الجزء العاشر - ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له‏:‏ أبو حرب المبرقع اليماني، فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه‏.‏

وكان سبب خروجه أن رجلاً من الجند أراد أن ينزل في منزله عند امرأته في غيبته فمانعته المرأة فضربها الجندي في يدها فأثرت الضربة في معصمها‏.‏

فلما جاء بعلها أبو حرب أخبرته فذهب إلى الجندي وهو غافل فقتله ثم تحصن في رؤوس الجبال وهو مبرقع، فإذا جاء أحد دعاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذم من السلطان، فاتبعه على ذلك خلق كثير من الحراثين وغيرهم، وقالوا‏:‏ هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام‏.‏

فاستفحل أمره جداً، واتبعه نحو من مائة ألف مقاتل، فبعث إليه المعتصم وهو في مرض موته جيشاً نحواً من مائة ألف مقاتل، فلما قدم أمير المعتصم بمن معه وجدهم أمة كثيرة وطائفة كبيرة، وقد اجتمعوا حول أبي حرب فخشي أن يواقعه والحالة هذه، فانتظر إلى أيام حرث الأراضي فتفرق عنه الناس إلى أراضيهم، وبقي في شرذمة قليلة، فناهضه فأسره وتفرق عنه أصحابه، وحمله أمير السرية وهو رجاء بن أيوب حتى قدم به على المعتصم، فلامه المعتصم في تأخره عن مناجزته أول ما قدم الشام‏.‏

فقال‏:‏ كان معه مائة ألف أو يزيدون، فلم أزل أطاوله حتى أمكن الله منه، فشكره على ذلك‏.‏

 وهذه ترجمته

هو أمير المؤمنين، أبو إسحاق، محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، العباسي، يقال له‏:‏ المثمن لأنه‏:‏

ثامن ولد العباس‏.‏

وأنه ثامن الخلفاء من ذريته‏.‏

ومنها‏:‏ أنه فتح ثمان فتوحات‏.‏

ومنها‏:‏ أنه أقام في الخلافة ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وقيل‏:‏ ويومين‏.‏

وأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة‏.‏

وأنه توفي وله من العمر ثمانية وأربعون سنة‏.‏

ومنها‏:‏ أنه خلَّف ثمانية بنين وثماني بنات‏.‏

ومنها‏:‏ أنه دخل بغداد من الشام في مستهل رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة بعد موت أخيه المأمون‏.‏

قالوا‏:‏ وكان أمياً لا يحسن الكتابة، وكان سبب ذلك أنه كان يتردد معه إلى الكتاب غلام فمات الغلام فقال له أبوه الرشيد‏:‏ ما فعل غلامك ‏؟‏

قال‏:‏ مات فاستراح من الكتاب‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ وقد بلغ منك كراهة الكتاب إلى أن تجعل الموت راحة منه‏؟‏ والله يا بني لا تذهب بعد اليوم إلى الكتاب‏.‏

فتركوه فكان أمياً، وقيل‏:‏ بل كان يكتب كتابة ضعيفة

وقد أسند الخطيب من طريقه عن آبائه حديثين منكرين أحدهما‏:‏ في ذم بني أمية ومدح بني العباس من الخلفاء، والثاني‏:‏ في النهي عن الحجامة يوم الخميس‏.‏

وذكر بسنده عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه كتاباً يتهدده فيه فقال للكاتب‏:‏ اكتب‏:‏ قد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏.‏

قال الخطيب‏:‏ غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فأنكى نكاية عظيمة في العدو، وفتح عمورية، وقتل من أهلها ثلاثين ألفاً، وسبى مثلهم، وكان في سبيه ستون بطريقاً، وطرح النار في عمورية في سائر نواحيها فأحرقها، وجاء بنائبها إلى العراق، وجاء ببابها أيضاً معه، وهو منصوب حتى الآن على أحد أبواب دار الخلافة مما يلي المسجد الجامع في القصر‏.‏

وروي عن أحمد بن أبي داؤد القاضي أنه قال‏:‏ ربما أخرج المعتصم ساعده إلي وقال لي‏:‏ عض يا أبا عبد الله بكل ما تقدر عليه‏.‏

فأقول‏:‏ إنه لا تطيب نفسي يا أمير المؤمنين أن أعض ساعدك‏.‏

فيقول‏:‏ إنه لا يضرني‏.‏

فأكدم بكل ما أقدر عليه فلا يؤثر ذلك في يده‏.‏

ومرَّ يوماً في خلافة أخيه بمخيم الجند فإذا امرأة تقول‏:‏ ابني ابني‏.‏

فقال لها‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

فقالت‏:‏ ابني أخذه صاحب هذه الخيمة‏.‏

فجاء إليه المعتصم فقال له‏:‏ أطلق هذا الصبي، فامتنع عليه فقبض على جسده بيده فسمع صوت عظامه من تحت يده، ثم أرسله فسقط ميتاً وأمر بإخراج الصبي إلى أمه‏.‏

ولما ولي الخلافة كان شهماً وله همة عالية في الحرب، ومهابة عظيمة في القلوب، وإنما كانت نهمته في الإنفاق في الحرب لا في البناء ولا في غيره‏.‏

وقال أحمد أبي داؤد‏:‏ تصدق المعتصم على يدي ووهب ما قيمته مائة ألف ألف درهم‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان المعتصم إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل‏.‏

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‏:‏ دخلت يوماً على المعتصم وعنده قيِّنة له تغنيه‏.‏

فقال لي‏:‏ كيف تراها ‏؟‏

فقلت له‏:‏ أراها تقهره بحذق، وتجتله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور، أحسن من نظم الدر على النحور‏.‏

فقال‏:‏ والله لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها‏.‏

ثم قال لابنه هارون الواثق ولي عهده من بعده‏:‏ اسمع هذا الكلام‏.‏

وقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقاً عظيماً كان له من المماليك الترك قريب من عشرين ألفاً، وملك من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره‏.‏

ولما حضرته الوفاة جعل يقول‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ لو علمت أن عمري قصير ما فعلت‏.‏

وقال‏:‏ إني أحدث هذا الخلق، وجعل يقول‏:‏ ذهبت الحيل فلاحيلة‏.‏

وروي عنه أنه قال في مرض موته‏:‏ اللهم إني أخافك من قِبَلي ولا أخافك من قِبَلك، وأرجوك من قِبَلك ولا أرجوك من قِبَلي‏.‏

كانت وفاته بسر من رأى في يوم الخميس ضحى لسبعة عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وعشرين ومائتين -‏.‏

وكان مولده يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة ثمانين ومائة‏.‏

وولي الخلافة في رجب سنة ثمان عشرة ومائتين‏.‏

وكان أبيض أصهب اللحية طويلاً مربوعاً مشرب اللون، أمه أم ولد اسمها‏:‏ ماردة‏.‏

وهو أحد أولاد ستة من أولاد الرشيد، كل منهم اسمه‏:‏ محمد، وهم‏:‏ أبو إسحاق محمد المعتصم، وأبو العباس محمد الأمين، وأبو عيسى محمد، وأبو أحمد، وأبو يعقوب، وأبو أيوب‏.‏

قاله هشام بن الكلبي‏:‏ وقد ولي الخلافة بعده ولده هارون الواثق‏.‏

وقد ذكر ابن جرير أن وزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات رثاه فقال‏:‏

قد فلتُ إذ غيبوك واصطفقت * عليك أيدي التراب والطين

اذهب فنعم الحفيظ كنت على الـ * ـدنيا ونعم الظهير للدين

لا جبر الله أمة فقدت * مثلك إلا بمثل هارون

وقال مروان بن أبي الجنوب - وهو‏:‏ ابن أخي حفصة -‏:‏

أبو إسحاق مات ضحى فمتنا * وأمسينا بهارون حيينا

لئن جاء الخميس بما كرهنا * لقد جاء الخميس بما هوينا

خلافة هارون الواثق بن المعتصم

بويع له بالخلافة قبل موت أبيه يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وعشرين ومائتين - ويكنى‏:‏ أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية يقال لها‏:‏ قراطيس، وقد خرجت في هذه السنة قاصدة الحج فماتت بالحيرة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى، وذلك لأربع خلون من ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

وكان الذي أقام للناس الحج فيها جعفر بن المعتصم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي ملك الروم توفيل بن ميخائيل، وكانت مدة ملكه ثنتي عشرة سنة، فملكت الروم بعده امرأته‏:‏ تدورة‏.‏

وكان ابنها ميخائيل بن توفيل صغيراً‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 بشر الحافي الزاهد المشهور

وهو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، المروزي، أبو نصر، الزاهد المعروف‏:‏ بالحافي، نزل بغداد‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان اسم جده‏:‏ عبد الله الغيور، أسلم على يدي علي بن أبي طالب‏.‏

قلت‏:‏ وكان مولده ببغداد سنة خمسين ومائة، وسمع بها شيئاً كثيراً من‏:‏ حماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومالك، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم‏.‏

وعنه جماعة منهم‏:‏ أبو خيثمة، وزهير بن حرب، وسري السقطي، والعباس بن عبد العظيم، ومحمد بن حاتم‏.‏

قال محمد بن سعيد‏:‏ سمع بشراً كثيراً ثم اشتغل بالعبادة واعتزل الناس ولم يحدث‏.‏

وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته وورعه ونسكه وتقشفه‏.‏

قال الإمام أحمد يوم بلغه موته‏:‏ لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس، ولو تزوج لتم أمره‏.‏

وفي رواية عنه أنه قال‏:‏ ما ترك بعده مثله‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة لمسلم، وكان في كل شعرة منه عقل، ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء‏.‏

وذكر غير واحد أن بشراً كان شاطراً في بدء أمره، وأن سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز وجل في أتون حمام فرفعها ورفع طرفه إلى السماء وقال‏:‏ سيدي اسمك ههنا ملقى يداس ‏!‏

ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية وضمخ تلك الرقعة منها ووضعها حيث لا تنال، فأحيى الله قلبه وألهمه رشده وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة‏.‏

من كلامه‏:‏ من أحب الدنيا فليتهيأ للذل‏.‏

وكان بشر يأكل الخبز وحده، فقيل له‏:‏ أما لك أدم ‏؟‏

فقال‏:‏ بلى ‏!‏ أذكر العافية فأجعلها أدماً‏.‏

وكان لا يلبس نعلاً بل يمشي حافياً، فجاء يوماً إلى باب فطرقه فقيل‏:‏ من ذا ‏؟‏

فقال‏:‏ بشر الحافي‏.‏

فقالت له جارية صغيرة‏:‏ لو اشترى نعلاً بدرهم لذهب عنه اسم الحافي‏.‏

قالوا‏:‏ وكان سبب تركه النعل أنه جاء مرة إلى حذّاء فطلب منه شراكاً لنعله فقال‏:‏ ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس ‏؟‏‏!‏

فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلاً أبداً‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكانت وفاته يوم عاشوراء‏.‏

وقيل‏:‏ في رمضان ببغداد‏.‏

وقيل‏:‏ بمرو‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح ببغداد في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة ست وعشرين‏.‏

والأول أصح، والله أعلم‏.‏

وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة‏.‏

وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة‏:‏ هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة‏.‏

وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام فقال‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة‏.‏

وذكر الخطيب أنه كان له أخوات ثلاث وهن‏:‏ مخة، ومضغة، وزبدة‏.‏

وكلهن عابدات زاهدات مثله، وأشد ورعاً أيضاً‏.‏

ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت‏:‏ إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل عليَّ عند البيع أن أميز هذا من هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري‏.‏

وقالت له مرة إحداهن‏:‏ ربما تمرُّ بنا مشاعل بني طاهر في الليل ونحن نغزل فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك‏.‏

فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار‏.‏

وسألته عن أنين المريض‏:‏ أفيه شكوى ‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏ إنما هو شكوى إلى الله عز وجل‏.‏

ثم خرجت فقال لابنه عبد الله‏:‏ يا بني ‏!‏ اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة ‏؟‏

قال عبد الله‏:‏ فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة‏.‏

 

وروى الخطيب أيضاً عن زبدة قالت‏:‏ جاء ليلة أخي بشر فدخل برجله في الدار وبقيت الأخرى خارج الدار، فاستمر كذلك ليلته حتى أصبح‏.‏

فقيل له‏:‏ فيم تفكرت ليلتك ‏؟‏

فقال‏:‏ تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، وفي نفسي، لأن اسمي بشر، فقلت في نفسي‏:‏ ما الذي سبق لي من الله حتى خصني بالإسلام من بينهم‏؟‏ فتفكرت في فضل الله عليَّ وحمدته أن هداني للإسلام، وجعلني ممن خصه به، وألبسني لباس أحبابه‏.‏

وقد ترجمه ابن عساكر فأطنب وأطيب وأطال من غير ملال، وقد ذكر له أشعاراً حسنة، وذكر أنه كان يتمثل بهذه الأبيات‏:‏

تعاف القذى في الماء لا تستطيعه * وتكرع من حوض الذنوب فتشرب

وتؤثر من أكل الطعام ألذه * ولا تذكر المختار من أين يكسب

وترقد يا مسكين فوق نمارق * وفي حشوها نار عليك تلهب

فحتى متى لا تستفيق جهالة * وأنت ابن سبعين بدينك تلعب

وممن توفي فيها‏:‏

 أحمد بن يونس‏.‏

وإسماعيل بن عمرو البجلي‏.‏

وسعيد بن منصور، صاحب السنن المشهورة، التي لا يشاركه فيها إلا القليل‏.‏

ومحمد بن الصباح، الدولابي، ولهن سنن أيضاً‏.‏

 وأبو الوليد الطيالسي‏.‏

وأبو الهذيل العلاف، المتكلم المعتزلي، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

في رمضان منها‏:‏ خلع الواثق على أشناس الأمير، وتوَّجه وألبسه وشاحين من جوهر‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود الأمير‏.‏

وغلا السعر على الناس في طريق مكة جداً، وأصابهم حر شديد وهم بعرفة، ثم أعقبه برد شديد ومطر عظيم، كل ذلك في ساعة واحدة، ونزل عليهم وهم بمنى مطر لم ير مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت جماعة من الحجاج‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها مات‏:‏ أبو الحسن المدائني، أحد أئمة هذا الشأن، في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي‏.‏

وحبيب بن أوس الطائي، أبو تمام الشاعر‏.‏

قلت‏:‏ أما أبو الحسن المدائني فاسمه‏:‏ علي بن المدائني، أحد أئمة هذا الشأن، وإمام الأخباريين في زمانه، وقد قدمنا ذكر وفاته قبل هذه السنة‏.‏ وأما‏:‏

أبو تمام الطائي الشاعر

صاحب الحماسة التي جمعها في فضل النساء بهمدان في دار وزيرها‏.‏

فهو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحيى، أبو تمام الطائي، الشاعر الأديب‏.‏

ونقل الخطيب عن محمد بن يحيى الصولي أنه حكى عن بعض الناس أنهم قالوا‏:‏ أبو تمام حبيب بن تدرس النصراني، فسماه أبوه‏:‏ حبيب أوس بدل تدرس‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأصله من قرية جاسم من عمل الجيدور بالقرب من طبرية، وكان بدمشق يعمل عند حائك، ثم سار به إلى مصر في شبيبته‏.‏

وابن خلكان أخذ ذلك من تاريخ ابن عساكر، وقد ترجم له أبو تمام ترجمة حسنة‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وهو شامي الأصل، وكان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع، ثم جالس بعض الأدباء فأخذ عنهم وكان فطناً فهماً، وكان يحب الشعر فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر فأجاد‏.‏

وشاع ذكره وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه وهو بسر من رأى، فعمل فيه قصائد فأجازه وقدمه على شعراء وقته، قدم بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء، وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق‏.‏

وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر أخباراً بسنده‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع وغير ذلك‏.‏

وكان يقال‏:‏ في طيء ثلاثة‏:‏ حاتم في كرمه، وداود الطائي في زهده، وأبو تمام في شعره‏.‏

وقد كان الشعراء في زمانه جماعة فمن مشاهيرهم‏:‏ أبو الشيص، ودعبل، وابن أبي قيس، وكان أبو تمام من خيارهم ديناً وأدباً وأخلاقاً‏.‏

ومن رقيق شعره قوله‏:‏

يا حليف الندى ويا معدن الجود * ويا خير من حويت القريضا

ليت حماك بي وكان لك الأجـ * ـر فلا تشتكي وكنت المريضا

وقد ذكر الخطيب، عن إبراهيم بن محمد بن عرفة‏:‏ أن أبا تمام توفي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وكذا قال ابن جرير‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه توفي في سنة إحدى وثلاثين، وقيل‏:‏ سنة ثنتين وثلاثين فالله أعلم‏.‏

وكانت وفاته بالموصل، وبنيت على قبره قبة، وقد رثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات فقال‏:‏

نبأٌ أتى من أعظم الأنباء * لما ألمَّ مقلقل الأحشاء

قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم * ناشدتكم لا تجعلوه الطائي

وقال غيره‏:‏

فجع القريض بخاتم الشعراء *وغدير روضتها حبيب الطائي

ماتا معاً فتجاورا في حفرة * وكذاك كنا قبل في الأحياء

وقد جمع الصولي شعر أبي تمام على حروف المعجم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقد امتدح أحمد بن المعتصم ويقال ابن المأمون بقصيدته التي يقول فيها‏:‏

