الجزء العاشر - ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة

ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة

في أول يوم منها‏:‏ جلس حسين بن حسن الأفطس على طنفسة مثلثة خلف المقام وأمر بتجريد الكعبة مما عليها من كساوي بني العباس، وقال‏:‏ نطهرها من كساويهم‏.‏

وكساها ملاءتين صفراوتين عليهما اسم أبي السرايا، ثم أخذ ما في كنز الكعبة من الأموال، وتتبع ودائع بني العباس فأخذها، حتى أنه أخذ مال ذوي المال ويزعم أنه للمسودة‏.‏

وهرب منه الناس إلى الجبال، وسبك ما على رؤوس الأساطين من الذهب، وكان ينزل مقدار يسير بعد جهد، وقلعوا ما في المسجد الحرام من الشبابيك وباعوها بالبخس، وأساؤوا السيرة جداً‏.‏

فلما بلغه مقتل أبي السرايا كتم ذلك وأمر رجلاً من الطالبيين شيخاً كبيراً، واستمر على سوء السيرة، ثم هرب في سادس عشر المحرم منها، وذلك لما قهر هرثمة أبا السرايا وهزم جيشه وأخرجه ومن معه من الطالبيين من الكوفة، ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فأمنوا أهلها ولم يتعرضوا لأحد‏.‏

وسار أبو السرايا بمن معه إلى القادسية، ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش المأمون فهزمهم أيضاً وجرح أبو السرايا جراحةً منكرةً جداً، وهربوا يريدون الجزيرة إلى منزل أبي السرايا برأس العين، فاعترضهم بعض الجيوش أيضاً فأسروهم و أتوا بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان حين طردته الحربية، فأمر بضرب عنق أبي السرايا فجزع من ذلك جزعاً شديداً جداً وطيف برأسه وأمر بجسده أن يقطع اثنتين وينصب على جسري بغداد، فكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر‏.‏

فبعث الحسن بن سهل بن محمد إلى المأمون مع رأس أبي السرايا‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏

ألم تر ضربه الحسن بن سهل * بسيفك يا أمير المؤمنينا

أدارت مرو رأسَ أبي السَّرايا * وأبقيت عبرة للعالمينا

وكان الذي في يده البصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له‏:‏ زيد النار، لكثرة ما حرق من البيوت التي للمسودة، فأسره علي بن سعيد وأمنه وبعث به وبمن معه من القواد إلى اليمن لقتال من هناك من الطالبيين‏.‏

وفيها‏:‏ خرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له‏:‏ الجزار لكثرة من قتل من أهل اليمن، وأخذ من أموالهم‏.‏

وهو الذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم، فلما بلغه قتل أبي السرايا هرب إلى اليمن، فلما بلغ نائب اليمن خبره ترك اليمن وسار إلى خراسان واجتاز بمكة وأخذ أمه منها‏.‏

واستحوذ إبراهيم هذا على بلاد اليمن وجرت حروب كثيرة يطول ذكرها، ورجع محمد بن جعفر العلوي عما كان يزعمه، وكان قد ادعى الخلافة بمكة‏.‏

وقال‏:‏ كنت أظن أن المأمون قد مات وقد تحققت حياته، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما كنت ادعيت من ذلك، وقد رجعت إلى الطاعة وأنا رجل من المسلمين‏.‏

ولما هزم هرثمة راسل أبا السرايا وهو الذي أمره بالظهور، فاستدعاه المأمون إلى مرو فأمر به فضرب بين يديه ووطئ بطنه ثم رفع إلى الحبس ثم قتل بعد ذلك بأيام، وانطوى خبره بالكلية‏.‏

ولما وصل خبر قتله إلى بغداد عبثت العامة والحربية بالحسن بن سهل نائب العراق، وقالوا‏:‏ لا نرضى به ولا بعماله ببلادنا‏.‏

وأقاموا إسحاق بن موسى المهدي نائباً، واجتمع أهل الجانبين على ذلك، والتفت على الحسن بن سهل جماعة من الأمراء والأجناد، وأرسل من وافق العامة على ذلك من الأمراء يحرضهم على القتال، وجرت الحروب بينهم ثلاثة أيام في شعبان من هذه السنة‏.‏

ثم اتفق الحال على أن يعطيهم شيئاً من أرزاقهم ينفقونها في شهر رمضان، فما زال يمطلهم إلى ذي القعدة حتى يدرك الزرع، فخرج في ذي القعدة زيد بن موسى، الذي يقال له‏:‏ زيد النار، وهو أخو أبي السرايا، وقد كان خروجه هذه المرة بناحية الأنبار، فبعث إليه علي بن هشام نائب بغداد عن الحسن بن سهل والحسن بالمدائن إذ ذاك فأخذ وأتي به إلى علي بن هشام، و أطفأ الله ثأرته‏.‏

وبعث المأمون في هذه السنة يطلب من بقي من العباسيين، وأحصى كم العباسيون فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً، ما بين ذكور وإناث‏.‏

وفيها‏:‏ قتلت الروم ملكهم اليون، وقد ملكهم سبع سنين، وملكوا عليهم ميخائيل نائبه‏.‏

وفيها‏:‏ قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، لأنه قال للمأمون‏:‏ يا أمير الكافرين‏.‏ فقتل صبراً بين يديه‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أسباط بن محمد، وأبو ضمرة، أنس بن عياض، ومسلم بن قتيبة، وعمر بن عبد الواحد، وابن أبي فديك، ومبشر بن إسماعيل، ومحمد بن جبير، ومعاذ بن هشام‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى ومائتين

فيها‏:‏ راود أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك، فراودوه على أن يكون نائباً للمأمون يدعو له في الخطبة فأجابهم إلى ذلك، وقد أخرجوا علي بن هشام نائب الحسن بن سهل من بين أظهرهم بعد أن جرت حروب كثيرة بسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ عم البلاء بالعيَّارين والشطار والفساق ببغداد وما حولها من القرى، كانوا يأتون الرجل يسألونه مالاً يقرضهم أو يصلهم به فيمتنع عليهم فيأخذون جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل القرية فيستاقون من الأنعام والمواشي، ويأخذون ما شاؤوا من الغلمان والنسوان، ونهبوا أهل قطر بل ولم يدعوا لهم شيئاً أصلاً‏.‏

فانتدب لهم رجل يقال له‏:‏ خالد الدريوش، وآخر يقال له‏:‏ سهل بن سلامة أبو حاتم الأنصاري من أهل خراسان‏.‏

والتف عليهم جماعة من العامة فكفوا شرهم وقاتلوهم، ومنعوهم من الفساد في الأرض، واستقرت الأمور كما كانت، وذلك في شعبان ورمضان‏.‏

وفي شوال منها‏:‏ رجع الحسن بن سهل إلى بغداد وصالح الجند، وانفصل منصور بن المهدي ومن وافقه من الأمراء‏.‏

وفيها‏:‏ بايع المأمون لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه‏:‏ الرضى من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين‏.‏

وذلك أن المأمون رأى أن علياً الرضى خير أهل البيت وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده‏.‏ 

 

بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي

لما جاء الخبر أن المأمون بايع لعلي الرضى بالولاية من بعده اختلفوا فيما بينهم، فمن مجيب مبايع ومن آب ممانع، وجمهور العباسيين على الامتناع من ذلك، وقام في ذلك ابنا المهدي إبراهيم ومنصور‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة أظهر العباسيون البيعة لإبراهيم بن المهدي ولقبوه‏:‏ المبارك - وكان أسود اللون - ومن بعده لابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي، وخلعوا المأمون‏.‏

فلما كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة أرادوا أن يدعوا للمأمون ثم من بعده لإبراهيم فقالت العامة‏:‏ لا تدعوا إلا إلى إبراهيم فقط، واختلفوا واضطربوا فيما بينهم، ولم يصلوا الجمعة، وصلى الناس فرادى أربع ركعات‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز‏.‏

وذكر ابن حزم أن سلماً الخاسر قال في ذلك شعراً‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلماً توفي قبل ذلك بسنتين، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة شديدة وغلا الطعام جداً‏.‏

وفيها‏:‏ تحرك بابك الخرَّمي واتبعه طوائف من السفلة والجهلة وكان يقول بالتناسخ‏.‏ وسيأتي ما آل أمره إليه‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أبو أسامة حماد بن أسامة، وحماد بن مسعدة، وحرسي بن عمارة، وعلي بن عاصم، ومحمد بن محمد، صاحب أبي السرايا، الذي قد كان بايعه أهل الكوفة بعد ابن طباطبا‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين

فيها‏:‏ وصل المأمون العراق ومر بطوس فنزل بها وأقام عند قبر أبيه أياماً من شهر صفر، فلما كان في آخر الشهر أكل علي بن موسى الرضى عنباً فمات فجأة فصلى عليه المأمون ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد، وأسف عليه أسفاً كثيراً فيما ظهر، وكتب إلى الحسن بن سهل يعزيه فيه ويخبره بما حصل له من الحزن عليه‏.‏

وكتب إلى بني العباس يقول لهم‏:‏ إنكم إنما نقمتم عليَّ بسبب توليتي العهد من بعدي لعلي بن موسى الرضى، وهاهو قد مات فارجعوا إلى السمع والطاعة‏.‏

فأجابوه بأغلظ جواب كتب به إلى أحد‏.‏

وفيها‏:‏ تغلبت الثوار على الحسن بن سهل حتى قيد بالحديد وأودع في بيت، فكتب الأمراء بذلك إلى المأمون، فكتب إليهم إني واصل على إثر كتابي هذا‏.‏

ثم جرت حروب كثيرة بين إبراهيم وأهل بغداد، وتنكروا عليه وأبغضوه‏.‏

وظهرت الفتن والشطار والفساق ببغداد وتفاقم الحال، وصلوا يوم الجمعة ظهراً، أمَّهم المؤذنون فيها من غير خطبة، صلوا أربع ركعات، واشتد الأمر واختلف الناس فيما بينهم في إبراهيم والمأمون، ثم غلبت المأمونية عليهم‏.‏

 

 

خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي

لما كان يوم الجمعة المقبلة دعا الناس للمأمون وخلعوا إبراهيم، وأقبل حميد بن عبد الحميد في جيش من جهة المأمون فحاصر بغداد‏.‏

وطمَّع جندها في العطاء إذا قدم فطاوعوه على السمع والطاعة للمأمون‏.‏

وقد قاتل عيسى بن محمد بن أبي خالد في جماعة من جهة إبراهيم بن المهدي، ثم احتال عيسى حتى صار في أيدي المأمونية أسيراً، ثم آل الحال إلى اختفاء إبراهيم بن المهدي في آخر هذه السنة‏.‏

وكانت أيامه سنة وإحدى عشر شهراً واثني عشر يوماً‏.‏

وقدم المأمون في هذا الوقت إلى همذان وجيوشه قد استنقذوا بغداد إلى طاعته‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

علي بن موسى

ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي العلوي، الملقب‏:‏ بالرضى، كان المأمون قد همَّ أن ينزل له عن الخلافة فأبى عليه ذلك، فجعله ولي العهد من بعده كما قدمنا ذلك‏.‏

توفي في صفر من هذه السنة بطوس‏.‏

وقد روى الحديث عن‏:‏ أبيه، وغيره‏.‏

وعنه جماعة، منهم‏:‏ المأمون، وأبو السلط الهروي، وأبو عثمان المازني النحوي‏.‏

وقال‏:‏ سمعته يقول‏:‏ الله أعدل من أن يكلف العباد ما لا يطيقون، وهم أعجز من أن يفعلوا ما يريدون‏.‏

ومن شعره‏:‏

كلنا يأمل مدَّاً في الأجل * والمنايا هن آفات الأمل

لا تغرنَّك أباطيل المنى * والزم القصد ودع عنك العلل

إنما الدنيا كظل زائل * حلَّ فيه راكب ثم ارتحل

 ثم دخلت سنة أربع ومائتين

فيها‏:‏ كان قدوم المأمون أرض العراق، وذلك أنه مرَّ بجرجان فأقام بها شهراً، ثم سار منها وكان ينزل في المنزل يوماً أو يومين، ثم جاء إلى النهروان فأقام بها ثمانية أيام، وقد كتب إلى طاهر بن الحسين وهو بالرقة أن يوافيه إلى النهروان فوافاه بها وتلقاه رؤوس أهل بيته والقواد وجمهور الجيش‏.‏

فلما كان يوم السبت الآخر دخل بغداد حين ارتفع النهار لأربع عشرة ليلة خلت من صفر، في أبهة عظيمة وجيش عظيم، وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجميع بني هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحول إلى قصر على دجلة، وجعل الأمراء ووجوه الدولة يترددون إلى منزله على العادة، وقد تحول لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا يحرقون كل ما يجدونه من السواد، فمكثوا كذلك ثمانية أيام‏.‏

ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين فكان أول حاجة سألها أن يرجع إلى لباس السواد، فإنه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبياء‏.‏

فلما كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين من صفر جلس المأمون للناس وعليه الخضرة، ثم إنه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهراً، ثم ألبس بعده جماعة من الأمراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعاً وعشرين يوماً، فالله أعلم‏.‏

ولما جاء إليه عمه إبراهيم بن المهدي بعد اختفائه ست سنين وشهوراً قال له المأمون‏:‏ أنت الخليفة الأسود‏.‏

فأخذ في الاعتذار والاستغفار‏.‏

ثم قال‏:‏ أنا الذي مننت عليه يا أمير المؤمنين بالعفو، وأنشد المأمون عند ذلك‏:‏

ليس يزري السواد بالرجل الشهم * ولا بالفتى الأديب الأريب

إن يكن للسواد منك نصيب * فبياض الأخلاق منك نصيبي

قال ابن خلكان‏:‏ وقد نظم هذا المعنى بعض المتأخرين وهو نصر الله بن قلانس الإسكندري فقال‏:‏

رب سوداء وهي بيضاء فعل * حسد المسك عندها الكافور

مثل حبِّ العيون يحسبه الناس * سواداً وإنما هو نور

وكان المأمون قد شاور في قتل عمه إبراهيم بن المهدي بعض أصحابه فقال له أحمد بن خالد الوزير الأحول‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن قتلته فلك نظراء في ذلك، وإن عفوت عنه فما لك نظير‏.‏

ثم شرع المأمون في بناء قصور على دجلة إلى جانب قصره، وسكنت الفتن وانزاحت الشرور، وأمر بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف‏.‏

واتخذ القفيز الملحم وهو‏:‏ عشرة مكاكي بالمكوك الأهوازي، ووضع شيئاً كثيراً من خراجات بلاد شتى، ورفق بالناس في مواضع كثيرة‏.‏

وولى أخاه أبا عيسى بن الرشيد الكوفة، وولى أخاه صالحاً البصرة، وولى عبيد الله بن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب نيابة الحرمين، وهو الذي حج بالناس فيها‏.‏

وواقع يحيى بن معاذ بابك الخرَّمي فلم يظفر به‏.‏

وفيها توفي من الأعيان جماعة منهم‏:‏

 أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي

وقد أفردنا له ترجمة مطولة في أول كتابنا طبقات الشافعيين، ولنذكر ههنا ملخصاً من ذلك وبالله المستعان‏.‏

هو‏:‏ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، القرشي المطلبي‏.‏

والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر، وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة، وأمه أزدية‏.‏

وقد رأت حين حملت به كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية‏.‏

وقد ولد الشافعي بغزة، وقيل‏:‏ بعسقلان، وقيل‏:‏ باليمن، سنة خمسين ومائة‏.‏ 

ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه فنشأ بها وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ابن ثماني عشرة سنة‏.‏

أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي، وعني باللغة والشعر، وأقام في هذيل نحواً من عشر سنين، وقيل‏:‏ عشرين سنة، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ والأئمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته، وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي‏.‏

وروى عنه خلق كثير قد ذكرنا أسماءهم مرتبين على حروف المعجم‏.‏

وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، عن شبل، عن ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله عز وجل‏.‏

وأخذ الشافعي الفقه عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، منهم‏:‏ عمرو بن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم‏.‏

وكلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتفقه أيضاً على مالك عن مشايخه، وتفقه به جماعة قد ذكرناهم ومن بعدهم إلى زماننا في تصنيف مفرد‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم، عن أبي بشر الدولابي، عن محمد بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي‏:‏ أنه ولي الحكم بنجران من أرض اليمن، ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد أنه يروم الخلافة، فحمل على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة‏.‏

فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده‏.‏

وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة، وقيل‏:‏ بسنتين، وأكرمه محمد بن الحسن وكتب عنه الشافعي وقر بعير، ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار، وقيل‏:‏ خمسة آلاف دينار‏.‏

وعاد الشافعي إلى مكة ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني عمه، ثم عاد الشافعي إلى العراق في سنة خمس وتسعين ومائة، فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة منهم‏:‏ أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، والزعفراني، وغيرهم‏.‏

ثم رجع إلى مكة ثم رجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة، ثم انتقل منها إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، سنة أربع ومائتين‏.‏

وصنف بها كتابه الأم وهو من كتبه الجديدة لأنها من رواية الربيع بن سليمان، وهو مصري‏.‏

وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم، وهذا بعيد وعجيب من مثله، والله أعلم‏.‏

وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة منهم‏:‏ عبد الرحمن بن مهدي، وسأله أن يكتب له كتاباً في الأصول فكتب له الرسالة، وكان يدعو له في الصلاة دائماً، وشيخه مالك بن أنس‏.‏

وقتيبة بن سعيد‏.‏ وقال‏:‏ هو إمام‏.‏

وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وكان يدعو له أيضاً في صلاته‏.‏

وأبو عبيد، وقال‏:‏ ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي‏.‏

ويحيى بن أكثم القاضي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن الحسن، وغير واحد ممن يطول ذكرهم وشرح أقوالهم‏.‏ 

وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحواً من أربعين سنة، وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود، من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا جعفر بن سليمان، عن نصر بن معبد الكندي - أو العبدي -، عن الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرض علماً، اللهم إنك أذقت أولها عذاباً ووبالاً فأذق آخرها نوالاً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا غريب من هذا الوجه، وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه‏.‏

قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد الإسفراييني‏:‏ لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي‏.‏ حكاه الخطيب‏.‏

وقال يحيى بن معين، عن الشافعي‏:‏ هو صدوق لا بأس به‏.‏

وقال مرة‏:‏ لو كان الكذب له مباحاً مطلقاً لكانت مروءته تمنعه أن يكذب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ الشافعي فقيه البدن، صدوق اللسان‏.‏

وحكى بعضهم عن أبي زرعة أنه قال‏:‏ ما عند الشافعي حديث غلط فيه‏.‏ وحكي عن أبي داود نحوه‏.‏

وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - وقد سئل‏:‏ هل سنَّة لم تبلغ الشافعي‏؟‏ - فقال‏:‏ لا ‏!‏‏.‏

ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها، وتارة مرسلة، وتارة منقطعة كما هو الموجود في كتبه، والله أعلم‏.‏

وقال حرملة‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ سميت ببغداد‏:‏ ناصر السنة‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ ما رأينا مثل الشافعي ولا هو رأى مثل نفسه‏.‏

وكذا قال الزعفراني وغيره‏.‏

وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي‏:‏ للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من‏:‏ شرف نسبه، وصحة دينه ومعتقده، وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه، وحفظه الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف، وجودة الأصحاب والتلامذة، مثل‏:‏ أحمد بن حنبل في زهده وورعه، وإقامته على السنة‏.‏

ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين، وكذا عدَّ أبو داود من جملة تلاميذه في الفقه‏:‏ أحمد بن حنبل‏.‏

وقد كان الشافعي من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة، وأشد الناس نزعاً للدلائل منهما، وكان من أحسن الناس قصداً وإخلاصاً، كان يقول‏:‏ وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً فأوجز عليه ولا يحمدوني‏.‏

وقد قال غير واحد، عنه‏:‏ إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا به ودعوا قولي، فإني أقول به، وإن لم تسمعوا مني‏.‏

وفي رواية‏:‏ فلا تقلدوني‏.‏

وفي رواية‏:‏ فلا تلتفتوا إلى قولي‏.‏

وفي رواية‏:‏ فاضربوا بقولي عرض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال‏:‏ لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء

وفي رواية‏:‏ خير من أن يلقاه بعلم الكلام‏.‏

وقال‏:‏ لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد‏.‏

وقال‏:‏ حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام‏.‏

وقال البويطي‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صواباً‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزاهم الله خيراً، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل‏.‏

ومن شعره في هذا المعنى قوله‏:‏

كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا * وما سوى ذاك وسواس الشياطين

وكان يقول‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال‏:‏ مخلوق، فهو كافر‏.‏

وقد روى عن الربيع وغير واحد من رؤوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، على طريقة السلف‏.‏

وقال ابن خزيمة‏:‏ أنشدني المزني وقال أنشدنا الشافعي لنفسه قوله‏:‏

ما شئت كان وإن لم أشأ * وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت * ففي العلم يجري الفتى والمسن

فمنهم شقي ومنهم سعيد * ومنهم قبيح ومنهم حسن

على ذا مننت وهذا خذلت * وهذا أعنت وذا لم تعن

وقال الربيع‏:‏ سمعت الشافعي، يقول‏:‏ أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي‏.‏

وعن الربيع قال‏:‏ أنشدني الشافعي‏:‏

قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعاً * في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل

حتى استخف بحق الله أكثرهم * وفي الذي حملوا من حقه شغل

وقد ذكرنا من شعره في السنة وكلامه فيها وفيما قال من الحكم والمواعظ طرفاً صالحاً في الذي كتبناه في أول طبقات الشافعية‏.‏

وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل‏:‏ يوم الجمعة، في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وعن أربع وخمسين سنة‏.‏

وكان أبيض جميلاً طويلاً مهيباً يخضب بالحناء، مخالفاً للشيعة رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن الفرات، وأشهب بن عبد العزيز المصري المالكي، والحسن بن زياد، اللؤلؤي الكوفي الحنفي وأبو داود سليمان بن داود، الطيالسي، صاحب المسند، أحد الحفاظ‏.‏

وأبو بدر شجاع بن الوليد، وأبو بكر الحنفي، وعبد الكريم، وعبد الوهاب بن عطا الخفاف، والنضر بن شميل، أحد أئمة اللغة‏.‏

وهشام بن محمد بن السائب، الكلبي، أحد علماء التاريخ‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس ومائتين

فيها‏:‏ ولى المأمون طاهر بن الحسين بن مصعب نيابة بغداد والعراق وخراسان إلى أقصى عمل المشرق، ورضي عنه ورفع منزلته جداً، وذلك لأجل مرض الحسن بن سهل بالسواد‏.‏

وولى المأمون مكان طاهر على الرقة والجزيرة يحيى بن معاذ‏.‏

وقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى بغداد في هذه السنة، وكان أبوه قد استخلفه على الرقة وأمره بمقاتلة نصر بن شبث‏.‏

وولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي مقاتلة الزط‏.‏

وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أذربيجان‏.‏

ومات نائب مصر السري بن الحكم بها، ونائب السند داود بن يزيد، فولى مكانه بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم‏.‏

وحج بالناس فيها عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إسحاق بن منصور السلولي، وبشر بن بكر الدمشقي، وأبو عامر العقدي، ومحمد بن عبيد الطنافسي، ويعقوب الحضري‏.‏

وأبو سليمان الداراني

عبد الرحمن بن عطية، وقيل‏:‏ عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل‏:‏ عبد الرحمن بن عسكر‏.‏

أبو سليمان الداراني، أحد أئمة العلماء العاملين، أصله من واسط، سكن قرية غربي دمشق يقال لها‏:‏ داريا‏.‏

وقد سمع الحديث من‏:‏ سفيان الثوري، وغيره‏.‏

وروى عنه‏:‏ أحمد بن أبي الحواري، وجماعة‏.‏

وأسند الحافظ ابن عساكر من طريقه، قال‏:‏ سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد، يقول‏:‏ سمعت إبراهيم بن أدهم، يقول‏:‏ سمعت ابن عجلان يذكر، عن القعقاع بن حكيم، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من صلى قبل الظهر أربعاً غفر الله ذنوبه يومه ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ حكي عن أبي سليمان الداراني، قال‏:‏ اختلفت إلى مجلس قاصٍّ فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية فأثر في قلبي بعد ما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق، فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ، فقال‏:‏ عصفور اصطاد كركياً - يعني‏:‏ بالعصفور القاص، وبالكركي‏:‏ أبا سليمان -‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان، يقول‏:‏ ليس لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر، فإذا سمع به في الأثر عمل به فكان نوراً على نور‏.‏ 

وقال الجنيد‏:‏ قال أبو سليمان‏:‏ ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين‏:‏ الكتاب والسنة‏.‏

قال‏:‏ وقال أبو سليمان‏:‏ أفضل الأعمال خلاف هوى النفس‏.‏

وقال‏:‏ لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله‏.‏

وقال‏:‏ لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن‏.‏

وقال‏:‏ كل ما شغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو شؤم‏.‏

وقال‏:‏ كنت ليلة في المحراب أدعو ويداي ممدوتان فغلبني البرد فضممت إحداهما وبقيت الأخرى مبسوطة أدعو بها، وغلبتني عيني فنمت فهتف بي هاتف‏:‏ يا أبا سليمان ‏!‏ قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها‏.‏

قال‏:‏ فآليت على نفسي ألا أدعو إلا ويداي خارجتان حراً كان أو برداً‏.‏

وقال‏:‏ نمت ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي‏:‏ تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام ‏؟‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان، يقول‏:‏ إن في الجنة أنهاراً على شاطئيها خيام فيهن الحور، ينشئ الله خلق الحوراء إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، الواحدة منهن جالسة على كرسي من ذهب ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها من جانب الكرسي، فيجيء أهل الجنة من قصورهم يتنزهون على شاطئ تلك الأنهار ما شاؤوا ثم يخلو كل رجل بواحدة منهن‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ كيف يكون في الدنيا حال من يريد افتضاض الأبكار على شاطئ تلك الأنهار في الجنة‏.‏

وقال‏:‏ سمعت أبا سليمان يقول‏:‏ ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحة بآية واحدة أتفكر في معانيها، ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير العقل، فسبحان من يرده بعد‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، ومفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع‏.‏

وقال لي يوماً‏:‏ يا أحمد ‏!‏ جوع قليل، وعري قليل، وفقر قليل، وصبر قليل، وقد انقضت عنك أيام الدنيا‏.‏

وقال أحمد‏:‏ اشتهى أبو سليمان يوماً رغيفاً حاراً بملح فجئته به فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي ويقول‏:‏ يا رب عجلت لي شهوتي، لقد أطلت جهدي وشقوتي وأنا تائب‏؟‏ فلم يذق الملح حتى لحق بالله عز وجل‏.‏

قال‏:‏ وسمعته يقول‏:‏ ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ من حسن ظنه بالله ثم لم يخفه ويطعه فهو مخدوع‏.‏

وقال‏:‏ ينبغي للخوف أن يكون على العبد أغلب الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب‏.‏

وقال لي يوماً‏:‏ هل فوق الصبر منزلة ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏ - يعني‏:‏ الرضا -‏.‏

فصرخ صرخة غشي عليه ثم أفاق فقال‏:‏ إذا كان الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، فما ظنك بالأخرى وهم الذين رضي عنهم‏.‏

وقال‏:‏ ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها أنفقه في وجوه البر، وإني أغفل عن الله طرفة عين‏.‏

وقال‏:‏ قال زاهد لزاهد‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ ما عندي زيادة‏.‏

وقال‏:‏ من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليلة كوفئ في نهاره، ومن صدق في

ترك شهوة أذهبها الله من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له‏.‏

وقال‏:‏ إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة، وإذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الدنيا لئيمة والآخرة كريمة، وما ينبغي لكريم أن يزاحم لئيماً‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ بتُّ ليلة عند أبي سليمان فسمعته يقول‏:‏ وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بكرمك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرن أهل النار أني أحبك‏.‏

وكان يقول‏:‏ لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي‏.‏

وكان يقول‏:‏ ما خلق الله خلقاً أهون عليَّ من إبليس، ولولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً، ولو تبدَّى لي ما لطمت إلا صفحة وجهه‏.‏

وقال‏:‏ إن اللص لا يجيء إلى خربة ينقب حيطانها وهو قادر على الدخول إليها من أي مكان شاء، وإنما يجيء إلى البيت المعمور، كذلك إبليس لا يجيء إلا كل قلب عامر ليستنزله وينزله عن كرسيه ويسلبه أعز شيء‏.‏

وقال‏:‏ إذا أخلص العبد انقطعت عنه الوساوس والرؤيا‏.‏

وقال‏:‏ الرؤيا - يعني‏:‏ الجنابة -‏.‏

وقال‏:‏ مكثت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة ففاتتني صلاة العشاء جماعة فاحتلمت تلك الليلة‏.‏

وقال‏:‏ إن من خلق الله قوماً لا يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون بالدنيا عنه ‏؟‏‏.‏

وقال‏:‏ الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة فما الزهد فيها، وإنما الزهد في الجنان والحور العين، حتى لا يرى الله في قلبك غيره‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ شيء يروى عن أبى سليمان، أنا استحسنته كثيراً قوله‏:‏ من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس‏.‏

وقال‏:‏ خير السخاء ما وافق الحاجة‏.‏

وقال‏:‏ من طلب الدنيا حلالاً واستغناء عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً مفاخراً ومكاثراً لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان‏.‏

وقد روي نحو هذا مرفوعاً‏.‏

وقال‏:‏ إن قوماً طلبوا الغنى في المال وجمعه فأخطأوا من حيث ظنوا، ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق وإنما هي في التقوى، وطلبوا التنعم في اللباس الرقيق اللين، والطعام الطيب، والمسكن الأنيق المنيف، وإنما هو في الإسلام والإيمان، والعمل الصالح، والستر والعافية، وذكر الله‏.‏

وقال‏:‏ لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وما أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل‏.‏

وقال‏:‏ أهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم‏.‏

وقال‏:‏ ربما استقبلني الفرح في جوف الليل، وربما رأيت القلب يضحك ضحكاً‏.‏

وقال‏:‏ إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً فأقول‏:‏ إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان يقول‏:‏ بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا

أنا بها - يعني‏:‏ الحوراء - قد ركضتني برجلها فقالت‏:‏ حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم‏؟‏ بؤساً لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضاً، فما هذا الرقاد‏؟‏ حبيبي وقرَّة عيني أترقد عيناك وأنا أتربى لك في الخدود منذ كذا وكذا ‏؟‏

قال‏:‏ فوثبت فزعاً وقد عرقت حياء من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي

وقال أحمد‏:‏ دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي، فقلت‏:‏ مالك ‏؟‏

فقال‏:‏ زجرت البارحة في منامي‏.‏

قلت‏:‏ ما الذي زجرك ‏؟‏

قال‏:‏ بينا أنا نائم في محرابي إذ وقفت عليّ جارية تفوق الدنيا حسناً، وبيدها ورقة وهي تقول‏:‏ أتنام يا شيخ ‏؟‏

فقلت‏:‏ من غلبت عينه نام ‏؟‏

قالت‏:‏ كلا إن طالب الجنة لا ينام، ثم قالت‏:‏ أتقرأ ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ فأخذت الورقة من يدها فإذا فيها مكتوب‏:‏

لهت بك لذة عن حسن عيش * مع الخيرات في غرف الجنان

تعيش مخلداً لا موت فيها * وتنعم في الجنان مع الحسان

تيقظ من منامك إن خيراً * من النوم التهجد في القرآن

وقال أبو سليمان‏:‏ أما يستحي أحدكم أن يلبس عباءة بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم ‏؟‏

وقال أيضاً‏:‏ لا يجوز لأحد أن يظهر للناس الزهد والشهوات في قلبه، فإذا لم يبق في قلبه شيء من الشهوات جاز له أن يظهر إلى الناس الزهد بلبس العبا فإنها علم من أعلام الزهاد، ولو لبس ثوبين أبيضين ليستر بهما أبصار الناس عنه وعن زهده كان أسلم لزهده من لبس العبا‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت الصوفي يتنوق في لبس الصوف فليس بصوفي، وخيار هذه الأمة أصحاب القطن، أبو بكر الصديق وأصحابه‏.‏

