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد‏‏ ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور‏.‏

وقال طاوس‏‏ لا يحرز دين المؤمن إلا حفرته‏.‏

وقال عبد الرزاق‏‏ عن معمر بن طاوس، وغيره‏‏ أن رجلاً كان يسير مع طاوس، فسمع الرجل غراباً ينعب، فقال‏‏ خير، فقال طاوس‏‏ أي خير عند هذا أو شر لا تصحبني ولا تمش معي‏.‏

وقال بشر بن موسى‏‏ حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏‏ إذا غدا الإنسان اتبعه الشيطان، فإذا أتى المنزل فسلم نكص الشيطان‏.‏ وقال‏‏ لا مقيل، فإذا أتى بغدائه فذكر اسم الله، قال‏‏ ولا غداء ولا مقيل، فإذا دخل ولم يسلم قال الشيطان‏‏ أدركنا المقيل، فإذا أتى بغذائه ولم يذكر اسم الله عليه قال الشيطان‏‏ مقيل وغداء، وفي العشاء مثل ذلك‏.‏

وقال‏‏ إن الملائكة ليكتبون صلاة بني آدم‏‏ فلان زاد فيها كذا وكذا، وفلان نقص فيها كذا وكذا، وذلك في الركوع والخشوع والسجود‏.‏

وقال‏‏ لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم سكنت، وكان إذا سمع صوت الرعد يقول‏‏ سبحان من سبحت له‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال‏‏ قال مجاهد لطاوس‏‏ يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصلي في الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم على بابها يقول لك‏‏ اكشف قناعك، وبيِّن قراءتك‏.‏ فقال له‏‏ اسكت لا يسمع هذا منك أحد‏.‏ ثم تخيل إلى أن انبسط في الحديث‏.‏

وقال أحمد أيضاً بهذا الإسناد‏‏ إن طاوساً قال لأبي نجيح‏‏ يا أبا نجيح ‏!‏‏!‏ من قال‏‏ واتقي الله خير ممن صمت واتقى‏.‏

وقال مسعر، عن رجل‏‏ إن طاوساً أتى رجلاً في السحر فقالوا‏‏ هو نائم، فقال‏‏ ما كنت أرى أن أحداً ينام في السحر‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏‏ حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا ابن يمان، عن مسعود، فذكره‏.‏

قال الثوري‏‏ كان طاوس يجلس في بيته، فقيل له في ذلك، فقال‏‏ حيف الأئمة وفساد الناس‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا عبد الرزاق، قال‏‏ أخبرني أبي، قال‏‏ كان طاوس يصلي في غداة باردة معتمة، فمر به محمد بن يوسف صاحب اليمن وحاجبها - وهو أخو الحجاج بن يوسف - وطاوس ساجد، والأمير راكب في مركبه، فأمر بساج أو طيلسان مرتفع القيمة فطرح على طاوس وهو ساجد، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض فألقاه عنه، ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله وتركه ملقى على الأرض‏.‏

وقال نعيم بن حماد‏‏ حدثنا حماد بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس‏‏ ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الإمام أحمد أنَّ فقيل له‏‏ إن طاوساً كان يكره أنين المرض فتركه‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏‏ حدثنا الفضل بن دُكَين، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن داود بن شابور، قال‏‏ قال رجل لطاوس‏‏ ادع الله لنا، فقال‏‏ ما أجد بقلبي خشية فأدعو لك‏.‏

وقال ابن طالوت‏‏ حدثنا عبد السلام بن هاشم، عن الحسن بن أبي الحصين العنبري، قال‏‏ مر طاوس برواس قد أخرج رؤوساً فغشي عليه‏.‏

وفي رواية‏‏ كان إذا رأى الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا الأشجعي، عن سفيان الثوري، قال‏‏ قال طاوس‏‏ إن الموتى يفتنون في قبورهم سغباً، وكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام‏.‏

وقال ابن إدريس‏‏ سمعت ليثاً، يذكر عن طاوس وذكر النساء فقال‏‏ فيهنَّ كفر من مضى وكفر من بقي‏.‏

وقال أبو عاصم‏‏ عن بقية، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس، قال‏‏ كان يقال اسجد للقرد في زمانه، أي‏‏ أطعه في المعروف‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏‏ حدثنا أسامة، حدثنا نافع بن عمر، عن بشر بن عاصم، قال‏‏ قال طاوس‏‏ ما رأيت مثل أحد أمن على نفسه، ولقد رأيت رجلاً لو قيل لي‏‏ من أفضل من تعرف‏؟‏ لقلت‏‏ فلان ذلك الرجل، فمكثت على ذلك حيناً، ثم أخذه وجع في بطنه، فأصاب منه شيئاً استنضح بطنه عليه، فاشتهاه، فرأيته في نطع ما أدري أي طرفيه أسرع حتى مات عرقاً‏.‏

وروى أحمد، حدثنا هشيم، قال‏‏ أخبرنا أبو بشر، عن طاوس‏‏ أنه رأى فتية من قريش يرفلون في مشيتهم، فقال‏‏ إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون أن يمشوها‏.‏

وقال أحمد‏‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر‏‏ أن طاوساً قام على رفيق له مرض حتى فاته الحج - لعله هو الرجل المتقدم قبل هذا استنضح بطنه -‏.‏

وقال مسعر بن كدام‏‏ عن عبد الكبير المعلم، قال طاوس‏‏ قال ابن عباس‏‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن قراءة‏؟‏ قال‏‏ ‏‏‏‏من إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله عز وجل‏‏‏‏‏.‏

وقد روى هذا أيضاً من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، قال‏‏ قال ابن عباس‏‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به‏‏‏‏‏.‏

وعنه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال‏‏ رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبان معصفران فقال‏‏ ‏‏‏‏أمك أمرتك بهذا‏‏‏‏‏؟‏ قلت‏‏ أغسلهما‏؟‏ قال‏‏ ‏‏‏‏بل أحدهما‏‏‏‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه، عن داود بن راشد، عن عمر بن أيوب، عن إبراهيم بن نافع، عن سليمان الأحول، عن طاوس، به‏.‏

وروى محمد بن مسلمة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عمرو، قال‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏الجلاوذة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار‏‏‏‏‏.‏ انفرد به محمد بن مسلم الطالقي‏.‏

‏‏ ‏‏ وقال الطبراني‏‏ حدثنا محمد بن الحسن الأنماطي البغدادي، حدثنا عبد المنعم بن إدريس، حدثنا أبي، عن وهب بن منبه، عن طاوس، عن أنس بن مالك، قال‏‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب‏‏ ‏‏‏‏يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة‏‏‏‏‏.‏

