الجزء العاشر - ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية

ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية

وفيها‏:‏ عزم الهادي على خلع أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لابنه جعفر بن الهادي فانقاد هارون لذلك ولم يظهر منازعة بل أجاب، واستدعى الهادي جماعة من الأمراء فأجابوه إلى ذلك، وأبت ذلك أمهما الخيزران، وكانت تميل إلى ابنها هارون أكثر من موسى، وكان الهادي قد منعها من التصرف في شيء من المملكة لذلك، بعدما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته، وانقلبت الدول إلى بابها والأمراء إلى جانبها‏.‏

فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه ولا يقبل منه شفاعة، فامتنعت من الكلام في ذلك، وحلفت لا تكلمه أبداً، وانتقلت عنه إلى منزل آخر‏.‏

وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك - وكان من أكابر الأمراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له‏:‏ ماذا ترى فيما أريد من خلع هارون وتولية ابني جعفر ‏؟‏

فقال له خالد‏:‏ إني أخشى أن تهون الأيمان على الناس، ولكن المصلحة تقتضي أن تجعل جعفراً ولي العهد من بعد هارون، وأيضاً فأني أخشى أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر، لأنه دون البلوغ، فيتفاقم الأمر ويختلف الناس‏.‏

فأطرق ملياً - وكان ذلك ليلاً - ثم أمر بسجنه ثم أطلقه‏.‏

وجاء يوماً إليه أخوه هارون الرشيد فجلس عن يمنيه بعيداً، فجعل الهادي ينظر إليه ملياً ثم قال‏:‏ يا هارون ‏!‏ تطمع أن تكون ولياً للعهد حقاً ‏؟‏

فقال‏:‏ إي والله، ولئن كان ذلك لأصلن من قطعت، ولأنصفن من ظلمت، ولأزوجن بنيك من بناتي‏.‏

فقال‏:‏ ذاك الظن بك‏.‏

فقام إليه هارون ليقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه، ثم أمر له بألف ألف دينار، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد، وإذا جاء الخراج دفع إليه نصفه‏.‏

ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد‏.‏

ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح، ثم عاد منها فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول، وقيل‏:‏ لآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت خلافته ستة أشهر وثلاثة وعشرون يوماً‏.‏

وكان طويلاً جميلاً، أبيض، بشفته العليا تقلص‏.‏

وقد توفي هذه الليلة‏:‏ خليفة وهو الهادي، وولي خليفة وهو الرشيد، وولد خليفة وهو المأمون بن الرشيد‏.‏

وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل‏:‏ إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت خليفة ويولى خليفة‏.‏

يقال‏:‏ إنها سمعت ذلك من الأوزاعي قبل ذلك بمدة، وقد سرها ذلك جداً‏.‏

ويقال‏:‏ إنها سمت ولدها الهادي خوفاً منه على ابنها الرشيد، ولأنه كان قد أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها، فالله أعلم‏.‏

 وهذا ذكر شيء من ترجمة الهادي

هو‏:‏ موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو محمد الهادي‏.‏

ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة‏.‏

ومات في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث، وقيل‏:‏ أربع، وقيل‏:‏ ست وعشرون سنة، والصحيح الأول‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنه، وكان حسناً جميلاً طويلاً، أبيض، وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه درعان، وكان أبوه يسميه‏:‏ ريحانتي‏.‏

ذكر عيسى بن دأب قال‏:‏ كنت يوماً عند الهادي إذ جيء بطست فيه رأس جاريتين قد ذبحا وقطعا، لم أر أحسن صوراً منهما، ولا مثل شعورهما، وفي شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة، ولا رأيت مثل طيب ريحهما‏.‏

فقال لنا الخليفة‏:‏ أتدرون ما شأن هاتين ‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ إنه ذكر أنه تركب إحداهما الأخرى يفعلان الفاحشة، فأمرت الخادم فرصدهما ثم جاءني فقال‏:‏ إنهما مجتمعتان، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد وهما على الفاحشة، فأمرت بحز رقابهما‏.‏

ثم أمر برفع رؤوسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الأول كأنه لم يصنع شيئاً‏.‏

وكان شهماً خبيراً بالملك كريماً، ومن كلامه‏:‏ ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات، ليقل الطمع عن الملك‏.‏

وغضب يوماً من رجل فاسترضى عنه فرضي، فشرع الرجل يعتذر فقال الهادي‏:‏ إن الرضا كفاك مؤنة الاعتذار‏.‏

وعزى رجلاً في ولده فقال له‏:‏ سرك وهو عدو وفتنة، وساءك وهو صلاة ورحمة‏.‏

وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له منها قوله‏:‏

تشابه يوماً بأسه ونواله * فما أحد يدري لأيهما الفضل

فقال له الهادي‏:‏ أيما أحب إليك‏؟‏ ثلاثون ألفاً معجلة أو مائة ألف تدور في الدواوين ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أو أحسن من ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ ما هو ‏؟‏

قال‏:‏ تكون ألفاً معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين‏.‏

فقال الهادي‏:‏ أو أحسن من ذلك، نعجل الجميع لك‏.‏

فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفاً معجلة‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ حدثني الأزهري، ثنا سهل بن أحمد الديباجي، ثنا الصولي، ثنا الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدثني المطلب بن عكاشة المزني، قال‏:‏ قدمنا على أبي محمد الهادي شهوداً على رجل منا أنه شتم قريشاً وتخطى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس لنا مجلساً أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر الرجل وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه‏.‏

فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال‏:‏ إني سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، قال‏:‏ من أهان قريشاً أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن آذيت قريشاً حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

اضربوا عنقه، فما برحنا حتى قتل‏.‏

توفي الهادي في ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليه أخوه هارون، ودفن في قصر بناه وسماه‏:‏ الأبيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من بغداد، وكان له من الولد تسعة‏:‏ سبعة ذكور وابنتان، فالذكور‏:‏ جعفر، وعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الأعمى، الذي ولد بعد وفاته فسمي باسم أبيه‏.‏

والبنتان هما‏:‏ أم عيسى التي تزوجها المأمون، وأم العباس تلقب‏:‏ توبة‏.‏

 خلافة هارون الرشيد بن المهدي

بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه، وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة، فبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن، وقد كان الهادي عزم تلك الليلة على قتله وقتل هارون الرشيد، وكان الرشيد ابنه من الرضاعة، فولاه حينئذ الوزارة، وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الإنشاء‏.‏

وكان هو الذي قام خطيباً بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر بعيساباذ‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى خالد بن برمك إلى الرشيد فوجده نائماً فقال‏:‏ قم يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال له الرشيد‏:‏ كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده ‏؟‏

فقال‏:‏ قد مات الرجل‏.‏

فجلس هارون فقال‏:‏ أشر عليّ في الولايات، فجعل يذكر ولايات الأقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام‏.‏

فقال‏:‏ هو عبد الله وهو المأمون‏.‏

ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد‏.‏

فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لأنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة‏:‏ اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ السمع والطاعة للأمير‏.‏

فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسوراً ذليلاً‏.‏

فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد‏.‏

فلما انتهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال‏:‏ إني سقط مني ههنا خاتم كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف، فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا‏.‏

فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسرّ به الرشيد سروراً كثيراً‏.‏

ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له‏:‏ قد فوضت إليك أمر الرعية وخلعت ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فول من رأيت واعزل من رأيت‏.‏

ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي‏:‏

ألم تر أن الشمس كانت سقيمة * فلما ولي هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذي الندي * فهارون واليها ويحيى وزيرها

ثم إن هارون أمر يحيى بن خالد أن لا يقطع أمراً بمشاورة والدته الخيزران‏.‏

فكانت هي المشاورة في الأمور كلها، فتبرم وتحل وتمضي وتحكم‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الرشيد بسهم ذوي القربى أن يقسم بين بني هاشم على السواء‏.‏

وفيها‏:‏ تتبع الرشيد خلقاً من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج عليه بعض أهل البيت‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الأمين محمد بن الرشيد بن زبيدة‏.‏

وذلك يوم الجمعة لست عشرة خلت من شوال من هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ كمل بناء مدينة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أمير المؤمنين الرشيد، وأعطى أهل الحرمين أموالاً كثيرةً، ويقال‏:‏ إنه غزا في هذه السنة أيضاً‏.‏

 

وفي ذلك يقول داود بن رزين الشاعر‏:‏

بهارون لاح النور في كل بلدة * وقام به في عدل سيرته النهج

إمام بذات الله أصبح شغله * وأكثر ما يعني به الغزو والحج

تضيق عيون الناس عن نور وجهه * إذا ما بدا للناس منظره البلج

وإن أمين الله هارون ذا الندا * ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو

وغزا الصائفة فيها‏:‏ سليمان بن عبد الله البكائي‏.‏

ذكر من توفي فيها من الأعيان‏:‏

الخليل بن أحمد بن عمرو

ابن تميم، أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال‏:‏ الفرهودي الأزدي، شيخ النحاة، وعنه أخذ‏:‏ سيبويه، والنضر بن شميل، وغير واحد من أكابرهم‏.‏

وهو الذي اخترع علم العروض، قسمه إلى خمس دوائر وفرعه إلى خمسة عشر بحراً، وزاد الأخفش فيه بحراً آخر وهو‏:‏ الخبب، وقد قال بعض الشعراء‏:‏

قد كان شعر الورى صحيحاً * من قبل أن يخلق الخليل

وقد كان له معرفة بعلم النغم، وله فيه تصنيف أيضاً، وله كتاب العين في اللغة، ابتدأه وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب الخليل، كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجهضمي، فلم يناسبوا ما وضعه الخليل‏.‏

وقد وضع ابن درستويه كتاباً وصف فيه ما وقع لهم من الخلل فأفاد‏.‏

وقد كان الخليل رجلاً صالحاً عاقلاً وقوراً كاملاً، وكان متقللاً من الدنيا جداً، صبوراً على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول‏:‏ لا يجاوز همي ما وراء بابي، وكان ظريفاً حسن الخلق‏.‏

وذكر أنه اشتغل رجل عليه في العروض وكان بعيد الذهن فيه قال‏:‏ فقلت له يوماً‏:‏ كيف تقطع هذا البيت ‏؟‏

إذا لم تستطع شيئاً فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إليّ، وكأنه فهم ما أشرت إليه‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لم يسم أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأحمد سوى أبيه، وروى ذلك عن أحمد بن أبي خيثمة، والله أعلم‏.‏

ولد الخليل سنة مائة من الهجرة، ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على المشهور، وقيل‏:‏ سنة ستين، وزعم ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه توفي سنة ثلاثين ومائة، وهذا غريب جداً والمشهور الأول‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم، المصري المؤدب راوية الشافعي، وآخر من روى عنه‏.‏

وكان رجلاً صالحاً تفرس فيه الشافعي وفي البويطي والمزني وابن عبد الحكم العلم فوافق ذلك ما وقع في نفس الأمر، ومن شعر الربيع هذا‏:‏

صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا * من صدق الله في الأمور نجا

من خشي الله لم ينله أذى * ومن رجا الله كان حيث رجا

فأما الربيع بن سليمان بن داود الجيزي فإنه روى عن الشافعي أيضاً‏.‏

وقد مات في سنة ست وخمسين ومائتين، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة

فيها‏:‏ أضاف الرشيد الخاتم إلى يحيى بن خالد مع الوزارة‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ نائب الجزيرة صبراً في قصر الخلد بين يديه‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتل‏.‏

وفيها‏:‏ قدم روح بن حاتم نائب إفريقية‏.‏

وفيها‏:‏ خرجت الخيزران إلى مكة فأقامت بها إلى أن شهدت الحج، وكان الذي حج بالناس فيها عبد الصمد بن علي عم الخلفاء‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائة

فيها‏:‏ وضع الرشيد عن أهل العراق العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الرشيد من بغداد يرتاد له موضعاً يسكنه غير بغداد فتشوش فرجع‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

 فيها‏:‏ توفي بالبصرة محمد بن سليمان فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء، فوجدوا من ذلك شيئاً كثيراً من الذهب والفضة والأمتعة وغير ذلك، فنضدوه ليستعان به على الحرب وعلى مصالح المسلمين‏.‏

وهو‏:‏ محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي، وكان من رجالات قريش وشجعانهم‏.‏

جمع له المنصور بين البصرة والكوفة وزوجه المهدي ابنته العباسة، وكان له من الأموال شيء كثير، كان دخله في كل يوم مائة ألف‏.‏

وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله‏.‏

وروى الحديث عن أبيه عن جده الأكبر، وهو حديث مرفوع في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه، ومسح رأس من له أب إلى مؤخر رأسه‏.‏

وقد وفد على الرشيد فهناه بالخلافة فأكرمه وعظمه وزاده في عمل شيئاً كثيراً‏.‏

ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذا‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة، وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف، خارجاً عن الأملاك‏.‏

وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد، وقد وقفت جارية من جواريه على قبره فأنشأت تقول‏:‏

أمسى التراب لمن هويت مبيتا * القَ التراب فقل له حييتا

إنا نحبك يا تراب وما بنا * إلا كرامة من عليه حثيتا

وفيها‏:‏ توفيت الخيزران جارية المهدي وأم أمير المؤمنين الهادي والرشيد، اشتراها المهدي وحظيت عنده جداً ثم أعتقها وتزوجها ولدت له خليفتين‏:‏ موسى الهادي، والرشيد‏.‏

ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا الولادة بنت العباس العبسية، زوجة عبد الملك بن مروان، وهي‏:‏ أم الوليد، وسليمان‏.‏

وكذلك لشاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد، ولدت لمولاها الوليد بن عبد الملك‏:‏ يزيد، وإبراهيم‏.‏ وكلاهما ولي الخلافة‏.‏

وقد روي من طريق الخيزران، عن مولاها المهدي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من اتقى الله وقاه كل شيء‏)‏‏)‏‏.‏

ولما عرضت الخيزران على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة في ساقيها، فقال لها‏:‏ يا جارية ‏!‏ إنك لعلى غاية المنى والجمال لولا دقة ساقيك وخموشهما‏.‏

فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما فاستحسن جوابها واشتراها وحظيت عنده جداً‏.‏

وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر‏:‏

نحن في غاية السرور ولكن * ليس إلا بكم يتم السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودي * أنكم غيب ونحن حضور

فأجدوا في السير بل إن قدرتم * أن تطيروا مع الرياح فطيروا

فأجابته أو أمرت من أجابه‏:‏

قد أتانا الذي وصفت من الشو * ق فكدنا وما قدرنا نطير

ليت أن الرياح كن يؤدين * إليكم ما قد يكنّ الضمير

لم أزل صبة فإن كنت بعدي * في سرور فدام ذاك السرور

وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتت فيه مائة وصيفة، مع كل وصيفة جام من فضة مملوء مسكاً‏.‏

فكتبت إليه‏:‏ إن كان ما بعثته ثمناً عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت، وقد بخستنا في الثمن، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة‏.‏ وردت ذلك عليه‏.‏

وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران، فزادتها في المسجد الحرام‏.‏

وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفاً، واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

وخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين‏.‏

فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء فغسل رجليه ولبس خفاً وصلى عليها، ونزل لحدها‏.‏

فلما خرج من القبر أتي بسرير فجلس عليه واستدعى بالفضل بن الربيع فولاه الخانم والنفقات‏.‏

وأنشد الرشيد قول ابن نويرة حين دفن أمه الخيزران‏:‏

وكنا كندماني جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكاً * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وفيها توفيت‏:‏ غادر

جارية كانت لموسى الهادي، كان يحبها حباً شديداً جداً، وكانت تحسن الغناء جداً، فبينما هي يوماً تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير لونه، فسأله بعض الحاضرين‏:‏ ما هذا يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي هذه‏.‏

ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر‏.‏

ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك، فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشياً حافياً أن لا يتزوجها، فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له، فلم يكن إلا أقل من شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت‏:‏ كيف بالأيمان التي حلفناها أنا وأنت ‏؟‏

فقال‏:‏ إني أكفر عني وعنك‏.‏

فتزوجها وحظيت عنده جداً، حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن يزعجها‏.‏

فبينما هي ذات ليلة نائمة إذا انتبهت مذعورة تبكي فقال لها‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول‏:‏

أخلفت عهدي بعد ما * جاورت سكان المقابر

ونسيتي وحنثت في * أيمانك الكذب الفواجر

ونكحت غادرة أخي * صدق الذي سماك غادر

أمسيت في أهل البلى * وعددت في الموتى الغوابر

لا يهنك الألف الجديـ * ـد ولا تدر عنك الدوائر

ولحقت بي قبل الصبا * ح وصرت حيث غدوت صائر

فقال لها الرشيد‏:‏ أضغاث أحلام‏.‏

فقالت‏:‏ كلا والله يا أمير المؤمنين، فكأنما كتبت هذه الأبيات في قلبي‏.‏

ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح‏.‏

وفيها ماتت‏:‏ هيلانة جارية الرشيد، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها‏:‏ هي لانه‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ وكان لها محباً، وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك، فدخل الرشيد يوماً منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت‏:‏ أما لنا منك نصيب ‏؟‏

فقال‏:‏ وكيف السبيل إلى ذلك ‏؟‏

فقالت‏:‏ استوهبني من هذا الشيخ‏.‏

فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده، ومكثت عنده ثلاث سنين ثم توفيت فحزن عليها حزناً شديداً ورثاها وكان من قوله فيها‏:‏

قد قلت لما ضمنوك الثرى * وجالت الحسرة في صدري

أذهب فلاق الله لا سرني * بعدك شيء آخر الدهر

وقال العباس بن الأحنف في موتها‏:‏

يا من تباشرت القبور بموتها * قصد الزمان مساءتي فرماك

أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنساً * إلا التردد حيث كنت أراك

قال‏:‏ فأمر له الرشيد بأربعين ألفاً، لكل بيت عشرة آلاف، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة

فيها‏:‏ وقعت عصبية بالشام وتخبيط من أهلها‏.‏

وفيها‏:‏ استقضى الرشيد يوسف بن القاضي أبي يوسف وأبوه حي‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة عبد الملك بن صالح فدخل بلاد الروم‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الرشيد، فلما اقترب من مكة بلغه أن فيها وباء فلم يدخل مكة حتى كان وقت الوقوف وقف ثم جاء المزدلفة ثم منى ثم دخل مكة فطاف وسعى ثم ارتحل ولم ينزل بها‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

فيها‏:‏ أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده لولده محمد بن زبيدة وسماه‏:‏ الأمين، وعمره إذ ذاك خمس سنين، فقال في ذلك سلم الخاسر‏:‏

قد وفق الله الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان الأزهر

فهو الخليفة عن أبيه وجده * شهدا عليه بمنظر وبمخبر

قد بايع الثقلان في مهد الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون، ويقول‏:‏ والله إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت، وإني لأقدم محمد بن زبيدة وإني لأعلم أنه متبع هواه ولكن لا أستطيع غير ذلك‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * نوزع حتى صار نهباً مقسما

أخاف التواء الأمر بعد استوائه * وأن ينقض الأمر الذي كان أبرما

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح، في قول الواقدي‏.‏

وحج بالناس الرشيد‏.‏

وفيها‏:‏ سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

شعوانة العابدة الزاهدة

كانت أمة سوداء كثيرة العبادة، روي عنها كلمات حسان، وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت‏:‏ أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك ‏؟‏

فشهق الفضيل ووقع مغشياً عليه‏.‏

وفيها توفي‏:‏

الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم

قال ابن خلكان‏:‏ كان مولى قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي، كان الليث إمام الديار المصرية بلا مدافعة، وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين‏.‏

وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ أصله من قلقشندة وضبطه بلامين الثانية متحركة‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه كان جيد الذهن، وأنه ولي القضاء بمصر فلم يحمدوا ذهنه بعد ذلك، ولد سنة أربع وعشرين ومائة، وذلك غريب جداً‏.‏

وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة خمسة آلاف دينار‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة، وكان إماماً في الفقه والحديث والعربية‏.‏

قال الشافعي‏:‏ كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه‏.‏

وبعث إليه مالك يستهديه شيئاً من العصفر لأجل جهاز ابنته، فبعث إليه بثلاثين حملاً، فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقيت عنده منه بقية‏.‏

وحج مرة فأهدى له مالك طبقاً فيه رطب فرد الطبق وفيه ألف دينار‏.‏

وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء الألف دينار وما يقارب ذلك‏.‏

وكان يخرج إلى الإسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب‏.‏

ومناقبه كثيرةٌ جداً‏.‏

وحكى ابن خلكان‏:‏ أنه سمع قائلاً يقول يوم مات الليث‏:‏

ذهب الليث فلا ليث لكم * ومضى العلم غريباً وقبر

فالتفتوا فلم يروا أحداً‏.‏

وفيها توفي‏:‏

المنذر بن عبد الله بن المنذر

القرشي، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فقال‏:‏ إني عاهدت الله أن لا ألي شيئاً، وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي‏.‏

فقال له المهدي‏:‏ الله ‏؟‏

قال‏:‏ الله‏.‏

قال‏:‏ انطلق فقد أعفيتك‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

فيها‏:‏ كان ظهور يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين ألفاً، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان وقومس وغير ذلك‏.‏

فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكُتُب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكَاتَب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد‏.‏

فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده‏.‏

فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعاً عظيماً‏.‏

وكتب الأمان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم‏:‏ عبد الصمد بن علي، وبعث الأمان وأرسل معه جوائز وتحفاً كثيرةً إليهم، ليدفعوا ذلك جميعه إليه‏.‏

 

ففعلوا وسلمه إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه آل برمك خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول‏:‏ خدمته بنفسي وولدي‏.‏

وعظم الفضل عند الرشيد جداً بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا‏:‏

ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم

على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم

فأصبحت قد فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم

وما زال قدح الملك يخرج فائزاً * لكم كلما ضمت قداح المساهم

قالوا‏:‏ ثم إن الرشيد تنكر ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال‏:‏ إنه سجنه ثم استحضره وعنده جماعات من الهاشمين، وأحضر الأمان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن الأمان‏:‏ أصحيح هو ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فتغيظ الرشيد عليه‏.‏

وقال أبو البختري‏:‏ ليس هذا الأمان بشيء فأحكم فيه بما شئت، ومزق الأمان‏.‏

وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال‏:‏ هيه هيه، وهو يبتسم تبسم الغضب، وقال‏:‏ إن الناس يزعمون أنا سممناك‏.‏

فقال يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن لنا قرابة ورحماً وحقاً، فعلام تعذبني وتحبسني ‏؟‏

فرق له الرشيد، فاعترض بكار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث، وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان‏.‏

فقال له يحيى‏:‏ ومن أنتم عافاكم الله‏؟‏ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا‏.‏

ثم قال يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال‏:‏ لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحواً من عشرين بيتاً، وقال لي‏:‏ إن تحركت إلى هذا الأمر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك ‏؟‏

قال‏:‏ فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف بالأيمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد‏.‏

ثم قال ليحيى‏:‏ أتحفظ شيئاً من المرثية ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ وأنشده منها جانباً‏.‏

فازداد الزبيري في الإنكار، فقال له يحيى بن عبد الله‏:‏ فقل‏:‏ إن كنت كاذباً فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي‏.‏

فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته‏.‏

 

ويقال‏:‏ إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله‏.‏

ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال‏:‏ إنما حبسه بعض يوم، وقيل‏:‏ ثلاثة أيام‏.‏

وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال، وعاش بعد ذلك كله شهراً واحداً ثم مات رحمه الله‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة عظيمة بالشام بين الننزارية وهم‏:‏ قيس، واليمانية وهم‏:‏ يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم‏:‏ قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن، وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير‏.‏

وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل‏:‏ عبد الصمد بن علي، فالله أعلم‏.‏

وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفاً من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق‏.‏

قال الجاحظ‏:‏ وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول‏:‏ القول قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب‏.‏

وقد توفي سنة أربع ومائتين‏.‏

فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء‏:‏

قد هاجت الشام هيجاً * يشيب رأس وليده

فصب موسى عليها * بخيله وجنوده

فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده

هذا الجواد الذي بـ * ـذِ كل جود بجوده

أعده جود أبيه * يحيى وجود جدوده

فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده

ونال موسى ذرى المجـ * ـد وهو حشو مهوده

خصصته بمديحي * منثوره وقصيده

من البرامك عوداً * له فأكرم بعوده

حووا على الشعر طراً * خفيفه ومديده

وفيها‏:‏ عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب‏:‏ بالعروس‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر عمر بن مهران، وكان رديء الخلق رديء الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد، فقال الرشيد‏:‏ والله لأعزلنه ولأولين عليها أحسن الناس‏.‏

فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي‏.‏

فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو، فقال‏:‏ ألك حاجة يا شيخ ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ أصلح الله الأمير‏.‏

ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال‏:‏ أنت عمر بن مهران ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ لعن الله فرعون حين قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ ‏]‏‏.‏

ثم سلم إليه العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئاً من الهدايا إلا ما كان ذهباً أو فضة أو قماشاً، ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به، فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل‏.‏

فجمع من ذلك شيئاً كثيراً، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ماطله بعثه إلى بغداد، فتأدب الناس معه‏.‏

ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الأداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقداً أداه عنهم، وإن كان براً باعه وأداه عنهم‏.‏

وقال لهم‏:‏ إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم‏.‏

ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد من قبله، ثم انصرف عنها لأنه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج، فذاك إذنه في الانصراف‏.‏

ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه، وهو منفذ أموره‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصناً‏.‏

وفيها‏:‏ حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ إبراهيم بن صالح

ابن علي بن عبد الله بن عباس، كان أميراً على مصر، توفي في شعبان‏.‏

وإبراهيم بن هرمة

كان شاعراً، وهو‏:‏ إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة، أبو إسحاق الفهري المدني، وفد على المنصور في وفد أهل المدينة حين استوفدهم عليه، فجلسوا إلى سترٍ دون المنصور، يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب الحاجب واقف يقول‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب، ويقول‏:‏ هذا فلان الشاعر فيأمره فينشد‏.‏

 

حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا، فسمعته يقول‏:‏ لا مرحباً ولا أهلاً ولا أنعم الله بك عيناً‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ هلكت‏.‏

ثم استنشدني فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها‏:‏

سرى ثوبه عند الصبا المتجابل * وقرب للبين الخليط المزايل

حتى انتهيت إلى قولي‏:‏

فأما الذي أمنته يأمن الردى * وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل

قال‏:‏ فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، فاستنشدني بقية القصيدة وأمر لي بالقرب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال‏:‏ ويحك يا إبراهيم ‏!‏ لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ كل ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقر به‏.‏

قال‏:‏ فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة وعفا عني وألحقني بنظرائي‏.‏

وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله‏:‏

ومهما ألام على حبهم * فإني أحب بني فاطمة

بني بنت من جاء بالمحكما * ت وبالدين وبالسنة القائمة

فلست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة

قال الأخفش‏:‏ قال لنا ثعلب‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ ختمت الشعراء بابن هرمة‏.‏

ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج بن الجوزي‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الجراح بن مليح والد وكيع بن الجراح، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جميل أبو عبد الله المديني، ولي قضاء بغداد سبعة عشر سنة لعسكر المهدي، وثقه ابن معين وغيره‏.‏

وفيها توفي‏:‏ صالح بن بشير المري

أحد العباد والزهاد، كان كثير البكاء، وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء‏.‏

ويقول سفيان‏:‏ هذا نذير قوم‏.‏

وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء إليه راكباً على حمار فدناه من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه - وليي العهد من بعده موسى الهادي وهارون الرشيد - أن يقوما إليه لينزلاه عن دابته، فابتدراه فأنزلاه، فأقبل صالح على نفسه فقال‏:‏ لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم أصدع بالحق في هذا اليوم، وفي هذا المقام‏.‏

ثم جلس إلى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه، ثم قال له‏:‏ اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالفه في أمته، ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججاً تضمن لك النجاة، وإلا فاستسلم للهلكة، واعلم أن أبطأ الصرعى نهضة صريع هوى بدعته، واعلم أن الله قاهر فوق عباده، وأن أثبت الناس قدماً آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام طويل‏.‏

فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي عبد الملك بن محمد بن محمد بن أبي بكر، عمرو بن حزم قدم قاضياً بالعراق‏.‏

وفرج بن فضالة التنوخي الحمصي، كان على بيت المال ببغداد في خلافة الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله ثمان وثمانون سنة‏.‏

ومن مناقبه أن المنصور دخل يوماً إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن فضالة فقال له وقد غضب عليه‏:‏ لم لم تقم ‏؟‏

قال‏:‏ خفت أن يسألني الله عن ذلك ويسألك لم رضيت بذلك، وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام للناس‏.‏

قال‏:‏ فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه‏.‏

والمسيب بن زهير بن عمرو، أبو سلمة الضبي، كان والي الشرطة ببغداد في أيام المنصور والمهدي والرشيد، وولي خراسان مرة للمهدي‏.‏

عاش ستاً وتسعين سنة‏.‏

والوضاح بن عبد الله، أبو عوانة السري مولاهم، كان من أئمة المشايخ في الرواية‏.‏

توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

فيها‏:‏ عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافاً إلى ما كان بيده من الأعمال بالري وسجستان وغير ذلك‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمة في أواخر المحرم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها‏.‏

وفيها حج بالناس‏:‏ الرشيد‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

شريك بن عبد الله

القاضي الكوفي النخعي، سمع أبا إسحاق وغير واحد، وكان مشكوراً في حكمه وتنفيذ الأحكام، وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفه فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه، فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فإذا فيها‏:‏ يا شريك بن عبد الله ‏!‏ اذكر الصراط وحدته، يا شريك بن عبد الله ‏!‏ اذكر الموقف بين يدي الله عز وجل‏.‏

كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عبد الواحد بن زيد، ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

فيها‏:‏ وثبت طائفة من الحوفية من قيس وقضاعة على عامل مصر إسحاق بن سليمان فقاتلوه وجرت فتنة عظيمة فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الأمراء مدداً لإسحاق، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة وأدّوا ما عليهم من الخراج والوظائف، واستمر هرثمة نائباً على مصر نحواً من شهر عوضاً عن إسحاق بن سليمان، ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح‏.‏

وفيها‏:‏ وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب، فبعث إليهم الرشيد هرثمة فرجعوا إلى الطاعة على يديه‏.‏

وفيها‏:‏ فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقاً من أهلها، ثم مضى منها إلى أرمينية فكان من أمره ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ سار الفضل بن يحيى إلى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بها جنداً من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم له، وكانوا نحواً من خمسمائة ألف، وبعث منهم نحواً من عشرين ألفاً إلى بغداد، فكانوا يعرفونه بها بالكرمينية، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة‏:‏

ما الفضل إلا شهاب لا أفول له * عند الحروب إذا ما تأفل الشهب

حام على ملك قوم غرٌّ سهمهم * من الوراثة في أيديهم سبب

أمست يد لبني ساق الحجيج بها * كتائب ما لها في غيرهم أرب

كتائب لبني العباس قد عرفت * ما ألّف الفضل منها العجم والعرب

أثبت خمس مئين في عدادهم * من الألوف التي أحصت لها الكتب

يقارعون عن القوم الذين هم * أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا

إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق * يبقى على جود كفيه ولا ذهب

ما مر يوم له مذ شد مئزره * إلا تمول أقوام بما يهب

كم غاية في الندى والبأس أحرزها * للطالبين مداها دونها تعب

يعطي النهى حين لا يعطي الجواد ولا * ينبو إذا سلت الهندية القضب

ولا الرضى والرضى لله غايته * إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب

وقد فاض عرفك حتى ما يعادله * غيث ولا بحر له حدب

وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان‏:‏

ألم تر أن الجود من يد آدم * تحدر حتى صار في راحة الفضل

إذا ما أبو العباس سحت سماؤه * فيا لك من هطل ويا لك من وبل

وقال فيه أيضاً‏:‏

إذا أم طفل راعها جوع طفلها * دعته باسم الفضل فاعتصم الطفل

ليحيى بك الإسلام إنك عزه * وإنك من قوم صغيرهم كهل

قال‏:‏ فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏ ذكره ابن جرير‏.‏

وقال سلم الخاسر فيهم أيضاً‏:‏

وكيف تخاف من بؤس بدار * يجاورها البرامكة البحور

وقوم منهم الفضل بن يحيى * نفير ما يوازنه نفير

له يومان يوم ندى وبأس * كأن الدهر بينهما أسير

إذا ما البرمكي غدا ابن عشر * فهمته أمير أو وزير

وقد اتفق للفضل في هذه السفرة إلى خرسان أشياء غريبة، وفتح بلاداً كثيرةً، منها‏:‏ كابل، وما وراء النهر، وقهر ملك الترك وكان ممتنعاً، وأطلق أموالاً جزيلةً جداً، ثم أقفل راجعاً إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس، فجعل يطلق الألف ألف، والخمسمائة ألف ونحوها، وأنفذ في ذلك من الأحوال شيئاً كثيراً لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفة، وقد دخل عليه بعض الشعراء والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال‏:‏

كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالد * وجود يديه بخل كل بخيل

فأمر له بمال جزيل‏.‏

وغزا الصائفة في هذه السنة‏:‏ معاوية بن زفير بن عاصم‏.‏

وغزا الشاتية‏:‏ سليمان بن راشد‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس نائب مكة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ جعفر بن سليمان، وعنتر بن القاسم، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، القاضي ببغداد، وصلى عليه الرشيد ودفن بها، وقد قيل‏:‏ إنه مات في التي قبلها، فالله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

فيها‏:‏ كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل، فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الرشيد خالد بن برمك عن الحجوبة وردها إلى الفضل بن ربيع‏.‏

وفيها‏:‏ خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني، وكان من أمره ما سيأتي طرف منه‏.‏

وفيها‏:‏ رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه، فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه‏:‏

أيا شجر الخابور مالك مورقاً * كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحبُّ الزاد إلا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف

وفيها‏:‏ خرج الرشيد معتمراً من بغداد شكراً لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشياً، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ إسماعيل بن محمد

ابن يزيد بن ربيعة، أبو هاشم الحميري، الملقب‏:‏ بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضياً خبيثاً، وشيعياً غثيثاً، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة - أي‏:‏ بالدور -‏.‏

قال يوماً لرجل‏:‏ أقرضني ديناراً ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ إني أخشى أن تعود كلباً أو خنزيراً فيذهب ديناري‏.‏

وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ ولولا ذلك ما قدمت عليه أحداً في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما‏.‏

وقد أورد ابن الجوزي شيئاً من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد أسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جداً‏.‏

ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

حماد بن زيد

أحد أئمة الحديث‏.‏

وخالد بن عبد الله، أحد الصلحاء، كان من سادات المسلمين، اشترى نفسه من الله أربع مرات‏.‏

ومالك بن أنس الإمام، والهقل بن زياد، صاحب الأوزاعي، وأبو الأحوص‏.‏

وكلهم قد ذكرناهم في التكميل‏.‏

والإمام مالك

هو أشهرهم وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فهو‏:‏ مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الحميري، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة في زمانه‏.‏

روى مالك عن‏:‏ غير واحد من التابعين، وحدث عنه خلق من الأئمة، منهم‏:‏ السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي، وابن جريج، والليث، والشافعي، والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري‏.‏

قال البخاري‏:‏ أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ ما كان أشد انتقاده للرجال‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ كل من روى عن مالك فهو ثقة، إلا أبا أمية‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ هو أثبت أصحاب نافع والزهري‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ إذا جاء الحديث فمالك النجم‏.‏

وقال‏:‏ من أراد الحديث فهو عيال على مالك‏.‏

ومناقبه كثيرة جداً، وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر في هذا المكان‏.‏

قال أبو مصعب‏:‏ سمعت مالكاً، يقول‏:‏ ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك‏.‏

وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسناً‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزله قال‏:‏ ما شاء الله ولا قوة إلا بالله‏.‏

وكان منزله مبسوطاً بأنواع المفارش‏.‏

ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحداً لا لعزاء ولا لهناء، ولا يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول‏:‏ ما كل ما يعلم يقال، وليس كل أحد يقدر على الاعتذار‏.‏

ولما احتضر قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، ثم جعل يقول‏:‏ لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر‏.‏

وقيل‏:‏ من ربيع الأول من هذه السنة، وله خمس وثمانون سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع‏.‏

وقد روى الترمذي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏‏(‏يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

وقد روي عن ابن عيينة، أنه قال‏:‏ هو مالك بن أنس‏.‏ وكذا قال عبد الرزاق‏.‏

وعن ابن عيينة رواية‏:‏ أنه عبد العزيز بن عبد الله العمري‏.‏

وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد جمة

 ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

فيها‏:‏ هاجت الفتنة بالشام بن النزارية واليمنية، فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الأمراء والجنود، فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرساً ولا سيفاً ولا رمحاً إلا استلبه من الناس، وأطفأ الله به نار تلك الفتنة‏.‏

