الجزء العاشر - تكملة سنة خمس وعشرين ومائة

تكملة سنة خمس وعشرين ومائة

بسم الله الرحمن الرحيم

 خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

قال الواقدي‏:‏ بويع له بالخلافة يوم مات عمه هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة‏.‏

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ بويع له يوم السبت في ربيع الآخر، وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة‏.‏

وكان سبب ولايته أن أباه يزيد بن عبد الملك كان قد جعل الأمر من بعده لأخيه هشام، ثم من بعده لولده الوليد هذا، فلما ولي هشام أكرم ابن أخيه الوليد حتى ظهر عليه أمر الشراب وخلطاء السوء ومجالس اللهو، فأراد هشام أن يقطع ذلك عنه فأمره على الحج سنة ست عشر ومائة، فأخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال‏:‏ إنه جعلها في صناديق، فسقط منها صندوق فيه كلب، فسمع صوته فأحالوا ذلك على الجمال، فضرب على ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلك القبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه من الجلوس فوق ظهر الكعبة خوفاً من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك، فلما تحقق عمه ذلك منه نهاه مراراً فلم ينته، واستمر على حاله القبيح، وعلى فعله الرديء‏.‏

فعزم عمه على خلعه من الخلافة - وليته فعل - وأن يولي بعده مسلمة بن هشام، وأجابه إلى ذلك جماعة من الأمراء، ومن أخواله، ومن أهل المدينة ومن غيرهم، وليت ذلك تم‏.‏

ولكن لم ينتظم حتى قال هشام يوماً للوليد‏:‏ ويحك ‏!‏ والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، فإنك لم تدع شيئاً من المنكرات إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر، فكتب إليه الوليد‏:‏

يا أيها السائل عن ديننا * ديني على دين أبي شاكر

نشربها صرفاً وممزوجةً * بالسخن أحياناً وبالفاتر

فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يسمى‏:‏ أبا شاكر، وقال له‏:‏ تشبه الوليد بن يزيد وأنا أريد أن أرقيك إلى الخلافة‏.‏

وبعثه على الموسم سنة تسع عشر ومائة فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالاً، فقال مولى لأهل المدينة‏:‏

يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر

الواهب الجرد بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر

ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات‏.‏

فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد، ففر منه الوليد إلى الصحراء، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات، وجعل هشام يتوعده وعيداً شديداً، ويتهدده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليد في البرية، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة، قلق الوليد تلك الليلة قلقاً شديداً وقال لبعض أصحابه‏:‏ ويحك ‏!‏ قد أخذني الليلة قلق عظيم، فاركب لعلنا نبسط‏.‏

فسارا ميلين يتكلمان في هشام وما يتعلق به، من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم رأيا من بعد رهجاً وأصواتاً وغباراً، ثم انكشف ذلك عن برد يقصدونه بالولاية فقال لصاحبه‏:‏ ويحك ‏!‏ إن هذه رسل هشام، اللهم أعطنا خيرها‏.‏

فلما اقتربت البرد منه وتبينوه ترجلوا إلى الأرض وجاؤا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت وقال‏:‏ ويحكم ‏!‏ أمات هشام ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ فمن بعثكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل، وأعطوه الكتاب فقرأه، ثم سألهم عن أحوال الناس، وكيف مات عمه هشام، فأخبروه‏.‏

فكتب من فوره بالاحتياط على أموال هشام وحواصله بالرصافة وقال‏:‏

ليت هشاماً عاش حتى يرى * مكياله الأوفر قد طبعا

كلناه بالصاع الذي كاله * وما ظلمناه به إصبعا

وما أتيناه ذاك بدعة * أحله الفرقان إلى أجمعا

 

وقد كان الزهري يحث هشاماً على خلع الوليد هذا، ويستنهضه في ذلك، فيحجم هشام عن ذلك، خوف الفضيحة من الناس، ولئلا تتنكر قلوب الأجناد من أجل ذلك، وكان الوليد يفهم ذلك من الزهري ويبغضه ويتوعده ويتهدده، فيقول له الزهري‏:‏ ما كان الله ليسلطك عليَّ يا فاسق ‏!‏

ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد، ثم فر الوليد من عمه إلى البرية، فلم يزل بها حتى مات فاحتاط على أموال عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دمشق، واستعمل العمال وجاءته البيعة من الآفاق، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بن محمد - وهو إذ ذاك نائب أرمينية - يبارك له في خلافة الله له على عباده، والتمكين في بلاده، ويهنئه بموت هشام وظفره به، والتحكم في أمواله وحواصله، ويذكر له أنه جدد البيعة له في بلاده، وأنهم فرحوا واستبشروا بذلك‏.‏

ولولا خوفه من الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شوقاً إلى رؤيته، ورغبة في مشافهته‏.‏

ثم إن الوليد سار في الناس سيرة حسنة بادي الرأي وأمر بإعطاء الزمنى والمجذومين والعميان، لكل إنسان خادماً، وأخرج من بيت المال الطيب والتحف لعيالات المسلمين، وزاد في أعطيات الناس، ولاسيما أهل الشام والوفود، وكان كريماً ممدحاً شاعراً مجيداً، لا يسأل شيئاً قط فيقول‏:‏ لا ‏!‏

ومن شعره قوله‏:‏ - يمدح نفسه بالكرم -

ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق * بأن سماء الضر عنكم ستقلع

سيوشك إلحاق معاً وزيادة * وأعطية مني إليكم تبرّع

محرَّمكم ديوانكم وعطاؤكم * به يكتب الكتّاب شهراً وتطبع

وفي هذه السنة عقد الوليد البيعة لابنه الحكم ثم عثمان، على أن يكونا وليي العهد من بعده، وبعث البيعة إلى يوسف بن عمر أمير العراق وخراسان، فأرسلها إلى نائب خراسان نصر بن سيار، فخطب بذلك نصر خطبة عظيمة بليغة طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها‏.‏

واستوثق للوليد الممالك في المشارق والمغارب، وأخذت البيعة لولديه من بعده في الآفاق‏.‏

وكتب الوليد إلى نصر بن سيار بالاستقلال بولاية خراسان، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فسأله أن يرد إليه ولاية خراسان فردها إليه كما كانت في أيام هشام، وأن كان يكون نصر بن سيار ونوابه من تحت يده، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يستوفده إلى أمير المؤمنين بأهله وعياله، وأن يكثر من استصحاب الهدايا والتحف‏.‏

فحمل نصر بن سيار ألف مملوك على الخيل، وألف وصيفة وشيئاً كثيراً من أباريق الفضة والذهب، وغير ذلك من التحف‏.‏

وكتب إليه الوليد يستحثه سريعاً ويطلب منه أن يحمل معه طنابير وبرابط ومغنيات وبازات وبراذين فره، وغير ذلك من آلات الطرب والفسق، فكره الناس ذلك منه وكرهوه‏.‏

وقال المنجمون لنصر بن سيار‏:‏ إن الفتنة قريباً ستقع بالشام، فجعل يتثاقل في سيره، فلما أن كان ببعض الطريق جاءته البرد فأخبروه بأن الخليفة الوليد قد قتل وهاجت الفتنة العظيمة في الناس بالشام، فعدل بما معه إلى بعض المدن فأقام بها‏.‏

وبلغه أن يوسف بن عمر قد هرب من العراق، واضطربت الأمور وذلك بسبب قتل الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان‏.‏

وفي هذه السنة ولى الوليد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ولاية المدينة ومكة والطائف، وأمره أن يقيم إبراهيم ومحمداً ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مهانين لكونهما خالي هشام، ثم يبعث بهما إلى يوسف بن عمر نائب العراق، فبعثهما إليه‏.‏

فما زال يعذبهما حتى ماتا، وأخذ منهما أموالاً كثيرة‏.‏

وفي هذه السنة ولى يوسف بن محمد يحيى بن سعيد الأنصاري قضاء المدينة‏.‏

وفيها‏:‏ بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جيشاً مع أخيه، وقال‏:‏ خيِّرهم فمن شاء أن يتحول إلى الشام، ومن شاء أن يتحول إلى الروم، فكان منهم اختار جوار المسلمين بالشام، ومنهم من انتقل إلى بلاد الروم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها قدم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم فقال‏:‏ أحر هو أم لا ‏؟‏

فقالوا‏:‏ أما هو فيزعم أنه حر، وأما مولاه فيزعم أنه عبده‏.‏

فاشتروه فاعتقوه، ودفعوا إلى محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألفاً‏.‏

وقال لهم‏:‏ لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا، فإن مت فإن صاحبكم إبراهيم بن محمد - يعني‏:‏ ابنه - فإنه ابني فأوصيكم به‏.‏

ومات محمد بن علي في مستهل ذي القعدة في هذه السنة، بعد أبيه بسبع سنين‏.‏

وفيها‏:‏ قتل يحيى بن يزيد بن علي بخراسان‏.‏

وحج الناس فيها يوسف بن محمد الثقفي أمير مكة والمدينة والطائف‏.‏

وأمير العراق ويوسف بن عمر، وأمير خراسان نصر بن سيار وهو في همة الوفود إلى الوليد بن يزيد أمير المؤمنين بما معه من الهدايا والتحف، فقتل الوليد قبل أن يجتمع به‏.‏

و ممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

محمد بن علي

ابن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المدني، وهو أبو السفاح والمنصور‏.‏

روى عن‏:‏ أبيه، وجده، وسعيد بن جبير، وجماعة‏.‏

وحدث عنه جماعة، منهم‏:‏ ابناه الخليفتان، أبو العباس عبد الله السفاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور‏.‏

وقد كان عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه بالأمر من بعده، وكان عنده علم بالأخبار، فبشره بأن الخلافة ستكون في ولدك، فدعا إلى نفسه في سنة سبع وثمانين، ولم يزل أمره يتزايد حتى توفي في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في التي قبلها‏.‏

وقيل‏:‏ في التي بعدها عن ثلاث وستين سنة‏.‏

وكان من أحسن الناس شكلاً، فأوصى بالأمر من بعده لولده إبراهيم، فما أبرم الأمر إلا لولده السفاح، فاستلب من بني أمية الأمر في سنة ثنتين وثلاثين، كما سيأتي

وأما يحيى بن زيد

ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنه لما قتل أبوه زيد في سنة إحدى وعشرين ومائة، لم يزل يحيى مختفياً في خراسان عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ، حتى مات هشام، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يخبره بأمر يحيى بن زيد، فكتب نصر بن سيار إلى نائب بلخ مع عقيل بن معقل العجلي، فأحضر الحريش فعاقبه ستمائة سوط، فلم يدل عليه، وجاء ولد الحريش فدلهم عليه فحبس، فكتب نصر بن سيار إلى يوسف بذلك، فبعث إلى الوليد بن يزيد يخبره بذلك‏.‏

فكتب الوليد إلى نصر بن سيار يأمره بإطلاقه من السجن وإرساله إليه صحبة أصحابه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهزهم إلى دمشق، فلما كانوا ببعض الطريق توسم نصر منه غدراً، فبعث إليه جيشاً عشرة آلاف فكسرهم يحيى بن زيد، وإنما معه سبعون رجلاً، وقتل أميرهم واستلب منهم أموالاً كثيرةً، ثم جاء جيش آخر فقتلوه واحتزوا رأسه وقتلوا جميع أصحابه، رحمهم الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة

 فيها كان مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهذه ترجمته

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو العباس، الأموي الدمشقي‏.‏

بويع له بالخلافة بعد عمه هشام في السنة الخالية بعهد من أبيه كما قدمنا‏.‏

وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي‏.‏

وكان مولده سنة تسعين‏.‏

وقيل‏:‏ ثنتين وتسعين‏.‏

وقيل‏:‏ سبع وثمانين‏.‏

وقتل يوم الخميس لليلتين بقيتا في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، ووقعت بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنما قتل لفسقه، وقيل‏:‏ وزندقته‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو المغيرة، ثنا ابن عياش، حدثني الأوزاعي وغيره، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال‏:‏ ولد لأخي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم غلام فسموه الوليد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏سميتموه باسم فراعينكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له‏:‏ الوليد، لهو أشد فساداً لهذه الأمة من فرعون لقومه‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بن زياد ومحمد بن كثير وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابن كثير سعيد بن المسيب، ثم ساق طرقه هذه كلها بأسانيدها وألفاظها‏.‏

وحكي عن البيهقي أنه قال‏:‏ هو مرسل حسن‏.‏

ثم ساق من طريق محمد، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها، قالت‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا يا أم سلمة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ هذا الوليد ‏!‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وقد اتخذتم الوليد خنانا حسانا غيروا اسمه، فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له‏:‏ الوليد‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن عساكر من حديث عبد الله بن محمد بن مسلم، ثنا محمد بن غالب الأنطاكي، ثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، ثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يزال هذا الأمر قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية‏)‏‏)‏‏.‏

 مقتله وزوال دولته

كان هذا الرجل مجاهراً بالفواحش مصراً عليها، منتهكاً محارم الله عز وجل، لا يتحاشى من معصية‏.‏

وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، فالله أعلم‏.‏

لكن الذي يظهر أنه كان عاصياً شاعراً ماجناً متعاطياً للمعاصي، لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي‏.‏

وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال‏:‏ أشهد أنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً، ولقد أرادني على نفسي الفاسق‏.‏

وحكى المعافى بن زكريا، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن العتبي‏:‏ أن الوليد بن يزيد نظر إلى نصرانية من حسان نساء النصارى اسمها‏:‏ سفرى فأحبها، فبعث يراودها عن نفسها، فأبت عليه، فألح عليها وعشقها، فلم تطاوعه‏.‏

فاتفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم، فذهب الوليد إلى بستان هناك فتنكر وأظهر أنه مصاب، فخرج النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأينه فأحدقن به، فجعل يكلم سفرى ويحادثها وتضاحكه ولا تعرفه، حتى اشتفى من النظر إليها، فلما انصرفت قيل لها‏:‏ ويحك ‏!‏ أتدرين من هذا الرجل ‏؟‏

فقالت‏:‏ لا ‏!‏

فقيل لها‏:‏ هو الوليد‏.‏

فلما تحققت ذلك حنت عليه بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها، قبل أن تحن عليه‏.‏

فقال الوليد في ذلك أبياتاً‏:‏

أضحك فؤادك يا وليد عميداً * صباً قديماً للحسان صيودا

في حب واضحة العوارض طفلة * برزت لنا نحو الكنيسة عيدا

ما زلت أرمقها بعيني وامق * حتى بصرت بها تقبِّل عودا

عود الصليب فويح نفسي من رأى * منكم صليباً مثله معبودا

فسألت ربي أن أكون مكانه * وأكون في لهب الجحيم وقودا

وقال فيها أيضاً‏:‏ لما ظهر أمره وعلم بحال الناس‏.‏

وقيل‏:‏ أن هذا وقع قبل أن يلي الخلافة‏:‏

ألا حبذا سفري و إن قيل إنني * كلفت بنصرانية تشرب الخمرا

يهون علينا أن نظل نهارنا * إلى الليل لا ظهراً نصلِّي ولا عصرا

‏)‏

قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري المعروف‏:‏ بابن طرار النهرواني بعد إيراده هذه الأشياء‏:‏ للوليد في نحو هذا من الخلاعة والمجون وسخافة الدين، وما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره المتضمن ركيك ضلاله وكفره‏.‏

وروى ابن عساكر بسنده أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار‏.‏

وقال القاضي أبو الفرج‏:‏ أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الأخباريون مجموعة ومفردة، وقد جمعت شيئاً من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرح به من الإلحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه، وقد عارضت شعره السخيف بشعر حصيف، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عز وجل، واستيجاب مغفرته‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏:‏ ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال‏:‏ أراد الوليد بن يزيد الحج، وقال‏:‏ أشرب فوق ظهر الكعبة الخمر، فهموا أن يفتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد ابن عبد الله القسري فسألوه أن يكون معهم فأبى‏.‏

فقالوا له‏:‏ فاكتم علينا‏.‏

فقال‏:‏ أما هذا فنعم‏.‏

فجاء إلى الوليد فقال‏:‏ لاتخرج فإني أخاف عليك‏.‏

فقال‏:‏ ومن هؤلاء الذين تخافهم عليَّ ‏؟‏

قال‏:‏ لا أخبرك بهم‏.‏

قال‏:‏ إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف بن عمر‏.‏

قال‏:‏ وإن بعثت بي إلى يوسف بن عمر‏.‏

فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله‏.‏

وذكر ابن جرير أنه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ثم سلمه إلى يوسف بن عمر، يستخلص منه أموال العراق فقتله‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن يوسف لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه، فما زال يعاقبه ويستخلص منه حتى قتله، فغضب أهل اليمن من قتله، وخرجوا على الوليد‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ حدثنا مصعب بن عبد الله، قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ كنت عند المهدي فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل‏:‏ في المجلس كان زنديقاً‏.‏

فقال المهدي‏:‏ خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق‏.‏

وقال أحمد بن عمير بن حوصاء الدمشقي‏:‏ ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حصين بن الوليد، عن الأزهري بن الوليد، قال‏:‏ سمعت أم الدرداء، تقول‏:‏ إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوماً لم يزل طاعة مستخف بها ودم مسفوك على وجه الأرض بغير حق‏.‏

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري‏:‏

قتل يزيد بن الوليد الناقص للوليد بن يزيد

قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته وفسقه، وما ذكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها، فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شراً ولهواً ولذةً وركوباً للصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق، فما زادته الخلافة على ما كان قبلها إلا تمادياً وغروراً، فثقل ذلك على الأمراء والرعية والجند، وكرهوه كراهة شديدة، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه، إفساده على نفسه بني عميه هشام والوليد بن عبد الملك مع إفساده اليمانية، وهي أعظم جند خراسان، وذلك أنه لما قتل خالد بن عبد الله القسري وسلمه إلى غريمه يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك، فلم يزل يعاقبه حتى هلك، انقلبوا عليه وتنكروا له وساءهم قتله، كما سنذكره في ترجمته‏.‏

ثم روى ابن جرير بسنده أن الوليد بن يزيد ضرب ابن عمه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد وأخذ جارية كانت لآل عمه الوليد بن عبد الملك، فكلمه فيها عمر بن الوليد، فقال‏:‏ لا أردها‏.‏

فقال‏:‏ إذاً تكثر الصواهل حول عسكرك‏.‏

وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وبايع لولديه الحكم وعثمان، وكانا دون البلوغ، فشق ذلك على الناس أيضاً، ونصحوه فلم ينتصح، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل‏.‏

قال المدائني في روايته‏:‏ ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه وباللواط وغيره، وقالوا‏:‏ اتخذ مائة جامعة على كل جامعة اسم رجل من بني هاشم ليقتله بها، ورموه بالزندقة وكان أشدهم فيه قولاً يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه أظهر النسك والتواضع، ويقول‏:‏ ما يسعنا الرضا بالوليد حتى حمل الناس على الفتك به‏.‏

قالوا‏:‏ وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الأمراء وآل الوليد بن عبد الملك، وكان القائم بأعباء ذلك كله والداعي إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وهو من سادات بني أمية، وكان ينسب إلى الصلاح والدين والورع، فبايعه الناس على ذلك، وقد نهاه أخوة العباس بن الوليد، فلم يقبل‏.‏

فقال‏:‏ والله لولا إني أخاف عليك لقيدتك وأرسلتك إليه‏.‏

واتفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين، إلى ناحية مشارف دمشق، فانتظم إلى يزيد بن الوليد أمره وجعل أخوه العباس ينهاه عن ذلك أشد النهي، فلا يقبل، فقال العباس ذلك‏:‏

إني أعيذكم بالله من فتن * مثل الجبال تسامى ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم * فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم * إن الذباب إذا ما ألحمت رتعوا

لا تبقرنَّ بأيديكم بطونكم * فثم لا حسرة تغني ولا جزع

فلما استوثق ليزيد بن الوليد أمره، وبايعه من الناس، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد فبايعه أكثر أهلها في الليل، وبلغه أن أهل المزة قد بايعوا كبيرهم معاوية بن مَصَاد، فمضى إليه يزيد ماشياً في نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شديد، فأتوه فطرقوا بابه ليلاً ثم دخلوا فكلمه يزيد في ذلك فبايعه معاوية بن مصاد‏.‏

ثم رجع يزيد من ليلته إلى دمشق على طريق القناة وهو على حمار أسود، فحلف أصحابه أنه لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحاً من تحت ثيابه فدخلها‏.‏

وكان الوليد قد استناب على دمشق في غيبته عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي، وعلى شرطتها أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي‏.‏

فلما كان ليلة الجمعة اجتمع أصحاب يزيد بين العشائين عند باب الفراديس، فلما أذن العشاء الآخرة دخلوا المسجد، فلما لم يبق في المسجد غيرهم بعثوا إلى يزيد بن الوليد، فجاءهم فقصدوا باب المقصورة، ففتح لهم خادم، فدخلوا فوجدوا أبا العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بيت المال وتسلموا الحواصل، وتقووا بالأسلحة‏.‏

وأمر يزيد بإغلاق أبواب البلد، وأن لا يفتح إلا لمن يعرف، فلما أصبح الناس قدم أهل الحواضر من كل جانب فدخلوا من سائر أبواب البلد كل أهل محلة من الباب الذي يليهم، فكثرت الجيوش حول يزيد بن الوليد بن عبد الملك في نصرته، وكلهم قد بايعه بالخلافة‏.‏

وقد قال فيه بعض الشعراء في ذلك‏:‏

فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا * سكاسكها أهل البيوت الصنادد

وكلب فجاؤهم بخيل وعدة * من البيض والأبدان ثم السواعد

فأكرم بها أحياء أنصار سنة * هم منعوا حرماتها كل جاحد

وجاءتهم شيبان والأزد شرعاً * وعبس ولخم بين حام وذائد

وغسان والحيَّان قيس وثعلب * وأحجم عنها كل وان وزاهد

فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها * قد استوثقوا من كل عات ومارد

وبعث يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس إلى قطنا، ليأتوه بعبد الملك بن محمد بن الحجاج نائب دمشق وله الأمان، وكان قد تحصن هناك، فدخلوا عليه فوجدوا عنده خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فلما مروا بالمزة قال أصحاب ابن مصاد‏:‏ خذ هذا المال فهو خير من يزيد بن الوليد‏.‏

فقال‏:‏ لا والله، لا تحدث العرب أني أول من خان‏.‏

ثم أتوا به يزيد بن الوليد فاستخدم من ذلك المال جنداً للقتال قريباً من ألفي فارس، وبعث به مع أخيه عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك خلف الوليد بن يزيد ليأتوا به، وركب بعض موالي الوليد فرساً سابقاً فساق به حتى انتهى إلى مولاه من الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فأخبره الخبر فلم يصدقه وأمر بضربه، ثم تواترت عليه الأخبار فأشار عليه بعض أصحابه أن يتحول من منزله إلى حمص فإنها حصينة‏.‏