فمضى علي فأقام حيناً لا يلقى أحداً إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏ما فعلت فيما أمرتك به‏‏‏‏‏؟‏ قال‏‏ قد فعلت يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏اذهب فاِبلُ أخبارهم‏‏‏‏‏.‏

فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏اذهب فاِبلُ أخبارهم‏‏‏‏‏.‏

فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم تبسم فقال‏‏ ‏‏‏‏ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة‏‏‏‏‏؟‏ فقال له علي‏‏ لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏‏

‏‏‏‏‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏‏ -‏]‏ يا علي ‏!‏ أقبل على شأنك، وأملك لسانك، وأغفل من تعاشر من أهل زمانك تكن سالماً غانماً‏‏‏‏‏.‏

لم يرو إلا من هذا الوجه فيما نعلم، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع ومائة

فيها خرج باليمين رجل يقال له‏‏ عباد الرعيني، فدعا إلى مذهب الخوارج، واتبعه فرقة من الناس وحلموا، فقاتلهم يوسف بن عمر، فقتله وقتل أصحابه، وكانوا ثلاثمائة‏.‏

وفيها وقع بالشام طاعون شديد‏.‏

وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة وعلى جيش أهل الشام ميمون بن مهران، فقطعوا البحر إلى قبرص، وغزا مسلمة في البر في جيش آخر‏.‏

وفيها ظفر أسد بن عبد الله القسري بجماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فصلبهم وأشهرهم‏.‏

وفيها غزا أسد القسري جبال نمروذ، ملك القرقيسيان، مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمروذ وأسلم على يديه‏.‏

وفيها غزا أسد الغور - وهي جبال هراة - فعمد أهلها إلى حواصلهم وأموالهم وأثقالهم فجعلوا ذلك كله في كهف منيع، لا سبيل لأحد عليه، وهو مستعل جداً، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع ما هنالك في التوابيت ورفعوهم فسلموا وغنموا، وهذا رأي سديد‏.‏

وفيها أمر أسد بجمع ما حول بلخ إليها، واستناب عليها برمك والد خالد بن برمك، وبناها بناءً جيداً جديداً محكماً، وحصنها وجعلها معقداً للمسلمين‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين‏.‏

‏‏ ‏‏ وممن توفي فيها من الأعيان‏‏

 سليمان بن يسار

 أحد التابعين وهو أخو عطاء بن يسار، له روايات كثيرة، وكان من المجتهدين في العبادة، وكان من أحسن الناس وجهاً، توفي بالمدينة وعمره ثلاث وسبعون سنة‏.‏

دخلت عليه امرأة من أحسن الناس وجهاً فأرادته على نفسها فأبى وتركها في منزله وخرج هارباً منها، فرأى يوسف عليه السلام في المنام فقال له‏‏ أنت يوسف‏؟‏ فقال‏‏ نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم‏.‏

وقيل‏‏ إن هذه الحكاية إنما وقعت في بعض منازل الحجاج، وكان معه صاحب له، فبعثه إلى سوق الحجاج ليشتري شيئاً فانحطت على سليمان امرأة من الجبل حسناء فقالت له‏‏ هيت لك، فبكى واشتد بكاؤه، فلما رأت ذلك منه ارتفعت في الجبل‏.‏

وجاء صديقه فوجده يبكي فقال له‏‏ مالك تبكي‏؟‏ فقال‏‏ خير، فقال‏‏ لعلك ذكرت بعض ولدك أو بعض أهلك‏؟‏ فقال‏‏ لا ‏!‏ فقال‏‏ والله لتخبرني ما أبكاك أنت‏.‏ قال‏‏ أبكاني حزني على نفسي، لو كنت مكانك لم أصبر عنها، ثم ذكر أنه نام فرأى يوسف في منامه، كما تقدم، والله أعلم‏.‏

 عكرمة مولى ابن عباس

أحد التابعين، والمفسرين المكثرين، والعلماء الربانيين، والرحالين الجوالين، وهو‏‏ أبو عبد الله، وقد روى عن خلق كثير من الصحابة، وكان أحد أوعية العلم، وقد أفتى في حياة مولاه ابن عباس‏.‏

قال عكرمة‏‏ طلبت العلم أربعين سنة‏.‏

وقد طاف عكرمة البلاد، ودخل إفريقية واليمن والشام والعراق وخراسان، وبث علمه هنالك، وأخذ الصلات وجوائز الأمراء‏.‏

وقد روى ابن أبي شيبة، عنه، قال‏‏ كان ابن عباس يجعل في رجليَّ الكبل يعلمني القرآن والسنن‏.‏

وقال حبيب بن أبي ثابت‏‏ اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبداً‏‏ عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، فأقبل سعيد ومجاهد يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول‏‏ أنزلت آية كذا في كذا، قال‏‏ ثم دخلوا الحمام ليلاً‏.‏

قال جابر بن زيد‏‏ عكرمة أعلم الناس‏.‏

وقال الشعبي‏‏ ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن عبد الصمد، عن سلام بن مسكين، سمعت قتادة، يقول‏‏ أعلمهم بالتفسير عكرمة‏.‏ وقال سعيد بن جبير نحوه‏.‏

وقال عكرمة‏‏ لقد فسرت ما بين اللوحتين‏.‏

وقال ابن علية‏‏ عن أيوب‏‏ سأل رجل عكرمة عن آية فقال‏‏ نزلت في سفح ذلك الجبل - وأشار إلى سلع -‏.‏

وقال عبد الرزاق‏‏ عن أبيه‏‏ لما قدم عكرمة الجند حمله طاوس على نجيب فقال‏‏ ابتعت علم هذا الرجل‏.‏

وفي رواية‏‏ أن طاوساً حمله على نجيب ثمنة ستون ديناراً، وقال‏‏ ألا نشتري علم هذا العبد بستين ديناراً ‏!‏

‏‏ ‏‏

ومات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، فأخرجت جنازتهما، فقال الناس‏‏ مات أفقه الناس وأشعر الناس‏.‏

وقال عكرمة‏‏ قال لي ابن عباس‏‏ انطلق فأفتِ الناس، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عني ثلثي مؤنة الناس‏.‏

وقال سفيان‏‏ عن عمرو، قال‏‏ كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصنعون ويقتتلون‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏‏ حدثنا عبد الرزاق، قال‏‏ سمعت معمراً، يقول‏‏ سمعت أيوب، يقول‏‏ كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة إلى أفق من الآفاق، قال‏‏ فإني لفي سوق البصرة فإذا رجل على حمار، قيل‏‏ هذا عكرمة، قال‏‏ واجتمع الناس إليه، فما قدرت أنا على شيء أسأله عنه، ذهبت مني المسائل، وشردت عني فقمت إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه‏.‏