وفي ذلك يقول بعض الشعراء‏:‏

لقد أوقدت بالشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانكسارها

رماها بميمون النقيبة ماجد * تراضى به قحطانها ونزارها

ثم كرَّ جعفر راجعاً إلى بغداد بعد ما استخلف على الشام عيسى العكي، ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام، ويحمد الله الذي منَّ عليه برجوعه إلى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الرشيد جعفراً خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك محمد بن الحسن بن قحطبة، ثم عزل الرشيد جعفراً عن خراسان بعد عشرين ليلة‏.‏

وفيها‏:‏ هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج، وجعل الرشيد جعفراً على الحرس، ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الأمين محمداً وولاه العراقين، وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه إلى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس‏.‏

وفيها‏:‏ كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الإسكندرية‏.‏

وفيها‏:‏ خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي‏.‏

وفيها‏:‏ ظهرت طائفة بجرجان يقال لها‏:‏ المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلاً، يقال له‏:‏ عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة زفر بن عاصم‏.‏

وحج بالناس موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة جماعة من الأعيان‏:‏

إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري

قارئ أهل المدينة، ومؤدب علي بن المهدي ببغداد‏.‏

وقد مات‏:‏

علي بن المهدي، في هذه السنة أيضاً، وقد ولي إمارة الحج غير مرة، وكان أسن من الرشيد بشهور‏.‏

حسان بن أبي سنان

ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الأنباري، ولد سنة ستين، ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من نسله قضاة ووزراء وصلحاء، وأدرك الدولتين الأموية والعباسية‏.‏

وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه، وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، وكان يعرِّب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الأنبار‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

عبد الوارث بن سعيد البيروتي

أحد الثقات‏.‏

وعافية بن يزيد

ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو‏:‏ ابن علاثة، وكانا يحكمان بجامع الرصافة‏.‏

وكان عافية عابداً زاهداً ورعاً، دخل يوماً على المهدي في وقت الظهيرة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اعفني‏.‏

فقال له المهدي‏:‏ ولم أعفيك‏؟‏ هل اعترض عليك أحد من الأمراء ‏؟‏

فقال له‏:‏ لا ‏!‏ ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر - وكأنه سمع أني أحبه - فأهدى إلي منه طبقاً لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، فرددته عليه، فلما أصبحنا وجلسنا إلى الحكومة، لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري، بل مال قلبي إلى المهدي منهما، هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه‏؟‏ فأعفني عفا الله عنك فأعفاه‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كنت عند الرشيد يوماً وعنده عافية وقد أحضره لأن قوماً استعدوا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيد يوقفه على ما قيل عنه وهو يجيب عما يسأله‏.‏

وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافية، فقال له الرشيد‏:‏ لم لم تشمتني مع الناس ‏؟‏

فقال‏:‏ لأنك لم تحمد الله، واحتج بالحديث في ذلك‏.‏

فقال له الرشيد‏:‏ ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ما قيل عنك، وأنت لم تسامحني في عطسة لم أحمد الله فيها‏.‏

ثم رده رداً جميلاً إلى ولايته‏.‏

وفيها توفي‏:‏ سيبويه

إمام النحاة، واسمه‏:‏ عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف‏:‏ بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب‏.‏

وقيل‏:‏ مولى آل الربيع بن زياد‏.‏

وإنما سمي سيبويه لأن أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه‏:‏ رائحة التفاح، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن يوماً فرد عليه قوله فأنف من ذلك، فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي‏.‏

وكان سيبويه شاباً حسناً جميلاً نظيفاً، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم مع حداثة سنه‏.‏

وقد صنف في النحو كتاباً لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره‏.‏

وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه، بل ساعده جماعة في تصنيفه نحواً من أربعين نفساً هو أحدهم، وهو أصول الخليل، فادعاه سيبويه إلى نفسه‏.‏

وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة‏.‏

قال‏:‏ وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب، والأخفش، وغيرهما‏.‏

وكان سيبويه يقول‏:‏ سعيد بن أبي العروبة، والعروبة يوم الجمعة‏.‏

وكان يقول‏:‏ من قال عروبة فقد أخطأ‏.‏

فذكر ذلك ليونس فقال‏:‏ أصاب لله دره‏.‏

وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه فتمثل عند الموت‏:‏

يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الأمل

يربي فسيلاً ليبقى له * فعاش الفسيل ومات الرجل

ويقال‏:‏ إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال‏:‏

وكنا جميعاً فرَّق الدهر بيننا * إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا

قال الخطيب البغدادي‏:‏ يقال‏:‏ إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة‏.‏

وفيها توفيت‏:‏

عفيرة العابدة

كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء‏.‏

قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت‏:‏ لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور‏.‏

وفيها مات‏:‏

مسلم بن خالد الزنجي

شيخ الشافعي، كان من أهل مكة، ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

فيها‏:‏ غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصناً يقال له‏:‏ الصفصاف، فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة‏:‏

إن أمير المؤمنين المنصفا * قد ترك الصفصاف قاعاً صفصفا

وفيها‏:‏ غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة‏.‏

وفيها‏:‏ تغلبت المحمرة على جرجان‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الله عز وجل‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الحسن بن قحطبة أحد أكابر الأمراء‏.‏

وحمزة بن مالك، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد‏.‏

وخلف بن خليفة، شيخ الحسن بن عرفة، عن مائة سنة‏.‏

 

وعبد الله بن المبارك

أبو عبد الرحمن المروزي، كان أبوه تركياً مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية‏.‏

ولد لثمان عشرة ومائة‏.‏

وسمع‏:‏ إسماعيل بن خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وغيرهم من أئمة التابعين‏.‏

وحدث عنه خلائق من الناس‏.‏

وكان موصوفاً بالحفظ والفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكماً جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله‏.‏

قال سفيان بن عيينة‏:‏ نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال إسماعيل بن عياش‏:‏ ما على وجه الأرض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم‏.‏

وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت‏:‏ ما للناس ‏؟‏

فقيل لها‏:‏ قدم رجل من علماء خراسان يقال له‏:‏ عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه‏.‏

فقالت المرأة‏:‏ هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة‏.‏

وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت‏:‏ أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل‏.‏

فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله‏:‏ كم معك من النفقة ‏؟‏

قال‏:‏ ألف دينار‏.‏

فقال‏:‏ عدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع‏.‏

وكان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه‏:‏ من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمها في صندوق‏.‏

ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم‏:‏ هل أوصاكم أهلوكم بهدية ‏؟‏

فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فاذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية‏.‏

فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل‏.‏

وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد‏.‏

وسأله مرة سائل فأعطاه درهماً، فقال له بعض أصحابه‏:‏ إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالودج، وقد كان يكفيه قطعة‏.‏

فقال‏:‏ والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم‏.‏

ثم أمر بعض غلمانه فقال‏:‏ رده وادفع إليه عشرة دراهم‏.‏

وفضائله ومناقبه كثيرة جداً‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله‏.‏

توفي عبد الله بن المبارك بهيت في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة‏.‏

ومفضل بن فضالة

ولي قضاء مصر مرتين، وكان ديِّناً ثقةً، فسأل الله أن يذهب عنه الأمل فأذهبه، فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شيء من الدنيا، فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله‏.‏

ويعقوب التائب

العابد الكوفي‏.‏

قال علي بن الموفق‏:‏ عن منصور بن عمار‏:‏ خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا عليِّ ليل، فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول‏:‏ وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخي عليَّ، فالآن من عذابك من يستنقذني‏؟‏ وبحبل من اتصل إن أنت قطعت حبلك عني ‏؟‏

واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحي من ربي عز وجل‏.‏

 

قال منصور‏:‏ فقلت‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏} ‏[‏التحريم‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً فذهبت لحاجتي، فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة، فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية‏.‏

 

 

ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة

فيها‏:‏ أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الأمين بن زبيدة، وذلك بالرقة بعد مرجعه من الحج، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له، وولاه خراسان وما يتصل بها، وسماه‏:‏ المأمون‏.‏

وفيها‏:‏ رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف‏.‏

وفيها‏:‏ سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن اليون وملكوا عليهم أمه ريني وتقلب أغسطه‏.‏

وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

إسماعيل بن عياش الحمصي، أحد المشاهير من أئمة الشاميين، وفيه كلام‏.‏

ومروان بن أبي حفصة، الشاعر المشهور المشكور، كان يمدح الخلفاء والبرامكة‏.‏

ومعن بن زائدة

حصل من الأموال شيئاً كثيراً جداً، وكان مع ذلك من أبخل الناس، لا يكاد يأكل اللحم من بخله، ولا يشعل في بيته سراجاً، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباسي والفرو الغليظ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على بردون وعليه حلَّة تساوي ألف دينار، والطيب ينفح من ثيابه، ويأتي هو في شر حالة وأسوئها‏.‏

وخرج يوماً إلى المهدي فقالت امرأة من أهله‏:‏ إن أطلق لك الخليفة شيئاً فاجعل لي منه شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم‏.‏

فأعطاه ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانيق‏.‏

توفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقبرة نصر بن مالك‏.‏

والقاضي أبو يوسف

واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة، وهي أمه، وأبوه بجير بن معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة‏.‏

روى الحديث عن‏:‏ الأعمش، وهمام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وغيرهم‏.‏

وعنه‏:‏ محمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين‏.‏

قال علي بن الجعد‏:‏ سمعته يقول‏:‏ توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة‏:‏ إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي‏.‏

فقال لها‏:‏ اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج‏.‏

فقالت له‏:‏ إنك شيخ قد خرفت‏.‏

قال أبو يوسف‏:‏ فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي، وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له‏:‏ قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -‏.‏

قال أبو يوسف‏:‏ فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي‏:‏ كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت‏.‏

وقلت‏:‏ وما هذا يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ هذا الفالوذج‏.‏

قال‏:‏ فتبسمت، فقال‏:‏ مالك تتبسم ‏؟‏

فقلت‏:‏ لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ لتخبرني‏.‏

فقصصت عليه القصة فقال‏:‏ إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه‏.‏

وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف‏:‏ إنه أعلم أصحابه‏.‏

وقال المزني‏:‏ كان أبو يوسف أتبعهم للحديث‏.‏

وقال ابن المديني‏:‏ كان صدوقاً‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ كان ثقة‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ كان سليماً من التجهم‏.‏

وقال بشار الخفاف‏:‏ سمعت أبا يوسف، يقول‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه‏.‏

ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله‏:‏ من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق‏.‏

ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شيء في زمن الخلفاء الراشدين‏.‏

فقال أبو يوسف‏:‏ لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت‏.‏ وهذا إنصاف منه‏.‏

وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شاباً وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضاً‏.‏

وقال‏:‏ وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوماً واحداً جاءني رجل فذكر أن له بستاناً وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال‏:‏ البستان لي اشتراه لي المهدي‏.‏

فقلت‏:‏ إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه‏.‏

فأحضره فادعى بالبستان فقلت‏:‏ ما تقول يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ هو بستاني‏.‏

فقلت للرجل‏:‏ قد سمعت ما أجاب‏.‏

فقال الرجل‏:‏ يحلف‏.‏

فقلت‏:‏ أتحلف يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

فقلت‏:‏ سأعرض عليك اليمين ثلاثاً فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين‏.‏

فعرضتها عليه ثلاثاً فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي‏.‏

قال‏:‏ فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة‏.‏

وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل‏.‏

وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الأزهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال‏:‏ بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجاً فقال‏:‏ أمير المؤمنين يدعوك‏.‏

فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر، فقال لي الرشيد‏:‏ إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته‏.‏

فقلت لعيسى‏:‏ لم لم تفعل ‏؟‏

فقال‏:‏ إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها‏.‏

فقال لي الرشيد‏:‏ فهل له من مخلص ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم، يبيعك نصفها ويهبك نصفها‏.‏

فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار‏.‏

فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها الرشيد قال‏:‏ هل لي من سبيل عليها الليلة ‏؟‏

قلت‏:‏ إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ‏.‏

قال‏:‏ فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار‏.‏

قال يحيى بن معين‏:‏ كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندٍّ وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو يوسف‏:‏ إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئاً‏.‏

