الجزء الحادي عشر - ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين‏.‏

فيها وقع بين إسحاق بن كنداج نائب الموصل وبين صاحبه ابن أبي الساج نائب قنسرين وغيرها بعدما كانا متفقين، وكاتب ابن أبي الساج خمارويه صاحب مصر، وخطب له ببلاده وقدم خمارويه إلى الشام فاجتمع به ابن أبي الساج، ثم سار إلى إسحاق بن كنداج فتواقعا فانهزم كنداج وهرب إلى قلعة ماردين، فجاء فحاصره بها ثم ظهر أمر ابن أبي الساج واستحوذ على الموصل والجزيرة وغيرها، وخطب بها لخمارويه واستفحل أمره جداً‏.‏

وفيها‏:‏ قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره بأربعمائة ألف دينار وسجنه، فكان يقول‏:‏ ليس لي ذنب إلا كثرة مالي، ثم أخرج بعد ذلك من السجن وهو فقير ذليل، فعاد إلى مصر في أيام هارون بن خمارويه، ومعه غلام واحد فدخلها على برذون‏.‏

وهذا جزاء من كفر نعمة سيده‏.‏

وفيها‏:‏ عدا أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه، وملكوا أحد أولاده‏.‏

 وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

 محمد بن عبدالرحمن بن الحكم الأموي‏.‏

صاحب الأندلس عن خمس وستين سنة‏.‏

وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً، وكان أبيض مشرباً بحمرة ربعة أوقص يخضب بالحناء والكتم، وكان عاقلاً لبيباً يدرك الأشياء المشتبهة، وخلف ثلاثاً وثلاثين ذكراً، وقام بالأمر بعده ولده المنذر فأحسن إلى الناس وأحبوه‏.‏

وفيها كانت وفاة‏:‏

 خلف بن أحمد بن خالد‏.‏

الذي كان أمير خراسان في حبس المعتمد، وهذا الرجل هو الذي أخرج البخاري محمد بن إسماعيل من بخارى وطرده عنها، ‏‏ فدعا عليه البخاري فلم يفلح بعدها، ولم يبق في الأمرة إلا أقل من شهر حتى احتيط عليه وعلى أمواله وأركب حماراً، ونودي عليه في بلده ثم سجن من ذلك الحين، فمكث في السجن حتى مات في هذه السنة، وهذا جزاء من تعرض لأهل الحديث والسنة‏.‏

وممن توفي فيها أيضاً‏:‏ إسحاق بن يسار، وحنبل بن إسحاق عم الإمام أحمد بن حنبل، وهو أحد الرواة المشهورين عنه، على أنه قد اتهم في بعض ما يرويه ويحكيه‏.‏

وأبو أمية الطرسوسي‏.‏

وأبو الفتح بن شخرف أحد مشايخ الصوفية، وذوي الأحوال والكرامات والكلمات النافعات‏.‏

وقد وهم ابن الأثير في قوله في كامله‏:‏ إن أبا داود صاحب السنن توفي في هذه السنة، وإنما توفي سنة خمس وسبعين كما سيأتي‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 ابن ماجة القزويني‏.‏

صاحب السنن وهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة صاحب كتاب السنن المشهورة، وهي دالة على عمله وعلمه وتبحره واطلاعه واتباعه للسنة في الأصول والفروع، ويشتمل على اثنين وثلاثين كتاباً، وألف وخمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة، وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثاً‏.‏

ربما يقال‏:‏ إنها موضوعة أو منكرة جداً، ولابن ماجة تفسير حافل وتاريخ كامل من لدن الصحابة إلى عصره، وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني‏:‏ أبو عبد الله بن محمد بن يزيد بن ماجة، ويعرف يزيد بماجة مولى ربيعة، كان عالماً بهذا الشأن صاحب تصانيف، منها‏:‏ التاريخ والسنن، ارتحل إلى العراقين ومصر والشام، ثم ذكر طرفاً من مشايخه، وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد والمنة‏.‏

قال‏:‏ وقد روى عنه الكبار القدماء‏:‏ ابن سيبويه، ومحمد بن عيسى الصفار، وإسحاق بن محمد، وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وجدي أحمد بن إبراهيم، وسليمان بن يزيد‏.‏

وقال غيره‏:‏ كانت وفاة ابن ماجة يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وستين سنة، وصلى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه مع أخيه الآخر أبي عبد الله وابنه عبد الله بن محمد بن يزيد رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين‏.‏

فيها نشبت الحرب بين أبي أحمد الموفق وبين عمرو بن الليث بفارس، فقصده أبو أحمد فهرب منه عمرو من بلد إلى بلد، ‏‏ وتتبعه ولم يقع بينهما قتال ولا مواجهة، وقد تحيز إلى الموفق مقدم جيش عمرو بن الليث، وهو أبو طلحة شركب الجمال، ثم أراد العود فقبض عليه الموفق وأباح ماله لولده أبي العباس المعتضد، وذلك بالقرب من شيراز وفيها غزا يازمان الخادم نائب طرسوس بلاد الروم

فأوغل فيها فقتل وغنم وسلم‏.‏

وفيها‏:‏ دخل صديق الفرغاني سامرا فنهب دور التجار بها، وكر راجعاً، وقد كان هذا الرجل ممن يحرس الطرقات فترك ذلك وأقبل يقطع الطرقات، وضعف الجند بسامرا عن مقاومته‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إبراهيم بن أحمد بن يحيى أبو إسحاق، قال ابن الجوزي في المنتظم‏:‏ كان حافظاً فاضلاً، روى عن حرملة وغيره، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن زياد أبو يعقوب المقرى توفي في ربيع الأول منها‏.‏

أيوب بن سليمان بن داود الصفدي يروى عن آدم بن إياس، وعن ابن صاعد وابن السماك، وكان ثقة‏.‏

توفي في رمضان منها‏.‏

الحسن بن مكرم بن حسان بن علي البزار، يروي عن عفان وأبي النضر ويزيد بن هارون وغيرهم، وعنه المحاملي وابن مخلد والبخاري، وكان ثقة‏.‏

توفي رمضان منها عن ثلاث وسبعين سنة‏.‏

خلف بن محمد بن عيسى أبو الحسين الواسطي الملقب بكردوس، يروي عن يزيد بن هارون وغيره، وعنه المحاملي وابن مخلد‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ صدوق، وقال الدارقطني‏:‏ ثقة‏.‏

توفي في ذي الحجة منها، وقد نيف عن الثمانين‏.‏

عبد الله بن روح بن عبيد الله بن أبي محمد المدائني المعروف بعيد روس، يروى عن شبابة ويزيد بن هارون، وعنه المحاملي وابن السماك وأبو بكر الشافعي، وكان من الثقات‏.‏

توفي في جمادى الآخرة منها‏.‏

عبد الله بن أبي سعيد أبو محمد الوراق أصله من بلخ، وسكن بغداد، وروى الحديث عن شريح بن يونس وعفان وعلي بن الجعد وغيرهم، وعنه ابن أبي الدنيا والبغوي والمحاملي، وكان ثقة صاحب أخبار وآداب وملح، توفي بواسط في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة‏.‏

محمد بن إسماعيل بن زياد أبو عبد الله، وقيل‏:‏ أبو بكر الدولابي، سمع أبا النضر وأبا اليمان وأبا مسهر، وعنه أبو الحسين المنادي ومحمد بن مخلد وابن السماك، وكان ثقة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين‏.‏

في المحرم منها وقع الخلاف بين ابن أبي الساج وبين خمارويه، فاقتتلا عند ثنية العقاب شرقي دمشق فقهر خمارويه لابن أبي الساج وانهزم، وكانت له حواصل بحمص فبعث خمارويه من سبقه إليها فأخذها، ومنع منه حمص فذهب إلى حلب فمنعه خمارويه فسار إلى الرقة فاتبعه، فذهب إلى الموصل ثم انهزم منها خوفاً من خمارويه، ووصل خمارويه إليها واتخذ بها سريراً طويل القوائم، فكان يجلس عليه في الفرات، فعند ذلك طمع فيه ابن كنداج فسار وراءه ليظفر بشيء فلم يقدر، وقد التقيا في بعض الأيام فصبر له ابن أبي الساج صبراً عظيماً، ‏‏ فسلم وانصرف إلى الموفق ببغداد فأكرمه وخلع عليه واستصحبه معه إلى الجبل، ورجع إسحاق بن كنداج إلى ديار بكر من الجزيرة‏.‏

وفيها‏:‏ في شوال منها سجن أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس المعتضد في دار الإمارة، وكان سبب ذلك أنه أمره بالمسير إلى بعض الوجوه، فامتنع أن يسير إلا إلى الشام التي ولاه إياها عمه المعتضد، وأمر بسجنه فثارت الأمراء واختطبت بغداد فركب الموفق إلى بغداد وقال للناس‏:‏ أتظنون أنكم على ولدي أشفق مني‏؟‏

فسكن الناس عند ذلك ثم أفرج عنه‏.‏

وفيها‏:‏ سار رافع إلى محمد بن زيد العلوي فأخذ منه مدينة جرجان، فهرب إلى استراباذ فحصره بها سنين فغلا بها السعر حتى بيع الملح بها وزن درهم بدرهمين، فهرب منها ليلاً إلى سارية، فأخذ منها رافع بلاداً كثيرة بعد ذلك في مدة متطاولة‏.‏

وفي المحرم منها‏:‏ أو في صفر كانت وفاة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس عن ست وأربعين سنة‏.‏

وكانت ولايته سنة وأحد عشر يوماً، وكان أسمر طويلاً بوجهه أثر جدري، جواداً ممدحاً يحب الشعراء ويصلهم بمال كثير، ثم قام بالأمر من بعده أخوه محمد فامتلأت بلاد الأندلس في أيامه فتناً وشراً حتى هلك كما سيأتي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:

أبو بكر أحمد بن محمد الحجاج المروزي، صاحب الإمام أحمد، كان من الأذكياء، كان أحمد يقدمه على جميع أصحابه ويأنس به ويبعثه في الحاجة ويقول له‏:‏ قل ما شئت‏.‏

وهو الذي أغمض الإمام أحمد وكان فيمن غسله، وقد نقل عن أحمد مسائل كثيرة، وحصلت له رفعة عظيمة مع أحمد حين طلب إلى سامرا ووصل بخمسين ألفاً فلم يقبلها‏.‏

أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس أبو عبد الله الباهلي البصري المعروف بغلام خليل، سكن بغداد، روى عن سليمان بن داود الشاذكوني، وشيبان بن فروخ، وقرة بن حبيب وغيرهم، وعنه ابن السماك وابن مخلد وغيرهما، وقد أنكر عليه أبو حاتم وغيره أحاديث رواها منكرة عن شيوخ مجهولين‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ ولم يكن ممن يفتعل الحديث، كان رجلاً صالحاً‏.‏

وكذبه أبو داود وغير واحد‏.‏

وروى ابن عدي عنه‏:‏ أنه اعترف بوضع الحديث ليرقق به قلوب الناس، وكان عابداً زاهداً يقتات الباقلاء الصرف، وحين مات أغلقت أسواق بغداد وحضر الناس جنازته والصلاة عليه، ثم جعل في زورق وشيع إلى البصرة فدفن بها في رجب من هذه السنة‏.‏

وأحمد بن ملاعب، روى عن يحيى بن معين وغيره، وكان ثقة ديناً عالماً فاضلاً، انتشر به كثير من الحديث‏.‏

وأبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله بن البكري النحوي اللغوي، صاحب التصانيف‏.‏

وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ أبو يعقوب النيسابوري، كان من أخصاء أصحاب الإمام أحمد وعنده اختفى أحمد في زمن المحنة‏.‏

و عبد الله بن يعقوب بن إسحاق التميمي العطار الموصلي‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ كان كثير الحديث معدلاً عند الحكام‏.‏

ويحيى بن أبي طالب‏.‏

 وأبو داود السجستاني‏.‏

صاحب السنن، اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن يحيى بن عمران أبو داود السجستاني، أحد أئمة الحديث الرحالين إلى الآفاق في طلبه، جمع وصنف وخرج وألف وسمع الكثير عن مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان وغير ذلك، وله السنن المشهورة المتداولة بين العلماء، التي قال فيها أبو حامد الغزالي‏:‏ يكفي المجتهد معرفتها من الأحاديث النبوية‏.‏

حدث عنه جماعة منهم‏:‏ ابنه أبو بكر عبد الله، وأبو عبدالرحمن النسائي، وأحمد بن سليمان النجار، وهو آخر من روى عنه في الدنيا‏.‏

سكن أبو داود البصرة وقدم بغداد غير مرة، وحدث بكتاب السنن بها، ويقال‏:‏ إنه صنفه بها وعرضه على الإمام أحمد فاستجاده واستسحنه، وقال الخطيب‏:‏ حدثني أبو بكر محمد بن علي ابن إبراهيم القاري الدينوري من لفظه، قال‏:‏ سمعت أبا الحسين محمد بن عبد الله بن الحسن القرصي قال‏:‏ سمعت أبا بكر بن داسه يقول‏:‏ سمعت أبا داود يقول‏:‏ كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث، قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏‏)‏‏.‏

الثاني قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏)‏‏)‏‏.‏

الثالث قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه‏)‏‏)‏‏.‏

الرابع قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثت عن عبد العزيز بن جعفر الحنبلي‏:‏ أن أبا بكر الخلال قال‏:‏ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد من أهل زمانه، رجل ورع مقدم قد سمع منه أحمد بن حنبل حديثاً واحداً كان أبو داود يذكره، وكان أبو بكر الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان قدره ويذكرانه بما لا يذكران أحدا في زمانه بمثله‏.‏

قلت‏:‏ الحديث الذي كتبه عنه وسمعه منه الإمام أحمد بن حنبل هو ما رواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة عن أبي معشر الدارمي عن أبيه ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة فحسنها‏)‏‏)‏‏.‏‏

وقال إبراهيم الحربي وغيره‏:‏ ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان أحد حفاظ الإسلام للحديث وعلله وسنده‏.‏

وكان في أعلا درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته، وكان علقمة يشبهه، وكان إبراهيم يشبه علقمة، وكان منصور يشبه إبراهيم، وكان سفيان يشبه منصور، وكان وكيع يشبه سفيان، وكان أحمد يشبه وكيعاً، وكان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل‏.‏

وقال محمد بن بكر بن عبد الرزاق‏:‏ كان لأبي داود كم واسع وكم ضيق فقيل له‏:‏ ما هذا يرحمك الله‏؟‏

فقال‏:‏ هذا الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه‏.‏

وقد كان مولد أبي داود في سنة ثنتين ومائتين، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في التكميل وذكرنا ثناء الأئمة عليه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن العنبس الضميري الشاعر، كان ديناً كثير الملح، وكان هجاء، ومن جيد شعره قوله‏:‏

كم عليل عاش من بعد يأس * بعد موت الطبيب والعواد

قد تصاد القطا فتنجو سريعاً * ويحل البلاء بالصياد

 ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين‏.‏

في المحرم منها أعيد عمرو بن الليث إلى شرطة بغداد وكتب اسمه على الفرش والمقاعد والستور، ثم أسقط اسمه عن ذلك وعزل وولي عبيد الله بن طاهر‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الموفق لابن أبي الساج نيابة أذربيجان‏.‏

وفيها‏:‏ قصد هارون الشاري الخارجي مدينة الموصل فنزل شرقيها فحاصرها، فخرج إليه أهلها فاستأمنوه فأمنهم ورجع عنهم‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد العباسي أمير الحرمين والطائف، ولما رجع حجاج اليمن نزلوا في بعض الأماكن، فجاءهم سيل لم يشعروا به ففرقهم كلهم لم يفلت منهم أحد فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وذكر ابن الجوزي في منتظمه وابن الأثير في كامله‏:‏ أن في هذه السنة انفرج تل بنهر الصلة في أرض البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة أقبر في مثل الحوض، وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وأكفانهم يفوح منهم ريح المسك، أحدهم شاب وله جمة وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن، وكأن عينيه مكحلتان، وبه ضربة في خاصرته، وأراد أحدهم أن يأخذ من شعره شيئاً فإذا هو قوي الشعر كأنه حي فتركوا على حالهم‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ أحمد بن حازم بن أبي عزرة الحافظ، صاحب المسند المشهور له حديث كثير وروايته عالية‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

بقي بن مخلد‏.‏

أبو عبدالرحمن الأندلسي الحافظ الكبير، له المسند المبوب على الفقه، روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل، وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع‏.‏

وقد رحل بقي إلى العراق فسمع من الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث بالعراق وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخاً، وله تصانيف أخر، وكان مع ذلك رجلاً صالحاً عابداً زاهداً مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت‏:‏ إن ابني قد أسرته الإفرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأستفكه، فإن رأيت أن تشير على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نوماً ولا صبراً ولا قراراً ولا راحة‏.‏

فقال‏:‏ نعم انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله‏.‏

وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلاً حتى جاءت الشيخ وابنها معها فقالت‏:‏ اسمع خبره يرحمك الله‏.‏

فقال‏:‏ كيف كان أمرك‏؟‏

فقال‏:‏ إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل علي الموكل بي فشتمني وقال‏:‏ لم أزلت القيد من رجليك‏؟‏

فقلت‏:‏ لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به، فجاؤوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدوا مسماره وأبدوه، ثم قمت فسقط أيضاً فأعادوه وأكدوه فسقط أيضاً، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا‏:‏ له والدة‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم، فقالوا‏:‏ إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام‏.‏

فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجله فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له ففرج عنه‏.‏

صاعد بن مخلد الكاتب كان كثير الصدقة والصلاة، وقد أثنى عليه أبو الفرج بن الجوزي، وتكلم فيه ابن الأثير في كامله، وذكر أنه كان فيه تيه وحمق، وقد يمكن الجمع بين القولين والصفتين‏.‏

ابن قتيبة وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ثم البغدادي، أحد العلماء والأدباء والحفاظ الأذكياء، وقد تقدمت ترجمته، وكان ثقة نبيلاً، وكان أهل العلم يتهمون من لم يكن في منزله شيء من تصانيفه، ‏ وكان سبب وفاته‏:‏ أنه أكل لقمة من هريسة فإذا هي حارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم أفاق ثم لم يزل يشهد أن لا إله إلا الله إلى أن مات وقت السحر أول ليلة من رجب من هذه السنة، وقيل‏:‏ إنه توفي في سنة سبعين ومائتين، والصحيح في هذه السنة‏.‏