وقال شعبة‏‏ عن خالد الحذاء، قال‏‏ قال عكرمة لرجل وهو يسأله‏‏ مالك أخبلت‏؟‏ أي‏‏ فتنت‏.‏

وقال زياد بن أبي أيوب‏‏ حدثنا أبو ثميلة، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، قال‏‏ قلت لعكرمة بنيسابور‏‏ الرجل يريد الخلاء وفي إصبعه خاتم فيه اسم الله، قال‏‏ يجعل فصه في باطن يده ثم يقبض عليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ حدثنا أمية بن خالد، قال‏‏ سمعت شعبة، يقول‏‏ قال خالد الحذاء‏‏ كل شيء قال فيه محمد بن سيرين‏‏ ثبت عن ابن عباس، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة‏.‏

وقال سفيان الثوري‏‏ خذوا المناسك عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة‏.‏

وقال أيضاً‏‏ خذوا التفسير عن أربعة‏‏ سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك‏.‏

وقال عكرمة‏‏ أدركت مئتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد‏.‏

وقال محمد بن يوسف الفريابي‏‏ حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة، قال‏‏ كانت الخيل التي شغلت سليمان بن داود عليه السلام عشرين ألفاً فعقرها‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا معمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة‏‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏‏ ‏]‏ قال‏‏ الدنيا كلها قريب، وكلها جهالة‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ‏} ‏[‏القصص‏‏ ‏]‏ قال‏‏ عند سلاطينها وملوكها‏.‏

{‏وَلَا فَسَاداً‏}‏ ‏[‏القصص‏‏ ‏]‏‏‏ لا يعلمون بمعاصي الله عز وجل‏.‏

‏{‏وَالْعَاقِبَةُ‏}‏ ‏[‏القصص‏‏ ‏]‏‏‏ هي الجنة‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏‏ ‏]‏ أي‏‏ تركوا ما وعظوا‏.‏

{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏ أي‏‏ شديد‏.‏

{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ‏} ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏ أي‏‏ تمادوا وأصروا‏.‏

{‏خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏‏‏ صاغرين‏.‏

{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏} ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏ أي‏‏ من الأمم الماضية‏.‏

{‏وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏‏‏ من الأمم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم‏.‏

{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏‏‏ تقي من اتعظ بها الشرك والمعاصي‏.‏

وقال ابن عباس‏‏ إذا كان يوم القيامة بعث الله الذين اعتدوا ويحاسب الذين تركوا الأمر والنهي كان المسخ لهم عقوبة في الدنيا حين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وقال عكرمة‏‏ قال ابن عباس‏‏ هلك والله والقوم جميعاً‏.‏

قال ابن عباس‏‏ فالذين أمروا ونهوا نجوا، والذين لم يأمروا ولم ينهوا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي‏.‏

‏‏ ‏‏

قال‏‏ وذلك أهل أيلة - وهي‏‏ قرية على شاطئ البحر - وكان الله قد أمر بني إسرائيل أن يتفرغوا ليوم الجمعة فقالوا‏‏ بل نتفرغ ليوم السبت، لأن الله فرغ من الخلق يوم السبت، فأصبحت الأشياء مسبوتة‏.‏

وذكروا قصة أصحاب السبت، وتحريم الصيد عليهم، وأن الحيتان كانت تأتيهم يوم السبت ولا تأتيهم في غيره من الأيام، وذكروا احتيالهم على صيدها في يوم السبت فقال قوم‏‏ لا ندعكم تصيدون في يوم السبت ووعظوهم، فجاء قوم آخرون مداهنون فقالوا‏‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏‏؟‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏‏.‏

قال الناهون‏‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏ أي‏‏ ينتهون عن الصيد في يوم السبت‏.‏

وقد ذكر عكرمة أنه لما قال لابن عباس‏‏ إن المداهنين هلكوا مع الغالفين، كساه ثوبين‏.‏

وقال حوثرة، عن مغيرة، عن عكرمة، قال‏‏ كانت القضاة ثلاثة - يعني‏‏ في بني إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكاً على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال‏‏ يا عبد الله ‏!‏ عجلي وابن بقرتي، فقال الملك‏‏ بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال‏‏ القاضي بيني وبينك‏.‏

قال‏‏ لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة، فتكلم صاحب العجل فقال له‏‏ مر بي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال‏‏ ومع الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة، وقال‏‏ اقض لي، فقال‏‏ كيف يسوغ هذا‏؟‏ فقال‏‏ نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له‏.‏

فقال صاحب العجل‏‏ لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال‏‏ لا أقضي بينكما اليوم، فقالا‏‏ ولم لا تقضي بيننا‏؟‏ فقال‏‏ لأني حائض، فقال الملك‏‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ رجل يحيض ‏!‏‏؟‏‏.‏

فقال القاضي‏‏ سبحان الله ‏!‏ وهل تنتج الفرس عجلاً‏؟‏ فقضى لصاحب البقرة‏.‏

فقال الملك‏‏ إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش‏‏ عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة، أن ملكاً من الملوك نادى في مملكته‏‏ إني إن وجدت أحداً يتصدق بصدقة قطعت يده‏.‏

فجاء سائل إلى امرأة فقال‏‏ تصدقي علي بشيء، فقالت‏‏ كيف أتصدق عليك والملك يقطع يد من يتصدق‏؟‏ قال‏‏ أسالك بوجه الله إلا تصدقت علي بشيء، فتصدقت عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك فأرسل إليها فقطع يديها‏.‏

ثم إن الملك قال لأمه‏‏ دليني على امرأة جميلة لأتزوجها، فقالت‏‏ إن ههنا امرأة ما رأيت مثلها، لولا عيب بها، قال‏‏ أي عيب هو‏؟‏ قالت‏‏ مقطوعة اليدين، قال‏‏ فأرسلي إليها، فلما رآها أعجبته - وكان لها جمال - فقالت‏‏ إن الملك يريد أن يتزوجك، قالت‏‏ نعم إن شاء الله، فتزوجها وأكرمها، فنهد إلى الملك عدو فخرج إليهم‏.‏ ‏‏ ‏‏

ثم كتب إلى أمه‏‏ انظري فلانة فاستوصي بها خيراً وافعلي وافعلي معها، فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها، فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه‏‏ انظري فلانة فقد بلغني أن رجالاً يأتونها فأخرجيها من البيت، وافعلي وافعلي، فكتبت إليه الأم‏‏ إنك قد كذبت، وإنها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن، فنزل بهن، فأخذن الكتاب فغيرنه، فكتبن إليه‏‏ إنها فاجرة وقد ولدت غلاماً من الزنا‏.‏