وقال بشر بن غياث المريسي‏:‏ سمعت أبا يوسف، يقول‏:‏ صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب‏.‏

فما مكث بعد ذلك إلا شهوراً حتى مات‏.‏

وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده ولده يوسف‏.‏

وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد‏.‏

ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين، وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن، والله أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏ يعقوب بن داوود بن طهمان

أبو عبد الله، مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي وحظي عنده جداً، وسلم إليه أزمة الأمور، ثم لما أمر بقتل ذلك العلوي كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدي في بئر وبنيت عليه قبة، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام، وعمي، ويقال‏:‏ بل غشي بصره، ومكث نحواً من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءاً ولا يسمع صوتاً إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء، فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد‏.‏

قال يعقوب‏:‏ فأتاني آت في منامي فقال‏:‏

عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويفك عانٍ * ويأتي أهله النائي الغريب

فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة، ودلي إلي حبل وقيل لي‏:‏ اربط هذا الحبل في وسطك، فأخرجوني، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئاً، وأوقفت بين يدي الخليفة فقيل لي‏:‏ سلم على أمير المؤمنين، فظننته المهدي فسلمت عليه باسمه‏.‏

فقال‏:‏ لست به‏.‏

فقلت‏:‏ الهادي ‏؟‏

فقال‏:‏ لست به‏.‏

فقلت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

ثم قال‏:‏ والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك‏.‏

ثم أنعم عليه وأحسن إليه‏.‏

فغار منه يحيى بن خالد بن برمك، وخشي أن يعيده إلى منزلته التي كان عليها أيام المهدي، وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له، فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله‏.‏

وقال‏:‏ يخشى يحيى أن أرجع إلى الولايات، لا والله ما كنت لأفعل أبداً، ولو رددت إلى مكاني‏.‏

وفيها توفي‏:‏ يزيد بن زريع

أبو معاوية، شيخ الإمام أحمد بن حنبل في الحديث، كان ثقةً عالماً عابداً ورعاً، توفي أبوه وكان والي البصرة وترك من المال خمسمائة درهم، فلم يأخذ منها يزيد درهماً واحداً، وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله‏.‏

توفي بالبصرة في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ قبل ذلك، فالله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة

فيها‏:‏ خرجت الخزر على الناس من ثلمة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فساداً، وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحواً من مائة ألف وقتلوا بشراً كثيراً، وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم، فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد‏.‏

وحج بالناس العباس بن موسى الهادي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

علي بن الفضيل بن عياض

في حياة أبيه، كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية‏.‏

ومحمد بن صبيح

أبو العباس، مولى بني عجل المذكر‏.‏

ويعرف‏:‏ بابن السماك‏.‏

روى عن‏:‏ إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والثوري، وهشام بن عروة، وغيرهم‏.‏

ودخل يوماً على الرشيد فقال‏:‏ إن لك بين يدي الله موقفاً فانظر أين منصرفك، إلى الجنة أم النار ‏؟‏

فبكى الرشيد حتى كاد يموت‏.‏

وموسى بن جعفر

ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، ويقال له‏:‏ الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة‏.‏

وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف‏.‏

ولد له من الذكور والإناث أربعون نسمة‏.‏

وأهدى له مرة عبدٌ عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه، ووهب المزرعة له‏.‏

وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له‏:‏ يا محمد، ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ ‏]‏‏.‏

فاستيقظ مذعوراً وأمر به فأخرج من السجن ليلاً، فأجلسه معه وعانقه وأقبل عليه، وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال‏:‏ والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

وأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأمر به فردَّ إلى المدينة، فما أصبح الصباح إلا وهو على الطريق، فلم يزل بالمدنية حتى كانت خلافة الرشيد فحج، فلما دخل ليسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه موسى بن جعفر الكاظم، فقال الرشيد‏:‏ السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم‏.‏

فقال موسى‏:‏ السلام عليك يا أبت‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ هذا هو الفخر يا أبا الحسين‏.‏

ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وستين وسجنه فأطال سجنه، فكتب إليه موسى رسالة يقول فيها‏:‏ أما بعد يا أمير المؤمنين، إنه لم ينقض عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون‏.‏

توفي لخمس بقين من رجب من هذه السنة ببغداد، وقبره هناك مشهور‏.‏

وفيها توفي‏:‏ هاشم بن بشير بن أبي حازم

القاسم بن دينار، أبو معاوية السلمي الواسطي، كان أبوه طباخاً للحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كان بعد ذلك يبيع الكوامخ، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث‏.‏

فاتفق أن هاشماً مرض فجاءه أبو شيبة قاضي واسط عائداً له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فرح بذلك وقال‏:‏ يا بني ‏!‏ أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي‏؟‏ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث‏.‏

كان هاشم من سادات العلماء، وحدث عنه‏:‏ مالك، وشعبة، والثوري، وأحمد بن حنبل، وخلق غير هؤلاء‏.‏

وكان من الصلحاء العباد، ومكث يصلي الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين‏.‏

ويحيى بن زكريا

ابن أبي زائدة، قاضي المدائن، كان من الأئمة الثقات‏.‏

ويونس بن حبيب

أحد النحاة النجباء، أخذ النحو عن‏:‏ أبي عمرو بن العلاء وغيره‏.‏

وأخذ عنه‏:‏ الكسائي، والفراء، وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والأدب والفصحاء من الحاضرين والغرباء‏.‏

توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة‏.‏

 

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

فيها‏:‏ رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم‏.‏

وولى رجلاً يضرب الناس على ذلك ويحبسهم‏.‏

وولى على أطراف البلاد‏.‏

وعزل وولى وقطع ووصل‏.‏ وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله شهر زور‏.‏ وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسي‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن الرشيد

كان زاهداً عابداً قد تنسك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلاً فيه، وليس يملك إلا مرواً وزنبيلاً - أي‏:‏ مجرفة وقفَّة - وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقرب بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط، ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة‏.‏

وكان من زبيدة في قول بعضهم، والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام، ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتماً من ياقوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه‏.‏

فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الأمر كذلك، وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر، فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها، ثم رجع إلى بغداد، وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية‏.‏

هذا وهو ابن أمير المؤمنين، ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين فمرَّضه عنده‏.‏

فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل‏:‏ اذهب بهذا إلى الرشيد وقل له‏:‏ صاحب هذا الخاتم يقول لك‏:‏ إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادماً ندمه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار من مضى‏.‏

قال‏:‏ فلما مات دفنته، وطلبت الحضور عند الخليفة، فلما أوقفت بين يديه قال‏:‏ ما حاجتك ‏؟‏

قلت‏:‏ هذا الخاتم دفعه إلي رجل وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك‏.‏

فلما نظر الخاتم عرفه فقال‏:‏ ويحك وأين صاحب هذا الخاتم ‏؟‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ مات يا أمير المؤمنين‏.‏

ثم ذكرت الكلام الذي أوصاني به، وذكرت له أنه يعمل بالفاعل في كل جمعة يوماً بدرهم وأربع دوانيق، أو بدرهم ودانق، يتقوت به سائر الجمعة، ثم يقبل على العبادة‏.‏

قال‏:‏ فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهراً لبطن ويقول‏:‏ والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكى، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال‏:‏ أتعرف قبره ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ أنا دفنته‏.‏

قال‏:‏ إذا كان العشي فائتني‏.‏

فقال‏:‏ فأتيته فذهب إلى قبره فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم، وكتب له ولعياله رزقاً‏.‏

وفيها مات‏:‏

عبد الله بن مصعب

ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، والد بكار‏.‏

ألزمه الرشيد بولاية المدينة فقبلها بشروط عدل اشترطها، فأجابه إلى ذلك، ثم أضاف إليه نيابة اليمن، فكان من أعدل الولاة، وكان عمره يوم تولى نحواً من سبعين سنة‏.‏

عبد الله بن عبد العزيز العمري

أدرك أبا طوالة، وروى عن‏:‏ أبيه، وإبراهيم بن سعد‏.‏

وكان عابداً زاهداً، وعظ الرشيد يوماً فأطنب وأطيب‏.‏

قال له وهو واقف على الصفا‏:‏ أتنظركم حولها - يعني‏:‏ الكعبة - من الناس ‏؟‏

فقال‏:‏ كثير‏.‏

فقال‏:‏ كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم‏.‏

فبكى الرشيد بكاءً كثيراً، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه‏.‏

ثم قال له‏:‏ يا هارون ‏!‏ إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم ‏؟‏

ثم تركهم وانصرف والرشيد يبكي‏.‏

وله معه مواقف محمودة غير هذه‏.‏

توفي عن ست وستين سنة‏.‏

ومحمد بن يوسف بن معدان

أبو عبد الله الأصبهاني، أدرك التابعين، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة‏.‏

كان عبد الله بن المبارك يسميه‏:‏ عروس الزهاد‏.‏

وقال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ ما رأيت أفضل منه، كان كأنه قد عاين‏.‏

وقال ابن مهدي‏:‏ ما رأيت مثله، وكان لا يشتري خبزه من خباز واحد، ولا بقله من بقال واحد، كان لا يشتري إلا ممن لا يعرفه، يقول‏:‏ أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه‏.‏

وكان لا يضع جنبه للنوم صيفاً ولا شتاء‏.‏ ومات ولم يجاوز الأربعين سنة رحمه الله‏.‏

 

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة

فيها‏:‏ قتل أهل طبرستان متوليهم مهرويه الرازي، فولى الرشيد عليهم عبد الله بن سعيد الحرشي‏.‏

وفيها‏:‏ قتل عبد الرحمن الأنباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج العلقة‏.‏

وفيها‏:‏ عاث حمزة الشاري ببلاد باذغيس من خراسان، فنهض عيسى بن علي بن عيسى إلى عشرة آلاف من جيش حمزة فقتلهم، وسار وراء حمزة إلى كابل وزابلستان‏.‏

وفيها‏:‏ خرج أبو الخصيب فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحاصر مرو وقوي أمره‏.‏

وفيها‏:‏ توفي يزيد بن مزيد ببرذعة، فولى الرشيد مكانه ابنه أسد بن يزيد‏.‏

واستأذن الوزير يحيى بن خالد الرشيد في أن يعتمر في رمضان فأذن له، ثم رابط بجنده إلى وقت الحج‏.‏

وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ عبد الصمد بن علي

ابن عبد الله بن عباس، عم السفاح والمنصور‏.‏

ولد سنة أربع ومائة، وكان ضخم الخلق جداً ولم يبدل أسنانه، وكانت أصولها صفيحة واحدة‏.‏

قال يوماً للرشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هذا المجلس اجتمع فيه عم أمير المؤمنين، وعم عمه، وعم عم عمه‏.‏

وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد بن علي عم سليمان، وعبد الصمد بن علي عم السفاح، وتلخيص ذلك أن عبد الصمد عم عم عم الرشيد، لأنه عم جده‏.‏

روى عبد الصمد، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن البر والصلة ليطيلان الأعمار، ويعمران الديار، ويثريان الأموال، ولو كان القوم فجاراً‏)‏‏)‏‏.‏

وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن البر والصلة ليخففان الحساب يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ ‏]‏‏.‏

وغير ذلك من الأحاديث‏.‏

ومحمد بن إبراهيم بن محمد

ابن علي بن عبد الله بن عباس، المعروف بالإمام، كان على إمارة الحاج، وإقامة سقايته في خلافة المنصور عدة سنين‏.‏  توفي ببغداد فصلى عليه الأمين في شوال من هذه السنة، ودفن بالعباسية‏.‏

وفيها توفي من مشايخ الحديث‏:‏

تمام بن إسماعيل، وعمرو بن عبيد، والمطلب بن زياد، والمعافى بن عمران‏.‏ في قول‏.‏

ويوسف بن الماجشون، وأبو إسحاق الفزاري، إمام أهل الشام بعد الأوزاعي في المغازي والعلم والعبادة‏.‏

 

ورابعة العدوية

وهي‏:‏ رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك، العدوية البصرية، العابدة المشهورة‏.‏

ذكرها أبو نعيم في الحلية والرسائل، وابن الجوزي في صفوة الصفوة، والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري‏.‏

وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر‏.‏

وأنشد لها السهروردي في المعارف‏:‏

إني جعلتكِ في الفؤاد محدثي * وأبحت جسميَ من أراد جلوسي

فالجسمُ مني للجليس موانسٌ * وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحةً، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم‏.‏