عبدالملك بن محمد بن عبد الله أبو قلابة الرقاشي، أحد الحفاظ، كان يكنى بأبي محمد، ولكن غلب عليه لقب أبو قلابة، سمع يزيد بن هارون وروح بن عبادة وأبا داود الطيالسي وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي والبخاري وأبو بكر الشافعي وغيرهم، وكان صدوقاً عابداً يصلي في كل يوم أربعمائة ركعة، وروى من حفظه ستين ألف حديث غلط في بعضها على سبيل العمد، كانت وفاته في شوال من هذه السنة عن ست وثمانين سنة‏.‏

ومحمد بن أحمد بن أبي العوام، ومحمد بن إسماعيل الصايغ‏.‏

ويزيد بن عبدالصمد‏.‏

وأبو الرداد المؤذن، وهو عبد الله بن عبد السلام بن عبيد الرداد المؤذن، صاحب المقياس بمصر، الذي هو مسلم إليه وإلى ذريته إلى يومنا هذا‏.‏

قاله ابن خلكان والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين‏.‏

فيها خطب يازمان نائب طرسوس لخمارويه، وذلك أنه هاداه بذهب كثير وتحف هائلة‏.‏

وفيها‏:‏ قدم جماعة من أصحاب خمارويه إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولي المطالم ببغداد يوسف بن يعقوب، ونودي في الناس‏:‏ من كانت له مظلمة ولو عند الأمير الناصر لدين الله الموفق، أو عند أحد من الناس فليحضر‏.‏

وسار في الناس سيرة حسنة، وأظهر صرامة لم ير مثلها‏.‏

وحج بالناس الأمير المتقدم ذكره قبل ذلك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن صرا إسحاق بن أبي العينين‏.‏

وأبو إسحاق الكوفي قاضي بغداد بعد ابن سماعة، سمع معلى بن عبيد وغيره، وحدث عنه ابن أبي الدنيا وغيره، توفي عن ثلاث وتسعين سنة، وكان ثقة فاضلاً ديناً صالحاً‏.‏

أحمد بن عيسى‏.‏

أبو سعيد الخراز أحد مشاهير الصوفية بالعبادة والمجاهدة والورع والمراقبة، وله تصانيف في ذلك وله كرامات وأحوال وصبر على الشدائد، ‏ وروى عن إبراهيم بن بشار صاحب إبراهيم بن أدهم وغيره، وعنه على بن محمد المصري وجماعة‏.‏

ومن جيد كلامه‏:‏ إذا بكت أعين الخائفين فقد كاتبوا الله بدموعهم‏.‏

وقال‏:‏ العافية تستر البر والفاجر، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال‏.‏

وقال‏:‏ كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل‏.‏

وقال‏:‏ الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت حاضر‏.‏

وقال‏:‏ ذنوب المقربين حسنات الأبرار‏.‏

وقال‏:‏ الرضا قبل القضاء تفويض، والرضا مع القضاء تسليم‏.‏

وقد روى البيهقي بسنده إليه‏:‏ أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏جبلت القلوب على حب من أحسن إليها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا عجباً لمن لم ير محسناً غير الله كيف لا يميل إليه بكليته‏؟‏

قلت‏:‏ وهذا الحديث ليس بصحيح، ولكن كلامه عليه من أحسن ما يكون‏.‏

وقال ابنه سعيد‏:‏ طلبت من أبي دانق فضة فقال‏:‏ يا بني اصبر فلو أحب أبوك أن يركب الملوك إلى بابه ما تأبوا عليه‏.‏

وروى ابن عساكر عنه قال‏:‏ أصابني مرة جوع شديد فهممت أن أسأل الله طعاماً فقلت‏:‏ هذا ينافي التوكل فهممت أن أسأله صبراً فهتف بي هاتف يقول‏:‏

ويزعم أنه منا قريب * وأنا لا نضيع من أتانا

ويسألنا القرى جهداً وصبراً * كأنا لا نراه ولا يرانا

قال‏:‏ فقمت ومشيت فراسخ بلا زاد‏.‏

وقال‏:‏ المحب يتعلل إلى محبوبه بكل شيء، ولا يتسلى عنه بشيء يتبع آثاره ولا يدع استخباره، ثم أنشد‏:‏

أسائلكم عنها فهل من مخبر * فمالي بنعمى بعد مكة لي علم

فلو كنت أدري أين خيم أهلها * وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا

إذاً لسلكنا مسلك الريح خلفها * ولو أصبحت نعمى ومن دونها النجم

وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة سبع وأربعين، وقيل‏:‏ في سنة ست وثمانين والأول أصح‏.‏

وفيها‏:‏ توفي عيسى بن عبد الله بن سنان بن ذكويه بن موسى الطيالسي الحافظ، تلقب رعاب، سمع عفان أبا نعيم، وعنه أبو بكر الشافعي وغيره، ووثقه الدارقطني‏.‏

كانت وفاته في شوال منها عن أربع وثمانين سنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

أبو حاتم الرازي‏.‏

محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الحنظلي الرازي، أحد أئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة رحمهما الله، سمع الكثير وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق من الكبار، وعنه خلق منهم الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى وهما أكبر منه‏.‏

وقدم بغداد وحدث بها، وروى عنه من أهلها إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا والمحاملي وغيرهم‏.‏

قال لابنه عبد الرحمن‏:‏ يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، وذكر أنه لم يكن له شيء ينفق عليه في بعض الأحيان، وأنه مكث ثلاثاً لا يأكل شيئاً حتى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار، وقد أثنى عليه غير واحد من العلماء والفقهاء، وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ وغيرهم، ويقول‏:‏ من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به‏.‏

قال‏:‏ ومرادي أسمع ما ليس عندي، فلم يأت أحد بشيء من ذلك، وكان في جملة من حضر ذلك أبو زرعة الرازي‏.‏

كانت وفاة ابن أبي حاتم في شعبان من هذه السنة‏.‏

محمد بن الحسن بن موسى بن الحسن أبو جعفر الكوفي الخراز المعروف بالجندي، له مسند كبير، روى عن عبيد الله بن موسى والقعنبي وأبي نعيم وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وابن السماك، كان ثقة صدوقاً‏.‏

محمد بن سعدان أبو جعفر الرازي، سمع من أكثر من خمسمائة شيخ، ولكن لم يحدث إلا باليسير، توفي في شعبان منها‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهم محمد بن سعدان البزار عن القعنبي وهو غير مشهور‏.‏

ومحمد بن سعدان النحوي مشهور‏.‏

توفي في سنة إحدى ومائتين‏.‏

قال ابن الأثير في كامله‏:‏ وفيها توفي يعقوب بن سفيان بن حران الإمام الفسوي، وكان يتشيع‏.‏

ويعقوب بن يوسف بن معقل الأموي مولاهم، والد أبي العباس أحمد بن الأصم‏.‏

وفيها‏:‏ ماتت عريب المغنية المأمونية، قيل‏:‏ إنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي‏.‏

فأما‏:‏

يعقوب بن سفيان بن حران‏.‏

فهو أبو يوسف بن أبي معاوية الفارسي الفسوي، سمع الحديث الكثير، وروى عن أكثر من ألف شيخ من الثقات، منهم هشام بن عمار، ودحيم، وأبو المجاهر، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان، وسعيد بن منصور، وأبو عاصم، ومكي بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير وعبيد الله بن موسى والقعنبي‏.‏

روى عنه النسائي في سننه وأبو بكر بن أبي داود والحسن بن سفيان وابن خراش وابن خزيمة وأبو عوانة الإسفراييني وغيرهم، وصنف كتاب التاريخ والمعرفة وغيره من الكتب المفيدة، وقد رحل في طلب الحديث إلى البلدان النائية، وتغرب عن وطنه نحو ثلاثين سنة‏.‏

وروى ابن عساكر عنه قال‏:‏ كنت أكتب في الليل على ضوء السراج في زمن الرحلة، فبينا أنا ذات ليلة إذ وقع شيء على بصري فلم أبصر معه السراج، فجعلت أبكي على ما فاتني من ذهاب بصري، وما يفوتني بسبب ذلك من كتابة الحديث، وما أنا فيه من الغربة، ثم غلبتني عيني فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما لك‏؟‏

فشكوت إليه ما أنا فيه من الغربة، وما فاتني من كتابة السنة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدن مني، فدنوت منه فجعل يده على عيني وجعل كأنه يقرأ شيئاً من القرآن‏)‏‏)‏‏.‏

ثم استيقظت فأبصرت وجلست أسبح الله‏.‏

وقد أثنى عليه أبو زرعة الدمشقي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وقال‏:‏ هو إمام أهل الحديث بفارس، وقدم نيسابور وسمع منه مشايخنا، وقدنسبه بعضهم إلى التشيع‏.‏

وذكر ابن عساكر‏:‏ أن يعقوب بن الليث صاحب فارس بلغه عنه أنه يتكلم في عثمان بن عفان فأمر بإحضاره فقال له وزيره‏:‏ أيها الأمير إنه لا يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي، إنما يتكلم في عثمان بن عفان الصحابي، فقال‏:‏ دعوه ما لي وللصحابي، إني إنما حسبته يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي‏.‏

قلت‏:‏ وما أظن هذا صحيحاً عن يعقوب بن سفيان فإنه إمام محدث كبير القدر، وقد كانت وفاته قبل أبي حاتم بشهر في رجب منها بالبصرة رحمه الله‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام فقال‏:‏ ما فعل بك ربك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي وأمرني أن أملي الحديث في السماء كما كنت أمليه في الأرض، فجلست للإملاء في السماء الرابعة، وجلس حولي جماعة من الملائكة، منهم جبريل يكتبون ما أمليه من الحديث بأقلام الذهب‏.‏

عريب المأمونية‏.‏

فقد ترجمها ابن عساكر في تاريخه، وحكى عن بعضهم أنها ابنة جعفر البرمكي، سرقت وهي صغيرة عند ذهاب دولة البرامكة، وبيعت فاشتراها المأمون بن الرشيد، ثم روي عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه قال‏:‏ ما رأيت قط امرأة أحسن وجهاً منها، ولا أكثر أدباً ولا أحسن غناء وضرباً وشعراً ولعباً بالشطرنج والنرد منها، وما تشاء أن تجد خصلة ظريفة بارعة في امرأة إلا وجدتها فيها‏.‏

وقد كانت شاعرة مطيقة بليغة فصيحة، وكان المأمون يتعشقها ثم أحبها بعده المعتصم، وكانت هي تعشق رجلاً يقال له‏:‏ محمد بن حماد، وربما أدخلته إليها في دار الخلافة قبحها الله على ما ذكره ابن عساكر عنها، ثم عشقت صالحاً المنذري وتزوجته سراً، وكانت تقول فيه الشعر، وربما ذكرته في شعرها بين يدي المتوكل وهو لا يشعر فيمن هو، فتضحك جواريه من ذلك فيقول‏:‏ يا سحاقات هذا خير من عملكن‏.‏

وقد أورد ابن عساكر شيئاً كثيراً من شعرها، فمن ذلك قولها لما دخلت على المتوكل تعوده من حمى أصابته فقالت‏:‏

أتوني فقالوا بالخليفة علة * فقلت ونار الشوق توقد في صدري

ألا ليت بي حمى الخليفة جعفر * فكانت بي الحمى وكان له أجري

كفى بي حزن أن قيل حم فلم أمت * من الحزن إني بعد هذا لذو صبري

جعلت فدا للخليفة جعفر * وذاك قليل للخليفة من شكري

ولما عوفي دخلت عليه فغنته من قيلها‏:‏

شكراً لأنعم من عافاك من سقم * دمت المعافا من الآلام والسقم

عادت ببرئك للأيام بهجتها * واهتز نبت رياض الجود والكرم

ما قام للدين بعد اليوم من ملك * أعف منك ولا أرعى إلى الذمم

فعمر الله فينا جعفراً ونفى * بنور وجنته عنا دجى الظلم

ولها في عافيته أيضاً‏:‏

حمدنا الذي عافى الخليفة جعفراً * على رغم أشياخ الضلالة والكفر

وما كان إلا مثل بدر أصابه * كسوف قليل ثم أجلي عن البدر

سلامته للدين عز وقوة * وعلته للدين قاصمة الظهر

مرضت فأمرضت البرية كلها * وأظلمت الأمصار من شدة الذعر

فلما استبان الناس منك إفاقة * أفاقوا وكانوا كالنيان على الجمر

سلامة دنيانا سلامة جعفر * فدام معافاً سالماً آخر الدهر

إمام أعم الناس بالفضل والندا * قريباً من التقوى بعيداً من الوزر

ولها أشعار كثيرة رائعة، ومولدها في سنة إحدى وثمانين ومائة، وماتت في سنة سبع وسبعين ومائتين بسر من رأى، ولها ست وتسعون سنة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ في المحرم منها طلع نجم ذو جمة ثم صارت الجمة ذؤابة‏.‏

قال‏:‏ وفي هذه السنة غار ماء النيل وهذا شيء لم يعهد مثله ولا بلغنا في الأخبار السالفة‏.‏

فغلت الأسعار بسبب ذلك جداً‏.‏

وفيها‏:‏ خلع على عبد الله بن سليمان بالوزارة‏.‏

وفي المحرم منها‏:‏ قدم الموفق من الغزو فتلقاه الناس إلى النهروان فدخل بغداد وهو مريض بالنقرس فاستمر في داره في أوائل صفر، ومات بعد أيام‏.‏

قال‏:‏ وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات‏.‏

ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عقولاً، ويقال لهم‏:‏ الإسماعيلية، لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق‏.‏

ويقال لهم‏:‏ القرامطة، قيل‏:‏ نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار، وقيل‏:‏ إن رئيسهم كان في أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة في كل يوم وليلة ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة‏.‏

ثم اتخذ نقباء اثنى عشر، وأسس لأتباعه دعوة ومسلكاً يسلكونه ودعا إلى إمام أهل البيت، ويقال لهم‏:‏ الباطنية لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والخرمية والبابكية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أيام المعتصم وقتل كما تقدم‏.‏

ويقال لهم‏:‏ المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعاراً مضاهاة لبني العباس ومخالفة لهم، لأن بني العباس يلبسون السواد‏.‏

ويقال لهم‏:‏ التعليمية نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم، وترك الرأي ومقتضى العقل‏.‏

ويقال لهم‏:‏ السبعية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السائرة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون لعنهم الله‏.‏

وهي القمر في الأولى، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد بقي من البابكية جماعة يقال‏:‏ إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء فمن وقعت يده في امرأة حلت له‏.‏

ويقولون‏:‏ هذا اصطياد مباح لعنهم الله‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي تفصيل قولهم وبسطه وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه ‏(‏هتك الأستار وكشف الأسرار‏)‏ في الرد على الباطنية، ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه ‏(‏البلاغ الأعظم والناموس الأكبر‏)‏ وجعله ست عشرة درجة أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولاً إن كان من أهل السنة إلى القول بتفضيل على علي عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر، ثم يترقى به إلى سبهما لأنهما ظلما علياً وأهل البيت، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو‏.‏

وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبهاً وضلالات لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7-9‏]‏ أي‏:‏ يضل به من هو ضال‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 161-163‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصي لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال الشعراء‏:‏

إن هو مستحوذ على أحد * إلا على أضعف المجانين

ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والزندقة والسخافة مما ينبغي لضعيف العقل والدين أن ينزه نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء‏:‏

وكنت امرأً من جند إبليس برهة * من الدهر حتى صار إبليس من جندي

والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه، وذهبوا به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فمكث غائباً عن موضعه من البيت ثنتين وعشرين سنة فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر‏.‏

وقد اتفق في هذه السنة شيئان أحدهما ظهور هؤلاء، والثاني موت حسام الإسلام وناصر دين الله أبو أحمد الموفق رحمه الله، لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبو العباس أحمد الملقب بالمعتضد، وكان شهماً شجاعاً‏.‏ ‏

 ترجمة أبي أحمد الموفق‏.‏

هو الأمير الناصر لدين الله، ويقال له‏:‏ الموفق، ويقال له‏:‏ طلحة بن المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، كان مولده في يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسعة وعشرين ومائتين، وكان أخوه المعتمد حين صارت الخلافة إليه قد عهد إليه بالولاية بعد أخيه جعفر، ولقبه الموفق بالله، ثم لما قتل صاحب الزنج وكسر جيشه تلقب بناصر دين الله وصار إليه العقد والحل والولاية والعزل، وإليه يجبي الخراج، وكان يخطب له على المنابر فيقال‏:‏ اللهم أصلح الأمير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين‏.‏

ثم اتفق موته قبل أخيه المعتمد بستة أشهر، وكان غزير العقل حسن التدبير يجلس للمظالم وعنده القضاة فينصف المظلوم من الظالم وكان عالماً بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك، وله محاسن ومآثر كثيرة جداً‏.‏

وكان سبب موته أنه أصابه مرض النقرس في السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فاستقر في داره في أوائل صفر وقد تزايد به المرض وتورمت رجله حتى عظمت جداً، وكان يوضع له الأشياء المبردة كالثلج ونحوه وكان يحمل على سريره يحمله أربعون رجلاً بالنوبة، كل نوبة عشرون‏.‏

فقال ذات يوم‏:‏ ما أظنكم إلا قد مللتم مني فياليتني كواحد منكم آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأرقد كما ترقدون في عافية‏.‏

وقال أيضا‏:‏ في ديواني مائة ألف مرتزق ليس فيهم أحد أسوأ حالاً مني‏.‏

ثم كانت وفاته في القصر الحسيني ليلةالخميس لثمان بقين من صفر‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وله سبع وأربعون سنة تنقص شهراً وأياماً‏.‏

ولما توفي اجتمع الأمراء على أخذ البيعة من بعده إلى ولده أبي العباس أحمد، فبايع له المعتمد بولاية العهد من بعد أبيه، وخطب له على المنابر‏.‏

وجعل إليه ما كان لأبيه من الولاية والعزل والقطع والوصل، ولقب المعتضد بالله‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ كان كثير الحديث والصلاح‏.‏

واسحاق بن كنداج نائب الجزيرة، كان من ذوي الرأي، وقام بما كان إليه ولده محمد‏.‏

ويازمان نائب طرسوس جاءه حجر منجنيق من بلدة كان محاصرها ببلاد الروم فمات منه في رجب من هذه السنة ودفن بطرسوس، فولى نيابة الثغر بعده أحمد الجعيفي بأمر خمارويه بن أحمد بن طولون، ثم عزله عن قريب بابن عمه موسى بن طولون‏.‏

وفيها‏:‏ توفي عبدة بن عبد الرحيم قبحه الله‏.‏

ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصروا بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها فراسلها ما السبيل إلى الوصول إليك‏؟‏

