الجزء الحادي عشر - خلافة المستعين بالله

تكملة سنة ثمان و أربعين ومائتين‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

 خلافة المستعين بالله

وهو أبو العباس، أحمد بن محمد المعتصم‏.‏

بويع له بالخلافة يوم مات المنتصر، بايعه عموم الناس، ثم خرجت عليه شرذمة من الأتراك يقولون‏:‏ يا معتز يا منصور‏.‏ ‏

فالتف عليهم خلق، وقام بنصر المستعين جمهور الجيش، فاقتتلوا قتالاً شديداً أياماً، فقتل منهم خلق من الفريقين، وانتهبت أماكن كثيرة من بغداد، وجرت فتن منتشرة كثيرة جداً، ثم استقر الأمر للمستعين، فعزل وولي وقطع ووصل، وأمر ونهى أياماً ومدة غير طويلة‏.‏

وفيها مات بغا الكبير، في جمادى الآخرة منها، فولي الخليفة مكانه ولده موسى بن بغا‏.‏

وقد كانت له همم عالية، وآثار سامية، وغزوات في المشارق والمغارب متوالية، وكان له من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار‏.‏

وترك عشر حبات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، وثلاث حبات سلا ذهباً وورق‏.‏

وفيها عدا أهل حمص على عاملهم، فأخرجوه من بين أظهرهم، فأخذ منهم المستعين مائة رجل من سراتهم، وأمر بهدم سورهم‏.‏

وفيها حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان

أحمد بن صالح‏.‏

والحسين بن علي الكرابيسي‏.‏

وعبد الجبار بن العلاء‏.‏

وعبد الملك بن شعيب‏.‏

وعيسى بن حماد‏.‏

ومحمد بن حميد الرازي‏.‏

ومحمد بن زنبور‏.‏

ومحمد بن العلاء أبو كريب‏.‏

ومحمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي‏.‏ ‏

وأبو حاتم السجستاني‏.‏

واسمه سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي أبو حاتم النحوي اللغوي، صاحب المصنفات الكثيرة، وكان بارعاً في اللغة‏.‏

اشتغل فيها على أبي عبيد والأصمعي، وأكثر الرواية عن أبي زيد الأنصاري‏.‏

وأخذ عنه المبرد وابن دريد وغيرهما‏.‏

وكان صالحاً، كثير الصدقة والتلاوة، كان يتصدق كل يوم بدينار، ويقرأ في كل أسبوع بختمة، وله شعر كثير، منه قوله‏:‏

أبرزوا وجهه الجميل * ولاموا من افتتن

لو أرادوا صيانتي * ستروا وجهه الحسن

كانت وفاته في المحرم، وقيل في رجب من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين

في يوم الجمعة للنصف من رجب، التقى جمع من المسلمين وخلق من الروم، بالقرب من ملطية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، قتل من الفريقين خلق كثير، وقتل أمير المسلمين عمر بن عبيد الله بن الأقطع، وقتل معه ألفا رجل من المسلمين، وكذلك قتل علي بن يحيى الأرمني، وكان أميراً في طائفة من المسلمين أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد كان هذان الأميران من أكبر أنصار الإسلام‏.‏

ووقعت فتنة عظيمة ببغداد في أول يوم من صفر منها، وذلك أن العامة كرهوا جماعة من الأمراء، الذين قد تغلبوا على أمر الخلافة، وقتلوا المتوكل واستضعفوا المنتصر والمستعين بعده، فنهضوا إلى السجن، فأخرجوا من كان فيه، وجاؤوا إلى أحد الجسرين فقطعوه، وضربوا الآخر بالنار، وأحرقوا، ونادوا بالنفير، فاجتمع خلق كثير وجم غفير، ونهبوا أماكن متعددة، وذلك بالجانب الشرقي من بغداد‏.‏ ‏

ثم جمع أهل اليسار أموالاً كثيرة من أهل بغداد لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين، لقتال العدو عوضاً عن من قتل من المسلمين هناك، فأقبل الناس من نواحي الجبال وأهواز وفارس وغيرها لغزو الروم، وذلك أن الخليفة والجيش لم ينهضوا إلى بلاد الروم وقتال أعداء الإسلام، وقد ضعف جانب الخلافة واشتغلوا بالقيان والملاهي، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك وفعلوا ما ذكرنا‏.‏

ولتسع بقين من ربيع الأول نهض عامة أهل سامرا إلى السجن فأخرجوا من فيه أيضاً، كما فعل أهل بغداد وجاءهم قوم من الجيش يقال لهم الزرافة فهزمتهم العامة، فعند ذلك ركب وصيف وبغا الصغير وعامة الأتراك فقتلوا من العامة خلقاً كثيراً، وجرت فتن طويلة ثم سكنت‏.‏

وفي منتصف ربيع الآخر وقعت فتنة بين الأتراك، وذلك أن المستعين قد فوض أمر الخلافة والتصرف في أموال بيت المال إلى ثلاثة وهم أتامش التركي، وكان أخص من عند الخليفة وهو بمنزلة الوزير، وفي حجره العباس بن المستعين يربيه ويعلمه الفروسية‏.‏ وشاهك الخادم، وأم الخليفة‏.‏

وكان لا يمنعها شيئاً تريده، وكان لها كاتب يقال له سلمة بن سعيد النصراني‏.‏

فأقبل أتامش فأسرف في أخذ الأموال حتى لم يبق ببيت المال شيئاً، فغضب الأتراك من ذلك وغاروا منه فاجتمعوا وركبوا عليه وأحاطوا بقصر الخلافة وهو عند المستعين، ولم يمكنه منعه منهم ولا دفعهم عنه، فأخذوه صاغراً فقتلوه وانتهبوا أمواله وحواصله ودوره، واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وولى بغا الصغير فلسطين، وولى وصيفاً الأهواز، وجرى خبط كثير وشر كثير، ووهن الخليفة وضعف‏.‏

وتحركت المغاربة بسامرا في يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الآخرة، فكانوا يجتمعون فيركبون ثم يتفرقون‏.‏

وفي يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى، وهو اليوم السادس عشر من تموز، مطر أهل سامرا مطراً عظيماً برعد شديد، وبرق متصل وغيم منعقد مطبق، والمطر مستهل كثير من أول النهار إلى اصفرار الشمس، وفي ذي الحجة أصاب أهل الري زلزلة شديدة جداً، وتبعتها رجفة هائلة تهدمت منها الدور ومات منها خلق كثير، وخرج بقية أهلها إلى الصحراء‏.‏

وفيها حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والي مكة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان

أيوب بن محمد الوزان‏.‏

والحسن بن الصباح البزار صاحب كتاب السنن، ورجاء بن مرجا الحافظ، وعبد بن حميد صاحب التفسير الحافل‏.‏

وعمرو بن علي الفلاس‏.‏

وعلي بن الجهم‏.‏

ابن بدر بن مسعود بن أسد القرشي السامي من ولد سامة بن لؤي الخراساني ثم البغدادي، أحد الشعراء المشهورين وأهل الديانة المعتبرين‏.‏

وله ديوان شعر فيه أشعار حسنة، وكان فيه تحامل على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان له خصوصية بالمتوكل ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان، وأمر نائبه بها أن يضربه مجرداً ففعل به ذلك، ومن مستجاد شعره‏:‏

بلاء ليس يعدله بلاء * عداوة غير ذي حسب ودين

يبيحك منه عرضاً لم يصنه * ويرتع منك في عرض مصون

قال ذلك في مروان بن أبي حفصة حين هجاه، فقال في هجائه له

‏ لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر * وهذا علي بعده يدعي الشعرا

ولكن أبي قد كان جاراً لأمه * فلما ادعى الأشعار أوهمني أمرا

كان علي بن الجهم قد قدم الشام ثم عاد قاصداً العراق، فلما جاوز حلب ثار عليه أناس من بني كلب، فقاتلهم فجرح جرحاً بليغاً فكان فيه حتفه، فوجد في ثيابه رقعة مكتوب فيها‏:‏

يا رحمتا للغريب بالبلد النا * زح ماذا بنفسه صنعا

فارق أحبابه فما انتفعوا * بالعيش من بعده وما انتفعا

كانت وفاته لهذا السبب في هذه السنة‏.‏

 

 

 ثم دخلت سنة خمسين ومائتين من الهجرة

فيها كان ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم الحسين فاطمة بنت الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏.‏

وذلك أنه أصابته فاقة شديدة، فدخل سامرا فسأل وصيفاً أن يجري عليه رزقاً، فأغلظ له القول‏.‏

فرجع إلى أرض الكوفة فاجتمع عليه خلق من الأعراب، وخرج إليه خلق من أهل الكوفة، فنزل على الفلوجة وقد كثر الجمع معه، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق إلى عامله بالكوفة - وهو أبو أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان - يأمره بقتاله‏.‏

ودخل يحيى بن عمر قبل ذلك في طائفة من أصحابه إلى الكوفة، فاحتوى على بيت مالها فلم يجد فيه سوى ألفي دينار وسبعين ألف درهم، وظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأطلق من فيهما، وأخرج نواب الخليفة منها وأخذ أموالهم واستحوذ عليها، واستحكم أمره بها، والتف عليه خلق من الزيدية وغيرهم، ثم خرج من الكوفة إلى سوادها ثم كر راجعاً إليها‏.‏ ‏

فتلقاه عبد الرحمن بن الخطاب الملقب وجه الفلس، فقاتله قتالاً شديداً فانهزم وجه الفلس، ودخل يحيى بن عمر الكوفة ودعا إلى الرضى من آل محمد، وقوي أمره جداً، وصار إليه جماعة كثيرة من أهل الكوفة، وتولاه أهل بغداد من العامة وغيرهم ممن ينسب إلى التشيع، وأحبوه أكثر من كل من خرج قبله من أهل البيت، وشرع في تحصيل السلاح وإعداد آلات الحرب وجمع الرجال‏.‏

وقد هرب نائب الكوفة منها إلى ظاهرها، واجتمع إليه أمداد كثيرة من جهة الخليفة مع محمد بن عبد الله بن ظاهر، واستراحوا وجمعوا خيولهم، فلما كان اليوم الثاني عشر من رجب أشار من أشار على يحيى بن عمر ممن لا رأي له، أن يركب ويناجز الحسين بن إسماعيل ويكبس جيشه، فركب في جيش كثير من خلق من الفرسان والمشاة أيضاً من عامة أهل الكوفة بغير أسلحة، فساروا إليهم فاقتتلوا قتالاً شديداً في ظلمة آخر الليل، فما طلع الفجر إلا وقد انكشف أصحاب يحيى بن عمر، وقد تقنطر به فرسه ثم طعن في ظهره فخر أيضاً، فأخذوه وحزوا رأسه وحملوه إلى الأمير فبعثوه إلى ابن طاهر، فأرسله إلى الخليفة من الغد مع رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب، فنصب بسامرا ساعة من النهار ثم بعث به إلى بغداد فنصب عند الجسر، ولم يمكن نصبه من كثرة العامة فجعل في خزائن السلاح‏.‏

ولما جيء برأس يحيى بن عمر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر دخل الناس يهنونه بالفتح والظفر، فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فقال له‏:‏ أيها الأمير ‏!‏ إنك لتهنى بقتل رجل لو كان رسول الله حياً لعزّي به، فما رد عليه شيئاً ثم خرج أبو هاشم الجعفري وهو يقول‏:‏

يا بني طاهر كلوه وبيّا * إن لحم النبي غير مريّ

إن وتراً يكون طالبه الله *لوتر نجاحه بالحريّ

وكان الخليفة قد وجه أميراً إلى الحسين بن إسماعيل نائب الكوفة، فلما قتل يحيى بن عمر دخلوا الكوفة، فأراد ذلك الأمير أن يضع في أهلها السيف فمنعه الحسين وأمن الأسود والأبيض، وأطفأ الله هذه الفتنة‏.‏

فلما كان رمضان من هذه السنة خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان، وكان سبب خروجه أنه لما قتل يحيى بن عمر أقطع المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر طائفة من أرض تلك الناحية، فبعث كاتباً له يقال له جابر بن هارون، وكان نصرانياً ليتسلم تلك الأراضي، فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جداً وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا، فجاء إليهم فبايعوه والتف عليه جملة الديلم وجماعة الأمراء في تلك النواحي، ‏‏ فركب فيهم ودخل آمل طبرستان وأخذها قهراً، وجبى خراجها، واستفحل أمره جداً، ثم خرج منها طالباً لقتال سليمان بن عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروب ثم انهزم سليمان هزيمة منكرة، وترك أهله وماله ولم يرجع دون جرجان فدخل الحسن بن زيد سارية فأخذ ما فيها من الأموال والحواصل، وسير أهل سليمان إليه مكرمين على مراكب، واجتمع للحسن بن زيد إمرة طبرستان بكمالها‏.‏

ثم بعث إلى الري فأخذها أيضا وأخرج منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان ولما بلغ خبره المستعين - وكان مدير ملكه يومئذ وصيف التركي - اغتم لذلك جداً واجتهد في بعث الجيوش والأمداد لقتال الحسن بن زيد هذا‏.‏

وفي يوم عرفة منها ظهر بالري أحمد بن عيسى بن حسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فصلى بالناس يوم العيد أحمد بن عيسى هذا ودعا إلى الرضى من آل محمد، فحاربه محمد بن علي بن طاهر فهزمه أحمد بن عيسى هذا واستفحل أمره‏.‏

وفيها وثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه في رجب، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير فاقتتلوا بأرض الرستن فهزمهم، وقتل جماعة من أهلها وأحرق أماكن كثيرة منها، وأسر أشراف أهلها وفيها وثبت الشاكرية والجند في أرض فارس على عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فهرب منهم فانتهبوا داره وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن‏.‏ وفيها غضب الخليفة على جعفر بن عبد الواحد ونفاه إلى البصرة‏.‏

وفيها أسقطت مرتبة جماعة من الأمويين في دار الخلافة‏.‏

وفيها حج بالناس جعفر بن الفضل أمير مكة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان

 أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، والبزي أحد القراء المشاهير‏.‏

والحارث بن مسكين‏.‏

وأبو حاتم السجستاني‏.‏

وقد تقدم ذكره في التي قبلها، وعياد بن يعقوب الرواجني، وعمرو بن بحر الجاحظ صاحب الكلام والمصنفات‏.‏

وكثير بن عبيد الحمصي‏.‏

ونصر بن علي الجهضمي‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين

فيها اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل، وقد اتسع إقطاعه وكثرت عماله، فقتل ونهبت دار كاتبه دُليل بن يعقوب النصراني، ونهبت أمواله وحواصله، وركب الخليفة في حراقة من سامرا إلى بغداد فاضطربت الأمور بسبب خروجه، وذلك في المحرم‏.‏

فنزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر‏.‏

وفيها وقعت فتنة شنعاء بين جند بغداد وجند سامرا، ودعا أهل سامرا إلى بيعة المعتز، واستقر أمر أهل بغداد على المستعين، وأخرج المعتز وأخوه المؤيد من السجن فبايع أهل سامرا المعتز واستحوذ على حواصل بيت المال بها فإذا بها خمسمائة ألف دينار، وفي خزانة أم المستعين ألف ألف دينار، وفي حواصل العباس بن المستعين ستمائة ألف دينار، واستفحل أمر المعتز بسامرا‏.‏

وأمر المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد ويعمل في السورين والخندق، وغرم على ذلك ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، ووكل بكل باب أميراً يحفظه، ونصب على السور خمسة مناجيق، منها واحد كبير جداً، يقال له الغضبان، وست عرادات وأعدوا آلات الحرب والحصار والعدد، وقطعت القناطر من كل ناحية لئلا يصل الجيش إليهم‏.‏

وكتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه في أمره، ويذكره ما كان أخذه عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق، من أنه ولي العهد بعده، فلم يلتفت إليه بل رد عليه واحتج بحجج يطول ذكرها‏.‏

وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا الكبير، وهو مقيم بأطراف الشام لحرب أهل حمص، يدعوه إلى نفسه وبعث إليه بألوية يعقدها لمن اختار من أصحابه، وكتب إليه المستعين يأمره بالمسير إليه إلى بغداد ويأمره أن يستنيب في عمله، فركب مسرعاً فسار إلى سامرا فكان مع المعتز على المستعين‏.‏ وكذلك هرب عبد الله بن بغا الصغير من عند أبيه من بغداد إلى المعتز، وكذلك غيره من الأمراء والأتراك‏.‏

وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل على حرب المستعين وجهز معه جيشاً لذلك، فسار في خمسة آلاف من الأتراك وغيرهم نحو بغداد، وصلى بعكبرا يوم الجمعة، ودعا لأخيه المعتز‏.‏