إقدام عمرو في سماحة حاتم * في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقال له بعض الحاضرين‏:‏ أتقول هذا لأمير المؤمنين وهو أكبر قدراً من هؤلاء‏؟‏ فإنك ما زدت على أن شبهته بأجلاف من العرب البوادي‏.‏

فأطرق إطراقة ثم رفع رأسه فقال‏:‏

لا تنكروا ضربي له من دونه * مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره * مثلاً من المشكاة والنبراس

قال‏:‏ فلما أخذوا القصيدة لم يجدوا فيها هذين البيتين، وإنما قالهما ارتجالاً‏.‏

قال‏:‏ ولم يعش بعد هذا إلا قليلاً حتى مات‏.‏

وقيل‏:‏ إن الخليفة أعطاه الموصل لما مدحه بهذه القصيدة، فأقام بها أربعين يوماً ثم مات‏.‏

وليس هذا بصحيح، ولا أصل له، وإن كان قد لهج به بعض الناس كالزمخشري وغيره‏.‏

وقد أورد له ابن عساكر أشياء من شعره مثل قوله‏:‏

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا * هلكن إذاً من جهلهن البهائم

ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد * ولا المجد في كف امرئ والدراهم

ومنه قوله‏:‏

وما أنا بالغيران من دون غرسه * إذا أنا لم أصبح غيوراً على العلم

طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجةً * ومذهب همي والمفرج للغم

 وفيها توفي‏:‏ أبو نصر الفارابي، والعبسي، وأبو الجهم، ومسدد، وداود بن عمرو الضبي، ويحيى بن عبد الحميد الحماني‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

فيها أمر الواثق بعقوبة الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار، ودون ذلك، وجاهر الوزير محمد بن عبد الملك لسائر ولاة الشرط بالعداوة فعسفوا وحبسوا ولقوا شراً عظيماً، وجهداً جهيداً، وجلس إسحاق بن إبراهيم للنظر في أمرهم، وأقيموا للناس وافتضحوا هم والدواوين فضيحة بليغة‏.‏

وكان سبب ذلك أن الواثق جلس ليلة في دار الخلافة وجلسوا يسمرون عنده، فقال‏:‏ هل منكم أحد يعرف سبب عقوبة جدي الرشيد للبرامكة ‏؟‏

فقال بعض الحاضرين‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين ‏!‏ سبب ذلك أن الرشيد عرضت له جارية فأعجبه جمالها فساوم سيدها فيها‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن أقسمت بكل يمين أن لا أبيعها بأقل من مائة ألف دينار‏.‏

فاشتراها منه بها وبعث إلى يحيى بن خالد الوزير ليبعث إليه بالمال من بيت المال، فاعتل بأنها ليست عنده، فأرسل الرشيد إليه يؤنبه ويقول‏:‏ أما في بيت مالي مائة ألف دينار ‏؟‏

وألح في طلبها فقال يحيى بن خالد‏:‏ أرسلوها إليه دراهم ليستكثرها، ولعله يرد الجارية‏.‏

فبعثوا بمائة ألف دينار دراهم ووضعوها في طريق الرشيد وهو خارج إلى الصلاة، فلما اجتاز به رأى كوماً من دراهم‏.‏

فقال‏:‏ ما هذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ ثمن الجارية‏.‏

فاستكثر ذلك وأمر بخزنها عند بعض خدمه في دار الخلافة، وأعجبه جمع المال في حواصله، ثم شرع في تتبع أموال بيت المال فإذا البرامكة قد استهلكوها، فجعل يهمُّ بهم تارة يريد أخذهم وهلاكهم، وتارة يحجم عنهم، حتى إذا كان في بعض الليالي سمر عنده رجل يقال له‏:‏ أبو العود، فأطلق له ثلاثين ألفاً من الدراهم، فذهب إلى الوزير يحيى بن خالد بن برمك فطلبها منه فماطله مدة طويلة، فلما كان في بعض الليالي في السمر عرض أبو العود بذلك للرشيد في قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

وعدت هند وما كادت تعد * ليت هنداً أنجزتنا ما تعد

واستبدَّت مرةً واحدةً * إنما العاجز من لا يستبد

فجعل الرشيد يكرر قوله‏:‏ إنما العاجز من لا يستبد، ويعجبه ذلك‏.‏

فلما كان الصباح دخل عليه يحيى بن خالد فأنشده الرشيد هذين البيتين وهو يستحسنهما، ففهم ذلك يحيى بن خالد وخاف وسأل عن من أنشد ذلك للرشيد‏؟‏ فقيل له‏:‏ أبو العود‏.‏

فبعث إليه وأعطاه الثلاثين ألفاً وأعطاه من عنده عشرين ألفاً، وكذلك ولداه الفضل وجعفر، فما كان عن قريب حتى أخذ الرشيد البرامكة، وكان من أمرهم ما كان‏.‏

فلما سمع ذلك الواثق أعجبه ذلك وجعل يكرر قول الشاعر‏:‏ إنما العاجز من لا يستبد‏.‏

ثم بطش بالكتاب وهم الدواوين على إثر ذلك، وأخذ منهم أموالاً عظيمةً جداً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أمير السنة الماضية وهو أمير الحجيج في السنتين الماضيتين‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ خلف بن هشام البزار أحد مشاهير القراء، وعبد الله بن محمد السندي، ونعيم بن حماد الخزاعي أحد أئمة السنة بعد أن كان من أكابر الجهمية، وله المصنفات في السنن وغيرها، وبشار بن عبد الله المنسوب إليه النسخة المكذوبة عنه أو منه، ولكنها عالية الإسناد إليه، ولكنها موضوعة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

في جمادى منها‏:‏ خرجت بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الأرض فساداً، وأخافوا السبيل، وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى‏.‏

فبعث إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في جيش فقاتلهم في شعبان فقتل منهم خمسين فارساً وأسر منهم وانهزم بقيتهم، فدعاهم إلى الأمان وأن يكونوا على حكم أمير المؤمنين، فاجتمع إليه منهم خلق كثير، فدخل بهم المدينة وسجن رؤوسهم في دار يزيد بن معاوية‏.‏

وخرج إلى الحج في هذه السنة، وشهد معه الموسم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب العراق‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن داود المتقدم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 عبد الله بن طاهر بن الحسين

نائب خراسان وما والاها‏.‏

وكان خراج ما تحت يده في كل سنة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق مكانه ابنه طاهر‏.‏

وتوفي قبله أشناس التركي بتسعة أيام، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ توفي سنة ثمان وعشرين بمرو، وقيل‏:‏ بنيسابور‏.‏

وكان كريماً جواداً، وله شعر حسن، وقد ولي نيابة مصر بعد العشرين ومائتين‏.‏

وذكر الوزير أبو القاسم بن المعزى أن البطيخ العبدلاوي الذي بمصر منسوب إلى عبد الله بن طاهر هذا‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ لأنه كان يستطيبه‏.‏

وقيل‏:‏ لأن أول من زرعه هناك، والله أعلم‏.‏

ومن جيد شعره‏:‏

اغتفر زلتي لتحرز فضل الشَّـ * ـكر منيِّ ولا يفوتك أجري

لا تكلني إلى التوسل بالعذ * ر لعلِّي أن لا أقوم بعذري

ومن شعره قوله‏:‏

نحن قوم يليننا الخد والنَّحـ * ـر على أننا نلين الحديدا

طوع أيدي الصبا تصيدنا العيـ * ـن ومن شأننا نصيد الأسودا

نملك الصَّيد ثم تملكنا البيـ * ـض المضيئات أعيناً وخدودا

تتقي سخطنا الأسود ونخشى * سقط الخشف حين تبدي القعودا

فترانا يوم الكريهة أحرا * راً وفي السِّلم للغواني عبيدا

قال ابن خلكان‏:‏ وكان خزاعياً من موالي طلحة الطلحات الخزاعي، وقد كان أبو تمام يمدحه، فدخل إليه مرة فأضافه الملح بهمدان، فصنف له كتاب الحماسة عند بعض نسائه‏.‏

ولما ولاه المأمون نيابة الشام ومصر صار إليها وقد رسم له بما في ديار مصر من الحواصل، فحمل إليه وهو في أثناء الطريق ثلاثة آلاف ألف دينار، ففرقها كلها في مجلس واحد، وأنه لما واجه مصر نظر إليها فاحتقرها وقال‏:‏ قبّح الله فرعون، ما كان أخسه وأضعف همته حين تبجح وتعاظم بملك هذه القرية، وقال‏:‏ أنا ربكم الأعلى‏.‏

وقال‏:‏ أليس لي ملك مصر‏؟‏ فكيف لو رأى بغداد وغيرها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ علي بن جعد الجوهري، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي مصنف كتاب الطبقات وغيره، وسعيد بن محمد الجرمي‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ وقعت مفاداة الأسارى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروم على يدي الأمير خاقان الخادم وذلك في المحرم من هذه السنة، وكان عدة الأسارى أربعة آلاف وثلثمائة واثنين وستين أسيراً‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو‏:‏ أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك، وبه تعرف سويقة نصر ببغداد‏.‏

وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن‏.‏

فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن النكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها‏.‏

فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما‏:‏ أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له‏:‏ طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة‏.‏

فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها‏.‏

فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان - وهي ليلة الجمعة - يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه ديناراً ديناراً، وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس، وكانا يتعاطيان الشراب‏.‏

فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد، وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس، فلم يجيء أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة، وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان نائباً لأخيه إسحاق بن إبراهيم، لغيبته عن بغداد، فأصبح الناس متخبطين‏.‏

واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادماً له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان‏.‏

فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله وقال له‏:‏ ما تقول في القرآن ‏؟‏

فقال‏:‏ هو كلام الله‏.‏

قال‏:‏ أمخلوق هو ‏؟‏

قال‏:‏ هو كلام الله‏.‏

وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له‏:‏ فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ ‏]‏ الآية‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته‏)‏‏)‏‏.‏ فنحن على الخبر‏.‏

زاد الخطيب قال الواثق‏:‏ ويحك ‏!‏ أيرى كما يرى المحدود المتجسم‏؟‏ ويحويه مكان ويحصره الناظر‏؟‏ أنا أكفر برب هذه صفته‏.‏

قلت‏:‏ وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم‏.‏

ثم قال أحمد بن نصر للواثق‏:‏ وحدثني سفيان بحديث يرفعه‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء‏)‏‏)‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له إسحاق بن إبراهيم‏:‏ ويحك ‏!‏ انظر ما تقول‏.‏

فقال‏:‏ أنت أمرتني بذلك‏.‏

فأشفق إسحاق من ذلك وقال‏:‏ أنا أمرتك ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ أنت أمرتني أن أنصح له‏.‏

فقال الواثق لمن حوله‏:‏ ما تقولون في هذا الرجل‏؟‏

فأكثروا القول فيه‏.‏

فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضياً على الجانب الغربي فعزل وكان مواداً لأحمد بن نصر قبل ذلك -‏:‏ يا أمير المؤمنين هو حلال الدم‏.‏

وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد‏:‏ اسقني دمه يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال الواثق‏:‏ لابد أن يأتي ما تريد‏.‏

وقال ابن أبي دؤاد‏:‏ هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل‏.‏

فقال الواثق‏:‏ إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي‏.‏

ثم نهض إليه بالصمصامة - وقد كانت سيفاً لعمرو بن معديكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير - فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعاً رحمه الله على النطع ميتاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

رحمه الله وعفا عنه‏.‏

ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرَّمي فصلب فيها، وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياماً، وفي الغربي أياماً، وعنده الحرس في الليل والنهار‏.‏

وفي أذنه رقعة مكتوب فيها‏:‏ هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن، ونفى التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه‏.‏

ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحواً من تسع وعشرين رجلاً فأودعوا في السجون وسموا‏:‏ الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم‏.‏

وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وسمع الحديث من‏:‏ حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وهاشم بن بشير، وكانت عنده مصنفاته كلها‏.‏

وسمع من الإمام مالك بن أنس أحاديث جيدة، ولم يحدث بكثير من حديثه‏.‏

وحدث عنه‏:‏ أحمد بن إبراهيم الدورقي، وأخوه يعقوب بن إبراهيم، ويحيى بن معين، وذكره يوماً فترحم عليه وقال‏:‏ قد ختم الله له بالشهادة، وكان لا يحدث ويقول إني لست أهلاً لذلك‏.‏

وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه جداً‏.‏

وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال‏:‏ رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له‏.‏

وقال جعفر بن محمد الصائغ‏:‏ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ‏:‏ ‏{‏الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ‏} ‏[‏العنكبوت‏:‏ -‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فاقشعر جلدي‏.‏

ورآه بعضهم في النوم فقال له‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي‏.‏

ورأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر، فلما جاوزوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه فقيل له‏:‏ يا رسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله‏.‏

وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق، وقد دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني - صاحب كتاب الحيدة - على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون، فإنهم أساؤوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم‏.‏

فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ويدفنه ففعل، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراماً زائداً جداً كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت أو ما رئي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن‏.‏

فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل‏:‏ في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً‏.‏

ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال‏:‏ قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً‏.‏

ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك فقال‏:‏ ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً‏.‏

قال المتوكل‏:‏ فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار‏.‏

وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال‏:‏ يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً‏.‏

وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني‏:‏ بالفالج - ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

وروى أبو داود في كتاب المسائل، عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن أحمد بن نصر، قال‏:‏ سألت سفيان بن عيينة‏:‏ ‏(‏‏(‏القلوب بين إصبعين من أصابع الله، وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ اروها كما جاءت بلا كيف‏.‏

وفيها‏:‏ أراد الواثق أن يحج واستعد فذكر له أن الماء بالطريق قليل فترك الحج عامئذ‏.‏

وفيها‏:‏ تولى جعفر بن دينار نائب اليمن فسار إليها في أربعة آلاف فارس‏.‏

وفيها‏:‏ عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئاً من الذهب والفضة، فأخذوا وسجنوا‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر خارجي ببلاد ربيعة فقاتله نائب الموصل فكسره وانهزم أصحابه‏.‏

وفيها‏:‏ قدم وصيف الخادم بجماعة من الأكراد نحو من خمسمائة في القيود، كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها، فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار، وخلع عليه‏.‏

وفيها قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فأجابوا إلا أربعة فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة‏.‏

وأمر الواثق أيضاً بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودى وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافهما كما هو مقرر في موضعه‏.‏ وبالله المستعان‏.‏ 

وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له‏:‏ اللامس، عند سلوقية بالقرب من طرسوس، بدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم، فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل الروم مسلماً أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون، ثم يرسل المسلمون أسيراً من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام يشبه التكبير أيضاً‏.‏

ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام بدل كل نفس نفس، ثم بقي مع خاقان جماعة من الروم الأسارى فأطلقهم للروم حتى يكون له الفضل عليهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها مات الحسن بن الحسين أخو طاهر بطبرستان في شهر رمضان‏.‏

وفيها‏:‏ مات الخطاب بن وجه الفلس‏.‏

وفيها‏:‏ مات أبو عبد الله بن الأعرابي الرواية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان، وهو ابن ثمانين سنة‏.‏

وفيها‏:‏ ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضا‏.‏

وفيها‏:‏ مات مخارق المغني‏.‏

وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي‏.‏

وعمرو بن أبي عمرو الشيباني‏.‏

ومحمد بن سعدان النحوي‏.‏

قلت‏:‏ وممن توفي فيها أيضاً أحمد نصر الخزاعي كما تقدم‏.‏

وإبراهيم بن محمد بن عرعرة‏.‏

وأمية بن بسطام‏.‏

وأبو تمام الطائي في قول‏.‏ والمشهور ما تقدم‏.‏

وكامل بن طلحة‏.‏

ومحمد بن سلام الجمحي‏.‏

وأخوه عبد الرحمن‏.‏

ومحمد بن منهال الضرير‏.‏

ومحمد بن منهال أخو حجاج‏.‏

وهارون بن معروف‏.‏

والبويطي صاحب الشافعي مات في السجن مقيداً على القول بخلق القرآن فامتنع من ذلك‏.‏

ويحيى بن بكير راوي الموطأ عن مالك‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ عاثت قبيلة يقال لها‏:‏ بنو نمير باليمامة فساداً فكتب الواثق إلى بغا الكبير وهو مقيم بأرض الحجاز فحاربهم فقتل منهم جماعة وأسر منهم آخرين، وهزم بقيتهم، ثم التقى مع بني تميم وهو في ألفي فارس وهم ثلاثة آلاف، فجرت بينهم حروب ثم كان الظفر له عليهم آخراً، وذلك في النصف من جمادى الآخرة‏.‏

ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد ومعهم من أعيان رؤوسهم في القيود والأسر جماعة، وقد فقد من أعيانهم في الوقائع ما ينيف على ألفي رجل من بني سليم ونمير ومرة وكلاب وفزارة وثعلبة وطي وتميم وغيرهم‏.‏

وفي هذه السنة أصاب الحجيج في رجوعهم عطش شديد حتى بيعت الشربة بالدنانير الكثيرة، ومات خلق كثير من العطش‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة الخليفة الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد أبي جعفر هارون الواثق‏.‏

كان هلاكه في ذي الحجة من هذه السنة بعلة الاستسقاء، فلم يقدر على حضور العيد عامئذ، فاستناب في الصلاة بالناس قاضيه أحمد بن أبي داؤد الإيادي المعتزلي‏.‏