فقالت‏:‏ أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا‏:‏ يا فلان ما فعل قرآنك‏؟‏ما فعل علمك‏؟‏ما فعل صيامك‏؟‏ما فعل جهادك‏؟‏ما فعلت صلاتك‏؟‏

فقال‏:‏ اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏2-3‏]‏ وقد صار لي فيهم مال وولد‏.‏

 

 ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين‏.‏

في أواخر المحرم منها خلع جعفر المفوض من العهد واستقل بولاية العهد من بعد المعتمد أبو العباس المعتضد بن الموفق، وخطب له بذلك على رؤوس الأشهاد، وفي ذلك يقول يحيى بن علي يهني المعتضد‏:‏

ليهنيك عقد أنت فيه المقدم * حباك به رب بفضلك أعلم

فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا * فأنت غداً فينا الإمام المعظم

و زال من والاك فيه مبلغاً * مناه ومن عاداك يخزى ويندم

وكان عمود الدين فيه تعوج * فعاد بهذا العهد وهو مقوم

وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكاً * يضيء لنا منه الذي كان مظلم

فدونك شدد عقد ما قد حويته * فإنك دون الناس فيه المحكم

وفيها‏:‏ نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات، وأن لا تباع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس، وذلك بهمة أبي العباس المعتضد سلطان الإسلام‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت حروب بين هارون الشاري وبين بني شيبان في أرض الموصل وقد بسط ذلك ابن الأثير في كامله‏.‏

وفي رجب منها كانت وفاة المعتمد على الله ليلة الاثنين لتسع عشرة ليلة خلت منه‏.‏

 ترجمة المعتمد على الله‏.‏

هو أمير المؤمنين المعتمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد مكث في الخلافة ثلاثاً وعشرين سنة وستة أيام، وكان عمره يوم مات خمسين سنة وأشهراً، وكان أسن من أخيه الموفق بستة أشهر، وتأخر بعده أقل من سنة، ولم يكن إليه مع أخيه شيء من الأمر حتى أن المعتمد طلب في بعض الأيام ثلاثمائة دينار فلم يصل إليها فقال الشاعر في ذلك‏:‏

ومن العجائب في الخلافة أن * ترى ما قل ممتنعاً عليه

وتؤخذ الدنا باسمه جميعاً * وما ذاك شيء في يديه

إليه تحمل الأموال طراًَ * ويمنع بعض ما يجبى إليه

كان المعتمد أول خليفة انتقل من سامرا إلى بغداد ثم لم يعد إليها أحد من الخلفاء، بل جعلوا إقامتهم ببغداد، وكان سبب هلاكه في ما ذكره ابن الأثير أنه شرب في تلك الليلة شراباً كثيراً وتعشى عشاء كثيراً، وكان وقت وفاته في القصر الحسيني من بغداد، وحين مات أحضر المعتضد القضاة والأعيان وأشهدهم أنه مات حتف أنفه، ثم غسل وكفن وصلي عليه ثم حمل فدفن بسامرا‏.‏

وفي صبيحة العزاء بويع للمعتضد‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 

 البلاذري المؤرخ

واسمه أحمد بن يحيى بن جابر بن داود أبو الحسن ويقال‏:‏ أبو جعفر، ويقال‏:‏ أبو بكرالبغدادي البلاذري صاحب التاريخ المنسوب إليه، سمع هشام بن عمار وأبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا الربيع الزهراني وجماعة، وعنه يحيى بن النديم وأحمد بن عمار وأبو يوسف يعقوب بن نعيم بن قرقارة الأزدي‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ كان أديباً ظهرت له كتب جياد، ومدح المأمون بمدائح، وجالس المتوكل، وتوفي أيام المعتمد، وحصل له هوس ووسواس في آخر عمره، وروى عنه ابن عساكر قال‏:‏ قال لي محمود الوراق‏:‏ قل من الشعر ما يبقى لك ذكره، ويزول عنك إثمه، فقلت عند ذلك‏:‏

استعدي يا نفس للموت واسعي * لنجاة فالحازم المستعد

إنما أنت مستعيرة وسوف * تردين والعواري ترد

أنت تسهين والحوادث لا * تسهو وتلهين والمنايا تعد

أي ملك في الأرض وأي حظ *لامرئ حظه من الأرض لحد

لا ترجى البقاء في معدن الموت * ودار حتوفها لك ورد

كيف يهوى امرؤ لذاذة أيام * أنفاسها عليه فيها تعد

 خلافة المعتضد

أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل، كان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم‏.‏

بويع له بالخلافة صبيحة موت المعتمد لعشر بقين من رجب منها، وقد كان أمر الخلافة دائراً فأحياه الله على يديه بعدله وشهامته وجرأته، واستوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب وولي مولاه بدراً الشرطة في بغداد، وجاءته هدايا عمرو بن الليث وسأل منه أن يوليه إمرة خراسان فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء فنصبه عمرو في داره ثلاثة أيام فرحاً وسروراً بذلك، وعزل رافع بن هرثمة عن إمرة خراسان ودخلها عمرو بن الليث فلم يزل يتبع رافعاً من بلد إلى بلد حتى قتله في سنة ثلاث وثمانين كما سيأتي، وبعث برأسه إلى المعتضد وصفت إمرة خراسان لعمرو‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الحسين بن عبد الله المعروف بالجصاص من الديار المصرية بهدايا عظيمة من خمارويه إلى المعتضد، فتزوج المعتضد بابنة خمارويه فجهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله، حتى قيل‏:‏ إنه كان في جهازها مائة هاون من ذهب، فحمل ذلك كله من الديار المصرية إلى دار الخلافة ببغداد صحبة العروس، وكان وقتاً مشهوداً‏.‏

وفيها‏:‏ تملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين، وكانت قبل ذلك لإسحاق بن كنداج‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد العباسي، وهي آخر حجة حجها بالناس، وقد كان يحج بالناس من سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد أمير المؤمنين المعتمد‏.‏

وأبو بكر بن أبي خيثمة، و هو‏:‏ أحمد بن زهير بن أبي خيثمة صاحب التاريخ وغيره‏.‏

وكان ثقة سمع أبا نعيم، وعفان، وأخذ علم الحديث عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعلم النسب عن مصعب الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن علي بن محمد المدائني، وعلم الأدب عن محمد بن سلام الجمحي‏.‏

حافظا ضابطاً مشهوراً، وفي تاريخه فوائد كثيرة وفرائد غزيرة‏.‏

روى عنه البغوي وابن صاعد وابن أبي داود بن المنادي‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها عن أربع وتسعين سنة‏.‏

وخاقان أبو عبد الله الصوفي، كانت له أحوال وكرامات‏.‏

الترمذي

واسمه محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، وقيل‏:‏ محمد بن عيسى بن يزيد بن سورة بن السكن، ويقال‏:‏ محمد بن عيسى بن سورة بن شداد بن عيسى السلمي الترمذي الضرير، يقال‏:‏ إنه ولد أكمه، وهو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها الجامع، والشمائل، وأسماء الصحابة وغير ذلك‏.‏

وكتاب الجامع أحد الكتب الستة التي يرجع إليها العلماء في

سائر الآفاق، وجهالة ابن حزم لأبي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه‏:‏ ومن محمد بن عيسى بن سورة‏؟‏

فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ‏.‏

وكيف يصح في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل

وقد ذكرنا مشايخ الترمذي في التكميل‏.‏

وروى عنه غير واحد من العلماء منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح، والهيثم بن كليب الشاشي صاحب المسند ومحمد بن محبوب المحبوبي، راوي الجامع عنه‏.‏

ومحمد بن المنذر بن شكر‏.‏

قال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني في كتابه ‏(‏علوم الحديث‏)‏‏:‏ محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه، له كتاب في السنن وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والأجلاء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم‏.‏

مات بعد الثمانين ومائتين‏.‏

كذا قال في تاريخ وفاته‏.‏

وقد قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الغنجار في تاريخ بخارى‏:‏ محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي الحافظ، دخل بخارى وحدث بها، وهو صاحب الجامع والتاريخ، توفي بالترمذ ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين‏.‏

ذكره الحافظ أبو حاتم بن حيان في الثقات، فقال‏:‏ كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر‏.‏

قال الترمذي‏:‏ كتب عني البخاري حديث عطية عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي‏:‏

‏(‏‏(‏لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن يقظة في تقييده عن الترمذي أنه قال‏:‏ صنفت هذا المسند الصحيح وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي ينطق‏.‏

وفي رواية يتكلم‏.‏

قالوا‏:‏ وجملة الجامع مائة وإحدى وخمسون كتاباً، وكتاب العلل صنفه بسمرقند، وكان فراغه منه في يوم عيد الأضحى سنة سبعين ومائتين‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ سمعت محمد بن طاهر المقدسي سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري يقول‏:‏ كتاب الترمذي عندي أنور من كتاب البخاري ومسلم‏.‏

قلت‏:‏ ولم‏؟‏‏

قال‏:‏ لأنه لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من هو من أهل المعرفة التامة بهذا الفن، وكتاب الترمذي قد شرح أحاديثه وبينها، فيصل إليها كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر من حال الترمذي أنه إنما طرأ عليه العمى بعد أن رحل وسمع وكتب وذاكر وناظر وصنف، ثم اتفق موته في بلده في رجب منها على الصحيح المشهور والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين من الهجرة‏.‏

في المحرم منها قتل المعتضد رجلاً من أمراء الزنج كان قد لجأ إليه بالأمان ويعرف بسلمة، ذكر له أنه يدعو إلى رجل لا يعرف من هو، وقد أفسد جماعة فاستدعي به فقرره فلم يقر، وقال‏:‏ لو كان تحت قدمي ما أقررت به، فأمر به فشد على عمود، ثم لوحه على النار حتى تساقط جلده، ثم أمر بضرب عنقه وصلبه لسبع خلون من المحرم‏.‏

وفي أول صفر ركب المعتضد من بغداد قاصداً بني شيبان من أرض الموصل فأوقع بهم بأساً شديداً عند جبل يقال له‏:‏ نوباذ‏.‏

وكان مع المعتضد حاد جيد الحداء، فقال في تلك الليالي يحدو للمعتضد‏:‏

فأجهشت للنوباذ حين رأيته * وهللت للرحمن حين رآني

وقلت له‏:‏ أين الذين عهدتهم * بظلك في أمن ولين زمامي

فقال‏:‏ مضوا واستخلفوني مكانهم * ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

وفيها‏:‏ أمر المعتضد بتسهيل عقبة حلوان فغرم عليها عشرين ألف دينار، وكان الناس يلقون منها شدة عظيمة‏.‏

وفيها‏:‏ أمر بتوسيع جامع المنصور بإضافة دار المنصور إليه، وغرم عليه عشرين ألف دينار، وكانت الدار قبلته فبناها مسجداً على حدة، وفتح بينهما سبعة عشر باباً، وحول المنبر والمحراب إلى المسجد ليكون في قبلة الجامع على عادته‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وزاد بدر مولى المعتضد السقفان من قصر المنصور المعروفة بالبدرية‏.‏

 

 بناء دار الخلافة من بغداد في هذا الوقت‏.‏

أول من بناها المعتضد في هذه السنة‏.‏

وهو أول من سكنها من الخلفاء إلى آخر دولتهم، وكانت أولاً داراً للحسن بن سهل تعرف بالقصر الحسني، ثم صارت بعد ذلك لابنته بوران زوجة المأمون، فعمرتها حتى استنزلها المعتضد عنها فأجابته إلى ذلك، ‏ ثم أصلحت ما وهى منها، ورممت ما كان قد تشعث فيها، وفرشتها بأنواع الفرش في كل موضع منها ما يليق به من المفارش، وأسكنته ما يليق به من الجواري والخدم، وأعدت بها المآكل الشهية وما يحسن ادخاره في ذلك الزمان، ثم أرسلت مفاتيحها إلى المعتضد فلما دخلها هاله ما رأى من الخيرات، ثم وسعها وزاد فيها وجعل لها سوراً حولها، وكانت قدر مدينة شيراز، وبنى الميدان ثم بنى فيها قصراً مشرفاً على دجلة، ثم بنى فيها المكتفي التاج‏.‏

فلما كان أيام المقتدر زاد فيها زيادات أخر كباراً كثيرة جداً، ثم بعد هذا كله خربت حتى كأن لم يكن موضعها عمارة، وتأخرت آثارها إلى أيام التتار الذين خربوها وخربوا بغداد وسبوا من كان بها من الحرائر كما سيأتي بيانه في موضعه من سنة ست وخمسين وستمائة‏.‏

قال الخطيب‏:‏ والذي يشبه أن بوران وهبت دارها للمعتمد لا للمعتضد، فإنها لم تعش إلى أيامه، وقد تقدمت وفاتها‏.‏

وفيها‏:‏ زلزلت أردبيل ست مرات فتهدمت دورها، ولم يبق منها مائة دار، ومات تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ غارت المياه ببلاد الري وطبرستان حتى بيع

الماء كل ثلاثة أرطال بدرهم، وغلت الأسعار هنالك جداً‏.‏

وفيها‏:‏ غزا إسماعيل بن أحمد الساماني ببلاد الترك ففتح مدينة ملكهم، وأسر امرأته الخانون وأباه ونحواً من عشرة آلاف أسير، وغنم من الدواب والأمتعة والأموال شيئاً كثيراً، أصاب الفارس ألف درهم‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أبو بكر محمد بن هارون بن إسحاق العباسي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد بن سيار بن أيوب الفقيه الشافعي المشهور بالعبادة والزهادة‏.‏

وأحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى أبو جعفر البغدادي، كان من أكابر الحنفية، تفقه على محمد بن سماعة وهو أستاذ أبي جعفر الطحاوي، وكان ضريراً، سمع الحديث من علي بن الجعد وغيره، وقدم مصر فحدث بها من حفظه، وتوفي بها في المحرم من هذه السنة، وقد وثقه ابن يونس في تاريخ مصر‏.‏

وأحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر

القاضي بواسط صاحب المسند، روى عن مسلم بن إبراهيم وأبي سلمة التبوذكي، وأبي نعيم وأبي الوليد وخلق، وكان ثقة ثبتاً تفقه بأبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن، وقد حكم بالجانب الشرقي من بغداد في أيام المعتز، فلما كان أيام الموفق طلب منه ومن إسماعيل القاضي أن يعطياه ما بأيديهما من أموال اليتامى الموقوفة فبادر إلى ذلك إسماعيل القاضي واستنظره إلى ذلك أبو العباس البرقي هذا، ‏ ثم بادر إلى كل من أنس منه رشداً من اليتامى فدفع إليه ماله، فلما طولب به قال‏:‏ ليس عندي منه شيء، دفعته إلى أهله، فعزل عن القضاء ولزم بيته وتعبد إلى أن توفي في ذي الحجة منها‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه وصافحه وقبل بين عينيه، وقال‏:‏ مرحباً بمن عمل بسنتي وأثري‏.‏

وفيها‏:‏ توفي جعفر بن المعتضد، وكان يسامر أباه‏.‏

وراشد مولى الموفق بمدينة الدينور فحمل إلى بغداد‏.‏

وعثمان بن سعيد الدارمي مصنف الرد على بشر المريسي فيما ابتدعه من التأويل لمذهب الجهمية وقد ذكرناه في طبقات الشافعية‏.‏

ومسرور الخادم وكان من أكابر الأمراء‏.‏

ومحمد بن إسماعيل الترمذي صاحب التصانيف الحسنة في رمضان منها، قاله ابن الأثير، وشيخنا الذهبي‏.‏

وهلال بن المعلا المحدث المشهور، وقد وقع لنا من حديثه طرف‏.‏

وسيبويه أستاذ النحاة

وقيل‏:‏ إنه توفي في سنة سبع وسبعين، وقيل‏:‏ ثمان وثمانين، وقيل‏:‏ إحدى وستين، وقيل‏:‏ أربع وسبعين ومائة فالله أعلم‏.‏

وهو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، وقيل‏:‏ مولى الربيع بن زياد الحارثي البصري‏.‏

ولقب سيبويه لجماله وحمرة وجنتيه حتى كانتا كالتفاحتين‏.‏

وسيبويه في لغة فارس‏:‏ رائحة التفاح‏.‏

وهو الإمام العلامة العلم، شيخ النحاة من لدن زمانه إلى زماننا هذا، والناس عيال على كتابه المشهور في هذا الفن‏.‏

وقد شرح بشروح كثيرة وقل من يحيط علماً به‏.‏

أخذ سيبويه العلم عن الخليل بن أحمد ولازمه، وكان إذا قدم يقول الخليل‏:‏ مرحباً بزائر لا يمل‏.‏

وأخذ أيضاً عن عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب وأبي زيد الأنصاري، وأبي الخطاب الأخفش الكبير وغيرهم، قدم من البصرة إلى بغداد أيام كان الكسائي يؤدب الأمين بن الرشيد، فجمع بينهما فتناظرا في شيء من مسائل النحو فانتهى الكلام إلى أن قال الكسائي‏:‏ تقول العرب‏:‏ كنت أظن الزنبور أشد لسعاً من النحلة فإذا هو إياها‏.‏

فقال سيبويه‏:‏ بيني وبين أعرابي لم يشبه شيء من الناس المولد، وكان الأمين يحب نصرة أستاذه فسأل رجلاً من الأعراب فنطق بما قال سيبويه‏.‏

فكره الأمين ذلك وقال له‏:‏ إن الكسائي يقول خلافك‏.‏

فقال‏:‏ إن لساني لا يطاوعني على ما يقول‏.‏

فقال‏:‏ أحب أن تحضر وأن تصوب كلام الكسائي، فطاوعه على ذلك وانفصل المجلس عن قول الأعرابي إذا الكسائي أصاب‏.‏

فحمل سيبويه على نفسه وعرف أنهم تعصبوا عليه ورحل عن بغداد، فمات ببلاد شيراز في قرية يقال لها‏:‏ البيضاء، وقيل‏:‏ إنه ولد بهذه، وتوفي بمدينة سارة في هذه السنة، وقيل‏:‏ سنة سبع وسبعين، وقيل‏:‏ ثمان وثمانين، وقيل‏:‏ إحدى وتسعين، وقيل‏:‏ أربع وتسعين ومائة فالله أعلم‏.‏

وقد ينف على الأربعين، وقيل‏:‏ بل إنما عمر ثنتين وثلاثين سنة فالله أعلم‏.‏

قرأ بعضهم على قبره هذه الأبيات‏:‏ ‏

ذهب الأحبة بعد طول تزاور * ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا

تركوك أوحش ما تكون بقفرة * لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا

قضى القضاء وصرت صاحب حفرة * عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين‏.‏