وقال الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي‏:‏ أنزل على قومي بتدمر، فأبى أن يقبل شيئاً من ذلك، بل ركب بمن معه وهو في مائتي فارس، وقصد أصحاب يزيد فالتقوا بثقلة في أثناء الطريق، فأخذوه وجاء الوليد فنزل حصن البخراء الذي كان للنعمان بن بشير، وجاءه رسول العباس بن الوليد إني آتيك - وكان من أنصاره - فأمر الوليد بإبراز سريره فجلس عليه وقال‏:‏ أعليَّ يتوثب الرجال وأنا أثب على الأسد وأتخصر الأفاعي ‏؟‏

وقدم عبد العزيز بن الوليد بمن معه، وإنما كان قد خلص معه من الألفي فارس ثمان مائة فارس، فتصافوا فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من أصحاب العباس جماعة حملت رؤسهم إلى الوالي، وقد كان جاء العباس بن الوليد لنصرة الوليد بن يزيد، فبعث إليه أخوه عبد العزيز فجيء به قهراً حتى بايع لأخيه يزيد بن الوليد واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناس اجتماعهم فروا من الوليد إليهم، وبقي الوليد في ذل وقل من الناس، فلجأ إلى الحصن، فجاؤا إليه وأحاطوا به من كل جانب يحاصرونه، فدنا الوليد من باب الحصن فنادى ليكلمني رجل شريف، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي‏.‏

فقال الوليد‏:‏ ألم أدفع الموت عنكم‏؟‏ ألم أعط فقرائكم‏؟‏ ألم أخدم نساءكم ‏؟‏

فقال يزيد‏:‏ إنما ننقم عليك انتهاك المحارم وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله عز وجل‏.‏

فقال‏:‏ حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله لي لسعة عما ذكرته‏.‏

ثم قال‏:‏ أما والله لئن قتلتموني لا ترتقن فتنتكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم‏.‏

ورجع إلى القصر فجلس ووضع بين يديه مصحفاً فنشره، وأقبل يقرأ فيه وقال‏:‏ يوم كيوم عثمان، واستسلم، وتسور عليه أولئك الحائط، فكان أول من نزل إليه يزيد بن عنبسة، فتقدم إليه وإلى جانبه سيف، فقال‏:‏ نحه عنك‏.‏

فقال الوليد‏:‏ لو أردت القتال به لكان غير هذا، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه حتى يبعث به إلى يزيد بن الوليد‏.‏

فبادره عليه عشرة من الأمراء، فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسه ووجهه بالسيوف، حتى قتلوه، ثم جروه برجله ليخرجوه، فصاحت النسوة، فتركوه واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه‏.‏

واحتاطوا على ما كان معه مما كان خرج به في وجهه ذلك، وبعثوا به إلى يزيد مع عشرة نفر منهم‏:‏ منصور بن جمهور، وروح بن مقبل، وبشر مولى كنانة من بني كلب، وعبد الرحمن الملقب‏:‏ بوجه الفلس، فلما انتهوا إليه بشروه بقتل الوليد، وسلموا عليه بالخلافة، فأطلق لكل رجل من العشرة عشرة آلاف‏.‏

فقال له روح بن بشر بن مقبل‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق، فسجد شكراً لله‏.‏

ورجعت الجيوش إلى يزيد، فكان أول من أخذ يده للمبايعة يزيد بن عنبسة السكسكي فانتزع يده من يده، وقال‏:‏ اللهم إن كان هذا رضى لك فأعني عليه‏.‏

وكان قد جعل لمن جاءه برأس الوليد مائة ألف درهم، فلما جيء به وكان ذلك ليلة الجمعة - قيل‏:‏ يوم الأربعاء - لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، فأمر يزيد بنصب رأسه على رمح وأن يطاف به في البلد‏.‏

فقيل له‏:‏ إنما ينصب رأس الخارجي‏.‏

فقال‏:‏ والله لأنصبنه‏.‏

فشهره في البلد على رمح ثم أودعه عند رجل شهراً ثم بعث به إلى أخيه سليمان بن يزيد فقال أخوه‏:‏ بعداً له، أشهد أنك كنت شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً، ولقد أرادني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه لم يأنف من ذلك‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن رأسه لم يزل معلقاً بحائط جامع دمشق الشرقي مما يلي الصحن حتى انقضت دولة بني أمية‏.‏

وقيل‏:‏ إنما كان ذلك أثر دمه، وكان عمره يوم قتل ستاً وثلاثين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ثمانياً وثلاثين‏.‏

وقيل‏:‏ إحدى وثلاثين‏.‏

وقيل‏:‏ ثنتان، وقيل‏:‏ خمس، وقيل‏:‏ ست وأربعون سنة‏.‏

ومدة ولايته سنة وست أشهر على الأشهر‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاثة أشهر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ كان شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، كانت تضرب له سكة الحديد في الأرض ويربط فيها خيط إلى رجله ثم يثب على الفرس فيركبها ولا يمس الفرس، فتنقلع تلك السكة من الأرض مع وثبته‏.‏

 خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

وهو الملقب‏:‏ بالناقص لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده الوليد بن يزيد في أعطياتهم، وهي عشرة عشرة، ورده إياهم إلى ما كانوا عليه في زمن هشام‏.‏

ويقال‏:‏ إن أول من لقبه بذلك مروان بن محمد‏.‏

بويع له بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد، وذلك ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة - حتى سنة ست وعشرين ومائة - وكان فيه صلاح وورع قبل ذلك، فأول ما عمل انتقاصه من أرزاق الجند ما كان الوليد زادهم، وذلك في كل سنة عشرة عشرة، فسمي الناقص لذلك‏.‏

ويقال في المثل الأشج والناقص أعدل خلفاء بني مروان - يعني‏:‏ عمر بن عبد العزيز وهذا - ولكن لم تطل أيامه، فإنه توفي من آخر هذه السنة، واضطربت عليه الأمور، وانتشرت الفتن، واختلفت كلمة بني مروان‏.‏

فنهض سليمان بن هشام، وكان معتقلاً في سجن الوليد بعمان، فاستحوز على أموالها وحواصلها، وأقبل إلى دمشق، فجعل يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر، فأكرمه يزيد ورد عليه أمواله التي كان أخذها من الوليد، وتزوج يزيد أخت سليمان، وهي أم هشام بنت هشام‏.‏

ونهض أهل حمص إلى دار العباس بن الوليد التي عندهم فهدموها، وحبسوا أهله وبنيه، وهرب هو من حمص، فلحق بيزيد بن الوليد إلى دمشق، وأظهر أهل حمص الأخذ بدم الوليد بن يزيد، وأغلقوا أبواب البلد، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وكاتبوا الأجناد في طلب الأخذ بالثأر، فأجابهم إلى ذلك طائفة كبيرة منهم، على أن يكون الحكم بن الوليد بن يزيد الذي أخذ له العهد هو الخليفة، وخلعوا نائبهم، وهو مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوه وقتلوا ابنه وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين‏.‏

فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد كتب إليهم كتاباً مع يعقوب بن هانئ ومضمون الكتاب‏:‏ أنه يدعوا إلى أن يكون الأمر شورى‏.‏

فقال عمرو بن قيس‏:‏ فإذا كان الأمر كذلك فقد رضينا بولي عهدنا الحكم بن الوليد، فأخذ يعقوب بلحيته، وقال‏:‏ ويحك ‏!‏ و كان هذا الذي تدعو إليه يتيماً تحت حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله فكيف أمر الأمة، فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد، فطردوهم عنهم وأخرجوهم من بين أظهرهم، وقال لهم أبو محمد السفياني‏:‏ لو قدمت دمشق لم يختلف علي منهم اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق، وقد أمروا عليهم السفياني، فتلقاهم سليمان بن هشام في جيش كثيف قد جهزهم معه يزيد، وجهز أيضاً عبد العزيز بن الوليد في ثلاثة آلاف يكونون عند ثنية العقاب، وجهز هشام بن مصاد المزي في ألف وخمسمائة ليكونوا على عقبة السلمية، فخرج أهل حمص، فساروا وتركوا جيش سليمان ابن هشام ذات اليسار، وتعدوه فلما سمع بهم سليمان ساق في طلبهم فلحقهم عند السليمانية، فجعلوا الزيتون عن إيمانهم والجبل عن شمائلهم، والحيات من خلفهم، ولم يبق تخلص إليهم إلا من جهة واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالة الحر قتالاً شديداً، فقتل طائفة كبيرة من الفريقين، فبينما هم كذلك إذ جاء عبد العزيز بن الوليد بمن معه، فحمل على أهل حمص، فاخترق جيشهم حتى ركب التل الذي في وسطهم، وكانت الهزيمة، فهرب أهل حمص وتفرقوا فأتبعهم الناس يقتلون ويأسرون ثم تنادوا بالكف عنهم، على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد وأسروا منهم جماعة، منهم أبو محمد السفياني، ويزيد بن خالد بن معاوية، ثم ارتحل سليمان وعبد العزيز فنزلا عذراء، ومعهم الجيوش وأشراف الناس وأشراف أهل حمص من الأساري، ومن استجاب من غير أسر، بعد ما قتل منهم ثلاثمائة نفس، فدخلوا بهم على يزيد بن الوليد، فأقبل عليهم، وأحسن إليهم، وصفح عنهم، وأطلق الأعطيات لهم، لاسيما لأشرافهم وولى عليهم الذي اختاروه وهو معاوية بن يزيد بن الحصين، وطابت عليه أنفسهم، وأقاموا عنده في دمشق سامعين مطيعين له‏.‏

وفيها‏:‏ بايع أهل فلسطين يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أن بني سليمان كانت لهم أملاك هناك، وكانوا يتركونها يبدلونها لهم، وكان أهل فلسطين يحبون مجاورتهم، فلما قتل الوليد بن يزيد كتب سعيد بن روح بن زنباغ - وكان رئيس تلك الناحية - إلى يزيد بن سليمان بن عبد الملك يدعوهم إلى المبايعة له فأجابوه إلى ذلك، فلما بلغ أهل الأردن خبرهم بايعوا أيضاً محمد بن عبد الملك بن مروان وأمروه عليهم، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد أمير المؤمنين بعث إليهم الجيوش مع سليمان بن هشام في الدماشقة وأهل حمص، الذين كانوا مع السفياني فصالحهم أهل الأردن أولاً ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهل فلسطين، وكتب يزيد بن الوليد ولاية الإمرة بالرملة وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد، واستقرت الممالك هنالك، وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏:‏

أما بعد أيها الناس أما والله ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي إني لظلوم لنفسي، إن لم يرحمني ربي فإني هالك، ولكني خرجت غضباً لله ورسوله ولدينه، وداعياً إلى الله وكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة، مع أنه والله ما كان مصدقاً بالكتاب، ولا مؤمناً بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفوي بالحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته لا بحولي ولا بقوتي‏.‏

أيها الناس‏:‏ إن لكم علي أن لا أضع حجراً على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهراً، و لا أكثر مالاً ولا أعطية زوجة، ولا ولداً ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل عن ذلك فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم، ويقطع سبلهم وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني وإلا أن تستتيبوني فإن تبت قبلتم مني، وإن علمتم أحداً من أهل الصلاح والدين يعطيكم من نفسه ما مثل ما أعطيكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته‏.‏

أيها الناس ‏!‏ إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة طاعة الله فمن أطاع الله فأطيعوه ما أطاع الله، فإذا عصى أو دعا إلى معصية فهو أهل أن يعصى ولا يطاع، بل يقتل ويهان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ عزل يزيد ين الوليد يوسف بن عمر عن إمرة العراق، لما ظهر منه من الحنق على اليمانية، وهم قوم خالد بن عبد الله القسري، حتى قتل الوليد بن يزيد، وكان قد سجن غالب من ببلاده منهم، وجعل الأرصاد على الثغور خوفاً من جند الخليفة، فعزله عنها أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وولى عليها منصور بن جمهور مع بلاد السند وسجستان وخراسان‏.‏