وقال غيره‏:‏ إذا رأيت ضوء الفقير في لباسه فاغسل يديك من فلاحه‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ الأخ الذي يعظك برؤيته قبل كلامه، وقد كنت أنظر إلى الأخ من أصحابي بالعراق فأنتفع برؤيته شهراً‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏عبدي إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت زلاتك من أم الكتاب ولم أناقشك الحساب يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ سألت أبا سليمان عن الصبر فقال‏:‏ والله إنك لا تقدر عليه في الذي تحب فكيف تقدر عليه فيما تكره‏؟‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ تنهدت عنده يوماً فقال‏:‏ إنك مسؤول عنها يوم القيامة، فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك، وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك‏.‏

وقال‏:‏ إنما رجع من رجع من الطريق قبل وصول ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا‏.‏

وقال‏:‏ إنما عصى الله من عصاه لهوانهم عليه، ولو عزوا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه، وحال بينهم وبينها‏.‏

وقال‏:‏ جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالاً‏:‏ الكرم، والحلم، والعلم، والحكمة، والرأفة، والرحمة، والفضل، والصفح، والإحسان، والبر، والعفو، واللطف‏.‏

وذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب محن المشايخ أن أبا سليمان الداراني أخرج من دمشق‏.‏

وقالوا‏:‏ إنه يرى الملائكة ويكلمونه، فخرج إلى بعض الثغور فرأى بعض أهل الشام في منامه أنه إن لم يرجع إليهم هلكوا‏.‏

فخرجوا في طلبه وتشفعوا وتذللوا له حتى ردوه‏.‏

وقد اختلف الناس في وفاته على أقوال‏:‏

فقيل‏:‏ مات سنة أربع ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة خمس ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ خمس عشرة ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة خمس وثلاثين ومائتين، فالله أعلم‏.‏

وقد قال مروان الطاطري يوم مات أبو سليمان‏:‏ لقد أصيب به أهل الإسلام كلهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد دفن في قرية داريا في قبلتها، وقبره بها مشهور وعليه بناء، وقبلته مسجد بناه الأمير ناهض الدين عمر النهرواني، ووقف على المقيمين عنده وقفاً يدخل عليهم منه غلة، وقد جدد مزاره في زماننا هذا‏.‏ ولم أر ابن عساكر تعرض لموضع دفنه بالكلية، وهذا منه عجيب‏.‏

وروى ابن عساكر، عن أحمد بن أبي الحواري، قال‏:‏ كنت أشتهي أن أرى أبا سليمان في المنام فرأيته بعد سنة‏.‏

فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك يا معلم ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أحمد دخلت يوماً من باب الصغير فرأيت حمل شيح فأخذت منه عوداً فما أدري تخللت به أو رميته، فأنا في حسابه إلى الآن‏.‏

وقد توفي ابنه سليمان بعده بنحو من سنتين رحمهما الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست ومائتين

فيها‏:‏ ولى المأمون داود بن ماسجور بلاد البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين، وأمره بمحاربة الزط‏.‏

وفيها‏:‏ جاء مد كثير فغرق أرض السواد وأهلك للناس شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المأمون عبد الله بن طاهر بن الحسين أرض الرقة وأمره بمحاربة نصر بن شبث، وذلك أن نائبها يحيى بن معاذ مات وقد كان استخلف مكانه ابنه أحمد فلم يمض ذلك المأمون، واستناب عليه عبد الله بن طاهر لشهامته وبصره بالأمور، وحثه على قتال نصر بن شبث، وقد كتب إليه أبوه من خراسان بكتاب فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الكتاب والسنة‏.‏

وقد ذكره ابن جرير بطوله، وقد تداوله الناس بينهم واستحسنوه وتهادوه بينهم، حتى بلغ أمره إلى المأمون فأمر فقرئ بين يديه فاستجاده جداً، وأمر أن يكتب به نسخ إلى سائر العمال في الأقاليم‏.‏

وحج بالناس عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين‏.‏

وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن بشر الكاهلي، أبو حذيفة، صاحب كتاب المبتدأ‏.‏

وحجاج بن محمد الأعور، وداود بن المحبر، الذي وضع كتاب العقل‏.‏

وسبابة بن سوار ‏(‏شبابة‏)‏، ومحاضر بن المورد، وقطرب، صاحب المثلث في اللغة‏.‏

ووهب بن جرير، ويزيد بن هارون، شيخ الإمام أحمد‏.‏

ثم دخلت سنة سبع ومائتين

فيها‏:‏ خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك في اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وذلك لما أساء العمال السيرة وظلموا الرعايا، فلما ظهر بايعه الناس‏.‏

فبعث إليه المأمون دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب أمان لعبد الرحمن هذا إن هو سمع وأطاع، فحضروا الموسم ثم ساروا إلى اليمن، وبعثوا بالكتاب إلى عبد الرحمن فسمع وأطاع وجاء حتى وضع يده في يد دينار، فساروا به إلى بغداد، ولبس السواد فيها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ توفي طاهر بن الحسين بن مصعب نائب العراق وخراسان بكمالها، وجد في فراشه ميتاً بعد ما صلى العشاء الآخرة والتف في الفراش، فاستبطأ أهله خروجه لصلاة الفجر فدخل عليه أخوه وعمه فوجداه ميتاً‏.‏

فلما بلغ موته المأمون قال‏:‏ لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا‏.‏

وذلك أنه بلغه أن طاهراً خطب يوماً ولم يدع للمأمون فوق المنبر، ومع هذا ولى ولده عبد الله مكانه وأضاف إليه زيادة على ما كان ولاه أباه الجزيرة والشام نيابة، فاستخلف على خراسان أخاه طلحة بن طاهر سبع سنين، ثم توفي طلحة فاستقل عبد الله بجميع تلك البلاد، وكان نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، وكان طاهر بن الحسين هو الذي انتزع بغداد والعراق من يد الأمين وقتله‏.‏

وقد دخل طاهر يوماً على المأمون فسأله حاجة فقضاها له، ثم نظر إليه المأمون واغرورقت عيناه فقال له طاهر‏:‏ ما يبكيك يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فلم يخبره، فأعطى طاهر حسيناً الخادم مائتي ألف درهم حتى استعلم له مما بكى أمير المؤمنين فأخبره المأمون وقال‏:‏ لا تخبر به أحداً وإلا أقتلك، إني ذكرت قتله لأخي وما ناله من الإهانة على يدي طاهر، ووالله لا تفوته مني‏.‏

فلما تحقق طاهر ذلك سعى في النقلة من بين يدي المأمون، ولم يزل حتى ولاه خراسان وأطلق له خادماً من خدامه، وعهد المأمون إلى الخادم إن رأى منه شيئاً يريبه أن يسمَّه، ودفع إليه سماً لا يطاق‏.‏

فلما خطب طاهر ولم يدع للمأمون سمَّه الخادم في كامخ فمات من ليلته‏.‏

وقد كان طاهر هذا يقال له‏:‏ ذو اليمينين، وكان أعور بفرد عين‏.‏

فقال فيه عمرو بن نباتة‏:‏

ياذا اليمينين وعين واحدة * نقصان عين ويمين زائدة

واختلف في معنى قوله ذو اليمينين فقيل‏:‏ لأنه ضرب رجلاً بشماله فقدَّه نصفين‏.‏

وقيل‏:‏ لأنه ولي العراق وخراسان‏.‏

وقد كان كريماً ممدحاً يحب الشعراء ويعطيهم الجزيل، ركب يوماً في حراقة فقال فيه شاعر‏:‏

عجبت لحرَّاقة ابن الحسين * لا غرقت كيف لا تغرق

وبحران من فوقها واحد * وآخر من تحتها مطبق

وأعجب من ذلك أعوادها * وقد مسّها كيف لا تورق 

فأجازه بثلاثة آلاف دينار‏.‏

وقال‏:‏ إن زدتنا زدناك‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بعض الرؤساء وقد ركب البحر‏:‏

ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعاً * إلى الله يا مجري الرياح بلطفه

جعلت الندا من كفه مثل موجه * فسلَّمه واجعل موجه مثل كفه

مات طاهر بن الحسين هذا يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع ومائتين، وكان مولده سنة سبع وخمسين، وكان الذي سار إلى ولده عبد الله إلى الرقة يعزيه في أبيه ويهنيه بولاية تلك البلاد، القاضي يحيى بن أكثم عن أمر المأمون‏.‏

وفيها‏:‏ غلا السعر ببغداد والكوفة والبصرة، حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة أربعين درهماً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أبو علي بن الرشيد أخو المأمون‏.‏

وفيها توفي‏:‏ بشر بن عمر الزهراني، وجعفر بن عون، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وقراد بن نوح، وكثير بن هشام، ومحمد بن كناسة، ومحمد بن عمر الواقدي، قاضي بغداد، وصاحب السير والمغازي‏.‏

وأبو النضر هاشم بن القاسم، والهيثم بن عدي، صاحب التصانيف‏.‏

يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور

أبو زكريا الكوفي، نزيل بغداد، مولى بني سعد، المشهور بالفراء، شيخ النحاة واللغويين والقراء‏.‏

كان يقال له‏:‏ أمير المؤمنين في النحو‏.‏

وروى الحديث عن حازم بن الحسن البصري، عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان مالك يوم الدين بألف‏)‏‏)‏‏.‏

رواه الخطيب قال‏:‏ وكان ثقةً إماماً‏.‏

وذكر أن المأمون أمره بوضع كتاب في النحو فأملاه وكتبه الناس عنه، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وأنه كان يؤدب ولديه وليي العهد من بعده، فقام يوماً فابتدراه أيهما يقدم نعليه، فتنازعا في ذلك ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعلاً، فأطلق لهما أبوهما عشرين ألف دينار، وللفراء عشرة آلاف درهم‏.‏ 

وقال له‏:‏ لا أعز منك إذ يقدم نعليك ولدا أمير المؤمنين ووليا العهد من بعده‏.‏

وروي أن بشر المريسي أو محمد بن الحسن سأل الفراء عن رجل سها في سجدتي السهو فقال‏:‏ لا شيء عليه‏.‏

قال‏:‏ ولم ‏؟‏

قال‏:‏ لأن أصحابنا قالوا المصغر لا يصغر‏.‏

فقال‏:‏ ما رأيت أن امرأة تلد مثلك‏.‏

والمشهور أن محمداً هو الذي سأله عن ذلك، وكان ابن خالة الفراء‏.‏

وقال أبو بكر من محمد بن يحيى الصولي‏:‏ توفي الفراء سنة سبع ومائتين‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كانت وفاته ببغداد‏.‏

وقيل‏:‏ بطريق مكة‏.‏ وقد امتدحوه وأثنوا عليه في مصنفاته‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان ومائتين

فيها‏:‏ ذهب الحسن بن الحسين بن مصعب أخو طاهر فاراً من خراسان إلى كرمان فعصى بها، فسار إليه أحمد بن أبي خالد فحاصره حتى نزل قهراً، فذهب به إلى المأمون فعفا عنه فاستحسن ذلك منه‏.‏

وفيها‏:‏ استعفى محمد بن سماعة من القضاء فأعفاه المأمون وولى مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي القضاء بعسكر المهدي في شهر المحرم، ثم عزله عن قريب وولى مكانه بشر بن سعيد بن الوليد الكندي في شهر ربيع الأول منها‏.‏

فقال المخزومي في ذلك‏:‏

ألا أيها الملك الموحد ربه * قاضيك بشر بن الوليد حمار

ينفي شهادة من يدين بما به * نطق الكتاب وجاءت الأخبار

ويعدُّ عدلاً من يقول بأنه * شيخ تحيط بجسمه الأقطار

وفيها‏:‏ حج بالناس صالح بن هارون الرشيد عن أمر أخيه المأمون‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

الأسود بن عامر، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن بكر، أحد مشايخ الحديث‏.‏

والفضل بن الربيع الحاجب، ومحمد بن مصعب، وموسى بن محمد، الأمين الذي كان قد ولاه العهد من بعده ولقبه‏:‏ بالناطق، فلم يتم له أمره حتى قتل أبوه، وكان ما كان كما تقدم‏.‏

ويحيى بن أبي بكر، ويحيى بن حسان، ويعقوب بن إبراهيم الزهري، ويونس بن محمد، المؤدب

 وفاة السيدة نفيسة

وهي‏:‏ نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، القرشية الهاشمية، كان أبوها نائباً للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين، ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها، وأودعه السجن ببغداد‏.‏

فلم يزل به حتى توفي المنصور فأطلقه المهدي وأطلق له كل ما كان أخذ منه، وخرج معه إلى الحج في سنة ثمان وستين ومائة، فلما كان بالحاجر توفي عن خمس وثمانين سنة‏.‏

وقد روى له النسائي حديثه، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهم محرم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ضعفه ابن معين وابن عدي، ووثقه ابن حبان‏.‏ وذكره الزبير بن بكار وأثنى عليه في رياسته وشهامته‏.‏

والمقصود‏:‏ أن ابنته نفيسة دخلت الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر، فأقامت بها وكانت ذات مال فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير‏.‏

ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه وكان ربما صلى بها في شهر رمضان‏.‏

وحين مات أمرت بجنازته فأدخلت إليها المنزل فصلت عليه‏.‏

ولما توفيت عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النبوية فمنعه أهل مصر من ذلك وسألوه أن يدفنها عندهم، فدفنت في المنزل الذي كانت تسكنه بمحلة كانت تعرف قديماً بدرب السباع بين مصر والقاهرة، وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكره ابن خلكان‏.‏

قال‏:‏ ولأهل مصر فيها اعتقاد‏.‏

قلت‏:‏ وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جداً، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظاً كثيرةً ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز‏.‏

وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته‏.‏

والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسويه القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام‏.‏

ومن زعم أنها تفك من الخشب أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها‏.‏

 الفضل بن الربيع

ابن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة كيسان مولى عثمان بن عفان، كان الفضل هذا متمكناً من الرشيد، وكان زوال دولة البرامكة على يديه، وقد وزر مرة للرشيد، وكان شديد التشبه بالبرامكة، وكانوا يتشبهون به، فلم يزل يعمل جهده فيهم حتى هلكوا كما تقدم‏.‏

وذكر ابن خلكان أن الفضل هذا دخل يوماً على يحيى بن خالد وابنه جعفر يوقع بين يديه، ومع الفضل عشر قصص فلم يقض له منها واحدة، فجمعهن الفضل بن الربيع وقال‏:‏ ارجعن خائبات خاسئات‏.‏

ثم نهض وهو يقول‏:‏

عسى وعسى يثني الزمان عنانه * بتصريف حال والزمان عثور

فتقضى لبانات وتشفى حزائز * وتحدث من بعد الأمور أمور

فسمعه الوزير يحيى بن خالد فقال له‏:‏ أقسمت عليك لما رجعت، فأخذ منه القصص فوقع عليها‏.‏

ثم لم يزل يحفر خلفهم حتى تمكن منهم وتولى الوزارة بعدهم، وفي ذلك يقول أبو نواس‏:‏

ما رعى الدهر آل برملك لما * أن رمى ملكهم بأمر فظيع

إن دهراً لم يرع ذمة ليحيى * غير راع ذمام آل الربيع

ثم وزر من بعد الرشيد لابنه الأمين فلما دخل المأمون بغداد اختفى فأرسل له المأمون أماناً فخرج فجاء فدخل على المأمون بعد اختفاء مدة فأمنه، ثم لم يزل خاملاً حتى مات في هذه السنة، وله ثمان وستون سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع ومائتين

فيها‏:‏ حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بعد ما حاربه خمس سنين وضيق عليه جداً حتى ألجأه إلى أن طلب منه الأمان، فكتب ابن طاهر إلى المأمون يعلمه بذلك، فأرسل إليه أن يكتب له أماناً عن أمير المؤمنين‏.‏

فكتب له كتاب أمان فنزل فأمر عبد الله بتخريب المدينة التي كان متحصناً بها، وذهب شره‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب مع بابك الخرَّمي فأسر بابك بعض أمراء الإسلام وأحد مقدمي العساكر، فاشتد ذلك على المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو والي مكة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي ملك الروم ميخائيل بن نقفور جرجس، وكان له عليهم تسع سنين، فملكوا عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل‏.‏

وفيها توفي من مشايخ الحديث‏:‏ الحسن بن موسى الأشيب، وأبو علي الحنفي، وحفص بن عبد الله، قاضي نيسابور‏.‏

