الجزء التاسع - سنة عشرين ومائة من الهجرة

سنة عشرين ومائة من الهجرة

فيها غزا سليمان بن هشام بلاد الروم وافتتح فيها حصوناً‏.‏

وفيها غزا إسحاق بن مسلم العقيلي تومان شاه، وافتتحها وخرب أراضيها‏.‏

وفيها غزا مروان بن محمد بلاد الترك‏.‏

وفيها كانت وفاة أسد بن عبد الله القسري أمير خراسان، وكانت وفاته بسبب أنه كانت له دُبيلة في جوفه، فلما كان مهرجان هذه السنة قدمت الدهاقين - وهم‏‏ أمراء المدن الكبار - من سائر البلدان بالهدايا والتحف على أسد، وكان فيمن قدم نائب هراة ودهقانها، واسم دهقانها‏‏ خراسان شاه، فقدم بهدايا عظيمة وتحف عزيزة، وكان من جملة ذلك قصر من ذهب، وقصر من فضة، وأباريق من ذهب، وصحاف من ذهب وفضة، وتفاصيل من حرير تلك البلاد ألوان ملونة، فوضع ذلك كله بين يدي أسد حتى امتلأ المجلس‏.‏

‏‏ ‏‏ ثم قام الدهقان خطيباً فامتدح أسداً بخصال حسنة، على عقله ورياسته وعدله ومنعه أهله وخاصته أن يظلموا أحداً من الرعايا بشيء قل أو كثر، وأنه قهر الخان الأعظم، وكان في مائة ألف فكسره وقتله، وأنه يفرح بما يفد إليه من الأموال، وهو بما خرج من يده أفرح وأشد سروراً، فأثنى عليه أسد وأجلسه، ثم فرق أسد جميع تلك الهدايا والأموال وما هناك أجمع على الأمراء والأكابر بين يديه، حتى لم يبق منه شيء‏.‏

ثم قام من مجلسه وهو عليل من تلك الدبيلة، ثم أفاق إفاقة وجيء بهدية كمثرى فجعل يفرقها على الحاضرين واحدة واحدة، فألقى إلى دهقان خراسان واحدة‏.‏

فانفجرت دبيلته وكان فيها حتفه، واستخلف على عمله جعفر بن حنظلة البهراني، فمكث أميراً أربعة أشهر حتى جاء عهد نصر بن سيار في رجب منها، فعلى هذا تكون وفاة أسد في صفر من هذه السنة‏.‏

وقد قال ابن عرس العبدي يرثيه‏‏

نعى أسد بن عبد الله ناع * فريع القلب للملك المطاع

ببلخ وافق المقدار يسري * وما لقضاء ربك من دفاع

فجودي عين بالعبرات سحاً * ألم يحزنك تفريق الجماع

أتاه حِمامهُ في جوف ضيع * وكم بالضيع من بطل شجاع

أتاه حمامه في جوف صيغ * وكم بالصيغ من بطل شجاع

كتائب قد يجيبون المنادي * على جرد مسومة سراع

سقيت الغيث إنك كنت غيثاً * مريعاً عند مرتاد النجاع

وفيها عزل هشام خالد بن عبد الله القسري عن نيابة العراق، وذلك أنه انحصر منه لما كان يبلغه من إطلاق عبارة فيه، وأنه كان يقول عنه‏‏ ابن الحمقاء، وكتب إليه كتاباً فيه غلظة، فرد عليه هشام رداً عنيفاً‏.‏

ويقال‏‏ إنه حسده على سعة ما حصل له من الأموال والحواصل والغلات، حتى قيل‏‏ إنه كان دخله في كل سنة ثلاثة عشر ألف ألف دينار، وقيل‏‏ درهم، ولولده يزيد بن خالد عشرة آلاف ألف‏.‏

وقيل‏‏ إنه وفد إليه رجل من إلزام أمير المؤمنين من قريش، يقال له‏‏ ابن عمرو، فلم يرحب به ولم يعبأ به، فكتب إليه هشام يعنفه ويبكته على ذلك، وأنه حال وصول هذا الكتاب إليه يقوم من فوره بمن حوله من أهل مجلسه فينطلق على قدميه حتى يأتي باب ابن عمرو صاغراً ذليلاً مستأذناً عليه، متنصلاً إليه مما وقع، فإن أذن لك وإلا فقف على بابه حولاً غير متحلل من مكانك ولا زائل، ثم أمرك إليه إن شاء عزلك وإن شاء أبقاك، وإن شاء انتصر، وإن شاء عفا‏.‏

وكتب إلى ابن عمرو يعلمه بما كتب إلى خالد، وأمره إن وقف بين يديه أن يضربه عشرين سوطاً على رأسه، إن رأى ذلك مصلحة‏.‏

‏‏ ‏‏ثم إن هشاماً عزل خالداً وأخفى ذلك، وبعث البريد إلى نائبه على اليمن وهو‏‏ يوسف بن عمرو فولاه إمرة العراق، وأمره بالمسير إليها والقدوم عليها في ثلاثين راكباً، فقدموا الكوفة وقت السحر، فدخلوها، فلما أذن المؤذن أمره يوسف بالإقامة، فقال‏‏ إلى أن يأتي الإمام - يعني‏‏ خالداً - فانتهره وأمره بالإقامة، وتقدم يوسف فصلى وقرأ‏‏ ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏‏ ‏]‏ و {‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ ‏[‏المعارج‏‏ ‏]‏

ثم انصرف فبعث إلى خالد وطارق وأصحابهما، فاحضروا فأخذ منهم أموالاً كثيرةً، صادر خالداً بمائة ألف ألف درهم، وكانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى من هذه السنة - أعني‏‏ سنة عشرين ومائة -‏.‏

وفي هذا الشهر قدم يوسف بن عمر على ولاية العراق مكان خالد بن عبد الله القسري، واستناب على خراسان جُديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر بن حنظلة الذي كان استنابه أسد‏.‏

ثم إن يوسف بن عمر عزل جديعاً في هذه السنة عن خراسان، وولى عليها نصر بن سيار، وذهب جميع ما كان اقتناه وحصله خالد من العقار والأملاك وهلة واحدة‏.‏

وقد كان أشار عليه بعض أصحابه لما بلغهم عتب هشام عليه أن يبعث إليه يعرض عليه بعض أملاكه، فما أحب منها أخذه وما شاء ترك، وقالوا له‏‏ لأن يذهب البعض خير من أن يذهب الجميع مع العزل والاخراق، فامتنع من ذلك واغتر بالدنيا وعزت نفسه عليه أن يذل، ففجأه العزل، وذهب ما كان حصله وجمعه ومنعه، واستقرت ولاية يوسف بن عمر على العراق وخراسان، واستقرت نيابة نصر بن سيار على خراسان، فتمهدت البلاد وأمن العباد، والله الحمد والمنة‏.‏

وقد قال سوار بن الأشعري في ذلك‏‏

أضحت خراسان بعد الخوف آمنةً * من ظلم كل غشوم الحكم جبار

لما أتى يوسفاً أخبار ما لقيت * اختار نصراً لها نصر بن سيار

وفي هذه السنة استبطأت شيعة آل العباس كتاب محمد بن علي إليهم، وقد كان عتب عليهم في اتباعهم ذلك الزنديق الملقب‏‏ بخداش، وكان خُرَّمياً، وهو الذي أحل لهم المنكرات ودنَّس المحارم والمصاهرات، فقتله خالد القسري كما تقدم‏.‏

فعتب عليهم محمد بن علي في تصديقهم له واتباعهم إياه على الباطل، فلما استبطأوا كتابه إليهم بعث إليهم رسولاً يخبر لهم أمره، وبعثوا هم أيضاً رسولاً، فلما جاء رسولهم أعلمه محمد بماذا عتب عليهم بسبب الخُرَّمي، ثم أرسل مع الرسول كتاباً مختوماً، فلما فتحوه لم يجدوا فيه سوى‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم، تعلموا أنه إنما عتبنا عليكم بسبب الخرمي‏.‏

ثم أرسل رسولاً إليهم فلم يصدقه كثير منهم وهموا به، ثم جاءت من جهته عصى ملوياً عليها حديد ونحاس، فعلموا أن هذا إشارة لهم إلى أنهم عصاة، وأنهم مختلفون كاختلاف ألوان النحاس والحديد‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وحج بالناس فيها محمد بن هشام المخزومي فيما قاله أبو معشر‏.‏

قال‏‏ وقد قيل‏‏ إن الذي حج بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك‏.‏

وقيل‏‏ ابنه يزيد بن هشام، فالله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏‏ ‏‏ ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة

ففيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح مطامير وهو حصن‏.‏

وافتتح مروان بن محمد بلاد صاحب الذهب، وأخذ قلاعه وخرب أرضه، فأذعن له بالجزية في كل سنة بألف رأس يؤديها إليه، وأعطاه رهناً على ذلك‏.‏

وفيها في صفر قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية، في قول الواقدي‏.‏

وقال هشام الكلبي‏‏ إنما قتل في صفر من سنة ثنتين وعشرين، فالله أعلم‏.‏

وقد ساق محمد بن جرير سبب مقتله في هذه السنة تبعاً للواقدي، وهو أن زيداً هذا وفد على يوسف بن عمر فسأله‏‏ هل أودع خالد القسري عندك مالاً‏؟‏

فقال له زيد بن علي‏‏ كيف يودعني مالاً وهو يشتم آبائي على منبره في كل جمعة‏؟‏

فأحلفه أنه ما أودع عنده شيئاً، فأمر يوسف بن عمر بإحضار خالد من السجن فجيء به في عباءة‏.‏

فقال‏‏ أنت أودعت هذا شيئاً نستخلصه منه‏؟‏

قال‏‏ لا، وكيف وأنا أشتم أباه كل جمعة‏؟‏

فتركه عمر وأعلم أمير المؤمنين بذلك فعفا عن ذلك‏.‏

ويقال‏‏ بل استحضرهم فحلفوا بما حلفوا‏.‏

ثم إن طائفة من الشيعة التفت على زيد بن علي، وكانوا نحواً من أربعين ألفاً، فنهاه بعض النصحاء عن الخروج، وهو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وقال له‏‏ إن جدك خير منك، وقد التفت على بيعته من أهل العراق ثمانون ألفاً، ثم خانوه أحوج ما كان إليهم، وإني أحذرك من أهل العراق‏.‏

فلم يقبل بل استمر يبايع الناس في الباطن في الكوفة، على كتاب الله وسنة رسوله حتى استفحل أمره بها في الباطن، وهو يتحول من منزل إلى منزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنة ثنيتن وعشرين ومائة، فكان فيها مقتله كما سنذكر قريباً‏.‏

وفيها غزا نصر بن سيار أمير خراسان غزوات متعددة في الترك، وأسر ملكهم كور صول في بعض تلك الحروب وهو لا يعرفه، فلما تيقنه وتحققه، سأل منه كور صول أن يطلقه على أن يرسل له ألف بعير من إبل الترك - وهي‏‏ البخاتي - وألف برذون، وهو مع ذلك شيخ كبير جداً، فشاور نصر من بحضرته من الأمراء في ذلك، فمنهم من أشار بإطلاقه، ومنهم من أشار بقتله‏.‏

ثم سأله نصر بن سيار‏‏ كم غزوت من غزوة‏؟‏

فقال‏‏ ثنتين وسبعين غزوة‏.‏

فقال له نصر‏‏ ما مثلك يطلق، وقد شهدت هذا كله‏.‏

ثم أمر به فضربت عنقه وصلبه‏.‏

فلما بلغ ذلك جيشه من قتله باتوا تلك الليلة يجعرون ويبكون عليه، وجذوا لحاهم وشعورهم وقطعوا آذانهم وحرقوا خياماً كثيرةً، وقتلوا أنعاماً كثيرةً، فلما أصبح أمر نصر بإحراقه لئلا يأخذوا جثته، فكان حريقه أشد عليهم من قتله، وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين‏.‏

‏‏ ‏‏ ثم كر نصر على بلادهم فقتل منهم خلقاً وأسر أمماً لا يحصون كثرة‏.‏

وكان فيمن حضر بين يديه عجوز كبيرة جداً من الأعاجم أو الأتراك، وهي من بيت مملكة، فقالت لنصر بن سيار‏‏ كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فهو ليس بملك‏‏ وزير صادق يفصل خصومات الناس ويشاوره ويناصحه، وطباخ يصنع له ما يشتهيه، وزوجة حسناء إذا دخل عليها مغتماً فنظر إليها سرته وذهب غمه، وحصن منيع إذا فزع رعاياه لجأوا إليه فيه، وسيف إذا قارع به الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين ما وقع من الأرض عاش بها‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل نائب مكة والمدينة والطائف، ونائب العراق يوسف بن عمر، ونائب خراسان نصر بن سيار، وعلى أرمينية مروان بن محمد‏.‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان‏‏

 زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

والمشهور أنه قتل في التي بعدها كما سيأتي بيانه إن شاء الله‏.‏

 مسلمة بن عبد الملك

ابن مروان القرشي الأموي، أبو سعيد وأبو الأصبغ الدمشقي‏.‏

قال ابن عساكر‏‏ وداره بدمشق في حجلة القباب عند باب الجامع القبلي، ولي الموسم أيام أخيه الوليد، وغزا الروم غزوات وحاصر القسطنطينية، وولاه أخوه يزيد إمرة العراقيين، ثم عزله وتولى أرمينية‏.‏

وروى الحديث عن‏‏ عمر بن عبد العزيز، وعنه‏‏ عبد الملك بن أبي عثمان، وعبيد الله بن قزعة، وعيينة والد سفيان بن عينية، وابن أبي عمران، ومعاوية بن خديج، ويحيى بن يحيى الغساني‏.‏

قال الزبير بن بكار‏‏ كان مسلمة من رجال بني أمية، وكان يلقب بالجرادة الصفراء، وله آثار كثيرة، وحروب ونكاية في العدو من الروم وغيرهم‏.‏

قلت‏‏ وقد فتح حصوناً كثيرةً من بلاد الروم‏.‏

ولما ولي أرمينية غزا الترك فبلغ باب الأبواب فهدم المدينة التي عنده، ثم أعاد بناءها بعد تسع سنين‏.‏

وفي سنة ثمان وتسعين غزا القسطنطينية فحاصرها وافتتح مدينة الصقالبة، وكسر ملكهم البرجان، ثم عاد إلى محاصرة القسطنطينية‏.‏

قال الأوزاعي‏‏ فأخذه وهو يغازيهم صداع عظيم في رأسه، فبعث ملك الروم إليه بقلنسوة وقال‏‏ ضعها على رأسك يذهب صداعك، فخشي أن تكون مكيدة فوضعها على رأس بهيمة فلم ير إلا خيراً، ثم وضعها على رأس بعض أصحابه فلم ير إلا خيراً، فوضعها على رأسه فذهب صداعه، ففتقها فإذا فيها سبعون سطراً هذه الآية‏‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏‏ ‏]‏ الآية مكررة لا غير، رواه ابن عساكر‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد لقي مسلمة في حصاره القسطنطينية شدة عظيمة، وجاع المسلمون عندها جوعاً شديداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أرسل إليهم البريد يأمرهم بالرجوع إلى الشام، فحلف مسلمة أن لا يقلع عنهم حتى يبنوا له جامعاً كبيراً بالقسطنطينية، فبنوا له جامعاً ومنارةً، فهو بها إلى الآن يصلي فيه المسلمون الجمعة والجماعة‏.‏

قلت‏‏ وهي آخر ما يفتحه المسلمون قبل خروج الدجال في آخر الزمان، كما سنورده في الملاحم والفتن من كتابنا هذا إن شاء الله، ونذكر الأحاديث الواردة في ذلك هناك‏.‏

وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساعي مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصوناً وقلاعاً، وأحيا بعزمه قصواراً وبقاعاً، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه، في كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشدة بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه، وهذا مع الكرم والفصاحة‏.‏

وقال يوماً لنصيب الشاعر‏‏ سلني‏.‏

قال‏‏ لا‏.‏

قال‏‏ ولم‏؟‏

قال‏‏ لأن كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان‏.‏

فأعطاه ألف دينار‏.‏

وقال أيضاً‏‏ الأنبياء لا يتنابون كما يتناب الناس، ما ناب نبي قط وقد أوصى بثلث ماله لأهل الأدب، وقال‏‏ إنها صنعة جحف أهلها‏.‏

وقال الوليد بن مسلم وغيره‏‏ توفي يوم الأربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة‏.‏

وقيل‏‏ في سنة عشرين ومائة‏.‏

وكانت وفاته بموضع يقال له‏‏ الحانوت، وقد رثاه بعضهم، وهو ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال‏‏

أقول وما البعد إلا الردى * أمسلم لا تبعدن مسلمهْ

فقد كنت نوراً لنا في البلاد * مضيئاً فقد أصبحت مظلمهْ

ونكتم موتك نخشى اليقين * فأبدى اليقين لنا الجمجهْ

 نمير بن قيس

الأشعري، قاضي دمشق، تابعي جليل، روى عن‏‏ حذيفة مرسلاً، وأبي موسى مرسلاً، وأبي الدرداء وعن معاوية مرسلاً، وغير واحد من التابعين‏.‏

وحدث عنه جماعة كثيرون، منهم‏‏ الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، ويحيى بن الحارث الذماري‏.‏

ولاه هشام بن عبد الملك القضاء بدمشق بعد عبد الرحمن بن الخشخاش العذري، ثم استعفى هشاماً فعفاه وولى مكانه يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك‏.‏

وكان نمير هذا لا يحكم باليمين مع الشاهد‏.‏

وكان يقول‏‏ الأدب من الآباء، والصلاح من الله‏.‏

قال غير واحد‏‏ توفي سنة إحدى وعشرين ومائة‏.‏

وقيل‏‏ سنة ثنتين وعشرين ومائة‏.‏

وقيل‏‏ سنة خمس عشرة ومائة، وهو غريب، والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

ثم دخلت سنة ثنين وعشرين ومائة

ففيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك‏.‏

فانطلق رجل يقال له‏‏ سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره - وهو بالحيرة يومئذ - خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه‏.‏

فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له‏‏ ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر‏؟‏

فقال‏‏ غفر الله لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً‏.‏

قالوا‏‏ فلم تطلب إذا بدم أهل البيت‏؟‏

فقال‏‏ إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة‏.‏

قالوا‏‏ فلم تقاتل هؤلاء إذا‏؟‏

قال‏‏ إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل‏.‏

فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا‏‏ الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا‏‏ الزيدية‏.‏

وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبهم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدماً عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة، وقد ذكرنا ذلك في سيرة أبي بكر وعمر فيما تقدم‏.‏

ثم إن زيداً عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه، فواعدهم ليلة الأربعاء من مستهل صفر من هذه السنة‏.‏

فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو‏‏ الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء سلخ المحرم، قبل خروج زيد بيوم‏.‏

وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه النيران وجعلوا ينادون‏‏ يا منصور يا منصور، فلما طلع الفجر إذا قد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلاً‏.‏

فجعل زيد يقول‏‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ أين الناس‏؟‏

فقيل‏‏ هم في المسجد محصورون‏.‏

وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضاً في طائفة كبيرة من الناس، فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثم أتى الكناسة فحمل على جمع من أهل الشام فهزمهم، ثم اجتاز بيوسف بن عمر وهو واقف فوق تل، وزيد في مائتي فارس ولو قصد يوسف بن عمر لقتله، ولكن أخذ ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هزمهم‏.‏

وجعل أصحابه ينادون‏‏ يا أهل الكوفة اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا‏.‏ ‏‏ ‏‏

ثم لما أمسوا انضاف إليه جماعة من أهل الكوفة، وقد قتل بعض أصحابه في أول يوم‏.‏

فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة من أهل الشام فقتل منهم سبعين رجلاً، وانصرفوا عنه بشرِّ حال‏.‏

وأمسوا فعبأ يوسف بن عمر جيشه جداً، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله حتى أخذوا على المسناة ثم اقتتلوا هناك قتالاً شديداً جداً، حتى كان جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا لأجل المساء والليل‏.‏

وأدخل زيد في دار في سكة البريد، وجيء بطبيب فانتزع ذلك السهم من جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات في ساعته رحمه الله‏.‏

فاختلف أصحابه أين يدفنونه، فقال بعضهم‏‏ ألبسوه درعه وألقوه في الماء‏.‏

وقال بعضهم‏‏ احتزوا رأسه واتركوا جثته في القتلى‏.‏

فقال ابنه‏‏ لا والله لا تأكل أبي الكلاب‏.‏

وقال بعضهم‏‏ ادفنوه في العباسية‏.‏

وقال بعضهم‏‏ ادفنوه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ففعلوا ذلك، وأجروا على قبره الماء لئلا يعرف‏.‏

وانفتل أصحابه حيث لم يبق لهم رأس يقاتلون به، فما أصبح الفجر ولهم قائمة ينهضون بها، وتتبع يوسف بن عمر الجرحى هل يجد زيداً بينهم، وجاء مولى لزيد سندي قد شهد دفنه فدل على قبره فأخذ من قبره، فأمر يوسف بن عمر بصلبه على خشبة بالكناسة، ومعه نضر بن خزيمة، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وزياد النهدي‏.‏

ويقال‏‏ إن زيداً مكث مصلوباً أربع سنين، ثم أنزل بعد ذلك وأحرق، فالله أعلم‏.‏

وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري‏‏ أن يوسف بن عمر لم يعلم بشيء من ذلك حتى كتب له هشام بن عبد الملك‏‏ إنك لغافل، وإن زيد بن علي غارز ذنبه بالكوفة يبايع له، فألح في طلبه وأعطه الأمان، وإن لم يقبل فقاتله‏.‏

فتطلبه يوسف حتى كان من أمره ما تقدم، فلما ظهر على قبره حز رأسه وبعثه إلى هشام، وقام من بعده الوليد بن يزيد فأمر به فأنزل وحرق في أيامه، قبح الله الوليد بن يزيد‏.‏

فأما ابنه يحيى بن زيد بن علي فاستجار بعبد الملك بن بشر بن مروان، فبعث إليه يوسف بن عمر يتهدده حتى يحضره‏.‏

فقال له عبد الملك بن بشر‏‏ ما كنت لآوي مثل هذا الرجل وهو عدونا وابن عدونا‏.‏

فصدقه يوسف بن عمر في ذلك، ولما هدأ الطلب عنه سيَّره إلى خراسان فخرج يحيى بن زيد في جماعة من الزيدية إلى خراسان فأقاموا بها هذه المدة‏.‏

قال أبو مخنف‏‏ ولما قتل زيد خطب يوسف بن عمر أهل الكوفة فتهددهم وتوعدهم وشتمهم‏.‏

وقال لهم فيما قال‏‏ والله لقد استأذنت أمير المؤمنين في قتل خلق منكم، ولو أذن لي لقتلت مقاتلكم وسبيت ذراريكم، وما صعدت لهذا المنبر إلا لأسمعكم ما تكرهون‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال ابن جرير‏‏ وفي هذه السنة قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم، ولم يزد ابن جرير على هذا، وقد ذكر هذا الرجل الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير فقال‏‏

عبد الله أبو يحيى المعروف‏‏ بالبطال

كان ينزل إنطاكية، حكى عنه أبو مروان الأنطاكي، ثم روى بإسناده أن عبد الملك بن مروان حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم، ولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطال، وقال لابنه‏‏ سيره على طلائعك، وأمره فليعس بالليل العسكر، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع‏.‏

وخرج معهم عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق‏.‏

قال‏‏ فقدم مسلمة البطال على عشرة آلاف يكونون بين يديه ترساً من الروم أن يصلوا إلى جيش المسلمين‏.‏

قال محمد بن عائذ الدمشقي‏‏ ثنا الوليد بن مسلمة، حدثني أبو مروان، - شيخ من أهل إنطاكية - قال‏‏ كنت أغازي مع البطال وقد أوطأ الروم ذلاً‏.‏

قال البطال‏‏ فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له‏‏ خرجت في سرية ليلاً فدفعنا إلى قرية فقلت لأصحابي‏‏ أرخوا لجم خيلكم ولا تحركوا أحداً بقتل ولا بشيء حتى تستمكنوا من القرية ومن سكانها، ففعلوا وافترقوا في أزقتها‏.‏

فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له‏‏ لتسكتنَّ أو لأدفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره وقالت‏‏ خذه يا بطال، قال‏‏ فأخذته‏.‏

وروى محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن أبي مروان الأنطاكي، عن البطال، قال‏‏ انفردت مرة ليس معي أحد من الجند، وقد سمطت خلفي مخلاة فيها شعير، ومعي منديل فيه خبز وشواء، فبينا أنا أسير لعلي ألقى أحداً منفرداً، أو أطلع على خبر، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة، فنزلت و أكلت من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فأخذني إسهال عظيم قمت منه مراراً‏.‏

فخفت أن أضعف من كثرة الإسهال، فركبت فرسي والإسهال مستمر على حاله، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب، وأفرط بي الإسهال في السير حتى خشيت أن أسقط من الضعف، فأخذت بعنان الفرس ونمت على وجهي لا أدري أين يسير الفرس بي‏.‏