ثم وصل إلى بغداد ليلة الأحد لسبع خلون من صفر فاجتمعت العساكر هنالك، وقد قال رجل يقال له بانجانة كان في عسكر أبي أحمد‏:‏

يا بني طاهر جنود اللـ * ـه والموت بينها منثور

وجيوش أمامهن أبو أحم * د نعم المولى ونعم النصير

ثم جرت بينهما حروب طويلة وفتن مهولة جداً قد ذكرها ابن جرير مطولة، ثم بعث المعتز مع موسى بن أرشناس ثلاثة آلاف مدداً لأخيه أبي أحمد، فوصلوا لليلة بقيت من ربيع الأول فوقفوا في الجانب الغربي عند باب قطربل، وأبو أحمد وأصحابه على باب الشماسية، والحرب مستعرة والقتال كثير جداً، والقتل واقع‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكر أن المعتز كتب إلى أخيه أبي أحمد يلومه على التقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه أبو أحمد‏:‏

لأمر المنايا علينا طريق * وللدهر فينا اتساع وضيق

وأيامنا عبر للأنام * فمنها البكور ومنها الطروق

ومنها هنات تشيب الوليد * ويخذل فيها الصديق الصديق

وسور عريض له ذروة * تفوت العيون وبحر عميق

قتال مبيد وسيف عتيد * وخوف شديد وحصن وثيق

وطول صياح لداعي الصباح الـ * ـسلاح السلاح فما يستفيق

فهذا طريح وهذا جريح * وهذا حريق وهذا غريق

وهذا قتيل وهذا تليل * وآخر يشدخه المنجنيق

هناك اغتصاب وثم انتهاب * ودور خراب وكانت تروق

إذا ما سمونا إلى مسلك * وجدناه قد سدّ عنا الطريق

فبالله نبلغ ما نرتجيه * وبالله ندفع ما لا نطيق

قال ابن جرير‏:‏ هذا الشعر ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، وقد استمرت الفتنة والقتال ببغداد بين أبي أحمد أخي المعتز وبين محمد بن عبد الله بن طاهر نائب المستعين، والبلد محصور وأهله في ضيق شديد جداً، بقية شهور هذه السنة، وقتل من الفريقين خلق كثير في وقعات متعددات، وأيام نحسات، فتارة يظهر أصحاب أبي أحمد ويأخذون بعض الأبواب فتحمل عليهم الطاهرية فيزيحونهم عنها، ويقتلون منهم خلقاً ثم يتراجعون إلى مواقفهم ويصابرونهم مصابرة عظيمة‏.‏

لكن أهل بغداد كلما هم إلى ضعف بسبب قلة الميرة والجلب إلى داخل البلد، ثم شاع بين العامة أن محمد بن عبد الله بن طاهر يريد أن يخلع المستعين ويبايع للمعتز، وذلك في أواخر السنة، فتنصل من ذلك واعتذر إلى الخليفة وإلى العامة‏.‏

وحلف بالأيمان الغليظة فلم تبرأ ساحته من ذلك حق البراءة عند العامة، واجتمعت العامة والغوغاء إلى دار ابن طاهر والخليفة نازل بها، فسألوا أن يبرز لهم الخليفة ليروه ويسألوه عن ابن طاهر أهو راض عنه أم لا‏.‏

وما زالت الضجة والأصوات مرتفعة حتى برز لهم الخليفة من فوق المكان الذي هم فيه، وعليه السواد ومن فوقه البردة النبوية وبيده القضيب، ‏‏ وقال لهم فيما خاطبهم به‏:‏ أقسمت عليكم بحق صاحب هذه البردة والقضيب لما رجعتم إلى منازلكم ورضيتم عن ابن طاهر فإنه غير متهم لدي‏.‏

فسكت الغوغاء ورجعوا إلى منازلهم، ثم انتقل الخليفة من دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم، وذلك في أوائل ذي الحجة، وصلى بهم العيد يوم الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وبرز الخليفة يومئذ للناس وبين يديه الحربة وعليه البردة وبيده القضيب، وكان يوماً مشهوداً ببغداد على ما بأهلها من الحصار والغلاء بالأسعار، وقد اجتمع على الناس الخوف والجوع المترجمان لباس الجوع والخوف، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة‏.‏

ولما تفاقم الأمر واشتد الحال وضاق المجال وجاع العيال وجهد الرجال، جعل ابن طاهر يظهر ما كان كامناً في نفسه من خلع المستعين، فجعل يعرض له في ذلك ولا يصرح، ثم كاشفه به وأظهره له وناظره فيه وقال له‏:‏ إن المصلحة تقتضي أن تصالح عن الخلافة على مال تأخذه سلفاً وتعجيلاً، وأن يكون لك من الخراج في كل عام ما تختاره وتحتاجه، ولم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجاب إلى ذلك وأناب‏.‏

فكتب فيما اشترطه المستعين في خلعه نفسه من الخلافة كتاباً، فلما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة ركب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى الرصافة، وجمع القضاة والفقهاء وأدخلهم على المستعين فوجاً فوجاً، يشهدون عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وكذلك جماعة الحجاب والخدم، ثم تسلم منه جوهر الخلافة، وأقام عند المستعين إلى هوي من الليل‏.‏

وأصبح الناس يذكرون ويتنوعون فيما يقولون من الأراجيف‏.‏

وأما ابن طاهر فإنه أرسل بالكتاب مع جماعة من الأمراء إلى المعتز بسامرا، فلما قدموا عليه بذلك أكرمهم وخلع عليهم وأجازهم فأسنى جوائزهم‏.‏

وسيأتي ما كان من أمره أول السنة الداخلة‏.‏

وفيها كان ظهور رجل من أهل البيت أيضاً بأرض قزوين وزنجان في ربيع الأول منها، وهو الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ويعرف بالكوكبي‏.‏

وسيأتي ما كان من أمره هناك‏.‏

وفيها خرج إسماعيل بن يوسف العلوي، وهو ابن أخت موسى بن عبيد الله الحسني، وسيأتي ما كان من أمره أيضاً‏.‏

وفيها خرج بالكوفة أيضاً رجل من الطالبيين وهو الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان فاقتتلا فهزم العلوي، وقتل من أصحابه بشر كثير‏.‏

ولما دخل مزاحم الكوفة حرق بها ألف دار ونهب أموال الذين خرجوا معه، وباع بعض جواري الحسين بن محمد هذا، وكانت معتقة‏.‏ ‏

وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب منه نائبها جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى، فانتهب منزله ومنازل أصحابه وقتل جماعة من الجند وغيرهم من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحواً من مائتي ألف دينار، ثم خرج إلى المدينة النبوية فهرب منه نائبها أيضاً علي بن الحسين بن علي بن إسماعيل، ثم رجع إسماعيل بن يوسف إلى مكة في رجب فحصر أهلها حتى هلكوا جوعاً وعطشاً، فبيع الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم الرطل بأربعة، وشربة الماء بثلاثة دراهم، ولقي منه أهل مكة كل بلاء، فترحل عنهم إلى جدة - بعد مقامه عليهم سبعة وخمسين يوماً - فانتهب أموال التجار هنالك وأخذ المراكب وقطع الميرة عن أهل مكة، ثم عاد إلى مكة لا جزاه الله خيراً عن المسلمين‏.‏

فلما كان يوم عرفة لم يمكن الناس من الوقوف نهاراً ولا ليلاً، وقتل من الحجيج ألفاً ومائة، وسلبهم أموالهم ولم يقف بعرفة عامئذ سواه ومن معه من الحرامية، لا تقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً‏.‏ وفيها وهن أمر الخلافة جداً‏.‏

وفيها توفي من الأعيان إسحاق بن منصور الكوننج وحميد بن زنجويه‏.‏

وعمرو بن عثمان بن كثير بن دينار الحمصي‏.‏

وأبو البقى هشام بن عبد الملك اليزني

سنة ثنتين وخمسين ومائتين‏.‏

‏‏ذكر خلافة المعتز بالله بن المتوكل على الله بعد خلع المستعين نفسه‏‏

استهلت هذه السنة وقد استقرت الخلافة باسم أبي عبد الله محمد المعتز بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وقيل إن اسم المعتز أحمد، وقيل الزبير، وهو الذي عول عليه ابن عساكر وترجمه في تاريخه‏.‏

فلما خلع المستعين نفسه من الخلافة وبايع للمعتز، دعا الخطباء يوم الجمعة رابع المحرم من هذه السنة بجوامع بغداد على المنابر للخليفة المعتز بالله، وانتقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل هو وعياله وولده وجواريه، ووكل بهم سعيد بن رجاء في جماعة معه، وأخذ من المستعين البردة والقضيب والخاتم، وبعث بذلك إلى المعتز ثم أرسل إليه المعتز يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين عنده يقال لأحدهما برج وللآخر جبل‏.‏

فأرسلهما‏.‏

وطلب المستعين أن يسير إلى مكة فلم يمكن، فطلب البصرة فقيل له‏:‏ إنها وبيئة‏.‏

فقال‏:‏ إن ترك الخلافة أوبأ منها‏.‏

ثم أذن له في المسير إلى واسط، فخرج ومعه حرس يوصلونه إليها نحو من أربعمائة‏.‏ ‏

واستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل وخلع عليه وألبسه تاجاً على رأسه‏.‏

ولما تمهد أمر بغداد واستقرت البيعة للمعتز بها، ودان له أهلها وقدمتها الميرة من كل جانب، واتسع الناس في الأرزاق والأطعمة، ركب أبو أحمد منها في يوم السبت لثنتي عشرة ليلة من المحرم إلى سامرا، وشيعه ابن طاهر في وجوه الأمراء، فخلع أبو أحمد على ابن طاهر خمس خلع وسيفاً ورده من الطريق إلى بغداد‏.‏

وقد ذكر ابن جرير مدائح الشعراء في المعتز وتشفيهم بخلع المستعين، فأكثر من ذلك جداً، فمن ذلك قول محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان في مدح المعتز وذم المستعين كما جرت به عادة الشعراء‏:‏

إن الأمور إلى المعتز قد رجعت * والمستعين إلى حالاته رجعا

وكان يعلم أن الملك ليس له * وأنه لك لكن نفسه خدعا

ومالك الملك مؤتيه ونازعه * آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا

إن الخلافة كانت لا تلائمه * كانت كذات حليل زوجت متعا

ما كان أقبح عند الناس بيعته * وكان أحسن قول الناس قد خلعا

ليت السفين إلى قاف دفعن به * نفسي الفداء لملاح به دفعا

كم ساس قبلك أمر الناس من ملك * لو كان حمل ما حملته ظلعا

أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة * والله يجعل بعد الضيق متسعا

والله يدفع عنك السوء من ملك * فإنه بك عنا السوء قد دفعا

وكتب المعتز من سامرا إلى نائب بغداد محمد بن عبد الله بن طاهر‏:‏ أن يسقط اسم وصيف وبغا ومن كان في رسمهما في الدواوين، وعزم على قتلهما، ثم استرضي عنهما فرضي عنهما‏.‏

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه إبراهيم الملقب بالمؤيد من ولاية العهد وحبسه، وأخاه أبا أحمد، بعدما ضرب المؤيد أربعين مقرعة‏.‏

ولما كان يوم الجمعة خطب بخلعه وأمره أن يكتب كتاباً على نفسه بذلك وكانت وفاته بعد ذلك بخمسة عشر يوماً، فقيل‏:‏ إنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات غماً، وقيل‏:‏ بل ضرب بحجارة من ثلج حتى مات برداً وبعد ذلك أخرج من السجن، ولا أثر به فأحضر القضاة والأعيان فشهدوا على موته من غير سبب ولا أثر، ثم حمل على حمار ومعه كفنه إلى أمه فدفنته‏.‏

 ذكر مقتل المستعين

وفي شوال منها كتب المعتز إلى نائبه محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بتجهيز جيش نحو المستعين، فجهز أحمد بن طولون التركي فوافاه فأخرجه لست بقين من رمضان، فقدم به القاطول لثلاث مضين من شوال ثم قتل، فقيل‏:‏ ضرب حتى مات، وقيل‏:‏ بل غرق في دجيل، وقيل‏:‏ بل ضربت عنقه‏.‏

وقد ذكر ابن جرير‏:‏ أن المستعين سأل من سعيد بن صالح التركي حين أراد قتله أن يمهله حتى يصلي ركعتين، فأمهله، فلما كان في السجدة الأخيرة قتله وهو ساجد، ودفن جثته في مكان صلاته، وخفي أثره وحمل رأسه إلى المعتز فدخل به عليه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل‏:‏ هذا رأس المخلوع‏.‏ ‏ فقال‏:‏ ضعوه حتى أفرغ من الدست‏.‏

فلما فرغ نظر إليه وأمر بدفنه، ثم أمر لسعيد بن صالح الذي قتله بخمسين ألف درهم، وولاه معونة البصرة وفيها مات إسماعيل بن يوسف العلوي الذي فعل بمكة ما فعل كما تقدم من إلحاده في الحرم، فأهلكه الله في هذه السنة عاجلاً ولم ينظره‏.‏

وفيها مات أحمد بن محمد المعتصم وهو المستعين بالله كما تقدم‏.‏ وإسحاق بن بهلول، وزياد بن أيوب، ومحمد بن بشار بندار‏.‏ وموسى بن المثنى الزمن‏.‏

ويعقوب بن إبراهيم الدورقي‏.‏

 

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين

في رجب منها عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير على جيش قريب من أربعة آلاف، ليذهبوا إلى قتال عبد العزيز بن أبي دلف بناحية همذان، لأنه خرج عن الطاعة وهو في نحو من عشرين ألفاً بناحية همذان، فهزموا عبد العزيز في أواخر هذه السنة هزيمة فظيعة، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في رمضان عند الكرج فهزم عبد العزيز أيضا، وقتل من أصحابه بشر كثير، وأسروا ذراري كثيرة حتى أسروا أم عبد العزيز أيضاً، وبعثوا إلى المعتز سبعين حملاً من الرؤوس وأعلاماً كثيرة، وأخذ من عبد العزيز ما كان استحوذ عليه من البلاد‏.‏

وفي رمضان منها خلع على بغا الشرابي وألبسه التاج والوشاحين‏.‏ وفي يوم عيد الفطر كانت وقعة هائلة عند مكان يقال له‏:‏ البوازيج، وذلك أن رجلاً يقال له‏:‏ مساور بن عبد الحميد، حكم فيها والتف عليه نحو من سبعمائة من الخوراج، فقصد له رجل يقال له‏:‏ بندار الطبري، في ثلاثمائة من أصحابه، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل من الخوارج نحو من خمسين رجلاً‏.‏

وقتل من أصحاب بندار مائتان وقيل‏:‏ وخمسون رجلاً‏.‏

وقتل بندار فيمن قتل رحمه الله‏.‏

ثم صمد مساور إلى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خرسان، فقتل مساور منهم نحواً من أربعمائة قبحه الله‏.‏

وقتل من جماعته كثيرون أيضاً‏.‏

ولثلاث بقين من شوال قتل وصيف التركي، وأرادت العامة نهب داره في سامرا ودور أولاده فلم يمكنهم ذلك، وجعل الخليفة ما كان إليه إلى بغا الشرابي‏.‏

وفي ليلة أربع عشرة من ذي القعدة من هذه السنة خسف القمر حتى غاب أكثره وغرق نوره، وعند انتهاء خسوفه مات محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق ببغداد‏.‏  وكانت علته قروحاً في رأسه وحلقه فذبحته، ولما أتي به ليصلي عليه اختلف أخوه عبيد الله وابنه طاهر، وتنازعا الصلاة عليه حتى جذبت السيوف وترامى الناس بالحجارة، وصاحت الغوغاء‏:‏ يا طاهر يا منصور‏.‏

فمال عبيد الله إلى الشرقية ومعه القواد وأكابر الناس، فدخل داره وصلى عليه ابنه، وكان أبوه قد أوصى إليه‏.‏

وحين بلغ المعتز ما وقع بعث بالخلع والولاية إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأطلق عبيد الله للذي قدم بالخلع خمسين ألف درهم‏.‏

وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سر من رأى إلى واسط، ثم إلى البصرة‏.‏

ثم رد إلى بغداد أيضاً‏.‏

وفي يوم الاثنين منها سلخ ذي القعدة، التقى موسى بن بغا الكبير والحسين بن أحمد الكوكبي الطالبي الذي خرج في سنة إحدى وخمسين عند قزوين، فاقتتلا قتالاً شديداً ثم هزم الكوكبي وأخذ موسى قزوين وهرب الكوكبي إلى الديلم‏.‏