فكتب إلى أمه‏‏ انظري فلانة فاجعلي ولدها على رقبتها واضربي على جيبها وأخرجيها‏.‏ قال‏‏ فلما جاءها الكتاب قرأته عليها وقالت لها‏‏ اخرجي، فجعلت الصبي على رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة فنزلت لتشرب والصبي على رقبتها فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكي على شاطئ النهر‏.‏

فمر بها رجلان فقالا‏‏ ما يبكيك‏؟‏ فقالت‏‏ ابني كان على رقبتي وليس لي يدان فسقط في الماء فغرق‏.‏

فقالا لها‏‏ أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا‏؟‏ قالت‏‏ نعم ‏!‏ فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها‏‏ أتدرين من نحن‏؟‏ قالت‏‏ لا ‏!‏ قالا‏‏ نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما‏.‏

وقال في قوله‏‏ ‏{‏طَيْرَاً أَبَابِيْل‏}‏ ‏[‏الفيل‏‏ ‏]‏ قال‏‏ طير خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع فلم تزل ترميهم حتى جدرت جلودهم، وما رؤي الجدري قبل يومئذ، وما رؤي الطير قبل يومئذ ولا بعد‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏‏ -‏]‏ قال‏‏ لا يقولون لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏‏ ‏]‏ قال‏‏ من يقول لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏النازعات‏‏ ‏]‏‏‏ إلى أن تقول لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏‏ ‏]‏‏‏ على شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏‏ ‏]‏‏‏ أليس منكم من يقول‏‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏وَقَالَ صَوَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏‏ ‏]‏ قال‏‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏إنك لا تخلف الميعاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏‏ ‏]‏ لمن قال‏‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ‏} ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏‏‏ على من لا يقول‏‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏‏ ‏]‏ قال‏‏ إذا غضبت‏.‏

{‏سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏‏ ‏]‏، قال‏‏ السهر ‏.‏

وقال‏‏ إن الشيطان ليزين للعبد الذنب، فإذا عمله تبرأ منه، فلا يزال يتضرع إلى ربه ويتمسكن له ويبكي حتى يغفر الله له ذلك وما قبله‏.‏

وقال‏‏ قال جبريل عليه السلام‏‏ إن ربي ليبعثني إلى الشيء لأمضيه فأجد الكون قد سبقني إليه‏.‏

وسئل عن الماعون قال‏‏ العارية‏.‏

قلت‏‏ فإن منع الرجل غربالاً أو قدراً أو قصعةً أو شيئاً من متاع البيت فله الويل‏؟‏ قال‏‏ لا ‏!‏ ولكن إذا نهى عن الصلاة ومنع الماعون، فله الويل‏.‏

وقال‏‏ البضاعة المزجاة‏‏ التي فيها تجوز‏.‏

وقال‏‏ السائحون، هم طلبة العلم‏.‏

وقال‏‏ ‏{‏كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ إذا دخل الكفار القبور وعاينوا ما أعد الله لهم من الخزي، يئسوا من نعمه الله‏.‏

‏‏ ‏‏

قال غيره‏‏ ‏‏‏‏يئس الكفار من أصحاب القبور‏‏‏‏ أي‏‏ من حياتهم وبعثهم بعد موتهم‏.‏

وقال‏‏ كان إبراهيم عليه السلام يدعى‏‏ أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبوب لكيلا يفوته أحد‏.‏

وقال‏‏ أنكالاً، أي‏‏ قيوداً‏.‏

وقال في كاهن سبأ‏‏ أنه قال لقومه لما دنا منهم العذاب‏‏ من أراد سفراً بعيداً وحملاً شديداً، فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا والعصير، فعليه ببصرى - يعني الشام - ومن أراد الراسخات في الوحل، والمقيمات في المحل فعليه بيثرب ذات النخل‏.‏

فخرج قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، وهم غسان، وخرج الأوس والخزرج - وهم‏‏ بنو كعب بن عمرو - وخزاعة حتى نزلوا يثرب، ذات النخل‏.‏

فلما كانوا ببطن مر قالت خزاعة‏‏ هذا موضع صالح لا نريد به بدلاً، فنزلوا، فمن ثم سميت‏‏ خزاعة، لأنهم تخزعوا من أصحابهم‏.‏

وتقدمت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب، فقال الله عز وجل ليوسف عليه السلام‏‏ يا يوسف ‏!‏ بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك مع الذاكرين‏.‏

وقال‏‏ قال لقمان لابنه‏‏ قد ذقت المرار فلم أذق شيئاً أمر من الفقر‏.‏ وحملت كل حمل ثقيل فلم أحمل أثقل من جار السوء‏.‏ ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب‏.‏

رواه وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة‏‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏‏ ‏]‏ قال‏‏ ما وقع شيء منها إلا في عين رجل منهم‏.‏

وقال‏‏ في قوله تعالى‏‏ ‏{‏زَنِيْم‏} ‏[‏القلم‏‏ ‏]‏‏‏ هو اللئيم الذي يعرف اللؤمة كما يعرف الشاة بذمتها‏.‏

وقال‏‏ في قوله تعالى‏‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏‏ ‏]‏ قال‏‏ هم أصحاب التصاوير‏.‏

{‏وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ‏} ‏[‏الأحزاب‏‏ ‏]‏ قال‏‏ لو أن القلوب تحركت أو زالت لخرجت نفسه، وإنما هو الخوف والفزع‏.‏

{‏فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ أي‏‏ بالشهوات‏.‏

{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏‏‏ بالتوبة‏.‏

{‏وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ‏}‏ أي‏‏ التسويف‏.‏

{‏حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ‏}‏‏‏ الموت‏.‏

{‏وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏‏ ‏]‏‏‏ الشيطان‏.‏

وقال‏‏ من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزل ذلك اليوم في سرور حتى يمسي‏.‏

قال سلمة بن شعيب‏‏ حدثنا إبراهيم بن الحكم، عن أبان، عن أبيه‏.‏ قال‏‏ كنت جالساً مع عكرمة عند البحر فذكروا الذين يغرقون في البحر فقال عكرمة‏‏ الذين يغرقون في البحار تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منها شيء إلا العظام، حتى تصير حائلاً نخرة فتمر بها الإبل فتأكلها، ثم تسير الإبل فتبعرها، ثم يجيء بعدهم قوم فينزلون ذلك المنزل فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه، ثم يصير رماداً فتجيء الريح فتأخذه فتذريه في كل مكان من الأرض حيث يشاء الله من بره وبحره، فإذا جاءت النفخة - نفخة المبعث - فيخرج أولئك وأهل القبور المجموعين سواء‏.‏