وقد كان منصور بن جمهور أعرابياً جلفاً وكان يدين بمذهب الغيلانية القدرية، ولكن كانت له آثار حسنة، وعناء كثير في مقتل الوليد بن يزيد، فحظي بذلك عند يزيد بن الوليد‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لما فرغ الناس من الوليد ذهب من فوره إلى العراق فأخذ البيعة من أهلها إلى يزيد، وقرر بالأقاليم نواباً وعمالاً وكر راجعاً إلى دمشق في آخر رمضان، فلذلك ولاه الخليفة ما ولاه، والله أعلم‏.‏

وأما يوسف بن عمر فإنه فر من العراق فلحق ببلاد البلقاء، فبعث إليه أمير المؤمنين يزيد فأحضره إليه، فلما وقف بين يديه أخذ بلحيته - وكان كبير اللحية جداً، ربما كانت تجاوز سرته وكان قصير القامة - فوبخه وأنبه ثم سجنه وأمر باستخلاص الحقوق منه‏.‏

ولما انتهى منصور بن جمهور إلى العراق قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليهم في كيفية مقتل الوليد، وأن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وأنه قد ولى عليهم منصور بن جمهور لما يعلم من شجاعته ومعرفته بالحرب، فبايع أهل العراق ليزيد بن الوليد، وكذلك أهل السند وسجستان‏.‏

وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لأوامره، وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ كتب مروان الملقب‏:‏ بالحمار كتاباً إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميراً على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له‏:‏ إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها‏.‏

وذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وأطاع وسلم‏.‏

وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلاً بها، فخرج عليه رجل يقال له‏:‏ الكرماني، لأنه ولد بكرمان، وهو‏:‏ أبو علي جديع بن علي بن شبيب المغني، واتبعه خلق كثير بحيث إنه كان يشهد الجمعة في نحو من ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريباً من شهر‏.‏

ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر، بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه‏.‏

فقال لهم نصر فيما قال‏:‏ والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، ثم تمثل بقول النابغة‏:‏

فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت

وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعد‏:‏

أبيت أرعى النجوم مرتفقاً * إذا استقلت نحوي أوائلها

من فتنة أصبحت مجللة * قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان والعراق ومن * بالشام كل شجاه شاغلها

يمشي السفيه الذي يعنف بالـ * ـجهل سواء فيها وعاقلها

فالناس منها في لون مظلمة * دهماء ملتجة غياطلها

والناس في كربة يكاد لها * تنبذ أولادها حواملها

يغدون منها في كل مبهمة * عمياء تمنى لهم غوائلها

لا ينظر الناس من عواقبها * إلا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر أو كصيحة حبـ * ـلى طرقت حولها قوابلها

فجاء فينا تزري بوجهته * فيها خطوب حمر زلازلها

وفي هذه السنة‏:‏ أخذ الخليفة البيعة من الأمراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه‏.‏

وكان ذلك في شهر ذي الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الأمراء والأكابر والوزراء‏.‏

وفيها‏:‏ عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي وولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها‏.‏

وفيها‏:‏ أظهر مروان الحمار الخلاف ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة، وبايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبا هاشم بكر بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الإمام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما كان عندهم من النفقات‏.‏

وفي سلخ ذي القعدة‏:‏ وقيل‏:‏ في سلخ ذي الحجة، وقيل‏:‏ لعشر مضين منه، وقيل‏:‏ بعد الأضحى منها كان وفاة أمير المؤمنين‏.‏

 يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

هو‏:‏ يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو خالد الأموي، أمير المؤمنين‏.‏

بويع بالخلافة أول ما بويع بها في قرية المزة، من قرى دمشق، ثم دخل دمشق فغلب عليها، ثم أرسل الجيوش إلى ابن عمه الوليد بن يزيد فقتله، واستحوذ على الخلافة في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يلقب‏:‏ بالناقص لنقصه الناس العشرات التي زادهم إياها الوليد بن يزيد‏.‏

وقيل‏:‏ إنما سماه بذلك مروان الحمار، وكان يقول‏:‏ الناقص بن اليد، وأمه شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، كسروية‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وأمه شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل‏:‏

أنا ابن كسرى وأبي مروان * وقيصر جدي وجدي خاقان

وإنما قال ذلك لأن جده فيروز، وأم أمه بنت قيصر، وأمه شيرويه وهي بنت خاقان ملك الترك، وكانت قد سباها قتيبة بن مسلم، هي وأخت لها فبعثهما إلى الحجاج، فأرسل بهذه إلى الوليد واستبقى عنده الأخرى، فولدت هذه الوليد بن يزيد الناقص هذا، وهذه أخذها الحجاج فكانت عنده بالعراق‏.‏

وكان مولده في سنة تسعين، وقيل‏:‏ في سنة ست وتسعين‏.‏

وقد روى عنه الأوزاعي مسألة السلم‏.‏

وقد ذكرنا كيفية ولايته فيما سلف في هذه السنة، وأنه كان عادلاً ديِّناً محباً للخير مبغضاً للشر، قاصداً للحق‏.‏

وقد خرج يوم عيد الفطر من هذه السنة إلى صلاة العيد بين صفين من الخيالة والسيوف مسللة عن يمينه وشماله، ورجع من المصلى إلى الخضراء كذلك‏.‏

كان رجلاً صالحاً، يقال في المثل‏:‏ الأشج والناقص أعدلا بني مروان، والمراد عمر بن عبد العزيز وهذا‏.‏

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثني إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي عثمان الليثي، قال‏:‏ قال يزيد بن الوليد الناقص‏:‏ يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء فإنه داعية الزنا‏.‏

وقال ابن عبد الحكيم‏:‏ عن الشافعي لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي يقال له‏:‏ الناقص، دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه، وقرب غيلان‏.‏ قاله ابن عساكر‏.‏

قال‏:‏ ولعله قرب أصحاب غيلان، لأن غيلان قتله هشام بن عبد الملك‏.‏

وقال محمد بن المبارك‏:‏ آخر ما تكلم به يزيد بن الوليد الناقص‏:‏ واحزناه واشقاآه‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ العظمة لله‏.‏

وكانت وفاته بالخضراء من طاعون أصابه، وذلك يوم السبت لسبع مضين من ذي الحجة، وقيل‏:‏ يوم الأضحى منه، وقيل‏:‏ بعده بأيام، وقيل‏:‏ لعشر بقين منه، وقيل‏:‏ في سلخه، وقيل‏:‏ في سلخ ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

وأكثر ما قيل في عمره‏:‏ ست وأربعون سنة، وقيل‏:‏ ثلاثون سنة، وقيل‏:‏ غير ذلك، فالله أعلم‏.‏

وكانت مدة ولايته ستة أشهر على الأشهر، وقيل‏:‏ خمسة أشهر وأيام‏.‏

وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد، وهو ولي العهد من بعده - رحمه الله -‏.‏

وذكر سعيد بن كثير بن عفير أنه دفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل‏:‏ إنه دفن بباب الفراديس‏.‏

وكان أسمر نحيفاً حسن الجسم حسن الوجه‏.‏

وقال علي بن محمد المديني‏:‏ كان يزيد أسمر طويلاً صغير الرأس، بوجهه خال، وكان جميلاً، وفي فمه بعض السعة، وليس بالمفرط‏.‏

وحج بالناس فيها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو نائب الحجاز، وأخوه عبد الله نائب العراق، ونصر بن سيار على نيابة خراسان، والله سبحانه أعلم‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

خالد بن عبد الله بن يزيد

ابن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري، أبو الهيثم، البجلي القسري الدمشقي، أمير مكة والحجاز للوليد ثم لسليمان، وأمير العراقين لهشام خمس عشرة سنة‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ كانت داره بدمشق في مربعة القز، وتعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي، وإليه ينسب الحمام الذي داخل باب توما‏.‏

روى عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أسد أتحب الجنة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك‏)‏‏)‏‏.‏

رواه أبو يعلى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن هيثم، عن سيار بن أبي الحكم، أنه سمعه على المنبر يقول ذلك‏.‏

وممن روى عنه‏:‏ إسماعيل بن أوسط، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحميد الطويل‏.‏

وروي أنه روى عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفير المرض الذنوب‏.‏

وكانت أمه نصرانية، وذكره أبو بكر بن عياش في الأشراف فيمن أمه نصرانية‏.‏

وقال المدائني‏:‏ أول ما عرف من رياسته أنه وطأ صبياً بدمشق بفرسه فحمله فأشهد طائفة من الناس أنه هو صاحبه، فإن مات فعليه ديته‏.‏

وقد استنابه الوليد على الحجاز من سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد ثم سليمان، وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة، وسلمه إلى يوسف بن عمر الذي ولاه مكانه فعاقبه وأخذ منه أموالاً ثم أطلقه، وأقام بدمشق إلى المحرم من هذه السنة فسلمه الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يستخلص منه خمسين ألف ألف، فمات تحت العقوبة البليغة، كسر قدميه ثم ساقيه ثم فخذيه، ثم صدره، فمات ولا يتكلم كلمة واحدة، ولا تأوه حتى خرجت روحه - رحمه الله -‏.‏

قال الليثي‏:‏ عن أبيه، خطب خالد القسري يوماً فأرتج عليه، فقال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إن هذا الكلام يجيء أحياناً ويعزب أحياناً، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويتعذر عند عزوبه مطلبه، وقد يرد إلى السليط بيانه، ويثيب إلى الحصر كلامه، وسيعود إلينا ما تحبون، ونعود لكم كما تريدون‏.‏

وقال الأصمعي وغيره‏:‏ خطب خالد القسري يوماً بواسط فقال‏:‏ يا أيها الناس ‏!‏ تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذماً، ولا تعتدُّوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما تكن لأحد منكم نعمة عند أحد لم يبلغ شكرها فالله أحسن له جزاء، وأجزل عطاء، واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم فلا تملوها فتحول نقماً، فإن أفضل المال ما كسب أجراً وأورث ذكراً‏.‏

ولو رأيتم المعروف لرأيتموه رجلاً حسناً جميلاً يسر الناس إذا نظروا إليه، ويفوق العالمين‏.‏

ولو رأيتم البخل لرأيتموه رجلاً مشوهاً قبيحاً تنفر منه القلوب، وتغض دونه الأبصار‏.‏

إنه من جاد ساد، ومن بخل ذل، وأكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع عند مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو‏.‏

وروى الأصمعي، عن عمر بن الهيثم، أن أعرابياً قدم على خالد فأنشده قصيدة امتدحه بها يقول فيها‏:‏

إليك ابن كرز الخير أقبلت راغباً * لتجبر مني ما وها وتبدَّدا

إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى * وأكرم خلق الله فرعاً ومحتدا

إذا ما أناس قصروا بفعالهم * نهضت فلم تلقى هنالك مفقدا

فيالك بحراً يغمر الناس موجه * إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا

بلوت ابن عبد الله في كل موطن * فألفيت خير الناس نفساً وأمجدا

فلو كان في الدنيا من الناس خالد * لجود بمعروف لكنت مخلدا

فلا تحرمني منك ما قد رجوته * فيصبح وجهي كالح اللون أربدا

قال‏:‏ فحفظها خالد، فلما اجتمع الناس عند خالد قام الأعرابي ينشدها، فابتدره إليها خالد فأنشدها قبله وقال‏:‏ أيها الشيخ ‏!‏ إن هذا شعر قد سبقناك إليه‏.‏