توفي لست بقين من ذي الحجة، وذلك أنه قوي به الاستسقاء فأقعد في تنور قد أحمي له بحيث يمكنه الجلوس فيه ليسكن وجعه، فلان عليه بعض الشيء اليسير، فلما كان من الغد أمر بأن يحمّى أكثر من العادة فأجلس فيه ثم أخرج فوضع في محفة فحمل فيها وحوله أمراؤه و وزراؤه وقاضيه، فمات وهو محمول فيها، فما شعروا حتى سقط جبينه على المحفة وهو ميت، فغمض القاضي عينيه بعد سقوط جبينه، وولي غسله والصلاة عليه ودفنه في قصر الهادي، عليهما من الله ما يستحقانه‏.‏

وكان أبيض اللون مشرباً حمرةً جميل المنظر خبيث القلب حسن الجسم سيء الطوية، قاتم العين اليسرى، فيها نكتة بيضاء، وكان مولده سنة ست وتسعين ومائة بطريق مكة، فمات وهو ابن ست وثلاثين سنة، ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام‏.‏

وقيل‏:‏ سبعة أيام وثنتي عشرة ساعة‏.‏

فهكذا أيام أهل الظلم والفساد والبدع قليلة قصيرة‏.‏

وقد جمع الواثق أصحاب النجوم في زمانه حين اشتدت علته، وإنما اشتدت بعد قتله أحمد بن نصر الخزاعي ليلحقه إلى بين يدي الله، فلما جمعهم أمرهم أن ينظروا في مولده وما تقتضيه صناعة النجوم كم تدوم أيام دولته‏.‏

فاجتمع عنده من رؤوسهم جماعة منهم‏:‏ الحسن بن سهل، والفضل ابن إسحاق الهاشمي، وإسماعيل بن نوبخت‏.‏

ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي، وسند صاحب محمد بن الهيثم، وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في مولده وما يقتضيه الحال عندهم فأجمعوا على أنه يعيش في الخلافة دهراً طويلاً، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا نظر من لم يبصر، فإنه لم يعش بعد قولهم وتقديرهم إلا عشرة أيام حتى هلك‏.‏

ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبرى رحمه الله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام وقد قعد مجلساً كان أول مجلس قعده، وكان أول ما غنى به في ذلك المجلس أن غنته شارية جارية إبراهيم بن المهدي‏:‏

ما درى الحاملون يوم استقلوا * نعشه للثواء أم للقاء

فيلقل فيك باكياتك ماشئـ *ن صياحاً في وقت كل مساء

قال‏:‏ فبكى وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه‏.‏

ثم اندفع بعضهم يغنى‏:‏

ودّع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

فازداد بكاؤه وقال‏:‏ ما سمعت كاليوم قط تعزية بأب وبغى نفس، ثم أرفض ذلك المجلس‏.‏

وروى الخطيب أن دعبل بن علي الشاعر لما تولى الواثق عمد إلى طومار فكتب فيه أبيات شعر ثم جاء إلى الحاجب فدفعه إليه وقال‏:‏ اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل‏:‏ هذه أبيات امتدحك بها دعبل فلما فضّها الواثق إذا فيها‏:‏

الحمد لله لا صبر ولا جدل * ولا عزاء إذا أهل الهوى رقدوا

خليفةً مات لم يحزن له أحد * وآخر قام لم يفرح به أحد

فمر هذا ومر الشؤم يتبعه * وقام هذا فقام الويل

والنكد

قال‏:‏ فتطلبه الواثق بكل ما يقدر عليه من الطلب

فلم يقدر عليه حتى مات الواثق‏.‏

وروي أيضاً‏:‏ أنه لما استخلف الواثق ابن أبي داود على الصلاة في يوم العيد ورجع إليه بعد أن قضاها قال له‏:‏ كيف كان عيدكم يا أبا عبد الله‏؟‏ قال‏:‏ كنا في نهار لا شمس فيه، فضحك وقال‏:‏ يا أبا عبد الله أنا مؤيد بك‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن‏.‏

قال ويقال‏:‏ إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته فأخبرني عبد الله ابن أبي الفتح أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس عن رجل عن المهدي‏:‏ أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن‏.‏

وروي أن الواثق دخل عليه يوماً مؤدبه فأكرمه إكراماً كثيراً فقيل له في ذلك فقال‏:‏ هذا أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني برحمة الله‏.‏

وكتب إليه بعض الشعراء‏:‏

جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى * وقلت لها عفي عن الطلب النزر

فإن أمير المؤمنين بكفه * مدار رحا الأرزاق دائبة تجري

فوقع له في رقعته جذبتك نفسك عن امتهانها، ودعتك إلى صونها فخذ ما طلبته هيناً، وأجزل له العطاء‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

هي المقادير تجري في أعنتها * فأصبر فليس لها صبر على حال

ومن شعر الواثق قوله‏:‏

تنحّ عن القبيح ولا ترده *ومن أوليته حسناً فزده

ستكفى من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده

وقال القاضي يحيى بن أكثم‏:‏ ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق‏:‏ ما مات وفيهم فقير‏.‏

ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين‏:‏

الموت فيه جميع الخلق مشترك * لا سوقة منهم يبقى ولا ملك

ما ضر أهل قليل في تفاقرهم * وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا

ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول‏:‏ يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لما احتضر الواثق ونحن حوله غشي عليه فقال بعضنا لبعض‏:‏ انظروا هل قضى ‏؟‏

قال‏:‏ فدنوت من بينهم إليه لأنظر هل هدأ نفسه، فأفاق فلحظ إلي بعينه فرجعت القهقري خوفاً منه، فتعلقت قائمة سيفي بشيء فكدت أن أهلك، فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه وبقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لأخيه جعفر المتوكل، وجلست أنا أحرس الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرذ قد أكل عينه التي لحظ إلي بها، وما كان حولها من الخدين‏.‏

وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني، في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين - عن ست وثلاثين سنة، وقيل ثنتين وثلاثين سنة‏.‏

وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وقيل خمس سنين وشهران وأحد وعشرين يوماً، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله، والله أعلم‏.‏

خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم

بويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق وقت الزوال من يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة‏.‏

وكانت الأتراك قد عزموا على تولية محمد بن الواثق فاستصغروه فتركوه وعدلوا إلى جعفر هذا، وكان عمره إذ ذاك ستاً وعشرين سنة، وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة أحمد بن أبي داؤد القاضي، وكان هو أول من سلم عليه بالخلافة وبايعه الخاصة والعامة، وكانوا قد اتفقوا على تسميته بالمنتصر بالله،

إلى صبيحة يوم الجمعة فقال ابن أبي داؤد رأيت أن يلقب بالمتوكل على الله، فاتفقوا على ذلك، وكتب إلى الآفاق وأمر بإعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور، وللمغاربة أربعة شهور، ولغيرهم ثلاثة شهور، واستبشر الناس به‏.‏

وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئاً نزل عليه من السماء مكتوب فيه جعفر المتوكل على الله، فعبره فقيل له هي الخلافة، فبلغ ذلك أخاه الواثق فسجنه حيناً ثم أرسله‏.‏

 

وفيها‏:‏ حج بالناس أمير الحجيج محمد بن داود‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الحكم بن موسى، وعمرو بن محمد الناقد‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

في يوم الأربعاء سابع صفر منها أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق، وكان المتوكل يبغضه لأمور، منها أن أخاه الواثق غضب على المتوكل في بعض الأوقات وكان ابن الزيات يزيده غضباً عليه، فبقي ذلك في نفسه، ثم كان الذي استرضى الواثق عليه أحمد بن أبي داؤد فحظي بذلك عنده في أيام ملكه، ومنها أن ابن الزيات كان قد أشار بخلافة محمد بن الواثق بعد أبيه، ولف عليه الناس، وجعفر المتوكل في جنب دار الخلافة لم يلتفت إليه ولم يتم الأمر إلا لجعفر المتوكل على الله، رغم أنف ابن الزيات‏.‏

فلهذا أمر بالقبض عليه سريعاً فطلبه فركب بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه، فانتهى به الرسول إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط به وقيد وبعثوا في الحال إلى داره فأخذ جميع ما فيها من الأموال واللآلي والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشرب، وبعث المتوكل في الحال أيضاً إلى حواصله بسامرا وضياعه وما فيها فاحتاط عليها، وأمر به أن يعذب ومنعوه من الكلام، وجعلوا يساهرونه كلما أراد الرقاد نخس بالحديد، ثم وضعه بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها ووكل به من يمنعه من القعود والرقاد، فمكث كذلك أياماً حتى مات وهو كذلك‏.‏

ويقال إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب، ويقال إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت ما بقي من لحمه وجلده‏.‏

وكانت وفاته لإحدى عشرة من ربيع الأول منها‏.‏

وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف دينار‏.‏

وقد قدمنا أن المتوكل سأله عن قتل أحمد بن نصر الخزاعي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله الواثق إلا كافراً‏.‏

قال المتوكل‏:‏ فأنا أحرقته بالنار‏.‏

وفيها‏:‏ في جمادى الأولى منها بعد مهلك ابن الزيات فلج أحمد بن أبي داؤد القاضي المعتزلي‏.‏

فلم يزل مفلوجاً حتى مات بعد أربع سنين وهو كذلك، كما دعا على نفسه حين سأله المتوكل عن

قتل حمد بن نصر كما تقدم‏.‏

ثم غضب المتوكل على جماعة من الدواوين والعمال، وأخذ منهم أموالاً جزيلةً جداً‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان منها‏.‏

وفيها‏:‏ عمد ملك الروم ميخائيل بن ترفيل إلى أمه تدورة فأقامها بالشمس وألزمها الدير وقتل الرجل الذي اتهمها به، وكان ملكها ست سنين‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن داود أمير مكة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إبراهيم بن الحجاج الشامي، وحبان بن موسى العربي، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، وسهل بن عثمان العسكري، ومحمد بن سماعة القاضي، ومحمد بن عائذ الدمشقي صاحب المغازي، ويحيى المقابري، ويحيى بن معين أحد أئمة الجرح والتعديل، وأستاذ أهل هذه الصناعة في زمانه‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ خرج محمد بن البعيث بن حلبس عن الطاعة في بلاد أذربيجان، وأظهر أن المتوكل قد مات والتف عليه جماعة من أهل تلك الرساتيق، ولجأ إلى مدينة مرند فحصنها، وجاءته البعوث من كل جانب، وأرسل إليه المتوكل جيوشاً يتبع بعضها بعضاً، فنصبوا على بلده المجانيق من كل جانب، وحاصروه محاصرةً عظيمةً جداً، وقاتلهم مقاتلةً هائلةً، وصبر هو وأصحابه صبراً بليغاً، وقدم بغا الشرابي لمحاصرته، فلم يزل به حتى أسره واستباح أمواله وحريمه وقتل خلقاً من رؤس أصحابه، وأسر سائرهم وانحسمت مادة ابن البعيث‏.‏

وفي جمادى الأولى منها خرج المتوكل إلى المدائن‏.‏

وفيها‏:‏ حج إيتاخ أحد الأمراء الكبار وهو والي مكة، ودعي له على المنابر، وقد كان إيتاخ هذا غلاماً خزرياً طباخاً، وكان لرجل يقال له سلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، فرفع منزلته وحظي عنده، وكذلك الواثق من بعده، ضم إليه أعمالاً كثيرةً، وكذلك عامله المتوكل وذلك لفروسيته ورجلته وشهامته، ولما كان في هذه السنة شرب ليلة مع المتوكل فعربد عليه المتوكل فهم إيتاخ بقتله‏.‏

فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له‏:‏ أنت أبي وأنت ربيتني، ثم دس إليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج فاستأذن فأذن له، وأمره على كل بلدة يحل بها، وخرج القواد في خدمته إلى طريق الحج حين خرج، ووكل المتوكل الحجابة لوصيف الخادم عوضاً عن إيتاخ‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود أمير مكة وهو أمير الحجيج من سنين متقدمة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أبو خيثمة زهير بن حرب، وسليمان بن داود الشاركوني أحد الحفاظ، عبد الله بن محمد النفيلي، أبو ربيع الزهراني، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني شيخ البخاري في صناعة الحديث ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، والمعافا الرسيعني، ويحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ عن مالك‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثلاثون ومائتين

في جمادى الآخرة منها كان هلاك إيتاخ في السجن، وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة، فلما اقترب يريد دخول سامرا التي فيها المتوكل بعث إليه إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ليتلقاه وجوه الناس وبني هاشم، فدخلها في أبهة عظيمة، فقبض عليه إسحاق بن إبراهيم وعلى ابنيه مظفر ومنصور وكاتبيه سليمان بن وهب، وقدامه بن زياد النصراني، فأسلم تحت العقوبة، وكان هلاك إيتاخ بالعطش، وذلك أنه أكل أكلاً كثيراً بعد جوع شديد ثم استسقى الماء فلم يسقى حتى مات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة منها‏.‏

ومكث ولداه في السجن مدة خلافة المتوكل، فلما ولي المنتصر ولد المتوكل أخرجهما‏.‏

وفي شوال منها قدم بغا سامرا ومعه محمد بن البعيث وأخواه صقر وخالد، ونائبه العلاء ومعهم من رؤوس أصحابه نحو مائة وثمانين إنساناً فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس، فلما أوقف ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه، فأحضر السيف والنطع فجاء السيافون فوقفوا حوله، فقال له المتوكل‏:‏ ويلك ما دعاك إلى ما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو‏.‏

ثم اندفع يقول بديهة‏:‏

أبى الناس إلا وأنك اليوم قاتلي * إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل

وهل أنا إلا جبلة من خطيئة * وعفوك من نور النبوة يجبل

فإنك خير السابقين إلى العلى * ولا شك أن خير الفعالين تفعل

فقال المتوكل‏:‏ إن معه لأدباً، ثم عفا عنه‏.‏

ويقال‏:‏ بل شفع فيه المعتز بن المتوكل فشفعه، ويقال بل أودع في السجن في قيوده فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك، وقد قال حين هرب‏:‏

كم قد قضيت أموراً كان أهملها * غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم

لا تعذليني فيما ليس ينفعني * إليك عني جرى المقدور بالقلم

سأتلف المال في عسر في يسر * إن الجواد الذي يعطي على العدم

وفيها‏:‏ أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى وأن يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم، وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة، وأن لا يركبوا خيلاً، ولتكن ركبهم من خشب، إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم المهينة لنفوسهم، وأن لا يستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة، وبتضييق منازلهم المتسعة، فيؤخذ منها العشر، وأن يعمل مما كان متسعاً من منازلهم

مسجد، وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والأفاق، وإلى كل بلد ورستاق‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري، وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريباً منه، وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى، فادعى أنه نبي، وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون، وهم تسعة وعشرون رجلاً، وقد نظم لهم كلاماً في مصحف له قبّحه الله، زعم أن جبريل جاءه به من الله، فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط، فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه، وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه، فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات فعليه وعليهم لعنة رب الأرض والسموات‏.‏

ثم اتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة أخذ المتوكل على الله العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم‏:‏ محمد المنتصر، ثم أبو عبد الله المعتز، واسمه محمد، وقيل الزبير، ثم لإبراهيم وسماه المؤيد بالله، ولم يل الخلافة هذا‏.‏

وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائباً عليها ويستنيب فيها ويضرب له السكة بها، وقد عين ابن جرير لكل واحد منهم من البلدان والأقاليم، وعقد لكل واحد منهم لواءين لواء أسود للعهد، ولواء للعمالة، وكتب بينهم كتاباً بالرضى منهم ومبايعته لأكثر الأمراء على ذلك وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفيها في شهر ذي الحجة منها تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ثم صار في لون ماء الدردي ففزع الناس لذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي، وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق‏.‏

وحج بالناس محمد بن داود‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر - يعني نائب بغداد - يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة وجعل ابنه محمد مكانه، وخلع عليه خمس خلع وقلده سيفاً‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان نائباً في العراق من زمن المأمون، وهو من الدعاة تبعاً لسادته وكبرائه إلى القول بخلق القرآن الذي قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ ‏]‏‏.‏

وهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون‏.‏

وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن ما هان

الموصلي النديم الأديب، النادر الشكل في وقته المجموع من كل فن يعرفه أبناء عصره في الفقه والحديث والجدل والكلام واللغة والشعر، ولكن اشتهر بالغناء لأنه لم يكن له في الدنيا نظير فيه‏.‏

قال المعتصم‏:‏ إن إسحاق إذا غنى يخيل لي أنه قد زيد في ملكي‏.‏

وقال المأمون‏:‏ لولا اشتهاره بالغناء لوليته القضاء عليها من عفته ونزاهته وأمانته، وله شعر حسن، وديوان كبير، وكانت عنده كتب كثيرة من كل فن‏.‏

توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر عنه أشياء حسنة، وأشعاراً رائقة، وحكايات مدهشة يطول استقصاؤها‏.‏

فمن غريب ذلك‏:‏ أنه غنى يوم يحيى بن خالد بن برمك، فوقع له بألف ألف، ووقع ابنه جعفر بمثلها، وابنه الفضل بمثلها في حكايات طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي سريح بن يونس، وشيبان بن فروخ، وعبيد الله بن عمر القواريري، وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام، وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثون ومائتين