وعثمان بن عمر بن فارس، ويعلى بن عبيد الطنافسي

 ثم دخلت سنة عشر ومائتين

في صفر منها‏:‏ دخل نصر بن شبث بغداد، بعثه عبد الله بن طاهر فدخلها ولم يتلقاه أحد من

الجند بل دخلها وحده، فأنزل في مدينة أبي جعفر ثم حول إلى موضع آخر‏.‏

وفي هذا الشهر‏:‏ ظفر المأمون بجماعة من كبراء من كان بايع إبراهيم بن المهدي فعاقبهم وحبسهم في المطبق، ولما كان ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر اجتاز إبراهيم بن المهدي - وكان مختفياً مدة ست سنين وشهوراً متنقباً في زي امرأة ومعه امرأتان - في بعض دروب بغداد في أثناء الليل‏.‏

فقام الحارس فقال‏:‏ إلى أين هذه الساعة‏؟‏ ومن أين ‏؟‏

ثم أراد أن يمسكهن فأعطاه إبراهيم خاتماً كان في يده من ياقوت، فلما نظر إليه استراب وقال‏:‏ إنما هذا خاتم رجل كبير الشأن، فذهب بهن إلى متولي الليل فأمرهن أن يسفرن عن وجوههن، فتمنع إبراهيم فكشفوا عن وجهه فإذا هو هو، فعرفه فذهب به إلى صاحب الجسر فسلمه إليه فرفعه الآخر إلى باب المأمون، فأصبح في دار الخلافة ونقابه على رأسه والملحفة في صدره ليراه الناس، وليعلموا كيف أخذ‏.‏

فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراس عليه مدة، ثم أطلقه ورضي عنه‏.‏

هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه لكونهم أرادوا الفتك بالموكلين بالسجن، فصلب منهم أربعة‏.‏

وقد ذكروا أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون أنبّه على ما كان منه فترقق له عمه إبراهيم كثيراً، وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك‏.‏

فقال‏:‏ بل أعفو يا إبراهيم، إن القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة وبينهما عفو الله عز وجل، وهو أكبر مما تسأله‏.‏

فكبر إبراهيم وسجد شكراً لله عز وجل‏.‏

وقد امتدح إبراهيم بن المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالغ فيها، فلما سمعها المأمون قال‏:‏ أقول كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ‏{‏لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏} ‏[‏يوسف‏:‏ ‏]‏‏.‏

وذكر ابن عساكر أن المأمون لما عفا عن عمه إبراهيم أمره أن يغنيه شيئاً فقال‏:‏ إني تركته‏.‏

فأمره فأخذ العود في حجره وقال‏:‏

هذا مقام سرور خربت منازله ودوره * نمت عليه عداته كذاباً فعاقبه أميره

ثم عاد فقال‏:‏

ذهبت من الدنيا وقد ذهبت عني * لوى الدهر بي عنها وولى بها عني

فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً * وإن أحتقرها أحتقرها على ضغن

وإني وإن كنت المسيء بعينه * فإني بربي موقن حَسَنُ الظن

عدوت على نفسي فعاد بعفوه * عليَّ فعاد العفو منا على منِّ 

فقال المأمون‏:‏ أحسنت يا أمير المؤمنين حقاً‏.‏

فرمى العود من حجره ووثب قائماً فزعاً من هذا الكلام، فقال له المأمون‏:‏ اجلس واسكن مرحباً بك وأهلاً، لم يكن ذلك لشيء تتوهمه، ووالله لا رأيت طول أيامي شيئاً تكرهه‏.‏

ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وخلع عليه، ثم أمر له برد جميع ما كان له من الأموال والضياع والدور فردت إليه، وخرج من عنده مكرماً معظماً‏.‏

عرس بوران

وفي رمضان منها‏:‏ بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل‏.‏

وقيل‏:‏ إنه خرج في رمضان إلى معسكر الحسن بن سهل بفم الصلح، وكان الحسن قد عوفي من مرضه، فنزل المأمون عنده بمن معه من وجوه الأمراء والرؤساء وأكابر بني هاشم، فدخل ببوران في شوال من هذه السنة في ليلة عظيمة وقد أشعلت بين يديه شموع العنبر، ونثر على رأسه الدر والجوهر، فوق حصر منسوجة بالذهب الأحمر‏.‏

وكان عدد الجوهر منه ألف درة، فأمر به فجمع في صينية من ذهب كان الجوهر فيها فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنا نثرناه لتتلقطه الجواري‏.‏

فقال‏:‏ لا أنا أعوضهن من ذلك‏.‏

فجمع كله، فلما جاءت العروس ومعها جدتها زبيدة أم أخيه الأمين - من جملة من جاء معها - فأجلست إلى جانبه فصب في حجرها ذلك الجوهر‏.‏

وقال‏:‏ هذا نحلة مني إليك وسلي حاجتك، فأطرقت حياء‏.‏

فقالت جدتها‏:‏ كلمي سيدك وسليه حاجتك فقد أمرك‏.‏

فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أسألك أن ترضى عن عمك إبراهيم بن المهدي، وأن ترده إلى منزلته التي كان فيها‏.‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏

قالت‏:‏ وأم جعفر - تعني‏:‏ زبيدة - تأذن لها في الحج‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فخلعت عليها زبيدة بذلتها الأميرية، وأطلقت له قرية مقورة‏.‏

وأما والد العروس الحسن بن سهل فإنه كتب أسماء قراه وضياعه وأملاكه في رقاع ونثرها على الأمراء ووجوه الناس، فمن وقعت بيده رقعة في قرية منها بعث إلى القرية التي فيها نوابه فسلمها إليه ملكاً خالصاً‏.‏

وأنفق على المأمون ومن كان معه من الجيش في مدة إقامته عنده سبعة عشر يوماً ما يعادل خمسين ألف ألف درهم‏.‏

ولما أراد المأمون الانصراف من عنده أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه البلد الذي هو نازل بها، وهو إقليم فم الصلح مضافاً إلى ما بيده من الإقطاعات‏.‏

ورجع المأمون إلى بغداد في أواخر شوال من هذه السنة‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ركب عبد الله بن طاهر إلى مصر فاستنقذها بأمر المأمون من يد عبيد الله بن السري بن الحكم المتغلب عليها، واستعادها منه بعد حروب يطول ذكرها‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أبو عمرو الشيباني، اللغوي، واسمه‏:‏ إسحاق بن مراد، ومروان بن محمد الطاطري، ويحيى بن إسحاق، والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

فيها توفي‏:‏ أبو الجواب، وطلق بن غنام، وعبد الرازق بن همام الصنعاني، صاحب المصنف والمسند، وعبد الله بن صالح العجلي‏.‏

 أبو العتاهية الشاعر المشهور

واسمه‏:‏ إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أصله من الحجاز، وقد كان تعشق جارية للمهدي اسمها‏:‏ عتبة، وقد طلبها منه غير مرة فإذا سمح له بها لم ترده الجارية، وتقول للخليفة‏:‏ أتعطيني لرجل ذميم الخلق كان يبيع الجرار ‏؟‏

فكان يكثر التغزل فيها، وشاع أمره واشتهر بها، وكان المهدي يفهم ذلك منه‏.‏

واتفق في بعض الأحيان أن المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الأعمى، فسمع صوت أبي العتاهية‏.‏

فقال بشار لجليسه‏:‏ أثَّم ههنا أبو العتاهية ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فانطلق يذكر قصيدته فيها التي أولها‏:‏

ألا ما لسيدتي مالها * أدلَّت فأجملَ إدلاها

فقال بشار لجليسه‏:‏ ما رأيت أجسر من هذا‏.‏

حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله‏:‏

أتته الخلافة منقادة * إليه تجررُ أذيالها

فلم تك تصلح إلا له * ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيره * لزلزلت الأرض زلزالها

ولو لم تطعه بنات القلوب * لما قبل الله أعمالها

فقال بشار لجليسه‏:‏ انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا ‏؟‏

قال‏:‏ فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس - وكان في طبقته وطبقة بشار - فقال أبو العتاهية لأبي نواس‏:‏ كم تعمل في اليوم من الشعر ‏؟‏

قال‏:‏ بيتاً أو بيتين‏.‏

فقال‏:‏ لكني أعمل المائة والمائتين‏.‏

فقال أبو نواس‏:‏ لعلك تعمل مثل قولك‏:‏

يا عتب مالي ولك * يا ليتني لم أرك

ولو عملت أنا مثل هذا لعملت الألف والألفين وأنا أعمل مثل قولي‏:‏

من كف ذات حر في زيَّ ذي ذكرٍ * لها محبان لوطيٌّ وزنَّاء

ولو أردت مثلي لأعجزك الدهر‏.‏ 

قال ابن خلكان‏:‏ ومن لطيف شعر أبي العتاهية‏:‏

إني صبوت إليك حـ * ـتى صرت من فرط التصابي

يجد الجليس إذا دنا * ريح التصابي في ثيابي

وكان مولده سنة ثلاثين ومائة‏.‏

وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث عشرة ومائتين‏.‏

وأوصى أن يكتب على قبره ببغداد‏:‏

إن عيشاً يكون آخره المو * ت لعيش معجل التنغيص

 ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائتين

فيها‏:‏ وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي على طريق الموصل لمحاربة بابك الخرَّمي في أرض أذربيجان، فأخذ جماعة من الملتفين عليه فبعث بهم إلى المأمون‏.‏

وفي ربيع الأول‏:‏ أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى، وهي‏:‏ القول بخلق القرآن، والثانية‏:‏ تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد أخطأ في كل منهما خطأً كبيراً فاحشاً، وأثم إثما عظيماً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أسد بن موسى، الذي يقال له‏:‏ أسد السنة، والحسن بن جعفر، وأبو عاصم النبيل، واسمه‏:‏ الضحاك بن مخلد، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، الشامي الدمشقي، ومحمد بن يونس الفريابي، شيخ البخاري‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

فيها‏:‏ ثار رجلان‏:‏ عبد السلام وابن جليس فخلعا المأمون واستحوذا على الديار المصرية، وتابعهما طائفة من القيسية واليمانية، فولى المأمون أخاه أبا إسحاق نيابة الشام، وولى ابنه العباس نيابة الجزيرة والثغور والعواصم، وأطلق لكل منهما ولعبد الله بن طاهر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فلم ير يوم أكثر إطلاقاً منه، أطلق فيه لهؤلاء الأمراء الثلاثة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار‏.‏ 

وفيها‏:‏ ولي السند غسان بن عباد‏.‏

وحج بالناس أمير السنة الماضية‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ عبد الله بن داود الجريني، وعبد الله بن يزيد المقري المصري، وعبد الله بن موسى العبسي، وعمرو بن أبي سلمة الدمشقي‏.‏

وحكى ابن خلكان أن بعضهم قال‏:‏ وفيها توفي‏:‏ إبراهيم بن ماهان الموصلي النديم، وأبو العتاهية، وأبو عمرو الشيباني النحوي، في يوم واحد ببغداد، ولكنه صحح أن إبراهيم النديم توفي سنة ثمان وثمانين ومائة‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وفيها توفي‏:‏ عبد الملك بن هشام، راوي السيرة عن ابن إسحاق، حكاه ابن خلكان عنه‏.‏

والصحيح أنه توفي سنة ثمان عشرة ومائتين، كما نص عليه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر‏.‏

 العكوك الشاعر

أبو الحسن بن علي بن جبلة الخراساني، يلقب‏:‏ بالعكوك، وكان من الموالي‏.‏

ولد أعمى، وقيل‏:‏ بل أصابه جدري وهو ابن سبع سنين، وكان أسود أبرص، وكان شاعراً مطبقاً فصيحاً بليغاً، وقد أثنى عليه في شعره الجاحظ فمن بعده‏.‏

قال‏:‏ ما رأيت بدوياً ولا حضرياً أحسن إنشاء منه‏.‏

فمن ذلك قوله‏:‏

بأبي من زارني متكتماً * حذراً من كل شيء جزعا

زائراً ثم عليه حسنه * كيف يخفي الليل بدراً طلعا

رصد الخلوة حتى أمكنت * ورعى السامر حتى هجعا

ركب الأهوال في زورته * ثم ما سلَّم حتى رجعا

وهو القائل في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي‏:‏

إنما الدنيا أبو دلفٍ * بين مغزاه ومحتضره

فإذا ولَّى أبو دلف * ولَّت الدنيا على أثره

كلُّ من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره

يرتجيه نيل مكرمة * يأتسيها يوم مفتخره 

ولما بلغ المأمون هذه الأبيات - وهي قصيدة طويلة - عارض فيها أبا نواس فتطلبه المأمون فهرب منه ثم أحضر بين يديه فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏ فضلت القاسم بن عيسى علينا‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أنتم أهل بيت اصطفاكم الله من بين عباده، وآتاكم ملكاً عظيماً، وإنما فضلته على أشكاله وأقرانه‏.‏

فقال‏:‏ والله ما أبقيت أحداً حيث تقول‏:‏

كلُّ من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره

ومع هذا فلا أستحل قتلك بهذا، ولكن بشركك وكفرك حيث تقول في عبد ذليل‏:‏

أنت الذي تنزل الأيام منزلها * وتنقل الدهر من حال إلى حال

وما مددت مدى طرف إلى أحد * إلا قضيت بأرزاق وآجال

ذاك الله يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه‏.‏ فأخرجوا لسانه في هذه السنة فمات‏.‏

وقد امتدح حميد بن عبد الحميد الطوسي‏:‏

إنما الدنيا حميد *

وأياديه جسام *

فإذا ولَّى حميد *

فعلى الدنيا السلام *

ولما مات حميد هذا رثاه أبو العتاهية بقوله‏:‏

أبا غانم أما ذراك فواسع * وقبرك معمور الجوانب محكم

وما ينفع المقبور عمران قبره * إذا كان فيه جسمه يتهدم

وقد أورد ابن خلكان لعكوك هذا أشعاراً جيدةً تركناها اختصاراً‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين

في يوم السبت لخمس بقين من ربيع الأول منها‏:‏ التقى محمد بن حميد وبابك الخرَّمي لعنه الله، فقتل الخرَّمي خلقاً كثيراً من جيشه، وقتله أيضاً وانهزم بقية أصحاب ابن حميد‏.‏

فبعث المأمون إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم إلى عبد الله بن طاهر يخيرانه بين خراسان ونيابة الجبال وأذربيجان وأرمينية ومحاربة بابك، فاختار المقام بخراسان لكثرة احتياجها إلى الضبط، وللخوف من ظهور الخوارج‏.‏

وفيها‏:‏ دخل أبو إسحاق بن الرشيد الديار المصرية فانتزعها من يد عبد السلام وابن جليس وقتلهما‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له‏:‏ بلال الضبابي، فبعث إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من الأمراء فقتلوا بلالاً ورجعوا إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المأمون علي بن هشام الجبل وقم وأصبهان وأذربيجان‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن خالد الموهبي‏.‏ 

 أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح

أبو جعفر الكاتب، ولي ديوان الرسائل للمأمون‏.‏

ترجمه ابن عساكر وأورد من شعره قوله‏:‏

قد يرزق المرء من غير حيلة صدرت * ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي

ما مسني من غنى يوماً ولا عدم * إلا وقولي عليه الحمد لله

وله أيضاً‏:‏

إذا قلت في شيء نعم فأتمه * فإن نعم دين على الحر واجب

وإلا فقل لا تستريح بها * لئلا يقول الناس إنك كاذب

وله‏:‏

إذا المرء أفشى سره بلسانه * فلام عليه غيره فهو أحمق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذي يستودع السر أضيق

وحسن بن محمد المروزي، شيخ الإمام أحمد‏.‏

وعبد الله بن الحكم المصري، ومعاوية بن عمر‏.‏

 أبو محمد عبد الله بن أعين بن ليث بن رافع المصري

أحد من قرأ الموطأ على مالك وتفقه بمذهبه، وكان معظماً ببلاد مصر، وله بها ثروة وأموال وافرة‏.‏

وحين قدم الشافعي مصر أعطاه ألف دينار، وجمع له من أصحابه ألفي دينار، وأجرى عليه‏.‏

وهو‏:‏ والد محمد بن عبد الله بن الحكم الذي صحب الشافعي‏.‏

ولما توفي في هذه السنة دفن إلى جانب قبر الشافعي‏.‏

ولما توفي ابنه عبد الرحمن دفن إلى جانب قبر أبيه من القبلة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ فهي ثلاثة أقبر الشافعي شاميها، وهما قبلته‏.‏ رحمهم الله