وذكر ابن جرير عن بعض من حضر هذه الوقعة‏:‏ أن الكوكبي حين التقى، أمر أصحابه أن يتترسوا بالحجف - وكانت السهم لا تعمل فيهم - فأمر موسى بن بغا أصحابه عند ذلك أن يطرحوا ما معهم من النفط، ثم حاولوهم وأروهم أنهم قد انهزموا منهم، فتبعهم أصحاب الكوكبي، فلما توسطوا الأرض التي فيها النفط أمر عند ذلك بإلقاء النار فيه فجعل النفط يحرق أصحاب الكوكبي، ففروا سراعاً هاربين، وكر عليهم موسى وأصحابه فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الكوكبي إلى الديلم، وتسلم موسى قزوين‏.‏ وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن سليمان الزينبي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان

أبو الأشعث‏.‏

وأحمد بن سعيد الدارمي‏.‏

وسري السقطي‏:‏

أحد كبار مشايخ الصوفية‏.‏

تلميذ معروف الكرخي‏.‏

حدث عن هشيم وأبي بكر بن عياش وعلى ابن عراب ويحيى بن يمان ويزيد بن هارون وغيرهم‏.‏

وعنه ابن أخته الجنيد بن محمد‏.‏

وأبو الحسن النوري ومحمد بن الفضل بن جابر السقطي وجماعة‏.‏ وكانت له دكان يتجر فيها، فمرت به جارية قد انكسر إناء كان معها، تشتري فيه شيئاً لسادتها، فجعلت تبكي فأعطاها سري شيئاً تشتري بدله، فنظر معروف إليه وما صنع بتلك الجارية فقال له‏:‏ بغض الله إليك الدنيا، فوجد الزهد من يومه‏.‏

وقال سري‏:‏ مررت في يوم عيد، فإذا معروف ومعه صغير شعث الحال فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقال‏:‏ هذا كان واقفاً عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر، فقلت له‏:‏ ما لك لا تلعب كما يلعبون‏؟‏

فقال‏:‏ أنا يتيم ولا شيء معي أشتري به جوزاً ألعب به‏.‏

فأخذته لأجمع له نوى يشتري به جوزاً يفرح به‏.‏

فقلت‏:‏ ألا أكسوه وأعطيه شيئاً يشتري به جوزاً‏؟‏

فقال‏:‏ أو تفعل‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ خذه أغنى الله قلبك‏.‏

قال سري‏:‏ فصغرت عندي الدنيا حتى لهي أقل شيء‏.‏

وكان عنده مرة لوز فساومه رجل على الكر بثلاثة وستين ديناراً، ثم ذهب الرجل فإذا اللوز يساوي الكر تسعين ديناراً فقال له‏:‏ إني أشترى منك الكر بتسعين ديناراً‏.‏

فقال له‏:‏ إني إنما ساومتك بثلاثة وستين ديناراً، وإني لا أبيعه إلا بذلك، فقال الرجل‏:‏ أنا أشتري منك بتسعين ديناراً‏.‏

فقال‏:‏ لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ إن من النصح أن لا أشتري منك إلا بتسعين ديناراً‏.‏

وذهب فلم يشتر منه‏.‏

وجاءت امرأة يوماً إلى سري فقالت‏:‏ إن ابني قد أخذه الحرسي، وإني أحب أن تبعث إلى صاحب الشرطة لئلا يضرب، فقام فصلى فطول الصلاة وجعلت المرأة تحترق في نفسها، فلما انصرف من الصلاة قالت المرأة‏:‏ الله الله في ولدي‏.‏

فقال لها‏:‏ إني إنما كنت في حاجتك‏.‏

فما رام مجلسه الذي صلى فيه حتى جاءت امرأة إلى تلك المرأة فقالت لها‏:‏ ابشري فقد أطلق ولدك و ها هو في المنزل‏.‏

فانصرفت إليه‏.‏

وقال سري‏:‏ أشتهي أن آكل أكلة ليس لله فيها علي تبعة، ولا لأحد علي فيها منة‏.‏

فما أجد إلى ذلك سبيلاً‏.‏

وفي رواية عنه أنه قال‏:‏ إني لأشتهي البقل من ثلاثين سنة، فما أقدر عليه‏.‏

وقال‏:‏ احترق سوقنا فقصدت المكان الذي فيه دكاني، فتلقاني رجل فقال‏:‏ ابشر فإن دكانك قد سلمت‏.‏

فقلت‏:‏ الحمد لله‏.‏

ثم ذكرت ذلك التحميد إذ حمدت الله على سلامة دنياي، وإني لم أواس الناس فيما هم فيه، فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة‏.‏

رواها الخطيب عنه‏.‏

وقال‏:‏ صليت وردي ذات ليلة، ثم مددت رجلي في المحراب فنوديت‏:‏ يا سري هكذا تجالس الملوك‏؟‏

قال‏:‏ فضممت رجلي وقلت‏:‏ وعزتك لا مددت رجلي أبداً‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ ما رأيت أعبد من سري السقطي‏.‏

أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعاً إلا في علة الموت‏.‏ وروى الخطيب عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي عن الجنيد قال‏:‏ دخلت عليه أعوده فقلت‏:‏ كيف تجدك‏؟‏

فقال‏:‏

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي * والذي أصابني من طبيبي

قال‏:‏ فأخذت المروحة لأروح عليه فقال‏:‏ كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل‏؟‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

القلب محترق والدمع مستبق * والكرب مجتمع والصبر مفترق

كيف القرار على من لا قرار له * مما جناه الهوى والشوق والقلق

يا رب إن كان شيء لي به فرج * فامنن علي به ما دام بي رمق

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ أوصني، قال‏:‏ لا تصحب الأشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأبرار الأخيار‏.‏

وقد ذكر الخطيب وفاته يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بعد أذان الفجر، ودفن بعد العصر بمقبرة الشوينزي، وقبره ظاهر معروف، وإلى جنبه قبر الجنيد‏.‏ ‏

وروي عن أبي عبيدة بن حربويه قال‏:‏ رأيت سرياً في المنام فقلت‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي ولكل من شهد جنازتي‏.‏

قلت‏:‏ فإني ممن حضر جنازتك وصلى عليك‏.‏

قال‏:‏ فأخرج درجاً فنظر فيه فلم ير فيه اسمي، فقلت‏:‏ بلى ‏!‏

قد حضرت فإذا اسمي في الحاشية‏.‏

وحكى ابن خلكان قولاً‏:‏ أن سرياً توفي سنة إحدى وخمسين، وقيل‏:‏ سنة ست وخمسين، فالله أعلم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان السري ينشد كثيراً‏:‏

ولما ادعيت الحب قالت كذبتني *فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا

فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشى * وتذهل حتى لا تجيب المناديا

 ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين‏.‏

فيها أمر الخليفة المعتز بقتل بغا الشرابي، ونصب رأسه بسامرا ثم ببغداد وحرقت جثته، وأخذت أمواله وحواصله‏.‏

وفيها ولي الخليفة أحمد بن طولون الديار المصرية، و هو باني الجامع المشهور بها‏.‏

وحج بالناس فيها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد‏.‏ وتوفي فيها من الأعيان‏:‏ زياد بن أيوب الحسياني‏.‏

وعلي بن محمد بن موسى الرضى، يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة ببغداد‏.‏

وصلى عليه أبو أحمد المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد‏.‏ ودفن بداره ببغداد‏.‏

ومحمد بن عبد الله المخرمي‏.‏

وموهل بن إهاب‏.‏

وأما أبو الحسن علي الهادي

فهو ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أحد الأئمة الاثني عشرية، وهو والد الحسن بن علي العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الكاذبة الخاطئة‏.‏

وقد كان عابداً زاهداً نقله المتوكل إلى سامرا، فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر‏.‏

ومات بها في هذه السنة‏.‏

وقد ذكر للمتوكل أن بمنزله سلاحاً وكتباً كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالساً مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف وهو على التراب ليس دونه حائل، فأخذوه كذلك فحملوه إلى المتوكل وهو على شرابه، ‏‏ فلما مثل بين يديه أجله وأعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس الذي في يده فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يخالط لحمي ودمي قط، فاعفني منه‏.‏

فأعفاه ثم قال له‏:‏ أنشدني شعرا فأنشده‏:‏

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

نادى بهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل‏؟‏

أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وما لبسوا*فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

قال‏:‏ فبكى المتوكل حتى بل الثرى، وبكى من حوله بحضرته، وأمر برفع الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرماً- رحمه الله -‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين‏.‏

فيها كانت وقعة بين مفلح وبين الحسن بن زيد الطالبي، فهزمه مفلح ودخل آمل طبرستان، وحرق منازل الحسن بن زيد، ثم سار وراءه إلى الديلم‏.‏

وفيها كانت محاربة شديدة بين يعقوب بن الليث وبين علي بن الحسين بن قريش بن شبل، فبعث علي بن الحسين رجلاً من جهته يقال له‏:‏ طوق بن المغلس، فصابره أكثر من شهر ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار إلى علي بن الحسين هذا فأسره وأخذ بلاده - وهي كرمان - فأضافها إلى ما بيده من مملكة خراسان سجستان، ثم بعث يعقوب بن الليث بهدية سنية إلى المعتز‏:‏ دواب وبازات وثياب فاخرة‏.‏

وفيها ولى الخليفة سليمان بن عبد الله بن طاهر نيابة بغداد والسواد في ربيع الأول منها‏.‏

وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز، والحسن بن مخلد كاتب قبيحة أم المعتز، وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وكانوا قد تمالؤوا على أكل بيت المال، وكانوا دواوين وغيرهم، فضربهم وأخذ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها، وذلك بغير رضى من المعتز في الباطن، واحتيط على أموالهم وحواصلهم وضياعهم وسموا الكتاب الخونة، وولى الخليفة عن قهر غيرهم‏.‏

‏وفي رجب منها ظهر عيسى بن جعفر، وعلي بن زيد الحسنيان بالكوفة، وقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى واستفحل أمرهما بها‏.‏

 موت الخليفة المعتز بن المتوكل‏.‏

ولثلاث بقين من رجب من هذه السنة خلع الخليفة المعتز بالله، ولليلتين مضتا من شعبان أظهر موته‏.‏

وكان سبب خلعه‏:‏ أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم، فسأل من أن تقرضه مالاً يدفعهم عنه به فلم تعطه‏.‏

وأظهرت أنه لا شيء عندها، فاجتمع الأتراك على خلعه فأرسلوا إليه ليخرج إليهم، فاعتذر بأنه قد شرب دواء وأن عنده ضعفاً، ولكن ليدخل إلي بعضكم‏.‏

فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه وجروا برجله، وأخرجوه وعليه قميص مخرق ملطخ بالدم، فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب‏:‏ اخلعها والناس مجتمعون، ثم أدخلوه حجرة مضيقاً عليه فيها‏.‏

وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولى بعده المهتدي بالله كما سيأتي‏.‏

ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، حتى جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق، ثم أدخلوه سرباً فيه جص جير فدسوه فيه فأصبح ميتاً، فاستلوه من الجص سليم الجسد، وأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر، وكان ذلك في اليوم الثاني من شعبان من هذه السنة، وكان يوم السبت، وصلى عليه المهتدي بالله، ودفن مع أخيه المنتصر إلى جانب قصر الصوامع، عن أربع وعشرين سنة‏.‏ وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً‏.‏ وكان طويلاً جسيماً وسيماً، أقنى الأنف، مدور الوجه، حسن الضحك، أبيض أسود الشعر مجعدة، كثيف اللحية، حسن العينين، ضيق الحاجبين، أحمر الوجه، وقد أثنى عليه الإمام أحمد في جودة ذهنه، وحسن فهمه وأدبه، حين دخل عليه في حياة أبيه المتوكل، كما قدمنا في ترجمة أحمد‏.‏

وروى الخطيب عن علي بن حرب قال‏:‏ دخلت على المعتز فما رأيت خليفة أحسن وجهاً منه، فلما رأيته سجدت فقال‏:‏ يا شيخ تسجد لغير الله‏؟‏

فقلت‏:‏ حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، ثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يفرح به أو بشر بما يسره سجد شكراً لله عز وجل‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ سرت إلى المعتز وهو أمير، فلما سمع بقدومي خرج مستعجلاً إلي فعثر، فأنشأ يقول‏:‏ ‏

يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته من فيه ترمي برأسه * وعثرته في الرجل تبرأ على مهل

وذكر ابن عساكر‏:‏ أن المعتز لما حذق القرآن في حياة أبيه المتوكل، اجتمع أبوه والأمراء لذلك وكذلك الكبراء والرؤساء بسر من رأى، واختلفوا لذلك أياماً عديدة، وجرت أحوال عظيمة‏.‏

ولما جلس وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة وخطب الناس، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار، ومثلها ذهباً، وألف ألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر، وكان وقتاً مشهوداً لم يكن سروراً بدار الخلافة أبهج منه ولا أحسن‏.‏

وخلع الخليفة على أم ولده المعتز قبيحة خلعاً سنية، وأعطاها وأجزل لها العطاء، وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران، أعطاه من الجوهر والذهب والفضة والقماش شيئاً كثيراً جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 خلافة المهتدي بالله‏.‏

أبي محمد عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بيعته يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده عليه بأنه عاجز عن القيام بها، وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها‏.‏

وهو محمد بن الواثق بالله، ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم، ثم بايعه الخاصة ثم كانت بيعة العامة على المنبر، وكتب على المعتز كتاباً أشهد فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي‏.‏

وفي آخر رجب وقعت في بغداد فتنة هائلة، وثبت فيها العامة على نائبها سليمان بن عبد الله بن طاهر، ودعوا إلى بيعة أحمد بن المتوكل أخي المعتز، وذلك لعدم علم أهل بغداد بما وقع بسامرا من بيعة المهتدي، وقتل من أهل بغداد وغرق منهم خلق كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا - وإنما بلغتهم في سابع شعبان - فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافة‏.‏

وفي رمضان من هذه السنة ظهر عند قبيحة أم المعتز أموال عظيمة، وجواهر نفيسة‏.‏

كان من جملة ذلك ما يقارب ألفي ألف دينار، ومن الزمرد الذي لم ير مثله مقدار مكوك، ومن الحب الكبار مكوك، وكيلجة يا قوت أحمر مما لم ير مثله أيضاً‏.‏

وقد كان الأمراء طلبوا من ابنها المعتز خمسين ألف دينار تصرف في أرزاقهم، وضمنوا له أن يقتلوا صالح بن وصيف، فلم يكن عنده من ذلك شيء، فطلب من أمه قبيحة هذه - قبحها الله - فامتنعت أن تقرضه ذلك، فأظهرت الفقر والشح، وأنه لا شيء عندها‏.‏

ثم لما قتل ابنها وكان ما كان، ظهر عندها من الأموال ما ذكرنا‏.‏ وكان عندها من الذهب والفضة والآنية شيء كثير، وقد كان لها من الغلات في كل سنة ما يعدل عشرة آلاف ألف دينار، وقد كانت قبل ذلك مختفية عند صالح بن وصيف عدو ولدها، ثم تزوجت به وكانت تدعو عليه تقول‏:‏ اللهم اخز صالح بن وصيف كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني‏.‏ ‏

ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي بالله‏.‏

وكانت بحمد الله خلافة صالحة‏.‏

قال يوما للأمراء‏:‏ إني ليست لي أم لها من الغلات ما يقاوم عشرة آلاف ألف دينار، ولست أريد إلا القوت فقط، لا أريد فضلاً على ذلك إلا لإخوتي، فإنهم مستهم الحاجة‏.‏

وفي يوم الخميس لثلاث بقين من رمضان، أمر صالح بن وصيف بضرب أحمد بن إسرائيل الذي كان وزيراً، وأبي نوح عيسى بن إبراهيم الذي كان نصرانياً فأظهر الإسلام، وكان كاتب قبيحة فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط بعد استخلاص أموالهما، ثم طيف بهما على بغلين منكسين فماتا وهما كذلك، ولم يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لا يقدر على الإنكار على صالح بن وصيف في بادئ الآمر‏.‏

وفي رمضان في هذه السنة وقعت فتنة ببغداد أيضاً، بين محمد بن أوس ومن تبعه من الشاكرية والجند وغيرهم، وبين العامة والرعاع، فاجتمع من العامة نحو مائة ألف وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط، فقتل خلق كثير ثم انهزم محمد بن أوس وأصحابه، فنهبت العامة ما وجدوا من أمواله، وهو ما يعادل ألفي ألف أو نحو ذلك‏.‏

ثم اتفق الحال على إخراج محمد بن أوس من بغداد إلى أين أراد‏.‏ فخرج منها خائفاً طريداً، وذلك لأنه لم يكن عند الناس مرضي السيرة بل كان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً، وفاسقاً شديداً، وأمر الخليفة بأن ينفي القيان والمغنون من سامرا، وأمر بقتل السباع والنمور التي في دار السلطان، وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضاً‏.‏ وأمر بإبطال الملاهي ورد المظالم، وأن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وجلس للعامة‏.‏