فيها‏:‏ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجدها بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن المنتصر بن المتوكل‏.‏

وفيها‏:‏ توفي محمد بن إبراهيم بن مصعب سمه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن إبراهيم هذا من الأمراء الكبار‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الحسن بن سهل الوزير والد بوران زوجة المأمون التي تقدم ذكرها، وكان من سادات الناس، ويقال‏:‏ إن إسحاق بن إبراهيم المغني توفي في هذه السنة، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة، فولى ابنه يوسف مكانه على نيابة أرمينية‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إبراهيم بن المنذر الحرابي، ومصعب بن عبد الله الزبيري، وهدبة بن خالد القيسي، وأبو الصلت الهروي أحد الضعفاء‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير، وبعثه إلى نائب الخليفة، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد، فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤوا فحاصروا البلد التي بها يوسف، فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه، وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه، وهلك كثير من الناس من شدة البرد، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الأمر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جداً، فقتل من قتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحواً من ثلاثين ألفاً، وأسر منهم طائفةً كبيرةً، ثم سار إلى بلاد الباق من كور البسفرجان، وسلك إلى مدن كثيرة كبار، ومهد المماليك، ووطد البلاد والنواحي، وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن أبي داؤد القاضي المعتزل، وكان على المظالم فعزله عنها، واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاة القضاة والمظالم أيضاً‏.‏

وفي ربيع الأول‏:‏ أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد، وأخذ ابنه الوليد محمد فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم‏.‏

وكان أبو دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا، ثم نفي أهله من سامراً إلى بغداد مهانين‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فقال في ذلك أبو العتاهية‏:‏

لو كنت في الرأي منسوباً إلى رشد * وكان عزمك عزماً فيه توفيق

لكان في الفقه شغل لو قنعت به * عن أن تقول كتاب الله مخلوق

ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم * ما كان في الفرع لولا الجهل والموق

وفي عيد الفطر منها‏:‏ أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده، وأن يسلم إلى أوليائه ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ جداً، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوماً مشهوداً، ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به وأرهج العامة بذلك فرحاً وسروراً، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمر بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت‏.‏

وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل، واستدعاه من بغداد إليه فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية، فلم يقبلها وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه، فاستحيا منه أحمد كثيراً فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلاً فيه، ثم نزعها نزعاً عنيفاً وهو يبكي رحمه الله تعالى‏.‏

وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص، ويظن أنه يأكل منه وكان أحمد لا يأكل لهم طعاماً بل كان صائماً مواصلاً طاوياً تلك الأيام لأنه لم يتيسر له شيء يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشي من ذلك، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعاً، وارتفعت السنة جداً أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد‏.‏

وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر، وكان قد ولي من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية، وسور بن عبد الله قضاء الجانب الغربي، وكان كلاهما أعوراً فقال في ذلك بعض أصحاب ابن أبي دؤاد‏:‏

رأيت من العجائب قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين

هما اقتسما العمى نصفين قدّاً * كما اقتسما قضاء الجانبين

ويحسب منهما من هز رأساً * لينظر في مواريث ودين

كأنك وضعت عليه دناً * فتحت بزاله من فرد عين

هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذ افتتح القضاء بأعورين

 

وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني، وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أمير الحجاز‏.‏

وفيها‏:‏ توفي حاتم الأصم، وممن توفي فيها‏:‏ عبد الأعلى بن حماد، وعبيد الله بن معاذ العنبري، وأبو كامل الفضيل بن الحسن الجحدري‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

في ربيع الأول منها حاصر بغا مدينة تفليس، وعلى مقدمته زيرك التركي فخرج إليه صاحب تفليس إسحق بن إسماعيل فقاتله، فأسر بغا إسحق فأمر بضرب عنقه وصلبه، وأمر بإلقاء النار في النفط إلى نحو المدينة، وكان أكثر بنائها من خشب الصنوبر فأحرق أكثرها، وأحرق من أهلها نحواً من خمسين ألفاً، وطفئت النار بعد يومين لأن نار الصنوبر لا بقاء لها، ودخل الجند فأسروا من بقي من أهلها واستلبوهم حتى استلبوا المواشي، ثم سار بغا إلى مدن أخرى ممن كان يمالئ أهلها مع من قتل نائب أرمينية يوسف بن محمد بن يوسف، فأخذ بثأره وعاقب من تجرأ عليه‏.‏

وفيها‏:‏ جاءت الفرنج في نحو من ثلثمائة مركب قاصدين مصر من جهة دمياط، فدخلوها فجأة، فقتلوا من أهلها خلقاً، وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحواً من ستمائة امرأة من المسلمات مائة و خمسة وعشرين امرأة، وسائرهن من نساء القبط، وأخذوا من الأمتعة والمال والأسلحة شيئاً كثيراً جداً، وفر الناس منهم في كل جهة، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه، ثم رجعوا على حمية ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا بلادهم لعنهم الله‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الأمير الذي حج بهم قبلها‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إسحق بن راهويه أحد الأعلام وعلماء الإسلام، والمجتهدين من الأنام‏.‏

وبشر بن الوليد الفقيه الحنفي، وطالوت بن عباد، ومحمد بن بكار بن الريان، و محمد بن البرجاني، ومحمد بن أبي السري العسقلاني‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

في المحرم منها زاد المتوكل في التغليظ على أهل الذمة في التميز في اللباس، وأكد الأمر بتخريب الكنائس المحدثة في الإسلام‏.‏

وفيها‏:‏ نفى المتوكل بن الجهم إلى خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز في يوم واحد، وهو الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، وزعمت النصارى أن هذا لم يتفق مثله في الإسلام إلا في هذا العام‏.‏

وغزا الصائفة علي بن يحيى المذكور‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود إلى مكة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فيها توفي أبو الوليد محمد بن القاضي، أحمد بن محمد بن أبي دؤاد الأيادي المعتزلي‏.‏

قلت وممن توفي فيها‏:‏ داود بن رشد، وصفوان بن صالح مؤذن أهل دمشق، وعبد الملك بن حبيب الفقيه المالكي، أحد المشاهير، وعثمان بن أبي شيبة صاحب التفسير والمسند المشهور، ومحمد بن مهران الرازي، ومحمود بن غيلان، ووهب بن بقية‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن عاصم الأنطاكي

أبو علي الواعظ الزاهد أحد العباد والزهاد، له كلام حسن في الزهد ومعاملات القلوب‏.‏

قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ كان من طبقة الحارث المحاسبي، وبشر الحافي، وكان أبو سليمان الدراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته، روى عن أبي معاوية الضرير وطبقته، وعنه أحمد بن الحواري، ومحمود بن خالد، وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم‏.‏

روى أحمد بن الحواري، عن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال‏:‏ مررت بالحسن البصري، وهو جالس وقت السحر فقلت‏:‏ يا أبا سعيد مثلك يجلس في هذا الوقت ‏؟‏

قال‏:‏ إني توضأت وأردت نفسي على الصلاة فأبت علي وأرادتني على أن تنام فأبيت عليها‏.‏

ومن مستجاد كلامه قوله‏:‏ إذا أردت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ جوارحك‏.‏

وقال‏:‏ من الغنيمة الباردة أن تصلح ما بقي من عمرك، فيغفر لك ما مضى منه‏.‏

وقال‏:‏ يسير اليقين يخرج الشك كله من قلبك، ويسير الشك يخرج اليقين كله منه‏.‏

وقال‏:‏ من كان بالله أعرف كان منه أخوف‏.‏

وقال‏:‏ خير صاحب لك في دنياك الهم، يقطعك عن الدنيا، ويوصلك إلى الآخرة‏.‏

ومن شعره‏:‏

هممت ولم أعزم ولو كنت صادقاً * عزمت ولكن الفطام شديد

ولو كان لي عقل وإيقان موقن * لما كنت عن قصد الطريق أحيد

ولو كان لي غير السلوك مطامعي * ولكن عن الأقدار كيف أميد

ومن شعره أيضاً‏:‏

قد بقينا مذبذبين حيارى * نطلب الصدق ما إليه سبيل

فدواعي الهوى تخف علينا * وخلاف الهوى علينا ثقيل

فقد صدق في الأماكن حتى * وصفه اليوم ما عليه دليل

لا نرى خائفاً فيلزمنا الخوف * ولسنا نرى صادقاً على ما يقول

ومن شعره أيضاً‏:‏

هون عليك فكل الأمر ينقطع * وخل عنك ضباب الهم يندفع

فكل هم له من بعده فرج * وكل كرب إذا ضاق يتسع

إن البلاء وإن طال الزمان به * الموت يقطعه أو سوف ينقطع

وقد أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته، ولم يؤرخ وفاته، وإنما ذكرته ههنا تقريباً، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعين ومائتين

فيها‏:‏ عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث موسى بن إبراهيم الرافقي لأنه قتل رجلاً من أشرافهم قتلوا جماعة من أصحابه، وأخرجوه من بين أظهرهم فبعث إليهم المتوكل أميراً عليهم وقال للسفير معه‏:‏ إن قبلوه، وإلا فأعلمني‏.‏

فقبلوه فعمل فيهم الأعاجيب وأهانهم غاية الإهانة‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن القضاء، وصادره بما مبلغه ثمانون ألف دينار، وأخذ منه أراضي كثيرة في أرض البصرة، وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوماً‏.‏

وهذه ترجمته‏:‏

هو أحمد بن أبي دؤاد، واسمه الفرج، - وقيل‏:‏ دعمى، والصحيح أنه اسمه، كنيته الأيادي المعتزلي‏.‏

قال ابن خلكان في نسبه‏:‏ هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام بن مالك بن عبد هند بن عبد نجم بن مالك بن فيض بن منعة بن برجان بن دوس الهذلي بن أمية بن حذيفة بن زهير بن إياد بن أد بن معد بن عدنان‏.‏

قال الخطيب‏:‏ ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق، وكان موصوفاً بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة‏.‏

قال الصولي‏:‏ لم يكن بعد البرامكة أكرم منه، ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الإنس‏.‏

قالوا‏:‏ وكان مولده في سنة ستين ومائة، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأصله من بلاد قنسرين، وكان أبوه تاجراً يفد إلى الشام ثم وفد إلى العراق وأخذ ولده هذا معه إلى العراق، فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمى أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم، ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال‏:‏

رسول الله والخلفاء منا * ومنا أحمد بن أبي دؤاد

فرد عليه بعض الشعراء فقال‏:‏

فقل للفاخرين على نزار * وهم في الأرض سادات العباد

رسول الله والخلفاء منا * ونبرأ من دعى بني إياد وما منا إياد إذا أقرت * بدعوة أحمد بن أبي دؤاد قال‏:‏ فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال‏:‏ لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد‏.‏ وعفا عنه‏.‏ قال الخطيب‏:‏ حدثني الأزهر ثنا أحمد بن عمر الواعظ حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال‏:‏ كان أبي- يعني أحمد بن أبي دؤاد - إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول‏:‏

ما أنت بالسبب الضعيف وإنما * نجح الأمور بقوة الأسباب

واليوم حاجتنا إليك وإنما * يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

 

ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوماً فقال له‏:‏ أحسبك عاتباً‏.‏

فقال‏:‏ إنما يعتب علي واحد، وأنت الناس جميعاً‏.‏

فقال له‏:‏ أنى لك هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ من قول أبي نواس

وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد

وامتدحه أبو تمام يوماً فقال‏:‏

لقد أنست مساوى كل دهر * محاسن أحمد بن أبي دؤاد

وما سافرت في الآفاق إلا * ومن جدوك راحلتي وزادي

نعم الظن عندك والأماني * وإن قلقت ركابي في البلاد

فقال له‏:‏ هذا المعنى تفردت به، أو أخذته من غيرك ‏؟‏

فقال‏:‏ هو لي، غير أني ألمحت بقول أبي نواس‏:‏

وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحة * لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني

وقال محمد بن الصولي‏:‏ ومن مختار مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله‏:‏

أأحمد إن الحاسدين كثير * ومالك إن عد الكرام نظير

حللت محلاً فاضلاً متفادماً * من المجد والفخر القديم فخور

فكل غني أو فقير فإنه * إليك وأن نال السماء فقير

إليك تناهى المجد من كل وجهة * يصير فما يعدوك حيث يصير

وبدر إياد أنت لا ينكرونه * كذاك إياد للأنام بدور

تجنبت أن تدعى الأميرة تواضعاً *وأنت لمن يدعى الأمير أمير

فما من يد إلا إليك ممدة * وما رفعة إلا إليك تشير

قلت‏:‏ قد أخطأ الشاعر في هذه الأبيات خطأً كبيراً، وأفحش في المبالغة فحشاً كثيراً، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل، أن يكون له جهنم وساءت مصيراً‏.‏

وقال ابن أبي دؤاد يوماً لبعضهم‏:‏ لما لم لا تسألني ‏؟‏

فقال له‏:‏ لأني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك‏.‏

فقال له‏:‏ صدقت وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم‏.‏

 

وقال ابن الأعرابي‏:‏ سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير فقال‏:‏ يا غلام أعطه عيراً وبغلاً‏.‏

وبرذونا وفرساً وجارية‏.‏

قال له‏:‏ لو أعلم مركوباً غير هذا لأعطيتك‏.‏ ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخباراً تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات، وعظيم منزلته عند الخلفاء‏.‏

وذكر عن محمد المهدي بن الواثق‏:‏ أن شيخاً دخل يوماً على الواثق فسلم، فلم يرد عليه الواثق بل قال‏:‏ لا سلم الله عليك‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ ‏]‏ فلا حييتني بأحسن منها، ولا رددتها فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ يا أمير المؤمنين الرجل متكلم‏.‏

فقال‏:‏ ناظره‏.‏ فقال ابن أبي دؤاد ما تقول يا شيخ في القرآن‏:‏ أمخلوق هو ‏؟‏

فقال الشيخ‏:‏ لم تنصفني المسألة لي‏.‏

فقال‏:‏ قل ‏!‏

فقال‏:‏ هذا الذي تقوله علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه ‏؟‏

فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ لم يعلموه‏.‏

قال‏:‏ فأنت علمت ما لم يعلموا‏؟‏ فخجل وسكت، ثم قال‏:‏ أقلني بل علموه‏.‏

قال‏:‏ فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت، أما يسعك ما وسعهم‏؟‏ فخجل وسكت، وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها‏.‏

قال المهدي‏:‏ فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره، وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ويقول‏:‏

أما وسعك ما وسعهم‏؟‏ ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحداً‏.‏ ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وساق قصته مطولة، وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الأعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد‏:‏

نكست الدين يا ابن أبي دؤاد * فأصبح من أطاعك في ارتداد

زعمت كلام ربك كان خلقا * أما لك عند ربك من معاد

كلام الله أنزله بعلم * على جبريل إلى خير العباد

ومن أمسى ببابك مستضيفاً * كمن حل الفلاة بغير زاد

لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد * بقولك إنني رجل إيادي

ثم قال الخطيب‏:‏ أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال‏:‏ أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد‏:‏

لو كنت في الرأي منسوباً إلى رشد * وكان عزمك عزماً فيه توفيق

وقد تقدمت هذه الأبيات‏.‏

وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أو يحيى الجلاء أنه قال‏:‏ ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئاً، فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الجامع، وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏‏.‏

ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏ ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه وقال بعضهم‏:‏ رأيت في المنام كأن قائلاً يقول‏:‏ هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد، فقلت له‏:‏ وما سبب هلاكه‏؟‏

فقال‏:‏ إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات‏.‏

وقال غيره‏:‏ رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت‏:‏ ما هذا ‏؟‏

فقيل‏:‏ هذا أنجزت لابن أبي دؤاد‏.‏

وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحاً في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك‏.‏

وقد دخل عليه بعضهم فقال‏:‏ والله ما جئتك عائداً وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن، ثم خرج عنه داعياً عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه، فازداد مرضاً إلى مرضه‏.‏ وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جداً، ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان مولده في سنة ستين ومائة، قلت‏:‏ فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل، ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون، فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم، فولاه المعتصم القضاء والمظالم، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه وجرت بينهما منافسات وهجو، وقد كان لا يقطع أمراً بدونه‏.‏ وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه، وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن‏.‏

ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال، وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وأنه مات قبل أبيه بشهر‏.‏ وأما ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحاً جيداً‏.‏ وقد كان أديباً فصيحاً كريماً جواداً ممدحاً يؤثر العطاء على المنع، والتفرقة على الجمع، وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوماً مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه‏:‏ ليعجبني هذان البيتان‏:‏

ولي نظرة لو كان يحبل ناظر * بنظرته أنثى لقد حبلت مني

فإن ولدت ما بين تسعة أشهر * إلى نظر ابنا فإن ابنها مني

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء والمشاهير، قال الإمام أحمد هو عندنا في مسلاخ الثوري‏.‏ وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ، وسويد بن سعد الحدثاني، وسويد بن نصر، وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين، وعبد الواحد بن غياث وقتيبة بن سعيد شيخ الأئمة والسنة، وأبو العميثل عبد الله بن خالد كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، كان عالماً باللغة، وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة، ومن شعره يمدح عبد الله بن طاهر‏:‏