 

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين

في أواخر المحرم منها‏:‏ ركب المأمون في العساكر من بغداد قاصداً بلاد الروم لغزوهم‏.‏

واستخلف على بغداد وأعمالها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما كان بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة النبوية، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون‏.‏

وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى، فدخل بها، وأخذها معه إلى بلاد الحجاز‏.‏

وتلقاه أخوه أبو إسحاق بن الرشيد من الديار المصرية قبل وصوله إلى الموصل‏.‏

وسار المأمون في جحافل كثيرة إلى بلاد طرسوس فدخلها في جمادى الأولى، وفتح حصناً هناك عنوة وأمر بهدمه، ثم رجع إلى دمشق فنزلها وعمر دير مرات بسفح قيسون، وأقام بدمشق مدة‏.‏

وحج بالناس فيها عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أبو زيد الأنصاري، ومحمد بن المبارك الصوري، وقبيصة بن عقبة، وعلي بن الحسن بن شقيق، ومكي بن إبراهيم‏.‏

 أبو زيد الأنصاري

فهو‏:‏ سعيد بن أوس بن ثابت، البصري اللغوي، أحد الثقات الأثبات، ويقال‏:‏ إنه كان يرى ليلة القدر‏.‏

قال أبو عثمان المازني‏:‏ رأيت الأصمعي جاء إلى أبي زيد الأنصاري وقبّل رأسه وجلس بين يديه وقال‏:‏ أنت رئيسنا وسيدنا منذ خمسين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله مصنفات كثيرة، منها‏:‏ خلق الإنسان، وكتاب الإبل، وكتاب المياه، وكتاب الفرس والترس، وغير ذلك‏.‏

توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي قبلها أو التي بعدها، وقد جاوز التسعين، وقيل‏:‏ إنه قارب المائة‏.‏

وأما أبو سليمان فقد قدمنا ترجمته‏.‏

 ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين

فيها‏:‏ عدا ملك الروم وهو‏:‏ توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس نحواً من ألف وستمائة إنسان‏.‏

وكتب إلى المأمون فبدأ بنفسه، فلما قرأ المأمون كتابه نهض من فوره إلى بلاد الروم عوداً على بدء وصحبته أخوه أبو إسحاق بن الرشيد نائب الشام ومصر، فافتتح بلداناً كثيرةً صلحاً وعنوةً، وافتتح أخوه ثلاثين حصناً‏.‏

وبعث يحيى بن أكثم في سرية إلى طوانة فافتتح بلاداً كثيرةً وأسر خلقاً وحرق حصوناً عدةً، ثم عاد إلى العسكر

وأقام المأمون ببلاد الروم من نصف جمادى الآخرة إلى نصف شعبان، ثم عاد إلى دمشق وقد وثب رجل يقال له‏:‏ عبدوس الفهري في شعبان من هذه السنة ببلاد مصر، فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد واتبعه خلق كثير‏.‏

فركب المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة إلى الديار المصرية، فكان من أمره ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقيب الصلوات الخمس، فكان أول ما بدئ بذلك في جامع بغداد والرصافة يوم الجمعة لأربع عشر ليلة خلت من رمضان، وذلك أنهم كانوا إذا قضوا الصلاة قام الناس قياماً فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم استمروا على ذلك في بقية الصلوات‏.‏

وهذه بدعة أحدثها المأمون أيضاً بلا مستند ولا دليل ولا معتمد، فإن هذا لم يفعله قبله أحد، ولكن ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم حين ينصرف الناس من المكتوبة، وقد استحب هذا طائفة من العلماء كابن حزم وغيره‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ المذاهب الأربعة على عدم استحبابه‏.‏

قال النووي‏:‏ وقد روي عن الشافعي أنه قال‏:‏ إنما كان ذلك ليعلم الناس أن الذكر بعد الصلوات مشروع، فلما علم ذلك لم يبق للجهر معنى‏.‏

وهذا كما روي عن ابن عباس أنه كان يجهر في الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلم الناس أنها سنة، ولهذا نظائر، والله أعلم‏.‏

وأما هذه البدعة التي أمر بها المأمون فإنها بدعة محدثة لم يعمل بها أحد من السلف‏.‏

وفيها‏:‏ وقع برد شديد جداً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الذي حج بهم في العام الماضي، وقيل‏:‏ غيره، والله أعلم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ حبان بن هلال، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، صاحب اللغة والنحو والشعر وغير ذلك، ومحمد بن بكار بن هلال، وهوذة بن خليفة

 زبيدة امرأة الرشيد وابنة عمه

وهي‏:‏ ابنة جعفر أم العزيز الملقبة‏:‏ زبيدة بنت جعفر بن المنصور، العباسية الهاشمية القرشية، كانت أحب الناس إلى الرشيد، وكانت ذات حسن باهر وجمال طاهر، وكان له معها من الحظايا والجواري والزوجات غيرها كثيراً كما ذكرنا ذلك في ترجمته، وإنما لقبت زبيدة لأن جدها أبا جعفر المنصور كان يلاعبها ويرقصها وهي صغيرة ويقول‏:‏ إنما أنت زبيدة، لبياضها، فغلب ذلك عليها فلا تعرف إلا به، وأصل اسمها‏:‏ أم العزيز‏.‏

وكان لها من الجمال والمال والخير والديانة والصدقة والبر شيء كثير‏.‏

وروى الخطيب أنها حجت فبلغت نفقتها في ستين يوماً أربعة وخمسين ألف ألف درهم‏.‏

ولما هنأت المأمون بالخلافة قالت‏:‏ هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت فقدت ابناً خليفة لقد عوضت ابنا خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ، وإمتاعاً بما عوض‏.‏

توفيت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين‏.‏

ثم قال الخطيب‏:‏ حدثني الحسين بن محمد الخلال لفظاً، قال‏:‏ وحدث أبا الفتح القواس، قال ثنا صدقة بن هبيرة الموصلي، ثنا محمد بن عبد الله الواسطي، قال‏:‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏ رأيت زبيدة في المنام فقلت‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقالت‏:‏ غفر لي في أول معول ضرب في طريق مكة‏.‏

قلت‏:‏ فما هذه الصفرة ‏؟‏

قالت‏:‏ دفن بين ظهرانينا رجل يقال له‏:‏ بشر المريسي زفرت عليه جهنم زفرة فاقشعر لها جسدي فهذه الصفرة من تلك الزفرة‏.‏

وذكر ابن خلكان أنه كان لها مائة جارية كلهن يحفظن القرآن العظيم، غير من قرأ منه ما قدر له وغير من لم يقرأ، وكان يسمع لهن في القصر دوي كدوي النحل، وكان ورد كل واحدة عشر القرآن‏.‏

وورد أنها رؤيت في المنام فسئلت عما كانت تصنعه من المعروف والصدقات وما عملته في طريق الحج فقالت‏:‏ ذهب ثواب ذلك كله إلى أهله، وما نفعنا إلا ركعات كنت أركعهن في السحر‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حوادث وأمور يطول ذكرها‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعة عشرة ومائتين

في المحرم منها‏:‏ دخل المأمون مصر وظفر بعبدوس الفهري فأمر فضربت عنقه، ثم كر راجعاً إلى الشام‏.‏

وفيها‏:‏ ركب المأمون إلى بلاد الروم أيضاً فحاصر لؤلؤة مائة يوم، ثم ارتحل عنها واستخلف على حصارها عجيفاً فخدعته الروم فأسروه، فأقام في أيديهم ثمانية أيام، ثم انفلت منهم واستمر محاصراً لهم، فجاء ملك الروم بنفسه فأحاط بجيشه من ورائه، فبلغ المأمون فسار إليه، فلما أحس توفيل بقدومه هرب وبعث وزيره صنغل فسأله الأمان والمصالحة، لكنه بدأ بنفسه قبل المأمون فرد عليه المأمون كتاباً بليغاً مضمونه التقريع والتوبيخ‏:‏ وإني إنما أقبل منك الدخول في الحنيفة وإلا فالسيف والقتل والسلام على من اتبع الهدى‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الحجاج بن منهال، وشريح بن النعمان، وموسى بن داود، الضبي، والله سبحانه أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين

في أول يوم من جمادى الأولى‏:‏ وجه المأمون ابنه العباس إلى بلاد الروم لبناء الطونة وتجديد عمارتها‏.‏

وبعث إلى سائر الأقاليم في تجهيز الفعلة من كل بلد إليها، من مصر والشام والعراق، فاجتمع عليها خلق كثير، وأمره أن يجعلها ميلاً في ميل، وأن يجعل سورها ثلاث فراسخ، وأن يجعل لها ثلاثة أبواب‏.‏

 ذكر أول المحنة والفتنة

في هذه السنة‏:‏ كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم، وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول، وكتب غيره قد سردها ابن جرير كلها‏.‏

ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وكل محدث مخلوق، وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلاً عن المحدثين، فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقاً، بل يقولون هو محدث وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان قائماً بذاته لا يكون مخلوقاً‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ ‏]‏‏.‏

فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقاً، وهذا له موضع آخر‏.‏

وقد صنف البخاري كتاباً في هذا المعنى سماه‏:‏ خلق أفعال العباد‏.‏

والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس، وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم‏:‏ محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي‏.‏

فبعث بهم إلى المأمون إلى الرقة فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء، ففعل إسحاق ذلك‏.‏

وأحضر خلقاً من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضاً بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل أيضاً لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه‏.‏

أورد ابن جرير ذلك كله‏.‏

وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن‏.‏

فأحضر أبو إسحاق جماعة من الأئمة وهم‏:‏ أحمد بن حنبل، وقتيبة، وأبو حيان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الحميد العمري‏.‏

وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضياً على الرقة، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح الجنديسابوري المضروب، وابن الفرخان، والنضر بن شميل، وأبو علي بن عاصم، وأبو العوام البارد، وأبو شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، وجماعة‏.‏

فلما دخلوا على أبي إسحاق قرأ عليهم كتاب المأمون، فلما فهموه قال لبشر بن الوليد‏:‏ ما تقول في القرآن ‏؟‏

فقال‏:‏ هو كلام الله‏.‏

قال‏:‏ ليس عن هذا أسألك، وإنما أسألك أهو مخلوق ‏؟‏

قال‏:‏ ليس بخالق‏.‏

قال‏:‏ ولا عن هذا أسألك‏.‏

فقال‏:‏ ما أحسن غير هذا‏.‏ وصمم على ذلك‏.‏

فقال‏:‏ تشهد أن لا إله إلا الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال للكاتب‏:‏ اكتب بما قال‏.‏ فكتب‏.‏

ثم امتحنهم رجلاً رجلاً فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن، فكان إذا امتنع الرجل منهم امتحنه بالرقعة التي وافق عليها بشر بن الوليد الكندي، من أنه يقال‏:‏ لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ‏؟‏

فيقول‏:‏ نعم ‏!‏ كما قال بشر‏.‏

ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل فقال له‏:‏ أتقول إن القرآن مخلوق ‏؟‏

فقال‏:‏ القرآن كلام الله لا أزيد على هذا‏.‏

فقال له‏:‏ ما تقول في هذه الرقعة ‏؟‏

فقال‏:‏ أقول‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقال رجل من المعتزلة‏:‏ إنه يقول سميع بإذن بصير بعين‏.‏

فقال له إسحاق‏:‏ ما أردت بقولك سميع بصير ‏؟‏

فقال‏:‏ أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك‏.‏

فكتب جوابات القوم رجلاً رجلاً وبعث بها إلى المأمون‏.‏

وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعةً مكرهاً لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء‏.‏

ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

فصل

فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد على كل فرد فرد ما قال في كتاب أرسله‏.‏

وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضاً فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيداً محتفظاً به حتى يصل إلى أمير المؤمنين فيرى فيه رأيه، ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله‏.‏

فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلساً آخر وأحضر أولئك وفيهم إبراهيم بن المهدي، وكان صاحباً لبشر بن الوليد الكندي، وقد نص المأمون على قتلهما إن لم يجيبا على الفور، فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ ‏]‏ الآية‏.‏

إلا أربعة وهم‏:‏ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجاده، وعبيد الله بن عمر القواريري‏.‏

فقيَّدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون، ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم فأجاب سجاده إلى القول بذلك فأطلق‏.‏

ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده‏.‏

وأخرَّ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري لأنهما أصرا على الامتناع من القول بذلك، فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد وبعث بهما إلى الخليفة وهو بطرسوس، وكتب كتاباً بإرسالهما إليه‏.‏

فسارا مقيدين في محارة على جمل متعادلين رضي الله عنهما‏.‏

وجعل الإمام أحمد يدعو الله عز وجل أن لا يجمع بينهما وبين المأمون، وأن لا يرياه ولا يراهما‏.‏

ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا مكرهين متأولين قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏)‏‏)‏ ‏[‏النحل‏:‏ ‏]‏ الآية‏.‏

وقد أخطأوا في تأويلهم ذلك خطأً كبيراً، فأرسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين‏.‏

فاستدعاهم إسحاق وألزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها، فلما كانوا ببعض الطريق بلغهم موت المأمون فردوا إلى الرقة، ثم أذن لهم بالرجوع إلى بغداد‏.‏

وكان أحمد بن حنبل وابن نوح قد سبقا الناس، ولكن لم يجتمعا به‏.‏

بل أهلكه الله قبل وصولهما إليه، واستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه الإمام أحمد بن حنبل، فلم يريا المأمون ولا رآهما، بل ردوا إلى بغداد‏.‏

وسيأتي تمام ما وقع لهم من الأمر الفظيع في أول ولاية المعتصم بن الرشيد، وتمام باقي الكلام على ذلك في ترجمة الإمام أحمد عند ذكر وفاته في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وبالله المستعان‏.‏

 عبد الله المأمون

هو‏:‏ عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، العباسي القرشي الهاشمي، أبو جعفر، أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يقال لها‏:‏ مراجل الباذغيسية، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي، وولي أبوه هارون الرشيد، وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ روى الحديث عن‏:‏ أبيه، وهاشم بن بشر، وأبي معاوية الضرير، ويوسف بن قحطبة، وعباد بن العوام، وإسماعيل بن علية، وحجاج بن محمد الأعور‏.‏

وروى عنه‏:‏ أبو حذيفة إسحاق بن بشر، - وهو أسن منه - ويحيى بن أكثم القاضي، وابنه الفضل بن المأمون، ومعمر بن شبيب، وأبو يوسف القاضي، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، وأحمد بن الحارث الشعبي - أو اليزيدي -، وعمرو بن مسعدة، وعبد الله بن طاهر بن الحسين، ومحمد بن إبراهيم السلمي، ودعبل بن علي الخزاعي‏.‏

قال‏:‏ وقدم دمشق مرات وأقام بها مدة‏.‏

ثم روى ابن عساكر، من طريق أبي القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال‏:‏ سمعت المأمون في الشماسية وقد أجرى الحلبة فجعل ينظر إلى كثرة الناس، فقال ليحيى بن أكثم‏:‏ أما ترى كثرة الناس ‏؟‏

قال‏:‏ حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث أبي بكر المنايحي، عن الحسين بن أحمد المالكي، عن يحيى بن أكثم القاضي، عن المأمون، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحياء من الإيمان‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة، فلما سلم كبر الناس فجعل يقول‏:‏ لا يا غوغاء لا يا غوغاء، غداً التكبير سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ثم قال‏:‏ أنبأ هشيم بن بشير، ثنا ابن شبرمة، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، عن أبي بردة بن دينار، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد أن يصلي الغداة فقد أصاب السنة‏)‏‏)‏‏.‏

الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم أصلحني واستصلحني وأصلح على يدي‏.‏

تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر‏.‏

وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع السواد ولبس الخضرة كما تقدم، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة وغيرهم، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي‏.‏

ثم ظفر المأمون بهم واستقام له الحال في الخلافة، وكان على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل‏.‏

وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه وحمل الناس عليه قهراً، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته‏.‏

 

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه قد وخطه الشيب يعلوه صفرة أعين، طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، على خده خال‏.‏

أمه أم ولد يقال لها‏:‏ مراجل‏.‏

وروى الخطيب، عن القاسم بن محمد بن عباد، قال‏:‏ لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون، وهذا غريب جداً لا يوافق عليه، فقد كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء‏.‏