وكانت ولايته في الدنيا كلها من أرض الشام وغيرها مفترقة‏.‏

ثم استدعى الخليفة موسى بن بغا الكبير إلى حضرته، ليتقوى به على من عنده من الأتراك ولتجتمع كلمة الخلافة، فاعتذر إليه من استدعائه بما هو فيه من الجهاد في تلك البلاد‏.‏

خارجي آخر ادعى أنه من أهل البيت بالبصرة‏.‏

في النصف من شوال ظهر رجل بظاهر البصرة، زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقاً وإنما كان عسيفاً - يعني أجيراً - من عبد القيس، واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمه قرة بنت علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة، وأصله من قرية من قرى الري، قاله ابن جرير‏.‏ ‏‏ قال‏:‏ وقد خرج أيضاً في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين، فادعى أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب، فدعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر، ووقع بسببه قتال كثير وفتن كبار، وحروب كثيرة، ولما خرج خرجته هذه الثانية بظاهر البصرة، التف عليه

خلق من الزنج الذين يكسحون السباخ، فعبر بهم دجلة فنزل الديناري، وكان يزعم لبعض من معه أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، وكان يدعي أنه يحفظ سوراً من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لسانه، لا يحفظها غيره في مدة دهر طويل، وهن‏:‏ سبحان والكهف وص وعم‏.‏

وزعم أنه فكر يوماً وهو في البادية‏:‏ إلى أي بلد يسير‏؟‏

فخوطب من سحابة أن يقصد البصرة فقصدها، فلما اقترب منها وجد أهلها مفترقين على شعبتين، سعديه وبلالية، فطمع أن ينضم إلى إحداهما فيستعين بها على الأخرى، فلم يقدر على ذلك، فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنة وانتسب بها إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم بها أنه يعلم ما في ضمائر أصحابه، وأن الله يعلمه بذلك، فتبعه على ذلك جهلة من الطغام، وطائفة من الرعاع العوام‏.‏

ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشر كثير، ولكن لم يكن معهم عدد يقاتلون بها، فأتاهم جيش من ناحية البصرة فاقتتلوا جميعاً، ولم يكن في جيش هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف، وأولئك الجيش معهم عدد وعدد ولبوس، ومع هذا هزم أصحاب هذا الخارجي ذلك الجيش، وكانوا أربعة آلاف مقاتل، ثم مضى نحو البصرة بمن معه فأهدى له رجل من أهل جبى فرساً فلم يجد لها سرجاً ولا لجاماً، وإنما ألقى عليها حبلاً وركبها وسنف حنكها بليف، ثم صادر رجلاً وتهدده بالقتل فأخذ منه مائة وخمسين ديناراً وألف درهم، وكان هذا أول مال نهبه من هذه البلاد، وأخذ من آخر ثلاثة براذين، ومن موضع آخر شيئاً من الأسلحة والأمتعة، ثم سار في جيش قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نائب البصرة وقعات متعددة يهزمهم فيها، وكل ما لأمره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جيشه، وهو مع ذلك لا يتعرض لأموال الناس ولا يؤذي أحداً، وإنما يريد أخذ أموال السلطان‏.‏

وقد انهزم أصحابه في بعض حروبه هزيمة عظيمة، ثم تراجعوا إليه واجتمعوا حوله، ثم كروا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم خلقاً وأسروا آخرين، وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله‏.‏

ثم قوي أمره وخافه أهل البصرة، وبعث الخليفة إليها مدداً ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج - قبحه الله -، ثم أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على البصرة فيدخلونها عنوة، فهجن آراءهم وقال‏:‏ بل نكون منها قريباً حتى يكونوا هم الذين يطلبوننا إليها ويخطبوننا عليها‏.‏

وسيأتي ما كان من أمره وأمر أهل البصرة في السنة المستقبلة إن شاء الله‏.‏

وفيها حج بالناس علي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها توفي‏:‏ ‏

 الجاحظ المتكلم المعتزلي

واليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه، ويقال له‏:‏ الحدقي، وكان شنيع المنظر، سيء المخبر، رديء الاعتقاد، ينسب إلى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل في المثل‏:‏ يا ويح من كفره الجاحظ‏.‏

وكان بارعاً فاضلاً قد أتقن علوماً كثيرة، وصنف كتباً جمة تدل على قوة ذهنه وجودة تصرفه‏.‏

ومن أجل كتبه‏:‏ كتاب الحيوان، وكتاب البيان والتبيين، قال ابن خلكان‏:‏ وهما أحسن مصنفاته، وقد أطال ترجمته بحكايات ذكرها عنه‏.‏

وذكر أنه أصابه الفالج في آخر عمره، وحكى أنه قال‏:‏ أنا من جانبي الأيسر مفلوج لو قرض بالمقاريض ما علمت، وجانبي الأيمن منقرس لو مرت به ذبابة لآلمتني، وبي حصاة، وأشد ما على ست وتسعون سنة‏.‏

وكان ينشد‏:‏

أترجو أن تكون وأنت شيخ * كما قد كنت أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب * دريس كالجديد من الثياب

وفيها توفى عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي، و عبد الله بن هاشم الطوسي، والخليفة أبو عبد الله المعتز بن المتوكل، ومحمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة‏.‏

محمد بن كرام

الذي تنسب إليه الفرقة الكرامية‏.‏

وقد نسب إليه جواز وضع الأحاديث على الرسول وأصحابه وغيرهم، وهو محمد بن كرام - بفتح الكاف وتشديد الراء، على وزن جمال - بن عراف بن حزامة بن البراء، أبو عبد الله السجستاني العابد، يقال‏:‏ إنه من بني تراب، ومنهم من يقول‏:‏ محمد بن كرام - بكسر الكاف وتشديد الراء - وهو الذي سكن بيت المقدس إلى أن مات، ‏‏ وجعل الآخر شيخاً من أهل نيسابور، والصحيح الذي يظهر من كلام أبي عبد الله الحاكم وابن عساكر أنهما واحد، وقد روى ابن كرام عن علي بن حجرد، وعلي بن إسحاق الحنظلي السمرقندي، سمع منه التفسير عن محمد بن مروان عن الكلبي، وإبراهيم بن يوسف الماكناني، وملك بن سليمان الهروي، وأحمد بن حرب، وعتيق بن محمد الجسري، وأحمد بن الأزهر النيسابوري، وأحمد بن عبد الله الحوبياري، ومحمد بن تميم القارياني، وكانا كذابين وضاعين وغيرهم‏.‏

وعنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق، وأبو إسحاق بن سفيان، و عبد الله بن محمد القيراطي، وإبراهيم بن الحجاج النيسابوري‏.‏ وذكر الحاكم أنه حبس في حبس طاهر بن عبد الله، فلما أطلقه ذهب إلى ثغور الشام ثم عاد إلى نيسابور، فحبسه محمد بن طاهر بن عبد الله وأطال حبسه، وكان يتأهب لصلاة الجمعة ويأتي إلى السجان فيقول‏:‏ دعني أخرج إلى الجمعة، فيمنعه السجان فيقول‏:‏ اللهم إنك تعلم أن المنع من غيري‏.‏

وقال غيره‏:‏ أقام ببيت المقدس أربع سنين، وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى - عليه السلام - واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول‏:‏ إن الأيمان قول بلا عمل، فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غور زغر فمات بها، ونقل إلى بيت المقدس‏.‏

مات في صفر من هذه السنة‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ توفي ببيت المقدس ليلاً، ودفن بباب أريحا عند قبور الأنبياء - عليهم السلام -، وله ببيت المقدس من الأصحاب نحو من عشرين ألفا، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين‏.‏

في صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من المحرم قدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا، فدخلها في جيش هائل قد عباه ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالساً لكشف المظالم، فاستأذنوا عليه فأبطأ الإذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه هجماً فجعلوا يراطنونهم بالتركي، ثم عزموا فأقاموه من مجلسه وانتهبوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهاناً إلى دار أخرى، فجعل يقول لموسى بن بغا‏:‏ مالك ويحك‏؟‏

إني إنما أرسلت إليك لأتقوى بك على صالح بن وصيف‏.‏

فقال له موسى‏:‏ لا بأس عليك احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت‏.‏

فحلف له المهتدي، فطابت الأنفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة، وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن لا يمالئ صالحاً عليهم، واصطلحوا على ذلك‏.‏

ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضرهم للمناظرة في أمر المعتز ومن قتله صالح بن وصيف من الكتاب وغيرهم، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من الأمراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه، فلم يزل مختفياً إلى آخر صفر على ما سنذكر، ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى نيابة بغداد، وسلم الوزير عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن بن مخلد الذي كان أراد صالح بن وصيف قتله مع ذينك الرجلين، فبقي في السجن حتى رجع إلى الوزارة‏.‏

ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه قال بعضهم لبعض‏:‏ اخلعوا هذا الرجل - يعني الخليفة -‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ أتقتلون رجلاً صواماً قواماً، لا يشرب الخمر، ولا يأتي الفواحش‏؟‏

والله إن هذا ليس كغيره من الخلفاء، ولا تطاوعكم الناس عليه، وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفاً، فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه فقال‏:‏ قد بلغني ما تمالأتم عليه من أمري، وإني والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن بدلها منكم، أو ليذهبن بها أكثركم، أما دين‏؟‏ أما حياء‏؟‏

أما تستحيون‏؟‏ كم يكون هذا الإقدام على الخلفاء، والجرأة على الله عز وجل، وأنتم لا تبصرون‏؟‏

سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي، هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئاً، أو من فرشها أو غير ذلك‏؟‏

وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس، ويقولون‏:‏ إني أعلم علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم‏؟‏

فاذهبوا فاعلموا علمه فابلغوا شفاء نفوسكم فيه، وأما أنا فلست أعلم علمه‏.‏

قالوا‏:‏ فاحلف لنا على ذلك، قال‏:‏ أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكن أدخرها لكم حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب في غد إذا صليت صلاة الجمعة‏.‏

قال‏:‏ فكأنهم لانوا لذلك قليلاً‏.‏

فلما كان يوم الأحد لثمان بقين من صفر ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجيء برأسه إلى المهتدي بالله، وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال‏:‏ واروه‏.‏

ثم أخذ في تسبيحه وذكره‏.‏

ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين رفع الرأس على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد‏.‏

هذا جزاء من قتل مولاه‏.‏

وما زال الأمر مضطرباً متفاقماً، وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله - رحمه الله -‏.‏

 خلع المهتدي بالله، وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل‏.‏

لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فساداً، ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك التركي، فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم، وكان قد فعل قبل مجيئهم الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه، ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك فكتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل إليه الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي، واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا،‏ وتركا ما كانا فيه‏.‏ فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جنداً من المغاربة والفراغنة والأشروسية والأرزكشبية والأتراك أيضاً، وركب في جيش كثيف فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان، وأظهر بايكباك السمع والطاعة، فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعاً مطيعاً، فلما أوقف بين يديه وحوله الأمراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور‏:‏ يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة ما بلغت، وقد كان أبو مسلم الخراساني شراً من هذا وأكثر جنداً، ولما قتله المنصور سكنت الفتنة وخمد صوت أصحابه‏.‏

فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك طغوتيا، فخرج إليهم الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرت الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلباً واحداً على الخليفة، فحمل الخليفة فقتل منهم نحواً من أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه، فانهزم الخليفة وبيده السيف صلتاً وهو ينادي‏:‏ يا أيها الناس انصروا خليفتكم‏.‏

فدخل دار أحمد بن جميل صاحب المعونة، فوضع فيها سلاحه ولبس البياض وأراد أن يذهب فيختفي، فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب، ورماه بسهم وطعن في خاصرته به، وحمل على دابة وخلفة سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وأخذ خطه بستمائة ألف دينار، وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات - رحمه الله - وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب‏.‏

وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام، وكان مولده في سنة تسع عشرة، وقيل خمس عشرة ومائتين، وكان أسمر رقيقاً أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد الله‏.‏

وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل‏.‏ قال الخطيب‏:‏ وكان من أحسن الخلفاء مذهباً، وأجودهم طريقة، وأكثرهم ورعاً وعبادة وزهادة‏.‏

قال‏:‏ وروى حديثاً واحداً قال‏:‏ حدثني علي بن هشام بن طراح، عن محمد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى - وهو داود بن علي- عن أبيه عن ابن عباس قال‏:‏

قال العباس‏:‏ يا رسول الله ما لنا في هذا الأمر‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لي النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الأمر وبكم يختم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال للعباس‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحبك نالته شفاعتي، ومن أبغضك لا نالته شفاعتي‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الخطيب أن رجلاً استعان المهتدي على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ الرجل يقول‏:‏ ‏

حكمتموه فقضى بينكم * أبلج مثل القمر الزاهر

لا يقبل الرشوة في حكمه * ولا يبالي غبن الخاسر

فقال له المهتدي‏:‏ أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، ولست أغتر بما قلت‏.‏

وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل - رحمه الله -‏.‏

وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الأموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة‏.‏ وقال أحمد بن سعيد الأموي‏:‏ كنا جلوساً بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنوناً فأنشأ يقول‏:‏

أما تستحيون الله يا معدن النحو * شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل

وإمامكم أضحى قتيلاً مجندلاً * وقد أصبح الإسلام مفترق الشمل

وأنتم على الأشعار والنحو عكفاً * تصيحون بالأصوات في أحسن السبل

قال‏:‏ فنظر وأرخنا ذلك اليوم، فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم، وهو يوم الاثنين لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين‏.‏

 خلافة المعتمد على الله

وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرف بابن فتيان، بويع بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب في هذه السنة في دار الأمير يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام، ثم كانت بيعة العامة يوم الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل‏:‏ ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا ومفلح إلى سر من رأى، فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك، وأما صاحب الزنج المدعى أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب من الأطعمة وغيرها، ثم استحوذ بعد ذلك على الإبلة وعبادان وغيرهما من البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفاً شديداً، وكلما لأمره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة‏.‏

وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له‏:‏ علي بن زيد الطالبي، وجاء جيش من جهة الخليفة فكسره الطالبي واستفحل أمره بالكوفة وقويت شوكته، وتفاقم أمره‏.‏

وفيها وثب محمد بن واصل التميمي على نائب الأهواز الحارث بن سيما الشرابي، فقتله واستحوذ على بلاد الأهواز‏.‏

وفي رمضان منها تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه‏.‏

وفيها كانت وقعة عظيمة على باب دمشق بين أماجور نائب دمشق - ولم يكن معه إلا قريب من أربعمائة فارس - وبين ابن عيسى بن الشيخ، وهو في قريب من عشرين ألفاً، فهزمه أماجور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ على بلاد أرمينية على أن يترك أهل الشام، فقبل ذلك وانصرف عنهم‏.‏

وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج أو أحمد بن المتوكل‏.‏

فتعجل وعجل السير إلى سامرا فدخلها ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفيها توفي المهتدي بالله الخليفة كما تقدم - رحمه الله تعالى -‏.‏

والزبير بن بكار

ابن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري قاضي مكة‏.‏

قدم بغداد وحدث بها، وله كتاب أنساب قريش، وكان من أهل العلم بذلك، وكتابه في ذلك حافل جداً‏.‏

وقدر روى عنه ابن ماجة وغيره، ووثقه الدارقطني والخطيب وأثنى عليه وعلى كتابه، وتوفي بمكة عن أربع وثمانين سنة في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

 الإمام محمد بن إسماعيل البخاري

صاحب الصحيح، وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر هاهنا نبذة يسيرة من ذلك فنقول‏:‏ هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن يزدزبه الجعفي مولاهم أبو عبد الله البخاري الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام، ولد البخاري - رحمه الله - في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشر سنة حتى قيل‏:‏ إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سرداً، وحج وعمره ثماني عشرة سنة‏.‏

فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، ‏‏ وكتب عن أكثر من ألف شيخ‏.‏

وروى عنه خلائق وأمم‏.‏

وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال‏:‏ سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفاً لم يبق منهم أحد غيري‏.‏

وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم من طريقه، وحماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل وطاهر بن مخلد‏.‏ وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي؛ وقد توفي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة‏.‏ ووثقه الأمير أبو نصر بن ماكولا‏.‏

وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وكان مسلم يتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم‏.‏

وقد دخل بغداد ثمان مرات، وفي كل منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد ويلومه على الإقامة بخراسان‏.‏

وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطرة ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة‏.‏ وقد كان أصيب بصره وهو صغير فرأت أمه إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - فقال‏:‏ يا هذه قد رد الله على ولدك بصره بكثرة دعائك، أو قال‏:‏ بكائك، فأصبح وهو بصير‏.‏

وقال البخاري‏:‏ فكرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحواً من مائتي ألف حديث مسندة‏.‏

وكان يحفظها كلها‏.‏

ودخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا أسانيد وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرؤوها على البخاري فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلفوا عليه سقطة في إسناد ولا متن‏.‏

وكذلك صنع في بغداد‏.‏

وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة‏.‏

والأخبار عنه في ذلك كثيرة‏.‏

وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ ما أخرجت خراسان مثله‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ لم ير البخاري مثل نفسه‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير‏:‏ ما رأينا مثله‏.‏

وقال علي بن حجر‏:‏ لا أعلم مثله‏.‏

وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي‏:‏ دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها، كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم‏.‏

وقال أبو العباس الدعولي‏:‏ كتب أهل بغداد إلى البخاري‏:‏

المسلمون بخير ما حييت لهم * وليس بعدك خير حين تفتقد

وقال الفلاس‏:‏ كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث‏.‏

وقال أبو نعيم أحمد بن حماد‏:‏ هو فقيه هذه الأمة‏.‏

وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي‏.‏

ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه‏.‏

وقال قتيبة بن سعيد‏:‏ رحل إلي من شرق الأرض وغر بها خلق، فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري‏.‏

وقال مرجى بن رجاء‏:‏ فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء - يعني في زمانه - وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا‏.‏

وقال‏:‏ هو آية من آيات الله تمشي على الأرض‏.‏

وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي‏:‏ محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلباً‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ هو أبصر مني‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق‏.‏ وقال عبد الله العجلي‏:‏ رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يجلسان إليه يسمعان ما يقول، ولم يكن مسلم يبلغه، وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا، وكان حيياً فاضلاً يحسن كل شيء‏.‏

وقال غيره‏:‏ رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الأسامي والكنى والعلل، وهو يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد‏.‏

وقال أحمد بن حمدون القصار‏:‏ رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري فقبل بن عينيه وقال‏:‏ دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته فلما فرغ قال مسلم‏:‏ لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ لم أر بالعراق ولا في خراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري، وكنا يوما عند عبد الله بن منير فقال للبخاري‏:‏ جعلك الله زين هذه الأمة‏.‏

قال الترمذي‏:‏ فاستجيب له فيه‏.‏

وقال ابن خزيمة‏:‏ ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري‏.‏

ولو استقصينا ثناء العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته لطال علينا، ونحن على عجل من أجل الحوادث والله سبحانه المستعان‏.‏

وقد كان البخاري - رحمه الله - في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ إني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطالبني أني اغتبته‏.‏

فذكر له التاريخ وما ذكر فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ليس هذا من هذا‏.‏

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏إيذنوا له فلبئس أخو العشيرة‏)‏‏)‏‏.‏

ونحن إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا‏.‏

وقد كان - رحمه الله - يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يختم القرآن في كل ليلة رمضان ختمة، وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سراً وجهراً، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف النفس، بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه‏:‏ في بيته العلم والحلم يؤتى - يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي - وأبى أن يذهب إليهم‏.‏

والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى، فبقي في نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق - وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد - فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري، وقد كان الناس يعظمونه جداً، وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائداً إلى أهله، ‏ وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد، فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها‏:‏ خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين‏)‏‏)‏‏.‏ ثم اتفق مرضه على إثر ذلك‏.‏

فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعنى سنة ست وخمسين ومائتين - وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أياماً، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره‏.‏

وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة‏.‏

وقد ترك - رحمه الله - بعده علماً نافعاً لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به‏)‏‏)‏‏.‏

الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب، صنف في الصحيح لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره‏.‏

وما أحسن ما قال بعض الفصحاء من الشعراء‏:‏

صحيح البخاري لو أنصفوه * لما خط إلا بماء الذهب

هو الفرق بين الهدى والعمى * هو السد بين الفتى والعطب

أسانيد مثل نجوم السماء * أمام متون لها كالشهب

بها قام ميزان دين الرسول * ودان به العجم بعد العرب

حجاب من النار لا شك فيه * يميز بين الرضى والغضب

وستر رقيق إلى المصطفى * ونص مبين لكشف الريب

فيا عالماً أجمع العالمو * ن على فضل رتبته في الرتب

سبق الأئمة فيما جمعت * وفزت على زعمهم بالقصب

نفيت الضعف من الناقل * ين ومن كان متهماً بالكذب

وأبرزت في حسن ترتيبه * وتبويبه عجباً للعجب

فأعطاك مولاك ما تشتهيه * وأجزل حظك فيما وهب

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين‏.‏

فيها ولي الخليفة المعتمد ليعقوب بن الليث بلخ وطخارستان وما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها‏.‏ ‏

وفي صفر منها عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأذن له أن يستنيب في ذلك كله‏.‏

وفيها تواقع سعيد الحاجب وصاحب الزنج في أراضي البصرة فهزمه سعيد الحاجب، واستنقذ من يده خلقاً من النساء والذرية، واسترجع منه أموالاً جزيلة‏.‏

وأهان الزنج غاية الإهانة‏.‏

ثم إن الزنج بيتوا سعيداً وجيشه فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ويقال‏:‏ أن سعيد بن صالح قتل أيضاً‏.‏

ثم إن الزنج التقوا هم ومنصور بن جعفر الخياط في جيش كثيف فهزمهم صاحب الزنج المدعى أنه طالبي، وهو كاذب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها ظفر ببغداد بموضع بقال له‏:‏ بركة زلزل برجل خناق قد قتل خلقاً من النساء، كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فحمل إلى المعتمد فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الجلادون على أنثييه بخشب العقابين فمات، ورد إلى بغداد وصلب هناك، ثم أحرقت جثته‏.‏ وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة، كسف القمر وغاب أكثره‏.‏

وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهراً فقتل من أهلها خلقاً وهرب نائبها بغراج ومن معه، وأحرقت الزنج جامع البصرة ودوراً كثيرة، وانتهبوها ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي‏:‏ من أراد الأمان فليحضر‏.‏ فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا الشاذ‏:‏ كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة ثم يقول بعضهم لبعض‏:‏ كيلوا - وهي الإشارة بينهم إلى القتل - فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل - أي‏:‏ صراخ الزنج وضحكهم - فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وهرب الناس منهم كل مهرب وحرقوا الكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شيء من إنسان أو بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلاء والمحدثين والعلماء‏.‏

فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان هذا الخبيث قد أوقع في أهل فارس وقعة عظيمة، ثم بلغه أن أهل البصرة قد جاءهم من الميرة شيء كثير وقد اتسعوا بعد الضيق فحسدهم على ذلك، فروى ابن جرير عن من سمعه يقول‏:‏ دعوت الله علي أهل البصرة فخوطبت فقيل‏:‏ إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة، فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وقد كان هذا شائعاً في أصحابه حتى وقع الأمر طبق ما أخبر به‏.‏

ولا شك أن هذا كان معه شيطان يخاطبه، كما كان يأتي الشيطان مسيلمة وغيره‏.‏

قال‏:‏ ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه‏:‏ إني صبيحة ذلك دعوت الله على أهل البصرة، فرفعت لي البصرة بين السماء والأرض، ورأيت أهلها يقتلون، ورأيت الملائكة تقاتل مع أصحابي، وإني لمنصور على الناس والملائكة تقاتل معي، وتثبت جيوشي، ويؤيدني في حروبي‏.‏ ‏

ولما صار إليه العلوية الذين كانوا بالبصرة انتسب هو حينئذ إلى يحيى بن زيد، وهو كاذب في ذلك بالإجماع، لأن يحيى بن زيد لم يعقب إلا بنتاً ماتت وهي ترضع، فقبح الله هذا اللعين ما أكذبه وأفجره وأغدره‏.‏

وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جيشاً كثيفاً مع الأمير محمد - المعروف بالمولد - لقتال صاحب الزنج، فقبض في طريقه على سعد بن أحمد الباهلي الذي كان قد تغلب على أرض البطائح وأخاف السبيل‏.‏

وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بأرض فارس وتغلب عليها‏.‏ وفيها وثب رجل من الروم يقال له‏:‏ بسيل الصقلبي على ملك الروم ميخائيل بن توفيل فقتله واستحوذ على مملكة الروم، وقد كان لميخائيل في الملك على الروم أربع وعشرون سنة‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

الحسن بن عرفة بن يزيد

صاحب الجزء المشهور المروي، وقد جاوز المائة بعشر سنين وقيل‏:‏ بسبع، وكان له عشرة من الولد سماهم بأسماء العشرة‏.‏

وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وكان يتردد إلى الإمام أحمد بن حنبل‏.‏

ولد في سنة خمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين‏.‏

وأبو سعيد الأشج‏.‏

وزيد بن أخرم الطائي‏.‏

والرياشي، ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة‏.‏

وعلي بن خشرم، أحد مشايخ مسلم الذي يكثر عنهم الرواية‏.‏ والعباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي النحوي اللغوي، كان عالماً بأيام العرب والسير وكان كثير الاطلاع ثقة عالماً، روى عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، وعنه إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما‏.‏

قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج‏.‏

ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الأصمعي أنه قال‏:‏

مر بنا أعرابي ينشد ابنه فقلنا له‏:‏ صفه لنا‏.‏

فقال‏:‏ كأنه دنينير‏.‏

فقلنا‏:‏ لم نره، فلم نلبث أن جاء يحمله على عنقه أسيود كأنه سفل قدر‏.‏

فقلت لو سألتنا عن هذا لأرشدناك، إنه منذ اليوم يلعب ههنا مع الغلمان‏.‏

ثم أنشد الأصمعي‏:‏ ‏

نعم ضجيع الفتى إذا برد * الليل سحراً وقرقف العرد

زينها الله في الفؤاد كما * زين في عين والد ولد

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين‏.‏

في يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الأول عقد الخليفة لأخيه أبي أحمد علي ديار مصر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس في مستهل ربيع الآخر فخلع على أخيه وعلى مفلح، وركبا نحو البصرة في جيش كثيف في عدد وعدد، فاقتتلوا هم والزنج قتالاً شديداً فقتل مفلح للنصف من جمادى الأولى، أصابه سهم بلا نصل في صدره فأصبح ميتاً، وحملت جثته إلى سامرا فدفن بها‏.‏ وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني أحد أمراء صاحب الزنج الكبار، وحمل إلى سامرا فضرب بين يدي المعتمد مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم أخذ بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق، وكان الذين أسروه جيش أبي أحمد في وقعة هائلة مع الزنج قبحهم الله‏.‏

ولما بلغ خبره صاحب الزنج أسف على ذلك ثم قال‏:‏ لقد خوطبت فيه فقيل لي‏:‏ قتله كان خيراً لك‏.‏

لأنه كان شرهاً يخفى من المغانم خيارها، وقد كان صاحب الزنج يقول لأصحابه‏:‏ لقد عرضت علي النبوة فخفت أن لا أقوم بأعبائها فلم أقبلها‏.‏

وفي ربيع الآخر منها وصل سعيد بن أحمد الباهلي إلى باب الخليفة فضرب سبعمائة سوط حتى مات ثم صلب‏.‏

وفيها قتل قاض وأربعة وعشرون رجلاً من أصحاب صاحب الزنج عند باب العامة بسامرا‏.‏

وفيها رجع محمد بن واصل إلى طاعة السلطان وحمل خراج فارس وتمهدت الأمور هناك‏.‏

وفيها في أواخر رجب كان بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة هائلة فقتل منها خلق من الفريقين‏.‏

ثم استوخم أبو أحمد منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان فلما نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة ومات من الناس نحو من عشرين ألفاً‏.‏

وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامرا وواسط وغيرها من البلاد، وحصل للناس ببغداد داء يقال له‏:‏ القفاع‏.‏

وفي يوم الخميس لسبع خلون من رمضان، أخذ رجل من باب العامة بسامرا ذكر عنه أنه يسب السلف، فضرب ألف سوط حتى مات‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامنه، توفي الأمير يارجوخ فصلى عليه أخو الخليفة أبو عيسى وحضره جعفر بن المعتمد على الله‏.‏

وفيها كانت وقعة هائلة بين موسى بن بغا وبين أصحاب الحسن بن زيد ببلاد خراسان، فهزمهم موسى هزيمة فظيعة‏.‏

وفيها كانت وقعة بين مسرور البلخي وبين مساور الخارجي، فكسره مسرور وأسر من أصحابه جماعة‏.‏ ‏

كثيرة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق المتقدم ذكره‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان

أحمد بن بديل، وأحمد بن حفص‏.‏

وأحمد بن سنان القطان‏.‏

ومحمد بن يحيى الذهلي‏.‏

ويحيى بن معاذ الرازي‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين‏.‏

في يوم الجمعة لأربع من ربيع الآخر رجع أبو أحمد بن المتوكل من واسط إلى سامرا، وقد استخلف على حرب الزنج محمد الملقب بالمولد، وكان شجاعاً شهماً‏.‏

وفيها بعث الخليفة إلى نائب الكوفة جماعة من القواد فذبحوه وأخذوا ما كان معه من المال، فإذا هو أربعون ألف دينار‏.‏

وفيها تغلب رجل جمال يقال له‏:‏ شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها، وتفاقم أمره وأمر أتباعه هناك‏.‏

ولثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج وخرج المعتمد لتوديعه، وخلع عليه عند مفارقته له، وخرج عبد الرحمن بن مفلح إلى بلاد الأهواز نائباً عليها، وليكون عوناً لموسى بن بغا على حرب صاحب الزنج الخبيث، فهزم عبد الرحمن بن مفلح جيش الخبيث، وقتل من الزنج خلقاً كثيراً، وأسر طائفة كبيرة منهم وأرعبهم رعباً كثيراً، بحيث لم يتجاسروا على موافقتة مرة ثانية، وقد حرضهم الخبيث كل التحريض فلم ينجع ذلك فيهم، ثم تواقع عبد الرحمن بن مفلح وعلي بن أبان المهلبي، وهو مقدم جيوش صاحب الزنج فجرت بينهما حروب يطول شرحها، ثم كانت الدائرة على الزنج ولله الحمد‏.‏

فرجع علي بن أبان إلى الخبيث مغلوباً مقهوراً، وبعث عبد الرحمن بالأسارى إلى سامرا، فبادر إليهم العامة فقتلوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى الخليفة‏.‏

وفيها دنا ملك الروم - لعنه الله -إلى بلاد سميساط ثم إلى ملطية فقاتله أهلها فهزموه، وقتلوا بطريق البطارقة من أصحابه، ورجع إلى بلاده خاسئاً وهو حسير‏.‏

وفيها دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بالخارجي الذي كان بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، فقتله وحمل رأسه على رمح وطيف به في الآفاق‏.‏

ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏ ‏ وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني خطيب دمشق وإمامها وعالمها، وله المصنفات المشهورة المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين ومائتين‏.‏

فيها وقع غلاء شديد ببلاد الإسلام كلها حتى أحلى أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها‏.‏

وبلغ كر الشعير ببغداد مائة وعشرين ديناراً، واستمر ذلك شهوراً‏.‏ وفيها قتل صاحب الزنج علي بن زيد صاحب الكوفة، وفيها أخذ الروم من المسلمين حصن لؤلؤة‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المذكور قبلها‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ الحسن بن محمد الزعفراني، وعبد الرحمن بن شرف، ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه، وهو مالك بن طوق، ويقال للرحبة‏:‏ رحبة مالك بن طوق، وحنين ابن إسحاق العبادي الذي عرب كتاب اقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة‏.‏

وعرب حنين أيضاً كتاب المجسطي وغير ذلك من كتب الطب من لغة اليونان إلى لغة العرب، وكان المأمون شديد الاعتناء بذلك جداً، وكذلك جعفر البرمكي قبله، ولحنين مصنفات كثيرة في الطب، واليه تنسب مسائل حنين، وكان بارعاً في فنه جداً، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من صفر من هذه السنة‏.‏

قاله ابن خلكان‏.‏

سنة إحدى وستين ومائتين

فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس، لممالأتهم يعقوب بن الليث عليه‏.‏

وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة، فشخص إليه مسرور البلخي، ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق‏.‏

وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وبين عبد الرحمن بن مفلح، فكسره ابن واصل وأسره، وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم سار ابن واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا، فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد‏.‏ ‏

وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وغلبتهم الزنج، ودخلوا الأهواز فقتلوا خلقاً من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثم صرف أبو الساج عن نيابة الأهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما‏.‏