يا من يحاول أن تكون صفاته * كصفات عبد الله أنصت واسمع

فلا نصحنك في خصال والذي * حج الحجيج إليه فاسمع أو دع

أصدق وعف وبر واصبر واحتمل * واصفح وكافئ دار واحلم واشجع

والطف ولن وتأن وارفق واتئد * واحزم وجد وحام واحمل وادفع

فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي * وهديت للنهج الأسد المهيع

وأما سحنون المالكي صاحب المدونة

فهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن جندب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي، أصله من مدينة حمص، فدخل به أبوه مع جندها بلاد المغرب فأقام بها، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك هنالك، وكان قد تفقه على ابن القاسم، وسببه أنه قدم أسد بن الفرات صاحب الإمام مالك من بلاد العرب إلى بلاد مصر فسأل عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك عن أسئلة كثيرة فأجابه عنها، فعقلها عنه ودخل بها بلاد المغرب فانتسخها منه سحنون، ثم قدم على ابن القاسم مصر فأعاد أسئلته عليه فزاد فيها ونقص، ورجع عن أشياء منها، فرتبها سحنون ورجع بها إلى بلاد المغرب، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن يعرض نسخته على نسخة سحنون ويصلحها بها فلم يقبل، فدعى عليه ابن القاسم فلم ينتفع به ولا بكتابه، وصارت الرحلة إلى سحنون، وانتشرت عنه المدونة، وساد أهل ذلك الزمان، وتولى القضاء بالقيروان، وإلى أن توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، رحمه الله وإيانا‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين

في جمادى الأولى أو الآخرة من هذه السنة، وثب أهل حمص أيضاً على عاملهم محمد بن عبدويه فأرادوا قتله، وساعدهم نصارى أهلها أيضاً عليه، فكتب إلى الخليفة يعلمه بذلك، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وكتب إلى متولي دمشق أن يمده بجيش من عنده ليساعده على أهل حمص، وكتب إليه أن يضرب ثلاثة منهم معروفين بالشر بالسياط حتى يموتوا، ثم يصلبهم على أبواب البلد، وأن يضرب عشرين آخرين منهم كل واحد ثلاثمائة، وأن يرسلهم إلى سامرا مقيدين في الحديد، وأن يخرج كل نصراني بها، ويهدم كنيستها العظمى التي إلى جانب المسجد الجامع، وأن يضيفها إليه، وأمر بخمسين ألف درهم، وللأمراء الذين ساعدوه بصلات سنية‏.‏ فامتثل ما أمره به الخليفة فيهم‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له‏:‏ عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضرباً شديداً مبرحاً، يقال‏:‏ إنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلاً عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت، ويلقى في دجلة ولا يصلى عليه، ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر، وإن كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفيمن قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان‏.‏

والصحيح أنه يكفر أيضاً، لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ مطر الناس في آب مطراً شديداً جداً‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ مات من الدواب شيء كثير، ولا سيما البقر‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ أغارت الروم على عين زربة فأسروا من بها من الزط وأخذوا نساءهم وذراريهم ودوابهم‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ كان الفداء بين المسلمين والروم في بلاد طرسوس بحضرة قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد، عن إذن الخليفة له في ذلك، واستنابه ابن أبي الشوارب‏.‏ وكانت عدة الأسرى من المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين رجلاً، ومن النساء مائة وخمساً وعشرين امرأة، وقد كانت أم الملك تدورة - لعنها الله - عرضت النصرانية على من كان في يدها من الأسارى، وكانوا نحواً من عشرين ألفاً، فمن أجابها إلى النصرانية وإلا قتلته، فقتلت اثني عشر ألفاً، وتنصر بعضهم، وبقي منهم هؤلاء الذين فودوا وهم قريب من التسعمائة رجالاً ونساءً‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت البجة على جيش من أرض مصر، وقد كانت البجة لا يغزون المسلمين قبل ذلك، لهدنة كانت لهم من المسلمين، فنقضوا الهدنة، وصرحوا بالخلاف‏.‏ والبجة طائفة من سودان بلاد المغرب، وكذا النوبة وشنون وزغرير ويكسوم وأمم كثيرة لا يعلمهم إلا الله‏.‏

وفي بلاد هؤلاء معادن الذهب والجوهر، وكان عليهم حمل كل سنة إلى ديار مصر من هذه المعادن، فلما كانت دولة المتوكل امتنعوا من أداء ما عليهم سنين متعددة، فكتب إلى نائب مصر- وهو يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي وهو المعروف بقوصرة - بذلك كله إلى المتوكل، فغضب المتوكل من ذلك غضباً شديداً، وشاور في أمر البجة فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزودوا لمقامهم بها طعاماً وماء، فصده عن البعث إليهم، ثم بلغه أنهم يغيرون على أطراف الصعيد، ويخشى أهل مصر على أولادهم منهم، فجهز لحربهم محمد بن عبد الله القمي، وجعل إليه نيابة تلك البلاد كلها المتاخمة لأرضهم، وكتب إلى عمال مصر أن يعينوه بكل ما يحتاج إليه من الطعام وغير ذلك، فتخلص وتخلص معه من الجيوش الذين انضافوا إليه من تلك البلاد حتى دخل بلادهم في عشرين ألف فارس وراجل، وحمل معه الطعام الأدام في مراكب سبعة، وأمر الذين هم بها أن يلجوا بها في البحر فيوافوه بها إذا توسط بلاد البجة، ثم سار حتى دخل بلادهم وجاوز معادنهم، وأقبل إليه ملك البجة - واسمه علي بابا - في جمع عظيم أضعاف من مع محمد بن عبد الله القمي، وهم قوم مشركون يعبدون الأصنام، فجعل الملك يطاول المسلمين لعله تنفد أزوارهم فيأخذونهم بالأيدي، فلما نفد ما عند المسلمين طمع فيهم السودان فيسر الله وله الحمد بوصول تلك المراكب، وفيها من الطعام والتمر والزيت وغير ذلك مما يحتاجون إليه شيء كثير جداً، فقسمه الأمير بين المسلمين بحسب حاجاتهم، فيئس السودان من هلاك المسلمين جوعاً فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين، ومركبهم الإبل شبيهة بالهجن زعرة جداً كثيرة النفار، لا تكاد ترى شيئاً ولا تسمع شيئاً إلا جفلت منه‏.‏ فلما كان يوم الحرب عمد أمير المسلمين إلى جميع الأجراس التي معهم في الجيش فجعلها في رقاب الخيول، فلما كانت الواقعة حمل المسلمون حملة رجل واحد، فنفرت بهم إبلهم من أصوات تلك الأجراس في كل وجه، وتفرقوا شذر مذر، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤا، لا يمتنع منهم أحد، فلا يعلم عدد من قتلوا منهم إلا الله عز وجل، ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة فكسبهم القمى من حيث لا يشعرون فقتل عامة من بقي منهم وأخذ ملكهم بالأمان، وأدى ما كان عليه من الحمل، وأخذه معه أسيراً إلى الخليفة‏.‏ وكانت هذه الوقعة في أول يوم من هذه السنة، فولاه الخليفة على بلاده كما كان، وجعل إلى ابن القمي أمر تلك الناحية والنظر في أمرها، ولله الحمد والمنة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة، قلت‏:‏ وهذا الرجل كان نائباً على الديار المصرية من جهة المتوكل‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة، وأحداث الموسم ولم يتعرض ابن جرير لوفاة أحد من المحدثين في هذه السنة، وقد توفي من الأعيان الإمام أحمد بن حنبل، وجبارة بن المغسل الحماني، وأبو ثوبة الحلبي، وعيسى بن حماد سجادة، ويعقوب بن حميد بن كاسب، ولنذكر شيئاً من

 الإمام أحمد بن حنبل

فنقول وبالله المستعان هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليهما السلام - أبو عبد الله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي، هكذا ساق نسبه الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي جمعه في مناقب أحمد عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك‏.‏

وروى عن صالح بن الإمام أحمد قال‏:‏ رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال‏:‏ وما تصنع به‏؟‏ ولم ينكر النسب‏.‏ قالوا‏:‏ وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه في ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة‏.‏

وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه‏.‏

قال صالح‏:‏ عن أبيه، فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين، فلما كبرت دفعتهما إلي بثلاثين درهماً‏.‏

وتوفي أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله من العمر سبع وسبعون سنة، رحمه الله‏.‏

وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك وأقبل على سماع الحديث، فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة سبع وثمانين ومائة، وقد بلغ من العمر ست عشر سنة، وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة، ثم سنة إحدى وتسعين‏.‏

وفيها‏:‏ حج الوليد بن مسلم، ثم سنة ست وتسعين، وجاور في سنة سبع وتسعين، ثم حج في سنة ثمان وتسعين، وجاور إلى سنة تسع وتسعين، سافر إلى عند عبد الرازق إلى اليمن، فكتب عنه هو ويحيى بن معين وإسحق بن راهويه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حججت خمس حجج منها ثلاث راجلاً، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهماً‏.‏

قال‏:‏ وقد ضللت في بعضها الطريق وأنا ماش، فجعلت أقول‏:‏ يا عباد الله دلوني على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق، قال‏:‏ وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يمكن عندي شيء‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ عن أبيه، عن حرملة سمعت الشافعي قال‏:‏ وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم على مصر فلم يقدم‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ يشبه أن تكون ذات اليد منعته أن يفي بالعدة، وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم، وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم، وكذلك الرواة عنه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الإمام أحمد‏:‏ وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش، وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة‏.‏

قلت‏:‏ قد أفرد ما رواه أحمد عن الشافعي، وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثاً ومن أحسن ما رويناه عن الإمام أحمد، عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة يرجعه إلى جسده يوم البعث‏)‏‏)‏

وقد قال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين ومائة - وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة - قال له‏:‏ يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازياً كان أو شامياً أو عراقياً أو يمنياً - يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب -‏.‏

وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد، وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه، وقد كان الإمام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء، كما سيأتي ثناء الأئمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة في العلم والحديث، وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق‏.‏

ثم حكى البيهقي كلام أحمد في الإيمان وأنه قول وعمل ويزيد وينقص، وكلامه في القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنكاره على من يقول‏:‏ إن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن‏.‏

قال‏:‏ وفيها حكى أبو عمارة وأبو جعفر، أخبرنا أحمد شيخنا السراج، عن أحمد بن حنبل، أنه قال‏:‏ اللفظ محدث، واستدل بقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فاللفظ كلام الآدميين‏.‏

وروى غيرهما عن أحمد أنه قال‏:‏ القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق، وأما أفعالنا فهي مخلوقة، قلت‏:‏ وقد قرر البخاري في هذا المعنى في أفعال العباد، وذكره أيضاً في الصحيح، واستدل بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏)‏‏.‏

ولهذا قال غير واحد من الأئمة‏:‏ الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، وقد قرر البيهقي ذلك أيضاً‏.‏

وروى البيهقي، من طريق إسماعيل بن محمد بن إسماعيل السلمي، عن أحمد، أنه قال‏:‏ من قال القرآن محدث فهو كافر‏.‏

ومن طريق أبي الحسن الميموني، عن أحمد أنه أجاب الجهيمة حين احتجوا عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏ قال‏:‏ يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث‏.‏

وعن حنبل، عن أحمد أنه قال‏:‏ يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وعظه إياهم‏.‏

ثم ذكر البيهقي كلام الإمام أحمد، وفي رؤية الله في الدار الآخرة، واحتج بحديث صهيب في الرؤية، وهي زيادة، وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه‏.‏

وروى البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل، أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ ‏]‏ أنه‏:‏ جاء ثوابه‏.‏ ثم قال البيهقي‏:‏ وهذا إسناد لا غبار عليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله هو ابن مسعود - قال‏:‏ ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء، وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه، إسناد صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الأثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق‏.‏ والأمر كما قاله ابن مسعود، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة‏.‏

وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة، ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له‏:‏ ما تقول في الخلافة ‏؟‏

فقال‏:‏ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن قدم علياً على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى، لأنهم قدموا عثمان رضي الله عنه‏.‏

 ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله

روى البيهقي، من طريق المزني، عن الشافعي أنه قال للرشيد‏:‏ إن اليمن يحتاج إلى قاض‏.‏

فقال له‏:‏ اختر رجلاً نوله إياها‏.‏

فقال الشافعي لأحمد بن حنبل - وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه - ألا تقبل قضاء اليمن‏؟‏ فامتنع من ذلك امتناعاً شديداً‏.‏

وقال للشافعي‏:‏ إني إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء‏؟‏ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم‏.‏ فاستحى الشافعي منه‏.‏

وروي أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه، ولا يكلهم أيضاً، لأنهم أخذوا جائزة السلطان، ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقاً، فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعاً فقال‏:‏ ما هذه العجلة ‏!‏ كيف خبزتم ‏؟‏

فقالوا‏:‏ وجدنا تنور بيت صالح مسجوراً فخبزنا لك فيه، فقال‏:‏ ارفعوا ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح‏.‏

قال البيهقي‏:‏ لأن صالحاً أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله‏.‏

وقال عبد الله ابنه‏:‏ مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوماً يأكل فيها إلا ربع مد سويقاً، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه، حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وقد رأيت موقيه دخلاً في حدقتيه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع، وكان أحمد لا يتناول منها شيئاً‏.‏

قال‏:‏ وبعث المأمون مرة ذهباً يقسم على أصحاب الحديث، فما بقي منهم أحداً إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى‏.‏

وقال سليمان الشاذكوني‏:‏ حضرت أحمد وقد رهن سطلاً له عند فامي اليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال‏:‏ خذ متاعك منهما، فاشتبه أيهما له فقال‏:‏ أنت في حل منه، ومن الفكك، وتركه وذهب‏.‏

وحكى ابنه عبد الله قال‏:‏ كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فيكتب رجل إلى أبي إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها‏.‏ فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي‏:‏ لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها وقال‏:‏ نحن في كفاية، وجزاك الله عن قصدك خيراً‏.‏ وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه‏.‏ ونفدت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير فقال‏:‏ نحن في كفاية، ولم يقبلها، وسرقت ثيابه وهو في باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهباً فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا ديناراً واحداً ليكتب لهم به، فكتب لهم بالأجر رحمه الله‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط‏.‏

وروى البيهقي‏:‏ أن أحمد سئل عن التوكل فقال‏:‏ هو قطع الاستشراف باليأس من الناس‏.‏

فقيل له‏:‏ هل من حجة على هذا ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال‏:‏ هل لك من حاجة ‏؟‏

قال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏

قال‏:‏ فسل من لك إليه حاجة‏.‏

فقال‏:‏ أحب الأمرين ألي أحبهما إليه‏.‏

وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال‏:‏ كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا‏:‏ ادع الله لنا

فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائماً، ثم سكت فقلنا‏:‏ زدنا ‏!‏

فقال‏:‏ اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض ‏{‏اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ ‏]‏‏.‏

اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تقل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغاً لنا في دنيانا، وغنى من فضلك‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وفي حكاية أبي الفضل التميمي، عن أحمد وكان يدعو في السجود‏:‏ اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق‏.‏

وكان يقول‏:‏ اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فداء فاجعلني فداء لهم‏.‏

وقال صالح بن أحمد‏:‏ كان أبي لا يدع أحداً يستقي له الماء للوضوء، بل كان يلي ذلك بنفسه، فإذا خرج الدلو ملآن قال‏:‏ الحمد لله‏.‏

فقلت‏:‏ يا أبة ما الفائدة بذلك ‏؟‏

فقال‏:‏ يا بني أما سمعت قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ ‏]‏ والأخبار عنه في هذا الباب كثيرة جداً، وقد صنف أحمد في الزهد كتاباً حافلاً عظيماً لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه، والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه منه رحمه الله‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق السراج‏:‏ قال لي أحمد بن حنبل‏:‏ هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏

وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له‏:‏ إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك‏.‏

فقال‏:‏ إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب‏.‏

فلما كان بين العشاءين جاؤوا، وكان الإمام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئاً، بل جاؤوا فجلسوا بين يدي الحارث سكوتاً مطرقي الرؤوس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريباً من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق‏.‏

قال‏:‏ فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت‏:‏ كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ما رأيت أحداً يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ يحتمل أنه كره له صحبتهم لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهداً، فإنه كان عنده شيء من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك، أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع‏.‏

قلت‏:‏ بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى‏:‏ بالرعاية، قال‏:‏ هذا بدعة‏.‏

ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب‏:‏ عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يقول‏:‏ إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب‏.‏

وقال‏:‏ الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر‏.‏

وقال‏:‏ الفقر أشرف من الغنى، فإن الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالاً من الشكر‏.‏

وقال‏:‏ لا أعدل بفضل الفقر شيئاً‏.‏

وكان يقول‏:‏ على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس، ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف‏.‏

وكان يحب التقليل من الدنيا لأجل خفة الحساب‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ قال رجل لأحمد‏:‏ هذا العلم تعلمته لله ‏؟‏

فقال له أحمد‏:‏ هذا شرط شديد ولكن حبب إلي شيء فجمعته‏.‏

وفي رواية أنه قال‏:‏ أما الله فعزيز، ولكن حبب إلى شيء فجمعته‏.‏

وروى البيهقي‏:‏ أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد فقال‏:‏ إن أمي زمنه مقعده منذ عشرين سنة، وقد بعثتني إليك لتدعو لها‏.‏