قالوا‏:‏ وقد كان المأمون يتلو في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمة، وجلس يوماً لإملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثاً‏.‏

وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبه، وغريب حديث، وعلم النجوم، وإليه ينسب الزيج المأموني، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من الفقهاء‏.‏

وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوماً للناس وفي مجلسه الأمراء والعلماء، فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار، فلم يحصل لها سوى دينار واحد‏.‏

فقال لها المأمون على البديهة‏:‏ قد وصل إليك حقك، كان أخاك قد ترك بنتين وأماً وزوجة واثني عشر أخاً وأختاً واحدةً وهي أنت‏.‏

قالت‏:‏ نعم ‏!‏ يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ للبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللأم السدس مائة دينار، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون ديناراً، بقي خمسة وعشرون ديناراً لكل أخ ديناران ديناران، ولك دينار واحد‏.‏

فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه‏.‏

وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب‏.‏

ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتاً من الشعر يراه عظيماً، فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعاً طائلاً، فخرج من عنده محروماً، فلقيه شاعر آخر فقال له‏:‏ ألا أعجبك ‏!‏ أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأساً‏.‏

فقال‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ قلت فيه‏:‏

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً * بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقال له الشاعر الآخر‏:‏ ما زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها‏.‏

فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان‏:‏

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

وقال المأمون يوماً لبعض جلسائه‏:‏ بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد، قول أبي نواس‏:‏

إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق

وقول شريح‏:‏

تهون على الدنيا الملامة إنه * حريص على استصلاحها من يلومها

قال المأمون‏:‏ وقد ألجأني الزحام يوماً وأنا في الموكب حتى خالطت السوقة فرأيت رجلاً في دكان عليه أثواب خلْقة، فنظر إليّ نظر من يرحمني أو من يتعجب من أمري فقال‏:‏

أرى كل مغرور تمنِّيه نفسه * إذا ما مضى عام سلامة قابل

وقال يحيى بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ عباد الله ‏!‏ عظم أمر الدارين وارتفع جزاء العالمين، وطالت مدة الفريقين، فوالله إنه للجد لا اللعب، وإنه للحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث، والحساب والفصل، والميزان والصراط، ثم العقاب أو الثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار‏.‏

وروى ابن عساكر، من طريق النضر بن شميل، قال‏:‏ دخلت على المأمون فقال‏:‏ كيف أصبحت يا نضر ‏؟‏

فقلت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ ما الإرجاء ‏؟‏

فقلت‏:‏ دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم‏.‏

قال‏:‏ صدقت‏.‏

ثم قال‏:‏ يا نضر ‏!‏ أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ‏؟‏

قلت‏:‏ إني لمن علم الغيب لبعيد‏.‏

فقال‏:‏ قلت أبياتاً وهي‏:‏

أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذرا

حبَ عليّ بعد النبي ولا * أشتم صدِّيقاً ولا عمرا

ثم ابن عفان في الجنان مع الـ* أبرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إن قال قائل غدرا

وعائش الأم لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا

وهذا المذهب ثاني مراتب الشيعة وفيه تفضيل علي على الصحابة‏.‏

وقد قال جماعة من السلف والدارقطني‏:‏ من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار - يعني‏:‏ في اجتهادهم ثلاثة أيام ثم اتفقوا على عثمان وتقديمه على علي بعد مقتل عمر -‏.‏

وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع، على ما ذكره صاحب كتاب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم، وهو كتاب ينتهي به إلى أكفر الكفر‏.‏

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري‏.‏

وتواتر عنه أنه قال‏:‏ خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر‏.‏

فقد خالف المأمون الصحابة كلهم حتى علي بن أبي طالب‏.‏

وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار، البدعة الأخرى والطامة الكبرى وهي‏:‏ القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر‏.‏

ولكن كان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في القتال وحصار الأعداء ومصابرة الروم وحصرهم، وقتل رجالهم وسبي نسائهم، وكان يقول‏:‏ كان لعمر بن عبد العزيز وعبد الملك حجَّاب وأنا بنفسي‏.‏

وكان يتحرى العدل ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل‏.‏

جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه، فادَّعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين، فقال له المأمون‏:‏ اسكت فإن الحق أنطقها والباطل أسكته‏.‏

ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة آلاف درهم‏.‏

وكتب إلى بعض الأمراء‏:‏ ليس المروءة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك عار، وجارك طاوٍ و الفقير جائع‏.‏

ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون‏:‏ والله لأقتلنك‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ تأنَّ علي فإن الرفق نصف العفو‏.‏

فقال‏:‏ ويلك ويحك ‏!‏ قد حلفت لأقتلنك‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثاً خير من أن تلقاه قاتلاً‏.‏

فعفا عنه‏.‏

وكان يقول‏:‏ ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم‏.‏

وركب يوماً في حراقة فسمع ملاحاً يقول لأصحابه‏:‏ ترون هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين - يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون - فجعل المأمون يتبسم ويقول‏:‏ كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل القدر ‏؟‏

وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره‏.‏

فقال له المأمون‏:‏ أما شبعت يا شيخ ‏؟‏

فقال‏:‏ بلى، حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأمر له المأمون بألف دينار‏.‏

وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوماً لمحمد بن عباد بن المهلب‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطيك ديناراً‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود‏.‏

فقال‏:‏ أحسنت يا أبا عبد الله ‏!‏ أعطوه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف‏.‏

ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء‏.‏

فأهدى إليه مزوداً فيه ملح طيب، ومزوداً فيه أشنان جيد، وكتب إليه‏:‏ إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته‏.‏

وكتب إليه‏:‏

بضاعتي تقصر عن همتي * وهمّتي تقصر عن مالي

فالملح والأشنان يا سيدي * أحسن ما يهديه أمثالي

قال‏:‏ فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالمزودين ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الأديب‏.‏

وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني، ودخل بعض الشعراء فقال يهنيه بولده‏:‏

مدّ لك الله الحياة مدّا * حتى ترى ابنك هذا جدا

ثم يفدّى ما تفدّى * كأنه أنت إذا تبدَّى

أشبه منك قامةً وقداً * مؤزّراً بمجده مردّا

قال‏:‏ فأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏

وقدم عليه وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك، فوردت عليه خزائن من خراسان ثلاثون ألف ألف درهم، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال، ومعه يحيى بن أكثم القاضي، فلما دخلت البلد قال‏:‏ ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله والناس ينظرون‏.‏

ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه‏.‏

ومن لطيف شعره‏:‏

لساني كتوم لأسراركم * ودمعي نموم لسرّي مذيع

فلولا دموعي كتمت الهوى * ولولا الهوى لم تكن لي دموع

بعث خادماً ليلة من الليالي ليأتيه بجارية فأطال الخادم عندها المكث، وتمنعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه، فأنشأ المأمون يقول‏:‏

بعثتك مشتاقاً ففزت بنظرة * وأغفلتني حتى أسأت بك الظنّا

فناجيت من أهوى وكنت مباعداً * فياليت شعري عن دنّوك ما أغنى

وردّدت طرفاً في محاسن وجهها * ومتّعت باستسماع نغمتها أذنا

أرى أثراً منه بعينيك بيّنا * لقد سرقت عيناك من عينها حسنا

ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال، فرح بذلك بشر المريسي - وكان بشر هذا شيخ المأمون - فأنشأ يقول‏:‏

قد قال مأموننا وسيدنا * قولاً له في الكتب تصديق

إن علياً أعني أبا حسن ٍ* أفضل من قد أقلت النّوق

بعد نبي الهدى وإن لنا * أعمالنا، والقرآن مخلوق

فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة‏:‏

يا أيها الناس لا قول ولا عمل * لمن يقول‏:‏ كلام الله مخلوق

ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر * ولا النبي ولم يذكره صديق

ولم يقل ذاك إلا كل مبتدعٍ * على الرسول وعند الله زنديق

بشر أراد به إمحاق دينهم * لأن دينهم والله ممحوق

يا قوم أصبح عقل من خليفتكم * مقيداً وهو في الأغلال موثوق

وقد سأل بشر بن المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏

لو كان فقيهاً لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له‏.‏

ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره، فضمها إليه فبكت الجارية وقالت‏:‏ قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك، ثم أنشأت تقول‏:‏

سأدعوك دعوة المضطّر رباً * يثيب على الدّعاء ويستجيب

لعل الله أن يكفيك حرباً * ويجمعنا كما تهوى القلوب

فضمها إليه، وأنشأ يقول متمثلاً‏:‏

فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها * وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل

صبيحة قالت في العتاب قتلتني * وقتلي بما قالت هناك تحاول

ثم أمر مسروراً الخادم بالإحسان إليها والاحتفاط عليها حتى يرجع، ثم قال‏:‏ نحن كما قال الأخطل‏:‏

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار

ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضاً في غيبته هذه، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة، وأنشأت تقول وهي في السياق‏:‏

إن الزمان سقانا من مرارته * بعد الحلاوة كاسات فأروانا

أبدى لنا تارةً منه فأضحكنا * ثم انثنى تارةً أخرى فأبكانا

إنا إلى الله فيما لا يزال بنا * من القضاء ومن تلوين دنيانا

دنيا تراها ترينا من تصرفها * ما لا يدوم مصافاةً وأحزانا

ونحن فيها كأنا لا يزالينا * للعيش أحيا وما يبكون موتانا

كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر، وقيل‏:‏ بعد العصر، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهراً‏.‏

وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم‏.‏

وقيل‏:‏ كانت وفاته يوم الثلاثاء‏.‏

وقيل‏:‏ يوم الأربعاء لثمان بقين من هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل فحمل إليها فدفن بها‏.‏

وقيل‏:‏ إنه نقل إلى أذنة في رمضان فدفن بها، فالله أعلم‏.‏

وقد قال أبو سعيد المخزومي‏:‏

هل رأيت النجوم أغنت عن المأ * مون شيئاً أو ملكه المأسوس

خلّفوه بعرصتي طرسوس * مثل ما خلفوا أباه بطوس

وقد كان أوصى إلى أخيه المعتصم وكتب وصيته بحضرته وبحضرة ابنه العباس وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب‏.‏

وفيها‏:‏ القول بخلق القرآن ولم يتب من ذلك بل مات عليه وانقطع عمله وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلى عليه خمساً، وأوصى المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية، وأوصاه أن يعتقد ما كان يعتقده أخوه المأمون في القرآن، وأن يدعو الناس إلى ذلك، وأوصاه بعبد الله بن طاهر، وأحمد بن إبراهيم، وأحمد ابن أبي داود‏.‏

وقال‏:‏ شاوره في أمورك ولا تفارقه، وإياك ويحيى بن أكثم أن تصحبه، ثم نهاه عنه وذمه وقال‏:‏ خانني ونفَّر الناس عني ففارقته غير راض عنه‏.‏

ثم أوصاه بالعلويين خيراً، أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة‏.‏

وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها ابن عساكر مع كثرة ما يورده، وفوق كل ذي علم عليم‏.‏

خلافة المعتصم بالله أبي إسحاق بن هارون

بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بطرسوس يوم الخميس الثاني عشر من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان إذ ذاك مريضاً، وهو الذي صلى على أخيه المأمون، وقد سعى بعض الأمراء في ولاية العباس بن المأمون فخرج عليهم العباس فقال‏:‏ ما هذا الخلف البارد‏؟‏ أنا قد بايعت عمي المعتصم‏.‏

فسكن الناس وخمدت الفتنة وركب البرد بالبيعة للمعتصم إلى الآفاق، وبالتعزية بالمأمون‏.‏

فأمر المعتصم بهدم ما كان بناه المأمون في مدينة طوانة، ونقل ما كان حوِّل إليها من السلاح وغيره إلى حصون المسلمين، وأذن الفعلة بالانصراف إلى بلدانهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصداً بغداد وصحبته العباس بن المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام‏.‏

وفيها‏:‏ دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين الخرَّمية، فتجمع منهم بشر كثير، فجهز إليهم المعتصم جيوشاً كثيرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش عظيم، وعقد له على الجبال، فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وأنه قهر الخرَّمية وقتل منهم خلقاً كثيراً، وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم‏.‏ 

وعلى يدي هذا جرت فتنة الإمام أحمد وضرب بين يديه كما سيأتي بسط ذلك في ترجمة أحمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 بشر المريسي

وهو بشر بن غياث، بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المريسي المتكلم شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون‏.‏

وقد كان هذا الرجل ينظر أولاً في شيء من الفقه، وأخذ عن أبي يوسف القاضي، وروى الحديث عنه وعن‏:‏ حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، ثم غلب عليه علم الكلام، وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام‏.‏

وقد اجتمع بشر بالشافعي عندما قدم بغداد‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ جدد القول بخلق القرآن وحكي عنه أقوال شنيعة، وكان مرجئياً وإليه تنسب المريسية من المرجئة‏.‏

وكان يقول‏:‏ إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر‏.‏

وكان يناظر الشافعي وكان لا يحسن النحو، وكان يلحن لحناً فاحشاً‏.‏

ويقال‏:‏ إن أباه كان يهودياً صبَّاغاً بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي ببغداد‏.‏

والمريس عندهم هو‏:‏ الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر‏.‏

قال‏:‏ ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

عبد الله بن يوسف الشـيـبي، وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، ويحيى بن عبد الله البابلتي‏.‏

وأبو محمد عبد الملك بن هشام

ابن أيوب المعافري، راوي السيرة عن زياد بن عبد الله البكائي، عن ابن إسحاق مصنفها، وإنما نسبت إليه فيقال‏:‏ سيرة ابن هشام، لأنه هذبها وزاد فيها ونقص منها، وحرر أماكن واستدرك أشياء‏.‏

وكان إماماً في اللغة والنحو، وقد كان مقيماً بمصر واجتمع به الشافعي حين وردها، وتناشدا من أشعار العرب شيئاً كثيراً‏.‏

 

كانت وفاته بمصر لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، قاله ابن يونس في تاريخ مصر‏.‏

وزعم السهيلي أنه توفي في سنة ثلاث عشرة كما تقدم، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين

فيها‏:‏ ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد، واجتمع عليه خلق كثير وقاتله قواد عبد الله بن طاهر مرات متعددة، ثم ظهروا عليه وهرب فأخذ ثم بعث به إلى عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المعتصم فدخل عليه للنصف من ربيع الآخر، فأمر به فحبس في مكان ضيق طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، فمكث فيه ثلاثاً، ثم حوِّل لأوسع منه وأجرى عليه رزق ومن يخدمه، فلم يزل محبوساً هناك إلى ليلة عيد الفطر فاشتغل الناس بالعيد فدلَّي له حبل من كوة كان يأتيه الضوء منها، فذهب فلم يدر كيف ذهب و إلى أين صار من الأرض‏.‏

وفي يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى‏:‏ دخل إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد راجعاً من قتال الخرَّمية، ومعه أسارى منهم، وقد قتل في حربه منهم مائة ألف مقاتل‏.‏

وفيها‏:‏ بعث المعتصم عجيفاً في جيش كثيف لقتال الزط الذين عاثوا فساداً في بلاد البصرة، وقطعوا الطريق ونهبوا الغلات، فمكث في قتالهم تسعة أشهر فقهرهم وقمع شرهم وأباد خضراهم‏.‏

وكان القائم بأمرهم رجل يقال له‏:‏ محمد بن عثمان ومعه آخر يقال له‏:‏ سملق، وهو داهيتهم وشيطانهم، فأراح الله المسلمين منه ومن شره‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ سليمان بن داود الهاشمي شيخ الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي صاحب المسند، وتلميذ الشافعي، وعلي بن عياش، وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وأبو بحار الهندي‏.‏

 ثم دخلت سنة عشرين ومائتين من الهجرة

في يوم عاشوراء‏:‏ دخل عجيف في السفن إلى بغداد ومعه من الزط سبعة وعشرون ألفاً قد جاؤوا بالأمان إلى الخليفة، فأنزلوا في الجانب الشرقي ثم نفاهم إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فاجتاحوهم عن آخرهم، ولم يفلت منهم أحد، فكان آخر العهد بهم‏.‏