توفيت بالقدس الشريف وقبرها شرقيه بالطور، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

فيها‏:‏ خرج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا فقاتله بها، وسبى نساءه وذراريه‏.‏

واستقامت خراسان‏.‏

وحج بالناس فيها الرشيد ومعه أبناه محمد الأمين، وعبد الله المأمون، فبلغ جملة ما أعطى لأهل الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وذلك أنه كان يعطي الناس فيذهبون إلى الأمين فيعطيهم، فيذهبون إلى المأمون فيعطيهم‏.‏

وكان إلى الأمين ولاية الشام والعراق، وإلى المأمون همدان إلى بلاد المشرق‏.‏

ثم تابع الرشيد لولده القاسم من بعد ولديه، ولقبه‏:‏ المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان الباعث له على ذلك أن ابنه القاسم هذا كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لولديه كتب إليه‏:‏

يا أيها الملك الذي * لو كان نجماً كان سعدا

اعقد لقاسم بيعةً * واقدح له في الملك زندا

فالله فرد واحد * فاجعل ولاة العهد فردا

ففعل الرشيد ذلك، وقد حمده قوم على ذلك، وذمه آخرون‏.‏

ولم ينتظم للقاسم هذا أمر، بل اختطفته المنون والأقدار عن بلوغ الأمل والأوطار‏.‏

ولما قضى الرشيد حجه أحضر من معه من الأمراء والوزراء، وأحضر وليي العهد‏:‏ محمداً الأمين، وعبد الله المأمون‏.‏

وكتب بمضمون ذلك صحيفة، وكتب فيها الأمراء والوزراء خطوطهم بالشهادة على ذلك، وأراد الرشيد أن يعلقها في الكعبة فسقطت فقيل‏:‏ هذا أمر سريع انتقاضه‏.‏ وكذا وقع كما سيأتي‏.‏

وقال إبراهيم الموصلي في عقد هذه البيعة في الكعبة‏:‏

خير الأمور مغبةٌ * وأحق أمرٍ بالتمام

أمر قضى أحكامه الر * حمن في البلد الحرام

وقد أطال القول في هذا المقام أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أصبغ بن عبد العزيز بن مروان

ابن الحكم، أبو ريان، في رمضان منها‏.‏

وحسان بن إبراهيم، قاضي كرمان، عن مائة سنة‏.‏

وسلم الخاسر الشاعر

وهو‏:‏ سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء، وإنما قيل له‏:‏ الخاسر لأنه باع مصحفاً واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، وقيل‏:‏ لأنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب‏.‏

وقد كان شاعراً منطقياً له قدرة على الإنشاء على حرف واحد، كما قال في موسى الهادي‏:‏

موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الأثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر لمن حضر والمفتخر لم غبر

وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق، وأنه كان من تلاميذ بشار بن برد، وأن نظمه أحسن من نظم بشار، فمما غلب فيه بشاراً قوله‏:‏

من راقب الناس لم يظفر بحاجته * وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

فقال سلم‏:‏

من راقب الناس مات غماً * وفاز باللذة الجسور

فغضب بشار وقال‏:‏ أحذ معاني كلامي فكساها ألفاظاً أخف من ألفاظي‏.‏

وقد حصل له من الخلفاء والبرامكة نحواً من أربعين ألف دينار، وقيل‏:‏ أكثر من ذلك‏.‏

ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر الغساني، فغنى إبراهيم الموصلي يوماً الرشيد فأطر به فقال له‏:‏ سل‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أسألك شيئاً ليس فيه من مالك شيء ولا أرزأوك شيئاً سواه‏.‏

قال‏:‏ وما هو ‏؟‏

فذكر له وديعة سلم الخاسر، وأنه لم يترك وارثاً‏.‏

فأمر له بها‏.‏

ويقال‏:‏ إنها كانت خمسين ألف دينار‏.‏

والعباس بن محمد

ابن علي بن عبد الله بن عباس، عم الرشيد، كان من سادات قريش، ولي إمارة الجزيرة في أيام الرشيد، وقد أطلق له الرشيد في يوم خمسة آلاف ألف درهم، وإليه تنسب العباسية، وبها دفن وعمره خمس وستون سنة، وصلى عليه الأمين‏.‏

ويقطين بن موسى

كان أحد الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان داهية ذا رأي‏.‏

وقد احتال مرة حيلة عظيمة لما حبس مروان الحمار إبراهيم بن محمد بحرَّان، فتحيرت الشيعة العباسية فيمن يولون، ومن يكون ولي الأمر من بعده إن قتل ‏؟‏

فذهب يقطين هذا إلى مروان فوقف بين يديه في صورة تاجر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إني قد بعت إبراهيم بن محمد بضاعة ولم أقبض ثمنها منه حتى أخذته رسلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بيني وبينه لأطالبه بمالي فعل‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فأرسل به إليه مع غلام، فلما رآه قال‏:‏ يا عدو الله إلى من أوصيت بعدك آخذ مالي منه ‏؟‏

فقال له‏:‏ إلى ابن الحارثية - يعني‏:‏ أخاه عبد الله السفاح - فرجع يقطين إلى الدعاة إلى بني العباس فأعلمهم بما قال، فبايعوا السفاح، فكان من أمره ما ذكرناه‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة

فيها‏:‏ كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد، قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمر ديارهم، واندرست آثارهم، وذهب صغارهم وكبارهم‏.‏

وقد اختلف في سبب ذلك على أقوال ذكرها ابن جرير وغيره‏.‏

قيل‏:‏ إن الرشيد كان قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده، فما زال يحيى يترفق له حتى أطلقه، فنمَّ الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد، فقال له الرشيد‏:‏ ويلك ‏!‏ لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله أطلقه عن أمري وأنا لا أشعر‏.‏

ثم سأل الرشيد جعفراً عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه، وكره البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعدما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه، وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة، وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئاً كثيراً لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الأكابر والرؤساء، بحيث إن جعفراً بنى داراً غرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد‏.‏

ويقال‏:‏ إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل‏:‏ هذا لجعفر‏.‏

ويقال‏:‏ إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما قتلهم بسبب العباسة‏.‏

ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره‏.‏

وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال‏:‏ لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته‏.‏

وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه - وهذه وجاهة ومنزلة عالية - وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر - فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر - وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضراً أيضاً معه، فزوجه بها ليحل النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها‏.‏

وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولداً وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يربى بها‏.‏

وذكر ابن خلكان أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حباً شديداً، فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع خوفاً من الرشيد، فاحتالت عليه - وكانت أمه تهدي له في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكراً - فقالت لأمه‏:‏ أدخليني عليه بصفة جارية‏.‏

فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك‏.‏

فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له‏:‏ كيف رأيت خديعة بنات الملوك ‏؟‏‏.‏

وحملت من تلك الليلة، فدخل على أمه فقال‏:‏ بعتيني والله برخيص‏.‏

ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غيظاً، ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الأمر‏.‏

ويقال‏:‏ إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع، وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلي كثيرة، فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، ثم كشف الأمر عن الحال، فإذا هو كما ذكر‏.‏

وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد، فجعل يدعو عند الكعبة‏:‏ اللهم إن كان يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك وأبق علي منهم الفضل، ثم خرج‏.‏

فلما كان عند باب المسجد رجع فقال‏:‏ اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك عني ولا تستثن منهم أحداً‏.‏

فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى الغمر من أرض الأنبار، فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل مسروراً الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلاً، فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركانة الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في أمره وسروره، وأبو ركانة يغنيه‏:‏

فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي

فقال الخادم له‏:‏ يا أبا الفضل ‏!‏ هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين‏.‏

فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصي إليهم ويودعهم، فقال‏:‏ أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص‏.‏

فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم، وجاءت رسل الرشيد تستحثه فأخرج إخراجاً عنيفاً، فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأعلموا الرشيد بما كان يفعل، فأمر بضرب عنقه، فجاء السياف إلى جعفر فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا هاشم ‏!‏ لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك فيَّ، فعاوده‏.‏

فرجع إلى الرشيد فقال‏:‏ إنه يقول‏:‏ لعلك مشغول‏.‏

فقال‏:‏ يا ماص بظر أمه ائتني برأسه‏.‏

فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة‏:‏ برئت من المهدي إن لم تأتني برأسه لأبعثن من يأتيني برأسك ورأسه‏.‏

فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه، وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، ومن كان منهم بسبيل‏.‏

فأخذوا كلهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد‏.‏

وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر الأسفل، والأخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك‏.‏

ونودي في بغداد‏:‏ أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة‏.‏

وأتي الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة، وكان مصاحباً لجعفر، فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج الرشيد من تحت فراشه سيفاً وأمر بضرب عنقه به‏.‏

وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك‏:‏

تلمظ السيف من شوق إلى أنس * فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد‏:‏ رحم الله عبد الله بن مصعب‏.‏

فقال الناس‏:‏ إن السيف كان للزبير بن العوام‏.‏

ثم شحنت السجون بالبرامكة، واستلبت أموالهم كلها، وزالت عنهم النعمة‏.‏

وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل جعفراً في آخره، هو وإياه راكبين في الصيد في أوله، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبه في ذلك بالغالية بيده، فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال‏:‏ لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشاً حتى تكون على مثل حالي، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء‏.‏

فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك‏.‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ انصرف إلى منزلك‏.‏

فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره‏.‏

وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم‏.‏

وقيل‏:‏ إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعاً وثلاثين سنة‏.‏

ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بن خالد بقتله قال‏:‏ قتل الله ابنه‏.‏

ولما قيل له‏:‏ قد خربت دارك‏.‏

قال‏:‏ خرب الله دوره‏.‏

ويقال‏:‏ إن يحيى لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها، واستبيحت قصورها، وانتهب ما فيها‏.‏

قال‏:‏ هكذا تقوم الساعة‏.‏

وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له، فكتب إليه جواب التعزية‏:‏ أنا بقضاء الله راض، وباختياره عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد، وما يغفر الله أكثر، ولله الحمد‏.‏

وقد أكثر الشعراء من المراثي في البرامكة فمن ذلك قول الرقاشي، وقيل‏:‏ إنها لأبي نواس‏:‏

الآن استرحنا واستراحت ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدى

فقل للمطايا قد أمنت من السُّرى * وطيِّ الفيافي فدفداً بعد فدفد

وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن تظفري من بعده بمسوَّد

وقل للعطايا بعد فضل تعطلي * وقل للرزايا كل يوم تجددي

ودونك سيفاً برمكياً مهنداً * أصيب بسيف هاشمي مهند

وقال الرقاشي، وقد نظر إلى جعفر وهو على جذعه‏:‏

أما والله لولا خوف واشٍ * وعين للخليفة لا تنام

لطفنا حول جذعك واستلمنا * كما للناس بالحجر استلام

فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى * حساماً فلَّه السيف الحسام

على اللذات والدنيا جميعاً * ودولة آل برمكٍ السلام

قال‏:‏ فاستدعاه الرشيد فقال له‏:‏ كم كان يعطيك جعفر كل عام ‏؟‏

قال‏:‏ ألف دينار‏.‏

فأمر له بألفي دينار‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ عن عمه مصعب الزبيري، قال‏:‏ لما قتل الرشيد جعفراً وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح‏:‏ والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول‏:‏

ولما رأيت السيف خالط جعفراً * ونادى منادٍ للخليفة في يحيى

بكيت على الدنيا وأيقنت أنما * قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا

وما هي إلا دولة بعد دولة * تخوِّل ذا نعمى وتعقب ذا بلوى

إذا أنزلت هذا منازل رفعة * من الملك حطت إلى الغاية القصوى

قال‏:‏ ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت ريحاً لا أثر لها، ولا يعرف أين ذهبت‏.‏

 

وذكر ابن الجوزي‏:‏ أن جعفراً كان له جارية يقال لها‏:‏ فتينة مغنية، لم يكن لها في الدنيا نظير، كان مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك، فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسماره، فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغني، حتى انتهت النوبة إلى فتينة، فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت‏:‏ أما بعد السادة فلا‏.‏

فغضب الرشيد غضباً شديداً، وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه‏:‏ لا تطأها‏.‏

ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها‏.‏

فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضي عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت‏:‏ أما بعد السادة فلا‏.‏

فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الأولى وقال‏:‏ النطع والسيف‏.‏