فنهض الشيخ فولَّى ذاهباً فاتبعه خالد من يسمع ما يقول فإذا هو ينشد هذه الأبيات‏:‏

ألا في سبيل الله ما كنت أرتجي * لديه وما لاقيت من نكد الجهد

دخلت على بحر يجود بماله * ويعطي كثير المال في طلب الحمد

فخالفني الجد المشوم لشقوتي * وقاربني نحسي وفارقني سعدي

فلو كان لي رزق لديه لنلته * ولكن أمر من الواحد الفرد

فرده إلى خالد وأعلمه بما كان يقول فأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ سأل أعرابي خالداً القسري أن يملأ له جرابه دقيقاً فأمر بملئه له دراهم، فقيل للأعرابي حين خرج‏:‏ ما فعل معك ‏؟‏

فقال‏:‏ سألته بما أشتهي فأمر لي بما يشتهي هو‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بينما خالد يسير في موكبه إذ تلقاه أعرابي فسأله أن يضرب عنقه، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ ولم‏؟‏ أقطعت السبيل‏؟‏ أأخرجت يداً من طاعة ‏؟‏

فكل ذلك يقول‏:‏ لا ‏!‏

قال‏:‏ فلم ‏؟‏

قال‏:‏ من الفقر والفاقة‏.‏

فقال‏:‏ سل حاجتك‏.‏

قال‏:‏ ثلاثين ألفاً‏.‏

فقال خالد‏:‏ ما ربح أحد مثل ما ربحت اليوم، إني وضعت في نفسي أن يسألني مائة ألف، فسأل ثلاثين فربحت سبعين‏.‏

ارجعوا بنا اليوم، وأمر له بثلاثين ألفاً‏.‏

وكان إذا جلس يوضع المال بين يديه ويقول‏:‏ إن هذه الأموال ودائع لابد من تفرقتها‏.‏

وسقط خاتم لجاريته رابعة يساوي ثلاثين ألفاً، في بالوعة الدار، فسألت أن تؤتى بمن يخرجه، فقال‏:‏ إن يدك أكرم علي من أن تلبسه بعد ما صار إلى هذا الموضع القذر‏.‏

وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله، وقد كان لرابعة هذه من الحلي شيء عظيم، من جملة ذلك ياقوتة وجوهرة، كل واحدة بثلاثة وسبعين ألف دينار‏.‏

وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد، وابن أبي حاتم في كتاب السنة، وغير واحد ممن صنف في كتب السنة، أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً‏.‏ ثم نزل فذبحه في أصل المنبر‏.‏

قال غير واحد من الأئمة‏:‏ كان الجعد بن درهم من أهل الشام، وهو مؤدب مروان الحمار، ولهذا يقال له‏:‏ مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية، الذين يقولون‏:‏ إن الله في كل مكان بذاته تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً‏.‏

وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له‏:‏ أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم، عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط وماشطه وجف طلعة ذكر له، وتحت راعوفة ببئر ذي أروان الذي كان ماؤها نقاعة الحناء‏.‏

وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما‏.‏

وجاء في بعض الأحاديث‏:‏ أن الله تعالى أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏:‏ حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي، سمعت أبا بكر بن عياش، قال‏:‏ رأيت خالداً القسري حين أتي بالمغيرة وأصحابه، وقد وضع له سرير في المسجد، فجلس عليه، ثم أمر برجل من أصحابه فضرب عنقه ثم قال للمغيرة‏:‏ أحيه - وكان المغيرة يزعم أنه يحيي الموتى -‏.‏

فقال له‏:‏ والله أصلحك الله ما أحيي الموتى‏.‏

قال‏:‏ لتحيينه أو لأضربن عنقك‏.‏

قال‏:‏ والله ما أقدر على ذلك‏.‏

ثم أمر بطن قصب فأضرموا فيه ناراً ثم قال للمغيرة‏:‏ أعتنقه‏.‏

فأبى، فعدا رجل من أصحابه فأعتنقه، قال أبو بكر‏:‏ فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة‏.‏

قال خالد‏:‏ هذا والله أحق بالرياسة منك‏.‏

ثم قتله وقتل أصحابه‏.‏

وقال المدائني‏:‏ أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له‏:‏ ما علامة نبوتك ‏؟‏

قال‏:‏ قد نزل عليَّ قرآن‏.‏

قال‏:‏ إنا أعطياك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر، ولا تطع كل كافر وفاجر‏.‏

فأمر به فصلب، فقال وهو يصلب‏:‏ إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود‏.‏

وقال المبرد‏:‏ أتي خالد بشاب قد وجد في دار قوم وادعي عليه السرقة، فسأله فاعترف، فأمر بقطع يده، فتقدمت حسناء فقالت‏:‏

أخالد قد أوطأت والله عثرة * وما العاشق المسكين فينا بسارق

أقرَّ بما لم يجنه غير أنه * رأى القطع أولى من فضيحة عاشق

فأمر خالد بإحضار أبيها فزوجها من ذلك الغلام، وأمهرها عنه عشرة آلاف درهم‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ دخل أعرابي على خالد فقال‏:‏ إني قد مدحتك ببيتين ولست أنشدهما إلا بعشرة آلاف وخادم‏.‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏

فأنشأ يقول‏:‏

لزمت نعم حتى كأنك لم تكن * سمعت من الأشياء شيئاً سوى نعم

وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن * سمعت بها في سالف الدهر والأمم

قال‏:‏ فأمر له بعشرة آلاف درهم وخادم يحملها‏.‏

قال‏:‏ ودخل عليه أعرابي فقال له‏:‏ سل حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ مائة ألف‏.‏

فقال‏:‏ أكثرت حط منها‏.‏

قال‏:‏ أضع تسعين ألفاً‏.‏

فتعجب منه خالد فقال‏:‏ أيها الأمير ‏!‏ سألتك على قدرك، ووضعت على قدري‏.‏

فقال له‏:‏ لن تغلبني أبداً، وأمر له بمائة ألف‏.‏

قال‏:‏ ودخل عليه أعرابي، فقال‏:‏ إني قد قلت فيك شعراً وأنا أستصغره فيك‏.‏

فقال‏:‏ قل‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏

تعرضت لي بالجود حتى نعشتني * وأعطيتني حتى ظننتك تلعب

فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى * حليف الندى ما للندى عنك مذهب

فقال‏:‏ سل حاجتك‏.‏

قال‏:‏ عليَّ خمسون ألف دينار‏.‏

فقال‏:‏ قد أمرت لك بها وأضعفتها لك، فأعطاه مائة ألف

قال أبو الطيب محمد بن إسحق بن يحيى الوساي‏:‏ دخل أعرابي على خالد القسري فأنشده‏:‏

كتبت نعم ببابك فهي تدعو * إليك الناس مسفرة النقاب

وقلت للا عليك بباب غيري * فإنك لن تري أبداً ببابي

قال‏:‏ فأعطاه على كل بيت خمسين ألفاً‏.‏

وقد قال فيه ابن معين‏:‏ كان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -‏.‏

وذكر الأصمعي، عن أبيه‏:‏ أن خالداً حفر بئراً بمكة ادَّعى فضلها على زمزم، وله في رواية عنه‏:‏ تفضيل الخليفة على الرسول، وهذا كفر إلا أن يريد بكلامه غير ما يبدو منه، والله أعلم‏.‏

والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع، وقد أغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره‏.‏

وقد ذكر ابن جرير وابن عساكر وغيرهما أن الوليد بن يزيد كان قد عزم على الحج في إمارته فمن نيته أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فلما بلغ ذلك جماعة من الأمراء اجتمعوا على قتله وتولية غيره من الجماعة، فحذر خالد أمير المؤمنين منهم، فسأله أن يسميهم فأبى عليه فعاقبه عقاباً شديداً، ثم بعث به إلى يوسف بن عمر فعاقبه حتى مات شر قتلة وأسوئها، وذلك في محرم من هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائة -‏.‏

وذكره القاضي ابن خلكان في الوفيات، وقال‏:‏ كان متهماً في دينه، وقد بنى لأمه كنيسة في داره‏.‏

قال فيه بعض الشعراء وقال صاحب الأعيان‏:‏ كان في نسبه يهود فانتموا إلى القرب، وكان يقرب من شق و سطيح‏.‏

قال القاضي بن خلكان‏:‏ وقد كانا ابني خالة، وعاش كل منهما ستمائة، وولدا في يوم واحد، وذلك يوم ماتت طريفة بنت الحر بعد ما تفلت في فم كل منهما وقالت‏:‏ إنه سيقوم مقامي في الكهانة، ثم ماتت من يومها‏.‏

وممن توفي في هذه السنة‏:‏ جبلة بن سحيم، ودارج أبو السمح، وسعيد بن مسروق، في قول، وسليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق، وعبد الرحمن بن قاسم، شيخ مالك، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعمرو بن دينار، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

استهلت هذه السنة والخليفة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بوصية أخيه يزيد الناقص إليه، وبايعه الأمراء بذلك، وجميع أهل الشام إلا أهل حمص فلم يبايعوه‏.‏

وقد تقدم أن مروان بن محمد الملقب‏:‏ بالحمار كان نائباً بأذربيجان وأرمينية، وتلك كانت لأبيه من قبله، وكان نقم على يزيد بن الوليد في قتله الوليد بن يزيد، وأقبل في طلب دم الوليد، فلما انتهى إلى حران أناب وبايع يزيد بن الوليد، فلم يلبث إلا قليلاً حتى بلغه موته‏.‏

فأقبل في أهل الجزيرة حتى وصل قنسرين فحاصر أهلها فنزلوا على طاعته، ثم أقبل إلى حمص وعليها عبد العزيز بن الحجاج من جهة أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد فحاصرهم حتى يبايعوا لإبراهيم بن الوليد، وقد أصروا على عدم مبايعته، فلما بلغ عبد العزيز قرب مروان بن محمد ترحل عنها، وقدم مروان إليها فبايعوه وساروا معه قاصدين دمشق، ومعهم جند الجزيرة وجند قنسرين‏.‏

فتوجه مروان إلى دمشق في ثمانين ألفاً، وقد بعث إبراهيم بن الوليد بن هشام بن عبد الملك في مائة وعشرين ألفاً، فالتقى الجيشان عند عين الجر من البقاع، فدعاهم مروان إلى الكف عن القتال وأن يتخلوا عن ابني الوليد بن يزيد وهما الحكم وعثمان اللذان قد أخذ العهد لهما، وكان يزيد قد سجنهما بدمشق، فأبوا عليه ذلك، فاقتتلوا قتالاً شديداً من حين ارتفاع النهار إلى العصر، وبعث مروان سرية تأتي جيش ابن هشام من ورائهم، فتم لهم ما أرادوه، وأقبلوا من ورائهم يكبرون، وحمل الآخرون من تلقاهم عليهم‏.‏

فكانت الهزيمة في أصحاب سليمان، فقتل منهم أهل حمص خلقاً كثيراً، واستبيح عسكرهم، وكان مقدار ما قتل من أهل دمشق في ذلك اليوم قريباً من سبعة عشر ألفاً أو ثمانية عشر ألفاً وأسر منهم مثلهم، فأخذ عليهم مروان البيعة للغلامين ابني الوليد، الحكم وعثمان، وأطلقهم كلهم سوى رجلين، وهما‏:‏ يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، فضربهما بين يديه بالسياط وحبسهما فماتا في السجن، لأنهما كانا ممن باشر قتل الوليد بن يزيد حين قتل‏.‏

وأما سليمان وبقية أصحابه فإنهم استمروا منهزمين، فما أصبح لهم الصبح إلا بدمشق، فأخبروا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد بما وقع، فاجتمع معهم رؤس الأمراء في ذلك الوقت وهم‏:‏ عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وأبو علاقة السككي، والأصبغ بن ذؤالة الكلبي، ونظراؤهم، على أن يعمدوا إلى قتل ابني الوليد‏:‏ الحكم وعثمان، خشية أن يلي الخلافة فيهلكا من عاداهما وقتل أباهما‏.‏