وفيها‏:‏ عقد لمعتصم للأفشين واسمه‏:‏ حيدر بن كاوس على جيش عظيم لقتال بابك الخرَّمي لعنه الله، وكان قد استفحل أمره جداً، وقويت شوكته، وانتشرت أتباعه في أذربيجان وما والاها‏.‏

وكان أول ظهوره في سنة إحدى ومائتين، وكان زنديقاً كبيراً وشيطاناً رجيماً، فسار الأفشين وقد أحكم صناعة الحرب في الأرصاد وعمارة الحصون وإرصاد المدد، وأرسل إليه المعتصم مع بغا الكبير أموالاً جزيلة نفقة لمن معه من الجند والأتباع، فالتقى هو وبابك فاقتتلا قتالاً شديداً، فقتل الأفشين من أصحاب بابك خلقاً كثيراً أزيد من مائة ألف، وهرب هو إلى مدينته فأوى فيها مكسوراً، فكان هذا أول ما تضعضع من أمر بابك، وجرت بينهما حروب يطول ذكرها، وقد استقصاها ابن جرير‏.‏

وفيها‏:‏ خرج المعتصم من بغداد فنزل القاطول فأقام بها‏.‏

وفيها‏:‏ غضب المعتصم على الفضل بن مروان بعد المكانة العظيمة، وعزله عن الوزراة وحبسه وأخذ أمواله وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات‏.‏

وحج بالناس فيها صالح بن علي بن محمد أمير السنة الماضية في الحج‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ آدم بن أبي إياس، وعبد الله بن رجاء، وعفان بن مسلمة، وقالون أحد مشاهير القراء، وأبو حذيفة الهندي‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ كانت وقعة هائلة بين بغا الكبير وبابك فهزم بابك بغا وقتل خلقاً من أصحابه‏.‏

ثم اقتتل الأفشين وبابك فهزمه أفشين وقتل خلقاً من أصحابه بعد حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير‏.‏

وحج بالناس فيها نائب مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى العباسي‏.‏ 

 وفيها توفي‏:‏ عاصم بن علي، وعبد الله بن مسلم القعنبي، وعبدان، وهشام بن عبيد الله الرازي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ جهز المعتصم جيشاً كثيراً مدداً للأفشين على محاربة بابك، وبعث إليه ثلاثين ألف ألف درهم نفقة للجند، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وافتتح الأفشين البذ مدينة بابك واستباح ما فيها، وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان‏.‏

وذلك بعد محاصرة وحروب هائلة وقتال شديد وجهد جهيد‏.‏

وقد أطال ابن جرير بسط ذلك جدا ً‏.‏

وحاصل الأمر أنه افتتح البلد وأخذ جميع ما فيه من الأموال مما قدر عليه‏.‏

ذكر مسك بابك

لما احتوى المسلمين على بلده المسمى‏:‏ بالبذ وهي دار ملكه ومقر سلطته هرب بمن معه من أهله وولده ومعه أمه وامرأته، فانفرد في شرذمة قليلة ولم يبق معهم طعام، فاجتازوا بحراث فبعث غلامه إليه وأعطاه ذهباً فقال‏:‏ أعطه الذهب وخذ ما معه من الخبز‏.‏

فنظر شريك الحراث إليه من بعيد وهو يأخذ منه الخبز، فظن أنه قد اغتصبه منه، فذهب إلى حصن هناك فيه نائب للخليفة يقال له‏:‏ سهل بن سنباط ليستعدي على ذلك الغلام، فركب بنفسه وجاء فوجد الغلام فقال‏:‏ ما خبرك‏؟‏

فقال‏:‏ لاشيء، إنما أعطيته دنانير وأخذت منه الخبز‏.‏

فقال‏:‏ ومن أنت ‏؟‏

فأراد أن يعمي عليه الخبر فألح عليه فقال‏:‏ من غلمان بابك‏.‏

فقال‏:‏ وأين هو ‏؟‏

فقال‏:‏ هاهو ذا جالس يريد الغداء‏.‏

فسار إليه سهل بن سنباط فلما رآه ترجل وقبل يده وقال‏:‏ يا سيدي أين تريد ‏؟‏

قال‏:‏ أريد أن أدخل بلاد

الروم‏.‏

فقال‏:‏ إلى عند من تذهب أحرز من حصني وأنا غلامك وفي خدمتك ‏؟‏

وما زال به حتى خدعه وأخذه معه إلى الحصن فأنزله عنده وأجرى عليه النفقات الكثيرة والتحف وغير ذلك، وكتب إلى الأفشين يعلمه، فأرسل إليه أميرين لقبضه، فنزلا قريباً من الحصن، وكتبا إلى ابن سنباط فقال‏:‏ أقيما مكانكما حتى يأتيكما أمري‏.‏

ثم قال لبابك‏:‏ إنه قد حصل لك هم وضيق من هذا الحصن وقد عزمت على الخروج اليوم إلى الصيد ومعنا بزاة وكلاب، فإن أحببت أن تخرج معنا لتشرح صدرك وتذهب همك فافعل‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فخرجوا وبعث ابن سنباط إلى الأميرين أن كونوا مكان كذا وكذا في وقت كذا وكذا من النهار، فلما كانا بذلك الموضع أقبل الأميران بمن معهما من الجنود فأحاطوا ببابك وهرب ابن سنباط، فلما رأوه جاؤوا إليه فقالوا‏:‏ ترجل عن دابتك‏.‏

فقال‏:‏ ومن أنتما ‏؟‏

فذكرا أنهما من عند الأفشين، فترجل حينئذ عن دابته وعليه دراعة بيضاء وخف قصير وفي يده باز، فنظر إلى ابن سنباط فقال‏:‏ قبحك الله فهلا طلبت مني من المال ما شئت كنت أعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء ‏!‏

ثم أركبوه وأخذوه معهما إلى الأفشين، فلما اقتربوا منه خرج فتلقاه وأمر الناس أن يصطفوا صفين، وأمر بابك أن يترجل فيدخل بين الناس وهو ماش، ففعل ذلك، وكان يوماً مشهوداً جداً، وكان ذلك في شوال من هذه السنة، ثم احتفظ به وسجنه عنده، ثم كتب الأفشين إلى المعتصم بذلك فأمره أن يقدم به وبأخيه، وكان قد مسكه أيضاً‏.‏

وكان اسم أخي بابك‏:‏ عبد الله، فتجهز الأفشين بهما إلى بغداد في تمام هذه السنة ففرغت ولم يصل بهما إلى بغداد‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره في التي قبلها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أبو اليمان الحكم بن نافع، وعمر بن حفص بن عياش، ومسلم بن إبراهيم، ويحيى بن صالح الوحاظي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

في يوم الخميس ثالث صفر منها‏:‏ دخل الأفشين وصحبته بابك على المعتصم سامراً، ومعه أيضاً أخو بابك في تجمل عظيم، وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين، وكانت أخباره تفد إلى المعتصم في كل يوم من شدة اعتناء المعتصم بأمر بابك، وقد ركب المعتصم قبل وصول بابك بيومين على البريد حتى دخل إلى بابك وهو لا يعرفه، فنظر إليه ثم رجع، فلما كان يوم دخوله عليه تأهب المعتصم واصطف الناس سماطين وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه، وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وقد هيأوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسّوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئاً كثيراً، وقد قال فيه بعضهم‏:‏

قد خضّب الفيل كعاداته * يحمل شيطان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه * إلا لذي شأن من الشان

ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرَّا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله وهي ليلة الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة‏.‏ 

وكان هذا الملعون قد قتل من المسلمين في مدة ظهوره - وهي‏:‏ عشرون سنة - مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفاً وخمسمائة إنسان - قاله ابن جرير -وأسر خلقاً لا يحصون، وكان جملة من استنقذه الأفشين من أسره نحواً من سبعة آلاف وستمائة إنسان، وأسر من أولاده سبعة عشر رجلاً، ومن حلائله وحلائل أولاده ثلاثة وعشرين امرأة من الخواتين‏.‏

وقد كان أصل بابك من جارية زرية الشكل جداً، فآل به الحال إلى ما آل به إليه، ثم أراح الله المسلمين من شره بعدما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام‏.‏

ولما قتله المعتصم توَّج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم، وكتب له بولاية السند، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها‏:‏ البذ وتركه إياها قيعاناً خراباً‏.‏

فقالوا في ذلك فأحسنوا، وكان من جملتهم أبو تمام الطائي وقد أورد قصيدته بتمامها ابن جرير وهي قوله‏:‏

بذّ الجلاد البذ فهو دفين * ما إن بها إلا الوحوش قطين

لم يقر هذا السيف هذا الصبر في * هيجاء إلا عزّ هذا الدين

قد كان عذرة سوددٍ فافتضّها * بالسيف فحل المشرق الأفشين

فأعادها تعوي الثعالب وسطها * ولقد ترى بالأمس وهي عرين

هطلت عليها من جماجم أهلها * ديم إمارتها طلى وشؤون

كانت من المهجات قبل مفازة * عسراً فأضحت وهي منه معين

وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ثلاث وعشرين ومائتين - أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات‏.‏

ومثَّل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله‏.‏

وكان سبب ذلك أن بابك لما أحيط به في مدينة البذ استوسقت الجيوش حوله وكتب إلى ملك الروم يقول له‏:‏ إن ملك العرب قد جهز إلي جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعاً إلى ما حولك من بلاده فخذها فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها‏.‏

فركب توفيل بمائة ألف وانضاف إليه المحمرة الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلم يقدر عليهم لأنهم تحصنوا بتلك الجبال فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين، فوصلوا إلى ملطية فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وأسروا نساءهم‏.‏

فلما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جداً وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه‏.‏

وخرج من بغداد فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ووجه بين يديه عجيفاً وطائفة من الأمراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زبطرة، فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وانشمر راجعاً إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لإعلامه بما وقع من الأمر‏.‏

فقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع ‏؟‏

قالوا‏:‏ عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينة‏.‏

 فتح عمورية على يد المعتصم

لما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئاً لم يسمع بمثله‏.‏

وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سروج، وعبى جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر اللسى وهو قريب من طرسوس، وذلك في رجب من هذه السنة‏.‏

وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى، فجاؤوا في أثره وضاق ذرعه بسبب ذلك إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه‏.‏

ثم اقترب منه الأفشين فسار إليه ملك الروم في شرذمة من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريباً له فالتقيا هو والأفشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها، فثبت الأفشين في ثاني الحال وقتل من الروم خلقاً وجرح آخرين، وتغلب على ملك الروم‏.‏

وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه فأسرع الأوبة فإذا نظام الجيش قد انحل، فغضب على قرابته وضرب عنقه وجاءت الأخبار بذلك كله إلى المعتصم فسره ذلك وركب من فوره وجاء إلى أنقره ووافاه الأفشين بمن معه إلى هناك، فوجدوا أهلها قد هربوا منه فتقووا منها بما وجدوا من طعام وغيره، ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنة عليها الأفشين، والميسرة عليها أشناس، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلباً ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا‏.‏

وسار بهم كذلك قاصداً إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقره سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة ثم نزل قريباً منها، وقد تحصن أهلها تحصناً شديداً وملأوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جداً ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة‏.‏

 

وقسّم المعتصم الأبراج على الأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين‏.‏

وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفاً بلا أساس‏.‏

فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئاً، و انهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ‏.‏

فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمين أمرهما فسألوهما‏:‏ ممن أنتما ‏؟‏

فقالا‏:‏ من أصحاب فلان - لأمير سموه من أمراء المسلمين -‏.‏

فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب مناطس نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائناً في ذلك ما كان‏.‏

فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن مناطس فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنها وتسبهما‏.‏

ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعاً بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب‏.‏

ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غنماً كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجيء بملء جلده تراباً فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام، ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقاً ممهداً، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك‏.‏

وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس‏:‏ إنما ذلك سقوط السور‏.‏

ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا‏.‏

وقوي الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميراً يحفظه، فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا‏:‏ لا نترك ما نحن موكلون في حفظه‏.‏ 

فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به‏.‏

فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون‏.‏

ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهراً، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسراً وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم‏.‏

ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه مناطس فناداه المنادي‏:‏ ويحك يا مناطس ‏!‏ هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك‏.‏

فقالوا‏:‏ ليس بمناطس ههنا مرتين‏.‏

فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس‏:‏ هذا مناطس، هذا مناطس‏.‏

فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له‏:‏ ويحك ‏!‏ انزل على حكم أمير المؤمنين‏.‏

فتمنع ثم نزل متقلداً سيفاً فوضع السيف في عنقه ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك‏.‏

وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعاً إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة‏.‏

وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوماً‏.‏

 مقتل العباس بن المأمون

كان العباس مع عمه المعتصم في غزوة عمورية، وكان عجيف بن عنبسة قد ندّمه إذ لم يأخذ الخلافة بعد أبيه المأمون بطرسوس حين مات بها، ولامه على مبايعته عمه المعتصم، ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمه وأخذ البيعة من الأمراء له، وجهز رجلاً يقال له‏:‏ الحارث السمرقندي، وكان نديماً للعباس، فأخذ له البيعة من جماعة من الأمراء في الباطن، واستوثق منهم وتقدم إليهم أنه يلي الفتك بعمه، فلما كانوا بدرب الروم وهم قاصدون إلى أنقره ومنها إلى عمورية، أشار عجيف على العباس أن يقتل عمه في هذا المضيق ويأخذ له البيعة ويرجع إلى بغداد، فقال العباس‏:‏ إني أكره أن أعطل على الناس هذه الغزوة‏.‏

فلما فتحوا عمورية واشتغل الناس بالمغانم أشار عليه أن يقتله فوعده مضيق الدرب إذا رجعوا‏.‏

فلما رجعوا فطن المعتصم بالخبر فأمر بالاحتفاظ وقوة الحرس وأخذ بالحزم واجتهد بالعزم، واستدعى بالحارث السمرقندي فاستقره فأقر له بجملة الأمر، وأخذ البيعة للعباس بن المأمون من جماعة من الأمراء أسماهم له، فاستكثرهم المعتصم واستدعى بابن أخيه العباس فقيَّده وغضب عليه وأهانه‏.‏

ثم أظهر له أنه قد رضي عنه وعفا عنه، فأرسله من القيد وأطلق سراحه، فلما كان من الليل استدعاه إلى حضرته في مجلس شرابه واستخلى به حتى سقاه واستحكاه عن الذي كان قد دبره من الأمر، فشرح له القضية، وذكر له القصة، فإذا الأمر كما ذكر الحارث السمرقندي‏.‏

فلما أصبح استدعى بالحارث فأخلاه وسأله عن القضية ثانياً فذكرها له كما ذكرها أول مرة، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ إني كنت حريصاً على ذلك فلم أجد إلى ذلك سبيلاً بصدقك إياي في هذه القصة‏.‏

ثم أمر المعتصم حينئذ بابن أخيه العباس فقيِّد وسلم إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقية الأمراء الذين ذكرهم فاحتفظ عليهم، ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحها لهم، فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر‏.‏

ومات العباس بن المأمون بمنبج فدفن هناك، وكان سبب موته أنه أجاعه جوعاً شديداً، ثم جيء بأكل كثير فأكل منه وطلب الماء فمنع منه حتى مات، وأمر المعتصم بلعنه على المنبر وسماه‏:‏ اللعين‏.‏

وقتل جماعة من ولد المأمون أيضاً‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ بابك الخرَّمي، قتل وصلب كما قدمنا‏.‏

وخالد بن خراش، وعبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد، ومحمد بن سنان العوفي، وموسى بن إسماعيل‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ خرج رجل بآمل طبرستان يقال له‏:‏ مازيار بن قارن بن يزداهرمز، وكان لا يرضى أن يدفع الخراج إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحسين، بل يبعثه إلى الخليفة ليقبضه منه، فيبعث الخليفة من يتلقى الحمل إلى بعض البلاد ليقبضه منه ثم يدفعه إلى ابن طاهر، ثم آل أمره إلى أن وثب على تلك البلاد وأظهر المخالفة للمعتصم‏.‏

وقد كان المازيار هذا ممن يكاتب بابك الخرَّمي ويعده بالنصر‏.‏

ويقال‏:‏ إن الذي قوَّى رأس مازيار على ذلك الأفشين ليعجز عبد الله بن طاهر عن مقاومته فيوليه المعتصم بلاد خراسان مكانه