وبهذا الإسناد، عنه، قال‏‏ إن الله أخرج رجلين، رجلاً من الجنة ورجلاً من النار، فقال لصاحب الجنة‏‏ عبدي ‏!‏ كيف وجدت مقيلك‏؟‏ قال‏‏ خير مقيل‏.‏ ثم قال لصاحب النار‏‏ ‏‏‏‏عبدي ‏!‏ كيف وجدت مقيلك ‏؟‏‏‏‏‏ فقال‏‏ شر مقيل قاله القائلون، ثم ذكر من عقاربها وحياتها وزنابيرها، ومن أنواع ما فيها من العذاب وألونه‏.‏

‏‏ ‏‏

فيقول الله تعالى لصاحب النار‏‏ ‏‏‏‏عبدي ‏!‏ ماذا تعطيني إن أنا أعفيتك من النار ‏؟‏‏‏‏‏ فيقول العبد‏‏ إلهي وماذا عندي ما أعطيك‏؟‏ فقال له الرب تعالى‏‏ ‏‏‏‏لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني فأعفيك من النار ‏؟‏‏‏‏‏ فقال‏‏ نعم، فقال له الرب‏‏ ‏‏‏‏كذبت لقد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك ‏!‏ تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرني فأغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكنت تتولى ذاهباً‏‏‏‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال‏‏ ما من عبد يقربه الله عز وجل يوم القيامة للحساب إلا قام من عند الله بعفوه‏.‏

وبه، عنه‏‏ لكل شيء أساس، وأساس الإسلام الخلق الحسن‏.‏

وبه، عنه، قال‏‏ شكا نبي من الأنبياء إلى ربه عز وجل الجوع والعري، فأوحى الله إليه‏‏ ‏‏‏‏أما ترضى أني سددت عنك باب الشر الناشئ عنها ‏؟‏‏‏‏‏‏.‏

وبه، عنه، قال‏‏ إن في السماء ملكاً يقال له‏‏ إسماعيل لو أذن الله له بفتح أذن من آذانه يسبح الرحمن عز وجل لمات من في السموات والأرض‏.‏

وبه، عنه، قال‏‏ سعة الشمس سعة الأرض وزيادة ثلاث مرات، وسعة القمر سعة الأرض مرة، وإن الشمس إذا غربت دخلت بحراً تحت العرش تسبح الله حتى إذا أصبحت استعفت ربها تعالى من الطلوع فيقول لها‏‏ ولم ذاك‏؟‏ - وهو أعلم - فتقول‏‏ لئلا أعبد من دونك، فيقول لها‏‏ اطلعي فليس عليك شيء من ذلك، حسبهم جهنم أبعثها إليهم مع ثلاثة عشرة ألف ملك تقودها حتى يدخلوهم‏.‏

وهذا خلاف ما ثبت في الحديث الصحيح‏‏ ‏‏‏‏إن جهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك‏‏‏‏‏.‏

وقال مندل‏‏ عن أسد بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلماً فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه‏.‏ ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلماً فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه‏‏‏‏‏.‏ لم يرفعه إلا مندل هذا‏.‏

وروى شعبة، عن عمارة بن حفصة، عن عكرمة، عن أبي هريرة، ‏‏‏‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بثوبه، ووضع يديه على حاجبيه‏‏‏‏‏.‏ هذا حديث عال من حديث شعبة‏.‏

وروى بقية، عن إسحق بن مالك الخضري، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏من حلف على أحد يميناً، وهو يرى أنه سيبره فلم يفعل، فإنما أثمه على الذي لم يبره‏‏‏‏‏.‏ تفرد به بقية بن الوليد مرفوعاً‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه‏‏ حدثنا عبيد بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن ربيع، حدثنا عمارة بن أبي حفصة، حدثنا عكرمة، حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه بردان قطريان خشنان غليظان، فقالت عائشة‏‏ يا رسول الله، إن ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح فيهما فيثقلان عليك، فأرسل إلى فلان فقد أتاه برد من الشام فأشتر منه ثوبين إلى ميسرة‏.‏

فقال‏‏ قد علمت والله، ما يريد نبي الله إلا أن يذهب بثوبي ويمطلني بثمنها، فرجع الرسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏كذب ‏!‏ قد علموا أني أتقاهم لله وآداهم للأمانة‏‏‏‏‏.‏

وفي هذا اليوم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏‏ ‏‏‏‏لأن يلبس أحدكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين ما ليس عنده‏‏‏‏، والله سبحانه أعلم‏.‏

‏‏  ‏‏ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق

كان أحد الفقهاء المشهورين، له روايات كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضل أهل المدينة، وأعلم أهل زمانه، قتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذته خالته فنشأ عندها، وساد وله مناقب كثيرة‏.‏

أبو رجاء العطاردي

وفيها توفي‏‏

كثير عزة الشاعر المشهور

وهو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثير، لأنه كان دميم الخلق قصيراً، طوله ثلاثة أشبار‏.‏

قال ابن خلكان‏‏ كان يقال له رب الدبان، وكان إذا مشى يظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان يقول له‏‏ طأطأ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز‏.‏

وكان يقال‏‏ إنه أشعر الإسلاميين، على أنه كان فيه تشيع، وربما نسبه بعضهم إلى مذهب التناسخية، وكان يحتج على ذلك من جهله وقلة عقله إن صح النقل عنه، في قوله تعالى‏‏ ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ‏} ‏[‏الانفطار‏‏ ‏]‏‏.‏

وقد استأذن يوماً على عبد الملك، فلما دخل عليه قال عبد الملك‏‏ لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال حَيَّهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول‏‏

وجربت الأمور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الأمور

وما تخفى الرجال علي أني* بهم لأخو مثاقفةٍ خبير

‏‏  ‏ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير

ويعجبك الطرير فتختبره * فيخلف ظنك الرجل الطرير

وما هام لها بزين ولكن زينها * دين وخير بغاث الطير

أطولها جسوماً ولم تطل * البزاة ولا الصقور

وقد عظم البعير بغير لبٍ * فلم يستغن بالعظم البعير

فيركب ثم يضرب بالهراوي * ولا عرف لديه ولا نكير

وعود النبع ينبت مستمراً * وليس يطول والعضباء حور

وقد تكلم أبو الفرج بن طرار على غريب هذه الحكاية وشعرها بكلام طويل، قالوا‏‏ ودخل كثير عزة يوماً على عبد الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها‏‏

على ابن أبي العاصي دروع حصينةٌ * أجاد المدى سردها وأدالها

قال له عبد الملك‏‏ أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس بن معد يكرب‏‏

وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة شهباً * يخشى الذائدون صيالها

كنت المقدم غير لابس جبةً * بالسيف يضرب معلماً أبطالها

فقال‏‏ يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق و وصفتك بالحزم‏.‏

ودخل يوماً على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال‏‏ ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال‏‏ يا أمير المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها، فذكرت قولي‏‏

إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم دريزينها

نهته فلما لم تر النهي عافه * بكت فبكى مما عراها قطينها

قال‏‏ أصبت فاحتكم‏.‏

قال‏‏ مائة ناقة من نوقك المختارة‏.‏

قال‏‏ هي لك، فلما سار عبد الملك إلى العراق نظر يوماً إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره، فقال‏‏ عليَّ به، فلما جيء به قال له‏‏ أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي‏؟‏

قال‏‏ نعم ‏!‏

قال‏‏ والله‏؟‏

قال‏‏ والله، قال له عبد الملك‏‏ إنك تقول في نفسك‏‏ هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي، فإن أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة‏.‏

فقال‏‏ أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم‏.‏

قال‏‏ أحتكم حكمي أن أدرك إلى أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالاً وأذن له بالانصراف ‏.‏

‏‏  ‏‏وقال حماد الراوية، عن كثير عزة‏‏ وفدت أنا والأحوص، ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة، فنحن نسير ونختال في رحالنا‏.‏

فلما انتهينا إلى خناصرة ولاحت لنا أعلامها تلقانا مسلمة بن عبد الملك فقال‏‏ ما أقدمكم‏؟‏ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا والشعراء‏؟‏

قال‏‏ فوجمنا لذلك، فأنزلنا مسلمة عنده وأجرى علينا النفقات وعلف دوابنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر لا يمكنه أن يستأذن لنا على عمر‏.‏

فلما كان في بعض الجمع دنوت منه لأسمع خطبته فأسلم عليه بعد الصلاة، فسمعته، يقول في خطبته‏‏ لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه وثوابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلماً إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يطمئن‏.‏

أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتحسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه‏.‏

وارتج المسجد وما حوله بالبكاء والعويل قال‏‏ فانصرفت إلى صاحبي فقلت‏‏ خذ سرحاً من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإنه رجل أخرى ليس برجل دنيا‏.‏

قال‏‏ ثم استأذن لنا مسلمة عليه يوم الجمعة فلما دخلنا عليه سلمت عليه، ثم قلت‏‏ يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا وفود العرب‏.‏

فقال‏‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏‏ ‏]‏ وقرأ الآية، فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم، وإلا فلاحق لكم فيها، فقلت‏‏ يا أمير المؤمنين إني مسكين وعابر سبيل ومنقطع به‏.‏

فقال‏‏ ألستم عند أبي سعيد‏؟‏ - يعني‏‏ مسلمة بن عبد الملك - فقلنا بلى ‏!‏

فقال‏‏ إنه لا ثواب على من هو عند أبي سعيد‏.‏

فقلت‏‏ ائذن لي يا أمير المؤمنين بالإنشاد

قال‏‏ نعم، ولا تقل إلا حقاً، فأنشدته قصيدة فيه‏‏

وليت فلم تشتم علياً ولم تخف * بريئاً ولم تقبل إشارة مجرم

وصدقت بالفعل المقال مع الذي * آتيت فأمسى راضيا كل مسلم

إلا إنما يكفي الفتى بعد ريعه * من الأود النادي ثقاف المقوم

وقد لبست تسعى إليك ثيابها * تراءى لك الدنيا بكف ومعصم

وتمض أحياناً بعين مريضة * وتبسم عن مثل الحمان المنظم

فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما * سقتك مذوقاً من سمام وعلقم

وقد كنت من أحبالها في ممنع * ومن بحرها في مزبد الموج مفعم

ومازلت تواقاً إلى كل غاية * بلغت بها أعلى البناء المقدم

فلما أتاك الملك عفواً ولم تكن * لطالب دنيا بعدة في تكلم

‏‏  ‏‏ تركت الذي يفنى وإن كان مونقاً * و آثرت ما يبقى برأي مصمم

وأضررت بالفاني وشمرت للذي * أمامك في يوم من الشر مظلم

ومالك إذ كنت الخليفة مانع * سوى الله من مال رعيت و لا دم

سما لك همٌ في الفؤاد مؤرق * بلغت به أعلى المعالي بسلم

فما بين شرق الأرض والغرب كلها * مناد ينادي من فصيح وأعجم

يقول أمير المؤمنين ظلمتني * بأخذك ديناري وأخذك درهمي

ولا بسط كف لامرئ غير مجرم * ولا السفك منه ظالماً ملء محجم

ولو يستطيع المسلمون لقسموا * لك الشطر من أعمارهم غير ندَّم

فعشت بها ما حج لله راكب * ملبٍ مطيف بالمقام و زمزم

فاربخ بها من صفقة لمبايع * وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم

قال‏‏ فأقبل علي عمر بن عبد العزيز وقال‏‏ إنك تسأل عن هذا يوم القيامة، ثم استأذنه الأحوص فانشده قصيدة أخرى فقال‏‏ إنك تسأل عن هذا يوم القيامة‏.‏

ثم استأذنه نصيب فلم يأذن له، وأمر لكل واحد منهم بمائة وخمسين درهماً، وأغزى نصيباً إلى مرج دابق‏.‏

وقد وفد كثير عزة بعد ذلك على يزيد بن عبد الملك فامتدحه بقصائد فأعطاه سبعمائة دينار‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏‏ كان كثير عزة شيعياً خبيثاً يرى الرجعة، وكان يرى التناسخ ويحتج بقوله تعالى‏‏ ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏‏ ‏]‏‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏‏ هوَّل كثير عزة ليلة في منامه فأصبح يمتدح آل الزبير، ويرثي عبد الله بن الزبير، وكان يسيء الرأي فيه‏‏

بمفتضح البطحا تأول أنه * أقام بها ما لم ترمها الأخاشب

سرحنا سروباً آمنين ومن يخف * بوائق ما يخشى تنبه النوائب

تبرأت من عيب ابن أسماء إنني * إلى الله من عيب ابن أسماء تائب

هو المرء لا ترزى به أمهاته * وآباؤه فينا الكرام الأطايب

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري‏‏ قالت عائشة بنت طلحة لكثير عزة‏‏ ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على نصف من الحسن والجمال‏؟‏ فلو قلت ذلك فيَّ وفي أمثالي فأنا أشرف وأفضل وأحسن منها - وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسناً وجمالاً وأصالةً - وإنما قالت له ذلك لتختبره وتبلوه فقال‏‏

ضحى قلبه يا عز أو كاد يذهل * وأضحى يريد الصوم أو يتبدل

وكيف يريد الصوم من هو وامق * لعزة لا قال ولا متبذل

إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول

سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا * ونحن لتيك الحاجبية أوصل