فيها‏:‏ دخل المسلمون بلاد الروم فغنموا وسلموا‏.‏

وفيها‏:‏ تكامل غور المياه ببلاد الري وطبرستان‏.‏

وفيها‏:‏ غلت الأسعار جداً، وجهد الناس حتى أكل بعضهم بعضاً، فكان الرجل يأكل ابنه وابنته فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر المعتضد قلعة ماردين وكانت بيد حمدان بن حمدون ففتحها قسراً وأخذ ما كان فيها، ثم أمر بتخريبها فهدمت‏.‏

وفيها‏:‏ وصلت قطر الندى بنت خمارويه سلطان الديار المصرية إلى بغداد في تجمل عظيم ومعها من الجهاز شيء كثير حتى قيل‏:‏ إنه كان في الجهاز مائة هاون من ذهب غير الفضة وما يتبع ذلك من القماش، وغير ذلك مما لا يحصى‏.‏

ثم بعد كل حساب أرسل معها أبوها ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما ليس بمصر مثله‏.‏

وفيها‏:‏ خرج المعتضد إلى بلاد الجبل، وولى ولده علياً المكتفي نيابة الري وقزوين وأزربيجان وهمدان والدينور، وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ، وولى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف نيابة أصبهان ونهاوند والكرج، ثم عاد راجعاً إلى بغداد‏.‏

وحج بالناس محمد بن هارون بن إسحاق، وأصاب الحجاج في الأجفر مطر عظيم فغرق كثير منهم، كان الرجل يغرق في الرمل فلا يقدر أحد على خلاصه منه‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن الحسن بن ديزيل الحافظ صاحب كتاب المصنفات، منها في وقعة صفين مجلد كبير‏.‏

وأحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى منها‏.‏

وإسحاق بن إبراهيم

المعروف بابن الجيلي سمع الحديث وكان يفتي الناس بالحديث، وكان يوصف بالفهم والحفظ‏.‏

وفيها توفي‏:‏

أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا القرشي

مولى بني أمية، وهو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس أبو بكر بن أبي الدنيا الحافظ المصنف في كل فن، المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعة الزائعة في الرقاق وغيرها، وهي تزيد على مائة مصنف‏.‏ ‏

وقيل‏:‏ إنها نحو الثلاثمائة مصنف، وقيل‏:‏ أكثر، وقيل‏:‏ أقل‏.‏

سمع ابن أبي الدنيا إبراهيم بن المنذر الخزامي، وخالد بن خراش وعلي بن الجعد وخلقاً، وكان مؤدب المعتضد وعلي بن المعتضد الملقب بالمكتفي بالله، وكان له عليه كل يوم خمسة عشر ديناراً، وكان صدوقاً حافظاً ذا مروءة، لكن قال فيه صالح بن محمد حزرة‏:‏ إلا أنه كان يروى عن رجل يقال له‏:‏ محمد بن إسحاق البلخي وكان هذا الرجل كذاباً يضع للأعلام، إسناداً وللكلام إسناداً، ويروى أحاديث منكرة‏.‏

ومن شعر ابن أبي الدنيا‏:‏ أنه جلس أصحاب له ينتظرونه ليخرج إليهم، فجاء المطر فحال بينه، فكتب إليهم رقعة فيها‏:‏

أنا مشتاق إلى رؤيتكم * يا أخلاي وسمعي والبصر

كيف أنساكم وقلبي عندكم * حال فيما بيننا هذا المطر

توفي ببغداد في جمادى الأولى من هذه السنة عن سبعين سنة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي، ودفن بالشونيزية رحمه الله‏.‏

عبد الرحمن بن عمرو أبو زرعة البصري الدمشقي الحافظ الكبير المشهور بابن المواز الفقيه المالكي، له اختيارات في مذهب مالك، فمن ذلك وجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائتين‏.‏

في خامس ربيع الأول منها يوم الثلاثاء دخل المعتضد بزوجته قطر الندى ابنة خمارويه، قدمت بغداد صحبة عمها وصحبة ابن الجصاص، وكان الخليفة غائباً وكان دخولها إليه يوماً مشهوداً، امتنع الناس من المرور في الطرقات من كثرة الخلق‏.‏

وفيها‏:‏ نهى المعتضد الناس أن يعملوا في يوم النيروز ما كانوا يتعاطونه من إيقاد النيران وصب الماء وغير ذلك من الأفعال المشابهة لأفعال المجوس، ومنع من حمل هدايا الفلاحين إلى المنقطعين في هذا اليوم، وأمر بتأخير ذلك إلى الحادي عشر من حزيران، وسمي النيروز المعتضدي، وكتب بذلك إلى الآفاق‏.‏

وفيها‏:‏ في ذي الحجة قدم إبراهيم بن أحمد الماذرائي من دمشق على البريد، فأخبر الخليفة بأن خمارويه وثبت عليه خدامه فذبحته على فراشه، وولوا بعده ولده حنش ثم قتلوه ونهبوا داره، ثم ولوا هارون بن خماروية، ‏‏ وقد التزم في كل سنة أن يحمل إلى الخليفة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فأقره المعتضد على ذلك، فلما كان المكتفي عزله وولى مكانه محمد بن سليمان الواثقي فاصطفى أموال الطولونيين، وكان ذلك آخر العهد منهم‏.‏

وفيها‏:‏ أطلق لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من الحبس فعاد إلى مصر في أذل حال بعد أن كان من أكثر الناس مالاً وعزاً وجاهاً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الأمير المتقدم ذكره‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات‏.‏

 إسماعيل بن إسحاق

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد أبو إسحاق الأزدي القاضي، أصله من البصرة ونشأ ببغداد وسمع مسلم بن إبراهيم و محمد بن عبد الله الأنصاري، والقعنبي وعلي بن المديني، وكان حافظاً فقيهاً مالكياً جمع وصنف وشرح في المذهب عدة مصنفات في التفسير والحديث والفقه وغير ذلك‏.‏

ولي القضاء في أيام المتوكل بعد سوار بن عبد الله، ثم عزل ثم ولي وصار مقدم القضاة‏.‏

كانت وفاته فجأة ليلة الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة منها، وقد جاوز الثمانين رحمه الله‏.‏

الحارث بن محمد بن أبي أسامة صاحب المسند المشهور‏.‏

 خمارويه بن أحمد بن طولون

صاحب الديار المصرية بعد أبيه سنة إحدى وسبعين ومائتين، وقد تقاتل هو والمعتضد بن الموفق في حياة أبيه الموفق في أرض الرملة، وقيل‏:‏ في أرض الصعيد‏.‏

وقد تقدم ذلك في موضعه، ثم بعد ذلك لما آلت الخلافة إلى المعتضد تزوج بابنة خمارويه وتصافيا، فلما كان في ذي الحجة من هذه السنة عدا أحد الخدام من الخصيان على خمارويه فذبحه وهو على فراشه، وذلك أن خمارويه اتهمه بجارية له‏.‏

مات عن ثنتين وثلاثين سنة، فقام بالأمر من بعده ولده هارون بن خمارويه، وهو آخر الطولونية‏.‏

وذكر ابن الأثير أن عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد الدارمي توفي في هذه السنة، وكان شافعياً أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي فالله أعلم‏.‏

وقد قدمنا وفاة الفضل بن يحيى بن محمد بن المسيب بن موسى بن زهير بن يزيد بن كيسان بن بادام ملك اليمن، أسلم بادام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 أبو محمد الشعراني

الأديب الفقيه العابد الحافظ الرحال، تلميذ يحيى بن معين، روى عنه الفوائد في الجرح والتعديل وغير ذلك، وكذلك أخذ عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، وقرأ على خلف بن هشام البزار، وتعلم اللغة من ابن الأعرابي، وكان ثقة كبيراً‏.‏

محمد بن القاسم بن خلاد أبو العيناء البصري الضرير الشاعر الأديب البليغ اللغوي تلميذ الأصمعي، كنيته أبو عبد الله وإنما لقب بأبي العيناء لأنه سئل عن تصغير عيناء فقال‏:‏ عييناء، له معرفة تامة بالأدب والحكايات والملح‏.‏

أما الحديث فليس منه إلا القليل‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين‏.‏

في المحرم منها خرج المعتضد من بغداد قاصداً بلاد الموصل لقتال هارون الشاري الخارجي، فظفر به وهزم أصحابه وكتب بذلك إلى بغداد، فلما رجع الخليفة إلى بغداد أمر بصلب هارون الشاري وكان صفرياً‏.‏

فلما صلب قال‏:‏ لا حكم إلا لله ولو كره المشركون‏.‏

وقد قاتل الحسن بن حمدان الخوارج في هذه الغزوة قتالاً شديداً مع الخليفة، فأطلق الخليفة أباه حمدان بن حمدون من القيود بعد ما كان قد سجنه حيناً من وقت أخذ قلعة ماردين، فأطلقه وخلع عليه وأحسن إليه‏.‏

وفيها‏:‏ كتب المعتضد إلى الآفاق بردما فضل عن سهام ذوي الفرض إذا لم تكن عصبة إلى ذوي الأرحام وذلك بفتيا أبي حازم القاضي‏.‏

وقد قال في فتياه‏:‏ إن هذا اتفاق من الصحابة إلا زيد بن ثابت فإنه تفرد برد ما فضل والحلة هذه إلى بيت المال‏.‏

ووافق على ذلك علي بن محمد بن أبي الشوارب أبي حازم، وخالفهما القاضي يوسف بن يعقوب، وذهب إلى قول زيد فلم يلتفت إليه المعتضد ولا عد قوله شيئاً، وأمضى فتيا أبي حازم، ومع هذا ولى القضاء يوسف بن يعقوب في الجانب الشرقي، وخلع عليه خلعة سنية، وقلد أبا حازم قضاء أماكن كثيرة وذلك لموافقته ابن أبي الشوارب وخلع عليه خلعاً سنية أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الفداء بين المسلمين والروم فاستنقذ من أيديهم ألفا أسير وخمسمائة وأربعة أنفس‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الصقالبة الروم في القسطنطينية فاستعان ملك الروم بمن عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم سلاحاً كثيراً فخرجوا معهم فهزموا الصقالبة، ثم خاف ملك الروم من غائلة أولئك المسلمين ففرقهم في البلاد‏.‏

وفيها‏:‏ خرج عمرو بن الليث من نيسابور لبعض أشغاله فخلفه فيها رافع بن هرثمة ودعا على منابرها لمحمد بن زيد المطلبي ولولده من بعده، فرجع إليه عمرو وحاصره فيها، ولم يزل به حتى أخرجه منها وقتله على بابها‏.‏

وفيها‏:‏ بعث الخليفة وزيره عبيد الله بن سليمان

لقتال عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف، فلما وصل إليه طلب منه عمر الأمان فأمنه وأخذه معه إلى الخليفة فتلقاه الأمراء، وخلع عليه الخليفة وأحسن إليه‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إبراهيم بن مهران أبو إسحاق الثقفي السراج النيسابوري، كان الإمام أحمد يدخل إلى منزله - وكان بقطيعة الربيع في الجانب الغربي - وينبسط فيه ويفطر عنده، وكان من الثقات العباد العلماء، توفي في صفر منها‏.‏

إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن حازم أبو القاسم الجيلي، وليس هو بالذي تقدم ذكره في السنين المتقدمة‏.‏

سمع داود بن عمرو وعلي بن الجعد وخلقاً كثيراً‏.‏

وقد لينه الدارقطني فقال‏:‏ ليس بالقوي‏.‏

توفي عن نحو من ثمانين سنة‏.‏

سهل بن عبد الله بن يونس التستري أبو محمد أحد أئمة الصوفية، لقي ذا النون المصري‏.‏

ومن كلامه الحسن قوله‏:‏ أمس قد مات واليوم في النزع وغد لم يولد‏.‏

وهذا كما قال بعض الشعراء‏:‏

ما مضى فات والمؤمل غ * يب ولك الساعة التي أنت فيها

وقد تخرج سهل شيخاً له محمد بن سوار، وقيل‏:‏ إن سهلاً قد توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش أبو محمد الحافظ المروزي أحد الجوالين الرحالين حفاظ الحديث والمتكلمين في الجرح والتعديل، وقد كان ينبذ بشيء من التشيع فالله أعلم‏.‏

روى الخطيب عنه أنه قال‏:‏ شربت بولي في هذا الشأن خمس مرات - يعنى أنه اضطر إلى ذلك في أسفاره في الحديث من العطش -

علي بن محمد بن أبي الشوارب‏.‏

عبد الملك الأموي البصري قاضي سامرا‏.‏

وقد ولى في بعض الأحيان قضاء القضاة، وكان من الثقات، سمع أبا الوليد وأبا عمرو الحوصي وعنه النجاد وابن صاعد وابن قانع، وحمل الناس عنه علماً كثيراً‏.‏

ابن الرومي الشاعر

صاحب الديوان في الشعر علي بن العباس بن جريج أبو الحسن المعروف بابن الرومي، وهو مولى عبد الله بن جعفر وكان شاعراً مشهوراً مطيقاً فمن ذلك قوله‏:‏

إذا ما مدحت الباخلين فإنما * تذكرهم في سواهم من الفضل

وتهدي لهم غماً طويلاً وحسرة * فإن منعوا منك النوال فبالعدل

وقال‏:‏ إذا ما كساك الدهر سربال صحة * ولم تخل من قوت يلذ ويعذب

فلا تغبطن المترفين فإنه * على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب

وقال أيضا‏:‏ عدوك من صديقك مستفاد *فلا تستكثرن من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه * يكون من الطعام أو الشراب

إذا انقلب الصديق غداً عدواً * مبيناً والأمور إلى انقلاب

ولو كان الكثير يطيب كانت * مصاحبة الكثير من الصواب‏

ولكن قل ما استكثرت إلا * وقعت على ذئاب في ثياب

فدع عنك الكثير فكم كثير * يعاف وكم قليل مستطاب

وما اللجج العظام بمزريات * ويكفي الري في النطف العذاب

وقال أيضاً‏:‏ وما الحسب الموروث إلا دردره *بمحتسب إلا بآخر مكتسب

فلا تتكل إلا على ما فعلته * ولا تحسبن المجد يورث كالنسب

فليس يسود المرء إلا بفعله * وإن عد آباء كراماً ذوي حسب

إذا العود لم يثمر وإن كان أصله * من المثمرات عنده الناس في الحطب

وللمجد قوم شيدوه بأنفس * كرام ولم يعنوا بأم ولا بأب

وقال أيضاً وهو من لطيف شعره‏:‏

قلبي من الطرف السقيم سقيم *لو أن من أشكو إليه رحيم

في وجهها أبداً نهار واضح * من شعرها عليه ليل بهيم

إن أقبلت فالبدر لاح وإن * مشت فالغصن راح وإن رنت فالريم

نعمت بها عيني فطال عذابها * ولكم عذاب قد جناه نعيم

نظرت فاقصدت الفؤاد بسهمها * ثم انثنت نحوي فكدت أهيم

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت * وقع السهام ووقعهن أليم

يا مستحل دمي محرم رحمتي * ما أنصف التحليل والتحريم

وله أيضا وكان يزعم أنه ما سبق إليه‏:‏

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم *في الحادثات إذا زجرن نجوم

منها معالم للهدى ومصابح * تجلو الدجى والأخريات رجوم

وذكر أنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين‏.‏

ومات في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي بعدها، وقيل‏:‏ في سنة ست وسبعين ومائتين، وذكر أن سبب وفاته أن وزير المعتضد القاسم بن عبيد الله كان يخاف من هجوه ولسانه فدس عليه من أطعمه وهو بحضرته خشكنانجة مسمومة، فلما أحس السم قام فقال له الوزير‏:‏ إلى أين‏؟

قال‏:‏ إلى المكان الذي بعثتني إليه‏.‏

قال‏:‏ سلم على والدي‏.‏

فقال‏:‏ لست أجتاز على النار‏.‏

ومحمد بن سليمان بن الحرب أبو بكر الباغندي الواسطي، كان من الحفاظ، وكان أبو داود يسأله عن الحديث، ومع هذا تكلموا فيه وضعفوه‏.‏

محمد بن غالب بن حرب أبو جعفر الضبي المعروف بتنهام

سمع سفيان وقبيصة والقعنبي، وكان من الثقات‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ وربما أخطأ‏.‏

توفي في رمضان عن تسعين سنة‏.‏

البحتري الشاعر

صاحب الديوان المشهور، اسمه الوليد بن عبادة ويقال‏:‏ ابن عبيد بن يحيى أبو عباد الطائي البحتري الشاعر، أصله من منبج وقدم بغداد ومدح المتوكل والرؤوساء، وكان شعره في المدح خيراً منه في المراثي فقيل له في ذلك فقال‏:‏ المديح للرجاء والمراثي للوفاء وبينهما بعد‏.‏

وقد روى شعره المبرد وابن درستويه وابن المرزبان‏.‏

وقيل له‏:‏ إنهم يقولون إنك أشعر من أبي تمام‏.‏

فقال‏:‏ لولا أبو تمام ما أكلت الخبز، كان أبو تمام أستاذنا‏.‏

وقد كان البحتري شاعراً مطيقاً فصيحاً بليغاً رجع إلى بلده فمات بها في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي بعدها عن ثمانين سنة

 ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

في المحرم منها دخل رأس رافع بن هرثمة إلى بغداد فأمر الخليفة بنصبه في الجانب الشرقي إلى الظهر، ثم بالجانب الغربي إلى الليل‏.‏

وفي ربيع الأول منها خلع على محمد بن يوسف بن يعقوب بالقضاء بمدينة أبي جعفر المنصور عوضاً عن ابن أبي الشوارب بعد موته بخمسة أشهر وأيام، وقد كانت شاغرة تلك المدة‏.‏ وفي ربيع الآخر منها ظهرت بمصر ظلمة شديدة وحمرة في الأفق حتى كان الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جداً‏.‏

وكذلك الجدران، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل ثم خرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون حتى كشف عنهم‏.‏

وفيها‏:‏ عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر فحذره ذلك وزيره عبد الله بن وهب، وقال له‏:‏ إن العامة تنكر قلوبهم ذلك وهم يترحمون عليه ويترضون عنه في أسواقهم وجوامعهم، فلم يلتفت إليه بل أمر بذلك وأمضاه وكتب به نسخاً إلى الخطباء بلعن معاوية وذكر فيها ذمه وذم ابنه يزيد بن معاوية وجماعة من بني أمية، وأورد فيها أحاديث باطلة في زم معاوية وقرئت في الجانبين من بغداد، ونهيت العامة عن الترحم على معاوية والترضي عنه،  فلم يزل به الوزير حتى قال له فيما قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن هذا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه، وهو مما يرغب العامة في الطالبيين وقبول الدعوة إليهم، فوجم المعتضد عند ذلك لذلك تخوفاً على الملك، وقدر الله تعالى أن هذا الوزير كان ناصبياً يكفر علياً فكان هذا من هفوات المعتضد‏.‏

