الجزء العاشر - خلافة أبي جعفر المنصور

 خلافة أبي جعفر المنصور

واسمه‏:‏ عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز، فبلغه موته وهو بذات عرق راجعاً من الحج، وكان معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور عند ذلك‏.‏

فقال له‏:‏ أتبكي وقد جاءتك الخلافة‏؟‏ أنا أكفيكها إن شاء الله‏.‏

فسري عنه، وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة والياً عليها، وكان السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبد الله بن معبد بن عباس فأقره عليها‏.‏

والنواب على أعمالهم حتى انسلخت هذه السنة، وقد كان عبد الله بن علي قدم على ابن أخيه السفاح الأنبار فأمره على الصائفة، فركب في جيوش عظيمة إلى بلاد الروم، فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعاً إلى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى الشام أن يكون ولي العهد من بعده، فالتفت عليه جيوش عظيمة، وكان من أمره ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

 ذكر خروج عبد الله بن علي على ابن أخيه المنصور

لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح، دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم الجمعة وصلى بهم‏.‏

ثم ارتحل منها إلى الأنبار، وقد أخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان، وسائر البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الأموال والحواصل للمنصور حتى قدم، فسلم إليه الأمر، وكتب إلى عمه عبد الله بن علي يعلمه بوفاة السفاح، فلما بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الأمراء والناس، فقرأ عليهم وفاة السفاح، ثم قام فيهم خطيباً، فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الأمر إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة، وقتل مقاتل العكي نائبها‏.‏

فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الأمراء، وقد تحصن عبد الله بن علي بحران، وأرصد عنده مما يحتاج إليه من الأطعمة والسلاح شيئاً كثيراً جداً، فسار إليه أبو مسلم الخراساني وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه، فقتل منهم سبعة عشر ألفاً، وأراد قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى أبي مسلم، فركب عبد الله بن علي فنزل نصيبين وخندق حول عسكره، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية، وكتب إلى عبد الله‏:‏ إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين والياً على الشام فأنا أريدها‏.‏

فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا‏:‏ إنا نخاف على ذرارينا وديارنا وأموالنا، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه‏.‏

فقال عبد الله‏:‏ ويحكم ‏!‏ والله إنه لم يأت إلا لقتالنا‏.‏

فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام، فتحول عبد الله من منزله ذلك وقصد ناحية الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغوَّر ما حوله عن المياه - وكان موضع عبد الله الذي تحول منه موضعاً جيداً جداً - فاحتاج عبد الله وأصحابه فنزلوا في موضع أبي مسلم فوجدوه منزلاً رديئاً، ثم أنشأ أبو مسلم القتال فحاربهم خمسة أشهر‏.‏

وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنته بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى ميمنته أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم، وقد جرت بينهم وقعات، وقتل منهم جماعات في أيام نحسات، وكان أبو مسلم إذا حمل يرتجز ويقول‏:‏

من كان ينوي أهله فلا رجع * فرَّ من الموت وفي الموت وقع

وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة‏:‏ التقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فمكر بهم أبو مسلم ‏!‏ بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنة فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمة‏.‏

وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم، وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحداً، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل المنصور مولاه أبا الخصيب ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني‏.‏

واستوثقت الممالك لأبي جعفر المنصور، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجهيهما، فلما مرَّا بالرصافة أقام بها عبد الصمد، فلما رجع أبو الخصيب وجده بها فأخذه معه مقيداً في الحديد فأدخله على المنصور فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور‏.‏

وقيل‏:‏ بل استأمن له إسماعيل بن علي‏.‏

وأما عبد الله بن علي فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده زماناً مختفياً، ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه في بيت بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات‏.‏

وهذه من بعض دواهي المنصور، والله سبحانه أعلم‏.‏

فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات، كما سيأتي بيانه في موضعه، إن شاء الله تعالى‏.‏

مهلك أبي مسلم الخراساني

في هذه السنة أيضاً‏:‏ لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه‏.‏

فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه الخلافة، وقيل‏:‏ إن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة وأنه لما جاء خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمنا‏.‏

فقال لأبي أيوب‏:‏ اكتب له كتاباً غليظاً‏.‏

فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافة وانقمع من ذلك‏.‏

وقال بعض الأمراء للمنصور‏:‏ إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فإن معه من الجنود من لا يخالفه، وهم له أهيب وعلى طاعته أحرص، وليس معك أحد‏.‏

فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره في مبايعته لأبي جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد الله فكسره كما تقدم، وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر، فإنه إذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء ‏!‏

فقال أيوب‏:‏ إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا‏.‏

ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبد الله من الأموال والجواهر الثمينة وغيرها، غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهمَّ بأبي الخصيب، حتى قيل له‏:‏ إنه رسول‏.‏ فتركه ورجع‏.‏

فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما همَّ به أبو مسلم من قتله، فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك، وأن تحدث حوادث، فكتب إليه مع يقطين‏:‏ إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان، فابعث إلى مصر من شئت، وأقم أنت بالشام لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريباً‏.‏

فغضب أبو مسلم وقال‏:‏ قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذاً أذهب إليها وأستخلف على الشام ومصر‏.‏

فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيراً‏.‏

ورجع أبو مسلم من الشام قاصداً خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور‏.‏

فخرج المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان‏:‏ إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء‏.‏

فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة‏.‏

فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقصت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي عن مقامات الذل والإهانة‏.‏

فلما وصل الكتاب إلى المنصور وكتب إلى أبي مسلم‏:‏ قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة، وقد حمَّل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك‏.‏

ويقال‏:‏ إن أبا مسلم كتب إلى المنصور‏:‏ أما بعد فإني اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلاً وفي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه، وكان كالذي دلى بغرور، وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيداً لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان يجهلكم، وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم الله بي بعد الإخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة‏.‏

فإن يعف عني فقديماً عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد‏.‏ وذكره المدائني عن شيوخه‏.‏

وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن عبد الله البجلي - وقد كان أوحد أهل زمانه - في جماعة من الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاماً يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به‏:‏ أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات لك‏.‏

فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبى فقل‏:‏ هو بريء من العباس إن شققت العصا على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك‏.‏ ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن‏.‏

فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما همَّ به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغَّبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعاً له، فإن استقام له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند‏.‏

فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم‏:‏ ارجعوا إلى صاحبكم فلست ألقاه‏.‏

فلما استيأسوا منه قالوا ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به‏.‏

فلما سمع ذلك كسره جداً وقال‏:‏ قوموا عني الساعة‏.‏

وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين أتهم‏:‏ إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم‏.‏

فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة‏:‏ إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجع إلى إمامك سامعاً مطيعاً والسلام‏.‏

فزاده ذلك كسراً أيضاً فبعث إليهم أبو مسلم‏:‏ إني سأبعث إليه أبا إسحاق وهو ممن أثق به‏.‏

فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده‏.‏

فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له‏:‏ ما وراءك ‏؟‏

قال‏:‏ رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك‏.‏

فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميراً يقال له‏:‏ نيزك، فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازماً على الذهاب تمثل بقول الشاعر‏:‏

ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام

ثم قال له‏:‏ احفظ عني واحدة‏.‏

قال‏:‏ وما هي ‏؟‏

قال‏:‏ إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك‏.‏

وكتب أبو مسلم يعلمه بقدومه عليه‏.‏

قال أبو أيوب كاتب الرسائل‏:‏ فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلي فإذا هو كتاب أبي مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة‏:‏ والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه‏.‏

قال أبو أيوب‏:‏ فقلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وبت تلك الليلة لا يأتني نوم، وأفكر في هذه الواقعة، وقلت‏:‏ إن دخل أبو مسلم خائفاً ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن يدخل آمناً ليتمكن منه الخليفة‏.‏

فلما أصبحت طلبت رجلاً من الأمراء وقلت له‏:‏ هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغلة في هذه السنة ‏؟‏

فقال‏:‏ ومن لي بذلك ‏؟‏

فقلت له‏:‏ فاذهب إلى أبي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه‏.‏

واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له، وقال له‏:‏ سلم عليه وقل له‏:‏ إنا بالأشواق إليه‏.‏

فسار ذلك الرجل - وهو‏:‏ سلمة بن فلان - إلى أبي مسلم فأخبره باشتياق الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه‏.‏

فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قال‏:‏ اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتني‏.‏

فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له‏:‏ كيف بلائي عندك ‏؟‏

فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ‏!‏ لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها‏.‏

قال‏:‏ فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم ‏؟‏

قال‏:‏ فوجم ساعة ثم قال له أبو أيوب‏:‏ مالك لا تتكلم ‏؟‏

فقال قولة ضعيفة‏:‏ أقتله‏.‏

ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم‏:‏ كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه‏.‏

ثم أرسل المنصور إلى أبي مسلم رسلاً تترى يتبع بعضها بعضاً، فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله‏.‏

ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أرجو أن تكون نفسك قد طابت عليّ‏.‏

فقال المنصور‏:‏ أما والله ما زادني هذا إلا غيظاً عليك‏.‏

ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان مقتله في يوم الأربعاء، لأربع بقين من شعبان، سنة سبع وثلاثين ومائة‏.‏

وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أن قال‏:‏ كتبت إليّ مرات تبدأ بنفسك، وأرسلت تخطب عمتي أمينة، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس إلى غير ذلك‏.‏

فقال أبو مسلم‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا يقال لي هذا، وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد‏.‏

فقال‏:‏ ويلك ‏!‏ لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا‏.‏

ثم قال‏:‏ والله لأقتلنك‏.‏

فقال‏:‏ استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك‏.‏

فقال‏:‏ وأي عدو لي أعدى منك ‏؟‏

ثم أمر بقتله كما تقدم، فقال له بعض الأمراء‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ الآن صرت خليفة‏.‏

ويقال‏:‏ إن المنصور أنشد عند ذلك‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرّ عليناً بالإياب المسافر

وذكر ابن خلكان‏:‏ أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير أحداً في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحداً من نصحاء أصحابه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقال له‏:‏ لقد أودعتها أذناً واعيةً‏.‏

ثم عزم على ذلك‏.‏

ترجمة أبي مسلم الخراساني

هو‏:‏ عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له‏:‏ أمير آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ يقال له‏:‏ عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية‏.‏

يروي عن‏:‏ أبي الزبير، وثابت البناني، وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

زاد ابن عساكر في شيوخه‏:‏ محمد بن علي، وعبد الرحمن بن حرملة، وعكرمة مولى ابن عباس‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ روى عنه‏:‏ إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن بشر، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن منيب المروزي، وقديد بن منيع صهر أبي مسلم‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وكان أبو مسلم فاتكاً ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن‏.‏

وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان‏:‏ كان اسمه‏:‏ عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل‏:‏ إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره‏.‏

وقيل‏:‏ كان اسمه‏:‏ إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس بن حوذون، ولد بزرجمهر، وكان يكنى‏:‏ أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الإمام إلى خراسان قال له‏:‏ غير اسمك وكنيتك‏.‏

فتسمى‏:‏ عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى‏:‏ بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن سبع عشرة سنة راكباً على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها‏.‏

وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكاً، فكان بعد ذلك خراباً‏.‏

وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره، وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أن إبراهيم بن محمد الإمام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، فولد لأبي مسلم بنتان‏:‏ إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب‏.‏

وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الأمور‏.‏

وقد روى ابن عساكر بإسناده‏:‏ أن رجلاً قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال‏:‏ ما هذا السواد الذي أرى عليك ‏؟‏

فقال‏:‏ حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء‏)‏‏)‏‏.‏ وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة‏.‏ يا غلام اضرب عنقه‏.‏

وروى من حديث عبد الله بن منيب، عنه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أراد هوان قريش أهانه الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة، وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه، وقال له‏:‏ لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية ‏؟‏

فقال له‏:‏ إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت‏.‏

وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على المعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمراً ناهياً قائماً في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله‏.‏

وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما صار الأمر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور‏.‏

ثم شمخت نفسه على المنصور وهمَّ بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطناً له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه، فلما تولى المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله‏.‏

قال بعضهم‏:‏ كتب المنصور إلى أبي مسلم‏:‏ أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي، فع ِ أيها الطائش، وأفق أيها السكران، وانتبه أيها النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون‏:‏ ‏{‏هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ ‏]‏‏.‏

وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلاً مهلاً، احذر البغي أبا مسلم ‏!‏ فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي فيك‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ ‏]‏‏.‏

فأجابه أبو مسلم‏:‏ أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانباً، وعن الحق حائداً إذ تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏.‏

وإنني والله ما انسلخت من آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلاً متأولاً فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين لك من قبلك ثم بك من بعدهما، فكنت لهما شيعة متديناً أحسبني هادياً مهتدياً، وأخطأت في التأويل وقدماً أخطأ المتأولون، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

وإن أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالاً فأمرني أن أجرد السيف، وأقتل بالظنة، وأقدم بالشبهة، وأرفع الرحمة، ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم‏.‏

ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للأوابين غفوراً، وإن يعاقبني فبذنوبي وما ربك بظلام للعبيد‏.‏

فكتب إليه المنصور‏:‏ أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربه، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائداً، وعن الشيطان وأوامره صادراً، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لأرشدهما تاركاً، ولأغواهما راكباً، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين‏.‏

ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور، فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه الله ونعم الوكيل‏.‏

ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له‏:‏ نيزك، فإنه لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عن ذلك البيت المتقدم وهو‏:‏

ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام

وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم المدائن تلقاه الأمراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم، فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال‏:‏ اذهب الليلة فأذهب عنك وعثاء السفر، ثم ائتني من الغد‏.‏

فلما كان الغد أرصد له من الأمراء من يقتله منهم‏:‏ عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، فقتلوه كما تقدم‏.‏

ويقال‏:‏ بل أقام أياماً يظهر له المنصور الإكرام والاحترام، ثم نشق منه الوحشة فخاف مسلم، واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال‏:‏ إني أخافه على نفسي‏.‏

فقال‏:‏ لا بأس عليك، فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك - ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة -‏.‏

فجاء أبو مسلم يستأذن المنصور فقالوا له‏:‏ اجلس هاهنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجيء عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيداً، حتى قال له‏:‏ فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلاناً، وفلاناً ‏؟‏

قال‏:‏ لأنهم عصوني وخالفوا أمري‏.‏

فغضب عند ذلك المنصور وقال‏:‏ ويحك ‏!‏ أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك وقد عصيتني ‏؟‏

وصفق بيديه - وكانت الإشارة بينه وبين المرصدين لقتله - فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ استبقني لأعدائك‏.‏

فقال‏:‏ وأي عدو أعدى منك ‏؟‏

ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعاً ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على أثر ذلك فقال‏:‏ ما هذا يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ هذا أبو مسلم‏.‏

فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقال له المنصور‏:‏ احمد الله الذي هجمت عليَّ نعمة، ولم تهجم عليَّ نقمة‏.‏

ففي ذلك يقول أبو دلامة‏:‏

أبا مسلم ما غيّر الله من نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد

أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى * عليك بما خوفتني الأسد الورد

وذكر ابن جرير‏:‏ أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، وأبي حنيفة حرب بن قيس، وآخر من الحرس أن يكونوا قريباً منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الأخرى فليقتلوه، فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور‏:‏ ما فعل السيفان اللذان أصبتهما من عبد الله بن علي ‏؟‏

فقال‏:‏ هذا أحدهما‏.‏

فقال‏:‏ أرنيه‏.‏

فناوله السيف فوضعه تحت ركبته‏.‏

ثم قال له‏:‏ ما حملك على أن تكتب لأبي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين ‏؟‏

قال‏:‏ إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه وأهل بيته معدن العلم‏.‏

قال‏:‏ فلم تقدمت عليَّ في طريق الحج ‏؟‏

قال‏:‏ كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمت التماس الرفق‏.‏

قال‏:‏ فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس ‏؟‏

قال‏:‏ كرهت التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني خلاف‏.‏

قال‏:‏ فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك ‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏ ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها‏.‏

ثم قال له‏:‏ ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك‏؟‏ والكاتب إلي تخطب آمنة بنت علي‏؟‏ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس‏؟‏ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويعتذر‏.‏

ثم قال له‏:‏ فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان ‏؟‏

قال‏:‏ خفت أن يكون دخلك مني شيء فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري‏.‏

قال‏:‏ فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك ‏؟‏

قال‏:‏ أراد خلافي‏.‏

فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك‏.‏

ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه، وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح ويحكم ‏!‏ اضربوه قطع الله أيديكم‏.‏

ثم ذبحوه وقطعوه قطعاً قطعاً، ثم ألقي في دجلة‏.‏

ويرى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال‏:‏ رحمك الله أبا مسلم ‏!‏ بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك، وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا‏.‏

ويقال‏:‏ إن المنصور قال‏:‏ الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال المنصور عند ذلك‏:‏

زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف بالكيل أبا مجرم

سقيت كأساً كنت تسقي بها * أمرَّ في الحلق من العلقم

ثم إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة فإن أحداً لا يسر منكم شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم‏.‏

وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه، فنكث وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم أحسن مبتدياً وأساء منتهياً، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا‏.‏

ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهاله، ومازال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمناه فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني‏:‏ ابن المنذر -‏:‏

فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك والله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبةً * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، بسنده‏:‏ أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم‏:‏ أهو خير أم الحجاج ‏؟‏

فقال‏:‏ لا أقول أن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن كان الحجاج شراً منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره‏.‏

وقد روى الخطيب، عنه، أنه قال‏:‏ ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت الأحزان والأشجان، وشامخت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

قد نلت بالعزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذا حشدوا

ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة لم ينمها قبلهم أحد

وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم في الشام قد رقدوا

ومن رعى غنماً في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد

وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الأربعاء لسبع خلون، وقيل‏:‏ لخمس بقين، وقيل‏:‏ لأربع، وقيل‏:‏ لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وثلاثين ومائة -‏.‏

قال بعضهم‏:‏ كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل‏:‏ في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة‏.‏

وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، وردَّ هذا القول‏.‏

ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهمَّ بضرب عنقه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه إلا تحنطت ولبست كفني‏.‏

ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط، وعليه أدراع أكفان، فرقَّ له المنصور وأطلقه‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألف صبراً زيادة عن من قتل بغير ذلك‏.‏

وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني‏.‏

فقال له‏:‏ يا ابن الخبيثة ‏!‏ لو كانت أمة مكانك لأجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل‏.‏

ولما قتله المنصور لفه في كساء وهو مقطع إرباً إرباً، فدخل عيسى بن موسى فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أين أبو مسلم ‏؟‏

قال‏:‏ قد كان هاهنا آنفاً‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قد عرفت طاعته ونصيحة ورأي إبراهيم الإمام فيه‏.‏

فقال له‏:‏ يا أنوك ‏!‏ والله ما أعلم في الأرض عدواً أعدى لك منه، هاهو ذاك في البساط‏.‏

فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقال له المنصور‏:‏ خلع الله قلبك ‏!‏ وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ‏؟‏

ثم استدعى المنصور برؤوس الأمراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفاً من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سروراً كثيراً‏.‏

ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم‏.‏

ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، بكماله مطبوعاً بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الأمر، وقد كان أبي مسلم تقدم إلى خازنه‏:‏ أنه إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوماً بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوماً عليه بكماله، فلا تقبل ولا تمض ما فيه‏.‏

فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن، وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بإمرة خراسان، كما وعده قبل ذلك عوضاً عن أبي مسلم‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسياً تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى‏:‏ بفيروز أصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشاً هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور بن مرار العجلي، فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين ألفاً وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوماً‏.‏

وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري‏.‏

وخرج في هذه السنة أيضاً‏:‏ رجل يقال له‏:‏ ملبَّد بن حرمة الشيباني، في ألف من الخوارج بالجزيرة، فجهز إليه المنصور جيوشاً متعددةً كثيفةً كلها تنفر منه وتنكسر، ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبَّد وتحصن منه حميد في بعض الحصون، ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبَّد وتقلع عنه‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكان نائب الموصل - يعني‏:‏ عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله‏.‏

ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره‏.‏

ومن مشاهير من توفي فيها‏:‏ أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه، كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثون ومائة

فيها‏:‏ دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطية، وأطلق لأخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى طاعته، ولكن حبس في سجن بغداد، كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من الأموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الملبّد الخارجي على يدي خازم بن خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم بقيتهم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ زيد بن واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول‏.‏

وفيها‏:‏ كانت خلافة الداخل من بني أمية إلى بلاد الأندلس، وهو‏:‏ عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي‏.‏

قلت‏:‏ ليس وهو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى‏:‏ أموياً، كان قد دخل إلى بلاد المغرب فراراً من عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدراً إليهم فاستمالهم إليه فبايعوه ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله‏.‏

وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة، فتوفي فيها، وله في الملك أربع وثلاثون سنة وأشهر‏.‏

ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهراً، ثم مات، فولي بعده الحكم بن هشام ستاً وعشرين سنة وأشهراً ثم مات، ثم ولي بعده ولده عبد الرحمن بن الحكم ثلاثاً وثلاثين سنة ثم مات، ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستاً وعشرين سنة، ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه عبد لله بن محمد بن المنذر‏.‏

وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر، ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا فيها من النعيم، والعيش الرغيد، والنساء الحسان، ثم انقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثون ومائة

فيها‏:‏ أكمل صالح بن علي بناء ملطية، ثم غزا الصائفة على طريق الحدث، فوغل في بلاد الروم، وغزا معه أختاه‏:‏ أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن يجاهدا في سبيل الله عز وجل‏.‏

وفيها‏:‏ كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم، فاستنقذ بعض أسرى المسلمين، ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست وأربعين، وذلك لاشتغال المنصور بأمر ابني عبد الله بن حسن كما سنذكره‏.‏

ولكن ذكر بعضهم أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام سنة أربعين، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ وسع المنصور المسجد الحرام، وكانت هذه السنة خصبة جداً - أي‏:‏ كثيرة الخصب، فكان يقال لها‏:‏ السنة الخصبة -‏.‏

وقيل‏:‏ إنما كان ذلك في سنة أربعين‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة، فاختفى عبد الله بن علي وأصحابه خوفاً على أنفسهم، فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة، وهو‏:‏ سفيان بن معاوية، يستحثه في إحضار عبد الله بن علي إليه، فبعثه في أصحابه فقتل بعضهم وسجن عبد الله بن علي عمه، وبعث بقية أصحابه إلى أبي داود نائب خراسان فقتلهم هناك‏.‏

وحج بالناس فيها العباس بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عمرو بن مجاهد، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويونس بن عبيد، أحد العباد وصاحب الحسن البصري‏.‏

ثم دخلت سنة أربعين ومائة

فيها‏:‏ ثار جماعة من الجند على أبي داود نائب خراسان، وحاصروا داره‏.‏

فأشرف عليهم، وجعل يستغيث بجنده ليحضروا إليه، واتكأ على آجرة في الحائط فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على خراسان عاصم، صاحب الشرطة حتى قدم الأمير من جهة الخليفة عليها، وهو‏:‏ عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، فتسلم بلاد خراسان، وقتل جماعة من الأمراء لأنه بلغه عنهم أنهم يدعون إلى خلافة آل علي بن أبي طالب، وحبس آخرين، وأخذ نواب أبي داود بجباية الأموال المنكسرة عندهم‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الحيرة، ورجع بعد انقضاء الحج إلى المدينة، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره، ثم سلك الشام إلى الرقة، ثم سار إلى الهاشمية - هاشمية الكوفة - ونواب الأقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود، فخلفه مكانه عبد الجبار الأزدي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ داود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية بن قيس السكوني‏.‏

 

ثم دخلت سنة إحدى وأربعون ومائة

فيها‏:‏ خرجت طائفة يقال لها‏:‏ الرواندية على المنصور‏.‏

ذكر بن جرير، عن المدائني‏:‏ أن أصلهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلم الخراساني، كانوا يقولون بالتناسخ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبريل، قبحهم الله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فأتوا يوماً قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون‏:‏ هذا قصر ربنا‏.‏

فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين، فغضبوا من ذلك وقالوا‏:‏ علام تحبسهم ‏؟‏

ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه أحد، واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا بباب السجن، فألقوا النعش ودخلوا السجن قهراً واستخرجوا من فيه من أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم في ستمائة‏.‏

فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد، وخرج المنصور من القصر ماشياً، لأنه لم يجد دابة يركبها، ثم جيء بدابة فركبها وقصد نحو الرواندية، وجاء الناس من كل ناحية، وجاء معن بن زائدة، فلما رأى المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ارجع ‏!‏ نحن نكفيكهم‏.‏

فأبى وقام أهل الأسواق إليهم فقاتلوهم، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم بقية‏.‏

وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه، فمرض أياماً ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وقام على قبره حتى دفن ودعا له، وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة‏.‏

ولما فرغ المنصور من قتال الرواندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها، ثم أتي بالطعام فقال‏:‏ أين معن بن زائدة ‏؟‏

وأمسك عن الطعام حتى جاء معن فأجلسه إلى جبنه، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته يومئذ‏.‏

فقال معن‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لوجل، فلما رأيت استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن، وما ظننت أن أحداً يكون في الحرب هكذا، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين‏.‏

فأمر له المنصور بعشرة آلاف ورضي عنه وولاه اليمن‏.‏

وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفياً، لأنه قاتل المسودة مع ابن هبيرة، فلم يظهروا إلا في هذا اليوم، فلما رأى الخليفة صدقه في قتاله رضي عنه‏.‏

ويقال‏:‏ إن المنصور قال عن نفسه‏:‏ أخطأت في ثلاث‏:‏ قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة، ويوم الرواندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعاً‏.‏ وهذا من حزمه وصرامته‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ولى المنصور ابنه محمداً العهد من بعده، ودعاه‏:‏ بالمهدي، وولاه بلاد خراسان، وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتل خلقاً من شيعة الخليفة، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ اكتب إليه ليبعث جيشاً كثيفاً إلى من خراسان إلى غزو الروم، فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلاً‏.‏

فكتب إليه المنصور بذلك، فرد الجواب‏:‏ بأن بلاد خراسان قد عاثت بها الأتراك، ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها‏.‏

فقال المنصور لأبي أيوب‏:‏ ماذا ترى ‏؟‏

قال‏:‏ فاكتب إليه‏:‏ إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد جهزت إليك بالجنود‏.‏

فكتب إليه أيضاً‏:‏ إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها، ومتى دخلها جيش أفسدها‏.‏

فقال الخليفة لأبي أيوب‏:‏ ماذا تقول ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع فلا تناظره‏.‏

فحينئذ بعث المنصور ابنه محمداً المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمة مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيراً محولاً وجهه إلى ناحية ذنب البعير‏.‏

وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور ومعه ابنه وجماعة من أهله، فضرب المنصور عنقه، وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة في طرف اليمن، فأسرتهم الهنود بعد ذلك، ثم فودي بعضهم بعد ذلك‏.‏

واستقر المهدي نائباً على خراسان، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان، وأن يحارب الأصبهبذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان، وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏

فقل للخليفة إن جئته * نصيحاً ولا خير في المتهم

إذا أيقظتك الحروب العدى * فنبه لها عمراً ثم نم

فتى لا ينام على دمنة * ولا يشرب الماء إلا بدم

فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الأصبهبذ حتى ألجأوه إلى قلعته، فصالحهم على ما فيها من الذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك، ودخل الأصبهبذ بلاد الديلم فمات هناك‏.‏

وكسروا أيضاً ملك الترك الذي يقال له‏:‏ المصمغان، وأسروا أمماً من الذراري، فهذا فتح طبرستان الأول‏.‏

وفيها‏:‏ فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني‏.‏

وفيها‏:‏ رابط محمد بن إبراهيم الإمام ببلاد ملطية‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المنصور زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها في رجب‏.‏

وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ موسى بن كعب، وهو على شرطة المنصور‏.‏

وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الأشعث، ثم عزله عنها وولى نوفل بن الفرات‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق، وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها، والله أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أبان بن تغلب، وموسى بن عقبة، صاحب المغازي، وأبو إسحاق الشيباني في قول، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة

فيها‏:‏ خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة، فجهز إليه العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة، وولاه السند والهند، فحاربه عمر بن حفص وقهره على الأرض، وتسلمها منه‏.‏

وفيها‏:‏ نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، ومعهم مرزوق أبو الخصيب، مولى المنصور، فحاصروه مدة طويلة، فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه، وذلك أن أبا الخصيب قال‏:‏ اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي‏.‏

ففعلوا ذلك، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين قد ضربوه وحلقوا لحيته، فدخل الحصن ففرح به الأصبهبذ وأكرمه وقربه، وجعل أبو الخصيب يظهر له النصح والخدمة حتى خدعه، وحظي عنده جداً وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه، فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم أنه في الليلة الفلانية يفتح لهم، فاقتربوا من الباب حتى أفتحه لكم، فلما كانت تلك الليلة فتح لهم باب الحصن فدخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية وامتص الأصبهبذ خاتماً مسموماً فمات‏.‏

وكان فيمن أسروا يومئذ أم منصور بن المهدي، وأم إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بنات الملوك الحسان‏.‏

وفيها‏:‏ بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالجبان، وتولى بناءها سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والأبلة‏.‏

وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة، وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر وولى عليها حميد بن قحطبة‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ إسماعيل بن علي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عم الخليفة ونائب البصرة‏.‏

كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد‏.‏

وروى عن‏:‏ أبيه، وعكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى‏.‏

وعنه جماعة منهم‏:‏ بنوه جعفر، ومحمد، وزينب، والأصمعي‏.‏

وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن، وكان كريماً جواداً ممدحاً‏.‏

وكان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة آلاف ألف، واطلع يوماً من قصره فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة، فاتفق في نظره هذا إليهن أن قالت واحدة منهن‏:‏ لو أن الأمير نظر إلينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل ‏؟‏

فنهض من فوره فجعل يدور في قصره ويجمع من حلى نسائه من الذهب والجواهر وغيرها ما ملأ به منديلاً كبيراً، ثم دلاه إليهن ونثر عليهن من الدنانير والدراهم شيئاً كثيراً، فماتت إحداهن من شدة الفرح، فأعطى ديتها وما تركته من ذلك لورثتها‏.‏

وقد ولي الحج في أيام السفاح، وولي البصرة أيام المنصور، وكان من خيار بني العباس، وهو‏:‏ أخو إسماعيل وداود وصالح وعبد الصمد وعبد الله وعيسى ومحمد، وهو‏:‏ عم السفاح والمنصور‏.‏

 

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

خالد الحذاء، وعاصم الأحول‏.‏

وعمرو بن عبيد القدري

في قول، وهو‏:‏ عمرو بن عبيد بن ثوبان، ويقال‏:‏ ابن كيسان، التيمي مولاهم، أبو عثمان البصري، من أبناء فارس، شيخ القدرية والمعتزلة‏.‏

روى الحديث عن‏:‏ الحسن البصري، وعبيد الله بن أنس، وأبي العالية، وأبي قلابة‏.‏

وعنه‏:‏ الحمادان، وسفيان بن عيينة، والأعمش - وكان من أقرانه -، وعبد الوارث بن سعيد، وهارون بن موسى، ويحيى القطان، ويزيد بن زريع‏.‏ ‏(‏ج/ص،‏:‏

قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ ليس بأهل أن يحدث عنه‏.‏

وقال علي بن المدنيي و يحيى بن معين‏:‏ ليس بشيء، وزاد ابن معين وكان رجل سوء، وكان من الدهرية الذين يقولون‏:‏ إنما الناس مثل الزرع‏.‏

وقال الفلاس‏:‏ متروك صاحب بدعة‏.‏

كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ متروك‏.‏

وقال النسائي‏:‏ ليس بثقة‏.‏

وقال شعبة، عن يونس بن عبيد‏:‏ كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏ قال لي حميد‏:‏ لا تأخذ عنه فإنه كان يكذب على الحسن البصري‏.‏

وكذا قال‏:‏ أيوب، وعوف، وابن عون‏.‏

وقال أيوب‏:‏ ما كنت أعدله عقلاً‏.‏

وقال مطر الوراق‏:‏ والله لا أصدقه في شيء‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر‏.‏

وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه‏.‏

قال الحسن البصري‏:‏ هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث‏.‏

قالوا‏:‏ فأحدث والله أشد الحدث‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث، وهماً لا تعمداً‏.‏

وقد روي عنه أنه قال‏:‏ إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما تعد منه على ابن آدم حجة‏.‏

وروى له حديث ابن مسعود‏:‏ حدثنا الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏‏(‏أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً‏)‏‏)‏‏.‏

حتى قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيؤمر بأربع كلمات‏:‏ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد‏)‏‏)‏ إلى آخره‏.‏

فقال‏:‏ لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق‏.‏

وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا، وإذا كان مكذوباً عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه‏.‏

وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله‏:‏

أيها الطالب علماً * إيتِ حماد بن زيد

فخذ العلم بحلم * ثمَّ قيده بقيد

وذر البدعة من * آثار عمرو بن عبيد

وقال ابن عدي‏:‏ كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جداً، معلن بالبدع‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ ضعيف الحديث‏.‏

وقال الخطيب البغدادي‏:‏ جالس الحسن واشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة وقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحديث، وكان له سمت وإظهار زهد‏.‏

وقد قيل‏:‏ أنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين، وحكى البخاري‏:‏ أن عمراً مات سنة ثنتين وثلاث وأربعين ومائة بطريق مكة، وقد كان عمرو محظياً عند أبي جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلاً، وكان يعجبه ذلك منه وينشد‏:‏

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيدْ * غير عمرو بن عبيدْ

ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه‏.‏

وقد روينا عن إسماعيل بن خالد القعنبني، قال‏:‏ رأيت الحسن بن جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان فقال لي‏:‏ أيوب ويونس وابن عون في الجنة‏.‏

قلت‏:‏ فعمرو بن عبيد ‏؟‏

قال‏:‏ في النار‏.‏

ثم رآه مرة ثانية ويروى ثالثة، فيسأله فيقول له‏:‏ مثل ذلك‏.‏

وقد رؤيت له منامات قبيحة، وقد أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتابنا التكميل، وأشرنا ههنا إلى نبذ من حاله ليعرف فلا يغتر به، والله أعلم‏.‏

 

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

فيها‏:‏ ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم، لأنهم قتلوا من المسلمين خلقاً، وأمر أهل الكوفة والبصرة من كان منهم يقدر على عشرة آلاف فصاعداً فليذهب مع الجيش إلى الديلم، فانتدب خلق كثير وجم غفير لذلك‏.‏

وحج بالناس عيسى بن موسى نائب الكوفة وأعمالها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ حجاج الصواف، وحميد بن رؤبة الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقد ذكرناه في التي قبلها، وعمرو بن عبيد في قول، وليث بن أبي سليم على الصحيح، ويحيى بن سعيد الأنصاري‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة

فيها‏:‏ سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الكوفة والبصرة، وواسط والموصل والجزيرة‏.‏

وفيها‏:‏ قدم محمد بن أبي جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلاد خراسان، ودخل بابنة عمه رايطة بنت السفاح بالحيرة‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أبو جعفر المنصور، واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني المدينة، وعزل عنها محمد بن خالد القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في سنة أربع وأربعين ومائة‏.‏

وكان في جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فأجلسه المنصور معه على السماط، ثم جعل يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه، وسأله عن ابنيه إبراهيم ومحمد‏:‏ لم لا جاءاني مع الناس ‏؟‏

فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض الله‏.‏

وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان، وكان في جملة من بايعه، على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس، فلما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور خاف محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفاً شديداً‏.‏

وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يخرجا عليه كما أراد أن يخرجا على مروان، والذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هرباً في البلاد الشاسعة فصارا إلى اليمن، ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر، فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما، ثم كذلك‏.‏

وانتصب إلباً عليهما عند المنصور‏.‏ والعجب منه أنه من أتباعهما‏.‏

واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الآن‏.‏

فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال‏:‏ والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما‏.‏

فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله، فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم، وجدّ في طلب إبراهيم ومحمد جداً، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين، ويكمنان في المدينة في غالب الأوقات، ولا يشعر بهما من ينم عليهما، ولله الحمد‏.‏

والمنصور يعزل نائباً عن المدينة ويولي عليها غيره، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما، وبذل الأموال في طلبهما، وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز وجل‏.‏

وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له‏:‏ أبو العساكر خالد بن حسان، فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة‏.‏

وقد اطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالأهما ذلك الأمير، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به‏.‏

فقال‏:‏ وما الذي صرفكم عن ذلك ‏؟‏

فقال‏:‏ عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفة فغيب في الأرض، فلم يظهر حتى الآن‏.‏

وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن، وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر، والله غالب على أمره‏.‏

وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال‏:‏ يا أمه ‏!‏ إني قد شفقت على أبي وعمومتي، ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي‏.‏ فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال ابنها، فقالوا‏:‏ لا ولا كرامة، بل نصبر على أمره فلعل الله يفتح على يديه خيراً، ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق‏.‏

وتمالؤا كلهم على ذلك، رحمهم الله‏.‏

وفيها‏:‏ نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال‏.‏

وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور، وقد أشخص معهم محمد بن عبد الله العثماني، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريباً، فاستحضره الخليفة وقال‏:‏ قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني، وهذه ابنتك حامل، فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث‏.‏

فأجابه العثماني بجواب أحفظه به، فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية، ثم ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطاً، منها ثلاثون فوق رأسه، أصاب أحدها عينه فسالت، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب، وتراكم الدماء فوق جلده، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه عبد الله بن حسن، فاستسقى ماءً فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم‏.‏

ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا أولئك في محامل ضيقة، وعليهم القيود والأغلال، فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه، فناداه عبد الله بن حسن‏:‏ والله يا أبا جعفر ‏!‏ ما هكذا صنعنا بأسرائكم يوم بدر، فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم‏.‏

ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان جميلاً فتياً، فكان الناس يذهبون لينظروا إلي حسنه وجماله‏.‏

وكان يقال له‏:‏ الديباج الأصغر، فأحضره المنصور بين يديه وقال له‏:‏ أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً‏.‏

ثم ألقاه بين اسطوانتين وسد عليه حتى مات‏.‏

فعلى المنصور ما يسحقه من عذاب الله ولعنته‏.‏

وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ما سنذكره‏.‏

فكان فيمن هلك في السجن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقد قيل‏:‏ والأظهر أنه قتل صبراً، وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذاناً، ولا يعرفون فيه وقت صلاة إلا بالتلاوة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني، فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان، لا جزاه الله خيراً، ورحم الله‏:‏

محمد بن عبد الله العثماني

وهو‏:‏ محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي رحمه الله، أبو عبد الله المدني المعروف‏:‏ بالديباج، لحسن وجهه، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي‏.‏

روى الحديث عن‏:‏ أبيه، وأمه، وخارجة بن زيد، وطاوس، وأبي الزناد، والزهري، ونافع، وغيرهم‏.‏

وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته رقية زوجة ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله، وكانت من أحسن النساء، وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة‏.‏

وكان كريماً جواداً ممدحاً‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ أنشدني سليمان بن عباس السعدي لأبي وجزة السعدي يمدحه‏:‏

وجدنا المحض الأبيض من قريش * فتى بين الخليفة والرسول

أتاك المجد من هنا وهناك * وكنت له بمعتلج السيول

فما للمجد دونك من مبيت * وما للمجد دونك من مقيل

ولا يمض وراءك يبتغيه * ولا هو قابل بك من بديل

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

فمما كان فيها من الأحداث‏:‏ مخرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة، على ما سنبينه إن شاء الله‏.‏

أما محمد فإنه خرج على أثر ذهاب أبي جعفر المنصور بأهله بني حسن من المدينة إلى العراق على الصفة والنعت الذي تقدم ذكره، وسجنهم في مكان ساء مستقراً ومقاماً، لا يسمعون فيه آذاناً ولا يعرفون فيه دخول أوقات صلوات إلا بالأذكار والتلاوة‏.‏