فلم أشعر إلا بقرع نعاله على بلاط، فأرفع رأسي فإذا دير، وإذا قد خرج منه نسوة صحبة امرأة حسناء جميلة جداً، فجعلت تقول بلسانها‏‏ أنزلنه، فأنزلنني فغسلن عني ثيابي وسرجي وفرسي، ووضعنني على سرير وعملن لي طعاماً وشراباً، فمكثت يوماً وليلة مستوياً، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى ترد إلي حالي‏.‏

فبينا أنا كذلك إذ أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي فحول وعلق على الباب الذي أنا فيه، وإذا هو بطريق كبير فيهم، وهو إنما جاء لخطبتها، فأخبره من كان هنالك بأن هذا البيت فيه رجل وله فرس، فهمَّ بالهجوم عليَّ فمنعته المرأة من ذلك، وأرسلت تقول له‏‏ إن فتح عليه الباب لم أقض حاجته، فثناه ذلك عن الهجوم عليَّ، وأقام البطريق إلى آخر النهار في ضيافتهم، ثم ركب فرسه وركب معه أصحابه وانطلق‏.‏

‏‏ ‏‏ قال البطال‏‏ فنهضت في أثرهم فهمَّت أن تمنعني خوفاً عليَّ منهم فلم أقبل، وسقت حتى لحقتهم، فحملت عليه فانفرج عنه أصحابه، وأراد الفرار فألحقه فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطاً على فرسي، ورجعت إلى الدير، فخرجن إلي ووقفن بين يدي، فقلت‏‏ اركبن، فركبن ما هنالك من الدواب وسقت بهن حتى أتيت أمير الجيش فدفعتهن إليه، فنفلني ما شئت منهن، فأخذت تلك المرأة الحسناء بعينها، فهي أم أولادي‏.‏

والبطريق في لغة الروم‏‏ عبارة عن الأمير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقاً كبيراً فيهم - يعني‏‏ تلك المرأة - وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها ويهاديه‏.‏

وذكر أن عبد الملك بن مروان لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض الروم، فغاب عنه خبرها فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على فرس له وصار حتى وصل عمورية، فطرق بابها ليلاً، فقال له البواب‏‏ من هذا‏؟‏

قال البطال‏‏ فقلت أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ لي طريقاً إليه، فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير فجلست معه على السرير إلى جانبه، ثم قلت له‏‏ إني قد جئتك في رسالة فمر هؤلاء فلينصرفوا، فأمر من عنده فذهبوا‏.‏

قال‏‏ ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه، ثم جاء فجلس مكانه، فاخترطت سيفي وضربت به رأسه صفحاً‏.‏

وقلت له‏‏ أنا البطال فأصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة، فأخبرني ما خبرها‏.‏

فقال‏‏ هم في بلادي ينتهبون ما تهيأ لهم، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد صدقتك‏.‏

فقلت‏‏ هات الأمان، فأعطاني الأمان‏.‏

فقلت‏‏ إيتني بطعام، فأمر أصحابه فجاؤوا بطعام فوضع لي، فأكلت فقمت لأنصرف‏.‏

فقال لأصحابه‏‏ اخرجوا بين يدي رسول الملك، فانطلقوا يتعادون بين يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر فإذا أصحابي هنالك، فأخذتهم ورجعت إلى المصيصة‏.‏ فهذا أغرب ما جرى‏.‏

قال الوليد‏‏ وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته، وكان قد شغل بالجهاد عن الحج، وكان يسأل الله دائماً الحج ثم الشهادة، فلم يتمكن من حجة الإسلام إلا في السنة التي استشهد فيها رحمه الله تعالى‏.‏

وكان سبب شهادته أن اليون ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة ألف فارس، فبعث البطريق - الذي‏‏ البطال متزوج بابنته التي ذكرنا أمرها - إلى البطال يخبره بذلك، فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين بذلك، وكان الأمير مالك بن شبيب‏.‏

وقال له‏‏ المصلحة تقتضي أن نتحصن في مدينة حران، فنكون بها حتى يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية‏.‏

فأبى عليه ذلك ودهمهم الجيش، فاقتتلوا قتالاً شديداً والأبطال تحوم بين يدي البطال ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه خوفاً عليه من الروم‏.‏

فاتفق أن ناداه بعضهم وذكر اسمه غلطاً منه، فلما سمع ذلك فرسان الروم حملوا عليه حملة واحدة، فاقتلعوه من سرجه برماحهم فألقوه إلى الأرض، ورأى الناس يقتلون ويأسرون، وقتل الأمير الكبير مالك بن شبيب، وانكسر المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب فتحصنوا فيها‏.‏

وأصبح ليون فوقف على مكان المعركة فإذا البطال بآخر رمق، فقال له ليون‏‏ ما هذا يا أبا يحيى‏؟‏

فقال‏‏ هكذا تقتل الأبطال‏.‏

فاستدعى ليون بالأطباء ليداووه فإذا جراحه قد وصلت إلى مقاتله‏.‏

فقال له ليون‏‏ هل من حاجة يا أبا يحيى‏؟‏

قال‏‏ نعم، فأمر من معك من المسلمين أن يلوا غسلي والصلاة علي ودفني‏.‏

ففعل الملك ذلك وأطلق لأجل ذلك أولئك الأسارى‏.‏

وانطلق ليون إلى جيش المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم، فبينما هم في تلك الشدة والحصار إذ جائتهم البرد بقدوم سليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية، ففر ليون في جيشه الخبيث هارباً راجعاً إلى بلاده، قبحه الله، فدخل القسطنطينية وتحصن بها‏.‏

قال خليفة بن خياط‏‏ كانت وفاة البطال ومقتله بأرض الروم في سنة إحدى وعشرين ومائة‏.‏

وقال ابن جرير‏‏ في سنة ثنتين وعشرون ومائة‏.‏

وقال ابن حسان الزيادي‏‏ قتل في سنة ثلاث عشرة ومائة‏.‏

وقيل‏‏ قد قال غيره‏‏ وإنه قتل هو والأمير عبد الوهاب بن بخت في سنة ثلاث عشر ومائة كما ذكرنا ذلك، فالله أعلم، ولكن ابن جرير لم يؤرخ وفاته إلا في هذه السنة، فالله أعلم‏.‏

قلت‏‏ فهذا ملخص ابن عساكر في ترجمة البطال مع تفصيلة للأخبار واطلاعه عليها، وأما ما يذكره العامة عن البطال من السيرة المنسوبة إلى دلهمة والبطال والأمير عبد الوهاب والقاضي عقبة، فكذب وافتراء ووضع بارد، وجهل وتخبط فاحش، لا يروج ذلك إلا على غبي أو جاهل ردي‏.‏

كما يروج عليهم سيرة عنترة العبسي المكذوبة، وكذلك سيرة البكري والدنف وغير ذلك، والكذب المفتعل في سيرة البكري أشد إثماً وأعظم جرماً من غيرها، لأن واضعها يدخل في قول النبي صلى الله عليه و سلم‏‏ ‏‏‏‏من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار‏‏‏‏‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏‏

 إياس الذكي

وهو إياس بن معاوية بن مرة بن إياس بن هلال بن رباب بن عبيد بن دريد بن أوس بن سواه بن عمرو بن سارية بن ثعلبة بن ذبيان بن ثعلبة بن أوس بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هكذا نسبه خليفة بن خياط، وقيل غير ذلك في نسبه‏.‏

‏‏ ‏‏ وهو أبو واثلة المزني قاضي البصرة، وهو تابعي، ولجده صحبة، وكان يضرب المثل بذكائه‏.‏

روى عن‏‏ أبيه، عن جده، مرفوعاً في الحياء، وعن أنس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ونافع، وأبي مجلز‏.‏

وعنه‏‏ الحمادان، وشعبة، والأصمعي، وغيرهم‏.‏

قال عنه محمد بن سيرين‏‏ إنه لفهمٌ إنه لفهمٌ‏.‏

وقال محمد بن سعد والعجلي وابن معين والنسائي‏‏ ثقة‏.‏

زاد ابن سعد‏‏ وكان عاقلاً من الرجال فطناً‏.‏

وزاد العجلي‏‏ وكان فقيهاً عفيفاً‏.‏

وقدم دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، ووفد على عمر بن عبد العزيز، ومرة أخرى حين عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة‏.‏

قال أبو عبيدة وغيره‏‏ تحاكم إياس وهو صبي شاب وشيخ إلى قاضي عبد الملك بن مروان بدمشق، فقال له القاضي‏‏ إنه شيخ وأنت شاب فلا تساوه في الكلام‏.‏

فقال إياس‏‏ إن كان كبيراً فالحق أكبر منه‏.‏

فقال له القاضي‏‏ اسكت‏.‏

فقال‏‏ ومن يتكلم بحجتي إذا سكت‏؟‏

فقال القاضي‏‏ ما أحسبك تنطق بحق في مجلسي هذا حتى تقوم‏.‏

فقال إياس‏‏ أشهد أن لا إله إلا الله، زاد غيره‏.‏

فقال القاضي‏‏ ما أظنك إلا ظالماً له‏.‏

فقال‏‏ ما على ظن القاضي خرجت من منزلي‏.‏

فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره خبره فقال‏‏ اقض حاجته وأخرجه الساعة من دمشق لا يفسد على الناس‏.‏

وقال بعضهم‏‏ لما عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة فرَّ منه إلى عمر بن عبد العزيز فوجده قد مات، فكان يجلس في حلقة في جامع دمشق، فتكلم رجل من بني أمية فرد عليه إياس، فأغلط له الأموي فقام إياس، فقيل للأموي‏‏ هذا إياس بن معاوية المزني، فلما عاد من الغد اعتذر له الأموي وقال‏‏ لم أعرفك، وقد جلست إلينا بثياب السوقة وكلمتنا بكلام الأشراف فلم نحتمل ذلك‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏‏ حدثنا نعيم بن حماد، ثنا ضمرة، عن أبي شوذب، قال‏‏ كان يقال‏‏ يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم‏.‏

وقال العجلي‏‏ دخل على إياس ثلاث نسوة فلما رآهن قال‏‏ أما إحداهن فمرضع، والأخرى بكر، والأخرى ثيب، فقيل له‏‏ بم علمت هذا‏؟‏

فقال‏‏ أما المرضع فكلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فكلما دخلت لم تلتفت إلى أحد، وأما الثيب فكلما دخلت نظرت ورمت بعينها‏.‏

وقال يونس بن صعلب‏‏ ثنا الأحنف بن حكيم بأصبهان، ثنا حماد بن سلمة، سمعت إياس بن معاوية، يقول‏‏ أعرف الليلة التي ولدت فيها، وضعت أمي على رأسي جفنة‏.‏

وقال المدائني‏‏ قال إياس بن معاوية لأمه‏‏ ما شيء سمعتيه وأنت حامل بي وله جلبة شديدة‏؟‏

قالت‏‏ ذاك طست من نحاس سقط من فوق الدار إلى أسفل، ففزعت فوضعتك تلك الساعة‏.‏

وقال أبو بكر الخرائطي‏‏ عن عمر بن شيبة النميري، قال‏‏ بلغني أن إياساً قال‏‏ ما يسرني أن أكذب كذبة يطلع عليها أبي معاوية‏.‏

وقال‏‏ ما خاصمت أحداً من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، قلت لهم‏‏ أخبروني عن الظلم ما هو‏؟‏

قالوا‏‏ أخذ الإنسان ما ليس له‏.‏

قلت‏‏ فإن الله له كل شيء‏.‏

قال بعضهم‏‏ عن إياس، قال‏‏ كنت في الكتاب وأنا صبي فجعل أولاد النصارى يضحكون من المسلمين ويقولون‏‏ إنهم يزعمون أنه لا فضلة لطعام أهل الجنة، فقلت للفقيه - وكان نصرانياً - ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن‏؟‏

قال‏‏ بلى‏.‏

قلت‏‏ فما ينكر أن يجعل الله طعام أهل الجنة كله غذاء لأبدانهم‏؟‏

فقال له معلمه‏‏ ما أنت إلا شيطان‏.‏

‏‏ ‏‏

وهذا الذي قاله إياس وهو صغير بعقله قد ورد به الحديث الصحيح كما سنذكره إن شاء الله في أهل الجنة أن طعامهم ينصرف جشاء وعرقاً كالمسك، فإذا البطن ضامر‏.‏

وقال سفيان‏‏ وحين قدم إياس واسط فجاءه ابن شبرمة بمسائل قد أعدها، فقال له‏‏ أتأذن لي أن أسألك‏؟‏

قال‏‏ سل‏.‏

وقد ارتبت حين استأذنت، فسأله عن سبعين مسألة يجيبه فيها، ولم يختلفا إلا في أربع مسائل، رده إياس إلى قوله‏.‏

ثم قال له إياس‏‏ أتقرأ القرآن‏؟‏

قال‏‏ نعم ‏!‏

قال‏‏ أتحفظ قوله‏‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏} ‏[‏المائدة‏‏ ‏]‏‏؟‏