وفيها‏:‏ نودي في البلاد لا يجتمع العامة على قاص ولا منجم ولا جدلي ولا غير ذلك، وأمرهم أن لا يهتموا لأمر النوروز، ثم أطلق لهم النوروز فكانوا يصبون المياه على المارة وتوسعوا في ذلك وغلوا فيه حتى جعلوا يصبون الماء على الجند والشرط وغيرهم، وهذا أيضاً من هفواته‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها وعد المنجمون الناس أن أكثر الأقاليم ستغرق في زمن الشتاء من كثرة الأمطار

والسيول وزيادة الأنهار، وأجمعوا على هذا الأمر فأخذ الناس كهوفاً في الجبال خوفاً من ذلك، فأكذب الله تعالى المنجمين في قولهم فلم يكن عام أقل مطراً منه، وقلت العيون جداً وقحط الناس في كل بقعة حتى استسقى الناس ببغداد وغيرها من البلاد مراراً كثيرة‏.‏

قال‏:‏ وفيها كان يتبدى في دار الخلافة شخص بيده سيف مسلول في الليل فإذا أرادوا أخذه انهزم، فدخل في بعض الأماكن والزروع والأشجار والعطفات التي بدار الخلافة فلا يطلع له على خبر، فقلق من ذلك المعتضد قلقاً شديداً وأمر بتجديد سور دار الخلافة والاحتفاظ به، وأمر الحرس من كل جانب بشدة الاحتراس فلم يفد ذلك شيئاً، ثم استدعى بالمغرمين ومن يعاني علم السحر وأمر المنجمين فعزموا واجتهدوا فلم يفد ذلك شيئاً فأعياهم أمره‏.‏

فلما كان بعد مدة اطلع على جلية الأمر وحقيقة الخبر فوجده خادماً خصياً من الخدام كان يتعشق بعض الجواري من حظايا المعتضد التي لا يصل إليها مثله ولا النظر إليها من بعيد، فاتخذ لحاً مختلفة الألوان يلبس كل ليلة واحدة، واتخذ لباساً مزعجاً فكان يلبس ذلك ويتبدى في الليل في شكل مزعج فيفزع الجواري وينزعجن وكذلك الخدم، فيثورون إليه من كل جانب فإذا قصدوه دخل في بعض العطفات ثم يلقي ما عليه أو يجعله في كمه أو في مكان قد أعده لذلك، ثم يظهر أنه من جملة الخدم المتطلبين لكشف هذا الأمر، ويسأل هذا وهذا ما الخبر‏؟‏

والسيف في يده صفة من يرى أنه قد رهب من هذا الأمر، وإذا اجتمع الحظايا تمكن من النظر إلى تلك المعشوقة ولا حظها وأشار إليها بما يريده منها وأشارت إليه، فلم يزل هذا دأبه إلى زمن المقتدر فبعثه في سرية إلى طرسوس فنمت عليه تلك الجارية، وانكشف أمره وحاله وأهلكه الله‏.‏

وفيها‏:‏ اضطرب الجيش المصري على هارون بن خمارويه فأقاموا له بعض أمراء أبيه يدير الأمور ويصلح الأحوال، وهو أبو جعفر بن أبان، فبعث إلى دمشق - وكانت قد منعت البيعة تسعة أشهر بعد أبيه، واضطربت أحوالها - فبعث إليهم جيشاً كثيفاً مع بدر الحمامي والحسن بن أحمد الماذرائي فأصلحا أمرها واستعملا على نيابتها طفح بن خف، ورجعا إلى الديار المصرية والأمور مختلفة جداً‏.‏

وفيها وتوفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن المبارك أبو عمر المستملي

الزاهد النيسابوري يلقب بحكمويه العابد، سمع قتيبة وأحمد وإسحاق وغيرهم واستملى على المشايخ ستاً وخمسين سنة، وكان فقيراً رث الهيئة زاهداً، دخل يوماً على أبي عثمان سعيد بن إسماعيل وهو في مجلس التذكير، فبكى أبو عثمان وقال للناس‏:‏ إنما أبكاني رثاثة ثياب رجل كبير من أهل العلم أنا أجله عن أن أسميه في هذا المجلس، فجعل الناس يلقون الخواتم والثياب والدراهم حتى اجتمع من ذلك شيء كثير بين يدي الشيخ أبي عثمان، فنهض عند ذلك أبو عمرو المستملى فقال‏:‏

أيها الناس أنا الذي قصدني الشيخ بكلامه، ولولا أني كرهت أن يتهم بإثم لسترت ما ستره‏.‏

فتعجب الشيخ من إخلاصه ثم أخذ أبو عمرو ذلك المجتمع من المال فما خرج من باب المسجد حتى تصدق بجميعه على الفقراء والمحاويج‏.‏

كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

إسحاق بن الحسن

ابن ميمون بن سعد أبو يعقوب الحربي، سمع عفان وأبا نعيم وغيرهما‏.‏

وكان أسن من إبراهيم الحربي بثلاث سنين، ولما توفي إسحاق نودي له بالبلد فقصد الناس داره للصلاة عليه، واعتقد بعض العامة أنه إبراهيم الحربي، فجعلوا يقصدون داره فيقول إبراهيم‏:‏ ليس إلى هذا الموضع قصدكم وعن قريب تأتونه، فما عمر بعده إلا دون السنة‏.‏

إسحاق بن محمد بن يعقوب الزهري عمر تسعين سنة، وكان ثقة صالحاً‏.‏

إسحاق بن موسى بن عمران الفقيه أبو يعقوب الإسفراييني الشافعي‏.‏

عبد الله بن علي بن الحسن بن إسماعيل أبو العباس الهاشمي، كانت إليه الحسبة ببغداد وإمامة جامع الرصافة‏.‏

عبد العزيز بن معاوية العتابي من ولد عتاب بن أسيد بصري، قدم بغداد وحدث عن أزهر السمان وأبي عاصم النبيل‏.‏

يزيد بن الهيثم بن طهمان أبو خالد الدقاق ويعرف بالباد‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏ البادي لأنه ولد توأماً وكان هو الأول في الميلاد‏.‏

روى عن يحيى بن معين وغيره وكان ثقة صالحاً‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين

فيها‏:‏ وثب صالح بن مدرك الطائي على الحجاج بالأجفر، فأخذ أموالهم ونساءهم، يقال‏:‏ إنه أخذ منهم ما قيمته ألف ألف دينار‏.‏

وفي ربيع الأول منها يوم الأحد لعشر بقين منه، ارتفعت بنواحي الكوفة ظلمة شديدة جداً، ثم سقطت أمطار برعود وبروق لم ير مثلها، وسقط في بعض القرى مع المطر حجارة بيض وسود، وسقط برد كبار وزن البردة مائة وخمسون درهماً، واقتلعت الرياح شيئاً كثيراً من النخيل والأشجار مما حول دجلة، وزادت دجلة زيادة كثيرة حتى خيف على بغداد من الغرق‏.‏

وفيها‏:‏ غزا راغب الخادم مولى الموفق بلاد الروم، ففتح حصوناً كثيرة، وأسر ذراري كثيرة جداً، وقتل من أسارى الرجال الذين معه ثلاثة آلاف أسير، ثم عاد سالماً مؤيداً منصور‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد، فقام بأمرها من بعده ولده محمد، فقصده المعتضد ومعه ابنه أبو محمد المكتفي بالله فحاصره بها فخرج إليه سامعاً مطيعاً، فتسلمها منه وخلع عليه وأكرم أهلها، واستخلف عليها ولده المكتفي‏.‏

ثم سار إلى قنسرين والعواصم، فتسلمها عن كتاب هارون بن خمارويه، وإذنه له في ذلك ومصالحته له فيها‏.‏

وفيها‏:‏ غزا بن الأخشيد بأهل طرسوس بلاد الروم، ففتح الله على يديه حصوناً كثيرة، ولله الحمد‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن إسحاق

ابن بشير بن عبد الله بن رستم، أبو إسحاق الحربي، أحد الأئمة في الفقه والحديث وغير ذلك، وكان زاهداً عابداً تخرج بأحمد بن حنبل، وروى عنه كثيراً‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ إبراهيم الحربي، إمام مصنف عالم بكل شيء، بارع في كل علم، صدوق، كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وورعه وعلمه، ومن كلامه‏:‏ أجمع عقلاء كل أمة أن من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه‏.‏

وكان يقول‏:‏ الرجل كل الرجل الذي يدخل غمه على نفسه ولا يدخله على عياله‏.‏

وقد كانت بي شقيقة منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحداً قط، ولي عشرون سنة أبصر بفرد عين ما أخبرت بها أحداً قط‏.‏

وذكر أنه مكث نيفاً وسبعين سنة من عمره ما يسأل أهله غداء ولا عشاء،‏ بل إن جاءه شيء أكله، وإلا طوى إلى الليلة القابلة‏.‏

وذكر أنه أنفق في بعض الرماضانات على نفسه وعياله درهماً واحداً وأربعة دوانيق ونصف، وما كنا نعرف من هذه الطبائخ شيئاً، إنما هو باذنجان مشوي، أو باقة فجل، أو نحو هذا‏.‏

وقد بعث إليه أمير المؤمنين المعتضد في بعض الأحيان بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها وردها، فرجع الرسول وقال‏:‏

يقول لك الخليفة‏:‏ فرقها على من تعرف من فقراء جيرانك‏.‏

فقال‏:‏ هذا شيء لم نجمعه، ولا نسأل عن جمعه، فلا نسأل عن تفريقه، قل لأمير المؤمنين‏:‏ إما يتركنا وإما نتحول من بلده‏.‏

ولما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصحابه يعوده، فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس بالملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان‏.‏

فقال لها إبراهيم‏:‏ يا بنية تخافين الفقر‏؟‏انظري إلى تلك الزاوية فيها اثني عشر ألف جزء قد كتبتها، ففي كل يوم تبيعي منها جزء بدرهم، فمن عنده اثني عشر ألف درهم فليس بفقير‏.‏

ثم كانت وفاته لسبع بقين من ذي الحجة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي عند باب الأنبار، وكان الجمع كثيراً جداً‏.‏

 المبرد النحوي

محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس الأزدي الثمالي، المعروف‏:‏ بالمبرد النحوي البصري، إمام في اللغة والعربية‏.‏

أخذ ذلك عن المازني، وأبي حاتم السجستاني، وكان ثقة ثبتاً فيما ينقله، وكان مناوئاً لثعلب، وله كتاب ‏(‏الكامل في الأدب‏)‏، وإنما سمي بالمبرد‏:‏ لأنه اختبأ من الوالي عند أبي حاتم تحت المزبلة‏.‏

قال المبرد‏:‏ دخلنا يوماً على المجانين نزورهم أنا وأصحاب معي بالرقة، فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان، عليه ثياب ناعمة بصر بنا قال‏:‏

حياكم الله ممن أنتم‏؟‏

قلنا‏:‏ من أهل العراق‏.‏

فقال‏:‏ بأبي العراق وأهلها أنشدوني أو أنشدكم‏؟‏‏.‏

قال المبرد‏:‏ بل أنشدنا أنت، فأنشأ يقول‏:‏

الله يعلم أنني كمد * لا أستطيع بث ما أجدُ

روحان لي روح تضمنها * بلد وأخرى حازها بلدُ

وأرى المقيمة ليس ينفعها * صبر ولا يقوى لها جلد

وأظن غائبتي كحاضرتي * بمكانها تجد الذي أجد

قال المبرد‏:‏ فقلت‏:‏ والله إن هذا طريف فزدنا منه، فأنشأ يقول‏:‏

لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم * وحملوها فثارت بالهوى الإبل

وأبرزت من خلال السجف ناظرها * ترنو إلي ودمع العين ينهمل

وودعت ببنان عقدها عنم * ناديت لا حملت رجلاك يأجمل

ويلي من البين ماذا حل بي وبهم * من نازل البين حان البين وارتحلوا

يا راحل العيس عجل كي أودعهم * يا راحل العيس في ترحالك الأجل‏

إني على العهد لم أنقض مودتهم * فليت شعري لطول العهد ما فعلوا

فقال رجل من البغضاء الذين معي‏:‏ ماتوا‏.‏

فقال الشاب‏:‏ إذاً أموت‏.‏

فقال‏:‏ إن شئت‏.‏

فتمطى واستند إلى سارية عنده ومات، وما برحنا حتى دفناه رحمه الله‏.‏

ومات المبرد وقد جاوز السبعين‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين

فيها وقع تسلم آمد من ابن الشيخ في ربيع الآخر، ووصل كتاب هارون بن أحمد بن طولون من مصر إلى المعتضد وهو مخيم بآمد أن يسلم إليه قنسرين والعواصم، على أن يقره على إمارة الديار المصرية، فأجابه إلى ذلك‏.‏

ثم ترحل عن آمد قاصداً العراق وأمر بهدم سور آمد، فهدم البعض ولم يقدر على ذلك، فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد‏:‏

اسلم أمير المؤمنين ودم * في غبطة وليهنك النصر

فلرب حادثة نهضت لها * متقدماً فتأخر الدهر

ليث فرائسه الليوث * فما بيض من دمها له ظفر

ولما رجع الخليفة إلى بغداد جاءته هدية عمرو بن الليث من نيسابور، فكان وصولها بغداد يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة، وكان مبلغها ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم خارجاً عن الدواب وسروج وسلاح وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ تحارب إسماعيل بن أحمد الساماني وعمرو بن الليث، وذلك أن عمرو بن الليث لما قتل رافع بن هرثمة وبعث رأسه إلى الخليفة، سأل منه أن يعطيه ما وراء النهر مضافاً إلى ما بيده من ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك فانزعج لذلك إسماعيل بن أحمد بن الساماني نائب ما وراء النهر، وكتب إليه‏:‏

إنك قد وليت دنيا عريضة، فاقتنع بها عن ما في يدي من هذه البلاد‏.‏

فلم يقبل، فأقبل إليه إسماعيل في جيوش عظيمة جداً، فالتقيا عند بلخ، فهزم أصحاب عمرو، وأسر عمرو، فلما جيء به إلى إسماعيل بن أحمد قام إليه وقبل بين عينيه، وغسل وجهه وخلع عليه وأمنه، وكتب إلى الخليفة في أمره، ويذكر أن أهل تلك البلاد قد ملوا وضجروا من ولايته عليهم، فجاء كتاب الخليفة بأن يتسلم حواصله وأمواله فسلبه إياها، فآل به الحال بعد أن كان مطبخه يحمل على ستمائة جمل إلى القيد والسجن‏.‏

ومن العجائب أن عمراً كان معه خمسون ألف مقاتل لم يصب أحد منهم، ولا أسر سواه وحده، وهذا جزاء من غلب عليه الطمع، وقاده الحرص حتى أوقعه في ذل الفقر، وهذه سنة الله في كل طامع فيما ليس له، وفي كل طالب للزيادة في الدنيا‏.‏

ظهور أبي سعيد الجنابي رأس القرامطة

وهم أخبث من الزنج وأشد فساداً، كان ظهوره في جمادى الآخرة من هذه السنة بنواحي البصرة، فالتف عليه من الأعراب غيرهم بشرٌ كثير، وقويت شوكته جداً، وقتل من حوله من أهل القرى‏.‏ ‏

ثم صار إلى القطيف قريباً من البصرة ورام دخولها، فكتب الخليفة المعتضد إلى نائبها يأمره بتحصين سورها، فعمروه وجددوا معالمه بنحو من أربعة آلاف دينار، فامتنعت من القرامطة بسبب ذلك‏.‏

وتغلب أبو سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة على هجر وما حولها من البلاد، وأكثروا في الأرض الفساد‏.‏

وكان أصل أبي سعيد الجنابي هذا أنه كان سمساراً في الطعام يبيعه ويحسب للناس الأثمان، فقدم رجل به، يقال له‏:‏ يحيى بن المهدي في سنة إحدى وثمانين ومائتين، فدعا أهل القطيف إلى بيعة المهدي، فاستجاب له رجل يقال له‏:‏ علي بن العلاء بن حمدان الزيادي، فساعده في الدعوة إلى المهدي، وجمع الشيعة الذين كانوا في القطيف، فاستجابوا له، وكانوا في جملة من استجاب أبو السعيد الجنابي هذا قبحه الله‏.‏

ثم تغلب على أمرهم وأظهر فيهم القرمطة، فاستجابوا له والتفوا عليه، فتآمر عليهم وصار هو المشار إليه فيهم، وأصله من بلدة هناك يقال لها‏:‏ جنابة، وسيأتي ما يكون من أمره وأمر أصحابه‏.‏

قال في المنتظم‏:‏ ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة‏.‏

ثم روى بسنده‏:‏ أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينه تشهد لها به، فقالوا‏:‏

نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك، قال الزوج‏:‏

لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها‏.‏

فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وإنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر‏:‏ هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان المشاهير‏:‏

 أحمد بن عيسى أبو السعيد الخراز، فيما ذكره شيخنا الذهبي‏.‏

وقد أرخه ابن الجوزي في سنة سبعة وسبعين ومائتين، فالله أعلم‏.‏

إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان

أبو يعقوب النخعي الأحمر، وإليه تنسب الطائفة الإسحاقية من الشيعة‏.‏

وقد ذكر ابن النوبختي، والخطيب، وابن الجوزي‏:‏ أن هذا الرجل كان يعتقد إلهية علي بن أبي طالب، وإنه انتقل إلى الحسن ثم الحسين، وإنه كان يظهر في كل وقت، وقد اتبعه على هذا الكفر خلق من الحمر قبحهم الله وقبحه‏.‏

وإنما قيل له‏:‏ الأحمر لأنه كان أبرص، وكان يطلي برصه بما يغير لونه‏.‏

وقد أورد له النوبختي أقوالاً عظيمة في الكفر، لعنه الله‏.‏

وقد روى شيئاً من الحكايات والملح عن المازني وطبقته، ومثل هذا أقل وأذل من أن يروى عنه، أو يذكر إلا بذمه‏.‏

بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي الحافظ أحد علماء الغرب، له التفسير والمسند والسنن والآثار التي فضلها ابن حزم على تفسير ابن جرير، ومسند أحمد، ومصنف ابن أبي شيبة‏.‏

وفيما زعم ابن حزم نظر‏.‏

وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأثنى عليه خيراً، ووصفه بالحفظ والإتقان، وأنه كان مجاب الدعوة رحمه الله‏.‏