وقد مات أكثر أكابرهم هنالك رحمهم الله‏.‏

هذا كله ومحمد الذي يطلبه مختف بالمدينة، حتى أنه في بعض الأحيان اختفى في بئر نزل في مائه كله إلا رأسه، وباقيه مغمور بالماء، وقد تواعد هو وأخوه وقتاً معيناً يظهران فيه، هو بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، ولم يزل الناس - أهل المدينة وغيرهم - يؤنبون محمد بن عبد الله في اختفائه وعدم ظهوره حتى عزم على الخروج، وذلك لما أضرَّ به شدة الاختفاء وكثرة إلحاح رياح نائب المدينة في طلبه ليلاً ونهاراً، فلما اشتد به الأمر وضاق الحال واعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانية، فلما كانت تلك الليلة جاء بعض الوشاة إلى متولي المدينة فأعلمه بذلك، فضاق ذرعاً وانزعج لذلك انزعاجاً شديداً، وركب في جحافله فطاف المدينة وحول دار مروان، وهم مجتمعون بها، فلم يشعر بهم‏.‏

فلما رجع إلى منزله بعث إلى بني حسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤوس من سادات قريش وغيرهم، فوعظهم وأنبهم وقال‏:‏ يا معشر أهل المدينة، أمير المؤمنين يتطلب هذا الرجل في المشارق والمغارب وهو بين أظهركم، ثم ما كفاكم حتى بايعتموه على السمع والطاعة‏؟‏ والله لا يبلغني عن أحد منكم خرج معه إلا ضربت عنقه‏.‏

فأنكر الذين هم هنالك حاضرون أن يكون عندهم علم أو شعور بشيء من هذا، وقالوا‏:‏ نحن نأتيك برجال مسلحين يقاتلون دونك إن وقع شيء من ذلك‏.‏

فنهضوا فجاؤوه بجماعة مسلحين فاستأذنوه في دخولهم عليه، فقال‏:‏ لا إذن لهم، إني أخشى أن يكون ذلك خديعة‏.‏

فجلس أولئك على الباب ومكث الناس جلوساً حول الأمير وهو واجم لا يتكلم إلا قليلاً حتى ذهبت طائفة من الليل، ثم ما فجيء الناس إلا وأصحاب محمد بن عبد الله قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير، فانزعج الناس في جوف الليل، وأشار بعض الناس على الأمير أن يضرب أعناق بني حسين، فقال أحدهم‏:‏ علام ونحن مقرون بالطاعة ‏؟‏

واشتغل الأمير عنهم بما فجأه من الأمر، فاغتنموا الغفلة ونهضوا سراعاً فتسوروا جدار الدار وألقوا أنفسهم على كناسة هنالك‏.‏

وأقبل محمد بن عبد الله بن حسن في مائتين وخمسين، فمر بالسجن فأخرج من فيه، وجاء دار الإمارة فحاصرها فافتتحها ومسك الأمير رياح بن عثمان نائب المدينة فسجنه في دار مروان، وسجن معه ابن مسلم بن عقبة، وهو الذي أشار بقتل بني حسين في أول هذه الليلة فنجوا وأحيط به، وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏.‏

وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة‏.‏

وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلداً من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل‏.‏

وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك‏:‏ أنه أفتى الناس بمبايعته‏.‏

فقيل له‏:‏ فإن في أعناقنا بيعة للمنصور‏.‏

فقال‏:‏ إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة‏.‏

فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته‏.‏

وقد قال له إسماعيل بن عبد الله بن جعفر حين دعاه إلى بيعته‏:‏ يا ابن أخي إنك مقتول‏.‏

فارتدع بعض الناس عنه واستمر جمهورهم معه، فاستناب عليهم عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى شرطتها عثمان بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن مسور بن مخرمة، وتلقب‏:‏ بالمهدي، طمعاً في أن يكون المذكور بالأحاديث فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه ولا تمناه، فإنا لله‏.‏

وقد ارتحل بعض أهل المدينة عنها ليلة دخلها، فطوى المراحل البعيدة إلى المنصور في سبع ليال، فورد عليه فوجده نائماً في الليل، فقال للربيع الحاجب‏:‏ استأذن على الخليفة‏.‏

فقال‏:‏ إنه لا يوقظ في هذه الساعة‏.‏

فقال‏:‏ إنه لا بد من ذلك فأخبر الخليفة‏.‏ فخرج‏.‏

فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ ما وراءك ‏؟‏

فقال‏:‏ إنه خرج ابن حسن بالمدينة‏.‏

فلم يظهر المنصور لذلك اكتراثاً وانزعاجاً، بل قال‏:‏ أنت رأيته ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال‏:‏ هلك والله وأهلك معه من اتبعه، ثم أمر بالرجل فسجن، ثم جاءت الأخبار بذلك فتواترت‏.‏

فأطلقه المنصور وأطلق له عن كل ليلة ألف درهم فأعطاه سبعة آلاف درهم‏.‏

ولما تحقق المنصور الأمر من خروجه ضاق ذرعاً، فقال له بعض المنجمين‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا عليك منه فوالله لو ملك الأرض بحذافيرها فإنه لا يقيم أكثر من سبعين يوماً‏.‏

ثم أمر المنصور جميع رؤوس الأمراء أن يذهبوا إلى السجن فيجتمعوا بعبد الله بن حسن - والد محمد - فيخبروه بما وقع من خروج ولده ويسمعوا ما يقول لهم‏.‏

فلما دخلوا عليه أخبروه بذلك فقال‏:‏ ما ترون ابن سلامة فاعلاً ‏؟‏

- يعني المنصور -، فقالوا‏:‏ لا ندري‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد قتل صاحبكم البخل ينبغي له أن ينفق الأموال ويستخدم الرجال، فإن ظهر فاسترجاع ما أنفق سهل، وإلا لم يكن لصاحبكم شيء في الخزائن وكان ما خزن لغيره‏.‏

فرجعوا إلى الخليفة فأخبروه بذلك، وأشار الناس على الخليفة بمناجزته، فاستدعى عيسى بن موسى فندبه إلى ذلك، ثم قال‏:‏ إني سأكتب إليه كتاباً أنذره به قبل قتاله‏.‏

فكتب إليه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏!‏ من عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً‏}‏ الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ -‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمننك ومن اتبعك، ولأعطينك ألف ألف درهم، ولأدعنك تقيم في أحب البلاد إليك، ولأقضين لك جميع حوائجك، في كلام طويل‏.‏

فكتب إليه محمد جواب كتابه‏:‏ من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله بن حسن‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ‏} ‏[‏القصص‏:‏ -‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ وإني أعرض عليك من الأمان ما عرضت عليّ، فأنا أحق بهذا الأمر منكم، وأنتم إنما وصلتم إليه بنا، فإن علياً كان الوصيّ وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ‏؟‏

ونحن أشرف أهل الأرض نسباً، فرسول الله خير الناس وهو جدنا، وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته، وفاطمة ابنته أمنا وهي أكرم بناته، وإن هاشماً ولد علياً مرتين، وإن حسناً ولده عبد المطلب مرتين، وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد أبي مرتين، وإني أوسط بني هاشم نسباً، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأخفهم عذاباً في النار‏.‏

فأنا أولى بالأمر منك، وأولى بالعهد وأوفى به منك، فإنك تعطي العهد ثم تنكث ولا تفي، كما فعلت بابن هبيرة فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به، ولا أشد عذاباً من إمام غادر، وكذلك فعلت بعمك عبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني‏.‏

ولو أعلم أنك تصدق لأجبتك لما دعوتني إليه، ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام‏.‏

فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله‏:‏ أما بعد فقد قرأت كتابك فإذا جلَّ فخرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبية والأولياء، وقد أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وكان له حينئذ أربعة أعمام، فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا، وكفر اثنان أحدهما أبوك - يعني‏:‏ جده أبا طالب - فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينهما إلّاً ولا ذمة، وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذاباً، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن أن يفخر بأهل النار، وفخرت بأن علياً ولده هاشم مرتين‏.‏

وأن حسناً ولده عبد المطلب مرتين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولده عبد الله مرة واحدة، وقولك إنك لم تلد أمهات أولاد، فهذا إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية، وهو خير منك، وعلي بن الحسن من أم ولد وهو خير منك، وكذلك ابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد جداتهما أمهات أولاد وهما خير منك، وأما قولك بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقد جاءت السنة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون، ولم يكن لفاطمة ميراث من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص الحديث‏.‏

وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوك حاضر فلم يأمره بالصلاة بالناس، بل أمر غيره‏.‏

ولما توفي لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحداً، ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة، ثم لما قتل عثمان اتهمه بعضهم به، وقاتله طلحة والزبير على ذلك، وامتنع سعد من مبايعته ثم بعد ذلك معاوية، ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال، ثم اتفق على التحكيم فلم يفِ به، ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم، وأقام بالحجاز يأخذ مالاً من غير حله، وسلم الأمر إلى غير أهله، وترك شيعته في أيدي بني أمية ومعاوية‏.‏

فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها‏.‏

ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وحرقوكم بالنار، وحملوا نساءكم على الإبل كالسبايا إلى الشام، حتى خرجنا عليهم نحن، فأخذنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، وذكرنا فضل سلفكم، فجعلت ذلك حجة علينا، وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله على حمزة والعباس وجعفر، وليس الأمر كما زعمت، فإن هؤلاء مضوا ولم يدخلوا في الفتن، وسلموا من الدنيا فلم تنقصهم شيئاً، فاستوفوا ثوابهم كاملاً، وابتلى بذلك أبوك‏.‏

وكانت بنوا أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات، فأحيينا ذكره وذكرنا فضله وعنفناهم بما نالوا منه، وقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية بسقاية الحجيج الأعظم، وخدمة زمزم، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بها‏.‏

ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس، وتوسل به إلى ربه وأبوك حاضر، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس، فالسقاية سقايته، والوراثة وراثته، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورثه، في كلام طويل فيه بحث ومناظرة وفصاحة‏.‏

وقد استقصاه ابن جرير بطوله، والله سبحانه أعلم‏.‏

 فصل مقتل محمد بن عبد الله بن حسن

بعث محمد بن عبد الله بن حسن في غبون ذلك رسولاً إلى أهل الشام يدعوهم إلى بيعته وخلافته فأبوا قبول ذلك منه، وقالوا‏:‏ قد ضجرنا من الحروب ومللنا من القتال‏.‏

وجعل يستميل رؤوس أهل المدينة، فمنهم من أجابه ومنهم من امتنع عليه، وقال له بعضهم‏:‏ كيف أبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيه مال تستعين به على استخدام الرجال ‏؟‏

ولزم بعضهم منزله فلم يخرج حتى قتل محمد‏.‏

و بعث محمد هذا الحسين بن معاوية في سبعين رجلاً ونحواً من عشرة فوارس إلى مكة نائباً إن هو دخلها فساروا إليها، فلما بلغ أهلها قدومهم خرجوا إليهم في ألوف من المقاتلة، فقال لهم الحسين بن معاوية‏:‏ علام تقاتلون وقد مات أبو جعفر ‏؟‏

فقال السري بن عبد الله زعيم أهل مكة‏:‏ إن برده جاءتنا من أربع ليال وقد أرسلت إليه كتاباً فأنا أنتظر جوابه إلى أربع، فإن كان ما تقولون حقاً سلمتكم البلد وعلي مؤنة رجالكم وخيلكم‏.‏

فامتنع الحسن بن معاوية من الانتظار وأبى إلا المناجزة، وحلف لا يبيت الليلة إلا بمكة، إلا أن يموت‏.‏

وأرسل إلى السري‏:‏ أن أبرز من الحرم إلى الحل حتى لا تراق الدماء في الحرم‏.‏

فلم يخرج، فتقدموا إليهم فصافّوهم فحمل عليه الحسن وأصحابه حملة واحدة فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة، ودخلوا مكة‏.‏

فلما أصبحوا خطب الحسن بن معاوية الناس وأغراهم بأبي جعفر، ودعاهم إلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي‏.‏

خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن

وظهر بالبصرة أيضاً إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وجاء البريد إلى أخيه محمد فانتهى إليه ليلا ً فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان فطرق بابها‏.‏

فقال‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن‏.‏

ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جداً وفرحوا كثيراً، وكان يقول للناس بعد صلاة الصبح والمغرب‏:‏ ادعوا الله لإخوانكم أهل البصرة، وللحسن بن معاوية بمكة، واستنصروه على أعدائكم‏.‏

وأما ما كان من المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبد الله بن حسن، صحبة عيسى بن موسى عشرة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين، منهم‏:‏ محمد بن أبي العباس السفاح، وجعفر بن حنظلة البهراني، وحميد بن قحطبة، وكان المنصور قد استشاره فيه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ادع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من ميرة الشام، فيموت هو ومن معه جوعاً، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح‏.‏

وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه‏:‏ يا عيسى ‏!‏ إني أبعثك إلى جنبي هذين فإن ظفرت بالرجل فشمَّ سيفك، وناد في الناس بالأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم أعلم بمذاهبه‏.‏

وكتب معه كتباً إلى رؤساء قريش والأنصار من أهل المدينة يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة‏.‏

فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن، فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوها إلى محمد فاستحضر جماعة من أولئك فعاقبهم وضربهم ضرباً شديداً، وقيدهم قيوداً ثقالاً، وأودعهم السجن‏.‏

ثم إن محمداً استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها، أو أنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ‏؟‏

فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندم يوم أحد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حفر خندق حول المدينة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فأجاب إلى ذلك كله، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر‏.‏

وكان محمد حاضراً عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة، وكان شكلاً ضخماً أسمر عظيم الهامة‏.‏

ولما نزل عيسى بن موسى الأعوص، واقترب من المدينة صعد محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد - وكانوا قريباً من مائة ألف - فقال لهم جملة ما قال‏:‏ إني جعلتكم في حل من بيعتي، فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل، ومن أحب أن يتركها فعل‏.‏

فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وخرج أكثر أهل المدينة بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها، فنزلوا الأعراض ورؤوس الجبال‏.‏

وقد بعث محمد أبا الليث ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم، واستمروا ذاهبين‏.‏

وقال محمد لرجل‏:‏ أتأخذ سيفاً ورمحاً وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة ‏؟‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏ إن أعطيتني رمحاً أطعنهم وهم بالأعراض، وسيفاً أضربهم وهم في رؤوس الجبال فعلت‏.‏

فسكت محمد ثم قال لي‏:‏ ويحك ‏!‏ إن أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا - يعني‏:‏ لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد‏.‏

فقال‏:‏ وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة‏؟‏ وهذا عيسى بن موسى نازل بالأعوص‏.‏

ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريباً من المدينة، على ميل منها، فقال له دليله ابن الأصم‏:‏ إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعاً قبل أن تدركهم الخيل‏.‏

ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة، وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة‏.‏

وقال‏:‏ إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل‏.‏

وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة، وقال لهم‏:‏ هذا الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكة، فحولوا بينه وبينها‏.‏

ثم أرسل عيسى إلى محمد يدعوه إلى السمع والطاعة لأمير المؤمنين المنصور، وأنه قد أعطاه الأمان له ولأهل بيته إن هو أجابه، فقال محمد للرسول‏:‏ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك‏.‏

ثم بعث إلى عيسى بن موسى يقول له‏:‏ إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فاحذر أن تمتنع فأقتلك، فتكون شر قتيل، أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله‏.‏

ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام، هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا، وجعل عيسى بن موسى يقف في كل يوم من هذه الأيام الثلاثة على الثنية عند سلع فينادي‏:‏ يا أهل المدينة ‏!‏ إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، فليس لنا في قتالكم إرب، وإنما نريد محمداً وحده لنذهب به إلى الخليفة‏.‏

فجعلوا يسبونه وينالون من أمه، ويكلمونه بكلام شنيع، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة، وقالوا له‏:‏ هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا ونحن معه، نقاتل دونه‏.‏

فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها، فناداه‏:‏ يا محمد ‏!‏ إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة، فإن فعلت أمنك وقضى دينك وأعطاك أموالاً وأراضي، وإن أبيت قاتلتك فقد دعوتك غير مرة‏.‏

فناداه محمد‏:‏ إنه ليس لكم عندي إلا القتال‏.‏

فنشبت الحرب حينئذ بينهم، وكان جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داود بن كرار، وعلى الساقة الهيثم بن شعبة، ومعهم عدد لم ير مثلها‏.‏

وفرق عيسى أصحابه في كل قطر طائفة‏.‏

وكان محمد وأصحابه على عدة أصحاب أهل بدر، واقتتل الفريقان قتالاً شديداً جداً، وترجل محمد إلى الأرض فيقال‏:‏ إنه قتل بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلاً من أبطالهم، وأحاط بهم أهل العراق فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبد الله بن حسن، فاقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا قد حفروه وعملوا أبواباً على قدره‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا موضع منه، وهذا في موضع آخر، والله أعلم‏.‏

ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حتى صليت العصر، فلما صلى العصر نزلوا إلى مسيل الوادي بسلع فكسر جفن سيفه وعقر فرسه وفعل أصحابه مثله وصبروا أنفسهم للقتال، وحميت الحرب حينئذ جداً، فاستظهر أهل العراق ورفعوا راية سوداء فوق سلع، ثم دنوا إلى المدينة فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا‏:‏ أخذت المدينة، وهربوا وبقي محمد في شرذمة قليلة جداً، ثم بقي وحده وليس معه أحد، وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه، فكان لا يقوم له شيء إلا أنامه، حتى قتل خلقاً أهل العراق من الشجعان، ويقال‏:‏ إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار ثم تكاثر عليه الناس فتقدم إليه رجل فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط لركبته وجعل يحمي نفسه ويقول‏:‏ ويحكم ‏!‏ ابن نبيكم مجروح مظلوم‏.‏

وجعل حميد بن قحطبة يقول‏:‏ ويحكم ‏!‏ دعوه لا تقتلوه‏.‏

فأحجم عنه الناس، وتقدم إليه حميد بن قحطبة فحز رأسه وذهب به إلى عيسى بن موسى فوضعه بين يديه‏.‏

وكان حميد قد حلف أن يقتله متى رآه، فما أدركه إلا كذلك ولو كان على حاله وقوته لمات استطاعه حميد ولا غيره من الجيش‏.‏

وكان مقتل محمد بن عبد الله بن حسن عند أحجار الزيت يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة‏.‏

وقال عيسى بن موسى لأصحابه حين وضع رأسه بين يديه‏:‏ ما تقولون فيه ‏؟‏

فنال منه أقوام وتكلموا فيه، فقال رجل‏:‏ كذبتم والله ‏!‏ لقد كان صواماً قواماً، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين فقتلناه على ذلك‏.‏ فسكتوا حينئذ‏.‏

وأما سيفه ذو الفقار فإنه صار إلى بني العباس يتوارثونه حتى جربه بعضهم فضرب به كلباً فانقطع‏.‏ ذكره ابن جرير وغيره‏.‏

وقد بلغ المنصور في غبون هذا الأمر أن محمداً فرَّ من الحرب فقال‏:‏ هذا لا يكون، فإنا أهل بيت لا نفرّ‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني عبد الله بن راشد، حدثني أبو الحجاج، قال‏:‏ إني لقائم على رأس المنصور وهو يسألني عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى بن موسى قد انهزم وكان متكئاً فجلس فضرب بقضيب معه مصلاه وقال‏:‏ كلا ‏!‏ وأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء‏؟‏ ما أنى لذلك بعد ‏!‏

وبعث عيسى بن موسى بالبشارة إلى المنصور مع القاسم بن حسن، وبالرأس مع ابن أبي الكرام، وأمر بدفن الجثة فدفن بالبقيع، وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة ثلاثة أيام ثم طرحوه على مقبرة اليهود عند سلع‏.‏ ثم نقلوا إلى خندق هناك‏.‏

وأخذ أموال بني حسن كلها فسوغها له المنصور، ويقال‏:‏ إنه ردها بعد ذلك إليهم، حكاه ابن جرير‏.‏

ونودي في أهل المدينة بالأمان فأصبح الناس في أسواقهم، وترفع عيسى بن موسى في الجيش إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد، وجعل ينتاب المسجد من الجرف، وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسع عشر من رمضان، ثم خرج منها قاصداً مكة وكان بها الحسن بن معاوية من جهة محمد، وكان محمد قد كتب إليه يقدم عليه، فلما خرج من مكة وكان ببعض الطريق تلقته الأخبار بقتل محمد، فاستمر فاراً إلى البصرة إلى أخي محمد إبراهيم بن عبد الله، الذي كان قد خرج بها ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره‏.‏

ولما جيء المنصور برأس محمد بن عبد الله بن حسن فوضع بين يديه أمر به فطيف به في طبق أبيض، ثم طيف به في الأقاليم بعد ذلك، ثم شرع المنصور في استدعاء من خرج مع محمد من أشراف أهل المدينة، فمنهم من قتله، ومنهم من ضربه ضرباً مبرحاً، ومنهم من عفا عنه‏.‏

ولما توجه عيسى إلى مكة استناب على المدينة كثير بن حصين، فاستمر بها شهراً حتى بعث المنصور على نيابتها عبد الله بن الربيع، فعاث جنده في المدينة فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئاً لا يعطونهم ثمنه، وإن طولبوا بذاك ضربوا المطالب وخوفوه بالقتل، فثار عليهم طائفة من السودان واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم، فاجتمع على صوته كل أسود في المدينة، وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة، لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ لخمس بقين من شوال منها، فقتلوا من الجند طائفة كثيرة بالمزاريق وغيرها، وهرب الأمير عبد الله بن ربيع وترك صلاة الجمعة‏.‏

وكان رؤوس السودان‏:‏ وثيق، ويعقل، ورمقة، وحديا، وعنقود، ومسعر، وأبو النار‏.‏

فلما رجع عبد الله بن الربيع ركب في جنوده والتقى مع السودان فهزموه أيضاً فلحقوه بالبقيع، فألقى لهم رداءه يشغلهم فيه حتى نجا بنفسه ومن اتبعه، فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة، ووقع السودان على طعام للمنصور كان مخزوناً في دار مروان قد قدم به في البحر فنهبوه ونهبوا ما للجند الذين بالمدينة من دقيق وسويق وغيره، وباعوا ذلك بأرخص ثمن‏.‏

وذهب الخبر إلى المنصور بما كان من أمر السودان، وخاف أهل المدينة من معرة ذلك، فاجتمعوا وخطبهم ابن أبي سبرة - وكان مسجوناً - فصعد المنبر وفي رجليه القيود، فحثهم على السمع والطاعة للمنصور، وخوفهم شر ما صنعه مواليهم، فاتفق رأيهم على أن يكفوا مواليهم ويفرقوهم ويذهبوا إلى أميرهم فيردوه إلى عمله، ففعلوا ذلك، فسكن الأمر، وهدأ الناس وانطفأت الشرور، ورجع عبد الله بن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر‏.‏

ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة

كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعة من أهل البصرة، في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلاداً كثيرةً جداً، وجرت عليه وعلى أخيه خطوبٌ شديدةٌ هائلةٌ، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقاتٍ متعددةٍ، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث وأربعين ومائة، بعد منصرف الحجيج‏.‏

وقيل‏:‏ إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة‏.‏ قاله الواقدي‏.‏

قال‏:‏ وكان يدعو في السر إلى أخيه، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا لنفسه كما تقدم، والله أعلم‏.‏

ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي، فاختفى عنده هذه المدة كلها، حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة، وكان أول من بايعه‏:‏ نميلة بن مرة، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي‏.‏

وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلقٌ كثيرٌ فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة، واستفحل أمره، وبايعه فئام من الناس، وتفاقم الخطب به، وبلغ خبره إلى المنصور فازداد غماً إلى غمه بأخيه محمد، وذلك لأنه ظهر قبل مقتل أخيه وإنما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا إلى نفسه، فانتظم أمره بالبصرة‏.‏

وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئاً لإبراهيم هذا في الباطن، ويبلغه أخباره فلا يكترث بها، ويكذب من أخبره ويود أن يتضح أمر إبراهيم، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس، وراجل، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة، وجعل كلما اتهم رجلاً من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه يقتله في الليل في منزله، وكان الفرافصة العجلي قد همَّ بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم، ويفدون إليها جماعات وفرادى، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس‏.‏

وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطاً بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إليه إلى الكوفة، فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم فقالوا له‏:‏ لا ندعك تجتاز، لأن المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم‏.‏

فقال‏:‏ ويحكم ‏!‏ دعوني‏.‏

فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤوسهم إلى المنصور‏.‏

فقال‏:‏ هذا أول الفتح‏.‏

ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارساً، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الأبرص في ألفي فارس مداداً لسفيان بن معاوية، فأنزلهم الأمير في القصر، ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش وأسلحتهم فأخذوها جميعاً، فتقووا بها، فكان هذا أول ما أصاب‏.‏

وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جداً، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع، والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الإمارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيان بن معاوية من إبراهيم الأمان فأعطاه الأمان، ودخل إبراهيم قصر الإمارة فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر، فهبت الريح فقلبت الحصير ظهراً لبطن، فتطير الناس بذلك‏.‏

فقال إبراهيم‏:‏ إنا لا نتطير‏.‏

وجلس على ظهر الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيداً وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف، وقيل‏:‏ ألفا ألف‏.‏ فقوي بذلك جداً‏.‏

وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما ابنا عم الخليفة المنصور، فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما، وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارساً وثلاثين راجلاً، فهزم ستمائة فارس كانت لهما، وأمن من بقي منهم‏.‏

وبعث إبراهيم إلى أهل الأهواز فبايعوه وأطاعوه، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيرة واستحوذ على البلاد‏.‏

وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها، وكذلك واسط والمدائن والسواد، واستفحل أمره جداً، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جداً، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور‏.‏

قال بعضهم‏:‏ والله لقد رأيت الموت في وجهه، وهو يخطب الناس فنعى إلى الناس أخاه محمداً، فازداد الناس حنقاً على المنصور وأصبح فعسكر بالناس، واستناب على البصرة نميلة وخلف ابنه حسناً معه‏.‏

ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفاً إلى الري، وبعث مع محمد بن الأشعث إلى إفريقية أربعين ألفاً والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس‏.‏

وكان يأمر بالنيران الكثيرة فتوقد ليلاً، فيحسب الناظر إليها أن ثمَّ جنداً كثيراً‏.‏

ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى‏:‏ إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما أنت فيه‏.‏

فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له‏:‏ اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه، فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعاً، فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك‏.‏ فكان الأمر كما قال المنصور‏.‏

وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الأهواز، فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة - وأباحها ثلاثة أيام، ورجع المغيرة إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جنداً يردون أهلها إلى الطاعة‏.‏

قالوا‏:‏ ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلاً ونهاراً في ثيابٍ بذلةٍ قد اتسخت، فلم يزل مقيماً هناك بضعاً وخمسين يوماً حتى فتح الله عليه‏.‏

وقد قيل له في غبون ذلك‏:‏ إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن‏.‏

فانتهر القائل وقال‏:‏ ويحك ‏!‏ ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي، أو يحمل رأسي إليه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر‏:‏

نفس عصام سوّدت عصاما * وعلمته الكر والإقداما

فصيرته ملكاً هماماً *

وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل، فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفاً، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف‏.‏

وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى في جحافل عظيمة، فقال له بعض الأمراء‏:‏ إنك قد اقتربت من المنصور فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك لأخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إن الأولى أن نناجز هؤلاء الذين بإزائنا، ثم هو في قبضتنا‏.‏

فثناهم ذلك عن الرأي الأول‏.‏ ولو فعله لتم لهم الأمر‏.‏

ثم قال بعضهم‏:‏ خندق حول الجيش‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله، فترك ذلك‏.‏

ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم‏:‏ أنا لا أرى ذلك، فتركه‏.‏

ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الأولى أن نقاتل صفوفاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ ‏]‏‏.‏

والأمر لله وما شاء فعل ولو ساروا إلى الكوفة، وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الأمر مع تقدير الله تعالى‏.‏

وأقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخاً من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالاً شديداً فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله، فقيل له‏:‏ لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم‏.‏

فقال‏:‏ والله لا أزول منه حتى يفتح الله لي، أو أقتل هاهنا‏.‏

وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له، فاستمر المنهزمون ذاهبين إلى نهر بين جبلين فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم، وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم‏.‏

ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل من كلا الفريقين خلقٌ كثيرٌ، ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة‏.‏

وقيل‏:‏ في أربعمائة‏.‏

وقيل‏:‏ في تسعين رجلاً‏.‏

واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه، وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤوس أصحابه، فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فبعثوه مع البشير إلى المنصور، وكان نيبخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجيء الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن لم تصدقني فاحبسني فإن لم يكن الأمر كما ذكرت فاقتلني‏.‏

فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر

وقيل‏:‏ إن المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس، وقال‏:‏ والله لقد كنت لهذا كارهاً، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك‏.‏

ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق‏.‏

وأقطع نيبخست المنجم الكذاب ألفي جريب، فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياء كثيرة، فهم كذبة كفرة وقد كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لا يجوز‏.‏

وذكر صالح مولى المنصور قال‏:‏ لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلساً عاماً وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور، والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فوقف فسلم ثم قال‏:‏ أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط من حقك‏.‏

قال‏:‏ فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له‏:‏ يا أبا خالد ‏!‏ مرحباً وأهلاً ههنا فاجلس‏.‏

فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعاً جيداً‏.‏ فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة‏.‏

قال أبو نعيم الفضل بن دكين‏:‏ كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

ذكر من توفي من الأعيان‏:‏

فمن أعيان أهل البيت عبد الله بن حسن وابناه‏:‏ محمد وإبراهيم، وأخوه حسن بن حسن، وأخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، الملقب‏:‏ بالديباج‏.‏ وقد تقدمت ترجمته‏.‏

وأما أخوه‏:‏

عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب

القرشي الهاشمي، فتابعي‏.‏

روى عن‏:‏ أبيه، وأمه فاطمة بنت الحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صاحبي جليل وغيرهم‏.‏

وروى عنه جماعة، منهم‏:‏ سفيان الثوري، والدراوردي، ومالك، وكان معظماً عند العلماء، وكان عابداً كبير القدر‏.‏

قال يحيى بن معين‏:‏ كان ثقة صدوقاً، وفد على عمر بن عبد العزيز فأكرمه، ووفد على السفاح فعظمه وأعطاه ألف ألف درهم، فلما ولي المنصور عامله بعكس ذلك، وكذلك أولاده وأهله، وقد مضوا جميعاً والتقوا عند الله عز وجل، وأخذه المنصور وأهل بيته مقيدين مغلولين مهانين من المدينة إلى الهاشمية، فأودعهم السجن الضيق، كما قدمنا، فمات أكثرهم فيه، فكان عبد الله بن حسن هذا أول من مات فيه بعد خروج ولده محمد بالمدينة‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه قتل في السجن عمداً‏.‏

وكان عمره يوم مات خمساً وسبعين سنة، وصلى عليه أخوه لأمه الحسن بن الحسن بن علي‏.‏

ثم مات بعده أخوه حسن فصلى عليه أخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان‏.‏

ثم قتل بعدهما وحمل رأسه إلى خراسان كما تقدم‏.‏

وأما ابنه‏:‏ محمد

الذي خرج بالمدينة، فروى عن‏:‏ أبيه، ونافع، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، في كيفية الهوي إلى السجود‏.‏

وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وقال البخاري‏:‏ لا يتابع على حديثه‏.‏

وقد ذكر أن أمه حملت به أربع سنين، وكان طويلاً سميناً أسمر ضخماً، ذا همة سامية، وسطوة عالية، وشجاعة باهرة‏.‏

قتل بالمدينة في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة‏.‏

وقد حملوا برأسه إلى المنصور، وطيف به في الأقاليم‏.‏

وأما أخوه إبراهيم فكان ظهوره بالبصرة بعد ظهور أخيه بالمدينة وكان مقتله بعد مقتل أخيه في ذي الحجة من هذه السنة، وليس له شيء في الكتب الستة‏.‏

وحكى أبو داود السجستاني، عن أبي عوانة، أنه قال‏:‏ كان إبراهيم وأخوه محمد خارجين‏.‏

قال داود‏:‏ ليس كما قال، هذا رأي الزيدية‏.‏

قلت‏:‏ وقد حكي عن جماعة من العلماء والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورهما‏.‏

وفيها توفي من المشاهير والأعيان‏:‏

الأجلح بن عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد في قول، وحبيب بن الشهيد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وعمرو مولى عفرة، ويحيى بن الحارث الذماري، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي، ورؤبة بن العجاج، والعجاج لقب، واسمه‏:‏ أبو الشعثاء عبد الله بن رؤبة، وأبو محمد التميمي البصري، الراجز بن الراجز، ولكل منهما ديوان رجز، وكل منهما بارع في فنه لا يجاري ولا يماري، عالم باللغة‏.‏

وعبد الله بن المقفع الكاتب المفوه، أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وكتب له، وله رسائل وألفاظ صحيحة، وكان متهماً بالزندقة، وهو الذي صنف كتاب كليلة ودمنة، ويقال‏:‏ بل هو الذي عربها من المجوسية إلى العربية‏.‏

قال المهدي‏:‏ ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من‏:‏ ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد‏.‏

قالوا‏:‏ ونسي الجاحظ وهو رابعهم‏.‏

وكان مع هذا فاضلاً بارعاً فصيحاً‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ قيل لابن المقفع‏:‏ من أدبك ‏؟‏

قال‏:‏ نفسي، إذا رأيت من غيري قبيحاً أبيته، وإذا رأيت حسناً أتيته‏.‏

ومن كلامه‏:‏ شربت من الخطب رياً، ولم أضبط لها روياً، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظاماً، ولا نسيت غيرها كلاماً‏.‏

وكان قتل ابن المقفع على يد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة نائب البصرة، وذلك أنه كان يعبث به ويسب أمه، وإنما كان يسميه‏:‏ ابن المعلم، وكان كبير الأنف، وكان إذا دخل عليه يقول‏:‏ السلام عليكما - على سبيل التهكم -‏.‏

وقال لسفيان بن معاوية مرة‏:‏ ما ندمت على سكوت قط‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، الخرس لك خير من كلامك‏.‏

ثم اتفق أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله، فأخذه فأحمى له تنوراً وجعل يقطعه إرباً إرباً ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في صفة قتله‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ومنهم من يقول‏:‏ إن ابن المقفع نسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان، والصحيح أنه ابن المقفع وهو أبو دارويه كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه، والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة نائب المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي‏.‏

وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة مسلم بن قتيبة، وعلى مصر يزيد بن حاتم‏.‏

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة

فيها‏:‏ تكامل بناء مدينة السلام ببغداد، وسكنها المنصور في صفر من هذه السنة، وكان مقيماً قبل ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة، وكان قد شرع في بنائها في السنة الخارجة، وقيل‏:‏ في سنة أربع وأربعين ومائة، فالله أعلم‏.‏

وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم، بقيت منهم بقية فخشي على جنده منهم، فخرج من الكوفة يرتاد لهم موضعاً لبناء مدينة، فسار في الأرض حتى بلغ الجزيرة، فلم ير موضعاً أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذي هي فيه الآن، وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله في البر والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من ههنا وههنا، لا يقدر أحد أن يتوصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر‏.‏

وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالي فرأى الرياح تهب به ليلاً ونهاراً من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان في موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم - ذكر ذلك مفصلاً بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير - فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك، ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه، وأحضر من كل البلاد فعالاً وصناعاً ومهندسين، فاجتمع عنده ألوف منهم، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده، وقال‏:‏ بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏

ثم قال‏:‏ ابنوا على بركة الله‏.‏

وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعاً، ومن أعلاه عشرون ذراعاً، وجعل لها ثمانية أبواب في السور البراني، ومثلها في الجواني، وليس كل واحد تجاه الآخر، ولكن جعله أزور عن الذي يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل‏:‏ سميت بذلك لانحراف دجلة عندها‏.‏

وبنى قصر الإمارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء، واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر، وكان الذي وضع قبلته الحجاج بن أرطأة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ويقال‏:‏ إن في قبلته انحرافاً يحتاج المصلي فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة، وذكر أن مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لأنه بني قبل القصر، وجامع المدينة بني على القصر، فاختلت بسبب ذلك‏.‏

وذكر ابن جرير، عن سليمان بن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة أربع وأربعين ومائة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكر عن الهيثم بن عدي‏:‏ أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له، فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعاه بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبي جعفر، ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك‏.‏

وذكر أن خالد بن برمك هو الذي أشار على المنصور ببنائها، وأنه كان مستحثاً فيها للصناع، وقد شاور المنصور الأمراء في نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الإمارة بها، فقالوا‏:‏ لا تفعل فإنه آية في العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‏.‏

فخالفهم ونقل منه شيئاً كثيراً، فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الإمارة ببغداد‏.‏

وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الأبواب، وهي حجارة هائلة‏.‏

وقد كانت الأسواق وضجيجها تسمع من قصر الإمارة، فكانت أصوات الباعة وهوسات الأسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الأسواق من هناك إلى موضع آخر، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعاً في أربعين ذراعاً، ومن بنى في شيء من ذلك هدم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال‏:‏ وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والأسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الأستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ وقد رأيت ذلك في بعض الكتب، وحكي عن بعضهم أنه قال‏:‏ أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف، فالله أعلم‏.‏

وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الذي بنى له بيتاً حسناً في قصر الإمارة فنقصه درهماً عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهماً فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحاً‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وبناها مدورة، ولا يعرف في أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم‏.‏

ثم ذكر عن بعض المنجمين قال‏:‏ قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد‏:‏ خذ الطالع لها، فنظرت في طالعها - وكان المشتري في القوس - فأخبرته بما تدل عليه النجوم، من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها‏.‏

قال‏:‏ ثم قلت له‏:‏ وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لا يموت فيها أحد من الخلفاء أبداً‏.‏

قال‏:‏ فرأيته يبتسم ثم قال‏:‏ الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏.‏

وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعراً منه‏:‏

قضى ربها أن لا يموت خليفة * بها إنه ما شاء في خلقه يقضي

وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقضه بشيء، بل قرره مع اطلاعه ومعرفته‏.‏

قال‏:‏ وزعم بعض الناس أن الأمين قتل بدرب الأنبار منها، فذكرت ذلك للقاضي أبي القاسم علي بن حسن التنوخي فقال‏:‏ محمد الأمين لم يقتل بالمدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك‏.‏ ذكر ذلك الصولي وغيره‏.‏

وذكر عن بعض مشايخ بغداد أنه قال‏:‏ اتساع بغداد مائة وثلاثون جريباً، وذلك بقدر ميلين في ميلين‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ بغداد من الصراة إلى باب التبن‏.‏

وذكر الخطيب‏:‏ أن بين كل بابين من أبوابها الثمانية ميلاً‏.‏ وقيل‏:‏ أقل من ذلك‏.‏

وذكر الخطيب صفة قصر الإمارة وأن فيه القبة الخضراء طولها ثمانون ذراعاً، على رأسها تمثال فرس عليه فارس في يده رمح يدور به فأي جهة استقبلها واستمر مستقبلها، علم السلطان أن في تلك الجهة قد وقع حدث، فلم يلبث أن يأتي الخليفة خبره‏.‏

وهذه القبة وهي على مجلس في صدر إيوان المحكمة وطوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً‏.‏

وقد سقطت هذه القبة في ليلة برد ومطر ورعد وبرق، ليلة الثلاثاء لسبع خلون من شهر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة‏.‏

وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم والحمل بأربعة دوانق، وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلاً بدرهم، ولحم البقر كل تسعين رطلاً بدرهم، والتمر كل ستين رطلاً بدرهم، والزيت ستة عشر رطلاً بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم‏.‏

ولهذا الأمن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثر الدارج في أسواقها وأزقتها، حتى كان المار لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زحام أهلها‏.‏

قال بعض الأمراء وقد رجع من السوق‏:‏ طال والله ما طردت خلف الأرانب في هذا المكان‏.‏

وذكر الخطيب‏:‏ أن المنصور جلس يوماً في قصره، فسمع ضجة عظيمة، ثم أخرى ثم أخرى فقال للربيع الحاجب‏:‏ ما هذا ‏؟‏

فكشف فإذا بقرة قد نفرت من جازرها هاربة في الأسواق‏.‏

فقال الرومي‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك، وفيه ثلاثة عيوب‏:‏ بعده من الماء، وقرب الأسواق منه، وليس عنده خضره، والعين خضرة تحب الخضرة‏.‏