قال‏‏ نعم ‏!‏

قال‏‏ وما قبلها وما بعدها‏؟‏

قال‏‏ نعم ‏!‏

قال‏‏ فهل أبقت هذه الآية لآل شبرمة رأياً‏؟‏

وقال عباس‏‏ عن يحيى بن معين، حدثنا سعيد بن عامر بن عمر بن علي، قال‏‏ قال رجل لإياس بن معاوية‏‏ يا أبا واثلة حتى متى يبقى الناس‏؟‏ وحتى متى يتوالد الناس ويموتون‏؟‏

فقال لجلسائه‏‏ أجيبوه‏.‏

فلم يكن عندهم جواب‏.‏

فقال إياس‏‏ حتى تتكامل العدتان‏‏ عدة أهل الجنة، وعدة أهل النار‏.‏

وقال بعضهم‏‏ اكترى إياس بن معاوية من الشام قاصداً الحج، فركب معه في المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثاً لا يكلم أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينها في الاعتقاد في القدر‏.‏

فقال له إياس‏‏ هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة‏‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏‏ ‏]‏

ويقول أهل النار‏‏ ‏{‏رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏‏ ‏]‏

وتقول الملائكة‏‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏‏ ‏]‏

ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه إثبات القدر، ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن عبد العزيز فناظر بينهما فقهره إياس، ومازال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذباً، فاستجاب الله منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏

ومن كلام إياس الحسن‏‏ لأن يكون في فعال الرجال فضل عن مقاله خير من أن يكون في مقاله فضل عن فعاله‏.‏

وقال سفيان بن حسين‏‏ ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي، وقال‏‏ أغزوت الروم‏؟‏

قلت‏‏ لا ‏!‏

قال‏‏ السند والهند والترك‏؟‏

قلت‏‏ لا‏.‏

قال‏‏ أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم‏؟‏ ‏‏ ‏‏

قال‏‏ فلم أعد بعدها‏.‏

وقال الأصمعي، عن أبيه‏‏ رأيت إياس بن معاوية في بيت ثابت البناني، وإذا هو أحمر طويل الذراع غليظ الثياب، يلون عمامته، وهو قد غلب على الكلام فلا يتكلم معه أحد إلا علاه‏.‏

وقد قال له بعضهم‏‏ ليس فيك عيب سوى كثرة كلامك‏.‏

فقال‏‏ بحق أتكلم أم بباطل‏؟‏

فقيل‏‏ بل بحق‏.‏

فقال‏‏ كلما كثر الحق فهو خير‏.‏

ولامه بعضهم في لباسه الثياب الغليظ فقال‏‏ إنما ألبس ثوباً يخدمني ولا ألبس ثوباً أخدمه‏.‏

وقال الأصمعي‏‏ قال إياس بن معاوية‏‏ إن أشرف خصال الرجل صدق اللسان، ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه‏.‏

وقال بعضهم‏‏ سأل رجل إياساً عن النبيذ فقال‏‏ هو حرام‏.‏

فقال الرجل‏‏ فأخبرني عن الماء‏؟‏ فقال‏‏ حلال‏.‏

قال‏‏ فالكسور، قال‏‏ حلال‏.‏

قال‏‏ فالتمر، قال‏‏ حلال‏.‏

قال‏‏ فما باله إذا اجتمع حرم‏؟‏

فقال إياس‏‏ أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك‏؟‏ قال‏‏ لا‏.‏

قال‏‏ فهذه الحفنة من التبن‏؟‏ قال‏‏ لا توجعني‏.‏

قال‏‏ فهذه الغرفة من الماء‏؟‏ قال‏‏ لا توجعني شيئاً‏.‏

قال‏‏ أفرأيت إن خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طيناً ثم تركته حتى استحجر ثم رميتك أيوجعك‏؟‏ قال‏‏ أي والله وتقتلني‏.‏

قال‏‏ فكذلك تلك الأشياء إذا اجتمعت‏.‏

وقال المدائني‏‏ بعث عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطأة على البصرة نائباً وأمره أن يجمع بين إياس والقاسم بن ربيعة الجوشني، فأيهما كان أفقه فليوله القضاء‏.‏

فقال إياس وهو يريد أن لا يتولى‏‏ أيها الرجل سل فقيهي البصرة‏‏ الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما، فعرف القاسم أنه إن سألهما أشارا به - يعني‏‏ بالقاسم - لأنه كان يأيتيهما‏.‏

فقال القاسم لعدي‏‏ والله الذي لا إله إلا هو إن إياساً أفضل مني وأفقه مني، وأعلم بالقضاء، فإن كنت صادقاً فولِّه، وإن كنت كاذباً فما ينبغي أن تولي كاذباً القضاء‏.‏

فقال إياس‏‏ هذا رجل أوقف على شفير جهنم فافتدى منها بيمين كاذبة يستغفر الله‏.‏

فقال عدي‏‏ أما إذ فطنت إلى هذا فقد وليتك القضاء‏.‏

فمكث سنة يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وإذا تبين له الحق حكم به، ثم هرب إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه القضاء، فولى عدي بعده الحسن البصري‏.‏

قالوا‏‏ لما تولى إياس القضاء بالبصرة فرح به العلماء حتى قال أيوب‏‏ لقد رموها بحجرها‏.‏

وجاءه الحسن وابن سيرين فسلما عليه، فبكى إياس وذكر الحديث‏‏ ‏‏‏‏القضاة ثلاثة‏‏ قاضيان في النار وواحد في الجنة‏‏‏‏‏.‏

فقال الحسن‏‏ ‏{‏وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ‏}‏ إلى قوله‏‏ ‏{‏وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏‏ -‏]‏‏.‏

قالوا‏‏ ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضية، حتى كان يشبه بشريح القاضي‏.‏

‏‏ ‏‏

وروي أنه كان إذا أشكل عليه شيء بعث إلى محمد بن سيرين فسأله منه‏.‏

وقال إياس‏‏ إني لأكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما عقلي كله‏.‏

وقال له رجل‏‏ إنك لتعجب برأيك، فقال‏‏ لولا ذلك لم أقض به‏.‏

وقال له آخر‏‏ إن فيك خصالاً لا تعجبني‏.‏

فقال‏‏ ما هي‏؟‏

فقال‏‏ تحكم قبل أن تفهم، ولا تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة‏.‏

فقال له‏‏ أيها أكثر الثلاثة أو الاثنان‏؟‏

قال‏‏ الثلاثة‏.‏

فقال‏‏ ما أسرع ما فهمت وأجبت‏.‏

فقال‏‏ أو يجهل هذا أحد‏؟‏

فقال‏‏ وكذلك ما أحكم أنا به، وأما مجالستي لكل أحد فلأن أجلس مع من يعرف لي قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي قدري، وأما الثياب الغلاظ فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا‏.‏

قالوا‏‏ وتحاكم إليه اثنان فادَّعى أحدهما عند الآخر مالاً، وجحده الآخر، فقال إياس للمودع‏‏ أين أودعته‏؟‏

قال‏‏ عند شجرة في بستان‏.‏

فقال‏‏ انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر‏.‏

وفي رواية‏‏ أنه قال له‏‏ هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورق منها‏؟‏

قال‏‏ نعم ‏!‏

قال‏‏ فانطلق، وجلس الآخر فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم استدعاه فقال له‏‏ أوصل صاحبك بعد إلى المكان‏؟‏

فقال‏‏ لا بعد أصلحك الله‏.‏

فقال له‏‏ قم يا عدو الله فأدِّ إليه حقه وإلا جعلتك نكالاً‏.‏

وجاء ذلك الرجل فقام معه فدفع إليه وديعته بكمالها‏.‏

وجاء آخر فقال له‏‏ إني أودعت عند فلان مالاً وقد جحدني‏.‏

فقال له‏‏ اذهب الآن وائتني غداً‏.‏

وبعث من فوره إلى ذلك الرجل الجاحد فقال له‏‏ إنه قد اجتمع عندنا ههنا مال فلم نر له أميناً نضعه عنده إلا أنت، فضعه عندك في مكان حريز‏.‏

فقال له‏‏ سمعاً وطاعةً‏.‏

فقال له‏‏ اذهب الآن وائتني غداً‏.‏

وأصبح وذلك الرجل صاحب الحق فجاء فقال له‏‏ اذهب الآن إليه، فقل له‏‏ أعطني حقي وإلا رفعتك إلى القاضي‏.‏

فقال له ذلك فخاف أن لا يودع إذا سمع الحاكم خبره، فدفع إليه ماله بكماله، فجاء إلى إياس فأعلمه، ثم جاء ذلك الرجل من الغد رجاء أن يودع فانتهره إياس وطرده، وقال له‏‏ أنت خائن‏.‏

وتحاكم إليه اثنان في جارية فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل‏.‏

فقال لها إياس‏‏ أي رجليك أطول‏؟‏

فقالت‏‏ هذه‏.‏

فقال لها‏‏ أتذكرين ليلة ولدت‏؟‏

فقالت‏‏ نعم‏.‏

فقال للبائع‏‏ رد رد‏.‏

وروى ابن عساكر‏‏ أن إياساً سمع صوت امرأة من بيتها فقال‏‏ هذه امرأة حامل بصبي، فلما ولدت ولدت كما قال، فسئل‏‏ بم عرفت‏؟‏ قال‏‏ سمعت صوتها ونفسها معه فعلمت أنها حامل، وفي صوتها ضحل فعلمت أنه غلام‏.‏

قالوا‏‏ ثم مر يوماً ببعض المكاتب فإذا صبي هنالك، فقال‏‏ إن كنت أدري شيئاً فهذا الصبي ابن تلك المرأة، فإذا هو ابنها‏.‏

وقال مالك‏‏ عن الزهري، عن أبي بكر، قال‏‏ شهد رجل عند إياس فقال له‏‏ ما اسمك‏؟‏

فقال‏‏ أبو العنفر، فلم يقبل شهادته‏.‏

وقال الثوري‏‏ عن الأعمش‏‏ دعوني إلى إياس فإذا رجل كلما فرغ من حديث أخذ في آخر‏.‏

وقال إياس‏‏ كل رجل لا يعرف عيب نفسه فهو أحمق، فقيل له‏‏ ما عيبك‏؟‏ فقال‏‏ كثرة الكلام‏.‏

‏‏ ‏‏قالوا‏‏ ولما ماتت أمه بكى عليها فقيل له في ذلك، فقال‏‏ كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما‏.‏

وقال له أبوه‏‏ إن الناس يلدون أبناء وولدت أنا أباً‏.‏

وكان أصحابه يجلسون حوله ويكتبون عنه الفراسة، فبينما هم حوله جلوس إذ نظر إلى رجل قد جاء فجلس على دكة حانوت، وجعل كلما مر أحد ينظر إليه، ثم قام فنظر في وجه الرجل ثم عاد، فقال لأصحابه‏‏ هذا فقيه كتاب قد أبق له غلام أعور فهو يتطلبه‏.‏

فقاموا إلى ذلك الرجل فسألوه فوجدوه كما قال إياس‏.‏

فقالوا لإياس‏‏ من أين عرفت ذلك‏؟‏

فقال‏‏ لما جلس على دكة الحانوت علمت أنه ذو ولاية، ثم نظرت فإذا هو لا يصلح إلا لفقهاء المكتب، ثم جعل ينظر إلى كل من مر به فعرفت أنه قد فقد غلاماً، ثم لما قام فنظر إلى وجه ذلك الرجل من الجانب الآخر، عرفت أن غلامه أعور‏.‏

وقد أورد ابن خلكان أشياء كثيرة في ترجمته، من ذلك أنه شهد عنده رجل في بستان فقال له‏‏ كم عدد أشجاره‏؟‏

فقال له‏‏ كم عدد جذوع هذا المجلس الذي أنت فيه من مدة سنين‏؟‏

فقلت‏‏ لا أدري وأقررت شهادته‏.‏

 

 

ثم دخلت سنة ثلاث عشرين ومائة

ذكر المدائني عن شيوخه‏‏ أن خاقان ملك الترك لما قتل في ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان، تفرق شمل الأتراك، وجعل بعضهم يغير على بعض، وبعضهم يقتل بعضاً، حتى كادت أن تخرب بلادهم، واشتغلوا عن المسلمين‏.‏

وفيها سأل أهل الصغد من أمير خراسان نصر بن سيار أن يردهم إلى بلادهم، وسألوه شروطاً أنكرها العلماء، منها‏‏ أن لا يعاقب من ارتد منهم عن الإسلام، ولا يؤخذ أسير المسلمين منهم، وغير ذلك، فأراد أن يوافقهم على ذلك لشدة نكايتهم في المسلمين، فعاب عليه الناس ذلك‏.‏