فكأنه غضب من ذلك، وقال‏:‏ نحن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها‏.‏

ثم دعا الله عز وجل لها‏.‏

فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب، فخرجت إليه على رجليها وقالت‏:‏ قد وهبني الله العافية‏.‏

وروي أن سائلاً سأل فأعطاه الإمام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال‏:‏ هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوي درهماً‏.‏

فأبى فرقاه إلى خمسين درهماً وهو يأبى وقال‏:‏ إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها‏.‏

 باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل

في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق بسبب القرآن العظيم، وما أصابه من الحبس الطويل، والضرب الشديد، والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه، وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم‏.‏

وكان أحمد عالماً بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة، والأخبار المأثورة، وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيماناً واحتساباً، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، وألحق به محببيه فيما نال من كرامة الله تعالى إن شاء الله من غير بليه، وبالله التوفيق والعصمة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏  - ‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ ‏]‏‏.‏

في سواها معنى ما كتبنا‏.‏

وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلاً فيه‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عاصم بن بهدلة، سمعت مصعب بن سعد، يحدث عن سعد، قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الناس أشد بلاء ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما زال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى مسلم في صحيحه قال‏:‏ حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان‏:‏ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه‏)‏‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان بن عمر السكسكي، ثنا عمرو بن قيس السكوني، ثنا عاصم بن حميد، قال‏:‏ سمعت معاذ بن جبل، يقول‏:‏ إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولا الأنفس إلا شحاً‏.‏

وبه قال معاذ‏:‏ لن تروا من الأئمة إلا غلطة، ولن تروا أمراً يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه‏.‏

قال البغوي‏:‏ سمعت أحمد، يقول‏:‏ اللهم رضنا‏.‏

وروى البيهقي، عن الربيع، قال‏:‏ بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب فقال‏:‏ أقرأته ‏؟‏

فقلت‏:‏ لا ‏!‏

فأخذه فقرأه فدمعت عيناه، فقلت‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ وما فيه ‏؟‏

فقال‏:‏ يذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأقرأ عليه السلام مني وقل له‏:‏ إنك ستمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، ويرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

قال الربيع‏:‏ فقلت‏:‏ حلاوة البشارة‏.‏

فخلع قميصه الذي يلي جلده فأعطانيه، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته فقال‏:‏ إني لست أفجعك فيه، ولكن بله بالماء وأعطينيه حتى أتبرك به‏.‏

 ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة أثابهم الله الجنة

قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين‏.‏

فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له‏:‏ جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له‏:‏ يا هذا ‏!‏ إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً‏.‏

قال أحمد‏:‏ وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه‏.‏

فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول‏:‏ يعزُّ عليَّ أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف‏.‏

قال‏:‏ فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال‏:‏ سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن لم يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته‏.‏

قال‏:‏ فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل‏.‏

قال أحمد‏:‏ ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني منهم أذىً كثير‏.‏

وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، وقيل‏:‏ نيفاً وثلاثين شهراً، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم‏.‏

وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه‏.‏

 ذكر ضربه رضي الله عنه بين يدي المعتصم

لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد‏:‏ فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ أنا على القبلة و لله الحمد‏.‏

ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال‏:‏ أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ‏؟‏

فلما دنوت منه وسلمت قال لي‏:‏ ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال‏:‏ اجلس ‏!‏ فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قال‏:‏ إلى شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

قلت‏:‏ فإني أشهد أن لا إله إلا الله‏.‏

قال‏:‏ ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت‏:‏ فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم‏:‏ لولا أنك كنت في يد من قبلي لم أتعرض إليك‏.‏

ثم قال‏:‏ يا عبد الرحمن ‏!‏ ألم آمرك أن ترفع المحنة ‏؟‏

قال أحمد‏:‏ فقلت‏:‏ الله أكبر، هذا فرج المسلمين‏.‏

ثم قال ناظره‏:‏ يا عبد الرحمن، كلمه‏.‏

فقال لي عبد الرحمن‏:‏ ما تقول في القرآن‏؟‏ فلم أجبه‏.‏

فقال المعتصم‏:‏ أجبه‏.‏

فقلت‏:‏ ما تقول في العلم‏؟‏ فسكت‏.‏

فقلت‏:‏ القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله‏.‏ فسكت‏.‏

فقالوا فيما بينهم‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ كفَّرك وكفَّرنا‏.‏ فلم يلتفت إلى ذلك‏.‏

فقال عبد الرحمن‏:‏ كان الله ولا قرآن‏.‏

فقلت‏:‏ كان الله ولا علم‏؟‏ فسكت‏.‏

فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به‏.‏

فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ‏؟‏

فقلت‏:‏ وهل يقوم الإسلام إلا بهما‏.‏

وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ ‏]‏‏.‏

وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله‏:‏ ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ ‏]‏‏.‏

فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ ما تقولون ‏؟‏

فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضاً، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم‏.‏

قال‏:‏ فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت‏:‏ لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس كمثله شيء، فسكت عني‏.‏

وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاماً يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ‏؟‏

وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول‏:‏ يا أحمد ‏!‏ أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي‏.‏

فأقول‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها‏.‏

واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً‏} ‏[‏مريم‏:‏ ‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏وكلم الله موسى تكليماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ ‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ ‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ ‏]‏‏.‏

ونحو ذلك من الآيات‏.‏ فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هذا كافر ضال مضل‏.‏

وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين‏.‏

فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء‏.‏

قال أحمد‏:‏ فعند ذلك قال لي‏:‏ لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني‏.‏

ثم قال‏:‏ خذوه واخلعوه واسحبوه‏.‏

قال أحمد‏:‏ فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث‏)‏‏)‏‏.‏ وتلوت الحديث‏.‏

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم‏)‏‏)‏‏:‏ فبم تستحل دمي، ولم آت شيئاً من هذا‏؟‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك‏.‏

ثم يزالوا يقولون له‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنه ضال مضل كافر‏.‏

فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -‏:‏ شد قطع الله يديك‏.‏

ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطاً فأغمي عليَّ وذهب عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون‏:‏ ويحك ‏!‏ الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل‏:‏ ثمانين سوطاً، لكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً‏.‏

وقد كان الإمام أحمد رجلاً رقيقاً أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله‏.‏

ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي‏:‏ وصليت في دمك ‏!‏

فقال له أحمد‏:‏ قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، فسكت‏.‏

ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان‏.‏

ويروى أنه قال‏:‏ يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة‏.‏

ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندماً كثيراً، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ ‏]‏ الآية‏.‏

ويقول‏:‏ ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك‏؟‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين‏)‏‏)‏ ‏[‏الشورى‏:‏ ‏]‏‏.‏

وينادي المنادي يوم القيامة‏:‏ ‏(‏‏(‏ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا‏)‏‏)‏، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثلاث أقسم عليهن‏:‏ ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله‏)‏‏)‏‏.‏

وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة‏:‏ أحمد بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ومات في الطريق، ونعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي، وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلاً بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي وقد ذكرنا كيفية مقتله‏.‏

 ثناء الأئمة على الإمام أحمد بن حنبل

قال البخاري‏:‏ لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول‏:‏ لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة‏.‏

وقال إسماعيل بن الخليل‏:‏ لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً‏.‏

وقال المزني‏:‏ أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين‏.‏

وقال حرملة‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ خرجت من العراق فما تركت رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل‏.‏

وقال شيخ أحمد يحيى بن سعيد القطان‏:‏ ما قدم على بغداد أحد أحب إلي من أحمد بن حنبل‏.‏

وقال قتيبة‏:‏ مات سفيان الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع‏.‏

وقال‏:‏ إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة‏.‏

قال البيهقي‏:‏ - يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله -‏.‏

- وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يوماً - فقال‏:‏ رحمه الله في الدين ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره، وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها‏.‏

وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل‏:‏ أدخل أحمد الكير فخرج ذهباً أحمر‏.‏

وقال الميموني‏:‏ قال لي علي بن المديني بعد ما امتحن أحمد، وقيل‏:‏ قبل أن يمتحن‏:‏ يا ميمون ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل‏.‏

فعجبت من هذا عجباً شديداً وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له مقالة علي بن المديني فقال‏:‏ صدق ‏!‏ إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصاراً وأعواناً، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان‏.‏

ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول‏:‏ لست أعلم في الإسلام مثله‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، ثم قال‏:‏ ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ‏؟‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط‏:‏ كان محدثاً، وكان حافظاً، وكان عالماً، وكان ورعاً، وكان زاهداً، وكان عاقلاً‏.‏

وقال يحيى بن معين أيضاً‏:‏ أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه‏.‏

وقال الذهلي‏:‏ اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله‏.‏

وقال هلال بن المعلى الرقي‏:‏ منَّ الله على هذه الأمة بأربعة‏:‏

بالشافعي فهم الأحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ‏.‏ وبأبي عبيد بين غريبها‏.‏ وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الأحاديث‏.‏ وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، لولا هؤلاء الأربعة لهلك الناس‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً ومحبرة - يعني‏:‏ في عصره -‏.‏

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء‏:‏ ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأيت من رأى مثله‏.‏

وقال أبو زرعة الرازي‏:‏ ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه‏.‏

وروى البيهقي، عن الحاكم، عن يحيى بن محمد العنبري قال‏:‏ أنشدنا أبو عبد الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله‏:‏

إن ابن حنبل إن سألت إمامنا * وبه الأئمة في الأنام تمسكوا

خلف النبي محمداً بعد الألى * خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا

حذو الشراك على الشراك وإنما * يحذو المثال مثاله المستمسك

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن أبي القاسم البغوي، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معاذ بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري‏.‏ ح‏.‏ قال البغوي‏:‏ وحدثني زياد بن أيوب، حدثنا مبشر، عن معاذ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري‏.‏ ح‏.‏ قال البغوي‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث مرسل، وإسناده فيه ضعف، والعجب أن ابن عبد البر صححه، واحتج به على عدالة كل من حمل العلم، والإمام أحمد من أئمة أهل العلم، رحمه الله، وأكرم مثواه‏.‏

 ما كان من أمر الإمام أحمد بعد المحنة

حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووي حتى برأ، ولله الحمد، ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث، وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهماً ينفقها على عياله ويتقنع بذلك، رحمه الله، صابراً محتسباً‏.‏

ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق، فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محباً للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق‏:‏ لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد - وهو‏:‏ إسحاق بن إبراهيم - أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه فأكرمه وعظمه، لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن فقال له أحمد‏:‏ سؤالك هذا سؤال تعنت، أو استرشاد ‏؟‏

فقال‏:‏ بل سؤال استرشاد‏.‏

فقال‏:‏ هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة إلى سر من رأى ثم سبقه إليه‏.‏ وبلغه أن أحمد اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة فقال المتوكل‏:‏ يرد إن كان قد وطئ بساطي، فرجع الإمام أحمد من الطريق إلى بغداد‏.‏

وقد كان الإمام أحمد كارهاً لمجيئه إليهم، ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس، وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه‏.‏

ثم إن رجلاً من المبتدعة يقال له‏:‏ ابن البلخي وشى إلى الخليفة شيئاً فقال‏:‏ إن رجلاً من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن‏.‏ فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام أحمد جالساً في داره مع عياله فسألوه عما ذكر عنه‏.‏

فقال‏:‏ ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء، ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثره عليَّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، في كلام كثير‏.‏ ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها، فلم يروا شيئاً‏.‏

فلما بلغ المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه، علم أنهم يكذبون عليه كثيراً‏.‏ فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة - وهو‏:‏ أحد الحجبة - بعشرة آلاف درهم من الخليفة‏.‏

وقال‏:‏ هو يقرأ عليك السلام ويقول‏:‏ استنفق هذه، فامتنع من قبولها‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله وقال‏:‏ لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهماً وأعطى منها لأبي أيوب وأبي سعيد الأشج، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه، ولم يعط منها لأهله شيئاً وهم في غاية الفقر والجهد، وجاء بنوا ابنه فقال‏:‏ أعطني درهماً‏.‏ فنظر أحمد إلى ابنه صالح فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي فسكت أحمد‏.‏

وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فقال علي بن الجهم‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك، وتصدق بها عنك، وماذا يصنع أحمد بالمال‏؟‏ إنما يكفيه رغيف‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

فلما مات إسحاق بن إبراهيم، وابنه محمد ولم يكن بينهما إلا القريب، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الإمام أحمد، فقال لأحمد في ذلك، فقال‏:‏ إني شيخ كبير وضعيف، فرد الجواب على الخليفة بذلك، فأرسل يعزم عليه لتأتيني، وكتب إلى أحمد‏:‏ إني أحب أن آنس بقربك، وبالنظر إليك، ويحصل لي بركة دعائك‏.‏

فسار إليه الإمام أحمد - وهو عليل - في بنيه، وبعض أهله، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم، فسلم وصيف على الإمام أحمد فرد السلام‏.‏

وقال له وصيف‏:‏ قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي داؤد، فلم يرد عليه جواباً، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف، فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى، أنزل أحمد في دار إيتاخ، فلما علم بذلك ارتحل منها، وأمر أن يستكري له دار غيرها، وكان رؤوس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ويبلغونه عن الخليفة السلام، ولا يدخلون عليه حتى يقلعون ما عليهم من الزينة والسلاح‏.‏

وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة، وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضاً عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بأنه عليل وأسنانه تتحرك، وهو ضعيف‏.‏

وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة، والفاكهة والثلج، مما يقاوم مائة وعشرين درهماً في كل يوم، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك، ولم يكن أحمد يأكل شيئاً من ذلك بالكلية، بل كان صائماً يطوي، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام، ومع ذلك هو مريض، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلاً من السويق بعد ثمانية أيام‏.‏

وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له فامتنع من قبوله، فألح عليه الأمير فلم يقبل‏.‏

فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله، وقال‏:‏ إنه لا يمكن ردها على الخليفة‏.‏

وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم، فمانع أبو عبد الله الخليفة، فقال الخليفة‏:‏ لا بد من ذلك، وما هذا إلا لولدك‏.‏

فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته، ثم أخذ يلوم أهله وعمه، وقال لهم‏:‏ إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا قد نزل بنا الموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء‏.‏ في كلام طويل يعظهم به‏.‏

فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏ما جاءك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه‏)‏‏)‏‏.‏ وأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان‏.‏

فقال‏:‏ وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال‏.‏

ولما استمر ضعفه جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه، فرجع إليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن أحمد ليس به علة في بدنه، وإنما علته من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة‏.‏

فسكت المتوكل ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الإمام أحمد، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له، وليكن في حجره‏.‏

فتمنع من ذلك، ثم أجاب إليه رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد‏.‏

وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكبه، فامتنع من ركوبه لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه وجاء إلى مجلس المعتز، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس، من وراء ستر رقيق، فلما جاء أحمد قال‏:‏ سلام عليكم‏.‏

وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة، فقالت أم الخليفة‏:‏ الله الله يا بني ‏!‏ في هذا الرجل ترده إلى أهله، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه‏.‏

وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه‏:‏ يا أمه قد تأنست الدار‏.‏

وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان فألبسها أحمد بيده، وأحمد لا يتحرك بالكلية‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ولما جلست إلى المعتز قال مؤدبه‏:‏ أصلح الله الأمير، هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك ‏!‏

فقال‏:‏ إن علمني شيئاً تعلمته‏.‏

قال أحمد‏:‏ فتعجبت من ذكائه في صغره لأنه كان صغيراً جداً، فخرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ويستعيذ بالله من مقته وغضبه‏.‏

ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف وهيأ له حزاقة فلم يقبل أن ينحدر فيها، بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفياً، وأمر أن تباع تلك الخلعة، وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين‏.‏

وجعل أياماً يتألم من اجتماعه بهم، ويقول‏:‏ سلمت منهم طول عمري، ثم ابتليت بهم في آخره‏.‏

وكان قد جاع عندهم جوعاً عظيماً كثيراً حتى كاد أن يقتله الجوع‏.‏

وقد قال بعض الأمراء للمتوكل‏:‏ إن أحمد لا يأكل لك طعاماً، ولا يشرب لك شراباً، ولا يجلس على فرشك، ويحرم ما تشربه‏.‏

فقال‏:‏ والله لو نشر المعتصم وكلمني في أحمد ما قبلت منه‏.‏

وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم تستعلم أخباره وكيف حاله، وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد فلا يجيب بشيء، ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي داؤد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها‏.‏

قال عبد الله بن أحمد‏:‏ وحين رجع أبي من سامرا وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتاً هم فيه أو ينتفع بشيء مما هم فيه لأجل قبولهم أموال السلطان‏.‏

وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره في أشياء تقع له‏.‏

ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى، فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها‏.‏

وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة‏.‏

فكتب فيها المتوكل‏:‏ أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه‏.‏

ثم أمر أن يضرب الرجل لذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط‏.‏

فقال له الخليفة‏:‏ لم ضربته خمسمائة سوط ‏؟‏

فقال‏:‏ مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل‏.‏

وقد كتب الخليفة إلى أحمد يسأله عن القول في القرآن سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة فيها آثار عن الصحابة وغيرهم، وأحاديث مرفوعة‏.‏

وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها، وهي مروية عنه وقد نقلها غير واحد من الحفاظ‏.‏

 وفاة الإمام أحمد بن حنبل

قال ابنه صالح‏:‏ كان مرضه في أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف، فقلت‏:‏ يا أبت ‏!‏ ما كان غداؤك ‏؟‏

فقال‏:‏ ماء الباقلا‏.‏

ثم إن صالحاً ذكر كثرة مجيء الناس من الأكابر وعموم الناس لعيادته، وكثرة حرج الناس عليه، وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها، وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين، فأخذ شيئاً من الأجرة فاشترى تمراً وكفَّر عن أبيه، وفضل من ذلك ثلاثة دراهم‏.‏

وكتب الإمام أحمد وصيته‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏.‏

وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين‏.‏

وأوصي أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً‏.‏

وأوصي لعبد الله بن محمد المعروف ببوران عليَّ نحواً من خمسين ديناراً وهو مصدق فيها، فيقضي ماله عليَّ من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استوفى أعطى ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم‏.‏

ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوماً فسماه‏:‏ سعيداً، وكان له ولد آخر اسمه‏:‏ محمد قد مشى حين مرض فدعاه فالتزمه وقبله ثم قال‏:‏ ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ‏؟‏

فقيل له‏:‏ ذرية تكون بعدك يدعون لك‏.‏

قال‏:‏ وذاك إن حصل‏.‏

وجعل يحمد الله تعالى، وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها أنَّ، وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة، فأنَّ حين اشتد به الوجع‏.‏

وقد روي عن ابنه عبد الله، ويروي عن صالح أيضاً أنه قال‏:‏ حين احتضر أبي جعل يكثر أن يقول‏:‏ لا بعد لا بعد‏.‏

فقلت‏:‏ يا أبت ‏!‏ ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة ‏؟‏

فقال‏:‏ يا بني ‏!‏ إن إبليس واقف في زواية البيت وهو عاض على إصبعه وهو يقول‏:‏ فتَّني يا أحمد ‏؟‏

فأقول‏:‏ لا بعد، لا بعد - يعني‏:‏ لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد - كما جاء في بعض الأحاديث قال إبليس‏:‏ يا رب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم‏.‏

فقال الله‏:‏ وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني‏.‏

وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه‏.‏

وقد كانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فاجتمع الناس في الشوارع، وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان، وأرسل يقول‏:‏ هذا نيابة عن الخليفة، فإنه لو كان حاضراً لبعث بهذا‏.‏

فأرسل أولاده يقولون‏:‏ إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره، وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان‏.‏

وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطاً واشتروا له راوية ماء، وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئاً، وكان لا يزال متغضباً عليهم لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم، وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء‏.‏

وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله‏.‏

وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزَّى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر، وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق‏.‏

وقد روى البيهقي وغير واحد‏:‏ أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف‏.‏

وفي رواية‏:‏ وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ سمعت أبا زرعة يقول‏:‏ بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف‏.‏

قال البيهقي، عن الحاكم، سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي، يقول‏:‏ سمعت محمد بن يحيى الزنجاني، سمعت عبد الوهاب الوراق، يقول‏:‏ ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل‏.‏

فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم‏:‏ سمعت أبي، يقول‏:‏ حدثني محمد بن العباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال‏:‏ أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس‏.‏

وفي بعض النسخ‏:‏ أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفاً، فالله أعلم‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت عبد الله بن أحمد، يقول‏:‏ سمعت أبي، يقول‏:‏ قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر‏.‏

وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان‏.‏

وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس‏.‏

وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جداً فلله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

وقد روى البيهقي، عن حجاج بن محمد الشاعر، أنه قال‏:‏ ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد‏.‏

وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد‏:‏ دفن اليوم سادس خمسة وهم‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد‏.‏

وكان عمره يوم مات سبعاً وسبعين سنة وأياماً أقل من شهر، رحمه الله تعالى‏.‏

 ذكر ما رئي له من المنامات

وقد صح في الحديث لم يبق من النبوة إلا المبشرات‏.‏

وفي رواية‏:‏ إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له‏.‏

وروى البيهقي، عن الحاكم، سمعت علي بن حمشاد، سمعت جعفر بن محمد بن الحسين، سمعت سلمة بن شبيب، يقول‏:‏ كنا عند أحمد بن حنبل وجاءه شيخ ومعه عكازة فسلم وجلس فقال‏:‏ من منكم أحمد بن حنبل ‏؟‏

فقال أحمد‏:‏ أنا ما حاجتك ‏؟‏

فقال‏:‏ ضربت إليك من أربعمائة فرسخ أريت الخضر في المنام فقال لي‏:‏ سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه وقل له‏:‏ إنَّ ساكن العرش والملائكة راضون بما صبرت نفسك لله عز وجل‏.‏

وعن أبي عبد الله محمد بن خزيمة الإسكندراني، قال‏:‏ لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت له‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ أي مشية هذه ‏؟‏

فقال‏:‏ مشية الخدام في دار السلام‏.‏

فقلت‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ أغفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال لي‏:‏ يا أحمد ‏!‏ هذا بقولك القرآن كلامي، ثم قال لي‏:‏ يا أحمد ‏!‏ ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري، وكنت تدعو بهن في دار الدنيا، فقلت‏:‏ يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء اغفر لي كل شيء، حتى لا تسألني عن شيء‏.‏

فقال لي‏:‏ يا أحمد ‏!‏ هذه الجنة قم فادخلها‏.‏

فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة وهو يقول‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ ‏]‏‏.‏

قال فقلت له‏:‏ ما فعل بشر الحافي ‏؟‏

فقال‏:‏ بخ بخ، ومن مثل بشر‏؟‏ تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول‏:‏ كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم‏.‏ أو كما قال‏.‏

وقال أبو محمد بن أبي حاتم‏:‏ عن محمد بن مسلم بن وارة، قال‏:‏ لما مات أبو زرعة رأيته في المنام فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ قال الجبار‏:‏ ألحقوه بأبي عبد الله، وأبي عبد الله، وأبي عبد الله، مالك والشافعي وأحمد بن حنبل‏.‏

وقال أحمد بن خرّزاد الأنطاكي‏:‏ رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وقد برز الرب جل جلاله، لفصل القضاء، وكأن منادياً ينادي من تحت العرش‏:‏ أدخلوا أبا عبد الله، وأبا عبد الله، وأبا عبد الله الجنة‏.‏

قال‏:‏ فقلت لملك إلى جنبي‏:‏ من هؤلاء ‏؟‏

فقال‏:‏ مالك، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل‏.‏

وروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب المقدسي قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو نائم وعليه ثوب مغطى به وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين يذبان عنه‏.‏

وقد تقدم في ترجمة أحمد بن أبي دؤاد، عن يحيى الجلاء أنه رأى كأن أحمد بن حنبل في حلقة بالمسجد الجامع، وأحمد بن أبي داؤد في حلقة أخرى، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين الحلقتين وهو يتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏ ويشير إلى حلقة ابن أبي داؤد ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏ ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه‏.‏

ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائتين

فيها كانت زلازل هائلة في البلاد، فمنها ما كان بمدينة قومس، تهدمت منها دور كثيرة، ومات من أهلها نحو من خمسة وأربعين ألفاً وستة وتسعين نفساً‏.‏

وكانت باليمن وخراسان وفارس والشام وغيرها من البلاد زلازل منكرة‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على بلاد الجزيرة فانتبهوا شيئاً كثيراً وأسروا نحواً من عشرة آلاف من الذراري، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن إبراهيم الإمام بن محمد بن على نائب مكة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي من الأعيان الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور‏.‏

وأبو حسان الزيادي

قاضي الشرقية، واسمه‏:‏ الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن بن يزيد، البغدادي‏.‏

سمع‏:‏ الوليد بن مسلم، ووكيع بن الجراح، والواقدي، وخلقاً سواهم‏.‏

وعنه‏:‏ أبو بكر بن أبي الدنيا، وعلي بن عبد الله الفرغاني، الحافظ المعروف‏:‏ بطفل، وجماعة‏.‏

ترجمه ابن عساكر في تاريخه، قال‏:‏ وليس هو من سلالة زياد بن أبيه، إنما تزوج بعض أجداده بأم ولد لزياد، فقيل له‏:‏ الزيادي‏.‏

ثم أورد من حديثه بسنده عن جابر‏:‏ ‏(‏‏(‏الحلال بين والحرام بين‏)‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏

وروي عن الخطيب، أنه قال‏:‏ كان من العلماء الأفاضل من أهل المعرفة والثقة والأمانة، ولي قضاء الشرقية في خلافة المتوكل، وله تاريخ على السنين، وله حديث كثير‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان صالحاً ديِّناً، قد عمل الكتب، وكانت له معرفة جيدة بأيام الناس، وله تاريخ حسن، وكان كريماً مفضالاً‏.‏

وقد ذكر ابن عساكر عنه أشياء حسنة منها‏:‏ أنه أنفذ إليه بعض أصحابه يذكر له أنه قد أصابته ضائقة في عيد من الأعياد ولم يكن عنده غير مائة دينار فأرسلها بصرتها إليه‏.‏

ثم سأل ذلك الرجل صاحب له أيضاً وشكا إليه مثلما شكا إلى الزيادي، فأرسل بها الآخر إلى ذلك الآخر، وكتب أبو حسان إلى ذلك الرجل الأخير الذي وصلت إليه أخيراً يستقرض منه شيئاً، وهو لا يشعر بالأمر فأرسل إليه بالمائة في صرتها، فلما رآها تعجب من أمرها، وركب إليه يسأله عن ذلك فذكر أن فلاناً أرسلها إليه، فاجتمعوا الثلاثة واقتسموا المائة الدينار، رحمهم الله وجزاهم عن مروءتهم خيراً‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو مصعب الزهري أحد رواة الموطأ عن مالك، وعبد الله بن ذكوان أحد القراء المشاهير، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومحمد بن رمح، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي أحد أئمة الجرح والتعديل، والقاضي يحيى بن أكثم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين

في ذي القعدة منها‏:‏ توجه المتوكل على الله من العراق قاصداً مدينة دمشق ليجعلها له دار إقامة، ومحلة إمامة فأدركه عيد الأضحى بها، وتأسف أهل العراق على ذهاب الخليفة من بين أظهرهم، فقال في ذلك يزيد بن محمد المهبلي‏:‏

أظنُّ الشام تشمت بالعراق * إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن يدع العراق وساكنيها * فقد تبلى المليحة بالطلاق

وحج بالناس فيها الذي حج بهم في التي قبلها وهو نائب مكة‏.‏

 وفيها‏:‏ توفي من الأعيان كما قال ابن جرير‏:‏

 إبراهيم بن العباس

متولي ديوان الضياع‏.‏

قلت‏:‏ هو‏:‏ إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي الشاعر الكاتب، وهو عم محمد بن يحيى الصولي، وكان جده صول بكر ملك جرجان وكان أصله منها، ثم تمجس ثم أسلم على يدي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، ولإبراهيم هذا ديوان شعر ذكره ابن خلكان واستجاد من شعره أشياء منها قوله‏:‏

ولربَّ نازلة يضيق بها الفتى * ذرعاً وعند الله منها مخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكنت أظنها لا تفرج

ومنها قوله‏:‏

كنت السواد لمقلتي * فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت * فعليك كنت أحاذر

ومن ذلك ما كتب به إلى وزير المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات‏:‏

وكنت أخي بإخاء الزمان * فلما ثنى صرت حرباً عوانا

وكنت أذم إليك الزمان * فأصبحت منك أذم الزمانا

وكنت أعدك للنائبات * فها أنا أطلب منك الأمانا

وله أيضاً‏:‏

لا يمنعنك خفض العيش في دعة * نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد إن حللت بها * أهلاً بأهل وأوطاناً بأوطان

كانت وفاته بمنتصف شعبان من هذه السنة بسر من رأى‏.‏

والحسن بن مخلد بن الجراح خليفة إبراهيم بن شعبان‏.‏

قال‏:‏ ومات هاشم بن فيجور في ذي الحجة‏.‏

قلت‏:‏ وفيها توفي‏:‏ أحمد بن سعيد الرباطي، والحارث بن أسد المحاسبي أحد أئمة الصوفية، وحرملة بن يحيى التجيبي صاحب الشافعي، وعبد الله بن معاوية الجمحي، ومحمد بن عمر العدني، وهارون بن عبد الله الحماني، وهناد بن السري‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

في صفر منها‏:‏ دخل الخليفة المتوكل إلى مدينة دمشق في أبهة الخلافة وكان يوماً مشهوداً، وكان عازماً على الإقامة بها، وأمر بنقل دواوين الملك إليها، وأمر ببناء القصور بها، فبنيت بطريق داريا، فأقام بها مدة، ثم إنه استوخمها، ورأى أن هواءها بارد ندي وماءها ثقيل بالنسبة إلى هواء العراق ومائه، ورأى الهواء بها يتحرك من بعد الزوال في زمن الصيف فلا يزال في اشتداد وغبار إلى قريب من ثلث الليل، ورأى كثرة البراغيث بها، ودخل عليه فصل الشتاء فرأى من كثرة الأمطار والثلوج أمراً عجيباً، وغلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه، وانقطعت الأجلاب بسبب كثرة الأمطار والثلوج‏.‏

فضجر منها، ثم جهز بغا إلى بلاد الروم، ثم رجع من آخر السنة إلى سامرا بعد ما أقام بدمشق شهرين وعشرة أيام، ففرح به أهل بغداد فرحاً شديداً‏.‏

وفيها‏:‏ أتى المتوكل بالحربة التي كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بها فرحاً شديداً، وقد كانت تحمل بين يدي رسول الله عليه وسلم يوم العيد وغيره، وقد كانت للنجاشي فوهبها للزبير بن العوام، فوهبها الزبير للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المتوكل أمر صاحب الشرطة أن يحملها بين يديه كما كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيها‏:‏ غضب المتوكل على الطبيب بختيشوع ونفاه وأخذ ماله‏.‏

وحج بالناس فيها عبد الصمد المتقدم ذكره قبلها‏.‏

واتفق في هذه السنة يوم عيد الأضحى وخميس فطر اليهود وشعانين النصارى، وهذا عجيب غريب‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن منيع، وإسحاق بن موسى الخطمي، وحميد بن مسعدة، وعبد الحميد بن بيان، وعلي بن حجر، والوزير محمد بن عبد الملك الزيات، ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين

فيها‏:‏ أمر المتوكل ببناء مدينة الماحوزة، وحفر نهرها فيقال‏:‏ إنه أنفق على بنائها وبناء قصر الخلافة بها الذي يقال له‏:‏ اللؤلؤة، ألفي ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت زلازل كثيرة في بلاد شتى، فمن ذلك بمدينة إنطاكية سقط فيها ألف وخمسمائة دار، وانهدم من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمعت من كوى دورها أصوات مزعجة جداً فخرجوا من منازلهم سراعاً يهرعون، وسقط الجبل الذي إلى جانبها الذي يقال له‏:‏ الأقرع فساخ في البحر، فهاج البحر عند ذلك وارتفع دخان أسود مظلم منتن، وغار نهر على فرسخ منها، فلا يدرى أين ذهب‏.‏

ذكر أبو جعفر بن جرير قال‏:‏ وسمع فيها أهل تنيس ضجة دائمة طويلة مات منها خلق كثير‏.‏

قال‏:‏ وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وطرسوس والمصيصة، وأذنة وسواحل الشام، ورجفت اللاذقية بأهلها فما بقي منها منزل إلا انهدم، وما بقي من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها‏.‏

وفيها‏:‏ غارت مشاش - عين - مكة حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهماً‏.‏

ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالاً جزيلاً حتى خرجت‏.‏

وفيها‏:‏ مات إسحاق بن أبي إسرائيل، وسوار بن عبد الله القاضي، وهلال الرازي‏.‏

وفيها‏:‏ هلك نجاح بن سلمة، وقد كان على ديوان التوقيع، وقد كان حظياً عند المتوكل، ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل أمواله وأملاكه وحواصله، وقد أورد قصته ابن جرير مطولة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن عبدة الضبي، وأبو الحيس القواس مقري مكة، وأحمد بن نصر النيسابوري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى بن بنت السدي، وذو النور المصري، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، ومحمد بن رافع، وهشام بن عمار، وأبو تراب النخشبي‏.‏

وابن الراوندي

الزنديق، وهو‏:‏ أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين بن الراوندي، نسبة إلى قرية بلاد قاشان ثم نشأ ببغداد، كان بها يصف الكتب في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين ومائتين، وإنما ذكرناه ههنا لأن ابن خلكان ذكر أنه توفي في هذه السنة، وقد تلبس عليه ولم يحرجه بل مدحه فقال‏:‏ هو‏:‏ أبو الحسين أحمد بن إسحاق، الراوندي العالم المشهور، له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحو مائة وأربعة عشر كتاباً، منها‏:‏ فضيحة المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب، وغير ذلك‏.‏

وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكتاب‏.‏

توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل‏:‏ ببغداد‏.‏

نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهو غلط، وإنما أرخ ابن الجوزي وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين، كما سيأتي له هناك ترجمة مطولة‏.‏