وأرخ وفاته بهذه السنة عن خمس وسبعين سنة‏.‏

 الحسن بن بشار

أبو علي الخياط روى عن أبي بلال الأشعري، وعنه أبو بكر الشافعي، وكان ثقة، رأى في منامه - وقد كانت به علة - قائلاً يقول له‏:‏ كل لا، وادهن بلا، ففسره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ‏}‏ فأكل زيتوناً، وشرب زيتاً فبرأ من علته تلك‏.‏

محمد بن إبراهيم أبو جعفر الأنماطي المعروف‏:‏ بمربع، تلميذ يحيى بن معين، كان ثقة حافظاً‏.‏

عبد الرحيم الرقي‏.‏

 ومحمد بن وضاح المصنف‏.‏

وعلي بن عبد العزيز البغوي صاحب المسند‏.‏

محمد بن يونس

ابن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم أبو العباس القرشي البصري الكديمي، وهو ابن امرأة نوح بن عبادة، ولد سنة ثلاث وثمانين ومائة، وسمع عبد الله بن داود الخريبي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا داود الطيالسي، والأصمعي، وخلقاً‏.‏

وعنه ابن السماك، والنجاد‏.‏

وآخر من حدث عنه أبو بكر بن مالك القطيفي، وقد كان حافظاً مكثراً مغرباً، وقد تكلم فيه الناس لأجل غرائبه في الروايات‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في التكميل‏.‏

توفي يوم الجمعة قبل الصلاة للنصف من جمادى الآخرة منها، وقد جاوز المائة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي‏.‏

يعقوب بن إسحاق بن نخبة أبو يوسف الواسطي، سمع من يزيد بن هارون وقدم بغداد، وحدث بها أربعة أحاديث، ووعد الناس أن يحدثهم من الغد، فمات من ليلته عن مائة واثني عشر سنة‏.‏

الوليد أبو عبادة البحتري فيما ذكر الذهبي، وقد تقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين كما ذكره ابن الجوزي، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

في ربيع الأول منها تفاقم أمر القرامطة صحبة أبي سعيد الجنابي، فقتلوا وسبوا وأفسدوا في بلاد هجر، ‏ فجهز الخليفة إليهم جيشاً كثيفاً، وأمر عليهم العباس بن عمرو الغنوي، وأمره على اليمامة والبحرين ليحارب أبا سعيد هذا، فالتقوا هنالك‏.‏

وكان العباس في عشرة آلاف مقاتل، فأسرهم أبو سعيد كلهم ولم ينج منهم إلا الأمير وحده، وقتل الباقون عن آخرهم صبراً بين يديه قبحه الله‏.‏

وهذا عجيب جداً وهو عكس واقعة عمرو بن الليث، فإنه أسر من بين أصحابه وحده، ونجوا كلهم وكانوا خمسين ألفاً‏.‏

ويقال‏:‏ إن العباس لما قتل أبو سعيد أصحابه صبراً بين يديه وهو ينظر، وكان في جملة من أسر، أقام عند أبي سعيد أياماً ثم أطلقه وحمله على رواحل، وقال‏:‏

ارجع إلى صاحبك وأخبره بما رأيت‏.‏

وقد كانت هذه الواقعة في أواخر شعبان منها، فلما وقع هذا الأمر الفظيع انزعج الناس لذلك انزعاجاً عظيماً جداً، وهم أهل البصرة بالخروج منها، فمنعهم من ذلك نائبها أحمد الواثقي‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على بلاد طرسوس، وكان نائبها ابن الأخشيد قد توفي في العام الماضي، واستخلف على الثغر أبا ثابت، فطمعت الروم في تلك الناحية، وحشدوا عساكرهم، فالتقا بهم أبو ثابت فلم يقدر على مقاومتهم، فقتلوا من أصحابه جماعة، وأسروه فيمن أسروا، فاجتمع أهل الثغر على ابن الأعرابي فولوه أمرهم، وذلك في ربيع الآخر‏.‏

 وفيها قتل‏:‏

 محمد بن زيد العلوي

أمير طبرستان والديلم، وكان سبب ذلك‏:‏ أن إسماعيل الساماني لما ظفر بعمرو بن الليث، ظن محمد أن إسماعيل لا يجاوز عمله، وأن خراسان قد خلت له، فارتحل من بلده يريد خراسان، وسبقه إسماعيل إليها، وكتب إليه‏:‏

أن الزم عملك ولا تتجاوزه إلى غيره‏.‏

فلم يقبل، فبعث إليه جيشاً مع محمد بن هارون الذي كان ينوب عن رافع بن هرثمة، فلما التقيا هرب منه محمد بن هارون خديعة، فسار الجيش وراءه في الطلب، فكر عليهم راجعاً فانهزموا منه، فأخذ ما في معسكرهم، وجرح محمد بن زيد جراحات شديدة، فمات بسببها بعد أيام، وأسر ولده زيد فبعث به إلى إسماعيل بن أحمد، فأكرمه وأمر له بجائزة‏.‏

وقد كان محمد بن زيد هذا فاضلاً ديناً، حسن السيرة فيما وليه من تلك البلاد، وكان فيه تشيع‏.‏

تقدم إليه يوماً خصمان اسم أحدهما‏:‏ معاوية، واسم الآخر‏:‏ علي، فقال محمد بن زيد‏:‏ إن الحكم بينكما ظاهر‏.‏

فقال معاوية‏:‏ أيها الأمير، لا تغترن بنا فإن أبي كان من كبار الشيعة، وإنما سماني معاوية مداراة لمن ببلدنا من أهل السنة‏.‏

وهذا كان أبوه من كبار النواصب، فسماه‏:‏ علياً تقاة لكم‏.‏

فتبسم محمد بن زيد، وأحسن إليهما‏.‏ ‏

قال ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏:‏ وممن توفي فيها‏:‏ إسحاق بن يعقوب بن عمر بن الخطاب العدوي - عدي ربيعة-‏.‏

وكان أميراً على ديار ربيعة بالجزيرة، فولى مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر‏.‏

وعلي بن عبد العزيز البغوي صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام‏.‏

ومهدي بن أحمد بن مهدي الأزدي الموصلي - وكان من الأعيان - وذكر هو وأبو الفرج بن الجوزي‏:‏ أن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون امرأة المعتضد توفيت في هذه السنة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ لسبع خلون من رجب منها، ودفنت داخل القصر بالرصافة‏.‏

يعقوب بن يوسف بن أيوب أبو بكر المطوعي، سمع أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وعنه النجاد والخلدي، وكان ورده في كل يوم قراءة قل هو الله أحد إحدى وثلاثين ألف مرة، أو إحدى وأربعين ألف مرة‏.‏

قلت‏:‏ وممن توفي فيها‏:‏ أبو بكر بن أبي عاصم صاحب السنة والمصنفات وهو‏:‏

أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك

ابن النبيل، له مصنفات في الحديث كثيرة منها‏:‏ كتاب ‏(‏السنة في أحاديث الصفات‏)‏ على طريق السلف، وكان حافظاً، وقد ولي قضاء أصبهان بعد صالح بن أحمد، وقد طاف البلاد قبل ذلك في طلب الحديث، وصحب أبا تراب النخشبي وغيره من مشايخ الصوفية‏.‏

وقد اتفق له مرة كرامة هائلة‏:‏ كان هو واثنان من كبار الصالحين في سفر، فنزلوا على رمل أبيض، فجعل أبو بكر هذا يقبله بيده ويقول‏:‏

اللهم ارزقنا خبيصاً يكون غداء على لون هذا الرمل‏.‏

فلم يكن بأسرع من أن أقبل أعرابي وبيده قصعة فيها خبيص بلون ذلك الرمل وفي بياضه، فأكلوا منه‏.‏

وكان يقول‏:‏ لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء، ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث‏.‏

توفي في هذه السنة بأصبهان، وقد رآه بعضهم بعد وفاته وهو يصلي، فلما انصرف قال‏:‏ ما فعل بك‏؟‏

فقال‏:‏ يؤنسني ربي عز وجل‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

اتفق في هذه السنة آفات ومصائب عديدة منها‏:‏ أن الروم قصدوا بلاد الرقة في جحافل عظيمة وعساكر من البحر والبر، فقتلوا خلقاً وأسروا نحواً من خمسة عشر ألفاً من الذرية‏.‏

ومنها‏:‏ أن بلاد أذربيجان أصاب أهلها وباء شديد حتى لم يبق أحد على دفن الموتى، فتركوا في الطرق لا يوارون‏.‏ ‏

ومنها‏:‏ أن بلاد أردبيل أصابها ريح شديدة من بعد العصر إلى ثلث الليل، ثم زلزلوا زلزالاً شديداً، واستمر ذلك عليهم أياماً تهدمت الدور والمساكن، وخسف بآخرين منهم، وكان جملة من مات تحت الهدم مائة ألف وخمسين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ اقترب القرامطة من البصرة فخاف أهلها منهم خوفاً شديداً، وهموا بالرحيل منها فمنعهم نائبها‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

بشر بن موسى بن صالح أبو علي الأسدي

ولد سنة تسعين ومائة، وسمع من روح بن عبادة حديثاً واحداً، وسمع الكثير من هودة بن خليفة والحسن ين موسى الأشيب وأبي نعيم وعلي بن الجعد والأصمعي وغيره، وعنه ابن المنادي وابن مخلد وابن صاعد والنجاد وأبو عمرو الزاهد والخلدي والسلمي وأبو بكر الشافعي وابن الصواف وغيرهم‏.‏

وكان ثقة أميناً حافظاً، وكان من البيوتات وكان الإمام أحمد يكرمه‏.‏

ومن شعره‏:‏

ضعفت ومن جاز الثمانين يضعف * وينكر منه كل ما كان يعرف

ويمشي رويداً كالأسير مقيداً * يداني خطاه في الحديد ويرسف

ثابت بن قرة بن هارون - ويقال‏:‏ ابن زهرون - بن ثابت بن كدام بن إبراهيم الصائبي الفيلسوف الحراني صاحب التصانيف، من جملتها أنه حرر كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي‏.‏

وكان أصله صوفياً فترك ذلك واشتغل بعلم الأوائل، فنال منه رتبة سامية عند أهله، ثم صار إلى بغداد فعظم شأنه بها، وكان يدخل مع المنجمين على الخليفة وهو باق على دين الصابئة، وحفيده ثابت بن قرة بن سنان له تاريخ أجاد فيه وأحسن، وكان بليغاً ماهراً حاذقاً بالغاً‏.‏

وعمه إبراهيم بن ثابت بن قرة، كان طبيباً عارفاً أيضاً‏.‏

وقد سردهم كلهم في هذه الترجمة القاضي ابن خلكان‏.‏

الحسن بن عمرو بن الجهم أبو الحسن الشيعي - من شيعة المنصور لا من الروافد - حدث عن علي بن الممديني، وحكى عن بشر الحافي‏.‏

وعنه أبو عمرو بن السماك‏.‏

عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد، كان حظياً عنده، وقد عز عليه موته وتألم لفقده وأهمه من يجعله في مكانه بعده، فعقد لولده القاسم بن عبيد الله على الوزارة من بعد أبيه جبراً لمصابه به‏.‏ ‏

وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار المعروف بالأنماطي أحد كبار الشافعية‏.‏

وقد ذكرناه في طبقاتهم‏.‏

وهارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى أبو موسى الهاشمي، إمام الناس في الحج عدة سنين متوالية، وقد سمع وحدث وتوفي بمصر في رمضان من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

فيها‏:‏ عاثت القرامطة بسواد الكوفة، فظفر بعض العمال بطائفة منهم، فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس، فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه، ثم قطعتا مع رجليه ثم قتل وصلب ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه، فهزموه مرات متعددة، وتفاقم الحال بهم، وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه بن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وزعم لهم أنه

قد اتبعه على أمره مائة ألف، وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة‏.‏

فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ، واتبعه طائفة من بني الأصبغ، وسموا بالفاطميين‏.‏

وقد بعث إليهم الخليفة جيشاً كثيفاً فهزموه، ثم اجتازوا بالرصافة فأحرقوا جامعها، ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها، ولم يزل ذلك دأبهم حى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، وانتهبوا من أموالها شيئاً كثيراً‏.‏

فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي هذه الحالة الشديدة اتفق موت الخليفة المعتضد بالله في ربيع الأول منها‏.‏

 الخليفة المعتضد

هو أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله، واسم أبي أحمد محمد، وقيل‏:‏ طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد، أبو العباس المعتضد بالله‏.‏

ولد في سنة ثنتين، وقيل‏:‏ ثلاث وأربعين ومائتين، وأمه أم ولد‏.‏

وكان أسمر نحيف الجسم معتدل القامة، قد وخطه الشيب في مقدم لحيته طول، وفي رأسه شامة بيضاء‏.‏

بويع له بالخلافة صبيحة يوم الاثنين إحدى عشرة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، واستوزر عبد الله بن وهب بن سليمان، وولى القضاء إسماعيل بن إسحاق ويوسف بن يعقوب وابن أبي الشوارب‏.‏

وكان أمر الخلافة قد ضعف في أيام عمه المعتمد، فلما ولي المعتضد أقام شعارها ورفع منارها‏.‏

وكان شجاعاً فاضلاً من رجالات قريش حزماً وجرأة وإقداماً وحزمة، وكذلك كان أبوه، وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحاً مستصرخاً بالخليفة، فاستدعى به فسأله عن أمره فقال‏:‏

إن بعض الجيش أخذوا لي شيئاً من القثاء وهم من غلمانك‏.‏

فقال‏:‏ أتعرفهم‏؟‏‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة، فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم، فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق، فاستعظم الناس ذلك واستنكروه وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا‏:‏ قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه‏؟‏

فلما كان بعد قليل أمر الخواص - وهو مسامره - أن ينكر عليه ذلك، ويتلطف في مخاطبته في ذلك والأمراء حضور، فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك، ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه، فقال له‏:‏ إني أعرف أن في نفسك كلاماً فما هو‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين وأنا آمن‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت له‏:‏ فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء‏.‏

فقال‏:‏ والله ما سفكت دماً حراماً منذ وليت الخلافة إلا بحقه‏.‏

فقلت له‏:‏ فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه، فلما دعاني إلى ذلك قلت له‏:‏ يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته‏.‏

فقتلته على الكفر والزندقة‏.‏

فقلت له‏:‏ فما بال الثلاثة الذين قتلتهم على القثاء‏؟‏

فقال‏:‏ والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصاً قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم، فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم، وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء، وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض، ويتعدوا على الناس، ويكفوا عن الأذى‏.‏

ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعد ما استتابهم، وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ خرج المعتضد يوماً فعسكر بباب الشماسية ونهى أن يأخذ أحد من بستان أحد شيئاً، فأتي بأسود قد أخذ عذقاً من بسر فتأمله طويلاً ثم أمر بضرب عنقه‏.‏

ثم التفت إلى الأمراء فقال‏:‏ العامة ينكرون هذا ويقولون‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا قطع في ثمر ولا كثر‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يكفه أن يقطع يده حتى قتله، وإني لم أقتل هذا على سرقته، وإنما هذا الأسود رجل من الزنج كان قد استأمن في حياة أبي، وإنه تقاول هو ورجل من المسلمين فضرب المسلم فقطع يده فمات المسلم، فأهدر أبي دم الرجل المقتول تأليفاً للزنج، فآليت على نفسي لئن أنا قدرت عليه لأقتلنه، فما قدرت عليه إلا هذه الساعة فقتلته بذلك الرجل‏.‏

وقال أبو بكر الخطيب‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن نعيم الضبي، سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول‏:‏ سمعت أبا العباس بن سريج يقول‏:‏ سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول‏:‏ دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فنظرت إليهم فرآني المعتضد وأنا أتأملهم، فلما أردت القيام أشار إلي فجلست ساعة فلما خلا قال لي‏:‏ أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط‏.‏

وروى البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن حسان بن محمد، عن ابن سريج القاضي إسماعيل بن إسحاق قال‏:‏

دخلت يوماً على المعتضد فدفع إلي كتاباً فقرأته، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء، قد جمعها له بعض الناس فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق‏.‏

فقال‏:‏ كيف‏؟‏

فقلت‏:‏ إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه‏.‏

فأمر بتحريق ذلك الكتاب‏.‏

وروى الخطيب بسنده عن صافي الجرمي الخادم قال‏:‏ انتهى المعتضد وأنا بين يديه إلى منزل شعث، وابنه المقتدر جعفر جالس فيه وحوله نحو من عشرة من الوصائف، والصبيان من أصحابه في سنه عنده، وبين يديه طبق من فضة فيه عنقود عنب، وكان العنب إذ ذاك عزيزاً، وهو يأكل عنبة واحدة ثم يفرق على أصحابه من الصبيان كل واحد عنبة، فتركه المعتضد وجلس ناحية في بيت مهوماً‏.‏

فقلت له‏:‏ ما لك يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك والله لولا النار والعار لأقتلن هذا الغلام، فإن في قتله صلاحاً للأمة‏.‏

فقلت‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك‏.‏

فقال‏:‏ ويحك يا صافي هذا الغلام في غاية السخاء لما أراه يفعل مع الصبيان، فإن طباع الصبيان تأبى الكرم، وهذا في غاية الكرم، وإن الناس من بعدي لا يولون عليهم إلا من هو من ولدي، فسيلي عليهم المكتفي ثم لا تطول أيامه لعلته التي به - وهي داء الخنازير - ثم يموت فيلي الناس جعفر هذا الغلام، فيذهب جميع أموال بيت المال إلى الحظايا لشغفه بهن، وقرب عهده من تشبه بهن، فتضيع أمور المسلمين وتعطل الثغور وتكثر الفتن والهرج والخوارج والشرور‏.‏

قال صافي‏:‏ والله لقد شاهدت ما قاله سواء بسواء‏.‏

وروى ابن الجوزي عن بعض خدم المعتضد قال‏:‏ كان المعتضد يوماً نائماً وقت القائلة ونحن حول سريره، فاستيقظ مذعوراً ثم صرح بنا فجئنا إليه، فقال‏:‏ ويحكم اذهبوا إلى دجلة فأول سفينة تجدوها فارغة منحدرة فأتوني بملاحها واحتفظوا بالسفينة‏.‏

فذهبنا سراعاً فوجدنا ملاحاً في سميرية فارغة منحدراً، فأتينا به الخليفة فلما رأى الملاح الخليفة كاد أن يتلف، فصاح به الخليفة صيحة عظيمة فكادت روح الملاح تخرج فقال له الخليفة‏:‏ ويحك يا ملعون، اصدقني عن قصتك مع المرأة التي قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك‏.‏