فلم يرفع بها المنصور رأساً ثم أمر بتغيير ذلك، ثم بعد ذلك ساق إليها الماء وبنى عندها البساتين، وحول الأسواق من ثم إلى الكرخ‏.‏

قال يعقوب بن سفيان‏:‏ كمل بناء بغداد في سنة ست وأربعين ومائة، وفي سنة سبع وخمسين حول الأسواق إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، وأمر بتوسعة الأسواق أربعين ألفاً، وبعد شهرين من ذلك شرع في بناء قصره المسمى‏:‏ بالخلد، فكمل سنة ثمان وخمسين ومائة‏.‏

وجعل أمر ذلك إلى رجل يقال له‏:‏ الوضاح، وبنى للعامة جامعاً للصلاة والجمعة لئلا يدخلوا إلى جامع المنصور، فأما دار الخلافة التي كانت ببغداد بعد ذلك فإنها كانت للحسن بن سهل، فانتقلت من بعده إلى بوران زوجة المأمون، فطلبها منها المعتضد - وقيل‏:‏ المعتمد - فأنعمت له بها، ثم استنظرته أياماً حتى تنتقل منها فأنظرها‏.‏

فشرعت في تلك الأيام في ترميمها وتبييضها وتحسينها، ثم فرشتها بأنواع الفرش والبسط، وعلقت فيها أنواع الستور، وأرصدت فيها ما ينبغي للخلافة من الجواري والخدم، وألبستهم أنواع الملابس، وجعلت في الخزائن ما ينبغي من أنواع الأطعمة والمأكل، وجعلت في بعض بيوتها من أنواع الأموال والذخائر، ثم أرسلت بمفاتيحها إليه، ثم دخلها فوجد فيها ما أرصدته بها، فهاله ذلك واستعظمه جداً، وكان أول خليفة سكنها وبنى عليها سوراً‏.‏ ذكره الخطيب‏.‏

وأما التاج فبناه المكتفي على دجلة، وحوله القباب والمجالس والميدان والثريا وحير الوحوش‏.‏

وذكر الخطيب صفة دار الشجرة التي كانت في زمن المقتدر بالله، وما فيها من الفرش والستور والخدم والمماليك والحشمة الباهرة، والدنيا الظاهرة، وأنها كان بها إحدى عشر ألف طواشي، وسبعمائة حاجب‏.‏

وأما المماليك فألوف لا يحصون كثرة، وسيأتي ذكر ذلك مفصلاً في أيامهم ودولتهم التي ذهبت كأنها أحلام نوم، بعد سنة ثلثمائة‏.‏

وذكر الخطيب دار الملك التي بالمخرم، وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات، وذكر الأنهار والجسور التي بها، وما كان في ذلك في زمن المنصور، وما أحدث بعده إلى زمانه، وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دجلة‏:‏

يوم سرقنا العيش فيه خلسة * في مجلس بفناء دجلة مفرد

رق الهواء برقة وقدامة * فغدوت رقاً للزمان المسعد

فكأن دجلة طيلسان أبيض * والجسر فيها كالطراز الأسود

وقال آخر‏:‏

يا حبذا جسر على متن دجلة * بإتقان تأسيس وحسن ورونق

جمال وحسن للعراق ونزهة * وسلوة من أضناه فرط التشوق

تراه إذا ما جئته متأملاً * كسطر عبير خط في وسط مهرق

أو العاج فيه الأبنوس مرقش * مثال فيول تحتها أرض زئبق

وذكر الصولي، قال‏:‏ ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذرع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريباً، وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام، وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، وأن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر - يعني‏:‏ إماماً وقيماً ومأذوناً ومأمومين - ثم تناقصت بعد ذلك، ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى‏.‏ على ما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البغدادي‏:‏ لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتمييز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلاً في أيام الرشيد، ثم ذكر تناقص أحوالها وهلم جرا إلى زمانه‏.‏

قلت‏:‏ وكذا من بعده إلى زماننا هذا، ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكز بن خان التركي الذي ووضع معالمها، وقتل خليفتها وعالمها، وخرب دورها، وهدم قصورها، وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام، وأخذ الأموال والحواصل، ونهب الذراري والأصائل، وأورث بها حزناً يعدد به في المبكرات والأصائل، وصيرها في الأقاليم، وعبرة لكل معتبر عليم، وتذكرة لكل ذي عقل مستقيم، وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والألحان، وإنشاد الأشعار، وكان، وكان‏.‏

وبعد سماع الأحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأويلات القرمطية، وبعد العلماء بالأطباء، وبعد الخليفة العباسي بشر الولاة من الأناسي، وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين، وبعد العلم بالفقه والحديث وتعبير الرؤيا، بالموشح ودوبيت ومواليا‏.‏

وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ ‏]‏‏.‏

والتحول منها في هذه الأزمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية، وأكل الحشيشة، والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله بأهلها أفضل وأكمل وأجمل‏.‏

وقد روى الأمام أحمد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق‏)‏‏)‏‏.‏

ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الأخبار

فيها‏:‏ أربع لغات‏:‏ بغداد، وبغداذ بإهمال الدال الثانية وإعجامها، وبغدان بالنون آخره وبالميم مع ذلك أولاً مغدان، وهي كلمة أعجمية‏.‏

قيل‏:‏ إنها مركبة من بغ وداد فقيل‏:‏ بغ‏:‏ بستان، وداد‏:‏ اسم رجل‏.‏

وقيل‏:‏ بغ‏:‏ اسم صنم، وقيل‏:‏ شيطان، وداد‏:‏ عطية، أي‏:‏ عطية الصنم‏.‏

ولهذا كره عبد الله بن المبارك والأصمعي وغيرهما تسميتها بغداد وإنما يقال لها‏:‏ مدينة السلام، وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور، لأن دجلة كان يقال لها‏:‏ وادي السلام، ومنهم من يسميها الزوراء‏.‏

فروى الخطيب البغدادي، من طريق عمار بن سيف، - وهو متهم - قال‏:‏ سمعت عاصم الأحول، يحدث عن سفيان الثوري، عن أبي عثمان، عن جرير بن عبد الله، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة، تجبى إليها خزائن الأرض، وملوكها جبابرة، فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة‏)‏‏)‏‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وقد رواه عن عاصم الأحول سيف ابن أخت سفيان الثوري، وهو أخو عمار بن سيف‏.‏

قلت‏:‏ وكلاهما ضعيف متهم يرمى بالكذب، ومحمد بن جابر اليماني ضعيف، وأبو شهاب الحناطي ضعيف‏.‏

وروى عن سفيان الثوري، عن عاصم، من طرق ثم أسند ذلك كله‏.‏

وأورد من طريق يحيى بن معين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمار بن سيف، عن الثوري، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد و يحيى‏:‏ ليس لهذا الحديث أصل‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ما حدث به إنسان ثقة‏.‏

وقد علله الخطيب من جميع طرقه، وساقه أيضاً من طريق عمار بن سيف، عن الثوري، عن أبي عبيدة حميد الطويل، عن أنس بن مالك، ولا يصح أيضاً‏.‏

ومن طريق عمر بن يحيى، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن ربعي، عن حذيفة، مرفوعاً بنحوه، ولا يصح‏.‏

ومن غير وجه عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وثوبان وابن عباس، وفي بعضها‏:‏ ذكر السفياني وأنه يخربها، ولا يصح إسناد شيء من هذه الأحاديث‏.‏

وقد أوردها الخطيب بأسانيدها وألفاظها، وفي كل منها نكارة، وأقرب ما فيها عن كعب الأحبار‏.‏

وقد جاء في آثار عن كتب متقدمة أن بانيها يقال له‏:‏ مقلاص، وذو الدوانيق لبخله‏.‏

 فصل محاسن بغداد ومساويها وما روي في ذلك عن الأئمة

قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي‏:‏ قال لي الشافعي‏:‏ هل رأيت بغداد ‏؟‏

قلت‏:‏ لا ‏!‏

فقال‏:‏ ما رأيت الدنيا‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ ما دخلت بلداً قط إلا عددته سفراً إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطناً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الدنيا بادية وبغداد حاضرتها‏.‏

وقال ابن علية‏:‏ ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد، ولا أحسن دعة منهم‏.‏

وقال ابن مجاهد‏:‏ رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال لي‏:‏ دعني من هذا، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها لم ير الدنيا‏.‏

وقال أبو معاوية‏:‏ بغداد دار دنيا وآخرة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس‏.‏

قال الخطيب‏:‏ من شهد يوم الجمعة بمدينة السلام عظم الله في قلبه محل الإسلام، لأن مشايخنا كانوا يقولون‏:‏ يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كنت أواظب على الجمعة بجامع المنصور فعرض لي شغل فصليت في غيره، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول‏:‏ تركت الصلاة في جامع المدينة وإنه ليصلي فيه كل جمعة سبعون ولياً‏.‏

وقال آخر‏:‏ أردت الانتقال من بغداد فرأيت كأن قائلاً يقول في المنام‏:‏ أتنتقل من بلد فيه عشرة آلاف ولي لله عز وجل ‏؟‏

وقال بعضهم‏:‏ رأيت كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ اقلبها، فقد حق القول عليها‏.‏

فقال الآخر‏:‏ كيف أقلب ببلد يختم فيها القرآن كل ليلة خمسة آلاف ختمة ‏؟‏

وقال أبو مسهر‏:‏ عن سعيد بن عبد العزيز بن سليمان بن موسى، قال‏:‏ إذا كان علم الرجل حجازياً وخلقه عراقياً وصلاته شامية فقد كمل‏.‏

وقالت زبيدة لمنصور النمري‏:‏ قل شعراً تحبب فيه بغداد إلي‏.‏

فقد اختار عليها الرافقة فقال‏:‏

ماذا ببغداد من طيب الأفانين * ومن منازه للدنيا وللدين

تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت * وجوشت بين أغصان الرياحين

قال‏:‏ فأعطته ألفي دينار‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ وقرأت في كتاب طاهر بن مظفر بن طاهر الخازن بخطه من شعره‏:‏

سقى الله صوب الغاديات محلة * ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر

هي البلدة الحسناء خصت لأهلها * بأشياء لم يجمعن مذ كنَّ في مصر

هواء رقيق في اعتدال وصحة * وماء له طعم ألذ من الخمر

ودجلتها شطان قد نظما لنا * بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر

تراها كمسك والمياه كفضة * وحصباؤها مثل اليواقيت والدر

وقد أورد الخطيب في هذا أشعاراً كثيرة وفيما ذكرنا كفاية‏.‏

وقد كان الفراغ من بناء بغداد في هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ست وأربعين ومائة -‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة ثمان وأربعين‏.‏

وقيل‏:‏ إن خندقها وسورها كملا في سنة سبع وأربعين‏.‏

ولم يزل المنصور يزيد فيها ويتأنق في بنائها حتى كان آخر ما بنى فيها قصر الخلد، فظن أنه يخلد فيها، أو أنها تخلد فلا تخرب، فعند كماله مات‏.‏

وقد خربت بغداد مرات كما سيأتي بيانه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ عزل المنصور سلم بن قتيبة عن البصرة وولى عليها محمد بن سليمان بن علي، وذلك لأنه كتب إلى سلم يأمره بهدم بيوت الذين بايعوا إبراهيم بن عبد الله بن حسن فتوانى في ذلك فعزله، وبعث ابن عمه محمد بن سليمان فعاث بها فساداً، وهدم دوراً كثيرةً‏.‏

وعزل عبد الله بن الربيع عن إمرة المدينة وولى عليها جعفر بن سليمان، وعزل عن مكة السري بن عبد الله، وولى عليها عبد الصمد بن علي‏.‏

قال‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي‏.‏ قاله الواقدي وغيره‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ غزا الصائفة من بلاد الروم جعفر بن حنظلة البهراني‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أشعث بن عبد الملك، وهشام بن السائب الكلبي، وهشام بن عروة، ويزيد بن أبي عبيد في قول‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

فيها‏:‏ أغار اشترخان الخوارزمي في جيش من الأتراك على ناحية أرمينية فدخلوا تفليس وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا كثيراً من المسلمين وأهل الذمة، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان مقيماً بالموصل في ألفين لمقابلة الخوارج، فأرسله المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينية، وكان في جيش جبريل بن يحيى، فهزم جبريل وقتل حرب رحمه الله‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور‏.‏

وهو الذي أخذ الشام من أيدي بني أمية، وكان عليها والياً حتى مات السفاح، فلما مات دعا إلى نفسه فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه أبو مسلم وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة فاختفى عنده مدة ثم ظهر المنصور على أمره فاستدعى به وسجنه، فلما كان في هذه السنة عزم المنصور على الحج، فطلب عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية السفاح - وسلم إليه عمه عبد الله بن علي، وقال له‏:‏ إن هذا عدوي وعدوك، فاقتله في غيبتي عنك ولا تتوانى‏.‏

وسار المنصور إلى الحج وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك، ويقول له‏:‏ ماذا صنعت فيما أودعت إليك فيه‏؟‏ مرة بعد مرة‏.‏

وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره وشاور بعض أهله فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وأبقه عندك وأظهر قتله فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة فتقول‏:‏ قتله، فيأمر بالقود فتدعي أنه أمرك بقتله بالسر بينك وبينه فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به، وإنما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معاً‏.‏

فتغير عيسى بن موسى عند ذلك وأخفى عمه وأظهر أنه قتله‏.‏

فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ويشفعوا في عمه عبد الله بن علي، وألحوا في ذلك فأجابهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى وقال له‏:‏ إن هؤلاء شفعوا في عبد الله بن علي وقد أجبتهم إلى ذلك فسلمه إليهم‏.‏