وفيها تجهز مسرور البلخي في جيش لقتال الزنج‏.‏

وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان‏.‏

وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه، وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم‏.‏

وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد‏.‏

وأصلح الله به تلك الناحية‏.‏

ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال، ولى المعتمد على الله ولده جعفراً العهد من بعده، وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق، وضم إليه مسرور البلخي وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكوردجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والرى وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة‏.‏

وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن سليمان الرهاوي‏.‏

وأحمد بن عبد الله العجلي‏.‏

والحسن بن أبي الشوارب بمكة‏.‏

وداود بن سليمان الجعفري‏.‏

وشعيب بن أيوب‏.‏

و عبد الله بن الواثق أخو المهتدي بالله‏.‏

وأبو شعيب السوسي‏.‏

وأبو زيد البسطامي أحد أئمة الصوفية‏.‏

وعلي بن إشكاب وأخوه أبو محمد، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح‏.‏

ذكر شيء من ترجمته بالاختصار‏.‏

هو مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، أحد الأئمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه، وفي الجملة فإن مسلماً لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري‏.‏ ‏

والمقصود أن مسلماً دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم‏.‏

وروى عنه جماعة كثيرون منهم‏:‏ الترمذي في جامعه حديثاً واحداً وهو حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏احصوا هلال شعبان لرمضان‏)‏‏)‏‏.‏

وصالح بن محمد حرره‏.‏ وعبد الرحمن بن أبي حاتم‏.‏

وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو عوانة الأسفراييني‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، سمعت أحمد بن سلمة يقول‏:‏ رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما‏.‏

وأخبرني ابن يعقوب، أنا محمد بن نعيم، سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت مسلماً بن الحجاج يقول‏:‏ صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة‏.‏

وروى الخطيب قائلاً‏:‏ حدثني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي السودرجاني - بأصبهان - سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول‏:‏ ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث‏.‏

وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه فقال بالعجمية ما معناه‏:‏ أي رجل كان هذا‏؟‏

وقال إسحاق بن منصور لمسلم‏:‏ لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين‏.‏

وقد أثنى عليه جماعة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم‏.‏

وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم‏:‏ قل ما يفوت البخاري ومسلماً ما يثبت في الحديث‏.‏

وروى الخطيب عن أبي عمر محمد بن حمدان الحيري قال‏:‏ سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم‏؟‏

فقال‏:‏ كان البخاري عالماً ومسلم عالماً، فكررت ذلك عليه مراراً وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال‏:‏ يا أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان، وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لأنه كتب المقاطيع والمراسيل‏.‏

قال الخطيب‏:‏ إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه‏.‏

ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه‏.‏

وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال‏:‏ سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول‏:‏ لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء‏.‏ قال الخطيب‏:‏ وأخبرني أبو بكر المنكدر، ثنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثني أبو نصر بن محمد الزراد، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار، سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال‏:‏ دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس فما علته‏؟‏‏

فقال البخاري‏:‏ هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب عن سهيل، عن عوز بن عبد الله قوله‏.‏

قال البخاري‏:‏ وهذا أولى فإنه لا يعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل‏.‏

قلت‏:‏ وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً على حدة، وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وقد كان مسلم يناضل عن البخاري‏.‏

ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور، وكيف نودى على البخارى بسبب ذلك بنيسابور، وأن الذهلي قال يوماً لأهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج‏:‏ ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا‏.‏

فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي جميعه وأرسله إليه، وترك الرواية عن الذهلي بالكلية، فلم يرو عنه شيئاً لا في صحيحه ولا في غيره، واستحكمت الوحشة بينهما‏.‏

هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله‏.‏

وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله‏:‏ أنه عقد له مجلس للمذاكرة فسئل يوماً عن حديث، فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لأهله‏:‏ لا يدخل أحد الليلة علي، وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح، وقد أكل تلك السلة وهو لا يشعر‏.‏

فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، فكان عمره سبعاً وخمسين سنة رحمه الله تعالى‏.‏

أبو يزيد البسطامي‏.‏

اسمه طيفور بن عيسى بن علي، أحد مشايخ الصوفية، وكان جده مجوسياً فأسلم، وكان لأبي يزيد أخوات صالحات عابدات، وهو أجلهم، قيل لأبي يزيد‏:‏ بأي شيء وصلت إلى المعرفة‏؟‏

فقال‏:‏ ببطن جائع وبدن عار‏.‏

وكان يقول‏:‏ دعوت نفسي إلى طاعة الله فلم تجبني فمنعتها الماء سنة‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله مقامات ومجاهدات مشهورة، وكرامات ظاهرة‏.‏

توفي سنة إحدى وستين ومائتين‏.‏

قلت‏:‏ وقد حكي عنه شحطات ناقصات، قد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة‏.‏

وقد قال بعضهم‏:‏ إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة‏.‏

ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع، وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين‏.‏

فيها قدم يعقوب بن الليث في جحافل، فدخل واسط قهراً، فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله، فتوسط بين بغداد وواسط فانتدب له أبو أحمد الموفق بالله أخو الخليفة، في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسرور البلخي، فاقتتلوا في رجب من هذه السنة أياماً قتالاً عظيماً، ثم كانت الغلبة على يعقوب وأصحابه، وذلك يوم عيد الشعانين‏.‏

فقتل منهم خلق كثير، وغنم منهم أبو أحمد شيئاً كثيراً من الذهب والفضة والمسك والدواب‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم وجدوا في جيش يعقوب هذا رايات عليها صلبان‏.‏ ثم انصرف المعتمد إلى المدائن ورد محمد بن طاهر إلى نيابة بغداد، وأمر له بخمسمائة ألف درهم‏.‏

وفيها‏:‏ غلب يعقوب بن الليث على بلاد فارس، وهرب ابن واصل منها‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين صاحب الزنج وجيش الخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب‏.‏

وفيها‏:‏ جمع للقاضي إسماعيل بن إسحاق قضاء جانبي بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الفضل بن إسحاق العباسي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها وقع بين الخياطين والخرازين بمكة فاقتتلوا يوم التروية أو قبله بيوم‏.‏

فقتل منهم سبعة عشر نفساً، وخاف الناس أن يفوتهم الحج بسببهم، ثم توادعوا إلى ما بعد الحج‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏

صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها‏.‏

وعمر بن شبة النميري‏.‏

ومحمد بن عاصم‏.‏

ويعقوب بن شيبة صاحب المسند الحافل المشهور، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين‏.‏

فيها جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شتى فمن ذلك مقتلة عظيمة في الزنج لعنهم الله، حصرهم في بعض المواقف بعض الأمراء من جهة الخليفة، فقتل الموجودين عنده عن آخرهم‏.‏

وفيها‏:‏ سلمت الصقالبة حصن لؤلؤة إلى طاغية الروم‏.‏

وفيها‏:‏ تغلب أخو شركب الجمال على نيسابور، وأخرج منها عاملها الحسين بن طاهر، وأخذ من أهلها ثلث أموالهم مصادرة قبحه الله‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ مساور بن عبد الحميد الشاري الخارجي، وقد كان من الأبطال والشجعان المشهورين، والتف عليه خلق من الأعراب وغيرهم، وطالت مدته حتى قصمه الله‏.‏

ووزير الخلافة عبيد الله بن يحيى بن خاقان صدمه في الميدان خادم يقال له‏:‏ رشيق، فسقط عن دابته على أم رأسه، فخرج دماغه من أذنيه وأنفه فمات بعد ثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن المتوكل، ومشى في جنازته، وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فلما قدم موسى بن بغا سامرا عزله واستوزر مكانه سليمان بن وهب، وسلمت دار عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى الأمير المعروف بكيطلغ‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أحمد بن الأزهر‏.‏

والحسن بن أبي الربيع‏.‏

ومعاوية بن صالح الأشعري‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين‏.‏

في المحرم منها عسكر أبو أحمد وموسى بن بغا بسامرا وخرجا منها لليلتين مضتا من صفر، وخرج المعتمد لتوديعهما، وسارا إلى بغداد‏.‏

فلما وصلا إلى بغداد توفي الأمير موسى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها‏.‏

وفيها‏:‏ ولى محمد بن المولد واسطاً لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صاحب الزنج، فهزمه ابن المولد بعد حروب طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ سار ابن الديراني إلى مدينة الدينور، واجتمع عليه دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف وابن عياض، فهزماه ونهبا أمواله ورجع مغلولاً‏.‏

ولما توفي موسى بن بغا عزل الخليفة الوزير الذي كان من جهته وهو سليمان بن حرب، وحبسه مقيداً وأمر بنهب دوره ودور أقربائه، ورد الحسن بن مخلد إلى الوزارة، فبلغ ذلك أبا أحمد وهو ببغداد فسار بمن معه إلى سامرا، فتحصن منه أخوه المعتمد بجانبها الغربي، فلما كان يوم التروية عبر جيش أبي أحمد إلى الجانب الذي فيه المعتمد فلم يكن بينهم قتال بل اصطلحوا على رد سليمان بن وهب إلى الوزارة، وهرب الحسن بن مخلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن المتوكل ثم ظهر، وهرب جماعة من الأمراء إلى الموصل خوفاً من أبي أحمد‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن عبد الرحمن بن وهب‏.‏ وإسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر، وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين‏.‏

أبو زرعة‏.‏

عبيد الله بن عبد الكريم الرازي‏.‏

أحد الحفاظ المشهورين، قيل‏:‏ إنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان فقيهاً ورعاً زاهداً عابداً متواضعاً خاشعاً، أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه، وكان في حال شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات، ولا يفعل المندوبات اكتفاء بمذاكرته‏.‏

توفي يوم الاثنين سلخ ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده سنة مائتين، وقيل‏:‏ سنة تسعين ومائة، وقد ذكرنا ترجمته مبسوطة في التكميل‏.‏

ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق‏.‏

ويونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، وهو ممن روى عن الشافعي‏.‏

وقد ذكرناه في التكميل وفي الطبقات‏.‏

وقبيحة أم المعتز إحدى حظايا المتوكل على الله، وقد جمعت من الجواهر واللآلئ والذهب والمصاغ ما لم يعهد لمثلها‏.‏

ثم سلبت ذلك كله وقتل ولدها المعتز لأجل نفقات الجند، وشحت عليه بخمسين ألف دينار تداري بها عنه‏.‏

كانت وفاتها في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين‏.‏

فيها كانت وقعة بين ابن ليثويه عامل أبي أحمد وبين سليمان بن جامع، فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج، فقتل خلقاً من أصحابه وأسر منهم سبعة وأربعين أسيراً، وحرق له مراكب كثيرة، وغنم منهم أموالاً جزيلة‏.‏

وفي المحرم من هذه السنة حاصر أحمد بن طولون نائب الديار المصرية مدينة أنطاكية، وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هدايا ملك الروم، وفي جملتها أسارى من أسارى المسلمين، ومع كل أسير مصحف، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور، فاجتمع لأحمد بن طولون ملك الشام بكماله مع الديار المصرية، لأنه لما مات نائب دمشق أماخور ركب ابن طولون من مصر فتلقاه ابن ماخور إلى الرملة فأقره عليها‏.‏

وسار إلى مشق فدخلها ثم إلى حمص فتسلمها، ثم إلى حلب فأخذها، ثم ركب إلى إنطاكية فكان من أمره ما تقدم‏.‏

وكان قد استخلف على مصر ابنه العباس، فلما بلغه قدوم أبيه عليه من الشام أخذ ما كان في بيت المال من الحواصل، ووازره جماعة على ذلك، ثم ساروا إلى برقة خارجاً عن طاعة أبيه، فبعث إليه من أخذه ذليلاً حقيراً، وردوه إلى مصر فحبسه وقتل جماعة من أصحابه‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له‏:‏ القاسم بن مهاة، على دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي، فقتله واستحوذ على أصبهان فانتصر أصحاب دلف له، فقتلوا القاسم ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز‏.‏

وفيها‏:‏ لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث فسار إليه في المحرم، فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه‏.‏

وفيها‏:‏ دخل صاحب الزنج إلى النعمانية، فقتل وحرق ثم سار إلى جرجرايا فانزعج الناس منه، ودخل أهل السواد إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولى أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، ووجهه إليها بذلك وبالخلع والتحف‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الزنج تستر حتى كادوا يأخذونها، فوافاهم تكين البخاري فلم يضع ثياب سفره حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقاً، وهزمهم هزيمة فظيعة جداً، وهرب أميرهم علي بن أبان المهلبي مخذولاً‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وهذه وقعة باب كودك المشهورة، ثم إن علي بن أبان المهلبي أخذ في مكاتبة تكين واستمالته إليه وإلى صاحب الزنج، فسارع تكين في إجابته إلى ذلك، فبلغ خبره مسروراً البلخي فسار نحوه وأظهر له الأمان حتى أخذه فقيده وتفرق جيشه عنه، ففرقة صارت إلى الزنج، وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وفرقة انضافت إلى مسرور بعد إعطائه إياهم الأمان، وولى مكانه على عمالته أميراً آخر يقال له‏:‏ اغرتمش‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى العباسي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد بن منصور الرمادي راوية عبد الرزاق، وقد صحب الإمام أحمد وكان يعد من الأبدال، توفي عن ثلاث وستين سنة‏.‏

وسعدان بن نصر‏.‏

و عبد الله بن محمد المخزومي‏.‏

وعلي بن حرب الطائي الموصلي‏.‏

وأبو حفص النيسابوري علي بن موفق الزاهد‏.‏

ومحمد بن سحنون‏.‏

قال ابن الأثير في كامله‏:‏ وفيها قتل أبو الفطل العباس بن الفرج الرياضي صاحب أبي عبيدة، والأصمعي قتلته الزنج بالبصرة‏.‏

يعقوب بن الليث الصفار‏.‏

أحد الملوك العقلاء الأبطال‏.‏

فتح بلاداً كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج، وكان يحمل في سرير من ذهب على رؤوس اثني عشر رجلاً، وكان له بيت في رأس جبل عال سماه مكة، فما زال حتى قتل وأخذ بلده، واستسلم أهلها فأسلموا على يديه، ولكن كان قد خرج عن طاعة الخليفة وقاتله أبو أحمد الموفق كما تقدم‏.‏

ولما مات ولوا أخاه عمرو بن الليث ما كان يليه أخوه يعقوب مع شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين‏.‏

في صفر منها تغلب إساتكين على بلد الري، وأخرج عاملها منها ثم مضى إلى قزوين فصالحه أهلها فدخلها، وأخذ منها أموالاً جزيلة، ثم عاد إلى الري فمانعه أهلها عن الدخوال إليها فقهرهم ودخلها‏.‏

وفيها‏:‏ غارت سرية من الروم على ناحية ديار ربيعة، فقتلوا وسبوا ومثلوا وأخذوا نحواً من مائتين وخمسين أسيراً، فنفر إليهم أهل نصيبين وأهل الموصل، فهربت منهم الروم ورجعوا إلى بلادهم‏.‏

وفيها‏:‏ ولى عمرو بن الليث شرطة بغداد وسامرا لعبيد الله بن طاهر، وبعث إليه أبو أحمد بالخلعة وخلع عليه عمرو بن الليث أيضاً، وأهدى إليه عمودين من ذهب، وذلك مضافاً إلى ما كان يليه أخوه من البلدان‏.‏

وفيها‏:‏ سار اغرتمش إلى قتال علي بن أبان المهلبي بتستر، فأخذ من كان في السجن من أصحاب علي بن أبان المهلبي من الأمراء فقتلهم عن آخرهم، ثم سار إلى علي بن أبان فاقتتلا قتالاً شديداً في مرات عديدة، وكان آخرها لعلي بن أبان المهلبي، قتل خلقاً كثيراً من أصحاب اغرتمش وأسر بعضهم فقتلهم أيضاً، وبعث برؤوسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رؤوسهم على باب مدينته قبحه الله‏.‏

وفيها‏:‏ وثب أهل حمص على عاملهم عيسى الكرخي فقتلوه في شوال منها‏.‏

وفيها‏:‏ دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيلي أهل طبرستان إلى نفسه، وأظهر لهم أن الحسن بن زيد أسر ولم يبق من يقوم بهذا الأمر غيره، فبايعوه‏.‏

فلما بلغ ذلك الحسين بن زيد قصده فقاتله فقتله، ونهب أمواله وأموال من اتبعه، وأحرق دورهم‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية، وتغلب عليها رجل من أهل البيت من سلالة الحسن بن زيد الذي تغلب على طبرستان، وجرت شرور كثيرة هنالك بسبب قتل الجعفرية والعلوية يطول ذكرها‏.‏