فبعثوا إليهما يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، فعمد إلى السجن وفيه الحكم وعثمان ابنا الوليد وقد بلغا، ويقال‏:‏ ولد لأحدهما ولد فشدخها بالعمد، وقتل يوسف بن عمر - وكان مسجوناً معهما - وكان في سجنهما أيضاً أبو محمد السفياني فهرب فدخل في بيت داخل السجن وجعل وراء الباب ردماً، فحاصروه فامتنع، فأتوا بنار ليحرقوا الباب‏.‏

ثم اشتغلوا عن ذلك بقدوم مروان بن محمد وأصحابه إلى دمشق في طلب المنهزمين‏.‏

 ذكر دخول مروان الحمار دمشق وولايته الخلافة

لما أقبل مروان بمن معه من الجنود من عين الجر واقترب من دمشق وقد انهزم أهلها بين يديه بالأمس، هرب إبراهيم بن الوليد، وعمد سليمان بن هشام إلى بيت المال ففتحه وأنفق ما فيه على أصحابه ومن اتبعه من الجيوش، وسار موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه فيها، وانتهبوها ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان بن محمد دمشق فنزل في أعاليها، وأتي بالغلامين الحكم وعثمان وهما مقتولان وكذلك يوسف بن عمر فدفنوه‏.‏

وأتي بأبي محمد السفياني وهو في حبوله فسلم على مروان بالخلافة فقال مروان‏:‏ مه‏.‏

فقال‏:‏ إن هذين الغلامين جعلاها لك من بعدهما‏.‏

ثم أنشد قصيدة قالها الحكم في السجن وهي طويلة منها قوله‏:‏

ألا من مبلغ مروان عني * وعمي الغمر طال بذا حنينا

بأني قد ظلمت وصار قومي * على قتل الوليد متابعينا

فإن أهلك أنا وولي عهدي * فمروان أمير المؤمنينا

ثم قال أبو محمد السفياني لمروان‏:‏ ابسط يدك‏.‏

فكان أول من بايعه بالخلافة، فمعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ثم بايعه رؤس أهل الشام من أهل دمشق وحمص وغيرهم، ثم قال لهم مروان‏:‏ اختاروا أمراء نوليهم عليكم‏.‏

فاختار أهل كل بلد أميراً فولاه عليهم، فعلى دمشق‏:‏ زامل بن عمرو الجبراني، وعلى حمص‏:‏ عبد الله بن شجرة الكندي، وعلى الأردن‏:‏ الوليد بن معاوية بن مروان، وعلى فلسطين‏:‏ ثابت بن نعيم الجذامي‏.‏

ولما استوت الشام لمروان بن محمد رجع إلى حران وعند ذلك طلب منه إبراهيم بن الوليد الذي كان خليفة وابن عمه سليمان بن هشام الأمان فأمنهما، وقدم عليه سليمان بن هشام في أهل تدمر فبايعوه، ثم لما استقر مروان في حران أقام فيها ثلاثة أشهر فانتقض عليه ما كان انبرم له من مبايعة أهل الشام، فنقض أهل حمص وغيرهم، فأرسل إلى أهل حمص جيشاً فوافوهم ليلة عيد الفطر من هذه السنة، وقدم مروان إليها بعد الفطر بيومين، فنازلها مروان في جنود كثيرة، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وهما عنده مكرمان خصيصان لا يجلس إلا بهما وقت الغداء والعشاء، فلما حاصر حمص نادوه إنا على طاعتك‏.‏

فقال‏:‏ افتحوا باب البلد، ففتحوه‏.‏

ثم كان منهم بعض القتال فقتل منهم نحو الخمسمائة أو الستمائة، فأمر بهم فصلبوا حول البلد، وأمر بهدم بعض سورها‏.‏

وأما أهل دمشق فأما‏:‏ أهل الغوطة فحاصروا أميرهم زامل بن عمر، وأمَّروا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت في المدينة نائبها، فبعث إليه أمير المؤمنين مروان من حمص عسكراً نحو عشرة آلاف، فلما اقتربوا من دمشق خرج النائب فيمن معه، والتقوا هم والعسكر بأهل الغوطة فهزموهم، وحرقوا المزة وقرى أخرى معها، واستجار يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة الكلبي برجل من أهل المزة من لخم، فدل عليهم زامل بن عمرو فقتلهما وبعث برأسيهما إلى أمير المؤمنين مروان وهو بحمص‏.‏

وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين على الخليفة وأتوا طبرية فحاصروها، فبعث الخليفة إليهم جيشاً فأجلوهم عنها واستباحوا عسكرهم، وفر ثابت بن نعيم هارباً إلى فلسطين فاتبعه الأمير أبو الورد فهزمه ثانية وتفرق عنه أصحابه، وأسر أبو الورد ثلاثة من أولاده فبعث بهم إلى الخليفة وهم جرحى فأمر بمداواتهم‏.‏

ثم كتب أمير المؤمنين إلى نائب فلسطين وهو الرماحس بن عبد العزيز الكناني يأمره بطلب ثابت بن نعيم حيث كان، فما زال يتلطف به حتى أخذه أسيراً، وذلك بعد شهرين، فبعثه إلى الخليفة وأمر بقطع يديه ورجليه، وكذلك جماعة كانوا معه، وبعث بهم إلى دمشق فأقيموا على باب مسجدها، لأن أهل دمشق كانوا قد أرجفوا بأن ثابت بن نعيم ذهب إلى ديار مصر فتغلب عليها وقتل نائب مروان فيها، فأرسل إليهم مقطع اليدين والرجلين ليعرفوا بطلان ما كانوا به أرجفوا‏.‏

وأقام الخليفة مروان بدير أيوب عليه السلام مدة حتى بايع لابنه عبد الله ثم عبيد الله وزوجهما ابنتي هشام، وهما‏:‏ أم هشام وعائشة، وكان مجمعاً حافلاً وعقداً هائلاً، ومبايعةً عامةً، ولكن لم تكن في نفس الأمر تامة‏.‏

وقدم الخليفة إلى دمشق، وأمر بثابت وأصحابه بعد ما كانوا تقطعوا أن يصلبوا على أبواب البلد، ولم يستبق منهم أحد إلا واحداً وهو‏:‏ عمر بن الحارث الكلبي، وكان عنده فيما زعم علم بودايع كان ثابت بن نعيم أودعها عند أقوام‏.‏

واستوسق أمر الشام لمروان ماعدا تدمر، فسار من دمشق فنزل القسطل من أرض حمص، وبلغه أن أهل تدمر قد غوروا ما بينه وبينهم من المياه، فاشتد غضبه عليهم ومعه حجافل من الجيوش، فتكلم الأبرش بن الوليد وكانوا قومه فسأل منه أن يرسل إليهم أولاً ليعذر إليهم‏.‏

فبعث عمرو بن الوليد أخا الأبرش، فلما قدم عليهم لم يلتفتوا إليه ولا سمعوا له قولاً فرجع، فهمَّ الخليفة أن يبعث الجنود فسأله الأبرش أن يذهب إليهم بنفسه فأرسله، فلما قدم عليهم الأبرش كلمهم واستمالهم إلى السمع والطاعة، فأجابه أكثرهم وامتنع بعضهم، فكتب إلى الخليفة يعلمه بما وقع، فأمره الخليفة أن يهدم بعض سورها، وأن يقبل بمن أطاعه منهم إليه، ففعل‏.‏

فلما حضروا عنده سار بمن معه من الجنود نحو الرصافة على طريق البرية، ومعه من الرؤوس‏:‏ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وجماعة من ولد الوليد، ويزيد، وسليمان، فأقام بالرصافة أياماً ثم شخص إلى البرية‏.‏

فاستأذنه سليمان بن هشام أن يقيم هناك أياماً ليستريح ويجم ظهره فأذن له، فانحدر مروان فنزل عند واسط على شط الفرات فأقام ثلاثاً، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليبعثه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الحروري، واشتغل مروان بهذا الأمر‏.‏

وأقبل عشرة آلاف فارس ممن كان مروان قد بعثهم في بعض السرايا، فاجتازوا بالرصافة وفيها سليمان بن هشام بن عبد الملك الذي كان استأذن الخليفة في المقام هناك للراحة، فدعوه إلى البيعة له وخلع مروان بن محمد ومحاربته، فاستزله الشيطان فأجابهم إلى ذلك، وخلع مروان وسار بالجيوش إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه من كل وجه‏.‏

وكتب سليمان إلى ابن هبيرة الذي جهزه مروان لقتال الضحاك بن قيس الخارجي يأمره بالمسير إليه، فالتفت إليه نحو من سبعين ألفاً، وبعث مروان إليهم عيسى بن مسلم في نحو من سبعين ألفاً، فالتقوا بأرض قنسرين فاقتتلوا قتالاً شديداً، وجاء مروان والناس في الحرب فقاتلهم أشد قتال فهزمهم، وقتل يومئذ إبراهيم بن سليمان بن هشام، وكان أكبر ولده، وقتل منهم نيفاً وثلاثين ألف‏.‏

وذهب سليمان مغلوباً فأتى حمص فالتف عليه من انهزم من الجيش فعسكر بهم فيها، وبنى ما كان مروان هدم من سورها‏.‏

فجاءهم مروان فحاصرهم بها ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقاً، فمكث كذلك ثمانية أشهر يرميهم ليلاً ونهاراً، ويخرجون إليه كل يوم ويقاتلون ثم يرجعون‏.‏

هذا وقد ذهب سليمان وطائفة من الجيش معه إلى تدمر وقد اعترضوا جيش مروان في الطريق وهموا بالفتك به وأن ينتهبوه فلم يمكنهم ذلك، وتهيأ مروان فقاتلهم فقتلوا من جيشه قريباً من ستة آلاف وهم تسعمائة، انصرفوا إلى تدمر، ولزم مروان محاصرة حمص كمال عشرة أشهر‏.‏

فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل، سألوه أن يؤمنهم فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم سألوه الأمان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام، وابنيه مروان وعثمان ومن السكسكي الذي كان حبس معه، ومن حبشي كان يفتري عليه ويشتمه‏.‏

فأجابهم إلى ذلك فأمنهم وقتل أولئك، ثم سار إلى الضحاك، وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق قد صالح الضحاك الخارجي على ما بيده من الكوفة وأعمالها‏.‏

وجاءت خيول مروان قاصدة إلى الكوفة، فتلقاهم نائبها من جهة الضحاك - ملحان الشيباني - فقاتلهم فقتل ملحان، واستناب الضحاك عليها المثنى بن عمران من بني عائذة، وسار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وسار ابن هبيرة إلى الكوفة فانتزعها من أيدي الخوارج، وأرسل الضحاك جيشاً إلى الكوفة فلم يجد شيئاً‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج الضحاك بن قيس الشيباني، وكان سبب خروجه أن رجلاً يقال له‏:‏ سعيد بن بهدل - وكان خارجياً - اغتنم غفلة الناس واشتغالهم بمقتل الوليد بن يزيد، فثار في جماعة من الخوارج بالعراق، فالتف عليه أربعة آلاف - ولم تجتمع قبلها لخارجي - فقصدتهم الجيوش فاقتتلوا معهم، فتارة يكسرون وتارة يُكسرون‏.‏

 

ثم مات سعيد بن بهدل في طاعون أصابه، واستخلف على الخوارج من بعده الضحاك بن قيس هذا، فالتف أصحابه عليه، والتقى هو وجيش كثير فغلبت الخوارج وقتلوا خلقاً كثيراً، منهم عاصم بن عمر بن عبد العزيز - أخو أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز - فرثاه بأشعار‏.‏