فقال عيسى‏:‏ وأين عبد الله‏؟‏ ذاك قتلته منذ أمرتني‏.‏

فقال المنصور‏:‏ لم آمرك بذلك‏.‏

وجحد ذلك وأن يكون تقدم إليه منه أمره في ذلك، فأحضر عيسى الكتب التي كتبها إليه المنصور مرة بعد مرة في ذلك، فأنكر أن يكون أراد ذلك، وصمم على الإنكار، وصمم عيسى بن موسى أنه قد قتله، فأمر المنصور عند ذلك بقتل عيسى بن موسى قصاصاً بعبد الله، فخرج به بنو هاشم ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال‏:‏ ردوني إلى الخليفة‏.‏

فردوه إليه فقال له‏:‏ إن عمك حاضر ولم أقتله‏.‏

فقال‏:‏ هلم به‏.‏

فأحضره فسقط في يد الخليفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنية على ملح، فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء فسقط عليه البناء فهلك‏.‏

ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد وقدم عليه ابنه المهدي، وكان يجلسه فوق عيسى بن موسى عن يمينه، ثم كان لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ويهينه في الأذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده، ثم مازال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده حتى خلع نفسه بنفسه، وبايع لمحمد بن منصور، وأعطاه المنصور على ذلك نحواً من اثني عشر ألف ألف درهم، وانصلح أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور، وأقبل عليه بعد ما كان قد أعرض عنه‏.‏

وكان قد جرت بينهما قبل ذلك مكاتبات في ذلك كثيرة جداً، ومراودات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحداً، وكذلك الأمراء والخواص‏.‏

ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرهاً، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا، وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وفرح المنصور بذلك فرحاً شديداً، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا، فلم يكن الخليفة من بني العباس إلا من سلالته‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عبيد الله بن عمر العمري، وهاشم بن هاشم، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري‏.‏

 

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

فيها‏:‏ بعث المنصور حميد بن قحطبة لغزو الترك الذين عاثوا في السنة الماضية ببلاد تفليس، فلم يجد منهم أحداً فإنهم انشمروا إلى بلادهم‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ جعفر بن أبي جعفر، ونواب البلاد فيها هم المذكرون في التي قبلها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ جعفر بن محمد الصادق المنسوب إليه كتاب اختلاج الأعضاء وهو مكذوب عليه‏.‏

وفيها توفي‏:‏ سليمان بن مهران الأعمش أحد مشايخ الحديث في ربيع الأول منها، وعمرو بن الحارث، والعوام بن حوشب، والزبيدي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومحمد بن عجلان‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة

فيها‏:‏ فرغ من بناء سور بغداد وخندقها‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة العباس بن محمد فدخل بلاد الروم ومعه الحسين بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، ومات محمد بن الأشعث في الطريق‏.‏

وفيها حج بالناس‏:‏ محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي وولاه المنصور على مكة والحجاز عوضاً عن عمه عبد الصمد بن علي‏.‏

وعمال الأمصار فيها‏:‏ هم الذين كانوا في السنة قبلها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ زكريا بن أبي زائدة، وكهمس بن الحسن، والمثنى بن الصباح‏.‏

وعيسى بن عمر

أبو عمرو، الثقفي البصري، النحوي شيخ سيبويه‏.‏

يقال‏:‏ إنه من موالي خالد بن الوليد، وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم‏.‏

كان إماماً كبيراً جليلاً في اللغة والنحو والقراءات، أخذ ذلك عن‏:‏ عبيد الله بن كثير، وابن المحيص، وعبد الله بن أبي إسحاق، وسمع الحسن البصري وغيرهم‏.‏

وعنه‏:‏ الخليل بن أحمد، والأصمعي، وسيبويه‏.‏

ولزمه وعرف به وانتفع به، وأخذ كتابه الذي سماه‏:‏ بالجامع فزاد عليه وبسطه، فهو كتاب سيبويه اليوم، وإنما هو كتاب شيخه، وكان سيبويه يسأل شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه فيه، فسأله الخليل أيضاً عما صنف عيسى بن عمر فقال‏:‏ جمع بضعاً وسبعين كتاباً ذهبت كلها إلا كتاب الإكمال، وهو بأرض فارس، وهو الذي اشتغل فيه وأسألك عن غوامضه‏.‏

فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد‏:‏

ذهب النحو جميعاً كله * غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع * وهما للناس شمس وقمر

وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جداً‏.‏

وقد حكى الجوهري عنه في الصحاح‏:‏ أنه سقط يوماً عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال‏:‏ مالكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي مرة‏؟‏ افرنقعوا عني‏.‏

معناه‏:‏ مالكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون‏؟‏ انكشفوا عني‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان به ضيق النفس فسقط بسببه فاعتقد الناس أنه مصروع فجعلوا يعودونه ويقرأون عليه، فلما أفاق من غشيته قال ما قال‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ إني حسبته - يتكلم بالفارسية -‏.‏

وذكر ابن خلكان أنه كان صاحباً لأبي عمرو بن العلاء، وأن عيسى بن عمر قال يوماً لأبي عمرو بن العلاء‏:‏ أنا أفصح من معدّ بن عدنان‏.‏

فقال له أبو عمرو كيف تقرأ هذا البيت‏:‏

قد كنَّ يخبأن الوجوه تستراً * فاليوم حين بدأن للنظار

أو بدين‏؟‏ فقال‏:‏ بدين‏.‏

فقال أبو عمرو‏:‏ أخطأت‏.‏

ولو قال‏:‏ بدأن لأخطأ أيضاً‏.‏

وإنما أراد أبو عمرو تغليطه، وإنما الصواب بَدونَ، من‏:‏ بدا يبدو إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين ومائة من الهجرة

فيها‏:‏ خرج رجل من الكفرة يقال له‏:‏ أستاذسيس، في بلاد خراسان فاستحوذ على أكثرها، والتف معه نحو ثلاثمائة ألف، وقتلوا من المسلمين هنالك خلقاً كثير، وهزموا الجيوش في تلك البلاد، وسبوا خلقاً كثيراً، وتحكم الفساد بسببهم، وتفاقم أمرهم، فوجه المنصور خازم بن خزيمة إلى ابنه المهدي ليوليه حرب تلك البلاد، ويضم إليه من الأجناد ما يقاوم أولئك‏.‏

فنهض المهدي في ذلك نهضة هاشمية، وجمع لخازم بن خزيمة الأمرة على تلك البلاد والجيوش، وبعثه في نحو من أربعين ألفاً، فسار إليهم وما زال يراوغهم ويماكرهم ويعمل الخديعة فيهم حتى فاجأهم بالحرب، وواجههم بالطعن والضرب، فقتل منهم نحواً سبعين ألفاً، وأسر منهم أربعة عشر ألفاً، وهرب ملكهم أستاذسيس فتحرز في جبل‏.‏

فجاء خازم إلى تحت الجبل وقتل أولئك الأسرى كلهم ولم يزل يحاصره حتى نزل على حكم بعض الأمراء، فحكم أن يقيد بالحديد هو وأهل بيته، وأن يعتق من معه من الأجناد - وكانوا ثلاثين ألفاً - ففعل خازم ذلك كله، وأطلق لكل واحد ممن كان مع أستاذسيس ثوبين، وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي، فكتب المهدي بذلك إلى أبيه المنصور‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الخليفة عن إمرة المدينة جعفر بن سليمان وولاها الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب‏.‏

وفيها حج بالناس‏:‏ عبد الصمد بن علي عم الخليفة‏.‏

وتوفي فيها‏:‏ جعفر بن أمير المؤمنين المنصور ودفن أولاً بمقابر بني هاشم من بغداد، ثم نقل منها إلى موضع آخر‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أحد أئمة أهل الحجاز، ويقال‏:‏ إنه أول من جمع السنن، وعثمان بن الأسود، وعمر بن محمد بن زيد‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الإمام أبو حنيفة‏.‏

 ذكر ترجمته

هو‏:‏ الإمام أبو حنيفة، واسمه‏:‏ النعمان بن ثابت التيمي، مولاهم الكوفي، فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة، لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك قيل‏:‏ وغيره‏.‏

وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة، فالله أعلم‏.‏

وروى عن جماعة من التابعين منهم‏:‏ الحكم، وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي‏.‏

وروى عنه جماعة منهم‏:‏ ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ كان ثقة، وكان من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضياً‏.‏

وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول‏:‏ لا نكذب الله ‏!‏ ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنت كسائر الناس‏.‏

وقال في الشافعي‏:‏ رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد السِّير فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك، ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان‏.‏

وقال عبد الله بن داود الحريبي‏:‏ ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة، لحفظه الفقه والسنن عليهم‏.‏

وقال سفيان الثوري وابن المبارك‏:‏ كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ كان صاحب غوص في المسائل‏.‏

وقال مكي بن إبراهيم‏:‏ كان أعلم أهل الأرض‏.‏

وروى الخطيب بسنده، عن أسد بن عمرو‏:‏ أن أبا حنيفة كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن كل ليلة، ويبكي حتى يرحمه جيرانه‏.‏

ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين ألف مرة، وكانت وفاته في رجب من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة خمسين ومائة -، وعن ابن معين‏:‏ سنة إحدى وخمسين، وقال غيره‏:‏ سنة ثلاث وخمسين، والصحيح الأول‏.‏

 

وكان مولده في سنة ثمانين فتم له من العمر سبعون سنة، وصلي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

فيها‏:‏ عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وولى عليها هشام بن عمرو التغلبي، وكان سبب عزله عنها أن محمد بن عبد الله بن حسن لما ظهر بعث ابنه عبد الله الملقب‏:‏ بالأشتر، ومعه جماعة بهدية وخيول عتاق إلى عمر بن حفص هذا إلى السند فقبلها، فدعوه إلى دعوة أبيه محمد بن عبد الله بن حسن في السر فأجابهم إلى ذلك ولبسوا البياض‏.‏

ولما جاء خبر مقتل محمد بن عبد الله بالمدينة سقط في أيديهم، وأخذوا في الاعتذار إلى عبد الله بن محمد، فقال له عبد الله‏:‏ إني أخشى على نفسي‏.‏

فقال‏:‏ إني سأبعثك إلى ملك من المشركين في جوار أرضنا، وإنه من أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه متى عرفك أنك من سلالته أحبك‏.‏

فأجابه إلى ذلك، وسار عبد الله بن محمد إلى ذلك الملك وكان عنده آمناً، وصار عبد الله يركب في موكب من الزيدية ويتصيد في جحفل من الجنود، وانضم إليه خلق، وقدم عليه طوائف من الزيدية‏.‏

وأما المنصور فإنه بعث يعتب على عمر بن حفص نائب السند، فقال رجل من الأمراء‏:‏ ابعثني إليه واجعل القضية مسندة إليّ، فإني سأعتذر إليه من ذلك، فإن سلمت وإلا كنت فداءك وفداء من عندك من الأمراء‏.‏

فأرسله سفيراً في القضية إلى المنصور، فلما وقف بين يدي المنصور أمر بضرب عنقه، وكتب إلى عمر بن حفص بعزله عن السند وولاه بلاد إفريقية عوضاً عن أميرها، ولما وجه المنصور هشام بن عمرو إلى السند أمره أن يجتهد في تحصيل عبد الله بن محمد، فجعل يتوانى في ذلك، فبعث إليه المنصور يستحثه في ذلك، ثم اتفق الحال أن سيفاً أخا هشام بن عمرو لقي عبد الله بن محمد في بعض الأماكن فاقتتلوا فقتل عبد الله وأصحابه جميعاً، واشتبه عليهم مكانه في القتلى فلم يقدروا عليه‏.‏

فكتب هشام بن عمرو إلى المنصور يعلمه بقتله، فبعث يشكره على ذلك ويأمره بقتال الملك الذي آواه، ويعلمه أن عبد الله كان قد تسرى بجارية هنالك وأولدها ولداً أسماه‏:‏ محمداً، فإذا ظفرت بالملك فاحتفظ بالغلام فنهض هشام بن عمرو إلى ذلك الملك فقاتله فغلبه وقهره على بلاده وأمواله وحواصله، وبعث بالفتح والأخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور، ففرح المنصور بذلك وبعث بذلك الغلام إلى المدينة، وكتب المنصور إلى نائبها يعلمه بصحة نسبه، ويأمره أن يلحقه بأهله يكون عندهم لئلا يضيع نسبه، فهو الذي يقال له‏:‏ أبو الحسن الأشتر‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ قدم المهدي بن المنصور على أبيه من خراسان فتلقاه أبوه والأمراء والأكابر إلى أثناء الطريق، وقدم بعد ذلك نواب البلاد والشام وغيرها للسلام عليه وتهنئته بالسلامة والنصر‏.‏

وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يحد ولا يوصف‏.‏

بناء الرصافة

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ شرع المنصور في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سوراً وخندقاً، وعمل عندها ميداناً وبستاناً، وأجرى إليها الماء من نهر المهدي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها‏:‏ جدد المنصور البيعة لنفسه ثم لولده المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعدهما، وجاء الأمراء والخواص فبايعوا وجعلوا يقبّلون يد المنصور ويد ابنه ويلمسون يد عيسى بن موسى ولا يقبلونها‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وولى المنصور معن بن زائدة سجستان‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو نائب مكة والطائف، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة جابر بن زيد الكلابي، وعلى مصر يزيد بن حاتم‏.‏

ونائب خراسان حميد بن قحطبة، ونائب سجستان معن بن زائدة‏.‏

وغزا الصائفة فيها‏:‏ عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد‏.‏

وفيها توفي‏:‏ حنظلة بن أبي سفيان، وعبد الله بن عون، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة النبوية التي جمعها وجعلها علماً يهتدى به، وفخراً يستجلى به، والناس كلهم عيال عليه في ذلك، كما قال الشافعي وغيره من الأئمة‏.‏