الجزء العاشر - ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة

فيها‏:‏ عزل المنصور عن إمرة مصر يزيد بن حاتم وولاها محمد بن سعيد، وبعث إلى نائب إفريقية وكان قد بلغه أنه عصى وخالف، فلما جيء به أمر بضرب عنقه‏.‏

وعزل عن البصرة جابر بن زيد الكلابي وولاها يزيد بن منصور‏.‏

وفيها‏:‏ قتلت الخوارج معن بن زائدة بسجستان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عباد بن منصور، ويونس بن يزيد الأيلي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسون ومائة

وفيها‏:‏ غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني وسجنه وسجن أخاه خالداً وبني أخيه الأربعة‏:‏ سعيداً، ومسعوداً، ومخلداً، ومحمداً، وطالبهم بالأموال الكثيرة‏.‏

وكان سبب ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ولا معه شيء، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئاً تزوج به امرأة، ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعاً، فاتفق حبلها منه، ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها وتركها حاملاً، ووضع عندها رقعة فيها نسبته، وأنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه، وإذا ولدت غلاماً أن تسميه‏:‏ جعفراً‏.‏

فولدت غلاماً فسمته‏:‏ جعفراً، ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والأدب، وأتقن ذلك إتقاناً جيداً، ثم آل الأمر إلى بني العباس، فسألت عن السفاح فإذا هو ليس صاحبها، ثم قام المنصور وصار الولد إلى بغداد فاختلط بكّتاب الرسائل فأعجب به أيوب المورياني صاحب ديوان الإنشاء للمنصور، وحظي عنده وقدمه على غيره فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة، فجعل الخليفة يلاحظه، ثم بعث يوماً الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه الغلام فكتب بين يدي المنصور كتاباً وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله، ثم سأله عن اسمه فأخبره أنه جعفر، فقال‏:‏ ابن من ‏؟‏

فسكت الغلام، فقال‏:‏ مالك لا تتكلم ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن من خبري كيت وكيت‏.‏

فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره، وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يتعجب‏.‏

ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه، وقال‏:‏ أنت ابني‏.‏

ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الأمر وحال الولد‏.‏

وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة فأحرز ذلك ثم جاء إلى أبي أيوب فقال‏:‏ ما بطأ بك عند الخليفة ‏؟‏

فقال‏:‏ إنه استكتبني في رسائل كثيرة‏.‏

ثم تقاولا، ثم فارقه الغلام مغضباً، ونهض من فوره فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ويحملها وأهلها إلى بغداد، إلى أبيه الخليفة‏.‏

فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيوب فقيل‏:‏ سافر فظن أبو أيوب أنه أفشى شيئاً من أسراره إلى الخليفة وفر منه، فبعث في طلبه رسولاً، وقال‏:‏ حيث وجدته فرده علي‏.‏

فسار الرسول في طلبه فوجده في بعض المنازل فخنقه وألقاه في بئر وأخذ ما كان معه فرجع إلى أبي أيوب‏.‏

فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده وندم على بعثه خلفه، وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله، فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة، ومازال في العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله وجعل يقول‏:‏ هذا قتل حبيبي‏.‏

وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزناً شديداً‏.‏

وفيها‏:‏ خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية، فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفاً، ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي، وأبو عباد‏.‏

وانضم إليهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفاً، فقاتلوا نائب إفريقية فهزموا جيشه وقتلوه، وهو عمر بن عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم قتله هؤلاء الخوارج، رحمه الله‏.‏

وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد، وقتلوا الحريم والأولاد‏.‏

وفيها‏:‏ ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جداً، حتى كانوا يستعينون عن رفعها من داخلها بالقصب، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك‏:‏

وكنا نرجي من إمام زيادة * فزاد الإمام المرتجى في القلانس

تراها على هام الرجال كأنها * دنان يهود جللت بالبرانس

وفيها‏:‏ غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فأسر خلقاً كثيراً من الروم بنيف على ستة آلاف أسير، وغنم أموالاً جزيلةً‏.‏

وحج بالناس‏:‏ المهدي بن المنصور، وهو ولي العهد الملقب‏:‏ بالمهدي‏.‏

وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى مصر محمد بن سعيد‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن، فالله أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أبان بن صمة، وأسامة بن زيد الليثي، وثور بن يزيد الحمصي، والحسن بن عمارة، وقطر بن خليفة، ومعمر، وهشام بن الغازي، والله أعلم‏.‏

 

 

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

فيها‏:‏ دخل المنصور بلاد الشام وزار بيت المقدس، وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفاً وولاه بلاد إفريقية، وأمره بقتال الخوارج، وأنفق على هذا الجيش نحواً ثلاث وستين ألف درهم، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم، ونواب البلاد والأقاليم هم المذكورون في التي قبلها سوى البصرة فعليها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أبو أيوب الكاتب وأخوه خالد، وأمر المنصور ببني أخيه أن تقطع أيديهم وأرجلهم ثم تضرب بعد ذلك أعناقهم، ففعل ذلك بهم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

أشعب الطامع

وهو‏:‏ أشعب بن جبير، أبو العلاء، ويقال‏:‏ أبو إسحاق المدني، ويقال له‏:‏ أبو حميدة‏.‏

وكان أبوه مولى لآل الزبير، قتله المختار، وهو خال الواقدي‏.‏

وروى عن عبد الله بن جعفر‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين‏)‏‏)‏‏.‏

وأبان بن عثمان، وسالم، وعكرمة‏.‏

وكان ظريفاً ماجناً يحبه أهل زمانه لخلاعته وطمعه، وكان حميد الغناء، وقد وفد على الوليد بن يزيد دمشق، فترجمه ابن عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياء مضحكة، وأسند عنه حديثين‏.‏

وروي عنه أنه سئل يوماً أن يحدث فقال‏:‏ حدثني عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خصلتان من عمل بهما دخل الجنة‏)‏‏)‏ ثم سكت‏.‏

فقيل له‏:‏ ما هما ‏؟‏

فقال‏:‏ نسي عكرمة الواحدة ونسيت أنا الأخرى‏.‏

وكان سالم بن عبد الله بن عمر يستخفه ويستحليه ويضحك منه ويأخذه معه إلى الغابة، وكذلك كان غيره من أكابر الناس‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ عبث الولدان يوماً بأشعب فقال لهم‏:‏ إن ههنا أناساً يفرقون الجوز - ليطردهم عنه - فتسارع الصبيان إلى ذلك، فلما رآهم مسرعين قال‏:‏ لعله حق فتبعهم‏.‏

وقال له رجل‏:‏ ما بلغ من طمعك ‏؟‏

فقال‏:‏ ما زفت عروس بالمدينة إلا رجوت أن تزف إلي فأكسح داري وأنظف بابي واكنس بيتي‏.‏

واجتاز يوماً برجل يصنع طبقاً من قش فقال له‏:‏ زد فيه طوراً أو طورين لعله أن يهدى يوماً لنا فيه هدية‏.‏

وروى ابن عساكر أن أشعب غنَّى يوماً لسالم بن عبد الله بن عمر قول بعض الشعراء‏:‏

مضين بها والبدر يشبه وجهها * مطهرة الأثواب والدين وافر

لها حسب زاكٍ وعرض مهذب * وعن كل مكروه من الأمر زاجر

من الخفرات البيض لم تلق ريبة * ولم يستملها عن تقى الله شاعر

فقال له سالم‏:‏ أحسنت فزدنا‏.‏

فغناه‏:‏

ألمت بنا والليل داج كأنه * جناح غراب عنه قد نفض القطرا

فقلت أعطار ثوى في رحالنا * وما علمت ليلى سوى ريحها عطرا

فقال له‏:‏ أحسنت ولولا أن يتحدث الناس لأجزلت لك الجائزة، وإنك من الأمر لبمكان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ جعفر بن برقان، والحكم بن أبان، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وقرة بن خالد‏.‏

وأبو عمرو بن العلاء

أحد أئمة القراء، واسمه كنيته، وقيل اسمه‏:‏ ريان، والصحيح الأول‏.‏

وهو‏:‏ أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين، التميمي المازني البصري، وقيل غير ذلك في نسبه‏.‏

كان علامة زمانه في الفقه والنحو وعلم القراءات، وكان من كبار العلماء العاملين، يقال‏:‏ إنه كتب ملء بيت من كلام العرب، ثم تزهد فأحرق ذلك كله، ثم راجع الأمر الأول فلم يكن عنده إلا ما كان يحفظه من كلام العرب، وكان قد لقي خلقاً كثيراً من أعراب الجاهلية، كان مقدماً أيام الحسن البصري ومن بعده‏.‏

من اختياراته في العربية قوله في تفسيره الغرة في الجنين‏:‏ إنها لا يقبل فيها إلا أبيض غلاماً كان أو جارية‏.‏

فهم ذلك من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏غرة عبد أو أمة‏)‏‏)‏‏.‏

ولو أريد أي عبد كان أو جارية لما قيده بالغرة، وإنما الغرة البياض‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قول أحد الأئمة المجتهدين أم لا‏.‏

وذكر عنه أنه كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتاً من الشعر حتى ينسلخ، وإنما كان يقرأ القرآن وأنه كان يشتري له كل يوم كوزاً جديداً وريحاناً طرياً، وقد صحبه الأصمعي نحواً من عشر سنين‏.‏

كانت وفاته في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة ست وخمسين، وقيل‏:‏ تسع وخمسين، فالله أعلم‏.‏

وقد قارب التسعين، وقيل‏:‏ إنه جاوزها، فالله أعلم‏.‏

وقبره بالشام، وقيل‏:‏ بالكوفة، فالله أعلم‏.‏

وقد روى ابن عساكر في ترجمة صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏لأن يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير له من أن يربي ولداً لصلبه‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا منكر جداً، وفي إسناده نظر‏.‏

ذكره من طريق تمام، عن خيثمة بن سليمان، عن محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد الله بن السمط، عن صالح، به‏.‏

وعبد الله بن السمط هذا لا أعرفه، وقد ذكره شيخنا الحافظ الذهبي في كتابه الميزان وقال‏:‏ روى عن صالح بن علي حديثاً موضوعاً‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

فيها‏:‏ دخل يزيد بن حاتم بلاد إفريقية فافتتحها عوداً على بدء، وقتل من كان فيها ممن تغلب عليها من الخوارج، وقتل أمراءهم وأسر كبراءهم، وأذل أشرافهم واستبدل أهل تلك البلاد بالخوف أمناً وسلامةً، وبالإهانة كرامة، وكان من جملة من قتل من أمرائهم‏:‏ أبو حاتم، وأبو عباد الخارجيان‏.‏

ثم لما استقامت له وبه الأمور في البلدان دخل ذلك بلاد القيروان فمهدها وأقر أهلها وقرر أمورها وأزال محذورها، والله سبحانه أعلم‏.‏

 بناء الرافقة وهي المدينة المشهورة

وفيها‏:‏ أمر المنصور ببناء الرافقة على منوال بناء بغداد في هذه السنة، وأمر فيها ببناء سور وعمل خندق حول الكوفة، وأخذ ما غرم على ذلك من أموال أهلها، من كل إنسان من أهل اليسار أربعين درهماً، وقد فرضها أولاً خمسة دراهم، خمسة دراهم، ثم جباها أربعين أربعين‏.‏

فقال في ذلك بعضهم‏:‏

يا لقومي ما رأينا * في أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا * وجبانا أربعينا

وفيها‏:‏ غزا الصائفة يزيد بن أسد السلمي‏.‏

وفيها‏:‏ طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يحمل إليه الجزية‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغرمه أموالاً كثيرةً‏.‏

وفيها‏:‏ عزل محمد بن سليمان بن علي عن إمرة الكوفة‏.‏

فقيل‏:‏ لأمور بلغته عنه في تعاطي منكرات، وأمور لا تليق بالعمال‏.‏

وقيل‏:‏ لقتله محمد بن أبي العوجاء - وقد كان ابن أبي العوجاء هذا زنديقاً - يقال‏:‏ إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة آلاف حديث يحلُّ فيها الحرام ويحرم فيها الحلال، ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام‏.‏

فأراد المنصور أن يجعل قتله له ذنباً فعزله به، وإنما أراد أن يقيده منه‏.‏

فقال له عيسى بن موسى‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا تعزله بهذا ولا تقتله به، فإنه إنما قتله على الزندقة، ومتى عزلته به شكره العامة وذموك‏.‏

فتركه حيناً ثم عزله وولى مكانه على الكوفة عمرو بن زهير‏.‏

وفيها‏:‏ عزل عن المدينة الحسن بن زيد وولى عليها عمه عبد الصمد بن علي، وجعل معه فليح بن سليمان مشرفاً عليه‏.‏

وعلى إمرة مكة محمد بن إبراهيم بن محمد، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى مصر محمد بن سعيد، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

صفوان بن عمرو وعثمان بن أبي العاتكة الدمشقيان، وعثمان بن عطاء، ومسعر بن كدام‏.‏

حماد الراوية

وهو‏:‏ ابن أبي ليلى، ميسرة - ويقال‏:‏ سابور - بن المبارك بن عبيد، الديلمي الكوفي، مولى بكير بن زيد الخيل الطائي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع المعلقات الطوال، وإنما سمي‏:‏ الرواية لكثرة روايته الشعر عن العرب، اختبره الوليد بن يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك فأنشده تسعاً وعشرين قصيدةً على حروف المعجم، كل قصيدة نحواً من مائة بيت، وزعم أنه لا يسمى شاعر من شعراء العرب إلا أنشد له ما لا يحفظه غيره‏.‏ فأطلق له مائة ألف درهم‏.‏

وذكر أبو محمد الحريري في كتابه درة الغواص‏:‏ أن هشام بن عبد الملك استدعاه من العراق من نائبه يوسف بن عمر، فلما دخل عليه إذا هو في دار قوراء مرخمة بالرخام والذهب وإذا عنده جاريتان حسنتان جداً، فاستنشده شيئاً فأنشده، فقال له‏:‏ سل حاجتك ‏؟‏

فقال‏:‏ كائنة ما كانت يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ وما هي ‏؟‏

فقال‏:‏ تطلق لي إحدى هاتين الجاريتين‏.‏

فقال‏:‏ هما وما عليهما لك‏.‏

وأخلاه في بعض داره، وأطلق له مائة ألف درهم‏.‏

هذا ملخص الحكاية، والظاهر أن هذا الخليفة إنما هو الوليد بن يزيد فإنه ذكر أنه شرب معه الخمر، وهشام لم يكن يشرب، ولم يكن نائبه على العراق يوسف بن عمر، إنما كان نائبه خالد بن عبد الله القسري، وبعده يوسف بن عمر بن عبد العزيز‏.‏

كانت وفاة حماد في هذه السنة عن ستين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين، فالله أعلم‏.‏

وفيها قتل‏:‏ حماد عجرد على الزندقة‏.‏

وهو‏:‏ حماد بن عمر

ابن يوسف بن كليب، الكوفي، ويقال‏:‏ إنه واسطي مولى بني سواد‏.‏

وكان شاعراً ماجناً ظريفاً زنديقاً متهماً على الإسلام، وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية، ولم يشتهر إلا في أيام بني العباس، وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة، وقد قتل بشار هذا على الزندقة أيضاً كما سيأتي‏.‏

ودفن مع حماد هذا في قبره، وقيل‏:‏ إن حماداً عجرد مات سنة ثمان وخمسين، وقيل‏:‏ إحدى وستين ومائة، فالله أعلم‏.‏

 