 

 

ذو النون المصري

ثوبان بن إبراهيم، وقيل‏:‏ ابن الفيض بن إبراهيم، أبو الفيض المصري، أحد مشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات، وذكر شيئاً من فضائله وأحواله، وأرخ وفاته في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي بعدها، وقيل‏:‏ في سنة ثمان وأربعين ومائتين، فالله اعلم‏.‏

وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن مالك، وذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وقال‏:‏ كان أبوه نوبياً، وقيل‏:‏ إنه كان من أهل أخميم، وكان حكيماً فصيحاً‏.‏

وقيل‏:‏ وسئل عن سبب توبته، فذكر أنه رأى قبَّرة عمياء، نزلت من وكرها فانشقت لها الأرض عن سكرجتين من ذهب وفضة في إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء، فأكلت من هذه، وشربت من هذه، وقد شكى عليه مرة إلى المتوكل فأحضره من مصر إلى العراق، فلما دخل عليه وعظه فأبكاه، فرده مكرماً، فكان بعد ذلك إذا ذكر عند المتوكل يثني عليه‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين

في يوم عاشوراء منها‏:‏ دخل المتوكل الماحوزة، فنزل بقصر الخلافة فيها، واستدعى بالقراء، ثم بالمطربين، وأعطى وأطلق، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي صفر منها‏:‏ وقع الفداء بين المسلمين والروم، ففدي من المسلمين نحو من أربعة آلاف أسير‏.‏

وفي شعبان منها‏:‏ أمطرت بغداد مطراً عظيماً استمر نحواً من أحد وعشرين يوماً، ووقع بأرض بلخ مطر ماؤه دم عبيط‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي‏.‏

وحج فيها من الأعيان‏:‏ محمد بن عبد الله بن طاهر، وولي أمر الموسم‏.‏

وممن توفى فيها من الأعيان‏:‏

أحمد بن إبراهيم الدورقي، والحسين بن أبي الحسن المروزي، وأبو عمر الدوري أحد القراء المشاهير، ومحمد بن مصفى الحمصي‏.‏

ودعبل بن علي

ابن رزين بن سليمان الخزاعي، مولاهم الشاعر الماجن، البليغ في المدح، وفي الهجاء أكثر‏.‏

حضر يوماً عند سهل بن هارون الكاتب، وكان بخيلاً فاستدعى بغدائه فإذا ديك في قصعة، وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة، ولا يعمل فيه ضرس‏.‏

فلما حضر بين يديه فقد رأسه، فقال للطباخ‏:‏ ويلك ‏!‏ ماذا صنعت‏؟‏ أين رأسه ‏؟‏

قال‏:‏ ظننت أنك لا تأكله فألقيته‏.‏

فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ والله إني لأعيب على من يلقي الرجلين، فكيف بالرأس وفيه الحواس الأربع، ومنه يصوت، وبه فضل عينيه، وبهما يضرب المثل، وعرفه وبه يتبرك، وعظمه أهنى العظام، فإن كنت رغبت عن أكله فأحضره‏.‏

فقال‏:‏ لا أدري أين هو ‏؟‏

فقال‏:‏ بل أنا أدري هو في بطنك قاتلك الله‏.‏

فهجاه بأبيات ذكر فيها بخله ومسكه‏.‏

أحمد بن أبي الحواري

واسمه‏:‏ عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث، أبو الحسن، التغلبي الغطفاني، أحد العلماء الزهاد المشهورين، والعباد المذكورين، والأبرار المشكورين، ذوي الأحوال الصالحة، والكرامات الواضحة، أصله من الكوفة، وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما الله‏.‏

وروى الحديث عن‏:‏ سفيان بن عيينة، ووكيع، وأبي أسامة، وخلق‏.‏

وعنه‏:‏ أبو داود، وابن ماجه، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو زرعة الرازي، وخلق كثير‏.‏

وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ إني لأظن أن الله يسقي أهل الشام به‏.‏

وكان الجنيد بن محمد يقول‏:‏ هو ريحانة الشام‏.‏

وروى ابن عساكر أنه كان قد عاهد أبا سليمان الدارني ألا يغضبه ولا يخالفه، فجاءه يوماً وهو يحدث الناس فقال‏:‏ يا سيدي ‏!‏ هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر ‏؟‏

فلم يرد عليه أبو سليمان لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد ثانية، وقال له في الثالثة‏:‏ اذهب فاقعد فيه، ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره‏:‏ إني قلت لأحمد اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك فقوموا بنا إليه، فذهبوا فوجدوه جالساً في التنور، ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة‏.‏

وروي أيضاً أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا يملك شيئاً يصلح به الولد، فقال لخادمه‏:‏ اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق، فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه، فدخل عليه رجل في تلك الساعة فقال‏:‏ يا أحمد ‏!‏ إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك شيئاً فرفع طرفه إلى السماء وقال‏:‏ يا مولاي هكذا بالعجلة‏.‏

ثم قال للرجل‏:‏ خذ هذه الدراهم فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئاً، واستدان لأهله دقيقاً‏.‏

وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لأجل الرباط، فما زالت الهدايا تفد إليه من بركة النهار إلى الزوال، ثم فرقها كلها إلى وقت الغروب، ثم قال لي‏:‏ كن هكذا لا ترد على الله شيئاً، ولا تدَّخر عنه شيئاً‏.‏

ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عيَّن فيها أحمد بن أبي الحواري، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة، ثم هدد فأجاب تورية مكرهاً، ثم أطلق رحمه الله‏.‏

وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ ‏]‏ حتى أصبح وقد ألقى كتبه في البحر وقال‏:‏ نعم الدليل كنت لي على الله وإليه، ولكن الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال‏.‏

ومن كلامه‏:‏ لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة‏.‏

وقال‏:‏ من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه‏.‏

وقال‏:‏ من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه‏.‏

وقال‏:‏ قلت لأبي سليمان في ابتداء أمري‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ أتستوص أنت ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

فقال‏:‏ خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك المسلمين، واجعل طاعة الله دثاراً، والخوف منه شعاراً، والإخلاص له زاداً، والصدق حسنة، واقبل مني هذه الكلمة الواحدة ولا تفارقها ولا تغفل عنها‏:‏ من استحيى من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله، بلَّغه الله إلى مقام الأولياء من عباده‏.‏

قال‏:‏ فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة ثلاثين ومائتين، وقيل‏:‏ غير ذلك، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

في شوال منها‏:‏ كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيماً بليغاً، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه، وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه، فاشتد أيضاً حنقه أكثر مما كان‏.‏

فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره وحضرته وشربه، ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به، فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، ويقال‏:‏ من شعبان من هذه السنة، وهو على السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه، ثم ولوا بعده ولده المنتصر‏.‏

 ترجمة المتوكل على الله

جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أم ولد يقال لها‏:‏ شجاع، وكانت من سروات النساء سنحاً وحزماً‏.‏

كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين‏.‏

وقد روى الخطيب من طريقه، عن يحيى بن أكثم، عن محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من حرم الرفق حرم الخير‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أنشأ المتوكل يقول‏:‏

الرفق يمن والأناة سعادة * فاستأن في رفق تلاق نجاحا

لا خير في حزم بغير رويَّة * والشك وهن إن أردت سراحا

وقال ابن عساكر في تاريخه‏:‏ وحدث عن أبيه المعتصم، ويحيى بن أكثم القاضي‏.‏

وروى عنه‏:‏ علي بن الجهم الشاعر، وهشام بن عمار الدمشقي‏.‏

وقدم المتوكل دمشق في خلافته، وبنى بها قصراً بأرض داريا‏.‏

وقال يوماً لبعضهم‏:‏ إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني‏.‏

وقال أحمد بن مروان المالكي‏:‏ ثنا أحمد بن علي البصري، قال‏:‏ وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل‏.‏

فقال المتوكل لعبيد الله‏:‏ إن هذا لا يرى بيعتنا ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، بلى ‏!‏ ولكن في بصره سوء‏.‏

فقال أحمد بن المعذل‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه‏.‏

وروى الخطيب‏:‏ أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما فأنشده قصيدته التي يقول فيها‏:‏

وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها *

فأعطاه التي في يمينه، وكانت تساوي مائة ألف‏.‏

ثم أنشده‏:‏

بسرِّ من رأى أمير * تغرف من بحره البحار

يرجى ويخشى لكل خطب * كأنه جنة ونار

الملك فيه وفي بنيه * ما اختلف الليل والنهار

يداه في الجود ضرتان * عليه كلتاهما تغار

لم تأت منه اليمين شيئاً * إلا أتت مثله اليسار

 

قال‏:‏ فأعطاه التي في يساره أيضاً‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وقد رويت هذه الأبيات لعلي بن هارون البحتري في المتوكل‏.‏

وروى ابن عساكر، عن علي بن الجهم، قال‏:‏ وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك، ثم أنشأ يقول‏:‏

وكاتبة في الخد بالمسك جعفراً * بنفسي تحطُّ المسك من حيث أثرا

لئن أودعت سطراً من المسك خدها * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

فيا من مناها في السريرة جعفر * سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا

ويا من لملوك بملك يمينه * مطيع له فيما أسرَّ وأظهر

قال‏:‏ ثم أمر المتوكل عرباً فغنت به‏.‏

وقال الفتح بن خاقان‏:‏ دخلت يوماً على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ مالك مفكر‏؟‏ فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشاً، ولا أنعم منك بالاً‏.‏

قال‏:‏ بلى ‏!‏ أطيب مني عيشاً رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه‏.‏

وكان المتوكل محبباً إلى رعيته، قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأحمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال‏:‏ فقلت‏:‏ المتوكل ‏؟‏

قال‏:‏ المتوكل‏.‏

قلت‏:‏ فما فعل بك ربك ‏؟‏

قال‏:‏ غفر لي‏.‏

قلت‏:‏ بماذا ‏؟‏

قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها‏.‏

وروى الخطيب، عن صالح بن أحمد‏:‏ أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلاً يصعد به إلى السماء، وقائلاً يقول‏:‏

ملك يقاد إلى مليك عادل * متفضل في العفو ليس بجائر

وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال‏:‏ رأيت ليلة المتوكل قائلاً يقول‏:‏

يا نائم العين في أوطان جثمان * أفض دموعك يا عمرو بن شيبان

أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان

وافى إلى الله مظلوماً فضجَّ له * أهل السموات من مثنى ووحدان

وسوف يأتيكم من بعده فتن * توقعوها لها شأن من الشان

فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم * فقد بكاه جميع الأنس والجان

قال‏:‏ فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي، فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال‏:‏ ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل فقلت‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي‏.‏

قلت‏:‏ بماذا ‏؟‏

قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها‏.‏

قلت‏:‏ فما تصنع ههنا ‏؟‏

قال‏:‏ أنتظر ابني محمداً أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم‏.‏

وذكرنا قريباً كيفية مقتله، وأنه قتل في ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وأربعين ومائتين - بالمتوكلية وهي الماحوزية‏.‏

وصلي عليه يوم الأربعاء، ودفن بالجعفرية وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وكان أسمر، حسن العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أقرب إلى القصر، والله سبحانه أعلم‏.‏

 خلافة محمد المنتصر بن المتوكل

قد تقدم أنه تمالأ هو وجماعة من الأمراء على قتل أبيه، وحين قتل بويع له بالخلافة في الليل، فلما كان الصباح من يوم الأربعاء رابع شوال أخذت له البيعة من العامة، وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز، وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه، ولكنه أكرهه وخاف فسلم وبايع، فلما أخذت البيعة له كان أول ما تكلم به أنه اتهم الفتح بن خاقان على قتل أبيه، وقتل الفتح أيضاً، ثم بعث البيع له إلى الآفاق‏.‏

وفي ثاني يوم من خلافته‏:‏ ولى المظالم لأبي عمرة أحمد بن سعيد، مولى بني هاشم فقال الشاعر‏:‏

يا ضيعة الإسلام لماَّ ولي * مظالم الناس أبو عمره

صيِّر مأموناً على أمة * وليس مأموناً على بعره

وكانت البيعة له بالمتوكلية، وهي المأحوزة، فأقام بها عشرة أيام، ثم تحول هو وجميع قواده وحشمه منها إلى سامرا‏.‏

وفيها‏:‏ في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد، ووكل به‏.‏

وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي‏.‏

 وفيها‏:‏ توفي من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن سعيد الجوهري، وسفيان بن وكيع بن الجراح، وسلمة بن شبيب‏.‏

وأبو عثمان المازني النحوي

واسمه‏:‏ بكر بن محمد بن عثمان البصري، شيخ النحاة في زمانه‏.‏

أخذه عن‏:‏ أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وغيرهم‏.‏

وأخذ عنه‏:‏ أبو العباس المبرد وأكثر عنه‏.‏

وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن، وكان شبيهاً بالفقهاء ورعاً زاهداً ثقةً مأموناً‏.‏

روى عنه المبرد‏:‏ أن رجلاً من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار، فامتنع من ذلك‏.‏

فلامه بعض الناس في ذلك فقال‏:‏ إنما تركت أخذ الأجرة عليه لما فيه من آيات الله تعالى‏.‏

فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق‏:‏

أظلوم إن مصابكم رجلاً * رد السلام تحية ظلم

فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت، وهل يكون رجلاً مرفوعاً أو منصوباً، وبم نصب‏؟‏ أهو اسم أو ماذا ‏؟‏

وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا‏.‏

قال‏:‏ فأرسل الخليفة إليه، فلما مثل بين يديه قال له‏:‏ أنت المازني ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم مازن قيس ‏؟‏

فقلت‏:‏ من مازن ربيعة‏.‏

فأخذ يكلمني بلغتي، فقال‏:‏ باسمك ‏؟‏

وهم يقلبون الباء ميماً والميم باء، فكرهت أن أقول مكر فقلت‏:‏ بكر‏.‏

فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر، وعرف ما أردت‏.‏

فقال‏:‏ على م انتصب رجلاً ‏؟‏

فقلت‏:‏ لأنه معمول المصدر بمصابكم‏.‏

فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة، فأطلق له الخليفة ألف دينار، ورده إلى أهله مكرماً‏.‏

فعوضه الله عن المائة الدينار - لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب لأجل ما فيه من القرآن - ألف دينار عشرة أمثالها‏.‏

روى المبرد عنه، قال‏:‏ أقرأت رجلاً كتاب سيبويه إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره، قال لي‏:‏ أما أنت أيها الشيخ فجزاك الله خيراً، وأما أنا فوالله ما فهمت منه حرفاً‏.‏

توفي المازني في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة ثمان وأربعين‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين

فيها‏:‏ أغزى المنتصر وصيفاً التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفاً، وجهز معه نفقات وعدداً كثيرةً، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتاباً عظيماً فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه‏.‏

وفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر‏:‏ خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أنفسهما من الخلافة، وأشهدا عليهما بذلك، وأنهما عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حلٍّ من بيعتهما، وذلك بعد ما تهددهما أخوهما المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك، ومقصوده تولية ابنه عبد الوهاب بإشارة أمراء الأتراك بذلك‏.‏

وخطب بذلك على رؤوس الأشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق ليعلموا بذلك، ويخطبوا له بذلك على المنابر، ويتوالى على محال الكتابة، والله غالب على أمره، فأراد أن يسلبهما الملك، ويجعله في ولده، والأقدار تكذبه وتخالفه، وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة كان فيها حتفه، وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلماً فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة‏.‏

فقصها على بعض المعبرين فقال‏:‏ تلي خمساً وعشرين سنة الخلافة، وإذا هي مدة عمره قد استكملها في هذه السنة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ دخلنا عليه يوماً فإذا هو يبكي وينتحب شديداً، فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال‏:‏ رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول‏:‏ ويلك يا محمد ‏!‏ قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا أياماً يسيرة ثم مصيرك إلى النار‏.‏

قال‏:‏ فما أملك عيني ولا جزعي‏.‏

فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم‏:‏ هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك‏.‏

فأمر بالشراب فأحضر، وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما زال كذلك مكسوراً حتى مات‏.‏

وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل‏:‏ داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل إلى دماغه عوجل بالموت‏.‏

وقيل‏:‏ بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات‏.‏

وقيل‏:‏ بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات‏.‏

وقيل‏:‏ بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم فدعا تلميذاً له حتى يفصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به، وهو لا يشعر وأنسى الله سبحانه الحجام، فما ذكر حتى رآه قد فصده به، وتحكم فيه السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه‏.‏

وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له‏:‏ كيف حالك ‏؟‏

فقال‏:‏ ذهبت مني الدنيا والآخرة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة‏:‏

فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها * ولكن إلى الرب الكريم أصير

فمات يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل‏:‏ وستة أشهر‏.‏

ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها‏.‏

وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه‏:‏ أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة وغيرهم حين ولي المنتصر -‏:‏ إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لأجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لأجل الملك‏.‏

وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيراً مهيباً جيد البدن، وهو أول خليفة من بنى العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية‏.‏

ومن جيد كلامه قوله‏:‏ والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه، ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه‏.‏

بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر، وأوله خلافة أحمد المستعين بالله‏.‏ والله نسأل المعونة والتوفيق‏.‏