‏‏ ‏‏ وحدثها الواشون أني هجرتها * فحملها غيظاً على المحمل

فقالت له عائشة‏‏ قد جعلتني خلة ولست لك بخلة، وهلا قلت كما قال جميل فهو والله أشعر منك حيث يقول‏‏

يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل

فأجبتها بالقول بعد تستر * حبي بثينة عن وصالك شاغلي

لو كان في قلبي بقدر قلامة * فضل وصلتك أو أتتك رسائلي

فقال‏‏ والله ما أنكر فضل جميل، وما أنا إلا حسنة من حسناته، واستحيا‏.‏

ومما أنشده ابن الأنباري لكثير عزة‏‏

بأبي وأمي أنت من معشوقة * طبن العدو لها فغير حالها

ومشى إلي بعيب عزة نسوة * جعل الإله خدودهن نعالها

الله يعلم لو جمعن ومثلت * لأخذت قبل تأمل تمثالها

ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى * في الحسن عند موفق لقضى لها

وأنشد غيره لكثير عزة‏‏

فما أحدث النأي الذي كان بيننا * سلوا ولا طول اجتماع تقاليا

وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تمادياً

 

غيره له‏‏

فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة * من أعراضنا ما استحلت

وقال كثير عزة أيضاً وفيه حكمة أيضاً‏‏

ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهداً كل عثرة * يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب

وذكروا أن عزة بنت جميل بن حفص أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار أم عمرو الضمرية وفدت على عبد الملك بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال‏‏ لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئاً من شعره، فقالت‏‏ لا أحفظ لكثير شعراً، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال فيّ هذه الأبيات‏‏

قضى كل ذي دين علمت غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها

فقال‏‏ ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله‏‏

وقد زعمت إني تغيرت بعدها * ومن ذا الذي يا عز لا يتغير

تغير جسمي والمحبة كالذي * عهدت ولم يخبر بذاك مخبر

‏‏ ‏‏ قال‏‏ فاستحيت وقالت‏‏ أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكونه عنه ولكن أحفظ له قوله‏‏

كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الظلم لو تمشى بها العصم زلت

صفوح فما تلقاك إلا بخيلة * ومن مل منها ذلك الوصل ملت

قال‏‏ فقضى لها حاجتها وردها ورد عليها ظلامتها وقال‏‏ أدخلوها الحرم ليتعلموا من أدبها‏.‏

وروي عن بعض نساء العرب قالت‏‏ اجتازت بنا عزة فاجتمع نساء الحاضر إليها لينظرن حسنها، فإذا هي حميراء حلوة لطيفة، فلم تقع من النساء بذلك الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حديثاً، فما بقي في أعيننا امرأة تفوقها حسناً وجمالاً وحلاوةً‏.‏

وذكر الأصمعي‏‏ عن سفيان بن عيينة، قال‏‏ دخلت عزة على سكينة بنت الحسين فقالت لها‏‏ إني أسألك عن شيء فاصدقيني، ما الذي أراد كثير في قوله لك‏‏

قضى كل ذي دين فوفى غريمة * وعزة ممطول معنى غريمها

فقالت‏‏ كنت وعدته قبلة فمطلته بها، فقالت‏‏ أنجزيها له و إثمها عليَّ، وقد كانت سكينة بنت الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل‏.‏

وروي أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيراً من عزة فأبت عليه وقالت‏‏ يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ‏!‏ وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر‏.‏

وروي إنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر ما عنده، فتعرض لها فقالت‏‏ فأين حبك عزة‏؟‏ فقال‏‏ أنا لك الفداء لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت‏‏ ويحك لا تفعل ألست القائل‏‏

إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول

فقال‏‏ بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها وأسمعي ما أتقول‏‏

هل وصل عزة إلا وصل غانية * في وصل غانية من وصلها بدل

قالت‏‏ فهل لك في المجالسة‏؟‏ قال‏‏ ومن لي بذلك‏؟‏ قالت‏‏ فكيف بما قلت في عزة‏؟‏ قال‏‏ أقلبه فيتحول لك، قال‏‏ فسفرت عن وجهها وقالت‏‏

أغدراً وتناكثاً يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت‏‏ قاتل الله جميلاً حيث يقول‏‏

محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متين

ومن هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافاً بكل يمين

ثم شرع كثير يعتذر ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الأشعار ذاكراً وآثراً‏.‏

وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل‏‏ ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه‏؟‏ فقال‏‏ ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال‏.‏ ‏‏ ‏‏

وكانت وفاته ووفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على المشهور‏.‏ وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة - أعني سنة سبع ومائة - والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان ومائة

ففيها افتتح مسلمة بن عبد الملك قيسارية من بلاد الروم‏.‏

وفتح إبراهيم بن هشام بن عبد الملك حصناً من حصون الروم أيضاً‏.‏

وفيها غزا أسيد بن عبد الله القسري أمير خراسان فكسر الأتراك كسرة فاضحة‏.‏

وفيها زحف خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان ورماها بالمناجيق، فسار إليه أمير تلك الناحية‏‏ الحارث بن عمرو نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملك الترك فهزمه، وقتل من جيشه خلق كثير، وهرب الخاقان بعد أن كان قتل في جملة من قتل من جيشه، وقتل الحارث بن عمرو شهيداً، وذلك بعد أن قتلوا من الأتراك خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف فافتتح جنجرة وغنم منها شيئاً كثيراً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏‏

 بكر بن عبد الله المزني البصري

كان عالماً عابداً زاهداً متواضعاً قليل الكلام، وله روايات كثيرة عن خلق من الصحابة والتابعين‏.‏

قال بكر بن عبد الله‏‏ إذا رأيت من هو أكبر منك من المسلمين فقل‏‏ سبقته إلى المعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرهونك ويعظمونك فقل‏‏ هذا من فضل ربي، وإذا رأيت منهم تقصيراً فقل‏‏ هذا بذنب أحدثته‏.‏

وقال‏‏ من مثلك يا ابن آدم‏؟‏ خلي بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب‏.‏

وقال‏‏ لا يكون العبد تقياً حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب‏.‏

وقال‏‏ إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به‏.‏

وقال‏‏ كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ الصالح من العمل فمشى في الناس تظلله غمامة، قال‏‏ فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه مما آتاه الله، فاحتقره صاحب الغمامة فأمرها الله أن تتحول عن رأسه إلى رأس الذي احتقره، وهو الذي عظم أمر الله عز وجل‏.‏

وقال‏‏ ما سبقهم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء قر في صدره‏.‏