فكتب إلى هشام في ذلك فتوقف، ثم رأى أن هؤلاء إذا استمروا على معاندتهم للمسلمين كان ضررهم أشد، أجابهم إلى ذلك‏.‏

وقد بعث يوسف بن عمر أمير العراق وفداً إلى أمير المؤمنين يسأل منه أن يضم إليه نيابة خراسان، وتكلموا في نصر بن سيار بأنه وإن كان شهماً شجاعاً، إلا أنه قد كبر وضعف بصره فلا يعرف الرجل إلا من قريب بصوته، وتكلموا فيه كلاماً كثيراً، فلم يلتفت إلى ذلك هشام، واستمر به على إمرة خراسان وولايتها‏.‏

قال ابن جرير‏‏ وحج بالناس فيها يزيد بن هشام بن عبد الملك‏.‏

والعمال فيها من تقدم ذكرهم في التي قبلها‏.‏

 وتوفي في هذه السنة‏‏

ربيعة بن يزيد القصير

من أهل دمشق

وأبو يونس سليمان بن جبير

وسماك بن حرب

ومحمد بن واسع بن حيان

وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل، ولله الحمد‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال محمد بن واسع‏‏ أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة‏.‏

وقال‏‏ خمس خصال تميت القلب‏‏ الذنب على الذنب، ومجالسة الموتى‏.‏

قيل له‏‏ ومن الموتى‏؟‏

قال‏‏ كل غني مترف، وسلطان جائر‏.‏ وكثرة مشاقة النساء، وحديثهن، ومخالطة أهله‏.‏

‏‏ ‏‏

وقال مالك بن دينار‏‏ إني لأغبط الرجل يكون عيشه كفافاً فيقنع به‏.‏

فقال محمد بن واسع‏‏ أغبط منه والله عندي من يصبح جائعاً وهو عن الله راض‏.‏

وقال‏‏ ما آسى عن الدنيا إلا على ثلاث‏‏ صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة، ولا لله علي فيه تبعة‏.‏

وروى رواد بن الربيع قال‏‏ رأيت محمد بن واسع بسوق بزور وهو يعرض حماراً له للبيع، فقال له رجل‏‏ أترضاه لي‏؟‏

فقال‏‏ لو رضيته لم أبعه‏.‏

ولما ثقل محمد بن واسع كثر عليه الناس في العيادة، قال بعض أصحابه‏‏ فدخلت عليه فإذا قوم قعود وقوم قيام‏.‏

فقال‏‏ ماذا يغني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غداً وألقيت في النار ‏؟‏‏!‏

وبعث بعض الخلفاء مالاً مستكثراً إلى البصرة ليفرق في فقراء أهلها، وأمر أن يدفع إلى محمد بن واسع منه فلم يقبله ولم يلتمس منه شيئاً، وأما مالك بن دينار فإنه قبل ما أمر له به، واشترى به أرقاء وأعتقهم ولم يأخذ لنفسه منه شيئاً، فجاءه محمد بن واسع يلومه على قبوله جوائز السلطان‏.‏

فقال له‏‏ يا مالك قبلت جوائز السلطان‏؟‏

فقال له مالك‏‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ سل أصحابي ماذا فعلت منه‏؟‏

فقالوا له‏‏ إنه اشترى به أرقاء وأعتقهم‏.‏

فقال له‏‏ سألتك بالله أقلبك الآن لهم مثل ما كان قبل أن يصلوك‏؟‏

فقام مالك وحثى على رأسه التراب وقال‏‏ إنما يعرف الله محمد بن واسع، إنما مالك حمار، إنما مالك حمار‏.‏

وكلام محمد بن واسع كثير جداً رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة

فيها غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك بلاد الروم، فلقي ملك الروم اليون فقاتله فسلم سليمان وغنم‏.‏

وفيها قدم جماعة من دعاة بني العباس من بلاد خراسان قاصدين إلى مكة، فمروا بالكوفة فبلغهم أن في السجن جماعة من الأمراء من نواب خالد القسري، قد حبسهم يوسف بن عمر، فاجتمعوا بهم في السجن فدعوهم إلى البيعة لبني العباس، وإذا عندهم من ذلك جانب كبير، فقبلوا منهم‏.‏

ووجدوا عندهم في السجن أبا مسلم الخراساني، وهو إذ ذاك غلام يخدم عيسى بن مقبل العجلي، وكان محبوساً فأعجبهم شهامته وقوته واستجابته مع مولاه إلى هذا الأمر، فاشتراه بكر بن ماهان منه بأربعمائة درهم وخرجوا به معهم فاستندبوه لهذا الأمر، فكانوا لا يوجهونه إلى مكان إلا ذهب ونتج ما يوجهونه إليه، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما بعد‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال الواقدي‏‏ ومات في هذه السنة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، و هو الذي يدعو إليه دعاة بني العباس، فقام مقامه ولده أبو العباس السفاح، والصحيح أنه إنما توفي في التي بعدها‏.‏

قال الواقدي وأبو معشر‏‏ وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ومعه امرأته أم مسلم بن هشام بن عبد الملك‏.‏

وقيل‏‏ إنما حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل قاله الواقدي، والأول ذكره ابن جرير، والله أعلم‏.‏

وكان نائب الحجاز محمد بن هشام بن إسماعيل يقف على باب أم مسلم ويهدي إليها الألطاف والتحف، ويعتذر إليها من التقصير وهي لا تلتفت إلى ذلك‏.‏

ونواب البلاد هم المذكورين في التي قبلها‏.‏

 وفيها توفي‏‏

 القاسم بن أبي بزة

أبو عبد الله المكي القارئ، مولى عبد الله بن السائب، تابعي جليل‏.‏

روى عن‏‏ أبي الطفيل عامر بن واثلة، وعنه جماعة، ووثقه الأئمة‏.‏

توفي في هذه السنة على الصحيح، وقيل‏‏ بعدها بسنة، وقيل‏‏ سنة أربع عشرة، وقيل‏‏ سنة خمس عشرة، فالله أعلم‏.‏

 الزهري

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري، أحد الأعلام من أئمة الإسلام، تابعي جليل، سمع غير واحد من التابعين وغيرهم‏.‏

روى الحافظ ابن عساكر، عن الزهري، قال‏‏ أصاب أهل المدينة جهد شديد فارتحلت إلى دمشق، وكان عندي عيال كثيرة‏.‏

فجئت جامعها فجلست في أعظم حلقة، فإذا رجل قد خرج من عند أمير المؤمنين عبد الملك، فقال‏‏ إنه قد نزل بأمير المؤمنين مسألة - وكان قد سمع من سعيد بن المسيب فيها شيئاً، وقد شذَّ عنه في أمهات الأولاد يرويه عن عمر بن الخطاب -‏.‏

‏‏ ‏‏ فقلت‏‏ إني أحفظ عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، فأخذني فأدخلني على عبد الملك‏‏ فسألني ممن أنت‏؟‏

فانتسبت له، وذكرت له حاجتي وعيالي، فسألني هل تحفظ القرآن‏؟‏

قلت‏‏ نعم، والفرائض والسنن‏.‏

فسألني عن ذلك كله فأجبته، فقضى ديني وأمر لي بجائزة، وقال لي‏‏ أطلب العلم فإني أرى لك عيناً حافظةً وقلباً ذكياً‏.‏

قال‏‏ فرجعت إلى المدينة أطلب العلم وأتتبعه، فبلغني أن امرأة بقباء رأت رؤيا عجيبة، فأتيتها فسألتها عن ذلك‏.‏

فقالت‏‏ إن بعلي غاب وترك لنا خادماً وداجناً ونخيلات، نشرب من لبنها، ونأكل من ثمرها، فبينما أنا بين النائمة واليقظى رأيت كأن ابني الكبير - وكان مشتداً - قد أقبل فأخذ الشفرة فذبح ولد الداجن، وقال‏‏ إن هذا يضيق علينا اللبن، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فيه، ثم أخذ الشفرة فذبح بها أخاه، وأخوه صغير كما قد جاء‏.‏

ثم استيقظت مذعورة، فدخل ولدي الكبير فقال‏‏ أين اللبن‏؟‏

فقلت‏‏ يا بني، شربه ولد الداجن‏.‏

فقال‏‏ إنه قد ضيق علينا اللبن، ثم أخذ الشفرة فذبحه وقطعه في القدر‏.‏

فبقيت مشفقة خائفة مما رأيت، فأخذت ولدي الصغير فغيبته في بعض بيوت الجيران، ثم أقبلت إلى المنزل وأنا مشفقة جداً مما رأيت‏.‏

فأخذتني عيني فنمت فرأيت في المنام قائلاً يقول‏‏ مالك مغتمة‏؟‏

فقلت‏‏ إني رأيت مناماً فأنا أحذر منه‏.‏

فقال‏‏ يا رؤيا يا رؤيا، فأقبلت امرأة حسناء جميلة، فقال‏‏ ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة‏؟‏ قالت‏‏ ما أدرت إلا خيراً‏.‏

ثم قال‏‏ يا أحلام يا أحلام، فأقبلت امرأة دونها في الحسن والجمال، فقال‏‏ ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة‏؟‏ فقالت‏‏ ما أردت إلا خيراً‏.‏

ثم قال‏‏ يا أضغاث يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة، فقال‏‏ ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة‏؟‏ فقالت‏‏ إنها امرأة صالحة فأحببت أن أغمها ساعة‏.‏

ثم استيقظت فجاء ابني فوضع الطعام وقال‏‏ أين أخي‏؟‏ فقلت‏‏ درج إلى بيوت الجيران، فذهب وراءه فكأنما هدي إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وجلسنا جميعاً فأكلنا من ذلك الطعام‏.‏

ولد الزهري في سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية، وكان قصيراً قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين‏.‏

قالوا‏‏ وقد قرأ القرآن في نحو من ثمان وثمانين يوماً، وجالس سعيد بن المسيب ثمان سنين، تمس ركبته ركبته، وكان يخدم عبيد الله بن عبد الله يستسقي له الماء المالح، ويدور على مشايخ الحديث، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الحديث، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم، حتى صار من أعلم الناس وأعملهم في زمانه، وقد احتاج أهل عصره إليه‏.‏

‏‏ ‏‏ وقال عبد الرزاق‏‏ أخبرنا معمر، عن الزهري، قال‏‏ كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين‏.‏

وقال أبو إسحاق‏‏ كان الزهري يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لكنة‏‏ ثنا عروة، ثنا فلان، ويسرد عليها ما سمعه منه، فتقول له الجارية‏‏ والله ما أدري ما تقول، فيقول لها‏‏ اسكتي لكاع، فإني لا أريدك إنما أريد نفسي‏.‏

ثم وفد على عبد الملك بدمشق كما تقدم فأكرمه وقضى دينه وفرض له في بيت المال، ثم كان بعد من أصحابه وجلسائه، ثم كان كذلك عند أولاده من بعده، الوليد وسليمان، وكذا عند عمر بن عبد العزيز، وعند يزيد بن عبد الملك، واستقضاه يزيد مع سليمان بن حبيب، ثم كان حظياً عند هشام، وحج معه وجعله معلم أولاده إلى أن توفي في هذه السنة، قبل هشام بسنة‏.‏

وقال ابن وهب‏‏ سمعت الليث، يقول‏‏ قال ابن شهاب‏‏ ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته‏.‏

قال‏‏ وكان يكره أكل التفاح، وسؤر الفأرة، ويقول‏‏ إنه ينسي‏.‏

وكان يشرب العسل ويقول‏‏ إنه يذكي‏.‏

وفيه يقول فايد بن أقرم‏‏

زر ذا وأثن على الكريم محمد * واذكر فواضله على الأصحاب

وإذا يقال من الجواد بماله * قيل‏‏ الجواد محمد بن شهاب

أهل المدائن يعرفون مكانه * وربيع ناديه على الأعراب

يشري وفاء جفانه ويمدها * بكسور إنتاج وفتق لباب

وقال ابن مهدي‏‏ سمعت مالكاً، يقول‏‏ حدث الزهري يوماً بحديث، فلما قام أخذت بلجام دابته فاستفهمته فقال‏‏ أتستفهمني‏؟‏ ما استفهمت عالماً قط، ولا رددت على عالم قط، ثم جعل ابن مهدي يقول‏‏ فتلك الطوال وتلك المغازي‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان، عن هشام بن خالد السلامي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد - يعني‏‏ ابن عبد العزيز -، أن هشام بن عبد الملك، سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئاً من حديثه، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدثهم بها، ثم إن هشاماً قال للزهري‏‏ إن ذلك الكتاب ضاع، فقال‏‏ لا عليك، فأملى عليهم تلك الأحاديث، فأخرج هشام الكتاب الأول فإذا هو لم يغادر حرفاً واحداً، وإنما أراد هشام امتحان حفظه‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏‏ ما رأيت أحداً أحسن سوقاً للحديث إذا حدث من الزهري‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏‏ عن عمرو بن دينار‏‏ ما رأيت أحداً أنص للحديث من الزهري، ولا أهون من الدينار والدرهم عنده، وما الدراهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزلة البعر‏.‏