ثم قصد الضحاك بطائفة من أصحابه مروان فاجتاز الكوفة، فنهض إليه أهلها فكسرهم ودخل الكوفة فاستحوذ عليها، واستناب بها رجلاً اسمه‏:‏ حسان، ثم استناب ملحان الشيباني في شعبان من هذه السنة، وسار هو في طلب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق، فالتقوا فجرت بينهم حروب كثيرة يطول ذكرها وتفصيلها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ اجتمعت جماعة من الدعاة إلى بني العباس عند إبراهيم بن محمد الإمام ومعهم أبو مسلم الخراساني، فدفعوا إليه نفقات كثيرة، وأعطوه خمس أموالهم، ولم ينتظم لهم أمر في هذه السنة لكثرة الشرور المنتشرة، والفتن الواقعة بين الناس‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج بالكوفة معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعا إلى نفسه، وخرج إلى محاربة أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها، ثم أجلاه عنها فلحق بالجبال فتغلب عليها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج الحارث بن سريج الذي كان لحق ببلاد الترك ومالأهم على المسلمين فمنَّ الله عليه بالهداية ووفقه حتى خرج إلى بلاد الشام، وكان ذلك عن دعاء يزيد بن الوليد إلى الرجوع إلى الإسلام وأهله فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى خراسان فأكرمه نصر بن سيار نائب سورة، واستمر الحارث بن سريج على الدعوة إلى الكتاب والسنة وطاعة الإمام، وعنده بعض المناوأة لنصر بن سيار‏.‏

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أمير الحجاز ومكة والمدينة والطائف، وأمير العراق نضر بن سعيد الحرشي، وقد خرج عليه الضحاك الحروري، وعبد الله بن عبد العزيز‏.‏

وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد خرج عليه الكرماني والحارث بن سريج‏.‏

وممن توفي هذه السنة‏:‏ بكر بن الأشج، وسعد بن إبراهيم، وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن مالك الجزري، وعمير بن هانئ، ومالك بن دينار، ووهب بن كيسان، وأبو إسحاق السبيعي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

فيها‏:‏ كان مقتل الحارث بن سريج، وكان سبب ذلك أن يزيد بن الوليد الناقص كان قد كتب إليه كتاب أمان، حتى خرج من بلاد الترك وصار إلى المسلمين ورجع عن موالاة المشركين إلى نصرة الإسلام وأهله‏.‏

وأنه وقع بينه وبين نصر بن سيار نائب خراسان وحشة ومنافسات كثيرة يطول ذكرها، فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث بن سريج من ذلك‏.‏

وتولى ابن هبيرة نيابة العراق، وجاءت البيعة لمروان، فامتنع الحارث من قبولها وتكلم في مروان، وجاءه مسلمة بن أحوز أمير الشرطة، وجماعة من رؤس الأجناد والأمراء، وطلبوا منه أن يكف لسانه ويده، وأن لا يفرق جماعة المسلمين، فأبى وبرز ناحية عن الناس، ودعا نصر بن سيار إلى ما هو عليه من الدعوة إلى الكتاب والسنة فامتنع نصر من موافقته، واستمر هو على خروجه على الإسلام‏.‏

وأمر الجهم بن صفوان مولى بني راسب ويكنى‏:‏ بأبي محرز - وهو الذي نسبت إليه الفرقة الجهمية - أن يقرأ كتاباً فيه سيرة الحارث على الناس، وكان الحارث يقول‏:‏ أنا صاحب الرايات السود‏.‏

فبعث إليه نصر يقول‏:‏ لئن كنت ذاك فلعمري إنكم الذين تخربون سور دمشق وتزيلون بني أمية، فخذ مني خمسمائة رأس ومائة بعير، وإن كنت غيره فقد أهلكت عشيرتك‏.‏

فبعث إليه الحارث يقول‏:‏ لعمري إن هذا لكائن‏.‏

فقال له نصر‏:‏ فابدأ بالكرماني أولاً، ثم سر إلى الري، وأنا في طاعتك إذا وصلتها‏.‏

ثم تناظر نصر والحارث ورضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان والجهم بن صفوان، فحكما أن يعزل نصر ويكون الأمر شورى‏.‏

فامتنع نصر من قبول ذلك، ولزم الجهم بن صفوان وغيره قراءة سيرة الحارث على الناس في الجامع والطرق، فاستجاب له خلق كثير وجمع غفير، فعند ذلك انتدب لقتاله جماعات من الجيوش عن أمر نصر بن سيار، فقصدوه فحارب دونه أصحابه، فقتل منهم طائفة كثيرة منهم الجهم بن صفوان طعنه رجل في فيه فقتله، ويقال‏:‏ بل أسر الجهم فأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر بقتله، فقال‏:‏ إن لي أماناً من أبيك‏.‏

فقال‏:‏ ما كان له أن يؤمنك، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم، ما نجوت، والله ولو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك‏.‏

وأمر ابن ميسر فقتله‏.‏

ثم اتفق الحارث بن سريج والكرماني على نصر ومخالفته، والدعوة إلى الكتاب والسنة واتباع أئمة الهدى وتحريم المنكرات إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة، ثم اختلفا فيما بينهما واقتتلا قتالاً شديداً، فغلب الكرماني وانهزم أصحاب الحارث‏.‏

وكان راكباً على بغل فتحول إلى فرس فحرنت أن تمشي، وهرب عنه أصحابه ولم يبق معه منهم سوى مائة، فأدركه أصحاب الكرماني فقتلوه تحت شجرة زيتون، وقيل‏:‏ تحت شجرة عبيرا‏.‏

وذلك يوم الأحد لست بقين من رجب من هذه السنة، وقتل معه مائة من أصحابه، واحتاط الكرماني على حواصله وأمواله، وأخذ أموال من خرج معه أيضاً، وأمر بصلب الحارث بلا رأس على باب مرو، ولما بلغ نصر بن سيار مقتل الحارث قال في ذلك‏:‏

يا مدخل الذل على قومه * بعداً وسحقاً لك من هالك

شؤمك أردى مضراً كلها * وغض من قومك بالحارك

ما كانت الأزد وأشياعها * تطمع في عمر ولا مالك

ولا بني سعد إذ ألجموا * كلَّ طمرٍّ لونه حالك

وقد أجابه عباد بن الحارث بن سريج فيما قال‏:‏

ألا يا نصر قد برح الخفاء * وقد طال التمني والرجاء

وأصبحت المزون بأرض مرو * تقضي في الحكومة ما تشاء

يجوز قضاؤها في كل حكم * على مضر وإن جار القضاء

وحمير في مجالسها قعود * ترقرق في رقابهم الدماء

فإن مضر بذا رضيت وذلت * فطال لها المذلة والشقاء

وإن هي أعتبت فيها وإلا * فخل على عساكرها العفاء

وفي هذه السنة‏:‏ بعث إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم الخراساني إلى خراسان، وكتب معه كتباً إلى شيعتهم بها‏:‏ إن هذا أبا مسلم فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان‏.‏

فلما قدم أبو مسلم خراسان وقرأ على أصحابه هذا الكتاب، لم يلتفتوا إليه ولم يعملوا به وأعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم، فاشتكاهم إليه وأخبره بما قابلوه من المخالفة، فقال له‏:‏ يا عبد الرحمن ‏!‏ إنك رجل منا أهل البيت، ارجع إليهم وعليك بهذا الحي من اليمن فأكرمهم وانزل بين أظهرهم فإن الله لا يتمم هذا الأمر إلا بهم‏.‏

ثم حذره من بقية الأحياء وقال له‏:‏ إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لساناً عربياً فافعل، ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار واتهمته فاقتله، وعليك بذاك الشيخ فلا تقصه - يعني‏:‏ سليمان بن كثير -‏.‏

وسيأتي ما كان من أمر أبي مسلم الخراساني فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ قتل الضحاك بن قيس الخارجي في قول أبي مخنف، وكان سبب ذلك أن الضحاك حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط ووافقه على محاصرته منصور بن جمهور، فكتب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إليه‏:‏ إنه لا فائدة لك في محاصرتي ولكن عليك بمروان بن محمد فسر إليه، فإن قتلته اتبعتك‏.‏

فاصطلحا على مخالفة مروان بن محمد أمير المؤمنين، فلما اجتاز الضحاك بالموصل كاتبه أهلها فمال إليهم فدخلها، وقتل نائبها واستحوذ عليها، وبلغ ذلك مروان وهو محاصر حمص، ومشغول بأهلها وعدم مبايعتهم إياه، فكتب إلى ابنه عبد الله بن مروان - وكان الضحاك قد التف عليه مائة ألف وعشرون ألفاً، فحاصروا نصيبين - وساق مروان في طلبه فالتقيا هنالك، فاقتتلا قتالاً شديداً فقتل الضحاك في المعركة وحجز الليل بين الفريقين، وفقد أصحاب الضحاك الضحاك وشكوا في أمره حتى أخبرهم من رآه قد قتل، فبكوا عليه وناحوا‏.‏

وجاء الخبر إلى مروان فبعث إلى المعركة بالمشاعل ومن يعرف مكانه بين القتلى، وجاء الخبر إلى مروان وهو مقتول، وفي رأسه ووجهه نحو عشرين ضربة، فأمروا برأسه فطيف به في مدائن الجزيرة‏.‏

واستخلف الضحاك على جيشه من بعده رجلاً يقال له‏:‏ الخبيري، فالتف عليه بقية جيش الضحاك، والتف مع الخبيري سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهل بيته ومواليه، والجيش الذي كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة، وخلعوا مروان بن محمد عن الخلافة لأجله، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان، فحمل الخبيري في أربعمائة من شجعان أصحابه على مروان، وهو في القلب، فكرَّ منهزماً واتبعوه حتى أخرجوه من الجيش، ودخلوا عسكره وجلس الخبيري على فرشه‏.‏

هذا وميمنة مروان ثابتة وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضاً ثابتة وعليها إسحق بن مسلم العقيلي‏.‏

ولما رأى عبد الله العسكر فارِّين مع الخبيري، وأن الميمنة والميسرة من جهتهم باقيتان، طمعوا فيه فأقبلوا إليه بعمد الخيام فقتلوه بها، وبلغ قتله مروان وقد سار عن الجيش نحواً من خمسة أميال أو ستة، فرجع مسروراً وانهزم أصحاب الضحاك، وقد ولوا عليهم شيبان، فقصدهم مروان بعد ذلك بمكان يقال له‏:‏ الكراديس فهزمهم‏.‏

وفيها‏:‏ بعث مروان الحمار على إمارة العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ليقاتل من بها من الخوارج‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب المدينة ومكة والطائف، وأمير العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار‏.‏

وممن توفي في هذه السنة‏:‏ بكرة بن سوادة، وجابر الجعفي، والجهم بن صفوان مقتولاً كما تقدم، والحارث بن سريج أحد كبراء الأمراء، وقد تقدم شيء من ترجمته، وعاصم بن عبدلة، وأبو حصين عثمان بن عاصم، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو التياح يزيد بن حميد، وأبو حمزة النعنبعي، وأبو الزبير المكي، وأبو عمران الجوني، وأبو قبيل المغافري، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

فيها‏:‏ اجتمعت الخوارج بعد الخبيري على شيبان بن عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن يتحصنوا بالموصل ويجعلوها منزلاً لهم، فتحولوا إليها وتبعهم مروان بن محمد أمير المؤمنين، فعسكروا بظاهرها وخندقوا عليهم مما يلي جيش مروان‏.‏

وقد خندق مروان على جيشه أيضاً من ناحيتهم، وأقام سنة يحاصرهم ويقتتلون في كل يوم بكرة وعشية، وظفر مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، وهو‏:‏ أمية بن معاوية بن هشام، أسر بعض جيشه فأمر به فقطعت يداه ثم ضرب عنقه، وعمه سليمان والجيش ينظرون إليه، وكتب مروان إلى نائبه بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بقتال الخوارج الذين في بلاده‏.‏