وله كلام حسن كثير يطول ذكره‏.‏

راشد بن سعد المقراني الحمصي

عمر دهراً، وروى عن جماعة من الصحابة، وقد كان عابداً صالحاً زاهداً، رحمه الله تعالى، وله ترجمة طويلة‏.‏

 محمد بن كعب القرظي

توفي فيها في قول، وهو‏‏ أبو حمزة، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان عالماً بتفسير القرآن، صالحاً عابداً‏.‏

قال الأصمعي‏‏ حدثنا أبو المقدام - هشام بن زياد -، عن محمد بن كعب القرظي، أنه سئل‏‏ ما علامة الخذلان‏؟‏ قال‏‏ أن يقبح الرجل ما كان يستحن، ويستحسن ما كان قبيحاً‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال عبد الله بن المبارك‏‏ حدثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب، قال‏‏ سمعت بن كعب، يقول‏‏ لأن أقرأ في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأردد فيهما الفكرة، أحب إلى من أن أهد القرآن هداً - أو قال‏‏ انثره نثراً -‏.‏

وقال‏‏ لو رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكريا عليه السلام، قال تعالى‏‏ ‏{‏آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏‏ ‏]‏‏.‏

فلو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص له، ولرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى‏‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏} ‏[‏الأنفال‏‏ ‏]‏‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏‏ ‏]‏ قال‏‏ اصبروا على دينكم وصابروا لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏‏ ‏]‏‏‏ علم ما أحل القرآن مما حرم‏.‏

{‏مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏‏ ‏]‏ قال‏‏ القائم‏‏ ما كان من بنائهم قائماً، والحصيد‏‏ ما حصد فهدم‏.‏

{‏إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏‏ ‏]‏ قال‏‏ غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا‏.‏

وفي رواية‏‏ سألهم ثمن نعمة فلم يقدروا عليها ولم يؤدوها، فأغرمهم ثمنها‏.‏ فأدخلهم النار‏.‏

وقال قتيبة بن سعيد‏‏ حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي، قال‏‏ سمعت محمد بن كعب في هذه الآية‏‏ ‏{‏وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏‏ ‏]‏ قال‏‏ هو الرجل يعطي الآخر من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الذي لا يربو عند الله، والمضعفون هم الذي يعطون لوجه الله لا يبتغي مكافئة أحد‏.‏

وفي قوله تعالى‏‏ ‏{‏أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏‏ ‏]‏ قال‏‏ اجعل سريرتي وعلانيتي حسنة‏.‏

وقيل‏‏ أدخلني مدخل صدق في العمل الصالح، أي‏‏ الإخلاص، وأخرجني مخرج صدق أي‏‏ سالماً‏.‏

{‏أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏‏ ‏]‏ أي‏‏ يسمع القرآن وقلبه معه في مكان آخر‏.‏

{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏‏ ‏]‏ قال‏‏ السعي العمل ليس بالشد‏.‏

وقال‏‏ الكبائر ثلاثة‏‏ أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله، وأن تيأس من روح الله‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك‏‏ حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، قال‏‏ إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه ثلاث خصال‏‏ فقهاً في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصراً بعيوب نفسه‏.‏

وقال‏‏ الدنيا دار قلق، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الأشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي الغاوية لمن أضاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول‏.‏

وروى ابن المبارك، عن داود بن قيس، قال‏‏ سمعت محمد بن كعب يقول‏‏ إن الأرض لتبكي من رجل، وتبكي على رجل، تبكي على من كان يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكي ممن كان يعمل على ظهرها بمعصية الله قد أثقلها‏.‏ ‏‏ ‏‏

ثم قرأ‏‏ ‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ‏} ‏[‏الدخان‏‏ ‏]‏‏.‏

وقال في قوله تعالى‏‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏‏ -‏]‏‏‏ من يعمل مثقال ذرة خيراً من كافر يرى ثوابها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له خير، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له شر‏.‏

وقال‏‏ ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني، وقال‏‏ اذهب لا أغفر لك مع إن عجائب القرآن تردني على أمور حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسأله أن يبيعه غلامه سالماً - وكان عابداً خيراً زاهداً - فكتب إليه‏‏ إني قد دبرته، قال‏‏ فازدد فيه، فأتاه سالم فقال له عمر‏‏ إني قد ابتليت بما ترى، وأنا والله أتخوف أن لا أنجو، فقال له سالم‏‏ إن كنت كما تقول فهذا نجاته، وإلا فهو الأمر الذي يخاف‏.‏

قال‏‏ يا سالم عظني، قال‏‏ آدم عليه السلام أخطأ خطيئة واحدة خرج بها من الجنة، وأنتم مع عمل الخطايا ترجون دخول الجنة، ثم سكت‏.‏

قلت‏‏ والأمر كما قيل في بعض كتب الله‏‏ تزرعون السيئات وترجون الحسنات، لا يجتنى من الشوك العنب‏.‏

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي * درج الجنان وطيب عيش العابد

ونسيت أن الله أخرج آدماً * منها إلى الدنيا بذنب واحد

وقال‏‏ من قرأ القرآن متِّع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة‏.‏

وقال له رجل‏‏ ما تقول في التوبة‏؟‏ قال‏‏ لا أحسنها، قال‏‏ أفرأيت إن أعطيت الله عهداً أن لا تعصيه أبداً‏؟‏ قال‏‏ فمن أعظم جرماً منك، تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني‏‏ حدثنا ابن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن زياد أبي المقدام، قالوا كلهم‏‏ حدثنا محمد بن كعب القرظي، قال‏‏ حدثنا ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏‏ ‏‏‏‏من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده، ألا أنبئكم بشراركم ‏؟‏‏‏‏‏ قالوا‏‏ نعم يا رسول الله، قال‏‏ ‏‏‏‏من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا ‏؟‏‏‏‏‏ قالوا‏‏ نعم يا رسول الله، قال‏‏ ‏‏‏‏من لا يقبل عثرة، ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنباً‏‏‏‏، ثم قال‏‏ ‏‏‏‏ألا أنبئكم بشر من هذا ‏؟‏‏‏‏‏ قالوا‏‏ نعم يا رسول الله، قال‏‏ ‏‏‏‏من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل خطيباً فقال‏‏ يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها - وقال مرة‏‏ فتظلموهم - ولا تظلموا ظالماً، ولا تطاولوا ظالماً فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل الأمور ثلاثة‏‏ أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله‏‏‏‏‏.‏

وهذه الألفاظ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا من حديث محمد بن كعب، عن ابن عباس، وقد روى أول الحديث إلى ذكر عيسى من غير طريقه، وسيأتي أن هذا الحديث تفرد به الطبراني بطوله، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وفيها توفي أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وقد ذكرنا ترجمهم في كتابنا التكميل‏.‏