قال عمرو بن دينار‏‏ ولقد جالست جابراً، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، فما رأيت أحداً أسيق للحديث من الزهري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏‏ أحسن الناس حديثاً وأجودهم إسناداً الزهري‏.‏

وقال النسائي‏‏ أحسن الأسانيد الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال سعيد، عن الزهري‏‏ مكثت خمساً وأربعين سنة اختلفت من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز، فما كنت أسمع حديثاً استطرفه‏.‏

وقال الليث‏‏ ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، ولو سمعته يحدث في الترغيب والترهيب لقلت‏‏ ما يحسن غير هذا، وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتاب قلت‏‏ لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الأعراب والأنساب قلت‏‏ لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه بدعاً جامعاً‏.‏

وكان يقول‏‏ اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك، وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة‏.‏

قال الليث‏‏ وكان الزهري أسخى من رأيت، يعطي كل من جاء وسأله، حتى إذا لم يبق عنده شيء استسلف‏.‏

وكان يطعم الناس الثريد، ويسقيهم العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول‏‏ اسقونا وحدثونا، فإذا نعس أحدهم يقول له‏‏ ما أنت من سمار قريش‏.‏

وكانت له قبة معصفرة، وعليه ملحفة معصفرة، وتحته بساط معصفر‏.‏

وقال الليث‏‏ قال يحيى بن سعيد‏‏ ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب‏.‏

وقال عبد الرزاق‏‏ أنبأ معمر، قال‏‏ قال عمر بن عبد العزيز‏‏ عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه، وكذا قال مكحول‏.‏

وقال أيوب‏‏ ما رأيت أحداً أعلم من الزهري، فقيل له‏‏ ولا الحسن‏؟‏ فقال‏‏ ما رأيت أعلم من الزهري‏.‏

وقيل لمكحول‏‏ من أعلم من لقيت‏؟‏ قال‏‏ الزهري، قيل‏‏ ثم من‏؟‏ قال‏‏ الزهري، قيل‏‏ ثم من‏؟‏ قال‏‏ الزهري‏.‏

وقال مالك‏‏ كان الزهري إذا دخل المدينة لم يحدث بها أحداً حتى يخرج‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة‏‏ محدثوا أهل الحجاز ثلاثة‏‏ الزهري، ويحيى بن سعيد، وابن جريج‏.‏

وقال علي بن المديني‏‏ الذين أفتوا أربعة‏‏ الزهري، والحكم، وحماد، وقتادة، والزهري أفقههم عندي‏.‏

وقال الزهري‏‏ ثلاثة إذا كن في القاضي فليس بقاض‏‏ إذا كره الملاوم، وأحب المحامد، وكره العزل‏.‏

وقال أحمد بن صالح‏‏ كان يقال‏‏ فصحاء زمانهم‏‏ الزهري، وعمر بن عبد العزيز، وموسى بن طلحة، وعبيد الله، رحمهم الله‏.‏

وقال مالك‏‏ عن الزهري، أنه قال‏‏ إن هذا العلم الذي أدب الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدب رسول الله به أمته أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علماً فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل‏.‏

وقال محمد بن الحسين‏‏ عن يونس، عن الزهري، قال‏‏ الاعتصام بالسنة نجاة‏.‏

وقال الوليد‏‏ عن الأوزاعي، عن الزهري، قال‏‏ أمرِّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏‏ عن الزهري‏‏ إن من غوائل العلم أن يترك العالم حتى يذهب علمه‏.‏

وفي رواية‏‏ أن يترك العالم العمل بالعلم حتى يذهب، فإن من غوائله قلة انتفاع العالم بعلمه، ومن غوائله النسيان والكذب، وهو أشد الغوائل‏.‏

وقال أبو زرعة‏‏ عن نعيم بن حماد، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال‏‏ القراءة على العالم والسماع عليه سواء إن شاء الله تعالى‏.‏

‏‏ ‏‏ وقال عبد الرزاق‏‏ عن معمر، عن الزهري، قال‏‏ إذا طال المجلس كان للشيطان فيه حظ ونصيب‏.‏

وقد قضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وفي رواية‏‏ سبعة عشرة ألفاً، وفي رواية‏‏ عشرين ألفاً‏.‏

وقال الشافعي‏‏ عتب رجاء بن حيوة على الزهري في الإسراف وكان يستدين، فقال له‏‏ لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم ما بأيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانيك، قال‏‏ فوعده الزهري أن يقصر، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فوقف به رجاء وقال‏‏ يا أبا بكر ما هذا بالذي فارقتنا عليه، فقال له الزهري‏‏ انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب‏.‏

وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى‏‏

له سحائب جود في أنامله * أمطارها الفضة البيضاء والذهب

يقول في العسر‏‏ إن أيسرت ثانية * أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب

حتى إذا عاد أيام اليسار له * رأيت أمواله في الناس تنتهب

وقال الواقدي‏‏ ولد الزهري سنة ثمان وخمسين، وقدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله بثلاث بشعب زبدا، فأقام بها فمرض هناك ومات وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق، وكانت وفاته لسبع عشرة من رمضان في هذه السنة، وهو ابن خمس وسبعين سنة‏.‏

قالوا‏‏ وكان ثقة كثير الحديث والعلم والرواية، فقيهاً جامعاً‏.‏

وقال الحسين بن المتوكل العسقلاني‏‏ رأيت قبر الزهري بشعب زبدا من فلسطين مسنماً مجصصاً‏.‏

وقد وقف الأوزاعي يوماً على قبره فقال‏‏

يا قبر كم فيك من علم ومن حلم * يا قبر كم فيك من علم ومن كرم * وكم جمعت روايات وأحكاماً‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏‏ توفي الزهري بأمواله بشعب ثنين، ليلة الثلاثاء لسبع عشر ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، عن ثنتين وسبعين سنة، ودفن على قارعة الطريق ليدعو له المارة‏.‏

وقيل‏‏ إنه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقال أبو معشر‏‏ سنة خمس وعشرين ومائة، والصحيح الأول، والله أعلم‏.‏

 فصل

وروى الطبراني، عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال‏‏ أخبرني صالح بن كيسان، قال‏‏ اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا‏‏ نحن نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لي‏‏ هلم فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت‏‏ إنه ليس بسنة فلا تكتب ، قال‏‏ فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنحج وضيعت‏.‏

‏‏ ‏‏ وروى الإمام أحمد‏‏ عن معمر، قال‏‏ كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته يقول‏‏ من علم الزهري‏.‏

وروي عن الليث بن سعد، قال‏‏ وضع الطست بين يدي ابن شهاب فتذكر حديثاً فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر، وصححه‏.‏

وروى أصبغ بن الفرج، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال‏‏ للعلم واد فإذا هبطت واديه فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك‏.‏

وقال الطبراني‏‏ حدثنا أحمد بن يحيى تغلب، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، عن مالك بن أنس، عن الزهري، قال‏‏ خدمت عبيد الله بن عتبة، حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول‏‏ من بالباب‏؟‏ فتقول الجارية‏‏ غلامك الأعيمش، فتظن أني غلامه، وإن كنت لأخدمه حتى أستقي له وضوءه‏.‏

وروى عبد الرحمن بن أحمد، عن محمد بن عباد، عن الثوري، عن مالك بن أنس، أراه عن الزهري، قال‏‏ تبعت سعيد بن المسيب ثلاثة أيام في طلب حديث‏.‏

وروى الأوزاعي، عن الزهري، قال‏‏ كنا نأتي العالم فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه‏.‏

وقال سفيان‏‏ كان الزهري، يقول‏‏ حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول‏‏ كان عالماً‏.‏

وقال مالك‏‏ أول من دون العلم ابن شهاب‏.‏

وقال أبو المليح‏‏ كان هشام هو الذي أكره الزهري على كتابة الحديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك‏.‏

وقال رشيد بن سعد‏‏ قال الزهري‏‏ العلم خزائن وتفتحها المسائل‏.‏

وقال الزهري‏‏ كان يصطاد العلم بالمسألة كما يصطاد الوحش‏.‏

وكان ابن شهاب ينزل بالأعراب يعلمهم لئلا ينسى العلم، وقال‏‏ إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة‏.‏

وقال‏‏ إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به‏.‏

وقال‏‏ ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من الفصاحة‏.‏

وقال‏‏ العلم ذكرٌ لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم‏.‏

ومر الزهري على أبي حازم وهو يقول‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏‏ مالي أرى أحاديث ليس لها خطم ولا أزمة‏؟‏

وقال‏‏ ما عبد الله بشيء أفضل من العلم‏.‏

وقال ابن مسلم أبي عاصم‏‏ حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن القاسم بن هزان، أنه سمع الزهري، يقول‏‏ لا يوثق الناس علم عالم لا يعمل به، ولا يؤمن بقول عالم لا يرضى‏.‏

وقال ضمرة‏‏ عن يونس، عن الزهري، قال‏‏ إياك وغلول الكتب، قلت‏‏ وما غلولها‏؟‏ قال‏‏ حبسها عن أهلها‏.‏

وروى الشافعي، عن الزهري، قال‏‏ حضور المجلس بلا نسخة ذل‏.‏

وروى الأصمعي، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، قال‏‏ جلست إلى ثعلبة بن أبي معين، فقال‏‏ أراك تحب العلم‏؟‏ قلت‏‏ نعم ‏!‏ قال‏‏ فعليك بذاك الشيخ - يعني‏‏ سعيد بن المسيب - قال‏‏ فلزمت سعيداً سبع سنين ثم تحولت عنه إلى عروة ففجرت ثبج بحره‏.‏

وقال الليث‏‏ قال ابن شهاب‏‏ ما صبر أحد على علم صبري، وما نشره أحد قط نشري، فأما عروة بن الزبير فبئر لا تكدره الدلاء، وأما ابن المسيب فانتصب للناس فذهب اسمه كل مذهب‏.‏

وقال مكي بن عبدان‏‏ حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الأوسي، حدثنا مالك بن أنس‏‏ أن ابن شهاب سأله بعض بني أمية عن سعيد بن المسيب فذكر علمه بخير وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيداً فلما قدم ابن شهاب المدينة جاء فسلم على سعيد فلم يرد عليه ولم يكلمه، فلما انصرف سعيد مشى الزهري معه، فقال‏‏ مالي سلمت عليك فلم تكلمني‏؟‏ ماذا بلغك عني وما قلت إلا خيراً‏؟‏ قال له‏‏ ذكرتني لبني مروان‏.‏ ‏‏ ‏‏

قال أبو حاتم‏‏ حدثنا مكي بن عبدان، حدثنا محمد بن يحيى، حدثني عطاف بن خالد المخزومي، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن ابن شهاب، قال‏‏ أصاب أهل المدينة حاجة زمان فتنة عبد الملك بن مروان، فعمت أهل البلد، وقد خيل إلي أنه قد أصابنا أهل البيت من ذلك ما لم يصب أحداً من أهل البلد، وذلك لخبرتي بأهلي، فتذكرت‏‏ هل من أحد أمتُّ إليه برحم أو مودة أرجو إن خرجت إليه أن أصيب عنده شيئاً‏؟‏ فما علمت من أحد أخرج إليه‏.‏

ثم قلت‏‏ إن الرزق بيد الله عز وجل‏.‏

ثم خرجت حتى قدمت دمشق فوضعت رحلي ثم أتيت المسجد فنظرت إلى أعظم حلقة رأيتها وأكبرها فجلست فيها، فبينا نحن على ذلك إذ خرج رجل من عند أمير المؤمنين عبد الملك، كأجسم الرجال وأجملهم وأحسنهم هيئة، فجاء إلى المجلس الذي أنا فيه فتحثحثوا له - أي‏‏ أوسعوا - فجلس فقال‏‏ لقد جاء أمير المؤمنين اليوم كتاب ما جاءه مثله منذ استخلفه الله‏.‏

قالوا‏‏ ما هو‏؟‏

قال‏‏ كتب إليه عامله على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أن ابناً لمصعب بن الزبير من أم ولد مات، فأرادت أمه أن تأخذ ميراثاً منه، فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثاً في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في أمهات الأولاد، ولا يحفظه الآن، وقد شذ عنه ذلك الحديث‏.‏

قال ابن شهاب‏‏ فقلت‏‏ أنا أحدثه به، فقام إلي قبيصة حتى أخذ بيدي ثم خرج حتى دخل الدار على عبد الملك‏.‏