وجاء السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد‏:‏ إذا أمرتك ثلاثاً وعقدت أصابعي ثلاثاً فاضرب‏.‏

ثم قال لها‏:‏ غنِّ، فبكت وقالت‏:‏ أما بعد السادة فلا‏.‏

فقعد أصبعه الخنصر، ثم أمرها الثانية فامتنعت، فعقد اثنتين، فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الإشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغني لئلا تقتل نفسها، وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد‏.‏

ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغني كارهة‏:‏

لما رأيت الدنيا قد درست * أيقنت أن النعيم لم يعد

قال‏:‏ فوثب إليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر، وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها، وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث‏.‏

وروي أن الرشيد كان يقول‏:‏ لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي وأني تركتهم على حالهم‏.‏

وحكى ابن خلكان‏:‏ أن جعفراً اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار، فالتفتت إلى بائعها وقالت‏:‏ اذكر العهد الذي بيني وبينك، لا تأكل من ثمني شيئاً‏.‏

فبكى سيدها وقال‏:‏ اشهدوا أنها حرة، وأني قد تزوجتها‏.‏

فقال جعفر‏:‏ اشهدوا أن الثمن له أيضاً‏.‏

وكتب إلى نائب له‏:‏ أما بعد فقد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما أن تعدل، وإما تعتزل‏.‏

ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة همِّ الرشيد، وقد دخل عليه منجم يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة، فحمل الرشيد هماً عظيماً، فدخل عليه جعفر فسأله‏:‏ ما الخبر ‏؟‏

فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي، فقال له‏:‏ كم بقي لك من العمر‏؟‏ فذكر مدة طويلة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره‏.‏

فأمر الرشيد باليهودي فقتل، وسرِّي عن الرشيد الذي كان فيه‏.‏

وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وذلك أنه حزن على البرامكة، ولاسيما على جعفر، كان يكثر البكاء عليهم، ثم خرج من حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والأخذ بثأرهم‏.‏

وكان إذا شرب في منزله يقول لجاريته‏:‏ ائتني بسيفي، فيسله ثم يقول‏:‏ والله لأقتلن قاتله‏.‏

فأكثر أن يقول ذلك، فخشي ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن آخرهم، ورأى أن أباه لا ينزع عن هذا، فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه، فأخبر الفضل الخليفة، فاستدعى به فاستخبره فأخبره، فقال‏:‏ من يشهد معك عليه ‏؟‏

فقال‏:‏ فلان الخادم‏.‏

فجاء به فشهد، فقال الرشيد‏:‏ لا يحل قتل أمير كبير بمجرد قول غلام وخصي، لعلهما قد تواطآ على ذلك‏.‏

فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال‏:‏ ويحك يا إبراهيم ‏!‏ إن عندي سراً أحب أن أطلعك عليه، أقلقني في الليل والنهار‏.‏

قال‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ إني ندمت على قتل البرامكة، ووددت أني خرجت من نصف ملكي ونصف عمري ولم أكن فعلت بهم ما فعلت، فإني لم أجد بعدهم لذة ولا راحة‏.‏

فقال‏:‏ رحمة الله على أبي الفضل - يعني‏:‏ جعفراً - وبكى، وقال‏:‏ والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله‏.‏

فقال له‏:‏ قم لعنك الله، ثم حبسه، ثم قتله بعد ثلاثة أيام، وسلم أهله وولده‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب أنه بلغه أنه يريد الخلافة، واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس، ثم سجنه فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد، فأخرجه الأمين وعقد له على نيابة الشام‏.‏

وفيها‏:‏ ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية، فبعث إليهم الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل‏.‏

وفيها‏:‏ بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة، وجعله قرباناً ووسيلة بين يديه، وولاه العواصم، فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من الأسارى يطلقونهم ويرجع عنهم، ففعل ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقده الرشيد بينه وبين رني ملكة الروم الملقبة‏:‏ أغسطه‏.‏

وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور، وكان شجاعاً، يقال‏:‏ إنه منه سلالة آل جفنة، فخلعوا رني وسملوا عينيها‏.‏

فكتب نقفور إلى الرشيد‏:‏ من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد‏:‏ فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك‏.‏

فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفاً منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم‏.‏ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام‏.‏

ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئاً كثيراً، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤدِّيه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك‏.‏

فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جداً، فلم يقدر أحد أن يجيء فيخبر الرشيد بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد، حتى يخرج فصل الشتاء‏.‏

وحج بالناس فيها عبد الله به عباس بن محمد بن علي‏.‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان‏:‏

جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك

أبو الفضل البرمكي، الوزير ابن الوزير، ولاه الرشيد الشام وغيرها من البلاد، وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس ويمن، وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الإسلام، كان خامداً من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الأوان، فلما قدم جعفر بجيشه خمدت الشرور وظهر السرور، وقيلت في ذلك أشعار حسان، قد ذكر ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه، منها‏:‏

لقد أوقدت في الشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش سوج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانجبارها

هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع خطارها

وهي قصيدة طويلة، وكانت له فصاحة وبلاغة، وذكاء وكرم زائد، كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه، وصار له اختصاص بالرشيد، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه‏.‏

وقد روى الحديث عن أبيه، عن عبد الحميد الكاتب، عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان، عن زيد بن ثابت كاتب الوحي، قال‏:‏ قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيِّن السين فيه‏)‏‏)‏‏.‏

رواه الخطيب وابن عساكر، من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم، واسمه‏:‏ عبد الله بن أحمد البلخي - وقد كان كاتباً لمحمد بن زيد -، عن أبيه، عن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن زريق، عن الفضل بن سهل ذي الرياستين، عن جعفر بن يحيى، به‏.‏

وقال عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ قال جعفر للرشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قال لي أبي يحيى‏:‏ إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط، وإذا أدبرت فأعط، فإنها لا تبقى، وأنشدني أبي‏:‏

لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف

فإن تولَّت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

قال الخطيب‏:‏ ولقد كان جعفر من علوِّ القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند الرشيد على حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد‏.‏

وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر‏.‏

أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر‏.‏

وكان أيضاً من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة‏.‏

وروى ابن عساكر، عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس والعباسية‏:‏ أنه أصابته فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفراً فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بإلحاح المطالبين بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط‏.‏

فقال‏:‏ قد اشتريته منك بألف ألف، ثم أقبضه المال وقبض السفط منه، وكان ذلك ليلاً‏.‏

ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة، فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضاً‏.‏

قال‏:‏ فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لأتشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذنان عليه، فقال له جعفر‏:‏ إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين‏.‏

فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار‏.‏

وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه، فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر، وقال‏:‏ إن الناس يقولون‏:‏ من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه، فأمر له جعفر بألف دينار‏.‏

ثم عادت الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى‏.‏

وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه‏:‏ انظر جارية اشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل فوجد جارية على النعت فطلب سيدها فيها مالاً كثيراً على أن يراها جعفر، فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته أكثر، فساومه صاحبها فيها‏.‏

فقال له جعفر‏:‏ قد أحضرنا مالاً فإن أعجبك وإلا زدناك‏.‏

فقال لها سيدها‏:‏ إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي‏.‏

فقالت له الجارية‏:‏ والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني‏.‏

فقال سيدها لجعفر وأصحابه‏:‏ أشهدكم أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها‏.‏

فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال‏.‏

فقال جعفر‏:‏ والله لا يتبعني‏.‏

وقال للرجل‏:‏ قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك، وذهب وتركه‏.‏

هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل، إلا أن الفضل كان أكثر منه مالاً‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق الدارقطني بسنده‏:‏ أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار، زنة كل دينار مائة دينار، مكتوب على صفحة الدينار جعفر‏:‏

وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه جعفر

يزيد على مائة واحداً * متى تعطه معسراً يوسر

وقال أحمد بن المعلى الرواية‏:‏ كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لأبيه يحيى أن يشير علي الرشيد بشرائها، وكتبت إليه هذه الأبيات من شعرها في جعفر‏:‏

يا لائمي جهلاً ألا تقصر * من ذا علي حر الهوى يصبر

لا تلحني إذا شربت الهوى * صرفاً فممزوج الهوى سكر

أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له أبحر

تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر

سيَّان عندي في الهوى لائم * أقلَّ فيه والذي يكثر

أنت المصفى من بني برمك * يا جعفر الخيرات يا جعفر

لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر

من وفر المال لأغراضه * فجعفر أغراضه أوفر

ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر

سحت علينا منهما ديمة * ينهل منها الذهب الأحمر

لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الأخضر

لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر

يهتز تاج الملك من فوقه * فخراً ويزهى تحته المنبر

أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه يزهر

والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور

يستمطر الزوار منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر

وكتبت تحت أبياتها حاجتها، فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار عليه بشرائها فقال‏:‏ لا ‏!‏ والله لا أشتريها، وقد قال فيها الشعراء فأكثروا، واشتهر أمرها، وهي التي يقول فيها أبو نواس‏:‏

لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا

وعن ثمامة بن أشرس، قال‏:‏ بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد، فانتبه من منامه يبكي مذعوراً، فقلت‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

قال‏:‏ رأيت شيخاً جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال‏:‏

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

قال فأجبته‏:‏

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر

قال ثمامة‏:‏ فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر، ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول‏:‏

تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر عيشك بعد الصفا

فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا

قال‏:‏ فنظرت إلى جعفر وقلت‏:‏ أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية‏.‏

قال‏:‏ فنظر إلي كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول‏:‏

ما يعجب العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا

من جعفر أو من أبوه ومن * كانت بنو برمك لولانا

ثم حول وجه فرسه وانصرف‏.‏

وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة، ومكث وزيراً سبع عشرة سنة‏.‏

وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت‏:‏ لقد أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول إن ابني جعفراً عاق لي‏.‏

وروى الخطيب البغدادي بإسناده‏:‏ أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفراً وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال‏:‏ اللهم إن جعفراً كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة‏.‏

حكاية غريبة

ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلاً يأتي كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم، فبعث من جاء به فدخل عليه وقد يئس من الحياة‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏ ما يحملك على صنيعك هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنهم أسدوا إلي معروفاً وخيراً كثيراً‏.‏

فقال‏:‏ وما الذي أسدوه إليك ‏؟‏

فقال‏:‏ أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق، كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن بعت داري، ثم لم يبق لي شيء‏.‏

فأشار بعض أصحابي عليَّ بقصد البرامكة ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة فأنزلتهن في مسجد مهجور ثم قصدت مسجداً مأهولاً أصلي فيه‏.‏

فدخلت مسجداً فيه جماعة لم أر أحسن وجوهاً منهم، فجلست إليهم فجعلت أدبر في نفسي كلاماً أطلب به منهم قوتاً للعيال الذين معي، فيمنعني من ذلك السؤال الحياء‏.‏

فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا داراً عظيمةً، فإذا الوزير يحيى بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله، فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر، ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار، ومعها فتات المسك‏.‏

فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالساً، وبين يدي الصينية التي وضعوها لي، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي، فقال لي بعض الحاضرين‏:‏ ألا تأخذها وتذهب ‏؟‏

فمددت يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبي وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت، وأنا خائف أن تؤخذ مني، فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلي وأنا لا أشعر‏.‏

فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال، فلما رجعت قال لي‏:‏ ما شأنك خائف ‏؟‏

فقصصت عليه خبري، فبكى ثم قال لأولاده‏:‏ خذوا هذا فضموه إليكم‏.‏

فجاءني خادم فأخذ مني الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد، وخاطري كله عند عيالي، ولا يمكنني الانصراف‏.‏

فلما انقضت العشرة الأيام جاءني خادم فقال‏:‏ ألا تذهب إلى عيالك ‏؟‏

فقلت‏:‏ بلى ‏!‏ والله، فقام يمشي أمامي ولم يعطني الذهب ولا الصينية‏.‏

فقلت‏:‏ يا ليت هذا كان قبل أن يؤخذ مني الصينية والذهب، ياليت عيالي رأوا ذلك‏.‏

فسار يمشي أمامي إلى دار لم أر أحسن منها، فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها، وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وكتاباً فيه تمليك الدار بما فيها، وكتاباً آخر فيه تمليك قريتين جليلتين‏.‏

فكنت مع البرامكة في أطيب عيش، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن مسعدة القريتين وألزمني بخراجهما، فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم‏.‏