قال‏:‏ فتلعثم، ثم قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين كنت اليوم سحراً في مشرعتي الفلانية، فنزلت امرأة لم أر مثلها وعليها ثياب فاخرة وحلي كثيرة وجوهر، فطمعت فيها واحتلت عليها فشددت فاها وغرقتها وأخذت جميع ما كان عليها من الحلي والقماش، وخشيت أن أرجع به إلى منزلي فيشتهر خبرها، فأردت الذهاب به إلى واسط فلقيني هؤلاء الخدم فأخذوني‏.‏

فقال‏:‏ وأين حليها‏؟‏

فقال‏:‏ في صدر السفينة تحت البواري‏.‏

فأمر الخليفة عند ذلك بإحضار الحلي، فجيء به فإذا هو حلي كثير يساوي أموالاً كثيرة، فأمر الخليفة بتغريق الملاح في المكان الذي غرق فيه المرأة، وأمر أن ينادى على أهل المرأة ليحضروا حتى يتسلموا مال المرأة، فنادى بذلك ثلاثة أيام في أسواق بغداد وأزقتها فحضروا بعد ثلاثة أيام فدفع إليهم ما كان من الحلي وغيره مما كان للمرأة، ولم يذهب منه شيء‏.‏

فقال له خدمه‏:‏ يا أمير المؤمنين من أين علمت هذا‏؟‏

قال‏:‏ رأيت في نومي تلك الساعة شيخاً أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي‏:‏ يا أحمد يا أحمد، خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه وقرره عن خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها، فأقم عليه الحد‏.‏

وكان ما شاهدتم‏.‏ ‏

وقال جعيف السمرقندي الحاجب‏:‏ كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيري، إذ خرج علينا أسد فقصد قصدنا فقال لي المعتضد‏:‏ يا جعيف أفيك خير اليوم‏؟‏

قلت‏:‏ لا والله‏.‏

قال‏:‏ ولا أن تمسك فرسي وأنزل أنا‏؟‏

فقلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فنزل عن فرسه وغرز أطراف ثيابه في منطقته، واستل سيفه ورمى بقرابه إلي ثم تقدم إلى الأسد، فوثب الأسد عليه فضربه بالسيف فأطار يده فاشتغل الأسد بيده، فضربه ثانية على هامته ففلقها، فخر الأسد صريعاً فدنا منه فمسح سيفه في صوفه، ثم أقبل إلي فأغمد سيفه في قرابه، ثم ركب فرسه فذهبنا إلى العسكر قال‏:‏ وصحبته إلى أن مات فما سمعته ذكر ذلك لأحد، فما أدري من أي شيء أعجب‏؟‏من

من شجاعته أم من عدم احتفاله بذلك، حيث لم يذكره لأحد‏؟‏أم من عدم عتبه علي حيث ضننت بنفسي عنه‏؟‏والله ما عاتبني في ذلك قط‏.‏

وروى ابن عساكر عن أبي الحسين النوري‏:‏ أنه اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاح فقال‏:‏ ما هذا ولمن هذا‏؟‏

فقال له‏:‏ هذه خمر للمعتضد‏.‏

فصعد أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دناً واحداً تركه، واستغاث الملاح فجاءت الشرطة فأخذوا أبا الحسين فأوقفوه بين يدي المعتضد فقال له‏:‏ ما أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أنا المحتسب‏.‏

فقال‏:‏ ومن ولاك الحسبة‏؟‏

فقال‏:‏ الذي ولاك الخلافة يا أمير المؤمنين‏.‏

فأطرق رأسه ثم رفعها فقال‏:‏ ما الذي حملك على ما فعلت‏؟‏

فقال‏:‏ شفقة عليك لدفع الضرر عنك‏.‏

فأطرق رأسه ثم رفعه فقال‏:‏ ولأي شيء تركت منها دناً واحداً لم تكسره‏؟‏

فقال‏:‏ لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالا لله تعالى، فلم أبال أحداً حتى انتهيت إلى هذا الدن، دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أقدمت على مثلك فتركته، فقال له المعتضد‏:‏ اذهب فقد أطلقت يدك فغير ما أحببت أن تغيره من المنكر‏.‏

فقال له النوري‏:‏ الآن انتقض عزمي عن التغيير، فقال‏:‏ ولم‏؟‏

فقال‏:‏ لأني كنت أغير عن الله، وأنا الآن أغير عن شرطي‏.‏

فقال‏:‏ سل حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ أحب أن تخرجني من بين يديك سالماً‏.‏

فأمر فأخرج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفياً خشية أن يشق عليه أحد في حاجة عند المعتضد‏.‏

فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد‏.‏

وذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال‏:‏ كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني، فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم يفد ذلك شيئاً، وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئاً، وما زاده ذلك إلا منعاً وجحوداً، فأيست من المال الذي عليه ودخلني هم من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي، إذ قال لي رجل‏:‏ ألا تأتي فلاناً الخياط - إمام مسجد هناك - فقلت‏:‏ وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم، وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه‏.‏

فقال لي‏:‏ هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه، فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجاً‏.‏

قال‏:‏ فقصدته غير محتفل في أمره، فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم، فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه، وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملاً من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر، غير أنه قال له‏:‏ ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت، فتغير لون الأمير ودفع إلى حقي‏.‏

قال التاجر‏:‏ فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته، كيف أنطاع ذلك الأمير له، ثم إني عرضت عليه شيئاً من المال فلم يقبل مني شيئاً، وقال‏:‏ لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا يحصى‏.‏

فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه وألححت عليه فقال‏:‏ إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة، وهو شاب حسن، فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها‏:‏ يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج، وهذا الرجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله، ومتى بت ها هنا طلقت منه، ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع‏.‏

قال الخياط‏:‏ فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه، فضربني بدبوس في يده فشج رأسي، وغلب المرأة على نفسها وأدخلها منزله قهراً، فرجعت أنا فغسلت الدم عنى وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة‏:‏ إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه، فقام الناس معي فهجمنا عليه داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم فضربني ضرباً شديداً مبرحاً حتى أدماني، وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة، فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء، فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق، فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان هل أرى المرأة قد خرجت ثم أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح، فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا، إذ امتلأت الطريق فرساناً ورجالة وهم يقولون‏:‏ أين الذي أذن هذه الساعة‏؟‏

فقلت‏:‏ ها أنا ذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا‏:‏ انزل فنزلت‏.‏

فقالوا‏:‏ أجب أمير المؤمنين، فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئاً، حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالساً في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف، وفزعت فزعاً شديداً، فقال‏:‏ ادن، فدنوت فقال لي‏:‏ ليسكن روعك وليهدأ قلبك‏.‏

وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي، فقال‏:‏ أنت الذي أذنت هذه الساعة‏.‏

قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه‏؟‏

فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم‏.‏

فقلت‏:‏ يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري‏؟‏

قال‏:‏ أنت آمن‏.‏

فذكرت له القصة‏.‏

قال‏:‏ فغضب غضباً شديداً، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا، فأحضرا سريعاً فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات، ومعهن ثقة من جهته أيضاً،  وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة‏.‏

ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال له‏:‏ كم لك من الرزق‏؟‏وكم عندك من المال‏؟‏وكم عندك من الجوار والزوجات‏؟‏

فذكر له شيئاً كثيراً‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله، وتعديت حدوده، وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضاً حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته‏؟‏

فلم يكن له جواب‏.‏

فأمر به فجعل في رجله قيد، وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخل في جوالق ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضرباً شديداً حتى خفت، ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به‏.‏

ثم أمر بدراً صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال، ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط‏:‏ كلما رأيت منكراً صغيراً كان أو كبيراً ولو على هذا - وأشار إلى صاحب الشرطة -فأعلمني، فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلى ما بيني وبينك، الأذان، فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا‏.‏

قال‏:‏ فلهذا لا آمر أحداً من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفاً من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن‏.‏

وذكر الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال‏:‏ كنت يوماً عند المعتضد، وخادم واقف على رأسه يذب عنه بمذبة في يده إذ حركها فجاءت في قلنسوة الخليفة فسقطت عن رأسه، فأعظمت أنا ذلك جداً وخفت من هول ما وقع، ولم يكترث الخليفة لذلك، بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه ثم قال لبعض الخدم‏:‏ مر هذا البائس ليذهب لراحته فإنه قد نعس، وزيدوا في عدة من يذب بالنوبة‏.‏

قال الوزير‏:‏ فأخذنا في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه، فقال‏:‏ إن هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس، وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد لا على المخطئ والساهي‏.‏

وقال جعيف السمرقندي الحاجب‏:‏ لما جاء الخبر إلى المعتضد بموت وزيره عبيد الله بن سليمان خر ساجداً طويلاً، فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد كان عبيد الله يخدمك وينصح لك‏.‏

فقال‏:‏ إنما سجدت شكراً لله أني لم أعزله ولم أوذه‏.‏

وقد كان ابن سليمان حازم الرأي قوياً، وأراد أن يولي مكانه أحمد بن محمد بن الفرات، فعدل به بدر صاحب الشرطة عنه وأشار عليه بالقاسم بن عبيد الله فسفه رأيه، فألح عليه فولاه وبعث إليه يعزيه في أبيه ويهنيه بالوزارة، فما لبث القاسم بن عبيد الله حتى ولي المكتفي الخلافة من بعد أبيه المعتضد وحتى قتل بدراً‏.‏

وكان المعتضد ينظر إلى ما بينهما من العداوة من وراء ستر رقيق، وهذه فراسة عظيمة وتوسم قوي‏.‏

ورفع يوماً إلى المعتضد قوماً يجتمعون على المعصية، فاستشار وزيره في أمرهم فقال‏:‏ ينبغي أن يصلب بعضهم ويحرق بعضهم‏.‏

فقال‏:‏ ويحك لقد بردت لهب غضبي عليهم بقسوتك، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأنه سائله عنها‏؟‏

ولم يقابلهم بما قال الوزير‏.‏

ولهذه النية لما ولي الخلافة كان بيت المال صفراً من المال، وكانت الأحوال فاسدة، والعرب تعيث في الأرض فساداً في كل جهة، فلم يزل برأيه وتسديده حتى كثرت الأموال وصلحت الأحوال في سائر الأقاليم والآفاق‏.‏

ومن شعره في جارية له توفيت فوجد عليها‏:‏

يا حبيباً لم يكن يع * دله عندي حبيب

أنت عن عيني بعيد * ومن القلب قريب

ليس لي بعدك في شي * ء من اللهو نصيب

لك من قلبي على قلبي * وإن غبت رقيب

وحياتي منك مذغب * ت حياة لا تطيب

لو تراني كيف لي بع * دك عول ونحيب

وفؤادي حشوه من * حرق الحزن لهيب

ما أرى نفسي وإن طي * بتها عنك تطيب

ليس دمع لي يعصي * ني وصبري ما يجيب

وقال فيها‏:‏ لم أبك للدار ولكن لمن * قد كان فيها مرة ساكنا

فخانني الدهر بفقدانه * وكنت من قبل له آمنا

ودعت صبري عنه تودعه * وبان قلبي معه ظاعنا

وكتب إليه ابن المعتز يعزيه ويسليه عن مصيبته فيها‏:‏

يا إمام الهدى حياتك طالت * وعشت أنت سليما

أنت علمتنا على النعم الشك * ر وعند المصائب التسليما

فتسلى عن ما مضى وكأن التي * كانت سروراً صارت ثواباً عظيما

قد رضينا بأن نموت وتحيى * إن عندي في ذاك حظاً جسيما

من يمت طائعاً لمولاه فقد * أعطي فوزاً ومات موتاً كريما

وقد رثى أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي بن عمر المعتضد بمرثاة حسنة يقول فيها‏:‏

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً * وأنت والد سوء تأكل الولدا

أستغفر الله بل ذا كله قدر * رضيت بالله رباً واحداً صمدا

يا ساكن القبر في غيراء مظلة * بالظاهرية مقصى الدار منفردا

أين الجيوش التي قد كنت تشحنها * أين الكنوز التي لم تحصها عددا

أين السرير الذي قد كنت تملؤه * مهابة من رأته عينه ارتعدا

‏أين القصور التي شيدتها فعلت * ولاح فيها سنا الإبريز فانقدا

قد أتعبوا كل مرقال مذكرة * وجناء تنثر من أشداقها الزبدا

أين الأعادي الألى ذللت صعبهم * أين الليوث التي صيرتها نقدا

أين الوفود على الأبواب عاكفة * ورد القطا صفر ما جال واطردا

أين الرجال قياماً في مراتبهم * من راح منهم ولم يطمر فقد سعدا

أين الجياد التي حجلتها بدم * وكن يحملن منك الضيغم الأسدا

أين الرماح التي غذيتها مَهجاً * مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا

أين السيوف وأين النبل مرسلة * يصبن من شئت من قرب وإن بعدا

أين المجانيق أمثال السيول إذا * رمين حائط حصن قائم قعدا

أين الفعال التي قد كنت تبدعها * ولا ترى أن عفواً نافعاً أبدا

أين الجنان التي تجري جداولها * ويستجيب إليها الطائر الغردا

أين الوصائف كالغزلان رائحة* يسحبن من حلل موشية جددا

أين الملاهي وأين الراح تحسبها * ياقوتة كسيت من فضة زردا

أين الوثوب إلى الأعداء مبتغياً * صلاح ملك بني العباس إذ فسدا

ما زلت تقسر منهم كل قسورة * وتحطم العاتي الجبار معتمدا

ثم انقضيت فلا عين ولا أثر * حتى كأنك يوماً لم تكن أحدا

لا شيء يبقى سوى خير تقدمه * ما دام ملك لإنسان ولا خَلدا

ذكرها ابن عساكر في تاريخه‏.‏

واجتمع ليلة عند المعتضد ندماؤه، فلما انقضى السمر وصار إلى حظاياه ونام القوم السمار، نبههم من نومهم خادم وقال‏:‏ يقول لكم أمير المؤمنين‏:‏ إنه أصابه أرق بعدكم، وقد عمل بيتاً أعياه ثانيه، فمن عمل ثانيه فله جائزة وهو هذا البيت‏:‏

ولما انتبهنا للخيال الذي سرى * إذا الدار قفر والمزار بعيد

قال‏:‏ فجلس القوم من فرشهم يفكرون في ثانيه، فبدر واحد منهم فقال‏:‏

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي * لعل خيالاً طارقاً سيعود

قال‏:‏ فلما رجع الخادم به إلى المعتضد، وقع منه موقعاً جيداً وأمر له بجائزة سنية، واستعظم المعتضد يوماً من بعض الشعراء قول الحسن بن منير المازني البصري‏:‏

لهفي على من أطار النوم فامتنعا * وزاد قلبي على أوجاعه وجعا‏

كأنما الشمس من أعطافه طلعت * حسناً أو البدر من أردانه لمعا

في وجه شافع يمحو إساءته * من القلوب وجيهاً أين ما شفعا

ولما كان في ربيع الأول من هذه السنة اشتد وجع المعتضد، فاجتمع رؤوس الأمراء مثل يونس الخادم وغيره إلى الوزير القاسم بن عبيد الله، فأشاروا بأن يجتمع الناس لتجديد البيعة للمكتفي بالله علي بن المعتضد بالله، ففعل ذلك وتأكدت البيعة وكان في ذلك خير كثير‏.‏

وحين حضرت المعتضد الوفاة أنشد لنفسه‏:‏

تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى * وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا

ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته * فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقا

قتلت صناديد الرجال فلم أدع * عدواً ولم أمهل على خلق خلقا

وأخليت دار الملك من كل نازع * فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزاً ورفعة * وصارت رقاب الخلق لي أجمع رقا

رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي * فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقى

ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد * لدى ملك إلا حباني حبها رفقا

وأفسدت دنياي وديني سفاهة * فمن ذا الذي مثلي بمصرعه أشقا

فياليت شعري بعد موتي هل أصر * إلى رحمة الله أم في ناره ألقى

وكانت وفاته ليلة الاثنين لثمان بقين من ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

ولم يبلغ الخمسين‏.‏

وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً‏.‏

وخلف من الأولاد الذكور‏:‏ علياً المكتفي، وجعفر المقتدر، وهارون‏.‏

ومن البنات إحدى عشرة بنتاً‏.‏

ويقال‏:‏ سبع عشرة بنتاً‏.‏

وترك في بيت المال سبعة عشر ألف ألف دينار‏.‏

وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها، فلهذا كان بعض الناس يبخله، ومن الناس من يجعله من الخلفاء الراشدين المذكورين في الحديث، حديث جابر بن سمرة فالله أعلم‏.‏

خلافة المكتفي بالله أبي محمد

علي بن المعتضد بالله أمير المؤمنين، بويع بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الأول من هذه السنة، وليس في الخلفاء من اسمه علي سوى هذا وعلي بن أبي طالب‏.‏

وليس فيهم من يكنى بأبي محمد إلا هو والحسن بن علي بن أبي طالب والهادي، والمستضيء بالله‏.‏

وحين ولي المكتفي كثرت الفتن وانتشرت في البلاد‏.‏

وفي رجب منها زلزلت الأرض زلزلة عظيمة جداً، وفي رمضان منها تساقط وقت السحر من السماء نجوم كثيرة، ولم يزل الأمر كذلك حتى طلعت الشمس‏.‏

ولما أفضت الخلافة إليه كان بالرقة، فكتب إليه الوزير وأعيان الأمراء فركب فدخل بغداد في يوم مشهود، وذلك يوم

الاثنين لثمان خلون من جمادى منها‏.‏

وفي هذا اليوم أمر بقتل عمرو بن الليث الصفار - وكان معتقلاً في سجن أبيه - وأمر بتخريب المطامير التي كان اتخذها أبوه للمسجونين، وأمر ببناء جامع مكانها، وخلع في هذا اليوم على الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان ست خلع وقلده سيفاً، وكان عمره يوم ولي الخلافة خمساً وعشرين سنة وبعض أشهر‏.‏

وفيها‏:‏ انتشرت القرامطة في الآفاق وقطعوا الطريق على الحجيج، وتسمى بعضهم بأمير المؤمنين‏.‏

فبعث المكتفي إليهم جيشاً كثيراً، وأنفق فيهم أموالاً جزيلة، فأطفأ الله بعض شرهم‏.‏

وفيها‏:‏ خرج محمد بن هارون عن طاعة إسماعيل بن أحمد الساماني، وكاتب أهل الري بعد قتله محمد بن زيد الطالبي، فصار إليهم فسلموا البلد إليه فاستحوذ عليها، فقصده إسماعيل بن أحمد الساماني بالجيوش فقهره وأخرجه منها مذموماً مدحوراً‏.‏