فقال‏‏ السلام عليك‏.‏

فقال له عبد الملك مجيباً‏‏ وعليك السلام‏.‏

فقال قبيصة‏‏ أندخل‏؟‏

فقال عبد الملك‏‏ ادخل‏.‏

فدخل قبيصة على عبد الملك وهو آخذاً بيدي وقال‏‏ هذا يا أمير المؤمنين يحدثك بالحديث الذي سمعته من ابن المسيب في أمهات الأولاد‏.‏

فقال عبد الملك‏‏ إيه‏.‏

قال الزهري‏‏ فقلت‏‏ سمعت سعيد بن المسيب يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمهات الأولاد أن يقوَّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، فكتب عمر بذلك صدراً من خلافته‏.‏

ثم توفى رجل من قريش كان له ابن من أم ولد، وقد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمرَّ ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر‏‏ ما فعلت يا ابن أخي في أمك‏؟‏ قال‏‏ فعلت يا أمير المؤمنين خيراً، خيروني بين أن يسترقُّوا أمي‏.‏

فقال عمر‏‏ أولست إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل‏؟‏ ما أرى رأياً وما أمرت بأمر إلا قلتم فيه، ثم قام فجلس على المنبر فاجتمع الناس إليه حتى إذا رضي من جماعتهم قال‏‏ أيها الناس ‏!‏ إني قد كنت أمرت في أمهات الأولاد بأمر قد علمتموه، ثم حدث رأي غير ذلك، فأيما امرئ كان عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها‏.‏ ‏‏ ‏‏

فقال لي عبد الملك‏‏ من أنت‏؟‏

قلت‏‏ أنا محمد بن مسلم بن عبيد بن شهاب‏.‏

فقال‏‏ أما والله إن كان أبوك لأباً نعَّاراً في الفتنة مؤذياً لنا فيها‏.‏

قال الزهري‏‏ فقلت‏‏ يا أمير المؤمنين، قل كما قال العبد الصالح‏‏ ‏{‏قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ‏} ‏[‏يوسف‏‏ ‏]‏‏.‏

فقال‏‏ أجل ‏!‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏.‏

قال‏‏ فقلت‏‏ يا أمير المؤمنين، افرض لي فإني منقطع من الديوان‏.‏

فقال‏‏ إن بلدك ما فرضنا فيه

لأحد منذ كان هذا الأمر، ثم نظر إلى قبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أومأ إليه أن افرض له، فقال‏‏ قد فرض إليك أمير المؤمنين‏.‏

فقلت‏‏ إني والله ما خرجت من عند أهلي إلا وهم في شدة وحاجة ما يعلمها إلا الله، وقد عمت الحاجة أهل البلد‏.‏

قال‏‏ قد وصلك أمير المؤمنين‏.‏

قال‏‏ قلت‏‏ يا أمير المؤمنين وخادم يخدمنا، فإن أهلي ليس لهم خادم إلا أختي، فإنها الآن تعجن وتخبز وتطحن‏.‏

قال‏‏ قد أخدمك أمير المؤمنين‏.‏

وروى الأوزاعي، عن الزهري أنه روى رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال‏‏ ‏‏‏‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏‏‏‏‏.‏

فقلت للزهري‏‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏‏ من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أمرُّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت‏.‏

وعن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال‏‏ كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها‏‏

إن تقوى ربنا خير نَفَلْ * وبإذن الله ريثي والعجل

أحمد الله فلا ندَّ له * بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى * ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الزهري‏‏ دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة منزله فإذا هو مغناظ ينفخ، فقلت‏‏ مالي أراك هكذا‏؟‏

فقال‏‏ دخلت على أميركم آنفاً - يعني‏‏ عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان فسلمت عليهما فلم يردا عليَّ السلام، فقلت‏‏

لا تعجبا أن تؤتيا فتكلما * فما حشى الأقوام شراً من الكبر

ومسَّا تراب الأرض منه خلقتما * وفيها المعاد والمصير إلى الحشر

فقلت‏‏ يرحمك الله ‏!‏‏!‏ مثلك في فقهك وفضلك وسنك تقول الشعر ‏؟‏‏!‏

فقال‏‏ إن المصدور إذا نفث برأ‏.‏

وجاء شيخ إلى الزهري فقال‏‏ حدثني، فقال‏‏ إنك لا تعرف اللغة، فقال الشيخ‏‏ لعلي أعرفها، فقال‏‏ فما تقول في قول الشاعر‏‏

صريع ندامى يرفع الشرب رأسه * وقد مات منه كل عضو ومفصل‏؟‏

‏‏ ‏‏ ما المفصل‏؟‏ قال‏‏ اللسان، قال‏‏ عد عليَّ أحدثك‏.‏

وكان الزهري يتمثل كثيراً بهذا‏‏

ذهب الشباب فلا يعود جمانا * وكأن ما قد كان لم يك كانا

فطويت كفي يا جمان على العصا * وكفى جمان بطيِّها حدثانا

وكان نقش خاتم الزهري‏‏ محمد يسأل الله العافية‏.‏

وقيل لابن أخي الزهري‏‏ هل كان عمك يتطيب‏؟‏ قال‏‏ كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري‏.‏

وقال‏‏ استكثروا من شيء لا تمسه النار، قيل‏‏ وما هو‏؟‏ قال‏‏ المعروف‏.‏

وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له‏‏ أتعطي على كلام الشيطان‏؟‏ فقال‏‏ إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر‏.‏

وقال سفيان‏‏ سئل الزهري عن الزاهد، فقال‏‏ من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره‏.‏

وقال سفيان‏‏ قالوا للزهري‏‏ لو أنك الآن في آخر عمرك أقمت بالمدينة، فقعدت إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرجت وجلسنا إلى عمود من أعمدته فذكرت الناس وعلمتهم‏؟‏

فقال‏‏ لو أني فعلت ذلك لوطىء عقبي ولا ينبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة‏.‏

وكان الزهري يحدث‏‏ أنه هلك في جبال بيت المقدس بضعة وعشرون نبياً، ماتوا من الجوع والعمل‏.‏

كانوا لا يأكلون إلا ما عرفوا، و لا يلبسون إلا ما عرفوا‏.‏

وكان يقول‏‏ العبادة هي‏‏ الورع والزهد، والعلم هو‏‏ الحسنة، والصبر هو‏‏ احتمال المكاره، والدعوة إلى الله على العمل الصالح‏.‏

وممن توفي في خلافة هشام بن عبد الملك كما أورده ابن عساكر‏‏

بلال بن سعد

ابن تميم السكوني، أبو عمرو، وكان من الزهاد الكبار، والعباد الصوام القوام‏.‏

روى عن‏‏ أبيه وكان أبوه له صحبه، وعن جابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وغيرهم‏.‏

وعنه جماعات منهم‏‏ أبو عمر، و الأوزاعي، وكان الأوزاعي يكتب عنه ما يقوله من الفوائد العظيمة في قصصه ووعظه، وقال‏‏ ما رأيت واعظاً قط مثله‏.‏

وقال أيضاً‏‏ ما بلغني عن أحد من العبادة ما بلغني عنه، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة‏.‏

وقال غيره وهو‏‏ الأصمعي‏‏ كان إذا نعس في ليل الشتاء ألقى نفسه في ثيابه في البركة، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك فقال‏‏ إن ماء البركة أهون من عذاب جهنم‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏‏ كان إذا كبَّر في المحراب سمعوا تكبيره من الأوزاع‏.‏ قلت‏‏ وهي خارج باب الفراديس‏.‏

وقال أحمد بن عبد الله العجلي‏‏ هو شامي تابعي ثقة‏.‏

وقال أبو زرعة الدمشقي‏‏ كان أحد العلماء قاصاً حسن القصص، وقد اتهمه رجاء بن حيوة بالقدر حتى قال بلال يوماً في وعظه‏‏ رب مسرور مغرور، ورب مغرور لا يشعر، فويل لمن له الويل وهو لا يشعر، يأكل ويشرب، ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار، فيا ويل لك روحاً، فيا ويل لك جسداً، فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقد ساق ابن عساكر شيئاً حسناً من كلامه في مواعظه البليغة، فمن ذلك قوله‏‏ والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، زاهدكم راغب، وعالمك جاهل، ومجتهدكم مقصر‏.‏

وقال أيضاً‏‏ أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك، أحب إليك، وخير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً‏.‏

وقال أيضاً‏‏ لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوه في السر، ولا تكن عدو إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم في السر، ولا تكن ذا وجهين وذا لسانين فتظهر للناس أنك تخشى الله ليحمدوك وقلبك فاجر‏.‏

وقال أيضاً‏‏ أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء، ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الجنة أو النار‏.‏

وقال أيضاً‏‏ عباد الرحمن ‏!‏ إنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال إلى دار مقام، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، فمن لم يعمل على يقين فلا تنفعن‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ لو قد غفرت خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون لكم شغلاً، ولو عملتم بما تعلمون لكان لكم مقتداً وملتجاً‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ أما ما وكلتم به فتضيعونه، وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبونه، ما هكذا نعت الله عباده الموقنين، أذووا عقول في الدنيا وبله في الآخرة، وعمي عما خلقتم له بصراء في أمر الدنيا‏؟‏ فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعته، فكذلك أشفقوا من عذابه بما تنتهكون من معاصيه‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من أعمالكم قد تقبل منكم‏؟‏ أو شيئاً من خطاياكم قد غفر لكم‏؟‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ‏} ‏[‏المؤمنون‏‏ ‏]‏‏.‏

والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم ما فرض عليكم‏.‏

أترغبون في طاعة الله لدار معمورة بالآفات‏؟‏ ولا ترغبون وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها، وعرضها عرض الأرض والسماوات ‏{‏تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏‏ ‏]‏‏.‏

وقال أيضاً‏‏ الذكر ذكران‏‏ ذكر الله باللسان حسن جميل، وذكر الله عندما أحل وحرم أفضل‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ يقال لأحدنا‏‏ تحب أن تموت‏؟‏

فيقول‏‏ لا ‏!‏

فيقال له‏‏ لم‏؟‏

فيقول‏‏ حتى أعمل‏.‏

فيقال له‏‏ اعمل‏.‏

فيقول‏‏ سوف أعمل، فلا تحب أن تموت، ولا تحب أن تعمل، وأحب شيء إليه يحب أن يؤخر عمل الله، ولا يحب أن يؤخر الله عنه عرض دنياه‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ إن العبد ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله وقد أضاع ما سواها، فما يزال يمنيه الشيطان ويزين له حتى ما يرى شيئاً دون الجنة، مع إقامته على معاصي الله‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ قبل أن تعملوا أعمالكم فانظروا ماذا تريدون بها، فإن كانت خالصة فامضوها وإن كانت لغير الله فلا تشقوا على أنفسكم، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، فإنه قال‏‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏‏ ‏]‏‏.‏

وقال أيضاً‏‏ إن الله ليس إلى عذابكم بالسريع، يقبل المقبل ويدعو المدبر‏.‏

وقال أيضاً‏‏ إذا رأيت الرجل متحرجاً لحوحاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته‏.‏

وقال الأوزاعي‏‏ خرج الناس بدمشق يستسقون فقام بهم بلال بن سعد فقال‏‏ يا معشر من حضر ‏!‏ ألستم مقرين بالإساءة‏؟‏

قالوا‏‏ نعم‏.‏ ‏‏ ‏‏

فقال‏‏ اللهم إنك قلت‏‏ ‏{‏مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏‏ ‏]‏ وقد أقررنا بالإساءة فاعف عنا واغفر لنا‏.‏

قال‏‏ فسقوا يومهم ذلك‏.‏

وقال أيضاً‏‏ سمعته يقول‏‏ لقد أدركت أقواماً يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا جثهم الليل كانوا رهباناً‏.‏

وسمعته أيضاً يقول‏‏ لا تنظر إلى صغر الذنب وانظر إلى من عصيت‏.‏

وسمعته يقول‏‏ من بادأك بالود فقد استرقك بالشكر‏.‏

وكان من دعائه‏‏ اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، ومن تبعات الذنوب، ومن مرديات الأعمال ومضلات العين‏.‏

وقال الأوزاعي، عنه، أنه قال‏‏ عباد الرحمن ‏!‏ لو أنتم لم تدعوا إلى الله طاعة إلا عملتموها ولا معصية إلا اجتنبتموها، إلا أنكم تحبون الدنيا لكفاكم ذلك عقوبة عند الله عز وجل‏.‏

وقال‏‏ إن الله يغفر الذنوب لمن تاب منها، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقف العبد عليها يوم القيامة‏.‏

 ترجمة الجعد بن درهم

هو أول من قال بخلق القرآن، وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي، وهو‏‏ مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية‏.‏