فأمر المأمون بردِّ القريتين، فبكى الشيخ بكاءً شديداً فقال المأمون‏:‏ مالك‏؟‏ ألم استأنف بك جميلاً ‏؟‏

قال‏:‏ بلى ‏!‏ ولكن هو من بركة البرامكة‏.‏

فقال له المأمون‏:‏ امض مصاحباً فإن الوفاء مبارك، ومراعاة حسن العهد والصحبة من الإيمان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الفضيل بن عياض

أبو علي التميمي، أحد أئمة العباد الزهاد، وهو أحد العلماء والأولياء، ولد بخراسان بكورة دينور، وقدم الكوفة وهو كبير‏.‏

فسمع بها‏:‏ الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم‏.‏

ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام، وكان سيداً جليلاً ثقةً من أئمة الرواية رحمه الله ورضي عنه‏.‏

وله مع الرشيد قصة طويلة، وقد روينا ذلك مطولاً في كيفية دخول الرشيد عليه منزله، وما قال له الفضيل بن عياض، وعرض عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك‏.‏

توفي بمكة في المحرم من هذه السنة‏.‏

وذكروا أنه كان شاطراً يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جداراً إذ سمع قارئاً يقرأ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ بلى ‏!‏ وتاب وأقلع عما كان عليه‏.‏

ورجع إلى خربة فبات بها، فسمع سفاراً يقولون‏:‏ خذوا حذركم إن فضيلاً أمامكم يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة، ثم صار علماً يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله‏.‏

قال الفضيل‏:‏ لو أن الدنيا كلها حلال لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه‏.‏

وقال‏:‏ العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما‏.‏

وقال له الرشيد يوماً‏:‏ ما أزهدك‏.‏

فقال‏:‏ أنت أزهد مني لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهد في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي، ومن زهده في درة أزهد ممن زهد في بعرة‏.‏

وقد روي مثل هذا عن أبي حازم، أنه قال‏:‏ ذلك لسليمان بن عبد الملك‏.‏

وقال‏:‏ لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام، لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد‏.‏

وقال‏:‏ إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ ‏]‏ قال‏:‏ يعني أخلصه وأصوبه، إن العمل يجب أن يكون خالصاً لله، وصواباً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

بشر بن المفضل، وعبد السلام بن حرب، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد العزيز العمي‏.‏

وعلي بن عيسى، الأمير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة‏.‏ ومعتمر بن سليمان‏.‏

وأبو شعيب البراثي

الزاهد، وكان أول من سكن براثاً في كوخ له يتعبد فيه، فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة، وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا، يقال‏:‏ إن اسمها جوهرة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

فيها‏:‏ غزا إبراهيم بن إسرائيل الصائفة، فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف، فخرج النقفور للقائه، فجرح النقفور ثلاث جراح، وانهزم، وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفاً، وغنموا أكثر من أربعة آلاف دابة‏.‏

وفيها‏:‏ رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الرشيد، وكانت آخر حجاته‏.‏

وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفاً من الحج - وقد اجتاز بالكوفة - لا يحج الرشيد بعدها، ولا يحج بعده خليفة أبداً‏.‏

وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة، فروينا من طريق الفضل بن الربيع الحاجب، قال‏:‏ حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي‏.‏

فقلت‏:‏ اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت‏.‏

فلما حاذاه الهودج قال‏:‏ يا أمير المؤمنين، حدثني أيمن بن نائل، ثنا قدامة بن عبد الله العامري، قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثمَّ طرد ولا ضرب ولا إليك إليك‏.‏

قال الربيع‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنه بهلول‏.‏

فقال‏:‏ قد عرفته‏.‏

قل‏:‏ يا بهلول فقال‏:‏

هب أن قد ملكت الأرض طراً * ودان لك العباد فكان ماذا

أليس غداً مصيرك جوف قبر * ويحثو عليك التراب هذا ثم هذا

قال‏:‏ أجدت يا بهلول، أفغيره ‏؟‏

قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين ‏!‏ من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الأبرار‏.‏

قال‏:‏ فظن أنه يريد شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ إنا أمرنا بقضاء دينك‏.‏

فقال‏:‏ لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يقضى دين بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك‏.‏

قال‏:‏ إنا أمرنا أن يجرى عليك رزق تقتات به‏.‏

قال‏:‏ لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني، وها أنا قد عشت عمراً لم تجر علي رزقاً، انصرف لا حاجة لي في جرايتك‏.‏

قال‏:‏ هذه ألف دينار خذها‏.‏

فقال‏:‏ ارددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها‏؟‏ انصرف عني فقد آذيتني‏.‏

قال‏:‏ فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا‏.‏

 

 

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

أبو إسحاق الفزاري

إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة، إمام أهل الشام في المغازي وغير ذلك‏.‏

أخذ عن‏:‏ الثوري، والأوزاعي، وغيرهما‏.‏

توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ قبلها‏.‏

وإبراهيم الموصلي

النديم، وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن، أبو إسحاق، أحد الشعراء والمغنين والندماء للرشيد وغيره، أصله من الفرس وولد بالكوفة وصحب شبانها وأخذ عنهم الغناء، ثم سافر إلى الموصل ثم عاد إلى الكوفة، فقالوا‏:‏ الموصلي‏.‏

ثم اتصل بالخلفاء أولهم المهدي وحظي عند الرشيد، وكان من جملة سماره وندمائه ومغنيه، وقد أثرى وكثر ماله جداً، حتى قيل‏:‏ إنه ترك أربعة وعشرين ألف ألف درهم، وكانت له طرف وحكايات غريبة‏.‏

وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة في الكوفة، ونشأ في كفالة بني تميم، فتعلم منهم ونسب إليهم، وكان فاضلاً بارعاً في صناعة الغناء، وكان مزوجاً بأخت المنصور الملقب‏:‏ بزلزل، الذي كان يضرب معه، فإذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس‏.‏

توفي في هذه السنة على الصحيح، وحكى ابن خلكان في الوفيات أنه توفي وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يوم واحد، من سنة ثلاث عشرة ومائتين، وصحح الأول‏.‏

ومن قوله في شعره عند احتضاره قوله‏:‏

ملَّ والله طبيبي * من مقاساة الذي بي

سوف أنعى عن قريب * لعدو وحبيب

وفيها مات‏:‏ جرير بن عبد الحميد، ورشد بن سعد، وعبدة بن سليمان، وعقبة بن خالد، وعمر بن أيوب، العابد، أحد مشايخ أحمد بن حنبل، عيسى بن يونس‏.‏ في قول‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة

فيها‏:‏ رجع الرشيد من الحج وسار إلى الري فولى وعزل‏.‏

وفيها‏:‏ رد علي بن عيسى إلى ولاية خراسان، وجاءه نواب تلك البلاد بالهدايا والتحف من سائر الأشكال والألوان‏.‏

ثم عاد إلى بغداد فأدركه عيد الأضحى بقصر اللصوص فضحى عنده، ودخل إلى بغداد لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحيى البرمكي فأحرقت ودفنت، وكانت مصلوبة من حين قتل إلى هذا اليوم‏.‏

ثم ارتحل الرشيد من بغداد إلى الرقة ليسكنها وهو متأسف على بغداد وطيبها، وإنما مراده بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها، وقد قال العباس بن الأحنف في خروجهم من بغداد مع الرشيد‏:‏

 

ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نـ * ـفرق بين المناخ والارتحال

ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا * فقرَّنا وداعهم بالسؤال

وفيها‏:‏ فادى الرشيد الأسارى من المسلمين الذين كانوا ببلاد الروم، حتى يقال‏:‏ إنه لم يترك بها أسيراً من المسلمين‏.‏

فقال فيه بعض الشعراء‏:‏

وفكت بك الأسرى التي شيدت لها * محابس ما فيها حميم يزورها

على حين أعيا المسلمين فكاكها * وقالوا سجون المشركين قبورها

وفيها‏:‏ رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق يحاصر الروم‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان‏:‏

علي بن حمزة

ابن عبد الله بن فيروز، أبو الحسن الأسدي مولاهم، الكوفي المعروف بالكسائي لإحرامه في كساء، وقيل‏:‏ لاشتغاله على حمزة الزيات في كساء‏.‏

كان نحوياً لغوياً أحد أئمة القراء، أصله من الكوفة ثم استوطن بغداد، فأدب الرشيد وولده الأمين، وقد قرأ على حمزة بن حبيب الزيات قراءته، وكان يقرئ بها، ثم اختار لنفسه قراءة وكان يقرأ بها‏.‏

وقد روى عن‏:‏ أبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وغيرهما‏.‏

وعنه‏:‏ يحيى بن زياد الفراء، وأبو عبيد‏.‏

قال الشافعي‏:‏ من أراد النحو فهو عيال على الكسائي‏.‏

أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوماً‏:‏ عن من أخذت هذا العلم ‏؟‏

قال‏:‏ من بوادي الحجاز‏.‏

فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئاً كثيراً، ثم عاد إلى الخليل فإذا هو قد مات وتصدر في موضعه يونس، فجرت بينهما مناظرات أقر له فيها يونس بالفضل، وأجلسه في موضعه‏.‏

قال الكسائي‏:‏ صليت يوماً بالرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت غلطة ما غلطها صبي، أردت أن أقول لعلهم يرجعون، فقلت‏:‏ لعلهم ترجعين، فما تجاسر الرشيد أن يردها‏.‏

فلما سلمت قال‏:‏ أي لغة هذه ‏؟‏

فقلت‏:‏ إن الجواد قد يعثر‏.‏

فقال‏:‏ أما هذا فنعم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لقيت الكسائي فإذا هو مهموم، فقلت‏:‏ مالك ‏؟‏

فقال‏:‏ إن يحيى بن خالد قد وجه إلي ليسألني عن أشياء فأخشى من الخطأ‏.‏

فقلت‏:‏ قل ما شئت فأنت الكسائي‏.‏

فقال‏:‏ قطعه الله - يعني‏:‏ لسانه - إن قلت ما لم أعلم‏.‏

وقال الكسائي يوماً‏:‏ قلت لنجار‏:‏ بكم هذان البابان ‏؟‏

فقال‏:‏ بسالجيان يا مصفعان‏.‏

توفي الكسائي في هذه السنة على المشهور، عن سبعين سنة‏.‏

وكان في صحبة الرشيد ببلاد الري فمات بنواحيها هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وكان الرشيد يقول‏:‏ دفنت الفقه والعربية بالري‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ إن الكسائي توفي بطوس سنة ثنتين وثمانين ومائة‏.‏

وقد رأى بعضهم الكسائي في المنام ووجهه كالبدر فقال‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بالقرآن‏.‏

فقلت‏:‏ ما فعل حمزة ‏؟‏

قال‏:‏ ذاك في عليين ما نراه إلا كما نرى الكوكب‏.‏

وفيها توفي‏:‏ محمد بن الحسن بن زفر

أبو عبد الله الشيباني مولاهم، صاحب أبي حنيفة‏.‏

أصله من قرية من قرى دمشق، قدم أبوه العراق فولد بواسط سنة ثنتين ومائة، ونشأ بالكوفة‏.‏

فسمع من‏:‏ أبي حنيفة، ومسعر، والثوري، وعمر بن ذر، ومالك بن مغول‏.‏

وكتب عن‏:‏ مالك بن أنس، والأوزاعي، وأبي يوسف‏.‏

وسكن بغداد وحدث بها، وكتب عنه الشافعي حين قدمها في سنة أربع وثمانين ومائة، وولاه الرشيد قضاء الرقة ثم عزله‏.‏

وكان يقول لأهله‏:‏ لا تسألوني حاجة من حاجات الدنيا فتشغلوا قلبي، وخذوا ما شئتم من مالي فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ ما رأيت حبراً سميناً مثله، ولا رأيت أخف روحاً منه، ولا أفصح منه، كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ما رأيت أعقل منه، كان يملأ العين والقلب‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة، فكتب إليه‏:‏

قل للذي لم تر عيناي مثله * حتى كأن من رآه قد رأى من قبله

العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله * لعله ببذله لأهله لعله

قال‏:‏ فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ هذه المسائل الدقاق من أين هي لك ‏؟‏

قال‏:‏ من كتب محمد بن الحسن رحمه الله‏.‏

وقد تقدم أنه مات هو والكسائي في يوم واحد من هذه السنة‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ دفنت اليوم اللغة والفقه جميعاً‏.‏

وكان عمره ثمانية وخمسين سنة‏.‏