فجرت له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابن هبيرة، وأباد خضراءهم، ولم يبق لهم بقية بالعراق، واستنقذ الكوفة من أيدي الخوارج وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان من هذه السنة، وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما فرغ من الخوارج أن يمده بعمار بن صبارة - وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فأرسلت إليه سرية في أربعة آلاف فاعترضوه في الطريق فهزمهم ابن صبارة وقتل أميرهم الجون بن كلاب الشيباني الخارجي، وأقبل نحو الموصل، ورجع فل الخوارج إليهم‏.‏

فأشار سليمان بن هشام عليهم أن يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكن يمكنهم الإقامة بها، ومروان من أمامهم وابن صبارة من ورائهم، وقد قطع عنهم الميرة حتى يجدوا شيئاً يأكلونه، فارتحلوا عنها وساروا على حلوان إلى الأهواز، فأرسل مروان ابن صبارة في آثارهم في ثلاثة ألف، فأتبعهم يقتل من تخلف منهم ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، ومازال وراءهم حتى فرق شملهم شذر مذر، وهلك أميرهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري بالأهواز في السنة القابلة، قتله خالد بن مسعود بن جعفر بن خيلد الأزدي، وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهل بيته السفن، وساروا إلى السند، ورجع مروان من الموصل فأقام بمنزله بحران وقد وجد سروراً بزوال الخوارج ولكن لم يتم سروره، بل أعقبه القدر من هو أقوى شوكة وأعظم اتباعاً، وأشد بأساً من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخرساني الداعية إلى دولة بني عباس‏.‏

 أول ظهور أبي مسلم الخراساني

وفي هذه السنة‏:‏ رد كتاب إبراهيم بن محمد الإمام العباسي بطلب أبي مسلم الخراساني من خراسان، فسار إليه في سبعين من النقباء لا يمرون ببلد إلا سألوهم‏:‏ إلى أين تذهبون ‏؟‏

فيقول أبو مسلم‏:‏ نريد الحج‏.‏

وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلاً إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق جاء كتاب ثان من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم‏:‏ إني بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة، وأمر قحطبة بن شيب أن يسير بما معه من الأموال والتحف إلى إبراهيم الإمام فيوافيه في الموسم‏.‏

فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان في أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه‏:‏ أن أظهر دعوتك ولا تتربص‏.‏

فقدموا عليهم أبا مسلم الخراساني داعياً إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم دعاته في بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه أصحابه بالخلافة في طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبي مسلم وقصده الناس من كل جانب، فكان ممن قصده في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام هناك اثنين وأربعين يوماً ففتحت على يديه أقاليم كثيرة‏.‏

ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان في هذه السنة‏:‏ عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثه إليه الإمام، ويدعى‏:‏ الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد الراية التي بعث بها الإمام أيضاً، وتدعى‏:‏ السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ ‏]‏‏.‏

ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى الدعوة السواد، وصارت شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة ناراً عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا‏.‏

ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب‏:‏ أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الأخرى بالظل‏:‏ أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم‏.‏

وأقبل الناس إلى أبي مسلم من كل جانب، وكثر جيشه‏.‏

ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي بالناس، ونصب له منبراً، وأن يخالف في ذلك بني أمية، ويعمل بالسنة، فنودي للصلاة‏:‏ الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافاً لهم، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكبر ستاً في الأولى قبل القراءة لا أربعاً، وخمساً في الثانية لا ثلاثاً خلافاً لهم‏.‏

وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعدَّ لهم أبو مسلم طعاماً فوضعه بين يدي الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتاباً بدأ فيه بنفسه ثم قال‏:‏

إلى نصر بن سيار‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ أما بعد فإن الله عيَّر أقواماً في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ‏}‏ إلى قوله ‏{‏تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ -‏]‏‏.‏

فعظم على نصر أن قدَّم اسمه على اسمه، وأطال الفكر، وقال‏:‏ هذا كتاب له جواب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ثم بعث نصر بن سيار خيلاً عظيمةً لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهراً، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا ذلك فتصافَّوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد فقوي فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بني العباس وجند بني أمية‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عاملها من جهة نصر بن سيار، وهو‏:‏ بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم، وكان أبو مسلم إذ ذاك شاباً حدثاً قد اختاره إبراهيم لدعوتهم، وذلك لشهامته وصرامته وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة، وكان مولى لإدريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن علي ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه إبراهيم الإمام بابنة أبي النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه، وكتب إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا في السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت هذه السنة أكَّد الإمام كتابه إليهم في الوصاة به وطاعته، وكان في ذلك الخير له ولهم، ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

ولما فشا أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره الكرماني وشيبان لأنهما خرجا على نصر وأبو مسلم مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك أبا مسلم فبعث إلى الكرماني يعلمه بذلك فلام الكرماني شيبان على ذلك، وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم، فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هارباً، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم‏:‏ أني معك على قتال نصر‏.‏

وركب أبو مسلم في خدمة الكرماني، فاتفقا على حرب نصر ومخالفته‏.‏

وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل على الحرس والشرط والرسائل والديوان وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمالاً‏.‏

وجعل القاسم بن مجاشع التميمي - وكان أحد النقباء - على القضاء وكان يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بني هاشم ويذم بني أمية، ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها‏:‏ بالين، وكان في مكان منخفض، فخشي أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك في سادس ذي الحجة من هذه السنة، وصلى بهم يوم النحر القاضي القاسم بن مجاشع‏.‏

وصار نصر بن سيار في جحافل كالسحاب قاصداً قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نواباً وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية‏.‏

 مقتل ابن الكرماني

ونشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين ابن الكرماني - وهو‏:‏ جديع بن علي الكرماني - فقتل بينهما من الفريقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يكاتب كلاً من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى ابن الكرماني‏:‏ إن الإمام قد أوصاني بكم خيراً ولست أعدو رأيه فيكم‏.‏

وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس فاستجاب له خلق كثير وجم غفير، وأقبل أبو مسلم فنزل بين خندق نصر وخندق ابن الكرماني، فهابه الفريقان جميعاً، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه بأمر أبي مسلم وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب في جملة كتابه‏:‏

أرى بين الرماد وميض جمر * وأحرى أن يكون له ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب مبدؤها الكلام

فقلت من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فكتب إليه مروان‏:‏ الشاهد يرى ما لا يراه الغائب‏.‏

فقال نصر‏:‏ إن صاحبكم قد أخبركم أن لا نصر عنده‏.‏

وبعضهم يرويها بلفظ آخر‏:‏

أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم * يكون وقودها جثث وهام

أقول من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فإن كانوا لحينهم نياماً * فقل قوموا فقد حان القيام

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا كما قال بعض علوية الكوفة حين خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن على المنصور أخي السفاح‏:‏

أرى ناراً تشب على بقاع * لها في كل ناحية شعاع

وقد رقدت بنو العباس عنها * وباتت وهي آمنة رتاع

كما رقدت أمية ثم هبت * تدافع حين لا يغني الدفاع

وكتب نصر بن سيار أيضاً إلى نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده وكتب إليه‏:‏

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه * وقد تحققت أن لا خير في الكذب

بأن أرض خراسان رأيت بها * بيضاً إذا أفرخت حُدثتَ بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت * ولم يطرن وقد سربلن بالزغب

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب أيما لهيب

فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان، واتفق في وصول الكتاب إليه، أن وجدوا رسولاً من جهة إبراهيم الإمام ومعه كتاب منه إلى أبي مسلم، وهو يشتمه فيه ويسبه، ويأمره أن يناهض نصر بن سيار وابن الكرماني، ولا يترك هناك من يحسن العربية‏.‏

فعند ذلك بعث مروان وهو مقيم بحران كتاباً إلى نائبه بدمشق وهو الوليد بن معاوية بن عبد الملك، يأمر فيه أن يذهب إلى الحميمة، وهي البلدة التي فيها إبراهيم بن محمد الإمام، فيقيده ويرسله إليه‏.‏

فبعث نائب دمشق إلى نائب البلقاء فذهب إلى مسجد البلدة المذكورة فوجد إبراهيم الإمام جالساً فقيده وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائب دمشق من فوره إلى مروان، فأمر به فسجن ثم قتل كما سيأتي‏.‏

وأما أبو مسلم فإنه لما توسط بين جيش نصر وابن الكرماني، كاتب ابن الكرماني‏:‏ إني معك‏.‏

فمال إليه، فكتب إليه نصر‏:‏ ويحك ‏!‏ لا تغتر فإنه إنما يريد قتلك وقتل أصحابك، فهلم حتى نكتب كتاباً بيننا بالموادعة، فدخل ابن الكرماني داره ثم خرج إلى الرحبة في مائة فارس، وبعث إلى نصر‏:‏ هلم حتى نتكاتب‏.‏

فأبصر نصر غرة من ابن الكرماني فنهض إليه في خلق كثير، فحملوا عليه فقتلوه وقتلوا من جماعته جماعة، وقتل ابن الكرماني في المعركة، طعنه رجل في خاصرته فخرَّ عن دابته، ثم أمر نصر بصلبه وصلب معه جماعة، وصلب معه سمكة، وانضاف ولده إلى أبي مسلم الخراساني ومعه طوائف من الناس من أصحاب ابن الكرماني، فصاروا كتفاً واحداً على نصر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على فارس وكورها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، بعد حرب يطول ذكرها، ثم التقى عامر بن ضبارة معه باصطخر فهزمه ابن ضبارة وأسر من أصحابه أربعين ألفاً‏.‏

فكان منهم‏:‏ عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابن ضبارة وقال له‏:‏ ما جاء بك مع ابن معاوية وقد علمت خلافة لأمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ كان عليَّ دين فأتيته فيه‏.‏

فقام إليه حرب بن قطن بن وهب الهلالي فاستوهبه منه وقال‏:‏ هو ابن أختنا فوهبه له‏.‏

وقال‏:‏ ما كنت لأقدم على رجل من قريش‏.‏

ثم استعلم ابن ضبارة منه أخبار ابن معاوية فذمه ورماه هو وأصحابه باللواط، وجيء من الأسارى بمائة غلام عليهم الثياب المصبغة، وقد كان يعمل معهم الفاحشة، وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد لابن هبيرة ليخبره بما أخبر به ابن ضبارة عن ابن معاوية‏.‏

وقد كتب الله عز وجل أن زوال ملك بني أمية يكون على يدي هذا الرجل، وهو‏:‏ عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يشعر واحد منهم بذلك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ ولي الموسم أبو حمزة الخارجي فأظهر التحكم والمخالفة لمروان، وتبرأ منه‏.‏

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ أمير مكة والمدينة والطائف، وإليه أمر الحجيج في هذه السنة، ثم صالحهم على الأمان إلى يوم النفر، فوقفوا على حدة بين الناس بعرفات ثم تحيزوا عنهم، فلما كان يوم النفر الأول تعجل عبد الواحد وترك مكة فدخلها الخارجي بغير قتال، فقال بعض الشعراء في ذلك‏:‏

زار الحجيج عصابة قد خالفوا * دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الحلائل والإمارة هارباً * ومضى يخبط كالبعير الشارد

لو كان والده تنصَّل عرقه * لصفت موارده بعرق الوارد

ولما رجع عبد الواحد إلى المدينة شرع في تجهيز السرايا إلى قتال الخارجي، وبذل النفقات وزاد في أعطية الأجناد، وسيرهم سريعاً‏.‏

وكان أمير العراق يزيد بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد استحوذ على بعض بلاده أبو مسلم الخراساني‏.‏

ممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ سالم أبو النضر، وعلي بن زيد بن جدعان، في قول، ويحيى بن أبي كثير‏.‏

وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل، ولله الحمد‏.‏