كان شيخه‏‏ الجعد بن درهم، أصله من خراسان، ويقال‏‏ إنه من موالي بني مروان، سكن الجعد دمشق، وكانت له بها دار بالقرب من القلاسيين إلى جانب الكنيسة، ذكره ابن عساكر‏.‏

قلت‏‏ وهي محلة من الخواصين اليوم غربيها عند حمام القطانين الذي يقال له‏‏ حمام قلنيس‏.‏

قال ابن عساكر وغيره‏‏ وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر الرسول صلى الله عليه وسلم عن يهودي باليمن‏.‏

وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري، وقيل‏‏ الترمذي‏.‏

وقد أقام ببلخ، وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده ويتناظران، حتى نفي إلى ترمذ، ثم قتل الجهم بأصبهان، وقيل‏‏ بمرو، قتله نائبها مسلم بن أحوز رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيراً‏.‏

وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي داود عن بشر‏.‏

وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه‏.‏

ثم إن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالداً خطب الناس فقال في خطبته تلك‏‏ أيها الناس ‏!‏ ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً‏.‏ ثم نزل فذبحه في أصل المنبر‏.‏

وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم‏‏ البخاري، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وعبد الله بن أحمد، وذكره ابن عساكر في التاريخ‏.‏

وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كان كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول‏‏ اجمع للعقل، وكان يسأل وهباً عن صفات الله عز وجل‏.‏

فقال له وهب يوماً‏‏ ويلك يا جعد، اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل‏.‏

‏‏ ‏‏ذكره ابن عساكر، وذكر في ترجمت أنه قال للحجاج بن يوسف ويروى لعمران بن حطان‏‏

ليث عليَّ وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة

قال الحافظ أبو بكر البزار‏‏ حدثنا رزق الله بن موسى، ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب بن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم‏‏ ‏‏‏‏ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة‏‏‏‏‏.‏

وكذا رواه أبو يعلى في مسنده، عن أبي كريب، عن ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن سعيد بن زيد بن نفيل، عن مصعب بن مصعب، عن الزهري، به‏.‏

قلت‏‏ وهذا حديث غريب منكر، ومصعب بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري تكلم فيه، وضعفه علي بن الحسين بن جنيد، وكذا تكلم في الراوي عنه أيضاً، والله أعلم‏.‏

وفيها غزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة من بلاد الروم‏.‏

وفي ربيع الآخر منها توفي أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان‏.‏

 ذكر وفاته وترجمته رحمه الله

هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي، أمير المؤمنين‏.‏

وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي، وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين، وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها‏‏ النورية الكبيرة، وتعرف بدار القبابين - يعني‏‏ الذين يبيعون القباب وهي الخيام - فكانت تلك المحلة داره، والله أعلم‏.‏

وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة‏.‏

وكان جميلاً أبيض أحول يخضب بالسواد، وهو الرابع من ولد عبد الملك الذين ولوا الخلافة، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات، فدسَّ إلى سعيد بن المسيب من سأله عنها ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة، فوقع ذلك، فكان هشام آخرهم، وكان في خلافته حازم الرأي جمَّاعاً للأموال يبخل، وكان ذكياً مدبراً له بصر بالأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة‏.‏

شتم مرة رجلاً من الأشراف فقال‏‏ أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض‏؟‏

فاستحيا وقال‏‏ اقتص مني بدلها أو قال‏‏ بمثلها‏.‏

قال‏‏ إذا أكون سفيهاً مثلك‏.‏

قال‏‏ فخذ عوضاً‏.‏

قال‏‏ لا أفعل‏.‏

قال‏‏ فاتركها لله‏.‏

قال‏‏ هي لله ثم لك‏.‏ ‏‏ ‏‏

فقال هشام عند ذلك‏‏ والله لا أعود إلى مثلها‏.‏

وقال الأصمعي‏‏ أسمع رجل هشاماً كلاماً فقال له‏‏ أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك‏؟‏

وغضب مرة على رجل فقال له‏‏ اسكت وإلا ضربتك سوطاً‏.‏

وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالاً أربعة آلاف دينار، فلم يتعرض له أحد من بني مروان، حتى استخلف هشام فقال‏‏ ما فعل حقنا قبلك‏؟‏

قال‏‏ موفور مشكور‏.‏

فقال‏‏ هو لك‏.‏

قلت‏‏ هذا الكلام فيه نظر، وذلك أن علي بن الحسين مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين، قبل أن يلي هشام الخلافة بإحدى عشرة سنة، فإنه إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة، فقول المؤلف‏‏ إن أحداً من خلفاء بني مروان لم يتعرض لمطالبة علي بن الحسين حتى ولي هشام فطالبه بالمال المذكور، فيه نظر، ولا يصح لتقدم موت علي على خلافة هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد وقال‏‏ وددت أني افتديهما بجميع ما أملك‏.‏

وقال المدائني، عن رجل من حيي، عن بشر مولى هشام، قال‏‏ أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال‏‏ اكسروا الطنبور على رأسه وقرنه، فبكى الشيخ، قال بشر‏‏ فضربه، قال‏‏ أتراني أبكي للضرب، إنما أبكي لاحتقارك البربط حتى سميته طنبوراً‏.‏

وأغلظ لهشام رجل يوماً في الكلام فقال‏‏ ليس لك أن تقول هذا لإمامك‏.‏

وتفقد أحد ولده يوم الجمعة فبعث إليه‏‏ مالك لم تشهد الجمعة‏؟‏

فقال‏‏ إن بغلتي عجزت عني، فبعث إليه‏‏ أما كان يمكنك المشي، ومنعه أن يركب سنة، وأن يشهد الجمعة ماشياً‏.‏

وذكر المدائني‏‏ أن رجلاً أهدى إلى هشام طيرين، فأوردهما السفير إلى هشام، وهو جالس على سرير في وسط داره، فقال له‏‏ أرسلهما في الدار، فأرسلهما، ثم قال‏‏ جائزتي يا أمير المؤمنين، فقال‏‏ ويحك ‏!‏ وما جائزتك على هدية طيرين‏؟‏ خذ أحدهما، فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما، فقال‏‏ ويحك ‏!‏ ما بالك‏؟‏ فقال‏‏ أختار أجودهما، قال‏‏ وتختار أيضاً الجيد وتترك الرديء‏؟‏ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهماً‏.‏

وذكر المدائني، عن محرم، كاتب يوسف بن عمر، قال‏‏ بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرابعة، جارية خالد بن عبد الله القسري، مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار، قال‏‏ فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك الفرش، فأريتها له، فقال‏‏ كم زنتها‏؟‏ ‏‏ ‏‏

فقلت‏‏ إن مثل هذه لا مثل لها، فسكت‏.‏

قالوا‏‏ ورأى قوماً يفرطون الزيتون، فقالوا‏‏ القطوه لقطاً ولا تنفضوه نفضاً، فتفقأ عيونه وتكسر غصونه‏.‏

وكان يقول‏‏ ثلاثة لا يضعن الشريف‏‏ تعاهد الصنيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل‏.‏

وقال أبو بكر الخرائطي‏‏ يقال إن هشاماً لم يقل من الشعر سوى هذا البيت‏‏

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال

وقد روي له الشعر غير هذا‏.‏

وقال المدائني‏‏ عن ابن يسار الأعرجي، حدثني ابن أبي بجيلة، عن عقال بن شبة، قال‏‏ دخلت على هشام وعليه قباء فتك أخضر، فوجهني إلى خراسان، ثم جعل يوصيني وأنا انظر إلى القباء، ففطن فقال‏‏ مالك‏؟‏

قلت‏‏ عليك قباء فتك أخضر، وكنت رأيت عليك مثله قبل أن تلي الخلافة، فجعلت أتأمل هذا هو ذاك أم غيره‏.‏

قال‏‏ والله الذي لا إله غيره هو ذاك، مالي قباء غيره، وما ترون من جمعي لهذا المال وصونه إلا لكم‏.‏

قال عقال‏‏ وكان هشام محشواً بخلاً‏.‏

وقال عبد الله بن علي عم السفاح‏‏ جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام‏.‏

وقال المدائني‏‏ عن هشام بن عبد الحميد‏‏ لم يكن أحد من بني مروان أشد نظراً في أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام، وهو الذي قتل غيلان القدري، ولما أحضر بين يديه قال له‏‏ ويحك ‏!‏ قل ما عندك، إن كان حقاً اتبعناه، وإن كان باطلاً رجعت عنه‏.‏

فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون أشياء فقال له‏‏ أيعصي الله كارهاً‏؟‏

فسكت غيلان فقيَّده حينئذ هشام وقتله‏.‏

وقال الأصمعي‏‏ عن أبي الزناد، عن منذر بن أبي، وقال‏‏ أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص كلها قد أثر بها‏.‏

وشكى هشام إلى أبيه ثلاثاً‏‏ إحداها‏‏ أنه يهاب الصعود إلى المنبر، والثانية‏‏ قلة تناول الطعام، والثالثة‏‏ أن عنده في القصر مائة جارية من حسان النساء لا يكاد يصل إلى واحدة منهن‏.‏

فكتب إليه أبوه‏‏ أما صعودك إلى المنبر‏‏ فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك، وأما قلة الطعام‏‏ فمر الطباخ فليكثر الألوان فعلك أن تتناول من كل لون لقمة، وعليك بكل بيضاء بضَّة، ذات جمال وحسن‏.‏

وقال أبو عبد الله الشافعي‏‏ لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال‏‏ أحب أن أخلو بها يوماً لا يأتيني فيه خبر غم، فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور، فقال‏‏ ولا يوماً واحداً ‏؟‏‏!‏

وقال سفيان بن عيينة‏‏ كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏‏ ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا حسين بن زيد، عن شهاب بن عبد ربه، عن عمر بن علي، قال‏‏ مشيت مع محمد بن علي - يعني‏‏ ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام فقلت له‏‏ إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين سنة، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون‏.‏

فقال‏‏ ما أدري ما أحاديث الناس، ولكن أبي حدثني، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه و سلم، قال‏‏ ‏‏‏‏لن يعمِّر الله ملكاً في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته، فإن الله عمَّر نبيه صلى الله عليه و سلم ثلاث عشر سنة بمكة وعشراً في بالمدينة‏‏‏‏‏.‏

وقال ابن أبي خيثمة‏‏ ليس حديث فيه توقيت غير هذا، قرأه يحيى بن معين على كتابي، فقال‏‏ من حدثك به‏؟‏ فقلت‏‏ إبراهيم، فتلهف أن لا يكون سمعه، وقد رواه ابن جرير في تاريخه، عن أحمد بن زهير، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي‏.‏

وروى مسلم بن إبراهيم، ثنا القاسم بن الفضل، حدثني عباد بن المعرا الفتكي، عن عاصم بن المنذر بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، أنه سمع علياً، يقول‏‏ هلاك ملك بني أمية على رجل أحول - يعني‏‏ هشاماً -‏.‏

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن أبي معاذ النميري، عن أبيه، عن عمرو بن كليع، عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك، قال‏‏ خرج علينا يوماً هشام وعليه كآبة وقد ظهر عليه الحزن، فاستدعى الأبرش بن الوليد فجاءه فقال‏‏ يا أمير المؤمنين مالي أراك هكذا ‏؟‏

فقال‏‏ مالي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا‏.‏

قال‏‏ فكتبنا ذلك، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول‏‏ أحضر معك دواء للذبحة‏.‏

وكان قد أصابته قبل ذلك فاستعمل منه فعوفي، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء فتناوله وهو في وجع شديد، واستمر فيه عامة الليل‏.‏

ثم قال‏‏ يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة وذر الدواء عندي‏.‏

فذهبت فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه فجئت فإذا هو قد مات‏.‏

وذكر غيره‏‏ أن هشاماً نظر إلى أولاد وهم يبكون حوله فقال‏‏ جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له‏.‏

ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له‏.‏

وكان نقش خاتمه‏‏ الحكم للحكم الحكيم‏.‏

وكانت وفاته بالرصافة يوم الأربعاء لست بقين من ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل‏‏ إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي ولي الخلافة بعده‏.‏

وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوماً، وقيل‏‏ وثمانية أشهر وأيام، فالله أعلم‏.‏ ‏‏ ‏‏

وقال ابن أبي فديك‏‏ ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال‏‏ ‏‏‏‏ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة‏‏‏‏‏.‏

قال ابن أبي فديك‏‏ زينتها نور الإسلام وبهجته‏.‏

وقال غيره‏‏ - يعني‏‏ الرجال -، والله أعلم‏.‏

قلت‏‏ لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جداً، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحواً من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، ومازالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقاً وسلبوهم الخلافة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك، مبسوطاً مقدراً في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

بحمد الله تعالى قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر‏.‏