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

فيها‏:‏ ظفر الهيثم بن معاوية نائب المنصور على البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عاملاً لإبراهيم بن محمد على فارس، فقيل‏:‏ أمر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم صلب‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المنصور الهيثم بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفعلة عن البصرة وولى عليها قاضيها سوار بن عبد الله، فجمع له بين القضاء والصلاة، وجعل على شرطتها وأحداثها سعيد بن دعلج، ورجع الهيثم بن معاوية قاتل عمرو بن شداد إلى بغداد فمات فيها فجأة في هذه السنة، وهو على بطن جارية له، وصلى عليه المنصور ودفن في مقابر بني هاشم‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أصابته دعوة عمر بن شداد الذي قتله تلك القتلة، فليتق العبد الظلم‏.‏

وحج بالناس العباس بن محمد أخو المنصور‏.‏

ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وعلى فارس والأهواز وكور دجلة عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو‏.‏

وفيها توفي‏:‏ حمزة الزيات في قول، وهو أحد القراء المشهورين والعباد المذكورين، وإليه تنسب المدود الطويلة في القراءة اصطلاحاً من عنده، وقد تكلم فيه بسببها بعض الأئمة وأنكروها عليه‏.‏

وسعيد بن أبي عروبة، وهو أول من جمع السنن في قول، وعبد الله بن شوذب، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وعمر بن ذر‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

فيها‏:‏ بنى المنصور قصره المسمى‏:‏ بالخلد في بغداد، تفاؤلاً بالتخليد في الدنيا، فعند كماله مات وخرب القصر من بعده، وكان المستحث في عمارته أبان بن صدقة، والربيع مولى المنصور وهو حاجبه‏.‏

وفيها‏:‏ حول المنصور الأسواق من قرب دار الإمارة إلى باب الكرخ‏.‏ وقد ذكرنا فيما تقدم سبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أمر بتوسعة الطرقات‏.‏

وفيها‏:‏ أمر بعمل جسر عند باب الشعير‏.‏

وفيها‏:‏ استعرض المنصور جنده وهم ملبسون السلاح وهو أيضاً لابس سلاحاً عظيماً، وكان ذلك عند دجلة‏.‏

وفيها‏:‏ عزل عن السند هشام بن عمرو وولى عليها سعيد بن الخليل‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي فأوغل في بلاد الروم، وبعث سناناً مولى البطال مقدمة بين يديه ففتح حصوناً وسبى وغنم‏.‏

وفيها حج بالناس‏:‏ إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي‏.‏

ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الحسين بن واقد، والإمام الجليل علامة الوقت أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم‏.‏

وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحواً من مائتين وعشرين سنة‏.‏

 شيء من ترجمة الأوزاعي رحمه الله

هو‏:‏ عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو عمرو الأوزاعي‏.‏

والأوزاع‏:‏ بطن من حمير وهو من أنفسهم‏.‏ قاله محمد بن سعد‏.‏

وقال غيره‏:‏ لم يكن من أنفسهم وإنما نزل في محلة الأوزاع، وهي قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق، وهو ابن عم يحيى بن عمرو الشيباني‏.‏

قال أبو زرعة‏:‏ وأصله من سبي السند فنزل الأوزاع فغلب عليه النسبة إليها‏.‏

وقال غيره‏:‏ ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيماً في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد‏.‏

وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتاً منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه، من حسنها، وكان يعاني الرسائل والكتابة، وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين‏.‏

فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين، ووجد ابن سيرين مريضاً، فجعل يتردد لعيادته، فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الأوزاعي شيئاً‏.‏

ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الأوزاع خارج باب الفراديس، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام‏.‏

وقد أدرك خلقاً من التابعين وغيرهم، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين‏:‏ كمالك بن أنس والثوري، والزهري وهو من شيوخه‏.‏

وأثنى عليه غير واحد من الأئمة، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته‏.‏

قال مالك‏:‏ كان الأوزاعي إماماً يقتدى به‏.‏

وقال سفيان بن عيينة وغيره‏:‏ كان الأوزاعي إمام أهل زمانه‏.‏

وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول‏:‏ أفسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه‏.‏

وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الأوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه‏.‏ أو في شيء من الفقه‏.‏

وتناظر الأوزاعي والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه، فاحتج الأوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري، عن سالم، عن أبيه‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه‏)‏‏)‏‏.‏

واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد‏.‏

فغضب الأوزاعي وقال‏:‏ تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف ‏؟‏

فاحمر وجه الثوري، فقال الأوزاعي‏:‏ لعلك كرهت ما قلت ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق‏.‏ فسكت الثوري‏.‏

وقال هقل بن زياد‏:‏ أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدثنا‏.‏ وأخبرنا‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ روي عنه ستون ألف مسألة‏.‏

وقال غيرهما‏:‏ أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاكٍ‏.‏

وقال يحيى القطان، عن مالك‏:‏ اجتمع عندي الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة‏.‏

فقلت‏:‏ أيهم أرجح ‏؟‏

قال‏:‏ الأوزاعي‏.‏

وقال محمد بن عجلان‏:‏ لم أر أحداً أنصح للمسلمين من الأوزاعي‏.‏

وقال غيره‏:‏ ما رُئي الأوزاعي ضاحكاً مقهقهاً قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقي أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ العلماء أربعة‏:‏ الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ كان ثقةً متبعاً لما سمع‏.‏

قالوا‏:‏ وكان الأوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها‏.‏

وقد قال المنصور يوماً‏:‏ لأحظى كتَّابه عنده - وهو‏:‏ سليمان بن مجالد -‏:‏ ينبغي أن نجيب الأوزاعي على ذلك دائماً، لنستعين بكلامه فيما نكاتب به إلى الآفاق إلى من لا يعرف كلام الأوزاعي‏.‏

فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا يقدر أحد من أهل الأرض على مثل كلامه ولا على شيء منه‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس، وكان يأثر عن السلف ذلك‏.‏

قال‏:‏ ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ رأيت رب العزة في المنام فقال‏:‏ أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ‏؟‏

فقال‏:‏ بفضلك أي رب‏.‏

ثم قلت‏:‏ يا رب أمتني على الإسلام‏.‏

فقال‏:‏ وعلى السنة‏.‏

وقال محمد بن شابور‏:‏ قال لي شيخ بجامع دمشق‏:‏ أنا ميت في يوم كذا وكذا‏.‏

فلما كان في ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى، فقال لي‏:‏ اذهب إلى سرير الموتى فأحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه‏.‏

فقلت‏:‏ ما تقول ‏؟‏

فقال‏:‏ هو ما أقول لك، وإني رأيت كأن قائلاً يقول‏:‏ فلان قدري وفلان كذا وعثمان بن العاتكة نعمَ الرجل، وأبو عمرو الأوزاعي خير من يمشي على وجه الأرض، وأنت ميت في يوم كذا وكذا‏.‏

قال محمد بن شعيب‏:‏ فما جاء الظهر حتى مات وصلينا عليه بعدها وأخرجت جنازته‏.‏ ذكر ذلك ابن عساكر‏.‏

وكان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة ورعاً ناسكاً طويل الصمت، وكان يقول‏:‏ من أطال القيام في صلاة الليل هوّن الله عليه طول القيام يوم القيامة، أخذ ذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ - ‏]‏‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ ما رأيت أحداً أشد اجتهاداً من الأوزاعي في العبادة‏.‏

وقال غيره‏:‏ حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى‏.‏

ودخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً فقالت لها‏:‏ لعل الصبي بال ههنا‏.‏

فقالت‏:‏ هذا أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده، هكذا يصبح كل يوم‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم، وقل ما قالوا وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم‏.‏

وقال‏:‏ العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجيء عنهم فليس بعلم‏.‏

وكان يقول‏:‏ لا يجتمع حب عليٍّ وعثمان إلا في قلب مؤمن، وإذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العلم والعمل‏.‏

قالوا‏:‏ وكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء أقطاع صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يمسك منها شيئاً، ولا اقتنى شيئاً من عقار ولا غيره، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه، بل كان ينفق ذلك في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين‏.‏

ولما دخل عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - دمشق فطلب الأوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه‏.‏

قال الأوزاعي‏:‏ دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة - والعمد الحديد - فسلمت عليه فلم يرد ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده ثم قال‏:‏ يا أوزاعي ‏!‏ ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد‏؟‏ أجهاداً ورباطاً هو ‏؟‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ أيها الأمير ‏!‏ سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري، يقول‏:‏ سمعت محمد بن إبراهيم التيمي، يقول‏:‏ سمعت علقمة بن وقاص، يقول‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب، يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال‏:‏ يا أوزاعي ‏!‏ ما تقول في دماء بني أمية ‏؟‏

فقلت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل لمسلم دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)‏‏)‏‏.‏

فنكت بها أشد من ذلك ثم قال‏:‏ ما تقول في أموالهم ‏؟‏

فقلت‏:‏ إن كانت في أيديهم حراماً فهي حرام عليك أيضاً، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي‏.‏

فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال‏:‏ ألا نوليك القضاء ‏؟‏

فقلت‏:‏ إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني به من الإحسان‏.‏

فقال‏:‏ كأنك تحب الانصراف ‏؟‏

فقلت‏:‏ إن ورائي حرماً وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي‏.‏

قال‏:‏ وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف‏.‏

فلما خرجت إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال‏:‏ يقول لك الأمير‏:‏ استنفق هذه‏.‏

قال‏:‏ فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفاً‏.‏

قال‏:‏ وكان في تلك الأيام الثلاثة صائماً فيقال‏:‏ إن الأمير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده‏.‏

قالوا‏:‏ ثم رحل الأوزاعي من دمشق فنزل بيروت مرابطاً بأهله وأولاده، قال الأوزاعي‏:‏ وأعجبني في بيروت أني مررت بقبورها فإذا امرأة سوداء في القبور فقلت لها‏:‏ أين العمارة يا هنتاه ‏؟‏

فقالت‏:‏ إن أردت العمارة فهي هذه - وأشارت إلى القبور - وإن كنت تريد الخراب فأمامك - وأشارت إلى البلد - فعزمت على الإقامة بها‏.‏

وقال محمد بن كثير‏:‏ سمعت الأوزاعي، يقول‏:‏ خرجت يوماً إلى الصحراء فإذا رجل جراد وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد، وكلما قال بيده هكذا إلى جهة مال الجراد مع يده، وهو يقول‏:‏ الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعة إلى الصيد ولا ينتظر الجمعة فخسف ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها‏.‏

وخرج الأوزاعي يوماً من باب مسجد بيروت وهناك كان فيه رجل يبيع الناطف وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول له‏:‏ يا بصل ‏!‏ أحلى من العسل، أو قال‏:‏ أحلى من الناطف‏.‏

فقال الأوزاعي‏:‏ سبحان الله ‏!‏ أيظن هذا أن شيئاً من الكذب يباح‏؟‏ فكان هذا ما يرى في الكذب بأساً‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ قال الأوزاعي‏:‏ كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفظ‏.‏

وكتب إلى أخ له‏:‏ أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، وإنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والقيام بين يديه، وأن يكون آخر العهد بك والسلام‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني محمد بن إدريس، سمعت أبا صالح - كاتب الليث -، يذكر عن الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، أنه وعظ فقال في موعظته‏:‏ أيها الناس ‏!‏ تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل عنها راحلون‏.‏

خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعماراً، وأمد أجساماً، وأعظم أحلاماً، وأكثر أموالاً وأولاداً، فخددوا الجبال، وجابوا الصخر بالواد، وتنقلوا في البلاد، مؤيدين بطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت آثارهم، وأخربت منازلهم وديارهم، وأنست ذكرهم، فهل تحسن منهم من أحد أو وتسمع له ركزاً ‏؟‏

كانوا بلهو الأمل آمنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتاً من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون يبصرون في نعمة الله وينظرون في آثار نقمته، وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين ينظرون والله في مساكن خالية خاوية، وقد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها مصروفة، والأعين نحوها ناظرة، فأصبحت آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى‏.‏

وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيا منقوصة، في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه وخيره وصفوه، فلم يبق منه إلا جمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير، وإرسال فتن، وتتابع زلال، ورذالة خلف بهم، ظهر الفساد في البر والبحر، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار بما يرتكبونه من العار والشنار، فلا تكونوا أشباهاً لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، ولعبت به الأماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا دعي بدر، وإذا نهي انتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه‏.‏

وقد اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبه المنصور وعظمه، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب‏:‏ الحقه فاسأله لم كره لبس السواد‏؟‏ ولا تعلمه أني قلت لك‏.‏

فسأله الربيع فقال‏:‏ إني لم أر محرماً أحرم فيه، ولا ميتاً كفن فيه، ولا عروساً جليت فيه، فلهذا أكرهه‏.‏

وقد كان الأوزاعي في الشام معظماً مكرماً أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد همَّ به بعض مرة فقال له أصحابه‏:‏ دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلونك لقتلوك‏.‏

ولما مات جلس على قبره بعض الولاة فقال‏:‏ رحمك الله، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني‏:‏ المنصور -‏.‏

وقال ابن العشرين‏:‏ ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده وسمع شتمه بأذنه‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، قال‏:‏ كنت جالساً عند الثوري فجاءه رجل، فقال‏:‏ رأيت كأن ريحانة من المغرب - يعني‏:‏ قلعت -‏.‏

قال‏:‏ إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي‏.‏

فكتبوا ذلك فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم‏.‏

وقال أبو مسهر‏:‏ بلغنا أن سبب موته أن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه، ولم تكن عامدة ذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبه‏.‏

قال‏:‏ وما خلف ذهباً ولا فضةً ولا عقاراً، ولا متاعاً إلا ستة وثمانين، فضلت من عطائه‏.‏

وكان قد اكتتب في ديوان الساحل‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام، أغلقه وذهب لحاجة له ثم جاء ففتح الحمام فوجده ميتاً قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة رحمه الله‏.‏

قلت‏:‏ لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطاً، واختلفوا في سنة وفاته، فروى يعقوب بن سفيان، عن سلمة، قال‏:‏ قال أحمد‏:‏ رأيت الأوزاعي وتوفي سنة خمسين ومائة‏.‏

قال العباس بن الوليد البيروتي‏:‏ توفي يوم الأحد أول النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومائة، وهو الذي عليه الجمهور وهو الصحيح، وهو قول‏:‏ أبي مسهر، وهشام بن عمار، والوليد بن مسلم - في أصح الروايات عنه -، ويحيى بن معين، ودحيم، وخليفة بن خياط، وأبي عبيد، وسعيد بن عبد العزيز، وغير واحد‏.‏

قال العباس بن الوليد‏:‏ ولم يبلغ سبعين سنة، وقال غيره‏:‏ جاوز السبعين، والصحيح سبع وستون سنة، لأن ميلاده في سنة ثمان وثمانون على الصحيح‏.‏

وقيل‏:‏ أنه ولد سنة ثلاث وسبعين، وهذا ضعيف‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام، فقال له‏:‏ دلني على عمل يقربني إلى الله‏.‏

فقال‏:‏ ما رأيت في الجنة درجة أعلى من درجة العلماء العاملين، ثم المحزونين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

فيها‏:‏ تكامل بناء قصر المنصور المسمى‏:‏ بالخلد، وسكنه أياماً يسيرة ثم مات وتركه‏.‏

وفيها‏:‏ مات طاغية الروم‏.‏

وفيها‏:‏ وجه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره بعزل موسى بن كعب عن الموصل، وأن يولى عليها خالد بن برمك وكان ذلك بعد نكته غريبة اتفقت ليحيى بن خالد، وذلك‏:‏ أن المنصور كان قد غضب على خالد بن برمك، وألزمه يحمل ثلاثة آلاف ألف، فضاق ذرعاً بذلك، ولم يبق له مال ولا حال، وعجز عن أكثرها، وقد أجله ثلاثة أيام، وأن يحمل ذلك في هذه الثلاثة أيام وإلا فدمه هدر فجعل يرسل ابنه يحيى إلى أصحابه من الأمراء يستقرض منهم، فكان منهم من أعطاه مائة ألف، ومنهم أقل وأكثر‏.‏