وفيها‏:‏ وثبت طائفة من الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم أيضاً على ديار ربيعة‏.‏

وفيها‏:‏ دخل أصحاب صاحب الزنج إلى رامهرمز فافتتحوها بعد قتال طويل‏.‏

وفيها‏:‏ دخل ابن أبي الساج مكة، فقاتله المخزومي فقهره ابن أبي الساج، وحرق داره واستباح ماله، وذلك يوم التروية في هذه السنة‏.‏

ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبي الساج من جهة الخليفة‏.‏

وحج بالناس فيها هارون بن محمد المتقدم ذكره قبلها‏.‏

وفيها‏:‏ عمل محمد بن عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب - وهو خليفة بلاد الأندلس وبلاد المغرب - مراكب في نهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط، ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد ليقاتلوهم، فلما دخلت المراكب البحر المحيط تكسرت وتقطعت، ولم ينج من أهلها إلا اليسير بل غرق أكثرهم‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم ببلاد صقلية، فاقتتلوا فقتل من المسلمين خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ حارب لؤلؤ غلام ابن طولون لموسى بن أتامش، فكسره لؤلؤ وأسره وبعث به إلى مولاه أحمد بن طولون، وهو إذ ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة، ثم اقتتل لؤلؤ هذا وطائفة من الروم فقتل من الروم خلقاً كثيراً‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها اشتد الحال، وضاق الناس ذرعاً بكثرة الهياج والفتن، وتغلب القواد والأجناد على كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة واشتغال أخيه أبي أحمد بقتال الزنج‏.‏

وفيها‏:‏ اشتد الحر في تشرين الثاني جداً، ثم قوي به البرد حتى جمد الماء‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إبراهيم بن رومة‏.‏

وصالح بن الإمام أحمد بن حنبل قاضي أصبهان‏.‏

ومحمد بن شجاع البلخي أحد عباد الجهمية‏.‏

ومحمد بن عبد الملك الدقيقي‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين‏.‏

فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة وأكمل تجمل لقتال الزنج، فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه، وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطاً مطولاً‏.‏

وحاصل ذلك‏:‏ أنه آل الحال أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب، ولكن سلمة الله وغنمه وأعلى كلمته وسدد رميته وأجاب دعوته وفتح على يديه وأسبغ نعمه عليه، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه المعتمد كما سيأتي‏.‏

ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوش كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأول منها، فتلقاه ابنه أخبره عن الجيوش الذين معه، وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد، فخلع على الأمراء كلهم خلعاً سنية، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها المنيعة، فقاتل الزنج دونها قتالاً شديداً فقهرهم ودخلها عنوة وهربوا منها، فبعث في آثارهم جيشاً فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون، وغنم أبو أحمد من المنيعة شيئاً كثيراً، واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعاً بعد ما كانت للشر مجمعاً‏.‏

ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها‏:‏ المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين، ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن هندي أحد أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغه فقتله، ‏ وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج فشق ذلك على الزنج جداً، وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر، والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب، فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله في الدعاء واجتهد في حصارها، فهزم الله مقاتلتها وانتهى إلى خندقها فإذا هو قد حصن غاية التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار، فجعل كلما جاوز سوراً قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقاً كثيراً وهرب بقيتهم، وأسر من نساء الزنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبياناً، واستنقذ من أيديهم النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة نحواً من عشرة آلاف نسمة فسيرهم إلى أهليهم، جزاه الله خيراً‏.‏

ثم أمر بهدم فنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها، وأقام بها سبعة عشر يوماً وبعث في آثار من انهزم منهم، فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراء - وكان مقصوده رجوعهم إلى الدين والحق - ومن لم يجبه قتله وحبسه‏.‏

ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطردهم منها، وقتل خلقاً كثيراً من أشرافهم، منهم‏:‏ أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيساً فيهم مطاعاً، وغنم شيئاً كثيراً من أموالهم، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج قبحه الله كتاباً يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام‏.‏

ونبذ له الأمان إن هو رجع إلى الحق، فلم يرد عليه صاحب الزنج جواباً‏.‏

مسير أبي أحمد الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وحصار المختارة‏.‏

لما كتب أبو أحمد إلى صاحب الزنج يدعوه إلى الحق فلم يجبه، استهانة به، ركب من فوره في جيوش عظيمة قريب من خمسين ألف مقاتل، قاصداً إلى المختارة مدينة صاحب الزنج، فلما انتهى إليها وجدها في غاية الأحكام، وقد حوط عليها من آلات الحصار شيئاً كثيراً، وقد التف على صاحب الزنج نحو من ثلاثمائة ألف مقاتل بسيف ورمح ومقلاع، ومن يكثر سوادهم، فقدم الموفق ولده أبا العباس بين يديه، فتقدم حتى وقف تحت قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة، وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته، ثم تراكمت الزنج عليه من كل مكان فهزمهم، وأثبت بهبوذ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة، ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعاً سنية، ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق‏.‏

ثم ركب أبو أحمد الموفق في يوم النصف من شعبان، ونادى في الناس كلهم بالأمان إلا صاحب الزنج، فتحول خلق كثير من جيش صاحب الزنج إلى الموفق،  وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سماها الموفقية، وأمر بحمل الأمتعة والتجارات إليها، فاجتمع بها من أنواع الأشياء وصنوفها ما لم يجتمع في بلد قبلها، وعظم شأنها وامتلأت من المعايش والأرزاق وصنوف التجارات والسكان والدواب وغيرهم، وإنما بناها ليستعين بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروب عظيمة، وما زالت الحرب ناشبة حتى انسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج، وقد تحول منهم خلق كثير فصاروا على صاحب الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عدد من تحول قريباً من خمسين ألفاً من الأمراء الخواص والأجناد، والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إسماعيل بن سيبويه‏.‏

وإسحاق بن إبراهيم بن شاذان، ويحيى بن نصر الخولاني، وعباس البرقفي، ومحمد بن حماد بن بكر بن حماد أبو بكر المقري، صاحب خلف بن هشام البزار ببغداد في ربيع الأول، ومحمد بن عزيز الإيلي، ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي حنكان، ويونس بن حبيب راوي مسند أبي داود الطيالسي عنه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين‏.‏

في المحرم منها استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان - وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم في أنفسهم - الموفق فأمنه وفرح به وخلع عليه وأمره فركب في سمرته فوقف تجاه قصر الملك، فنادى في الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره، وأنه في غرور هو ومن ابتعه، فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم، وبرد قتال الزنج عند ذلك إلى ربيع الآخر‏.‏

فعند ذلك أمر الموفق أصحابه بمحاصرة السور، وأمرهم إذا دخلوه أن لا يدخلوا البلد حتى يأمرهم، فنقبوا السور حتى انثلم ثم عجلوا الدخول فدخلوا فقاتلهم الزنج فهزمهم المسلمون، وتقدموا إلى وسط المدينة فجاءتهم الزنج من كل جانب وخرجت عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها، فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً واستلبوهم وفر الباقون‏.‏ فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الأرزاق على ذرية من قتل منهم، فحسن ذلك عند الناس جداً‏.‏ ‏

وظفر أبو العباس بن الموفق بجماعة من الأعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم، وظفر ببهبوذ بن عبد الله بن عبد الوهاب فقتله، وكان ذلك من أكبر الفتح عند المسلمين وأعظم الرزايا عند الزنج‏.‏

وبعث عمرو بن الليث إلى أبي أحمد الموفق ثلاثمائة ألف دينار وخمسين مناً من مسك، وخمسين مناً من عنبر، ومائتي من عود، وفضة بقيمة ألف، وثياباً من وشي وغلماناً كثيرة جداً‏.‏

وفيها‏:‏ خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية، فحاصر أهل ملطية فأعانهم أهل مرعش ففر الخبيث خاسئاً‏.‏

وغزا الصائفة من ناحية الثغور عامل ابن طولون، فقتل من الروم سبعة عشر ألفاً‏.‏

وحج بالناس فيها هارون المتقدم‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد بن سيار‏.‏

وأحمد بن شيبان‏.‏

وأحمد بن يونس الضبي‏.‏

وعيسى ابن أحمد البلخي، ومحمد بن عبد الله بن عبدالحكم المصري الفقيه المالكي‏.‏

وقد صحب الشافعي وروى عنه‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين‏.‏

فيها اجتهد الموفق بالله في تخريب مدينة صاحب الزنج فخرب منه شيئاً كثيراً، وتمكن الجيوش من العبور إلى البلد، ولكن جاءه في أثناء هذه الحالة سهم في صدره من يد رجل رومي يقال له‏:‏ قرطاس، فكاد يقتله، فاضطرب الحال لذلك وهو يتجلد ويحض على القتال مع ذلك، ثم أقام ببلده الموفقية أياماً يتداوى فاضطربت الأحوال وخاف الناس من صحاب الزنج، وأشاروا على الموفق بالمسير إلى بغداد فلم يقبل فقويت علته ثم من الله عليه بالعافية في شعبان، ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، فنهض مسرعاً إلى الحصار فوجد الخبيث قد رمم كثيراً مما كان الموفق قد خربه وهدمه‏.‏

فأمر بتخريبه وما حوله وما قرب منه، ثم لازم الحصار فما زال حتى فتح المدينة الغربية وخرب قصور صاحب الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئاً كثيراً مما لا يحد ولا يوصف كثرة، وأسر من نساء الزنج واستنقذ من نساء المسلمين وصبيانهم خلقاً كثيراً فأمر بردهم إلى أهاليهم مكرمين‏.‏

وقد تحول صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي، وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصول السمريات إليه، فأمر الموفق بتخريبها وقطع الجسور، واستمر الحصار باقي هذه السنة، وما برح حتى تسلم الجانب الشرقي أيضاً واستحوذ على حواصله وأمواله، وفر الخبيث هارباً غير آيب، وخرج منها هارباً وترك حلائله وأولاده وحواصله، فأخذها الموفق وشرح ذلك يطول جداً‏.‏

وقد حرره مبسوطاً ابن جرير، ولخصه ابن الأثير، واختصره ابن كثير، والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب، واليه المرجع إلى المآب‏.‏ ‏

ولما رأى الخليفة المعتمد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمور الخلافة، وصار هو الحاكم الآمر الناهي، واليه تجلب التقادم وتحمل الأموال والخراج، وهوالذي يولي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مصر ووعده النصر والقيام معه، فاستغنم غيبة أخيه الموفق وركب في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، وقد أرصد له ابن طولون جيشاً بالرقة يتلقونه، فلما اجتاز الخليفة بإسحاق بن كنداج نائب الموصل وعامة الجزيرة اعتقله عنده عن المسير إلى ابن طولون، وفند أعيان الأمراء الذين معه، وعاتب الخليفة ولامه على هذا الصنع أشد اللوم، ثم ألزمه العود إلى سامرا ومن معه من الأمراء فرجعوا إليها في غاية الذل والإهانة‏.‏

ولما بلغ الموفق ذلك شكر سعي إسحاق، وولاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقية، وكتب إلى أخيه أن يأمن ابن طولون في رد العامة، فلم يمكن المعتمد إلا إجابته إلى ذلك، وهو كاره، وكان ابن طولون قد قطع ذكر الموفق في الخطب وأسقط اسمه عن الطرازات‏.‏

وفيها‏:‏ في ذي القعدة وقعت فتنة بمكة بين أصحاب الموفق وأصحاب ابن طولون، فقتل من أصحاب ابن طولون مائتان وهرب بقيتهم، واستلبهم أصحاب الموفق شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ قطع الأعراب على الحجيج الطريق، وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ إبراهيم بن منقذ الكناني‏.‏

وأحمد بن خلاد مولى المعتصم - وكان من دعاة المعتزلة أخذ الكلام عن جعفر بن معشر المعتزلي - وسليمان بن حفص المعتزلي، صاحب بشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف، وعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، نائب أرمينية وديار بكر‏.‏

وأبو فروة يزيد بن محمد الرهاوي أحد الضعفاء‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعين ومائتين‏.‏

فيها كان مقتل صاحب الزنج قبحه الله‏:‏ وذلك أن الموفق لما فرغ من شأن مدينة صاحب الزنج وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموال، وقتل من كان بها من الرجال، وسبى من وجد فيها من النساء والأطفال، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وسار إلى بعض البلاد طريداً شريداً بشر حال، عاد الموفق إلى مدينته الموفقية مؤيداً منصوراً، وقدم عليه لؤلؤاً غلام أحمد بن طولون منابذاً لسيده سميعاً مطيعاً للموفق، وكان وروده عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعظمه وأعطاه وخلع عليه وأحسن إليه، وبعثه طليعة بين يديه لقتال صاحب الزنج، وركب الموفق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه فقصدوا الخبيث وقد تحصن ببلدة أخرى، ‏‏ فلم يزل به محاصراً له حتى أخرجه منها ذليلاً، واستحوذ على ما كان بها من الأموال والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج، فأسروا عامة من كان معه من خاصته وجماعته، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناس بأسره وكبروا الله وحمدوه فرحاً بالنصر والفتح‏.‏

وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل، وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج في المعركة، وأتي برأسه مع غلام لؤلؤة الطولوني، فلما تحقق الموفق أنه رأسه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابه بذلك، خر ساجدا لله، ثم أنكفأ راجعاً إلى الموفقية، ورأس الخبيث يحمل بين يديه، وسليمان معه أسير، فدخل البلد وهو كذلك، وكان يوماً مشهوداً وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق‏.‏

ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي، مسعر حربهم مأسورين ومعهما قريب من خمسة آلاف أسير، فتم السرور وهرب قرطاس الذي رمى الموفق بصدره بذلك السهم إلى رامهرمز، فأخذ وبعث به إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق‏.‏

واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج، وأمنهم الموفق ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان يوماً مشهوداً، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله‏.‏

وقد كان ظهوره في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين‏.‏

وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد قيل في انقضاء دولة الزنج وما كان من النصر عليهم أشعار كثيرة، من ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي‏:‏

أقول وقد جاء البشير بوقعة * أعزت من الإسلام ما كان واهيا

جزى الله خير الناس للناس بعد ما * أبيح حماهم خير ما كان جازيا

تفرد إذ لم ينصر الله ناصر * بتجديد دين كان أصبح باليا

وتشديد ملك قد وهى بعد عزه * وأخذ بثأرات تبير الأعاديا

ورد عمارات أزيلت وأخربت * ليرجع فيء قد تخرم وافيا

وترجع أمصار أبيحت وأحرقت * مراراً وقد أمست قواء عوافيا

ويشفي صدور المسلمين بوقعة * تقر بها منا العيون البواكيا

ويتلى كتاب الله في كل مسجد * ويُلقى دعاء الطالبيين خاسيا

فأعرض عن أحبابه ونعيمه * وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا

‏‏ وفي هذه السنة أقبلت الروم في مائة ألف مقاتل، فنزلوا قريباً من طرسوس، فخرج إليهم المسلمون فبيتوهم فقتلوا منهم في ليلة واحدة حتى الصباح نحواً من سبعين ألفاً، ولله الحمد‏.‏

وقتل المقدم الذي عليهم وهو بطريق البطارقة، وجرح أكثر الباقين، وغنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة، من ذلك سبع صلبان من ذهب وفضة، وصليبهم الأعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر، وأربع كراسي من ذهب، ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، وعشرة آلاف علم من ديباج، وغنموا حريراً كثيراً وأموالاً جزيلة، وخمسة عشر ألف دابة وسروجاً وسلاحاً وسيوفاً محلاة وغير ذلك، ولله الحمد‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن طولون‏.‏

أبو العباس أمير الديار المصرية و باني الجامع بها المنسوب إلى طولون، وإنما بناه أحمد ابنه، وقد ملك دمشق والعواصم والثغور مدة طويلة، وقد كان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في سنة مائتين، ويقال‏:‏ إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة‏.‏

ولد أحمد هذا في سنة أربع عشرة ومائتين، ومات طولون أبوه في سنة ثلاثين، وقيل‏:‏ في سنة أربعين ومائتين‏.‏

وحكى ابن خلكان‏:‏ أنه لم يكن أباه وإنما تبناه والله أعلم‏.‏ وحكى ابن عساكر‏:‏ أنه من جارية تركية اسمها هاشم‏.‏

ونشأ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم، مع حسن الصوت به، وكان يعيب على أولاد الترك ما يرتكبونه من المحرمات والمنكرات، وكانت أمه جارية اسمها هاشم‏.‏

وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر‏:‏ أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته، وحسن صوته بالقرآن، وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الإمارة، فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعاً إليه سريعاً، ولم يذكر له شيئاً مما رأى من الحظية والخادم، فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون فقالت‏:‏ إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي، وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتاباً وختمه إلى بعض الأمراء، ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعاً إلي‏.‏