فبعث إليه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب - أخا إسحاق بن إبراهيم - في جيش كثيف فجرت بينهم حروب طويلة استقصاها ابن جرير، وكان آخر ذلك أسر المازيار وحمله إلى ابن طاهر، فاستقره عن الكتب التي بعثها إليه الأشفين فأقر بها، فأرسله إلى المعتصم وما معه من أمواله التي احتفظت للخليفة، وهي أشياء كثيرة جداً، من الجواهر والذهب والثياب‏.‏

فلما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك الخرَّمي على جسر بغداد، وقتل عيون أصحابه وأتباعه‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الحسن بن الأفشين بأترجة بنت أشناس ودخل بها في قصر المعتصم بسامرا في جمادى، وكان عرساً حافلاً، وليه المعتصم بنفسه، حتى قيل‏:‏ إنهم كانوا يخضبون لحا العامية بالغالية‏.‏

وفيها‏:‏ خرج منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأرض أذربيجان وخلع الطاعة، وذلك أن الأفشين كان قد استنابه على بلاد أذربيجان حين فرغ من أمر بابك، فظفر منكجور بمال عظيم مخزون لبابك في بعض البلدان، فأخذه لنفسه وأخفاه عن المعتصم وظهر على ذلك رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن عبد الرحمن فكتب إلى الخليفة في ذلك فكتب منكجور يكذبه في ذلك، وهم به ليقتله فامتنع منه بأهل أردبيل‏.‏

فلما تحقق الخليفة كذب منكجور بعث إليه بغا الكبير فحاربه وأخذه بالأمان وجاء به إلى الخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ مات مناطس الرومي نائب عمورية، وذلك أن المعتصم أخذه معه أسيراً فاعتقله بسامرا حتى مات في هذه السنة‏.‏

 وفي رمضان منها مات‏:‏

 إبراهيم بن المهدي بن المنصور

عم المعتصم، ويعرف‏:‏ بابن شكله، وكان أسود اللون ضخماً فصيحاً فاضلاً‏.‏

قال ابن ماكولا‏:‏ وكان يقال له‏:‏ الصيني - يعني‏:‏ لسواده - وقد كان ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر أنه ولي إمرة دمشق نيابة عن الرشيد أخيه مدة سنتين ثم عزله عنها ثم أعاده إليها الثانية فأقام بها أربع سنين‏.‏

وذكر من عدله وصرامته أشياء حسنة، وأنه أقام للناس الحج سنة أربع وثمانين، ثم عاد إلى دمشق، ولما بويع بالخلافة في أول خلافة المأمون سنة ثنتين ومائتين قاتله الحسن بن سهل نائب بغداد، فهزمه إبراهيم هذا، فقصده حميد الطوسي فهزم إبراهيم واختفى إبراهيم ببغداد حين قدمها المأمون‏.‏

ثم ظفر به المأمون فعفا عنه وأكرمه‏.‏

وكانت مدة ولايته الخلافة سنة وإحدى عشر شهراً واثنا عشر يوماً‏.‏

وكان بدء اختفائه في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، فمكث مختفياً ست سنين وأربعة أشهر وعشراً‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان إبراهيم بن المهدي هذا وافر الفضل، غزير الأدب، واسع النفس، سخي الكف، وكان معروفاً بصناعة الغناء، حاذقاً فيها، وقد قلَّ المال عليه في أيام خلافته ببغداد فألح الأعراب عليه في أعطياهم فجعل يسوِّف بهم‏.‏

ثم خرج إليهم رسوله يقول‏:‏ إنه لا مال عنده اليوم‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ فليخرج الخليفة إلينا فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات‏.‏

فقال في ذلك دعبل شاعر المأمون يذم إبراهيم بن المهدي‏:‏

يا معشر الأعراب لا تغلطوا * خذوا عطاياكم ولا تسخطوا

فسوف يعطيكم حنينية * لا تدخل الكيس ولا تربط

والمعبديات لقوادكم * وما بهذا أحد يغبط

فهكذا يرزق أصحابه * خليفة مصحفه البربط 

وكتب إلى ابن أخيه المأمون حين طال عليه الاختفاء‏:‏ وليُّ الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل عفو، كما جعل كل ذي نسب دونه، فإن عفا فبفضله وإن عاقب فبحقه‏.‏

فوقع المأمون في جواب ذلك‏:‏ القدرة تذهب الحفيظة، وكفى بالندم إنابة وعفو الله أوسع من كل شيء‏.‏

ولما دخل عليه أنشأ يقول‏:‏

إن أكن مذنباً فحظي أخطأت * فدع عنك كثرة التأنيب

قل كما قال يوسف لبني يعقو * ب لما أتوه لا تثريب

فقال المأمون‏:‏ لا تثريب‏.‏

وروى الخطيب أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون شرع يؤنبه على ما فعل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ حضرت أبي وهو جدك وقد أتي برجل ذنبه أعظم من ذنبي فأمر بقتله‏.‏

فقال مبارك بن فضالة‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن رأيت أن تؤخر قتل هذا الرجل حتى أحدثك حديثاً‏.‏

فقال‏:‏ قل‏.‏

فقال‏:‏ حدثني الحسن البصري، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش‏:‏ ليقم العافون عن الناس من الخلفاء إلى أكرم الجزاء، فلا يقوم إلا من عفا‏)‏‏)‏‏.‏

فقال المأمون‏:‏ قد قبلت هذا الحديث بقبوله وعفوت عنك يا عم‏.‏

وقد ذكرنا في سنة أربع ومائتين زيادة على هذا‏.‏

وكانت أشعاره جيدة بليغة سامحه الله‏.‏

وقد ساق من ذلك ابن عساكر جانباً جيداً‏.‏

كان مولد إبراهيم هذا في مستهل ذي القعدة سنة ثنتين وستين ومائة، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من هذه السنة عن ثنتين وستين سنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ سعيد بن أبي مريم المصري، وسليمان بن حرب، وأبو معمر المقعد، وعلي بن محمد المدائني، الأخباري، أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وعمرو بن مرزوق، شيخ البخاري، وقد تزوج هذا الرجل ألف امرأة‏.‏

وأبو عبيد القاسم بن سلام

البغدادي، أحد أئمة اللغة، والفقه والحديث والقرآن، والأخبار وأيام الناس، له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس، حتى يقال‏:‏ إن الإمام أحمد كتب كتابه في الغريب بيده، ولما وقف عليه عبد الله بن طاهر رتب له في كل شهر خمسمائة درهم، وأجراها على ذريته من بعده‏.‏ 

وذكر ابن خلكان أن ابن طاهر استحسن كتابه وقال‏:‏ ما ينبغي لعقل بعث صاحبه على تصنيف هذا الكتاب أن نحوج صاحبه إلى طلب المعاش‏.‏

وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر‏.‏

وقال محمد بن وهب المسعودي‏:‏ سمعت أبا عبيد، يقول‏:‏ مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة‏.‏

وقال هلال بن المعلى الرقي‏:‏ منَّ الله على المسلمين بهؤلاء الأربعة‏:‏ الشافعي تفقه في الفقه والحديث، وأحمد بن حنبل في المحنة، ويحيى بن معين في نفي الكذب، وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث، ولولا ذلك لاقتحم الناس المهالك‏.‏

وذكر ابن خلكان أن أبا عبيد ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة، وذكر له من العبادة والاجتهاد في العبادة شيئاً كثيراً‏.‏

وقد روى الغريب عن‏:‏ أبي زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وابن الأعرابي، والفراء، والكسائي، وغيرهم‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ نحن نحتاج إليه وهو لا يحتاج إلينا‏.‏

وقدم بغداد وسمع الناس منه ومن تصانيفه‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ كان كأنه جبل نفخ فيه روح، يحسن كل شيء‏.‏

وقال أحمد بن كامل القاضي‏:‏ كان أبو عبيد فاضلاً ديِّناً ربانياً عالماً متقناً في أصناف علوم أهل الإيمان والإتقان والإسلام‏:‏ من القرآن، والفقه، والعربية، والأحاديث، حسن الرواية صحيح النقل، لا أعلم أحداً طعن عليه في شيء من علمه وكتبه، وله كتاب الأموال، وكتاب فضائل القرآن ومعانيه، وغير ذلك من الكتب المنتفع بها، رحمه الله‏.‏

توفي في هذه السنة قاله البخاري‏.‏

 وقيل‏:‏ في التي قبلها بمكة‏.‏

 

وقيل‏:‏ بالمدينة‏.‏

وله سبع وستون سنة‏.‏

وقيل‏:‏ جاوز السبعين، فالله أعلم‏.‏

ومحمد بن عثمان، أبو الجماهر، الدمشقي الكفرتوتي، أحد مشايخ الحديث‏.‏

ومحمد بن الفضل، أبو النعمان السدوسي، الملقب‏:‏ بعارم، شيخ البخاري، ومحمد بن عيسى بن الطباع، ويزيد بن عبد ربه، الجرجسي الحمصي، شيخها في زمانه‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ دخل بغا الكبير ومعه منكجور قد أعطى الطاعة بالأمان‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المعتصم جعفر بن دينار عن نيابة اليمن وغضب عليه وولى اليمن ايتاخ‏.‏

وفيها‏:‏ وجه عبد الله بن طاهر بالمازيار فدخل بغداد على بغل بأكاف فضربه المعتصم بين يديه أربعمائة وخمسين سوطاً ثم سقى الماء حتى مات، وأمر بصلبه إلى جنب بابك‏.‏

وأقر في ضربه أن الأفشين كان يكاتبه ويحسن له خلع الطاعة، فغضب المعتصم على الأفشين وأمر بسجنه، فبنى له مكان كالمنارة من دار الخلافة تسمى‏:‏ الكوة، إنما تسعه فقط، وذلك لما تحقق أنه يريد مخالفته والخروج عليه، وأنه قد عزم على الذهاب لبلاد الخزر ليستجيش بهم على المسلمين فعاجله الخليفة بالقبض عليه قبل ذلك كله‏.‏

وعقد له المعتصم مجلساً فيه قاضيه أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، ووزير محمد بن عبد الملك بن الزيات، ونائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فاتهم الأفشين في هذا المجلس بأشياء تدل على أنه باق على دين أجداده من الفرس‏.‏

منها‏:‏ أنه غير مختن فاعتذر أنه يخاف ألم ذلك، فقال له الوزير - وهو الذي كان يناظره من بين القوم -‏:‏ فأنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك ‏؟‏

ومنها‏:‏ أنه ضرب رجلين إماماً ومؤذناً كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجداً‏.‏

ومنها‏:‏ أنه عنده كتاب كليلة ودمنة مصوراً فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب، فاعتذر أنه ورثه من آبائهم‏.‏

واتهم بأن الأعاجم يكاتبونه وتكتب إليه في كتبها‏:‏ أنت إله الآلهة من العبيد‏.‏ وأنه يقرهم على ذلك‏.‏

فجعل يعتذر بأنه أجراهم على ما كانوا يكاتبون به أباه وأجداده، وخاف أن يأمرهم بترك ذلك فيتضع عندهم‏.‏

فقال له الوزير‏:‏ ويحك ‏!‏ فماذا أبقيت لفرعون حين قال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ ‏]‏‏.‏

وإنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة، وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديماً ويظهره على دين العرب، وأنه كان يستطيب المنخنقة على المذبوحة، وأنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها، فعند ذلك أمر المعتصم بغا الكبير أن يسجنه مهاناً ذليلاً، فجعل يقول‏:‏ إني كنت أتوقع منكم ذلك‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وزوجته أترجة بنت أشناس إلى سامرا‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أصبغ بن الفرج، وسعدويه، ومحمد بن سلام، البيكندي، شيخ البخاري، وأبو عمر الجرمي، وأبو دلف العجلي، التميمي، الأمير، أحد الأجواد

وسعيد بن مسعدة

أبو الحسن، الأخفش الأوسط، البلخي ثم البصري، النحوي، أخذ النحو عن سيبويه، وصنف كتباً كثيرةً، منها‏:‏ كتاب في معاني القرآن، وكتاب الأوسط في النحو، وغير ذلك، وله كتاب في العروض زاد فيه بحر الخبب على الخيل‏.‏

وسمي الأخفش لصغر عينيه وضعف بصره، وكان أيضاً أدلغ، وهو الذي لا يضم شفتيه على أسنانه، كان أولاً يقال له‏:‏ الأخفش الصغير بالنسبة إلى الأخفش الكبير‏:‏ أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الهجري، شيخ سيبويه وأبي عبيدة، فلما ظهر علي بن سليمان ولقب بالأخفش أيضاً صار سعيد بن مسعدة هو الأوسط، والهجري الأكبر، وعلي بن سليمان الأصغر‏.‏

وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل‏:‏ سنة إحدى وعشرين ومائتين‏.‏

الجرمي النحوي

وهو صالح بن إسحاق، البصري، قدم بغداد وناظر بها الفراء، وكان قد أخذ النحو عن‏:‏ أبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي‏.‏

وصنف كتباً منها‏:‏ الفرخ - يعني‏:‏ فرخ كتاب سيبويه -‏.‏

وكان فقيهاً فاضلاً نحوياً بارعاً عالماً باللغة، حافظاً لها، ديِّناً ورعاً، حسن المذهب، صحيح الاعتقاد، وروى الحديث‏.‏

ذكره ابن خلكان، وروى عنه المبرد، وذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

في شعبان منها توفي الأفشين في الحبس فأمر به المعتصم فصلب ثم أحرق وذري رماده في دجله واحتيط على أمواله وحواصله فوجدوا فيها أصناماً مكللةً بذهب وجواهر، وكتباً في فضل دين المجوس، وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود‏.‏

وفيها توفي‏:‏

إسحاق القروي، وإسماعيل بن أبي أوس، ومحمد بن داود، صاحب التفسير، وغسان بن الربيع، ويحيى بن يحيى التميمي، شيخ مسلم بن الحجاج، ومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين

وأبو دلف العجلي

عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لحيم، الأمير، أبو دلف العجلي، أحد قواد المأمون والمعتصم وإليه ينسب الأمير أبو نصر بن ماكولا، صاحب كتاب الإكمال‏.‏

وكان القاضي جلال الدين خطيب دمشق القزويني يزعم أنه من سلالته، ويذكر نسبه إليه‏.‏

وكان أبو دلف هذا كريماً جواداً ممدحاً، قد قصده الشعراء من كل أوب، وكان أبو تمام الطائي من جملة من يغشاه ويستمنح نداه، وكانت لديه فضيلة في الأدب والغناء، وصنف كتباً منها‏:‏ سياسة الملوك، ومنها‏:‏ في الصيد، والبزاة، وفي السلاح، وغير ذلك‏.‏

وما أحسن ما قال فيه بكر بن النطاع الشاعر‏:‏

يا طالباً للكيمياء وعلمه * مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم

لو لم يكن في الأرض إلا درهم * ومدحته لأتاك ذاك الدرهم

فيقال‏:‏ إنه أعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم‏.‏

وكان شجاعاً فاتكاً، وكان يستدين ويعطي، وكان أبوه قد شرع في بناء مدينة الكرخ فمات ولم يتمها فأتمها أبو دلف، وكان فيه تشيع‏.‏

وكان يقول‏:‏ من لم يكن متغالياً في التشيع فهو ولد زنا‏.‏

فقال له ابنه دلف‏:‏ لست على مذهبك يا أبت ‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد وطئت أمك قبل أن أشتريها، فهذا من ذاك‏.‏

وقد ذكر ابن خلكان أن ولده رأى في المنام بعد وفاة أبيه أن آتياً أتاه فقال‏:‏ أجب الأمير ‏!‏

قال‏:‏ فقمت معه فأدخلني داراً وحشة وعرة سوداء الحيطان مغلقة السقوف والأبواب‏.‏

ثم أصعدني في درج منها ثم أدخلني غرفة، وإذا في حيطانها أثر النيران، وفي أرضها أثر الرماد، وإذا بأبي فيها وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه‏.‏

فقال لي كالمستفهم‏:‏ أدلف ‏؟‏

فقلت‏:‏ دلف‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏

أبلغنْ أهلنا ولا تخف عنهم * ما لقينا في البرزخ الخناق

قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا * فارحموا وحشتي وما قد ألاقي

ثم قال‏:‏ أفهمت ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

فلو أنا إذا متنا تركنا * لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا * ونسأل بعده عن كل شيء

ثم قال‏:‏ أفهمت ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ وانتبهت