قال يحيى بن خالد‏:‏ فبينا أنا ذات يوم من تلك الأيام الثلاثة على جسر بغداد، وأنا مهموم في تحصيل ما طلب منا مما لا طاقة لنا به، إذ وثب إلى زاجر من أولئك الذين يكونون عند الجسر من الطرقية، فقال لي‏:‏ أبشر ‏!‏

فلم ألتفت إليه فتقدم حتى أخذ بلجام فرسي ثم قال لي‏:‏ أنت مهموم، ليفرجن الله همك ولتمرن غداً في هذا الموضع واللواء بين يديك، فإن كان ما قلت لك حقاً فلي عليك خمسة آلاف‏.‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏

ولو قال‏:‏ خمسون ألفاً لقلت‏:‏ نعم ‏!‏ لبعد ذلك عندي‏.‏

وذهبت لشأني، وقد بقي علينا من الحمل ثلاثمائة ألف فورد الخبر إلى المنصور بانتقاض الموصل وانتشار الأكراد فيها، فاستشار المنصور الأمراء‏:‏ من يصلح للموصل ‏؟‏

فأشار بعضهم بخالد بن برمك، فقال له المنصور‏:‏ أو يصلح لذلك بعد ما فعلنا به ‏؟‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏ وأنا الضامن أنه يصلح لها‏.‏

فأمر بإحضاره فولاه إياها ووضع عنه بقية ما كان عليه، وعقد له اللواء، وولى ابنه يحيى أذربيجان، وخرج الناس في خدمتهما‏.‏

قال يحيى‏:‏ فمررنا بالجسر فسار إلي ذلك الزاجر فطالبني بما وعدته به، فأمرت له به فقبض خمسة آلاف‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج المنصور إلى الحج فساق الهدي معه، فلما جاوز الكوفة بمراحل أخذه وجعه الذي مات به وكان عنده سوء مزاج فاشتد عليه من شدة الحد وركوبه في الهواجر، وأخذه إسهال وأفرط به، فقوي مرضه، ودخل مكة فتوفي بها ليلة السبت لست مضين من ذي الحجة، وصلي عليه ودفن بكدا عند ثنية باب المعلاة التي بأعلا مكة، وكان عمره يومئذ ثلاثاً، وقيل‏:‏ أربعاً، وقيل‏:‏ خمساً وستين، وقيل‏:‏ إنه بلغ ثمانياً وستين، فالله أعلم‏.‏

وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من القواد ورؤوس بني هاشم، ثم دفن‏.‏

وكان الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وهو الذي أقام للناس الحج في هذه السنة‏.‏

 ترجمة المنصور

هو‏:‏ عبد الله بن محمد بن علي بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو جعفر المنصور، وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح، وأمه أم ولد اسمها‏:‏، سلامة‏.‏

وروى عن جده، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه‏)‏‏)‏‏.‏

أورده ابن عساكر، من طريق محمد بن إبراهيم السلمي، عن المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن أبيه المنصور، به‏.‏

بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة، لأنه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر منها، بالحميمة من بلاد البلقاء، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياماً‏.‏

وكان أسمر اللون، موفور اللمة، خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان، يخالطه أبهة الملك، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في مواضعه، والعنف في صورته، والليث في مشيته، هكذا وصفه بعض من رآه‏.‏

وقد صح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ منَّا السفاح والمنصور‏.‏

وفي رواية‏:‏ حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم‏.‏

وقد روي مرفوعاً، ولا يصح، ولا وقفه أيضاً‏.‏

وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت‏:‏ رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فزأر واقفاً على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له‏.‏

وقد رأى المنصور في صغره مناماً غريباً كان يقول‏:‏ ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب، ويعلق في أعناق الصبيان‏.‏

قال‏:‏ رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد‏:‏ أين عبد الله ‏؟‏

فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود‏.‏

ثم نودي‏:‏ أين عبد الله ‏؟‏

فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كوراً، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له‏:‏ ممن تكون ‏؟‏

فقال‏:‏ من بني العباس‏.‏

فلما عرف منه نسبه وكنيته قال‏:‏ أنت الخليفة الذي تلي الأرض‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏ ماذا تقول ‏؟‏

فقال‏:‏ هو ما أقول لك، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئاً إذا وليت‏.‏

فكتب له، فلما ولي أكرمه المنصور وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسياً، ثم كان من أخص أصحاب المنصور‏.‏

وقد حج المنصور بالناس سنة‏:‏ أربعين ومائة وأحرم من الحيرة، وفي سنة أربع وأربعين، وفي سنة سبع وأربعين، وفي سنة ثنتين وخمسين، ثم في هذه السنة التي مات فيها‏.‏

وبنى بغداد والرصافة والرافقة وقصره الخلد‏.‏

قال الربيع بن يونس الحاجب‏:‏ سمعت المنصور يقول‏:‏ الخلفاء أربعة‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏

والملوك أربعة‏:‏ معاوية، وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وأنا‏.‏

وقال مالك‏:‏ قال لي المنصور‏:‏ من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

فقلت‏:‏ أبو بكر، وعمر‏.‏

فقال‏:‏ أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين‏.‏

وعن إسماعيل البهري، قال‏:‏ سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة، يقول‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلاً فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني‏.‏

فارغبوا إلى الله أيها الناس ‏!‏ وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ ‏]‏‏.‏

أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب‏.‏

وقد خطب يوماً فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ اذكر من أنت ذاكره، واتق الله فيما تأتيه وتذره‏.‏

فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل، فقال‏:‏ أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله عز وجل فيه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ ‏]‏ أو أن أكون جباراً عصياً‏.‏

أيها الناس ‏!‏ إن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا نبتت، ثم قال للرجل‏:‏ ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله، وإنما أردت أن يقال عنك وعظ أمير المؤمنين‏.‏

أيها الناس ‏!‏ لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله‏.‏

ثم أمر به فاحتفظ به وعاد إلى خطبته فأكملها، ثم قال لمن هو عنده‏:‏ أعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني، وإن ردها فأعلمني، فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال ومال إلى الدنيا فولاه الحسبة والمظالم وأدخله على الخليفة في بزة حسنة، وثياب وشارة وهيئة دنيوية، فقال له الخليفة‏:‏ ويحك ‏!‏ لو كنت محقاً مريداً وجه الله بما قلت على رؤوس الناس لما قبلت شيئاً مما أرى، ولكن أردت أن يقال عنك‏:‏ إنك وعظت أمير المؤمنين، وخرجت عليه، ثم أمر به فضربت عنقه‏.‏

وقد قال المنصور لابنه المهدي‏:‏ إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ يا بني ‏!‏ استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله‏.‏

وحضر عنده مبارك بن فضيلة يوماً وقد أمر برجل أن يضرب عنقه وأحضر النطع والسيف، فقال له مبارك‏:‏ سمعت الحسين، يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا‏)‏‏)‏‏.‏ فأمر بالعفو عن ذلك الرجل‏.‏

ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائم ذلك الرجل وما صنعه‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ أتى المنصور برجل ليعاقبه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ الانتقام عدل والعفو فضل، وتعوذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأدنى القسمين، دون أرفع الدرجتين‏.‏

قال‏:‏ فعفا عنه‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ قال المنصور لرجل من أهل الشام‏:‏ احمد الله يا أعرابي ‏!‏ الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا‏.‏

فقال‏:‏ إن الله لا يجمع علينا حشفاً وسوء كيل‏:‏ ولايتكم والطاعون‏.‏

والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جداً‏.‏

ودخل بعض الزهاد إلى المنصور فقال‏:‏ إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده‏.‏

قال‏:‏ فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال فقال‏:‏ لو احتجت إلى مالك لما وعظتك‏.‏

ودخل عمرو بن عبيد القدري على المنصور فأكرمه وعظمه وقربه وسأله عن أهله وعياله، ثم قال له‏:‏ عظني‏.‏

فقرأ عليه سورة الفجر إلى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ ‏]‏‏.‏

فبكى المنصور بكاءً شديداً حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل ذلك، ثم قال له‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، وإن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة‏.‏

فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلفت أجفانه، فقال له سليمان بن مجالد‏:‏ رفقاً بأمير المؤمنين‏.‏

فقال عمرو‏:‏ وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز وجل‏.‏

ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم، فقال‏:‏ لا حاجة لي فيها‏.‏

فقال المنصور‏:‏ والله لتأخذنها‏.‏

فقال‏:‏ والله لا آخذنها‏.‏

فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه‏:‏ أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت ‏؟‏

فالتفت إلى المنصور فقال‏:‏ ومن هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ هذا ابني محمد ولي العهد من بعدي‏.‏

فقال عمرو‏:‏ إنك سميته اسماً لم يستحقه لعمله، وألبسته لبوساً ما هو لبوس الأبرار، ولقد مهدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه‏.‏

ثم التفت إلى المهدي فقال‏:‏ يا ابن أخي ‏!‏ إذا حلف أبوك وحلف عمك فلأن يحنث أبوك أيسر من أن يحنث عمك، لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك‏.‏

ثم قال المنصور‏:‏ يا أبا عثمان ‏!‏ هل من حاجة ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ وما هي ‏؟‏

قال‏:‏ لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك‏.‏

فقال المنصور‏:‏ إذاً والله لا نلتقي‏.‏

فقال عمرو‏:‏ عن حاجتي سألتني‏.‏ فودعه وأنصرف‏.‏

فلما ولى أمده بصره وهو يقول‏:‏

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيد

غير عمر بن عبيد *

ويقال‏:‏ إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظة إياه وهي قوله‏:‏

يا أيها الذي قد غره الأمل * ودون ما يأمل التنغيص والأجل

ألا ترى إنما الدنيا وزينتها * كمنزل الركب حلواً ثمت ارتحلوا

حتوفها رصد وعيشها نكد * وصفوها كدر وملكها دول

تظل تقرع بالروعات ساكنها * فما يسوغ له لين ولا جذل

كأنه للمنايا والردى غرض * تظل فيه بنات الدهر تنتقل

تديره ما تدور به دوائرها * منها المصيب ومنها المخطئ الزلل

والنفس هاربة والموت يطلبها * وكل عسرة رجل عندها جلل

والمرء يسعى بما يسعى لوارثه * والقبر وارث ما يسعى له الرجل

وقال ابن دريد‏:‏ عن الرياشي، عن محمد بن سلام، قال‏:‏ رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعاً فقالت‏:‏ خليفة وقميص مرقوع ‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ أما سمعت ما قال ابن هرمة‏:‏

قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه * خلق وبعض قميصه مرقوع

وقال بعض الزهاد للمنصور‏:‏ اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة مثلها، واذكر ليلة تمخض عن يوم القيامة لا ليلة بعدها‏.‏

فأفحم المنصور قوله فأمر له بمال‏.‏

فقال‏:‏ لو احتجت إلى مالك ما وعظتك‏.‏

ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم‏:‏

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن يترددا

ولا تمهل الأعداء يوماً لغدرة * وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

ولما قتله ورآه طريحاً بين يديه قال‏:‏

قد اكتنفتك خلات ثلاث * جلبن عليك محتوم الحمام

خلافك وامتناعك من يميني * وقودك للجماهير العظام

ومن شعره أيضاً‏:‏

المرء يأمل أن يعيـ * ـش وطول عمر قد يضره

تبلى بشاشته ويبـ * ـقى بعد حلو العيش مره

وتخونه الأيام حتى * لا يرى شيئاً يسره

كم شامت بي إن هلكـ * ـت وقائل لله دره

قالوا‏:‏ وكان لمنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات والعزل والنظر في مصالح العامة، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلاها جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل، ثم يقوم إلى أهله فينام في فراشه إلى الثلث الآخر، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح، ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه‏.‏

وقد ولى بعض العمال على بلد فبلغه أنه قد تصدى للصيد وأعد لذلك كلاباً وبزاة، فكتب إليه‏:‏ ثكلتك أمك وعشيرتك، ويحك ‏!‏ إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين ولم نستكفيك أمور الوحوش في البراري، فسلم ما تلي من عملنا إلى فلان والحق بأهلك ملوماً مدحوراً‏.‏

وأتي يوماً بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة فلما وقف بين يديه قال له المنصور‏:‏ ويحك يا ابن الفاعلة ‏!‏ مثلك يهزم الجيوش ‏؟‏

 

فقال الخارجي‏:‏ ويلك سوأة لك بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب، وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فما استقبلها أبداً‏.‏

قال‏:‏ فاستحيى منه المنصور وأطلقه‏.‏ فما رأى له وجهاً إلى الحول‏.‏

وقال لابنه لما ولاه العهد‏:‏ يا بني ‏!‏ ائتدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ يا بني ‏!‏ ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه‏.‏

وقال المنصور‏:‏ يا بني ‏!‏ لا تجلس مجلساً إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، فإن الزهري قال‏:‏ علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة‏.‏

وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانباً جيداً وطرفاً صالحاً‏.‏

وقد قيل له يوماً‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هل بقي شيء من اللذات لم تنله ‏؟‏

قال‏:‏ شيء واحد‏.‏

قالوا‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله‏.‏

فاجتمع وزراؤه وكتَّابه وجلسوا حوله وقالوا‏:‏ ليمل علينا أمير المؤمنين شيئاً من الحديث‏.‏

فقال‏:‏ لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن‏.‏ فهؤلاء نقلة الحديث‏.‏

وقال يوم لابنه المهدي‏:‏ كم عندك من دابة ‏؟‏

فقال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال‏:‏ هذا هو التقصير، فأنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً فاتق الله يا بني‏.‏

وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي‏:‏ دخلت يوماً على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي‏:‏ كم عندك من المال يا خالصة ‏؟‏

فقلت‏:‏ ألف درهم‏.‏

فقال‏:‏ ضعي يدك على رأسي واحلفي‏.‏

فقلت‏:‏ عندي عشرة آلاف دينار‏.‏

قال‏:‏ اذهبي فاحمليها إلي‏.‏

قالت‏:‏ فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال‏:‏ ويحك ‏!‏ إنه ليس له وجع، ولكني سألته بالأمس مالاً فتمارض، وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به‏.‏

فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار، فاستدعى بالمهدي فقال له‏:‏ تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة ‏؟‏

وقال المنصور لخازنه‏:‏ إذا علمت بمجيء المهدي فأتني بخلقان الثياب قبل أن يجيء، فجاء بها فوضعها بين يديه ودخل المهدي والمنصور يقلبها، المهدي يضحك، فقال‏:‏ يا بني ‏!‏ من ليس له خلق ليس له جديد، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد‏.‏

فقال المهدي‏:‏ عليَّ كسوة أمير المؤمنين وعياله‏.‏

فقال‏:‏ دونك فافعل‏.‏

وذكر ابن جرير، عن الهيثم‏:‏ أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم‏.‏

وفي هذا اليوم فرق في بيته عشرة آلاف درهم، ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد‏.‏

وقرأ بعض القراء عند المنصور‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ والله لولا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه ديناراً ولا درهماً لما أجد لبذل المال من اللذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة‏.‏

وقرأ عنده قارئ آخر‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل‏.‏

وقال المنصور‏:‏ سمعت علي بن عبد الله يقول‏:‏ سادة أهل الدنيا في الدنيا الأسخياء، وسادة أهل الآخرة في الآخرة الأتقياء‏.‏

ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيراً، وعلمه كيف تفعل الأشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئاً من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخوارج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين وهو ثلاثمائة ألف دينار، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال‏.‏ فامتثل المهدي ذلك كله‏.‏

وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال‏:‏ يا بني ‏!‏ إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا‏.‏

وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جداً، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لابد واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم * لك اليوم من كرب المنية مانع

فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئاً فعرف أن أجله قد نعي إليه‏.‏

قالوا‏:‏ ورأى المنصور في منامه ويقال‏:‏ بل هتف به هاتف وهو يقول‏:‏

أما ورب السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك

عليك يا نفس إن أسأت وإن * أحسنت يا نفس كان ذاك لك

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا بنقل السلطان عن ملك * إذا انقضى ملكه إلى ملك

حتى يصيرانه إلى ملك * ما عز سلطانه بمشترك

ذاك بديع السماء والأرض والمر * سي لجبال المسخر الفلك

فقال المنصور‏:‏ هذا أوان حضور أجلي وانقضاء عمري‏.‏

وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه مناماً أفزعه فقال للربيع‏:‏ ويحك يا ربيع ‏!‏ لقد رأيت مناماً هالني، رأيت قائلاً وقف في باب هذا القصر وهو يقول‏:‏

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه أهله ومنازله

وصار رئيس القصر من بعد بهجة * إلى جدث يبني عليه جنادله

فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى مرض في طريق الحج، ودخل مكة مدنفاً ثقيلاً‏.‏

وكانت وفاته ليلة السبت لست، وقيل‏:‏ لسبع مضين من ذي الحجة، وكان آخر ما تكلم به أن قال‏:‏ اللهم بارك لي في لقائك‏.‏

وقيل‏:‏ إنه قال‏:‏ يا رب إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مخلصاً‏.‏ ثم مات‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ الله ثقة عبد الله وبه يؤمن‏.‏

وكان عمره يوم وفاته ثلاثاً وستين سنة على المشهور، منها ثنتان وعشرون سنة خليفة، ودفن بباب المعلاة رحمه الله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ومما رثي به قول سلم الخاسر الشاعر‏:‏

عجباً للذي نعى الناعيان * كيف فاهت بموته الشفتان

ملك أن عدا على الدهر يوماً * أصبح الدهر ساقطاً للجران

ليت كفاً حثت عليه تراباً * لم تعد في يمنيها ببنان

حين دانت له البلاد على العسـ* ـف وأغضى من خوفه الثقلان

أين رب الزوراء قد قلدته الـ * ـملك عشرين حجة واثنتان

إنما المرء كالزناد إذا ما * أخذته قوادح النيران

ليس يثني هواه زجر ولا يقـ * ـدح في حبله ذوو الأذهان

قلدته أعنة الملك حتى * قاد أعداءه بغير عنان

يكسر الطرف دونه وترى الأ يـ * ـدي من خوفه على الأذقان

ضم أطراف ملكه ثم أضحى * خلف أقصاهم ودون الداني

هاشمي التشمير لا يحمل الثقـ * ـل على غارب الشرود الهدان

ذو أناة ينسى لها الخائف الخو * ف وعزم يلوي بكل جنان

ذهبت دونه النفوس حذاراً * غير أن الأرواح في الأبدان

وقد دفن عند باب المعلاة بمكة ولا يعرف قبره لأنه أعمي قبره، فإن الربيع الحاجب حفر مائة قبر ودفنه في غيرها لئلا يعرف‏.‏

أولاد المنصور

محمد المهدي وهو ولي عهده، وجعفر الأكبر مات في حياته، وأمهما أروى بنت منصور‏.‏

وعيسى، ويعقوب، وسليمان، وأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله‏.‏

وجعفر الأصغر من أم ولد كردية، وصالح المسكين من أم ولد رومية - ويقال لها‏:‏ قالي الفراشة -، والقاسم من أم ولد أيضاً، من امرأة من بني أمية‏.‏

 خلافة المهدي بن المنصور

لما مات أبوه بمكة لست أو لسبع مضين من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة أخذت البيعة للمهدي من رؤوس بني هاشم والقواد الذين هم مع المنصور في الحج قبل دفنه، وبعث الربيع الحاجب بالبيعة مع البرد إلى المهدي وهو ببغداد، فدخل عليه البريد بذلك يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة وأعطاه الكتب بالبيعة، وبايعه أهل بغداد، ونفذت بيعته إلى سائر الآفاق‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن المنصور قبل موته بيوم تحامل وتساند واستدعى بالأمراء فجدد البيعة لابنه المهدي، فتسارعوا إلى ذلك وتبادروا إليه‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة‏:‏ إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن وصية عمه المنصور‏.‏

وهو الذي صلى عليه، وقيل‏:‏ إن الذي صلى على المنصور عيسى بن موسى ولي العهد من بعد المهدي، والصحيح الأول، لأنه كان نائب مكة والطائف، وعلى إمرة المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمر بن زهير الضبي - أخو المسيب بن زهير أمير الشرطة للخليفة -، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها وقضائها عبد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وأصاب الناس في هذه السنة وباء شديد فتوفي فيه خلق كثير وجم غفير، منهم‏:‏ أفلح بن حميد، وحيوة بن شريح، ومعاوية بن صالح بمكة‏.‏

وزفر بن الهذيل

ابن قيس بن سليم، ثم ساق نسبه إلى معد بن عدنان، يقال له‏:‏ التميمي العنبري الكوفي الفقيه الحنفي، أقدم أصحاب أبي حنيفة وفاة، وأكثرهم استعمالاً للقياس، وكان عابداً، اشتغل أولاً بعلم الحديث ثم غلب عليه الفقه والقياس‏.‏

ولد سنة ست عشرة ومائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة عن ثنتين وأربعين سنة رحمه الله وإيانا‏.‏

 

ثم دخلت سنة تسع وخمسون ومائة

استهلت هذه السنة وخليفة الناس أبو عبد الله محمد بن المنصور المهدي، فبعث في أولها العباس بن محمد إلى بلاد الروم في جيش كثيف، وركب معهم مشيعاً لهم، فساروا إليها فافتتحوا مدينة عظيمة للروم، وغنموا غنائم كثيرة ورجعوا سالمين لم يفقد منهم أحد‏.‏

وفيها توفي‏:‏ حميد بن قحطبة نائب خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، وولى حمزة بن مالك سجستان، وولى جبريل بن يحيى سمرقند‏.‏

وفيها‏:‏ بنى المهدي مسجد الرصافة وخندقها‏.‏

وفيها‏:‏ جهز جيشاً كثيفاً إلى بلاد الهند فوصلوا إليها في السنة الآتية، وكان من أمرهم ما سنذكره‏.‏

وفيها توفي‏:‏ نائب السند معبد بن الخليل فولى المهدي مكانه روح بن حاتم بمشورة وزيره أبي عبد الله‏.‏

وفيها‏:‏ أطلق المهدي من كان في السجون إلا من كان محبوساً على دم، أو من سعى في الأرض فساداً، أو من كان عنده حق لأحد‏.‏

وكان في جملة من أخرج من المطبق‏:‏ يعقوب بن داود مولى بني سليم، والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمر بصيرورة حسن هذا إلى نصير الخادم ليحترز عليه‏.‏

وكان الحسن قد عزم على الهرب من السجن قبل خروجه منه، فلما خرج يعقوب بن داود ناصح الخليفة بما كان عزم عليه فنقله من السجن وأودعه عند نصير الخادم ليحتاط عليه، وحظي يعقوب بن داود عند المهدي جداً حتى صار يدخل عليه في الليل بلا استئذان، وجعله على أمور كثيرة، وأطلق له مائة ألف درهم‏.‏

سوما زال عنده كذلك حتى تمكن المهدي من الحسن بن إبراهيم، فسقطت منزلة يعقوب عنده‏.‏

وقد عزل المهدي نواباً كثيرة عن البلاد، وولى بدلهم‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ تزوج المهدي بابنة عمه أم عبد الله بنت صالح بن علي، وأعتق جاريته الخيزران وتزوجها أيضاً، وهي أم الرشيد‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم في السفن التي في دجلة بغداد‏.‏

ولما ولي المهدي سأل عيسى بن موسى - وكان ولي العهد بعده - أن يخلع نفسه من الأمر فامتنع على المهدي، وسأل المهدي أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له فأذن له، وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم، فكتب إلى المهدي‏:‏ إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا شهرين من السنة، وإنه إذا جاء يدخل بدوابه داخل باب المسجد فتروث دوابه حيث يصلي الناس‏.‏

فكتب إليه المهدي أن يعمل خشباً على أفواه السكك حتى لا يصل الناس إلى المسجد إلا مشاة‏.‏

فعلم بذلك عيسى بن موسى فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيدة من ورثته - وكانت ملاصقة للمسجد - وكان يأتي إليها من يوم الخميس، فإذا كان يوم الجمعة ركب حماراً إلى باب المسجد فنزل إلى هناك وشهد الصلاة مع الناس وأقام بالكلية بالكوفة بأهله، ثم ألح المهدي عليه في أن يخلع نفسه وتوعده إن لم يفعل، ووعده إن فعل فأجابه إلى ذلك فأعطاه أقطاعاً عظيمة، وأعطاه من المال عشرة آلاف ألف، وقيل‏:‏ عشرين ألف ألف، وبايع المهدي لولديه من بعده موسى الهادي، ثم هارون الرشيد كما سيأتي‏.‏

وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدي، وكان نائباً على اليمن فولاه الموسم واستقدمه عليه شوقاً إليه، وغالب نواب البلاد عزلهم المهدي، غير أن إفريقية مع يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة، وعلى خراسان أبو عون، وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى المدينة عبيد الله بن صفوان الجمحي‏.‏

وعلى مكة والطائف إبراهيم بن يحيى، وعلى أحداث الكوفة إسحق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى أحداث البصرة عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن العنبري‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ عبد العزيز بن أبي رواد، وعكرمة بن عمار، ومالك بن مغول، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذيب المدني، نظير مالك بن أنس في الفقه، وربما أنكر على مالك أشياء ترك الأخذ فيها ببعض الأحاديث، كان يراها مالك من إجماع أهل المدينة وغير ذلك من المسائل‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين ومائة

فيها‏:‏ خرج رجل بخراسان على المهدي منكراً عليه أحواله وسيرته وما يتعاطاه، يقال له‏:‏ يوسف البرم، والتف عليه خلق كثير، وتفاقم الأمر وعظم الخطب به‏.‏

فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه فاقتتلا قتالاً شديداً حتى تنازلا وتعانقا، فأسر يزيد بن مزيد يوسف هذا، وأسر جماعة من أصحابه فبعثهم إلى المهدي فأدخلوا عليه، وقد حملوا على جمال محمولة وجوههم إلى ناحية أذناب الإبل، فأمر الخليفة هرثمة أن يقطع يدي يوسف ورجليه ثم يضرب عنقه وأعناق من معه، وصلبهم على جسر دجلة الأكبر مما يلي عسكر المهدي، وأطفأ الله ثائرتهم وكفى شرهم‏.‏

 البيعة لموسى الهادي

ذكرنا أن المهدي ألح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كل ذلك يمتنع، وهو مقيم بالكوفة، فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو‏:‏ أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لإحضاره إليه، وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلاً، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله‏.‏

ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة، وخاف عيسى بن موسى، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكي، فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والأعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب يوم الجمعة لأربع مضين من المحرم بعد العصر‏.‏

وبويع لولدي المهدي‏:‏ موسى، وهارون الرشيد، صباحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة، ودخل الأمراء فبايعوا ثم نهض فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته، وقام عيسى بن موسى على أول درجة، وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الأيمان التي له في أعناقهم، وجعل ذلك إلى موسى الهادي‏.‏

فصدق عيسى بن موسى ذلك وبايع المهدي على ذلك، ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم، وكتب على عيسى بن موسى مكتوباً مؤكداً بالأيمان البالغة من الطلاق والعتاق، وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم، وأعطاه ما ذكرنا من الأموال وغيرها‏.‏

وفيها‏:‏ دخل عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة، وهلك بشر كثير من أهلها، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر، فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له‏:‏ حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم‏:‏ الربيع بن صبيح، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضاً، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير، فيهم‏:‏ بنت ملكهم‏.‏

وفيها‏:‏ حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكر الثقفي إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نسبهم من ثقيف، وكتب بذلك كتاباً إلى والي البصرة‏.‏

وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار‏:‏

إن زياداً ونافعاً وأبا * بكرة عندي من أعجب العجب

ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي

وقد ذكر ابن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقاً من الأمراء، منهم‏:‏ يعقوب بن داود على منزلته ومكانته‏.‏

وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز، فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته، وفرق المهدي في أهل مكة مالاً كثيراً جداً، كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب، وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة‏.‏

وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي، فأمر بتجريدها، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جداً فأمر بإزالتها وبقيت كساوي الخلفاء قبله وبعده، فلما جردها طلاها بالخلوف وكساها كسوة حسنة جداً‏.‏

ويقال‏:‏ إنه استفتى مالكاً في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير، فقال مالك‏:‏ دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة‏.‏ فتركها على ما هي‏.‏

وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل له الثلج إليها‏.‏

ولما دخل المدينة وسَّع المسجد النبوي، وكان فيه مقصورة فأزالها وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده معاوية بن أبي سفيان، فقال له مالك‏:‏ إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع، فتركه‏.‏

وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية، وانتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرساً بالعراق وأنصاراً وأجرى عليهم أرزاقاً غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعاً معروفة بهم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ الربيع بن صبيح، وسفيان بن حسين، أحد أصحاب الزهري‏.‏

وشعبة بن الحجاج

ابن الورد العتكي الأزدي، أبو بسطام الواسطي، ثم انتقل إلى البصرة‏.‏

رأى شعبة الحسن وابن سيرين، وروى عن أمم التابعين وحدث عنه خلق من مشايخه وأقرانه وأئمة الإسلام‏.‏

وهو شيخ المحدثين الملقب فيهم‏:‏ بأمير المؤمنين‏.‏ قاله الثوري‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ هو إمام المتقين، وكان في غاية الزهد والورع والتقشف والحفظ وحسن الطريقة‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ لولاه ما عرف الحديث بالعراق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ كان أمة وحده في هذا الشأن، ولم يكن في زمانه مثله‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقة مأموناً حجةً صاحب حديث‏.‏

وقال وكيع‏:‏ إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات بذبه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال صالح بن محمد بن حرزة‏:‏ كان شعبة أول من تكلم في الرجال وتبعه يحيى القطان ثم أحمد وابن معين‏.‏

وقال ابن المهدي‏:‏ ما رأيت أعقل من مالك، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك، ولا أحفظ للحديث من الثوري‏.‏

وقال مسلم بن إبراهيم‏:‏ ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي، وكان أباً للفقراء وأماً لهم‏.‏

وقال النضر بن شميل‏:‏ ما رأيت أرحم بمسكين منه، كان إذا رأى مسكيناً لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه‏.‏

وقال غيره‏:‏ ما رأيت أعبد منه لقد عبد الله حتى لصق جلده بعظمه‏.‏

وقال يحيى القطان‏:‏ ما رأيت أرق للمسكين منه، كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ما أمكنه‏.‏

قال محمد بن سعد وغيره‏:‏ مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

فيها‏:‏ غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل دابق، وجاشت الروم عليه فلم يتمكن المسلمون من الدخول إليها بسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة، وولى يقطين بن موسى على ذلك، فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، مقدار عشر سنين، حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها‏.‏

وفيها‏:‏ وسَّع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه‏.‏

وفيها‏:‏ كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة، وأن تقصر المنابر إلى مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك في المدائن كلها‏.‏

وفيها‏:‏ اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي وظهرت عنده خيانته فضم إليه المهدي من يشرف عليه، وكان ممن ضم إليه إسماعيل بن علية ثم أبعده وأقصاه وأخرجه من معسكره‏.‏