فذهب بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها فقال‏:‏ إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء‏.‏

قالت‏:‏ هلم فلي إليه حاجة - وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه - فحبسته عندها ليكتب لها كتاباً، ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة، وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الأمير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون، فتعجب الملك من ذلك‏.‏

وقال‏:‏ أين أحمد‏؟‏

فطلب له فقال‏:‏ ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي‏؟‏

فأخبره بما جرى من الأمر‏.‏

ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يديها، وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر وتستغفر مما وقع منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده‏.‏

ثم ولي نيابة الديار المصرية للمعتز فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات، واستغل الديار المصرية في بعض السنين أربعة آلاف ألف دينار، وبنى بها الجامع، غرم عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وفرغ منه في سنة سبع وخمسين، وقيل‏:‏ في سنة ست وستين ومائتين، وكانت له مائدة في كل يوم يحضرها الخاص والعام، وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار‏.‏

وقد قال له وكيله يوماً‏:‏ إنه تأتيني المرأة وعليها الإزار والبدلة ولها الهيئة الحسنة تسألني فأعطيها‏؟‏

فقال‏:‏ من مد يده إليك فأعطه‏.‏

وكان من أحفظ الناس للقرآن، ومن أطيبهم به صوتاً‏.‏

وقد حكى ابن خلكان عنه‏:‏ أنه قتل صبراً نحواً من ثمانية عشر ألف نفس، فالله أعلم‏.‏

وبنى المارستان غرم عليه ستين ألف دينار، وعلى الميدان مائة وخمسين ألفاً، وكانت له صدقات كثيرة جداً، وإحسان زائد، ثم ملك دمشق بعد أميرها ماخور في سنة أربع وستين ومائتين، فأحسن إلى أهلها أيضاً إحساناً بالغاً، واتفق أنه وقع بها حريق عند كنسية مريم فنهض بنفسه إليه ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر، والحافظ الدمشقي، وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي، فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والأموال التي أحرقت‏.‏

فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره، وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك، فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم، ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها، فأقل ما حصل للفقير دينار، رحمه الله‏.‏

ثم خرج إلى أنطاكية فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله وأخذ البلد كما ذكرنا‏.‏

توفي بمصر في أوائل ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته من أكل لبن الجواميس كان يحبه، فأصابه بسببه ذرب فكاواه الأطباء، وأمروه أن يحتمي منه فلم يقبل منهم، فكان يأكل منه خفية فمات رحمه الله‏.‏

وقد ترك من الأموال والأثاث والدواب شيئاً كثيراً جداً، ومن ذلك عشرة آلاف ألف دينار، ومن الفضة شيئاً كثيراً، وكان له ثلاثة وثلاثون ولداً، منهم سبعة عشر ذكراً، فقام بالأمر من بعده ولده خمارويه كما سيأتي ما كان من أمره‏.‏

وكان له من الغلمان سبعة آلاف مولى، ومن البغال والخيل والجمال نحو سبعين ألف دابة، وقيل أكثر من ذلك‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وإنما تغلب على البلاد لاشتغال الموفق بن المتوكل بحرب صاحب الزنج، وقد كان الموفق نائب أخيه المعتمد‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أحمد بن عبدالكريم بن سهل الكاتب، صاحب كتاب الخراج‏.‏

قاله ابن خلكان‏.‏

وأحمد بن عبد الله بن البرقي‏.‏

وأسيد بن عاصم الجمال‏.‏

وبكار بن قتيبة المصري في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

والحسن بن زيد العلوي‏.‏

صاحب طبرستان في رجب منها، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وقام من بعده بالأمر أخوه محمد بن زيد‏.‏

وكان الحسن بن زيد هذا كريماً جواداً، يعرف الفقه والعربية، قال له مرة شاعر من الشعراء في جملة قصيدة مدحه بها‏:‏ الله فرد وابن زيد فرد‏.‏

فقال له‏:‏ اسكت سد الله فاك، ألا قلت‏:‏ الله فرد وابن زيد عبد‏.‏

ثم نزل عن سريره وخر لله ساجداً وألصق خده بالتراب، ولم يعط ذلك الشاعر شيئاً‏.‏

وامتدحه بعضهم فقال في أول قصيدة‏:‏

لاتقل بشرى ولكن بشريان * غرة الداعي ويوم المهرجان

فقال له الحسن‏:‏ لو ابتدأت بالمصراع الثاني كان أحسن، وأبعد لك أن تبتدئ شعرك بحرف لا‏.‏

فقال له الشاعر‏:‏ ليس في الدنيا أجل من قول لا إله إلا الله‏.‏ فقال‏:‏ أصبت وأمر له بجائزة سنية‏.‏ والحسن بن علي بن عفان العامري‏.‏

وداود بن علي‏.‏

الأصبهاني ثم البغدادي الفقيه الظاهري، إمام أهل الظاهر، روى عن أبي ثور وإبراهيم بن خالد واسحاق بن راهويه وسليمان بن حرب و عبد الله بن سلمة القعنبي ومسدد بن سرهد، وغير واحد‏.‏

روى عنه ابنه الفقيه أبو بكر بن داود، وزكريا بن يحيى الساجي‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان فقيهاً زاهداً وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه، كانت وفاته ببغداد في هذه السنة، وكان مولده في سنة مائتين‏.‏

وذكر أبو إسحاق السيرامي في طبقاته‏:‏ أن أصله من أصبهان وولد بالكوفة، ونشأ ببغداد وأنه انتهت إليه رياسة العلم بها، وكان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر، وكان من المتعصبين للشافعي، وصنف مناقبه‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان حسن الصلاة كثير الخشوع فيها والتواضع‏.‏

قال الأزدي‏:‏ ترك حديثه، ولم يتابع الأزدي على ذلك، ولكن روى عن الإمام أحمد أنه تكلم فيه بسبب كلامه في القرآن، وأن لفظه به مخلوق كما نسب ذلك إلى الإمام البخاري رحمهما الله‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان من الفقهاء المشهورين، ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه، فلزمه القول بأشياء قطعية صار إليها بسبب اتباعه الظاهر المجرد من غير تفهم لمعنى النص‏.‏

وقد اختلف الفقهاء القياسيون بعده في الاعتداد بخلافه، هل ينعقد الإجماع بدونه مع خلافه أم لا‏؟‏

على أقوال ليس هذا موضع بسطها‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي، وقد ترجمناه في طبقات الشافعية‏.‏

والقاضي بكار بن قتيبة الحاكم بالديار المصرية من سنة ست وأربعين ومائتين، إلى أن توفي مسجوناً بحبس أحمد بن طولون لكونه لم يخلع الموفق في سنة سبعين، وكان عالماً عابداً زاهداً كثير التلاوة والمحاسبة لنفسه، وقد شغر منصب القضاء بعده بمصر ثلاث سنين‏.‏

وابن قتيبة الدينوري‏.‏

وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضيها، النحوي اللغوي صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة نافعة، اشتغل ببغداد وسمع بها الحديث على إسحاق بن راهوية، وطبقته، وأخذ اللغة عن أبي حاتم السجستاني وذويه، وصنف وجمع وألف المؤلفات الكثيرة منها‏:‏ كتاب المعارف، وأدب الكاتب الذي شرحه أبو محمد بن السيد البطليوسي، وكتاب مشكل القرآن والحديث، وغريب القرآن والحديث، وعيون الأخبار، وإصلاح الغلط، وكتاب الخيل، وكتاب الأنوار، وكتاب المسلسل والجوابات، وكتاب الميسر والقداح، وغير ذلك‏.‏

كانت وفاته في هذه السنة، وقيل في التي بعدها‏.‏

ومولده في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يجاوز الستين‏.‏

وروى عنه ولده أحمد جميع مصنفاته‏.‏

وقد ولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة‏.‏

وتوفي بها بعد سنة رحمهما الله‏.‏

ومحمد بن إسحاق بن جعفر الصفار‏.‏

ومحمد بن أسلم بن وارة‏.‏

ومصعب بن أحمد أبو أحمد الصوفي كان من أفران الجنيد‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ توفي ملك الروم ابن الصقلبية لعنه الله‏.‏

وفيها‏:‏ ابتدأ إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لارد من بلاد الأندلس‏.‏

 ثم دخلت سنة مائتين وإحدى وسبعين‏.‏

فيها عزل الخليفة عمرو بن الليث عن ولاية خراسان وأمر بلعنه على المنابر، وفوض أمر خراسان إلى محمد بن طاهر، وبعث جيشاً إلى عمرو بن الليث فهزمه عمرو‏.‏

وفيها كانت وقعة بين أبي العباس المعتضد بن الموفق أبي أحمد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون، وذلك أن خماروية لما ملك بعد أبيه بلاد مصر والشام جاءه جيش من جهة الخليفة عليهم إسحاق بن كنداج نائب الجزيرة وابن أبي الساج، فقاتلوه بأرض ويترز فامتنع من تسليم الشام إليهم، فاستنجدوا بأبي العباس بن الموفق، فقدم عليهم فكسر خمارويه بن أحمد وتسلم دمشق واحتازها، ثم سار خلف خمارويه إلى بلاد الرملة فأدركه عند ماء عليه طواحين فاقتتلوا هنالك، وكانت تسمى وقعة الطواحين، فكانت النصرة أولاً لأبي العباس على خمارويه، فهزمه حتى هرب خمارويه لا يلوي على شيء فلم يرجع حتى دخل الديار المصرية، فأقبل أبو العباس وأصحابه على نهب معسكرهم فبينما هم كذلك إذ أقبل كمين لجيش خمارويه وهم مشغولون بالنهب، فوضعت المصريون فيهم السيوف فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وانهزم الجيش وهرب أبو العباس المعتضد فلم يرجع حتى وصل دمشق، فلم يفتح له أهلها الباب فانصرف حتى وصل إلى طرسوس، وبقي الجيشان المصري والعراقي يقتتلان وليس لواحد منهما أمير‏.‏

ثم كان الظفر للمصريين لأنهم أقاموا أبا العشائر أخا خمارويه عليم أميراً، فغلبوا بسبب ذلك واستقرت أيديهم على دمشق وسائر الشام، وهذه الوقعة من أعجب الوقعات‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب كثيرة بأرض الأندلس من بلاد المغرب‏.‏

وفيها‏:‏ دخل إلى المدينة النبوية محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقتلا خلقاً من أهلها وأخذا أموالاً جزيلة، وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جمع لم يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وجرت بمكة فتنة أخرى واقتتل الناس على باب المسجد الحرام أيضاً‏.‏

وحج بالناس هارون بن موسى المتقدم‏.‏

 وفيها‏:‏ توفي

 عباس بن محمد الدوري، تلميذ ابن معين وغيره من أئمة الجرح والتعديل‏.‏ ‏

وعبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري‏.‏

ومحمد بن حماد الظهراني‏.‏

ومحمد بن سنان العوفي‏.‏

ويوسف بن مسلم‏.‏

وبوران زوجة المأمون‏.‏

زوجة المأمون‏.‏

ويقال‏:‏ إن اسمها خديجة، وبوران لقب لها، والصحيح الأول‏.‏

عقد عليها المأمون بفم الصلح سنة ست ومائتين، ولها عشر سنين، ونثر عليها أبوها يومئذ وعلى الناس بنادق المسك مكتوب في ورقة وسط كل بندقة اسم قرية أو ملك جارية أو غلام أو فرس، فمن وصل إليه من ذلك شيء ملكه، ونثر ذلك على عامة الناس، ونثر الدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر‏.‏

وأنفق على المأمون وعسكره مدة إقامته تلك الأيام الخمس ألف ألف درهم‏.‏

فلما ترحل المأمون عنه أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح‏.‏

وبنى بها سنة عشر‏.‏

فلما جلس المأمون فرشوا له حصراً من ذهب ونثروا على قدميه ألف حبة جوهر، وهناك تور من ذهب فيه شمعة من عنبر زنة أربعين مناً من عنبر‏.‏

فقال‏:‏ هذا سرف، ونظر إلى ذلك الحب على الحصر يضيء فقال‏:‏ قاتل الله أبا نواس حيث يقول في صفة الخمر‏:‏

كأن صغرى وكبرى من فقاقعها * حصباء در على أرض من الذهب

ثم أمر بالدر فجمع فجعل في حجر العروس وقال‏:‏ هذا نحلة مني لك، وسلي حاجتك‏.‏

فقالت لها جدتها‏:‏ سلي سيدك فقد استنطقك‏.‏

فقالت‏:‏ أسأل أمير المؤمنين أن يرضى عن إبراهيم بن المهدي، فرضي عنه‏.‏

ثم أراد الاجتماع بها فاذ هي حائض، وكان ذلك في شهر رمضان، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة ولها ثمانون سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائتين‏.‏

في جمادى الأول منها سار نائب قزوين وهو ارلزنكيس في أربعة آلاف مقاتل إلى محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان بعد أخيه الحسين بن زيد، ‏ وهو بالري في جيش عظيم من الديلم وغيرهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزمه ارلزنكيس وغنم ما في معسكره، وقتل من أصحابه ستة آلاف، ودخل الري فأخذها وصادر أهلها في مائة ألف دينار، وفرق عماله في نواحي الري‏.‏

وفيها‏:‏ وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين صاحب ثغر طرسوس وهو يازمان الخادم، فثار أهل طرسوس على أبي العباس فأخرجوه عنهم فرجع إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ دخل حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى بهم الشاري في جامعها الأعظم‏.‏

وفيها‏:‏ عاثت بنو شيبان في أرض الموصل فساداً‏.‏

وفيها‏:‏ تحركت بقية الزنج في أرض البصرة، ونادوا‏:‏ يا انكلاي يا منصور‏.‏

وانكلاي هو ابن صاحب الزنج، وسليمان بن جامع، وأبان بن علي المهبلي، وجماعة من وجوههم كانوا في جيش الموفق فبعث إليهم فقتلوا، وحملت رؤسهم إليه، وصلبت أبدانهم ببغداد، وسكنت شرورهم‏.‏

وفيها‏:‏ صلح أمر المدينة النبوية وتراجع الناس إليها‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب كثيرة ببلاد الأندلس، وأخذت الروم من المسلمين بالأندلس بلدين عظيمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ قدم صاعد بن مخلد الكاتب من فارس إلى واسط، فأمر الموفق القواد أن يتلقوه فدخل في أبهة عظيمة، ولكن ظهر منه تيه وعجب شديد، فأمر الموفق عما قريب بالقبض عليه وعلى أهله وأمواله، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل‏.‏

وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق المتقدم منذ دهر‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏

 إبراهيم بن الوليد بن الحسحاس‏.‏

وأحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي، راوي السيرة عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بن يسار وغير ذلك‏.‏

وأبو عتبة الحجازي‏.‏

وسليمان بن سيف‏.‏

وسليمان بن وهب الوزير في حبس الموفق‏.‏

وشعبة بن بكار يروى عن أبي عاصم النبيل‏.‏

ومحمد بن صالح بن عبد الرحمن الأنماطي، ويلقب بمكحلة، وهو من تلاميذ يحيى بن معين‏.‏

ومحمد بن عبدالوهاب الفراء‏.‏

ومحمد بن عبيد المنادي‏.‏

ومحمد بن عوف الحمصي‏.‏

وأبو معشر المنجم‏.‏

واسمه جعفر بن محمد البلخي أستاذ عصره في صناعة التنجيم، وله فيه التصانيف المشهورة، كالمدخل والزيج والألوف وغيرها‏.‏ ‏

وتكلم على ما يتعلق بالتيسير والأحكام‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله إصابات عجيبة، منها أن بعض الملوك تطلب رجلاً وأراد قتله، فذهب ذلك الرجل فاختفى وخاف من أبي معشر أن يدل عليه بصنعة التنجيم، فعمد إلى طست فملأه دماً ووضع أسفله هاوناً وجلس على ذلك الهاون، فاستدعى الملك أبا معشر وأمره أن يظهر هذا الرجل، فضرب رمله وحرره ثم قال‏:‏ هذا عجيب جداً، هذا الرجل جالس على جبل من ذهب في وسط بحر من دم، وليس هذا في الدنيا‏.‏

ثم أعاد الضرب فوجده كذلك، فتعجب الملك من ذلك ونادى في البلد في أمان ذلك الرجل المذكور، فلما مثل بين يدي الملك سأله أين اختفى‏؟‏

فأخبره بأمره فتعجب الناس من ذلك‏.‏

والظاهر أن الذي نسب إلى جعفر بن محمد الصادق من علم الرجز، والطرف واختلاج الأعضاء إنما هو منسوب إلى جعفر بن أبي معشر هذا، وليس بالصادق وإنما يغلطون‏.‏

والله أعلم‏.‏