وفيها‏:‏ ولي القضاء عافية بن يزيد الأزدي، وكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له‏:‏ المقنع بخراسان في قرية من قرى مرو، وكان يقول‏:‏ بالتناسخ واتبعه على ذلك خلق كثير، فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشاً كثيرةً، منهم‏:‏ معاذ بن مسلم أمير خراسان، وكان من أمره وأمرهم ما سنذكره‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ موسى الهادي بن المهدي‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي، وزائدة بن قدامة‏.‏

وسفيان بن سعد بن مسروق الثوري

أحد أئمة الإسلام وعبادهم والمقتدى به، أبو عبد الله الكوفي‏.‏

وروى عن غير واحد من التابعين، وروى عنه خلق من الأئمة وغيرهم‏.‏

قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وغير واحد‏:‏ هو أمير المؤمنين في الحديث‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم‏.‏

وقال أيوب‏:‏ ما رأيت كوفياً أفضله عليه‏.‏

وقال يونس بن عبيد‏:‏ ما رأيت أفضل منه‏.‏

وقال عبد الله‏:‏ ما رأيت أفقه من الثوري‏.‏

وقال شعبة‏:‏ ساد الناس بالورع والعلم‏.‏

وقال‏:‏ أصحاب المذاهب ثلاثة‏:‏ ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمان‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ لا يتقدمه في قلبي أحد‏.‏

ثم قال‏:‏ تدري من الإمام‏؟‏ الإمام سفيان الثوري‏.‏

وقال عبد الرازق‏:‏ سمعت الثوري يقول‏:‏ ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني حتى إني لأمرُّ بالحائك يتغنى فأسد أذني مخافة أن أحفظ ما يقول‏.‏

وقال‏:‏ لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحل إلي من أن أحتاج إلى الناس‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ أجمعوا أنه توفي في البصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمره يوم مات أربعاً وستين سنة، ورآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ ‏]‏ الآية‏.‏

وقال‏:‏ إذا ترأس الرجل سريعاً أخَّر بكثير من العلم‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏ أبو دلامة

زيد بن الجون، الشاعر الماجن، أحد الظرفاء، أصله من الكوفة وأقام ببغداد وحظي عند المنصور لأنه كان يضحكه وينشده الأشعار ويمدحه، حضر يوماً جنازة امرأة المنصور - وكانت ابنة عمه - يقال لها‏:‏ حمادة بنت عيسى وكان المنصور قد حزن عليها، فلما سووا عليها التراب وكان أبو دلامة حاضراً، فقال له المنصور‏:‏ ويحك يا أبا دلامة ‏!‏ ما أعددت لهذا اليوم ‏؟‏

فقال‏:‏ ابنة عم أمير المؤمنين‏.‏

فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال‏:‏ ويحك ‏!‏ فضحتنا‏.‏

ودخل يوماً على المهدي يهنئه بقدومه من سفره وأنشده‏:‏

إني حلفت لئن رأيتك سالماً * بقرى العراق وأنت ذو وفر

لتصلين على النبي محمد * ولتملأن دراهماً حجري

فقال المهدي‏:‏ أما الأول فنعم، نصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلا‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هما كلمتان فلا تفرق بينهما‏.‏

فأمر أن يملأ حجره دراهم، ثم قال له‏:‏ قم ‏!‏

فقال‏:‏ ينخرق منها قميصي‏.‏

فأفرغت منه في أكياسها ثم قام فحملها وذهب‏.‏

وذكر عنه ابن خلكان‏:‏ أنه مرض ابن له فداواه طبيب فلما عوفي قال له‏:‏ ليس عندنا ما نعطيك، ولكن ادَّع على فلان اليهودي بمبلغ ما تستحقه عندنا من أجرتك حتى أشهد أنا وولدي بالمبلغ المذكور‏.‏

قال‏:‏ فذهب الطبيب إلى قاضي الكوفة محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقيل‏:‏ ابن شبرمة - فادَّعى عليه عنده فأنكر اليهودي فشهد له أبو دلامة وابنه، فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما وخاف من طلب التزكية، فأعطى الطبيب المدعي المال من عنده وأطلق اليهودي‏.‏ وجمع القاضي بين المصالح‏.‏

توفي أبو دلامة في هذه السنة، وقيل‏:‏ إنه أدرك خلافة الرشيد سنة سبعين، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومائة

فيها‏:‏ خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري بأرض قنسرين واتبعه خلق كثير، وقويت شوكته فقاتله جماعة من الأمراء فلم يقدروا عليه، فجهز إليه المهدي جيوشاً وأنفق فيهم أموالاً فهزمهم مرات ثم آل الأمر به أن قتل بعد ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفاً من المرتزقة سوى المتطوعة، فدمر الروم وحرق بلداناً كثيرةً، وخرب أماكن وأسر خلقاً من الذراري‏.‏

وكذلك غزا يزيد بن أبي أسيد السلمي بلاد الروم من باب قاليقلا فغنم وسلم وسبى خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ خرجت طائفة بجرجان فلبسوا الحمرة مع رجل يقال له‏:‏ عبد القهار، فغزاه عمرو بن العلاء من طبرستان فقهر عبد القهار وقتله وأصحابه‏.‏

وفيها‏:‏ أجرى المهدي الأرزاق في سائر الأقاليم والآفاق على المجذومين والمحبوسين، وهذه مثوبة عظيمة ومكرمة جسيمة‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن أدهم  أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد‏.‏ كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله‏.‏

فهو‏:‏ إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن عامر بن إسحاق التميمي، ويقال له‏:‏ العجلي، أصله من بلخ ثم سكن الشام ودخل دمشق‏.‏

وروى الحديث عن‏:‏ أبيه، والأعمش، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة، وأبي إسحاق السبيعي، وخلق‏.‏

وحدث عنه خلق منهم‏:‏ بقية، والثوري، وأبو إسحاق الفزاري، ومحمد بن حميد‏.‏ وحكى عنه الأوزاعي‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري، عن إبراهيم بن أدهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالساً فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك تصلي جالساً فما أصابك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الجوع يا أبا هريرة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبكيت‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا‏)‏‏)‏‏.‏

ومن طريق بقية، عن إبراهيم بن أدهم، حدثني أبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غزية، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفاً، وينجوا العالم منها بعلمه‏)‏‏)‏‏.‏

قال النسائي‏:‏ إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد‏.‏

وذكر أبو نعيم وغيره‏:‏ أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال‏:‏ فخرجت مرة فأثرت ثعلباً فهتف بي هاتف من قربوس سرجي‏:‏ ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت‏.‏

قال‏:‏ فوقفت وقلت‏:‏ انتهيت انتهيت، وجاءني نذير من رب العالمين‏.‏

فرجعت إلى أهلي فخليت عن فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياماً فلم يصفُ لي بها الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام فأتيت طرطوس فعملت بها أياماً أنطر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول‏:‏ ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام‏.‏

أفر بديني من شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول‏:‏ هو موسوس‏.‏

ثم دخل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضل بن عياض ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البستان وغير ذلك، وما روي عنه أنه وجد رجلاً في البادية فعلمه اسم الله الأعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر فقال له‏:‏ إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم‏.‏

وذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح‏.‏

وفيه أنه قال له‏:‏ إن إلياس علمك اسم الله الأعظم‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار‏.‏

وذكر أبو نعيم، عنه‏:‏ أنه كان أكثر دعائه‏:‏ اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك‏.‏

وقيل له‏:‏ إن اللحم قد غلا‏.‏

فقال‏:‏ ارخصوه، أي‏:‏ لا تشتروه، فإنه يرخص‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هتف به الهاتف من فوقه‏:‏ يا إبراهيم ‏!‏ ما هذا العبث‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ ‏]‏، اتق الله وعليك بالزاد ليوم القيامة‏.‏

فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة‏.‏

وروى ابن عساكر بإسناد فيه نظر في ابتداء أمره قال‏:‏ بينما أنا يوماً في منظرة لي ببلخ وإذا شيخ حسن الهيئة حسن اللحية قد استظل بظلها فأخذ بمجامع قلبي، فأمرت غلاماً فدعاه فدخل فعرضت عليه الطعام فأبى فقلت‏:‏ من أين أقبلت ‏؟‏

قال‏:‏ من وراء النهر‏.‏

قلت‏:‏ أين تريد ‏؟‏

قال‏:‏ الحج‏.‏

قلت‏:‏ في هذا الوقت‏؟‏ - وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه -‏.‏

فقال‏:‏ يفعل الله ما يشاء‏.‏

فقلت‏:‏ الصحبة‏.‏

قال‏:‏ إن أحببت ذلك فموعدك الليل‏.‏

فلما كان الليل جاءني فقال‏:‏ قم بسم الله‏.‏

فأخذت ثياب سفري وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان ونقول‏:‏ هذه فلانة هذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني ويقول‏:‏ موعدك الليل‏.‏

فإذا كان الليل جاءني ففعلنا مثل ذلك‏.‏

فانتهينا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلاً فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس، وقال‏:‏ إني عازم على المقام بالشام‏.‏

ثم رجعت أنا إلى بلدي بلخ كسائر الضعفاء حتى رجعنا إليها ولم أسأله عن اسمه، فكان ذلك أول أمري‏.‏ وروي من وجه آخر فيه نظر‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، قال‏:‏ كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلاً فاضلاً له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحاً ولا شيئاً ولا أكل مع أحد طعاماً إلا كان آخر من يرفع يديه‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ كان إبراهيم رجلاً فاضلاً له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل وما رأيته يظهر تسبيحاً ولا شيئاً من عمله، ولا أكل مع أحد طعاماً إلا كان آخر من يرفع يده‏.‏

وقال بشر بن الحارث الحافي‏:‏ أربعة رفعهم الله بطيب المطعم‏:‏ إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص، ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط‏.‏

وروى ابن عساكر، من طريق معاوية بن حفص، قال‏:‏ إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثاً واحداً فأخذ به فساد أهل زمانه‏.‏

قال‏:‏ حدثنا منصور، عن ربعي بن خراش، قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما عندك من فضولها فانبذه إليهم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا أبو الربيع، عن إدريس، قال‏:‏ جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت، ثم قال‏:‏ حدثنا منصور، ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس‏.‏

فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ‏!‏ فقال‏:‏ إني لأخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى اليوم‏.‏

وقال رشدين بن سعد‏:‏ مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي وحوله حلقة فقال‏:‏ لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم‏.‏ فقام الأوزاعي وتركهم‏.‏

وقال إبراهيم بن بشار‏:‏ قيل لابن أدهم‏:‏ لم تركت الحديث ‏؟‏

فقال‏:‏ إني مشغول عنه بثلاث‏:‏ بالشكر على النعم، والاستغفار من الذنوب، وبالاستعداد للموت، ثم صاح وغشي عليه فسمعوا هاتفاً يقول‏:‏ لا تدخلوا بيني وبين أوليائي‏.‏

وقال أبو حنيفة يوماً لإبراهيم بن أدهم‏:‏ قد رزقت من العباد شيئاً صالحاً فليكن العلم من بالك فإنه رأس العبادة وقوام الدين‏.‏

فقال له إبراهيم‏:‏ وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الأغنياء‏.‏

وقال شقيق بن إبراهيم‏:‏ لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكرياً‏.‏

فقلت له‏:‏ تركت ملك خراسان، وخرجت من نعمتك ‏؟‏

فقال‏:‏ اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول‏:‏ هو موسوس أو حمال أو ملاح‏.‏

ثم قال‏:‏ بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله فيقول له‏:‏ يا عبدي ‏!‏ مالك لم تحج ‏؟‏

فيقول‏:‏ يا رب لم تعطني شيئاً أحج به‏.‏

فيقول الله‏:‏ صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة‏.‏

وقال‏:‏ أقمت بالشام أربعاً وعشرين سنة ولم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لآشبع من خبز حلال‏.‏

وقال‏:‏ الحزن حزنان‏:‏ حزن لك وحزن عليك، فحزنك على الآخرة لك، وحزنك على الدنيا وزينتها عليك‏.‏

وقال‏:‏ الزهد ثلاثة‏:‏ واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب‏:‏ فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال‏:‏ مستحب، والزهد عن الشبهات‏:‏ سلامة‏.‏

وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء، ولا يجعلون في ملحهم أبزاراً، وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طبي رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون‏.‏

وقال‏:‏ قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع‏.‏

وقال له رجل‏:‏ هذه جبة أحب أن تقبلها مني‏.‏

فقال‏:‏ إن كنت غنياً قبلتها، وإن كنت فقيراً لم أقبلها‏.‏

قال‏:‏ أنا غني‏.‏

قال‏:‏ كم عندك ‏؟‏

قال‏:‏ ألفان‏.‏

قال‏:‏ تود أن تكون أربعة آلاف ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ فأنت فقير، لا أقبلها منك‏.‏

وقيل له‏:‏ لو تزوجت ‏؟‏

فقال‏:‏ لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها‏.‏

ومكث بمكة خمسة عشر يوماً لا شيء له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء، وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة، وأكل يوماً على حافة الشريعة كسيرات مبلولة بالماء وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي، فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم جاء واستلقى على قفاه وقال‏:‏ يا أبا يوسف ‏!‏ لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش‏.‏

فقال أبو يوسف‏:‏ طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم‏.‏

فتبسم إبراهيم وقال‏:‏ من أين لك هذا الكلام ‏؟‏

وبينما هو بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال‏:‏ أيكم إبراهيم بن أدهم ‏؟‏

فأرشد إليه، فقال‏:‏ يا سيدي ‏!‏ أنا غلامك وإن أباك قد مات وترك مالاً هو عند القاضي، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ، وفرس وبغلة‏.‏

فسكت إبراهيم طويلاً ثم رفع رأسه فقال‏:‏ إن كنت صادقاً فالدراهم والفرس والبغلة لك ولا تخبر به أحداً‏.‏

ويقال‏:‏ إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله‏.‏

وكان معه بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه، فقال له إبراهيم‏:‏ أدخل إلى هذه الغيضة - وكان ذلك في يوم شاتٍ -‏.‏

قال‏:‏ فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير فملأت منه جرأبي ثم خرجت، فقال‏:‏ ما معك ‏؟‏

قلت‏:‏ خوخ‏.‏

فقال‏:‏ يا ضعيف اليقين ‏!‏ لو صبرت لوجدت رطباً جنياً، كما رزقت مريم بنت عمران‏.‏

وشكا إليه بعض أصحابه الجوع فصلى ركعتين فإذا حوله دنانير كثيرة فقال لصاحبه‏:‏ خذ منها ديناراً‏.‏

فأخذه واشترى لهم به طعاماً‏.‏

وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم، فإذا أفطر يأكل من رديء الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفاً لهم وتحبباً وتودداً إليهم‏.‏

وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم فقصر إبراهيم في الأكل فقال‏:‏ مالك قصرت ‏؟‏

فقال‏:‏ لأنك قصرت في الطعام‏.‏

ثم عمل إبراهيم طعاماً كثيراً ودعا الأوزاعي فقال الأوزاعي‏:‏ أما تخاف أن يكون سرفاً ‏؟‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ إنما السرف ما كان في معصية الله، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين‏.‏

وذكروا أنه حصد مرة بعشرين ديناراً، فجلس مرة عند حجام هو صاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال‏:‏ ماذا تريدون ‏؟‏

قال إبراهيم‏:‏ أريد أن تحلق رأسي وتحجمني‏.‏

ففعل ذلك، فأعطاه إبراهيم العشرين ديناراً وقال‏:‏ أردت أن لا تحقر بعدها فقيراً أبداً‏.‏

وقال مضاء بن عيسى‏:‏ ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدقة والسخاء‏.‏

وكان إبراهيم يقول‏:‏ فروا من الناس كفراركم من الأسد الضاري، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة‏.‏

وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤوسهم الطير هيبةً له وإجلالاً‏.‏

وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام‏.‏

ورأى رجلاً قيل له‏:‏ هذا قاتل خالك‏.‏

فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال‏:‏ بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه‏.‏

وقال له رجل‏:‏ طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات‏.‏

فقال‏:‏ ألك عيال ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال‏:‏ لروعة الرجل بعياله - يعني‏:‏ في بعض الأحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة‏.‏

ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال‏:‏ يا أبا إسحاق ‏!‏ إن إخوانك يكفونك هذا‏.‏

فقال له‏:‏ اسكت يا أبا عمرو ‏!‏ فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة‏.‏

وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا‏:‏ أنت عبد ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قالوا‏:‏ آبق ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ فسجنوه‏.‏

فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا‏:‏ علام سجنت إبراهيم بن أدهم ‏؟‏

قال‏:‏ ما سجنته‏.‏

قالوا‏:‏ بلى ‏!‏ هو في سجنك‏.‏

فاستحضره، فقال‏:‏ علام سجنت ‏؟‏

فقال‏:‏ سل المسلحة‏.‏

قالوا‏:‏ أنت عبد‏؟‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏ وأنا عبد الله‏.‏

قالوا‏:‏ آبق‏؟‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏ وأنا عبد آبق من ذنوبي‏.‏

فخلى سبيله‏.‏

وذكروا أنه مر مع رفقة فإذا الأسد على الطريق فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له‏:‏ يا قسورة ‏!‏ إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به وإلا فعودك على بدئك‏.‏

قالوا‏:‏ فولى السبع ذاهباً يضرب بذنبه، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال‏:‏ قولوا‏:‏ اللهم راعنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله، يا الله، يا الله‏.‏

قال خلف بن تميم‏:‏ فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره‏.‏

وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر‏.‏

وروي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أُسد ثلاثة فتقدم إليه أحدهم فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريباً منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم‏:‏ إن كنتم أمرتم بشيء فهلموا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا‏.‏

وصعد مرة جبلاً بمكة ومعه جماعة فقال لهم‏:‏ فقال لهم‏:‏ لو أن ولياً من أولياء الله قال لجبل‏:‏ زل لزال‏.‏

فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال‏:‏ اسكن فإنما ضربتك مثلاً لأصحابي‏.‏ وكان الجبل أبا قبيس‏.‏

وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان فلف إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا‏:‏ ألا ترى ما نحن فيه من الشدة ‏؟‏

فقال‏:‏ ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك‏.‏ فصار البحر كأنه قدح زيت‏.‏

وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألح عليه، فقال له‏:‏ اذهب معي حتى أعطيك ديناريك، فأتى إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا وإذا ما حوله قد مليء دنانير، فقال له‏:‏ خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لأحد‏.‏

وقال حذيفة المرعشي‏:‏ أويت أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة، وكان قد مضى علينا أياماً لم نأكل فيها شيئاً، فقال لي‏:‏ كأنك جائع ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

فأخذ رقعة فكتب فيها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى‏.‏

أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر * أنا جائع أنا حاسر أنا عاري

هي ستة وأنا الضمين لنصفها * فكن الضمين لنصفها يا باري

مدحي لغيرك وهج نار خضتها * فأجر عبيدك من دخول النار

ثم قال لي‏:‏ اخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه‏.‏

فخرجت فإذا رجل على بغلة فدفعتها إليه فلما قرأها بكى ودفع إليّ ستمائة دينار وانصرف، فسألت رجلاً‏:‏ من هذا الذي على البغلة ‏؟‏

فقالوا‏:‏ هو رجل نصراني‏.‏

فجئت إبراهيم فأخبرته فقال‏:‏ الآن يجيء مسلم‏.‏

فما كان غير قريب حتى جاء فأكب على رأس إبراهيم وأسلم‏.‏

وكان إبراهيم يقول‏:‏ دارنا إمامنا وحياتنا بعد وفاتنا، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، مثِّل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ، ومثِّل له هول المضجع ومساءلة منكر ونكير وانظر كيف تكون، ومثِّل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب، وانظر كيف تكون‏.‏ ثم صرخ صرخة خر مغشياً عليه‏.‏

ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له‏:‏ لا تطمع فيما لا يكون، ولا تنسى ما يكون‏.‏

فقيل له‏:‏ كيف هذا يا أبا إسحاق ‏؟‏

فقال‏:‏ لا تطمع في البقاء والموت يطلبك، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار‏؟‏ ولا تنس ما يكون الموت يأتيك صباحاً أو مساء‏.‏

ثم قال‏:‏ أوّه أوّه ‏!‏ ثم خرّ مغشياً عليه‏.‏

وكان يقول‏:‏ ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا‏.‏

ثم يقول‏:‏ ثكلت عبداً أمه أحب الدنيا ونسي ما في خزائن مولاه‏.‏

وقال‏:‏ إذا كنت بالليل نائماً وبالنهار هائماً وفي المعاصي دائماً فكيف ترضي من هو بأمورك قائماً‏.‏

ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه، فقال‏:‏ ما يبكيك ‏؟‏

فقال‏:‏ ذكرت يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار‏.‏

وقال‏:‏ إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية‏.‏

وكتب إلى الثوري‏:‏ من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه‏.‏

وسأله بعض الولاة‏:‏ من أين معيشتك ‏؟‏

فأنشأ يقول‏:‏

نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وكان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات‏:‏

لما توعد الدنيا به من شرورها * يكون بكاء الطفل ساعة يوضع

وإلا فما يبكيه منها وإنها * لأروح مما كان فيه وأوسع

إذا أبصر الدنيا استهل كأنما * يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع

وكان يتمثل أيضاً‏:‏

رأيت الذنوب تميت القلوب * ويورثها الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب * وخير لنفسك عصيانها

وما أفسد الدين إلا ملوك * وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا * ولم يغل بالبيع أثمانها

لقد رتع القوم في جيفة * تبين لذي اللب أنتانها

وقال‏:‏ إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك‏.‏

وقال‏:‏ ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها، ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها‏.‏

وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال‏:‏ ابعث إليّ منهم من لا رزقه على الله‏.‏ فسكت الرجل‏.‏

وقال‏:‏ ومررت في بعض جبال فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية‏:‏

كل حيّ وإن بقي * فمن العيش يستقي

فاعمل اليوم واجتهد * واحذر الموت يا شقي

قال‏:‏ فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، وإذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال‏:‏ مم تبكي ‏؟‏

فقلت‏:‏ من هذا‏.‏

فأخذ بيدي ومضى غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب فقال‏:‏ اقرأ وابك ولا تقصر‏.‏

وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي‏:‏

لا تبغين جاهاً وجاهك ساقط * عند المليك وكن لجاهك مصلحا

وفي الجانب الآخر نقش بين عربي‏:‏

من لم يثق بالقضاء والقدر * لاقى هموماً كثيرة الضَّرر

وفي الجانب الأيسر نقش بين عربي‏:‏

ما أزين التقى وما أقبح الخنا * وكل مأخوذ بما جنا

وعند الله الجزا *

وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر‏:‏

إنما الفوز والغنى * في تقى الله والعمل

قال‏:‏ فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري أنصرف أم حجب عني‏.‏

وقال‏:‏ أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان، ومن وفى العمل وفي له الأجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير‏.‏

وقال‏:‏ كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص بمنزلة واحدة، وكل عالم لا يكون ورعاً فهو والذئب بمنزلةٍ واحدةٍ، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلةٍ واحدةٍ‏.‏

وقال‏:‏ ما ينبغي لمن ذل لله طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته، فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته ‏؟‏

وقال‏:‏ أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب‏.‏

وقال‏:‏ كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره‏.‏

وقال‏:‏ جانبوا الناس ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب‏:‏ أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادي، قال‏:‏ أنبأ عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الأهوازي، حدثني علي بن محمد القصوي، حدثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعت سرياً السقطي، يقول‏:‏ سمعت بشر بن الحارث الحافي، يقول‏:‏ قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ وقفت على راهب فأشرف عليَّ فقلت له‏:‏ عظني‏.‏ فأنشأ يقول‏:‏

خذ عن الناس جانباً * كن بعدوك راهبا

إن دهراً أظلني * قد أراني العجائبا

قلب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا

قال بشر‏:‏ فقلت لإبراهيم‏:‏ هذه موعظة الراهب لك، فعظني أنت‏.‏ فأنشأ يقول‏:‏

توحش من الأخوان لا تبغ مونساً * ولا تتخذ خلاً ولا تبغ صاحبا

وكن سامري الفعل من نسل آدم * وكن أوحدياً ما قدرت مجانبا

فقد فسد الإخوان والحب والإخا * فلست ترى إلا مذوقاً وكاذبا فقلت ولولا أن يقال مدهده * وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا

قال سري‏:‏ فقلت لبشر‏:‏ هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت‏.‏

فقال‏:‏ عليك بالخمول ولزوم بيتك‏.‏

فقلت‏:‏ بلغني عن الحسن، أنه قال‏:‏ لولا الليل وملاقاة الإخوان ما باليت متى مت‏.‏

فأنشأ بشر يقول‏:‏

يا من يسر برؤية الإخوان * مهلاً أمنت مكايد الشيطان

خلت القلوب من المعاد وذكره * وتشاغلوا بالحرص والخسران

صارت مجالس من ترى وحديثهم * في هتك مستور وموت جنان

قال الحلبي‏:‏ فقلت لسري‏:‏ هذه موعظة بشر فعظني أنت‏.‏

فقال‏:‏ ما عليك بالإخمال‏.‏

فقلت‏:‏ أحب ذاك‏.‏ فأنشأ يقول‏:‏

يا من يروم بزعمه إخمالاً * إن كان حقاً فاستعدَّ خصالا

ترك المجالس والتذاكر يا أخي * واجعل خروجك للصلاة خيال

بل كن بها حياً كأنك ميت * لا يرتجي منه القريب وصالا

قال علي بن محمد القصري‏:‏ قلت للحلبي‏:‏ هذه موعظة سري لك فعظني أنت‏.‏

قال‏:‏ يا أخي ‏!‏ أحب الأعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

أنت في دار شتات * فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم * صمته عن شهواتك

واجعل الفطر إذا * ما صمته يوم وفاتك

قال ابن خرزاد‏:‏ فقلت لعلي‏:‏ هذه موعظة الحلبي لك فعظني أنت‏.‏

فقال لي‏:‏ احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الأشياء من قلبك يصفو لك بذلك سرك ويذكو به ذكرك‏.‏

 

ثم أنشدني‏:‏

حياتك أنفساً تعد فكلما * مضى نفس منها انتقضت به جزءا

فتصبح في نقص وتمسي بمثله * وما لك معقول تحس به رزءا

يميتك ما يحييك في كل ساعة * ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزءا

قال أبو محمد لأحمد‏:‏ هذه موعظة علي لك فعظني‏.‏

فقال‏:‏ يا أخي ‏!‏ عليك بلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك‏.‏

 

ثم أنشدني‏:‏

ندمت على ما كان مني ندامة * ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم

فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم * ستلقون رباً عادلاً ليس يظلم

فليس لمغرور بدنياه زاجر * سيندم إن زلت به النعل فاعلموا

قال ابن زامين‏:‏ فقلت لأبي محمد‏:‏ هذه موعظة أحمد لك فعظني أنت‏.‏

فقال‏:‏ اعلم رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أين ينزل قلبك، واعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقرب منه، وتقرب منه على حسب ما قرب إليها، فانظر من القريب من قلبك‏.‏

وأنشدني‏:‏

قلوب رجال في الحجاب نزول * وأرواحهم فيما هناك حلول

تروح نعيم الأنس في عزِّ قربه * بأفراد توحيد الجليل تحول

لهم بفناء القرب من محض بره * عوائد بذل خطبهن جليل

قال الخطيب‏:‏ فقلت لابن زامين‏:‏ هذه موعظة الحميدي لك فعظني أنت‏.‏

فقال‏:‏ اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك‏.‏

وأنشدني‏:‏

اتخذ اللهَ صاحبا * ودع الناس جانبا

جرب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا

قال أبو الفرج غيث الصوري‏:‏ فقلت للخطيب‏:‏ هذه موعظة ابن زامين لك فعظني أنت‏.‏

فقال‏:‏ احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشرف الخوف من الله تعالى بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله‏.‏

وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل له جنة الخلد قراره ومأواه، ثم أنشد لنفسه‏:‏

إن كنت تبغي الرشاد محضا * في أمر دنياك والمعاد

فخالف النفس في هواها * إن الهوى جامع الفساد

قال ابن عساكر‏:‏ المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة‏.‏

وقال غيره‏:‏ إحدى وستين، وقيل‏:‏ سنة ثلاث‏.‏ والصحيح‏:‏ ما قاله ابن عساكر، والله أعلم‏.‏

وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحواً من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا، وكان به البطن، فلما كانت غشية الموت قال‏:‏ أوتروا لي قوسي، فأوتروه فقبض عليه فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ، قال‏:‏ سمعت الشافعي، يقول‏:‏ كان سفيان معجباً به‏:‏

أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل * كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما

أخو طيء داود منهم ومسعر * ومنهم وهيب والعريب ابن أدهما

وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى * وفي الوارث الفاروق صدقاً مقدما

وحسبك منهم بالفضل مع ابنه * ويوسف إن لم يأل أن يتسلما

أولئك أصحابي وأهل مودتي * فصلى عليهم ذو الجلال وسلما

فما ضر ذا التقوى نصال أسنة * وما زال ذو التقوى أعز وأكرما

ومازالت التقوى تريك على الفتى * إذا محض من العز ميسما

وروى البخاري في كتاب الأدب عن إبراهيم بن أدهم، وأخرج الترمذي في جامعه حديثاً معلقاً في المسح على الخفين، والله سبحانه أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

أبو سليمان داود بن نصير الطائي

الكوفي الفقيه الزاهد، أخذ الفقه عن أبي حنيفة‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ ثم ترك داود الفقه وأقبل على العبادة ودفن كتبه‏.‏

قال عبد الله بن المبارك‏:‏ وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ كان ثقة، وفد على المهدي ببغداد ثم عاد إلى الكوفة‏.‏

ذكره الخطيب البغدادي، وقال‏:‏ مات في سنة ستين ومائة، وقيل‏:‏ في سنة ست وخمسين ومائة‏.‏

وقد ذكر شيخنا الذهبي في تاريخه أنه توفي في هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ثنتين وستين ومائة -، فالله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

فيها‏:‏ حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ، واتبعه على جهالته وضلالته خلق من الطغام وسفهاء الأنام، والسفلة من العوام، فلما كان في هذا العام لجأ إلى قلعة كش فحاصره سعيد الحريثي فألح عليه في الحصار، فلما أحس بالغلبة تحسى سماً وسم نساءه فماتوا جميعاً، عليهم لعائن الله‏.‏

ودخل الجيش الإسلامي قلعته فاحتزوا رأسه وبعثوا إلى المهدي، وكان المهدي بحلب‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان اسم المقنع‏:‏ عطاء، وقيل‏:‏ جكيم، والأول‏:‏ أشهر‏.‏

وكان أولاً قصاراً ثم ادّعى الربوبية، مع أنه كان أعور قبيح المنظر، وكان يتخذ له وجهاً من ذهب، وتابعه على جهالته خلق كثير، وكان يرى الناس قمراً يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب، فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح، وكان يزعم - لعنه الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً -‏:‏ أن الله ظهر في صورة آدم، ولهذا سجدت له الملائكة، ثم في نوح، ثم في الأنبياء واحداً واحداً، ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إليه‏.‏

ولما حاصره المسلمون في قلعته كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ويقال لها‏:‏ سنام، تحسى هو ونساؤه سماً فماتوا واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله‏.‏

وفيها‏:‏ جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزو الروم، وأمّر على الجميع ولده هارون الرشيد، وخرج من بغداد مشيعاً له، فسار معه مراحل واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي، وكان في هذا الجيش الحسن بن قحطبة والربيع الحاجب، وخالد بن برمك - وهو مثل الوزير للرشيد ولي العهد - ويحيى بن خالد - وهو كاتبه وإليه النفقات - وما زال المهدي مع ولده مشيعاً له حتى بلغ الرشيد إلى بلاد الروم، وارتاد هناك المدينة المسماة‏:‏ بالمهدية في بلاد الروم، ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس‏.‏

فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة، وفتح الله عليهم فتوحات كثيرة، وغنموا أموالاً جزيلة جداً، وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل لم يكن لغيره، وبعثوا بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي وأجزل عطاءه‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى عليها زفر بن عاصم الهلالي، ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية، وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك، وولى وعزل جماعة من النواب‏.‏

وحج بالناس فيها علي بن المهدي‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إبراهيم بن طهمان، وحريز بن عثمان الحمصي الرحبي، وموسى بن علي اللخمي المصري، وشعيب بن أبي حمزة، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، وإليه ينسب قصر عيسى، ونهر عيسى ببغداد‏.‏

قال يحيى بن معين‏:‏ كان له مذهب جميل، وكان معتزلاً للسلطان، توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة‏.‏

وهمام بن يحيى، ويحيى بن أيوب المصري، وعبيدة بنت أبي كلاب العابدة، بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت‏.‏

وكانت تقول‏:‏ أشتهي الموت فإني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب هلاكي يوم القيامة‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

فيها‏:‏ غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلاد الروم، فأقبل إليه ميخائيل البطريق في نحو من تسعين ألفاً، فيهم طازاذ الأرمني البطريق ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف راجعاً، فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه في المطبق‏.‏

وفي يوم الأربعاء في أواخر ذي القعدة‏:‏ أسس المهدي قصراً من لبن بعيسا باذ، ثم عزم على الذهاب إلى الحج فأصابه حمى فرجع من أثناء الطريق، فعطش الناس في الرجعة حتى كاد بعضهم يهلك، فغضب المهدي على يقطين صاحب المصانع، وبعث من حيث رجع المهلب بن صالح بن أبي جعفر ليحج بالناس فحج بهم عامئذ‏.‏

وفيها توفي‏:‏ شيبان بن عبد الرحمن النحوي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومبارك بن فضالة صاحب الحسن البصري‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة

فيها‏:‏ جهز المهدي ولده الرشيد لغزو الصائفة، وأنفذ معه من الجيوش خمسة وتسعين ألفاً وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلاً، وكان معه من النفقة مائة ألف دينار، وأربعة وتسعون ألف دينار، وأربعمائة وخمسون ديناراً، ومن الفضة إحدى وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف، وأربعة عشر ألفاً وثمانمائة درهم‏.‏

قاله ابن جرير‏:‏ فبلغ بجنوده خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون، ومعها ابنها في حجرها من الملك الذي توفي عنها، فطلبت الصلح من الرشيد على أن تدفع له سبعين ألف دينار في كل سنة، فقبل ذلك منها، وذلك بعد ما قتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسين ألفاً وأسر من الذراري خمسة آلاف رأس وستمائة وأربعة وأربعين رأساً، وقتل من الأسرى ألفي قتيل صبراً، وغنم من الدواب بأدواتها عشرين ألف فرس، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس‏.‏

وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم، وعشرون سيفاً بدرهم‏.‏

فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة‏:‏

أطفت بقسطنطينية الروم مسنداً * إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها

وما رمتها حتى أتتك ملوكها * بجزيتها والحرب تغلي قدورها

وحج بالناس صالح بن أبي جعفر المنصور‏.‏

وفيها توفي‏:‏ سليمان بن المغيرة، وعبد الله بن العلاء بن دبر، وعبد الرحمن بن نائب بن ثوبان، ووهب بن خالد‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

في المحرم منها‏:‏ قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي، ولقب‏:‏ بالرشيد‏.‏

وفيها‏:‏ سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة، وفي ذلك يقول بشار بن برد‏:‏

بني أمية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا * خليفة الله بين الخمر والعود

فلما تزل السعادة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلما سعوا به إليه دخل إليه فأصلح أمره معه، حتى وقع من أمره ما سأذكره، وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير، وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الأزاهير، فقال‏:‏ يا يعقوب كيف رأيت مجلسنا هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ما رأيت أحسن منه‏.‏

فقال‏:‏ هو لك بما فيه، وهذه الجارية ليتم بها سرورك، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها‏.‏

قلت‏:‏ وما هي يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ حتى تقول نعم‏.‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏ وعلى السمع والطاعة‏.‏

فقال‏:‏ الله ‏؟‏

فقلت‏:‏ ألله‏.‏

قال‏:‏ وحياة رأسي‏.‏

قلت‏:‏ وحياة رأسك‏.‏

فقال‏:‏ ضع يدك على رأسي وقل ذلك، ففعلت‏.‏

فقال‏:‏ إن ههنا رجلاً من العلويين أحب أن تكفينيه، والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب‏.‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ وعجل عليّ‏.‏

ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية، فما فرحت بشي فرحي بها‏.‏

فلما صارب بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجيء به فجلس إليّ فتكلم، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم‏.‏

ثم قال لي‏:‏ يا يعقوب ‏!‏ تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

فقلت‏:‏ لا والله ‏!‏ ولكن اذهب حيث شئت وأين شئت‏.‏

فقال‏:‏ إني أختار بلاد كذا وكذا‏.‏

فقلت‏:‏ اذهب كيف شئت، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك‏.‏

فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علماً بما جرى، وأنها كالجاسوس عليّ، فبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة، وأرسل إليّ من اليوم الثاني فذهبت إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشيء، فلما دخلت عليه قال‏:‏ ما فعل العلوي ‏؟‏

قلت‏:‏ مات‏.‏

قال‏:‏ ألله ‏!‏

قلت‏:‏ ألله‏.‏

قال‏:‏ فضع يدك على رأسي واحلف بحياته، ففعلت‏.‏

فقال‏:‏ يا غلام ‏!‏ أخرج ما في هذا البيت‏.‏

فخرج العلوي فأسقط في يدي، فقال المهدي‏:‏ دمك لي حلال‏.‏

ثم أمر به، فألقي في بئر في المطبق‏.‏

قال يعقوب‏:‏ فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر، فذهب بصري وطال شعري حتى ثرت مثل البهائم، ثم مضيت عليّ مدد متطاولة، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر فقيل لي‏:‏ سلم على أمير المؤمنين‏.‏

فسلمت وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قال‏:‏ رحم الله المهدي‏.‏

فقلت‏:‏ الهادي‏؟‏ فقال‏:‏ رحم الله الهادي‏.‏

فقلت‏:‏ الرشيد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة، فإن رأيت أن تطلقني‏.‏

فقال‏:‏ أين تريد‏؟‏ قلت‏:‏ مكة‏.‏

فقال‏:‏ اذهب راشداً‏.‏

فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلاً حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏

وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه، وكثرة سماع الغناء فكان يلومه على ذلك ويقول‏:‏ ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغني بين يديك ‏؟‏

فيقول له المهدي‏:‏ فقد سمع عبد الله بن جعفر‏.‏

فقال له يعقوب‏:‏ إن ذلك لم يكن له من حسناته، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد أفضل‏.‏

وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثاً للمهدي على ذلك‏:‏

فدع عنك يعقوب بن داود جانباً * وأقبل على صهباء طيبة النشر

وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى‏:‏ بعيسا باذ - بني له بالآجر بعد القصر الأول الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير‏.‏

وفيها‏:‏ أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ولم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج موسى الهادي إلى جرجان‏.‏

وفيها‏:‏ ولي القضاء أبا يوسف صاحب أبي حنيفة‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة‏.‏

ولم يكن في هذه السنة صائفة للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي صدقة بن عبد الله السمين، وأبو الأشهب العطاردي، وأبو بكر النهشلي، وعفير بن معدان‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

فيها‏:‏ وجه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم ير مثله، وجعل على رسائله أبان بن صدقة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد من بعد المهدي‏:‏ مات بالكوفة فأشهد نائبها روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الأعيان‏.‏ ثم دفن‏.‏

وكان قد امتنع من الصلاة عليه فكتب إليه المهدي يعنفه أشد التعنيف، وأمر بمحاسبته على عمله‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع بن يونس الحاجب، فاستخلف فيه سعيد بن واقد وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته‏.‏

وفيها‏:‏ وقع وباء شديد وسعال كثير ببغداد والبصرة، وأظلمت الدنيا حتى كانت كالليل حتى تعالى النهار، وكان ذلك لليال بقين من ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه، وكان المتولي أمر الزنادقة عمر الكلواذي‏.‏

وفيها‏:‏ أمر المهدي بزيادة كثيرة في المسجد الحرام، فدخل في ذلك دور كثيرة، وولى ذلك ليقطين بن موسى الموكل بأمر الحرمين، فلم يزل في عمارة ذلك حتى مات المهدي كما سيأتي‏.‏

ولم يكن للناس صائفة للهدنة‏.‏

وحج بالناس نائب المدينة إبراهيم بن يحيى بن محمد وتوفي بعد فراغه من الحج بأيام‏.‏

وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

بشار بن برد

أبو معاذ الشاعر مولى عقيل، ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر سنين، وله التشبيهات التي لم يهتد إليها البصراء‏.‏

وقد أثنى عليه الأصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبو عبيدة، وقال له‏:‏ ثلاثة عشر ألف بيت من الشعر‏.‏

فلما بلغ المهدي أنه هجاه وشهد عليه قوم أنه زنديق أمر به فضرب حتى مات عن بضع وسبعين سنة‏.‏ وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات‏:‏ فقال‏:‏ بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي مولاهم، وقد نسبه صاحب الأغاني فأطال نسبه‏.‏

وهو بصري قدم بغداد أصله من طخارستان، وكان ضخماً عظيم الخلق، وشعره في أول طبقات المولدين، ومن شعره البيت المشهور‏:‏

هل تعلمين وراء الحب منزلة * تدنى إليك فإن الحب أقصاني

وقوله‏:‏

أنا والله أشتهي سحر عينيـ * ـك وأخشى مصارع العشاق

وله‏:‏

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة * والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا لم لا نرى عينيك قلت لهم * الأذن كالعين تروي القلب مكانا

وله‏:‏

إذا بلغ الرأي التشاور فاستعن * بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فريش الخوافي قوة للقوادم

وما خير كف أمسك الغل أختها * وما خير سيف لم يؤيد بقائم

كان بشار يمدح المهدي حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه ونسبه إلى شيء من الزندقة، وأنه يقول بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس في السجود لآدم، وأنه أنشد‏:‏

الأرض مظلمة والنار مشرقة * والنار معبودة مذ كانت النار

فأمر المهدي بضربه فضرب حتى مات‏.‏

ويقال‏:‏ إنه غرق ثم نقل إلى البصرة في هذه السنة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ الحسن بن صالح بن حيي، وحماد بن سلمة، والربيع بن مسلم، وسعيد بن عبد العزيز بن مسلم، وعتبة الغلام‏:‏ وهو عتبة بن أبان بن صمعة أحد العباد المشهورين البكائين المذكورين، كان يأكل من عمل يده في الخوص، ويصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح‏.‏

والقاسم الحذاء، وأبو هلال محمد بن سليم، ومحمد بن طلحة، وأبو حمزة اليشكري محمد بن ميمون‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة

فيها في رمضان منها‏:‏ نقضت الروم ما بينهم وبين المسلمين من الصلح الذي عقده هارون الرشيد عن أمر أبيه المهدي، ولم يستمروا على الصلح إلا ثنتين وثلاثين شهراً، فبعث نائب الجزيرة خيلاً إلى الروم فقتلوا وأسروا وغنموا وسلموا‏.‏

وفيها‏:‏ اتخذ المهدي دواوين الأزمة ولم يكن بنو أمية يعرفون ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس علي بن محمد المهدي الذي يقال له‏:‏ ابن ريطة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

الحسن بن زيد بن حسن بن علي بن علي بن أبي طالب، ولاه المنصور المدينة خمس سنين، ثم غضب عليه فضربه وحبسه وأخذ جميع ماله‏.‏ وحماد عجرد، كان ظريفاً ماجناً شاعراً، وكان ممن يعاشر الوليد بن يزيد ويهاجي بشار بن برد‏.‏

وقدم على المهدي ونزل الكوفة واتهم بالزندقة‏.‏

قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء‏:‏ ثلاثة حمادون بالكوفة يرمون بالزندقة‏:‏ حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان النحوي‏.‏

وكانوا يتشاعرون ويتماجنون‏.‏

وخارجة بن مصعب‏.‏

وعبد الله بن الحسن بن الحصين

ابن أبي الحسن البصري، قاضي البصرة بعد سوار‏.‏

سمع‏:‏ خالداً الحذاء، وداود بن أبي هند، وسعيداً الجريري‏.‏

وروى عنه‏:‏ ابن مهدي‏.‏

وكان ثقة فقيهاً له اختيارات تعزى إليه غريبة في الأصول والفروع، وقد سئل عن مسألة فأخطأ في الجواب فقال له قائل‏:‏ الحكم فيها كذا وكذا‏.‏

فأطرق ساعة ثم قال‏:‏ إذاً أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنباً في الحق أحب إليّ من أن أكون رأساً في الباطل‏.‏

توفي في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل‏:‏ بعد ذلك بعشر سنين، فالله أعلم‏.‏

غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة، أبو يحيى الجرمي، قاضي مصر، كان من خيار الحكام، ولي الديار المصرية ثلاث مرات في أيام المنصور والمهدي‏.‏

وفليح بن سليمان، وقيس بن الربيع في قول، ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة بن مالك، أبو اليسر العقيلي، قاضي الجانب الشرقي من بغداد للمهدي، هو وعافية بن يزيد‏.‏

وكان يقال لابن علاثة‏:‏ قاضي الجن، لأنه كانت بئر يصاب من أخذ منها شيئاً فقال‏:‏ أيها الجن ‏!‏ إنا حكمنا أن لكم الليل ولنا النهار‏.‏

فكان من أخذ منها شيئاً في النهار لم يصبه شيء‏.‏

قال ابن معين‏:‏ كان ثقة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ في حفظه شيء‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

فيها في المحرم منها‏:‏ توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له‏:‏ ما سبذان، بالحمى، وقيل‏:‏ مسموماً، وقيل‏:‏ عضه فرس فمات‏.‏

 وهذه ترجمته‏:‏

هو‏:‏ محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المهدي، أمير المؤمنين، وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الأحاديث فلم يكن به، وإن اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل، ذاك يأتي في آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث الفتن والملاحم‏.‏

وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان‏:‏ أن المهدي من بني العباس، وجاء موقوفاً على ابن عباس وكعب الأحبار ولا يصح، وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن يكون على التعيين، وقد ورد في حديث أخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو يعارض هذا، والله أعلم‏.‏

وأم المهدي بن المنصور أم موسى بنت منصور بن عبد الله الحميري‏.‏

وروى عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏)‏‏.‏

رواه عنه‏:‏ يحيى بن حمزة النهشلي قاضي دمشق، وذكر أنه صلى خلف المهدي حين قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة، وأسند ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه غير واحد عن يحيى بن حمزة، ورواه المهدي، عن المبارك بن فضالة، ورواه عنه أيضاً جعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن مهدي‏.‏

وكان مولد المهدي في سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، أو في سنة إحدى وعشرين ومائة ولي الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة، ولد بالحميمة من أرض البلقاء، وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني‏:‏ سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو ثمان وأربعين سنة، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً وبعض شهر‏.‏

وكان أسمر طويلاً جعد الشعر، على إحدى عينيه نكتة بيضاء، قيل‏:‏ على عينه اليمنى، وقيل‏:‏ اليسرى‏.‏

قال الربيع الحاجب‏:‏ رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهوٍ له عليه ثياب حسنة، فما أدري هو أحسن أم القمر، أم بهوه، أم ثيابه‏.‏

فقرأ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ ‏]‏ الآية‏.‏

ثم أمرني فأحضرت رجلاً من أقاربه كان مسجوناً فأطلقه‏.‏

ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم، كتم الأمر يومين ثم نودي في الناس يوم الخميس الصلاة جامعة، فقام فيهم خطيباً فأعلمهم بموت أبيه وقال‏:‏ إن أمير المؤمنين دعي فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وأستعينه على خلافة المسلمين‏.‏

ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ‏.‏

وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها‏:‏

عيناي واحدة ترى مسرورة * بأميرها جذلاً وأخرى تذرف

تبكي وتضحك تارة ويسؤها * ما أنكرت ويسرها ما تعرف

فيسؤها موت الخليفة محرماً * ويسرها أن قام هذا الأرأف

ما أن رأيت كما رأيت ولا أرى * شعراً أرجله وآخر ينتف

هلك الخليفة يال أمة أحمد * وأتاكم من بعده من يخلف

أهدى لهذا الله فضل خلافة * ولذاك جنات النعيم تزخرف

وقد قال المهدي يوماً في خطبة‏:‏ أيها الناس ‏!‏ أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واحفظوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم، ويطوي ثوب الإصر عنكم‏.‏

وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله، مقدماً ذلك على فعل من تقدمه، والله لأعفين عمري من عقوبتكم، ولأحملن نفسي على الإحسان إليكم‏.‏

قال‏:‏ فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه‏.‏

ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة، ففرقها في الناس، ولم يعط أهله ومواليه منها شيئاً، بل أجرى لهم أرزاقاً بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الأعطيات‏.‏

وقد كان أبوه حريصاً على توفير بيت المال، وإنما كان ينفق في السنة ألفي درهم من مال السراة‏.‏

وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولها، وبنى مدناً ذكرناها فيما تقدم‏.‏

وذكر له عن شريك بن عبد الله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره فتكلم معه ثم قال له المهدي في جملة كلامه‏:‏ يا ابن الزانية ‏!‏

فقال له شريك‏:‏ مه مه يا أمير المؤمنين ‏!‏ فلقد كانت صوامة قوامة‏.‏

فقال له‏:‏ يا زنديق ‏!‏ لأقتلنك‏.‏

فضحك شريك، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن للزنادقة علامات وذكروا أنه هاجت ريح شديدة، فدخل المهدي بيتاً في داره فألزق خده بالتراب وقال‏:‏ اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الأعداء من أهل الأديان‏.‏

فلم يزل كذلك حتى انجلت‏.‏

ودخل عليه رجل يوماً ومعه نعل فقال‏:‏ هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك‏.‏

فقال‏:‏ هاتها، فناوله إياها، فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏

فلما انصرف الرجل قال المهدي‏:‏ والله إني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير هذه النعل، فضلاً عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس‏:‏ أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليَّ، فتصدقه الناس، لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي وإن كان ظالماً، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح‏.‏

واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا سبق إلا في خف أو نعل أو حافر‏)‏‏)‏‏.‏

وزاد في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏أو جناح‏)‏‏)‏‏.‏ فأمر له بعشرة آلاف‏.‏

ولما خرج قال‏:‏ والله إني أعلم أن عتاباً كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالحمام فذبح ولم يذكر عتاباً بعدها‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ دخلت على المهدي يوماً فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتلئ غيظاً فقلت‏:‏ مالك يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ دخلت على الخيزران فقامت إليّ ومزقت ثوبي‏.‏

وقالت‏:‏ ما رأيت منك خيراً، وإني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس، وقد نالت عندي ما نالت، وقد بايعت لولديها بأمرة المؤمنين من بعدي‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله، وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني‏.‏

فأمر لي بألفي دينار، فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني بألفي دينار إلا عشرة دنانير، وإذا معه أثواب أخر، وبعثت تشكرني وتثني عليَّ معروفاً‏.‏

وذكروا أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة ألف، فدخل الرجل بغداد متنكراً فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى‏:‏ هذا طلبة أمير المؤمنين‏.‏

وجعل الرجل يريد أن ينفلت منه فلا يقدر، فبينا هما يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما، إذ مر أمير في موكبه - وهو‏:‏ معن بن زائدة - فقال الرجل‏:‏ يا أبا الوليد ‏!‏ خائف مستجير‏.‏

فقال معن‏:‏ ويلك مالك وله ‏؟‏

فقال‏:‏ هذا طلبة أمير المؤمنين، جعل لمن جاء به مائة ألف‏.‏

قال معن‏:‏ أما علمت أني قد أجرته‏؟‏ أرسله من يدك‏.‏

ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله، وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى إليهم الخبر، فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم ولم يرد عليه السلام، وقال‏:‏ يا معن ‏!‏ أبلغ من أمرك أن تجير عليَّ ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ونعم أيضاً ‏!‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ قد قتلت في دولتكم أربعة آلاف مصل فلا يجار لي رجل واحد ‏؟‏

فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال‏:‏ وقد أجرنا من أجرت يا معن‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن الرجل ضعيف، فأمر له بثلاثين ألفاً‏.‏

فقال‏:‏ إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية‏.‏

فأمر له بمائة ألف، فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل، فقال له معن‏:‏ خذ المال وادع لأمير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل‏.‏

وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ - يعني‏:‏ المؤذنين - فأمرهم بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الأعرابي قد جاء، فكّبر، فتعجب الناس من سماحة أخلاقه‏.‏

وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول‏:‏ هذا كتاب أمير المؤمنين إليّ، أين الرجل الذي يقال له‏:‏ الربيع الحاجب ‏؟‏

فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الأعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة، والأعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة، فتبسم المهدي وقال‏:‏ صدق الأعرابي، هذا خطي، إني خرجت يوماً إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعوذت بتعويذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان ناراً، فسلمت عليهما فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني مذقة من لبن مشوب بماء، فما شربت شيئاً إلا وهي أطيب منه، ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى منها‏.‏

فقام إلى شويهة له فذبحها فسمعت امرأته تقول له‏:‏ عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك فذبحتها، هلكت نفسك وعيالك‏.‏

 

فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له‏:‏ أعندك شيء أكتب لك فيه كتاباً ‏؟‏

فأتاني بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة ألف، وإنما أردت خمسين ألفاً، والله لأنفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها‏.‏

فأمر له بخمسمائة ألف فقبضها الأعرابي واستمر مقيماً في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الأنبار، فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس، فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي‏.‏

وعن سوار - صاحب رحبة سوار - قال‏:‏ انصرفت يوماً من عند المهدي فجئت منزلي فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه، فدخلت خلوتي لأنام في القائلة فلم يأخذني نوم، فاستدعيت بعض حظاياي لأتلهى بها فلم تنبسط نفسي إليها، فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا قليلاً حتى لقيني رجل ومعه ألفا درهم، فقلت‏:‏ من أين هذه ‏؟‏

فقال‏:‏ من ملكك الجديد‏.‏

فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لأتشاغل عما أنا فيه من الضجر، فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات، فنزلت لأصلي فيه، فلما قضيت الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال‏:‏ إن لي إليك حاجة‏.‏

فقلت‏:‏ وما حاجتك ‏؟‏

فقال‏:‏ إني رجل ضرير ولكنني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من أهل النعمة والثروة، فأحببت أن أفضي إليك بحاجتي‏.‏

فقلت‏:‏ وما هي ‏؟‏

فقال‏:‏ إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لأبي فسافر منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير، فافترقنا هناك وأصابني أنا الضرر، فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب منه شيئاً أتبلغ به لعلي أجتمع بسوار، فإنه كان صاحباً لأبي، فلعله أن يكون عنده سعة يجود منها عليّ‏.‏

فقلت‏:‏ ومن أبوك ‏؟‏

فذكر رجلاً كان أصحب الناس إليّ، فقلت‏:‏ إني أنا سوار صاحب أبيك، وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والأكل والراحة حتى أخرجني من منزلي لأجتمع بك، وأجلسني بين يديك، وأمرت وكيلي فدفع له الألفي الدرهم التي معه‏.‏

وقلت له‏:‏ إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا وكذا‏.‏

وركبت فجئت دار الخلافة وقلت‏:‏ ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من هذا‏.‏

فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جداً وأمر لذلك الأعمى بألفي دينار، وقال لي‏:‏ هل عليك دين ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ كم ‏؟‏

قلت‏:‏ خمسون ألف دينار‏.‏

فسكت وحادثني ساعة ثم لما قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بخمسين ألف دينار وألفي دينار للأعمى، فانتظرت الأعمى أن يجيء في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسيت عدت إلى المهدي فقال‏:‏ قد فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبقى معك شيء، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى‏.‏

فلما كان اليوم الثالث جاءني الأعمى فقلت‏:‏ قد رزقني الله بسببك خيراً كثيراً، ودفعت له الألفي دينار التي من عند الخليفة وزدته ألفي دينار من عندي أيضاً‏.‏

ووقفت امرأة للمهدي فقالت‏:‏ يا عصبة رسول الله اقض حاجتي‏.‏

فقال المهدي‏:‏ ما سمعتها من أحد غيرها، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم‏.‏

ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه فأمر له بخمسين ألف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول‏:‏

أخذت بكفي كفه أبتغي الغنى * ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى * أفدت، وأعداني فبددت ما عندي

قال‏:‏ فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم ديناراً‏.‏

وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة، وقد كانت وفاته بماسبذان، كان قد خرج إليها ليبعث إلى ابنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من ولاية العهد ويجعله بعد هارون الرشيد، فامتنع الهادي من ذلك، فركب المهدي إليه قاصداً إحضاره، فلما كان بماسبذان مات بها‏.‏

وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد - المسمى‏:‏ بقصر السلامة - كأن شيخاً وقف بباب القصر، ويقال إنه سمع هاتفاً يقول‏:‏

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله

وصار عميد القوم بعد بهجة * وملك إلى قبر عليه جنادله

ولم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله

فما عاش بعدها إلا عشراً حتى مات‏.‏

وروي أنه لما قال له الهاتف‏:‏

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وقد درست أعلامه ومنازله

فأجابه المهدي‏:‏

كذاك أمور الناس يبلى جديدها * وكل فتى يوماً ستبلى فعائله

فقال الهاتف‏:‏

تزود من الدنيا فإنك ميت * وإنك مسؤول فما أنت قائله

فأجابه المهدي‏:‏

أقول بأن الله حق شهدته * وذلك قول ليس تحصى فضائله

فقال الهاتف‏:‏

تزود من الدنيا فإنك راحل * وقد أزف الأمر الذي بك نازل

فأجابه المهدي‏:‏

متى ذاك خبرني هديت فإنني * سأفعل ما قد قلت لي وأعاجله

فقال الهاتف‏:‏

تلبث ثلاثاً بعد عشرين ليلة * إلى منتهى شهر وما أنت كامله

قالوا‏:‏ فلم يعش بعدها إلا تسعاً وعشرين يوماً حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏

وقد ذكر ابن جرير اختلافاً في سبب موته، فقيل‏:‏ إنه ساق خلف ظبي والكلاب بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل بمشواره فدخل الخربة فكسر ظهره، وكانت وفاته بسبب ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ إن بعض حظاياه بعثت إلى أخرى لبناً مسموماً فمر الرسول بالمهدي فأكل منه فمات‏.‏

وقيل‏:‏ بل بعثت إليها بصينية فيها الكمثري وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة وكان المهدي يعجبه الكمثري، فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته، فجعلت الحظية تندبه وتقول‏:‏ وا أمير المؤمنيناه، أردت أن يكون لي وحدي فقتلته بيدي‏.‏

وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة تسع وستين ومائة - وله من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً وكسوراً، ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر‏.‏

وفيها‏:‏ توفي عبيد الله بن إياد، ونافع بن عمر الجمحي، ونافع بن أبي نعيم القارئ‏.‏

 خلافة موسى الهادي بن المهدي

توفي أبوه في المحرم من أول سنة تسع وستين ومائة وكان ولي العهد من بعد أبيه، وكان أبوه قد عزم قبل موته على تقديم أخيه الرشيد عليه في ولاية العهد، فلم يتفق ذلك حتى مات المهدي بماسبذان‏.‏

وكان الهادي إذ ذاك بجرجان، فهمَّ بعض الدولة منهم‏:‏ الربيع الحاجب، وطائفة من القواد على تقديم الرشيد عليه والمبايعة له، وكان الرشيد حاضراً ببغداد، عزموا على النفقة على الجند لذلك تنفيذاً لما رآه المهدي من ذلك‏.‏

فأسرع الهادي السير من جرجان إلى بغداد حين بلغه الخبر، فساق منها إليها في عشرين يوماً، فدخل بغداد وقام في الناس خطيباً، وأخذ البيعة منهم فبايعوه، وتغيب الربيع الحاجب فتطلبه الهادي حتى حضر بين يديه، فعفا عنه وأحسن إليه وأقرّه على حجوبيته، وزاده الوزراء وولايات أخر‏.‏

وشرع الهادي في تطلب الزنادقة من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة، واقتدى في ذلك بأبيه، وقد كان موسى الهادي من أفكه الناس مع أصحابه في الخلوة، فإذا جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر إليه، لما يعلوه من المهابة والرياسة، وكان شاباً حسناً وقوراً مهيباً‏.‏

وفيها‏:‏ - أعني‏:‏ سنة تسع وستين ومائة - خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذلك أنه أصبح يوماً وقد لبس البياض وجلس في المسجد النبوي، وجاء الناس إلى الصلاة فلما رأوه ولوا راجعين، والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضى من أهل البيت‏.‏

وكان سبب خروجه أن متوليها خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة بالولاية ويعزيه في أبيه‏.‏

ثم جرت أمور اقتضت خروجه، والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد النبوي، ومنعوا الناس من الصلاة فيه، ولم يجبه أهل المدينة إلى ما أراده، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكه المسجد، حتى ذكر أنهم كانوا يقذرون في جنبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودة مرات فقتل من هؤلاء وهؤلاء‏.‏

ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج، فبعث إليه الهادي جيشاً فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه، وهرب بقيتهم وتفرقوا شذر مذر‏.‏

فكان مدة خروجه إلى أن قتل تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً، وقد كان كريماً من أجود الناس‏.‏

دخل يوماً على المهدي فأطلق له أربعين ألف دينار ففرقها في أهله وأصدقائه من أهل بغداد والكوفة، ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص، إنما كان عليه فروة وليس تحتها قميص‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس سليمان بن أبي جعفر عم الخليفة‏.‏

وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معتوق بن يحيى في جحفل كثيف، وقد أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الحسن بن علي بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، قتل في أيام التشريق كما تقدم‏.‏

والربيع بن يونس

الحاجب مولى المنصور، وكان حاجبه ووزيره، وقد وزر للمهدي والهادي، وكان بعضهم يطعن في نسبه‏.‏

وقد أورد الخطيب في ترجمته حديثاً من طريقه ولكنه منكر، وفي صحته عنه نظر‏.‏

وقد ولي الحجوبية بعده ولده الفضل بن الربيع، ولاه إياها الهادي‏.‏