قال ابن الجوزي في المنتظم‏:‏ وفي يوم التاسع من ذي الحجة منها صلى الناس العصر في زمن الصيف وعليهم ثياب الصيف، فهبت ريح باردة جداً حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبسوا الفرا والمحشوات، وجمد الماء كفصل الشتاء‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ ووقع بمدينة حمص مثل ذلك، وهب ريح عاصف بالبصرة، فاقتلعت شيئاً كثيراً من نخيلها، وخسف بموضع فيها فمات تحته سبعة آلاف نسمة‏.‏

قال ابن الجوزي، وابن الأثير‏:‏ وزلزلت بغداد في رجب منها مرات متعددة ثم سكنت‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أحد الصوفية الكبار‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهو من أقران السري السقطي‏.‏

قال‏:‏ لأن ترد إلى الله ذرة من همك خير لك مما طلعت عليه الشمس‏.‏

أحمد بن محمد المعتضد بالله، غلب عليه سوء المزاج والجفاف من كثرة الجماع، وكان الأطباء يصفون له ما يرطب بدنه له فيستعمل ضد ذلك حتى سقطت قوته‏.‏

بدر غلام المعتضد رأس الجيش

كان القاسم الوزير قد عزم على أن يصرف الخلافة عن أولاد المعتضد، وفاوض بذلك بدراً هذا فامتنع عليه وأبى، فلما ولي المكتفي بن المعتضد خاف الوزير غائلة ذلك، فحسّن الوزير للمكتفي قتل بدر هذا، فبعث المكتفي فاحتاط على حواصله وأمواله وهو بواسط، وبعث الوزير إليه بالأمان، فلما قدم بدر بعث إليه من قتله يوم الجمعة لست خلون من رمضان من هذه السنة، ثم قطع رأسه وبقيت جثته أخذها أهله، فبعثوا بها إلى مكة في تابوت فدفن بها، لأنه أوصى بذلك وكان قد أعتق كل مملوك له قبل وفاته‏.‏

وحين أرادوا قتله صلى ركعتين رحمه الله‏.‏

الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الفهم بن مجرز بن إبراهيم الحافظ البغدادي، سمع خلف بن هشام ويحيى بن معين ومحمد بن سعد وغيرهم، وعنه الحنطبي والطوماري، وكان عسراً في التحديث إلا لمن لازمه، وكانت له معرفة جيدة بالأخبار والنسب والشعر وأسماء الرجال، يميل إلى مذهب العراقيين في الفقه، قال عنه الدارقطني‏:‏ ليس بالقوي‏.‏

عمارة بن وثيمة بن موسى أبو رفاعة الفارسي، صاحب التاريخ على السنن، ولد بمصر وحدث عن أبي صالح كاتب الليث وغيره‏.‏

عمرو بن الليث الصفار أحد الأمراء الكبار، قتل في السجن أول ما قدم المكتفي بغداد‏.‏

 ثم دخلت سنة تسعين ومائتين

فيها أقبل يحيى بن زكرويه بن مهرويه أبو قاسم القرمطي المعروف بالشيخ في جحافله، فعاث بناحية الرقة فساداً فجهز إليه الخليفة جيشاً نحو عشرة آلاف فارس‏.‏

وفيها‏:‏ ركب الخليفة من بغداد إلى سامرا يريد الإقامة بها، فثنى رأيه عن ذلك الوزير فرجع إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل يحيى بن زكرويه على باب دمشق، زرقه رجل من المغاربة بمزراق نار فقتله، ففرح الناس بقتله، وتمكن منه المزراق فأحرقه، وكان هذا المغربي من جملة جيش المصريين، فقام بأمر القرامطة من بعده أخوه الحسين وتسمى بأحمد، وتكنى بأبي العباس، وتلقب بأمير المؤمنين، وأطاعه القرامطة، فحاصر دمشق فصالحه أهلها على مال، ثم سار إلى حمص فافتتحها وخطب له على منابرها، ثم سار إلى حماه ومعرة النعمان فقهر أهل تلك النواحي، واستباح أموالهم وحريمهم، وكان يقتل الدواب والصبيان في المكاتب، ويبيح لمن معه وطء النساء، فربما وطئ الواحدة الجماعة الكثيرة من الرجال، فإذا ولدت ولدا هنأ به كل واحد منهم الآخر، فكتب أهل الشام إلى الخليفة ما يلقون من هذا اللعين، فجهز إليهم جيوشاً كثيفة، وأنفق فيهم أموالاً جزيلة، وركب في رمضان فنزل الرقة وبث الجيوش في كل جانب لقتال القرامطة، وكان القرمطي هذا يكتب إلى أصحابه‏:‏ ‏(‏من عبد الله المهدي أحمد بن عبد الله المهدي المنصور، الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، ‏ الذاب عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله‏)‏ وكان يدعي أنه من سلالة علي بن أبي طالب من فاطمة، وهو كاذب أفاك أثيم قبحه الله، فإنه كان من أشد الناس عداوة لقريش، ثم لبني هاشم، دخل سلمية فلم يدع بها أحداً من بني هاشم حتى قتلهم وقتل أولادهم واستباح حريمهم‏.‏

وفيها‏:‏ تولى ثغر طرسوس أبو عامر أحمد بن نصر عوضاً عن مظفر بن جناح لشكوى أهل الثغر منه‏.‏

وحج بالناس الفضل بن محمد العباسي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل

أبو عبد الرحمن الشيباني، كان إماماً ثقة حافظاً ثبتاً مكثراً عن أبيه وغيره‏.‏

قال ابن المنادي‏:‏ لم يكن أحد أروى عن أبيه منه‏.‏

روى عنه المسند ثلاثين ألفاً، والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفاً، من ذلك سماع ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله، والتاريخ وحديث سبعة، وكرامات القراء، والمناسك الكبير، والصغير‏.‏

وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخ‏.‏

قال‏:‏ وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك، حتى أن بعضهم أرف في تقريظه له بالمعرفة وزيادة السماع للحديث عن أبيه‏.‏

ولما مرض قيل له‏:‏ أين تدفن‏؟‏

فقال‏:‏ صح عندي أن بالقطعية نبياً مدفوناً، ولأن أكون بجوار نبي أحب إلي من أن أكون في جوار أبي‏.‏

مات في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلق كثير من الناس، وصلى عليه زهير ابن أخيه، ودفن في مقابر باب التين رحمه الله تعالى‏.‏

عبد الله بن أحمد بن سعيد أبو بحر الرباطي المروزي، صحب أبا تراب النخشبي، وكان الجنيد يمدحه ويثني عليه‏.‏

عمر بن إبراهيم أبو بكر الحافظ المعروف بأبي الأذان، كان ثقة ثبتاً‏.‏

محمد بن الحسين بن الفرج أبو ميسرة الهمداني، صاحب المسند، كان أحد الثقات المشهورين والمصنفين‏.‏

محمد بن عبد الله أبو بكر الدقاق

أحد أئمة الصوفية وعبادهم، روى عن الجنيد أنه قال‏:‏ رأيت إبليس في المنام وكأنه عريان، فقلت‏:‏ ألا تستحي من الناس‏؟‏

فقال - وهو لا يظنهم ناساً -‏:‏ لو كانوا ناساً ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة، إنما الناس جماعة غير هؤلاء‏.‏

فقلت‏:‏ أين هم‏؟‏

فقال‏:‏ في مسجد الشونيزي، قد أضنوا قلبي وأتعبوا جسدي، كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز وجل فأكاد أحترق‏.‏ ‏

قال‏:‏ فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر، فإذا فيه ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقعاتهم، فرفع أحدهم رأسه إليّ وقال‏:‏ يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث، وأنت كلما قيل لك شيء تقبل‏؟‏

فإذا هم أبو بكر الدقاق، وأبو الحسين النوري، وأبو حمزة محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الجرجاني الفقيه الشافعي تلميذ المزني‏.‏

ذكره ابن الأثير‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين

فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة، فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه، ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤوسهم وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وجيء بأصحابه فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جعل في فمه خشبة معترضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوي، ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به في أرجاء بغداد، وذلك في ربيع الأول منها‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت الأتراك بلاد ما وراء النهر في حجافل عظيمة، فبيتهم المسلمون فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وسبوا منهم ما لا يحصون ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وفيها‏:‏ بعث ملك الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف، فغاروا على أطراف البلاد وقتلوا خلقاً وسبوا نساء وذرية‏.‏

وفيها‏:‏ دخل نائب طرسوس بلاد الروم، ففتح مدينة أنطاكية - وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر تعادل عندهم القسطنطينية - وخلّص من أسارى المسلمين خمسة آلاف أسير، وأخذ للروم ستين مركباً، وغنم شيئاً كثيراً، فبلغ نصيب كل واحد من الغزاة ألف دينار‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار

أبو العباس الشيباني مولاهم، الملقب بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، مولده في سنة مائتين، سمع محمد بن زياد الأعرابي والزبير بن بكار والقواريري وغيرهم، وعنه ابن الأنباري وابن عرفة وأبو عمرو الزاهد، وكان ثقة حجة ديناً صالحاً مشهوراً بالصدق والحفظ، وذكر أنه سمع من القواريري مائة ألف حديث‏.‏

توفي يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى منها، عن إحدى وتسعين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه، وكان قد أصابه صمم شديد فصدمته فرس، فألقته في هوة فاضطرب دماغه فمات في اليوم الثاني رحمه الله‏.‏ ‏

وهو مصنف كتاب ‏(‏الفصيح‏)‏، وهو صغير الحجم كثير الفائدة، وله كتاب ‏(‏المصون‏)‏ و‏(‏اختلاف النحويين‏)‏ و‏(‏معاني القرآن‏)‏ وكتاب ‏(‏القراءات‏)‏ و‏(‏معاني الشعر وما يلحن فيه العامة‏)‏ وغير ذلك، وقد نسب إليه من الشعر قوله‏:‏

إذا كنت قوتَ النفس ثم هجرتها * فكم تلبث النفس التي أنت قوتها

سيبقى بقاء النبت في الماء أو كما * أقام لدى ديمومة الماء صوتها

أغرك أني قد تصبرت جاهداً * وفي النفس مني منك ما سيميتها

فلو كان ما بي بالصخور لهدها * وبالريح ما هبت وطال حفوفها

فصبراً لعل الله يجمع بيننا * فأشكو هموماً منك فيك لقيتها

وفيها‏:‏ توفي القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير، تولى بعد أبيه الوزارة في آخر أيام المعتضد، ثم تولى لولده المكتفي، فلما كان رمضان من هذه السنة مرض فبعث إلى السجون فأطلق من فيها من المطلبيين، ثم توفي في ذي القعدة منها، وقد قارب ثلاثاً وثلاثين سنة، وقد كان حظياً عند الخليفة، وخلف من الأموال ما يعدل سبعمائة ألف دينار‏.‏

ومحمد بن محمد بن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله البصري القاضي بواسط، المعروف بالجبروعي، حدث عن مسدد وعن علي بن المديني وابن نمير وغيرهم، وكان من الثقات والقضاة الأجواد العدول الأمناء‏.‏

ومحمد بن إبراهيم البوشنجي‏.‏

ومحمد بن علي الصايغ‏.‏

وقنبل أحد مشاهير القراء، وأئمة العلماء‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ دخل محمد بن سليمان في نحو عشرة آلاف مقاتل من جهة الخليفة المكتفي إلى الديار المصرية لقتال هارون بن خمارويه، فبرز إليه هارون فاقتتلا فقهره محمد بن سليمان، وجمع آل طولون وكانوا سبعة عشر رجلاً فقتلهم واستحوذ على أموالهم وأملاكهم‏.‏

وانقضت دولة الطولونية على الديار المصرية، وكتب بالفتح إلى المكتفي‏.‏

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي، القائم بأمر الحجاج في السنين المتقدمة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي

أحد المشايخ المعمرين، كان يحضر مجلسه خمسون ألفاً ممن معه محبرة سوى النظارة، ويستملي عليه سبعة مستملين كل يبلغ صاحبه، ويكتب بعض الناس وهم قيام، وكان كلما حدث بعشرة آلاف حديث تصدق بصدقة، ولما فرغ من قراءة السنن عليه عمل مأدبة غرم عليها ألف دينار، وقال‏:‏ شهدت اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلت شهادتي وحدي، أفلا أعمل شكراً لله عز وجل‏؟‏

وروى ابن الجوزي والخطيب عن أبي مسلم الكجي قال‏:‏ خرجت ذات ليلة من المنزل، فمررت بحمام وعلي جنابة فدخلته فقلت للحمّامي‏:‏ أدخل حمامك أحد بعد‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

فدخلت فلما فتحت باب الحمام الداخل إذا قائل يقول‏:‏ أبا مسلم أسلم تسلم‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

لك الحمد إما على نعمة * وإما على نقمة تدفع

تشاء فتفعل ما شئته * وتسمع من حيث لا يسمع

قال‏:‏ فبادرت فخرجت فقلت للحمامي‏:‏ أنت زعمت أنه لم يدخل حمامك أحد‏.‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏ وما ذاك‏؟‏

فقلت‏:‏ إني سمعت قائلاً يقول كذا وكذا‏.‏

قال‏:‏ وسمعته‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي هذا رجل من الجان يتبدى لنا في بعض الأحيان فينشد الأشعار ويتكلم بكلام حسن فيه مواعظ‏.‏

فقلت‏:‏ هل حفظت من شعره شيئاً‏؟‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

ثم أنشدني من شعره فقال هذه الأبيات‏:‏

أيها المذنب المفرط مهلاً * كم تمادى تكسب الذنب جهلا

كم وكم تسخط الجليل بفعل * سمج وهو يحسن الصنع فعلا

كيف تهدا جفون من ليس يدري * أرضيَ عنه من على العرش أم لا

عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حاتم القاضي الحنفي، كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء ومن أئمة العلماء، ورعاً نزهاً كثير الصيانة والديانة والأمانة‏.‏

وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم آثارا حسنة وأفعالاً جميلة رحمه الله‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ التف على أخي الحسين القرمطي المعروف بذي الشامة الذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بطريق الفرات، فعاث بهم في الأرض فساداً، ثم قصد طبرية فامتنعوا منه فدخلها قهراً، فقتل بها خلقاً كثيراً من الرجال، وأخذ شيئاً كثيراً من الأموال، ثم كرّ راجعاً إلى البادية، ودخلت فرقة أخرى منهم إلى هيت فقتلوا أهلها إلا القليل، وأخذوا منها أموالاً جزيلة حملوها على ثلاثة آلاف بعير، فبعث إليهم المكتفي جيشاً فقاتلوهم وأخذوا رئيسهم فضربت عنقه‏.‏

ونبغ رجل من القرامطة يقال له‏:‏ الداعية باليمن، فحاصر صنعاء فدخلها قهراً، وقتل خلقاً من أهلها، ثم سار إلى بقية مدن اليمن فأكثر الفساد وقتل خلقاً من العباد، ثم قاتله أهل صنعاء فظفروا به وهزموه، فأغار على بعض مدنها، وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائباً، فسار إليها فلم يزل بها حتى مات‏.‏

وفي يوم عيد الأضحى دخلت طائفة من القرامطة إلى الكوفة فنادوا‏:‏ يا ثارات الحسين - يعنون المصلوب في التي قبلها ببغداد - وشعارهم‏:‏ يا أحمد يا محمد - يعنون الذين قتلوا معه - فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلاً، ورجع الباقون خاسئين‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر رجل بمصر يقال له‏:‏ الخليجي، فخلع الطاعة واجتمع إليه طائفة من الجند، فأمر الخليفة أحمد بن كنغلغ نائب دمشق وأعمالها فركب إليه فاقتتلا بظاهر مصر فهزمه الخليجي هزيمة منكرة، فبعث إليه الخليفة جيشاً آخر فهزموا الخليجي وأخذوه، فسلم إلى الأمير الخليفة وانطفأ خبره، واشتغل الجيش بأمر الديار المصرية، فبعث القرامطة جيشاً إلى بصرى صحبة رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن سعيد، كان يعلم الصبيان، فقصد بصرى وأذرعات والبثنية فحاربه أهلها ثم أمنهم فلما أن تمكن منهم قتل المقاتلة وسبى الذرية، ورام الدخول إلى دمشق فحاربه نائب دمشق أحمد بن كنغلغ، وهو صالح بن الفضل، فهزمه القرمطي وقتل صالح فيمن قتل وحاصر دمشق فلم يمكنه فتحها، فانصرف إلى طبرية فقتلوا أكثر أهلها ونهبوا منها شيئاً كثيراً كما ذكرنا‏.‏

ثم ساروا إلى هيت ففعلوا بها ذلك كما تقدم، ثم ساروا إلى الكوفة في يوم عيد الأضحى كما ذكرنا‏.‏

كل ذلك بإشارة زكرويه بن مهرويه وهو مختف في بلده بين ظهراني قوم من القرامطة، فإذا جاءه الطلب نزل بئراً قد اتخذها ليختفي فيها، وعلى بابه تنور فتقوم امرأة فتسجره وتخبز فيه فلا يشعر به أصلاً، ولا يدري أحد أين هو، فبعث الخليفة إليه جيشاً فقاتلهم زكرويه بنفسه ومن أطاعه فهزم جيش الخليفة، وغنم من أموالهم شيئاً كثيراً جداً فتقوى به، واشتد أمره، فندب الخليفة إليه جيشاً آخر كثيفاً فكان من أمره وأمرهم ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ خرب إسماعيل بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر طائفة كبيرة من بلاد الأتراك‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على بعض أعمال حلب، فقتلوا ونهبوا وسبوا‏.‏

وفيها حج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أبو العباس الناشي الشاعر

واسمه عبد الله بن محمد أبو العباس المعتزلي، أصله من الأنبار وأقام ببغداد مدة ثم انتقل إلى مصر فمات بها، وكان جيد الذهن يعاكس الشعراء ويرد على المنطقيين والفروضيين، وكان شاعراً مطيقاً إلا أنه كان فيه هوس، وله قصيدة حسنة في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرناها في السيرة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان عالماً في عدة علوم، من جملتها علم المنطق، وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وله عدة تصانيف وأشعار كثيرة‏.‏

عبيد بن محمد بن خلف أبو محمد البزار أحد الفقهاء من أصحاب أبي ثور، وكان عنده فقه أبي ثور، وكان من الثقات النبلاء‏.‏

نصر بن أحمد بن عبد العزيز أبو محمد الكندي الحافظ المعروف بنصرك، كان أحد حفاظ الحديث المشهورين، وكان الأمير خالد بن أحمد الذهلي نائب بخارى قد ضمه إليه وصنف له المسند‏.‏

توفي ببخارى في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين

في المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الحجاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم، وأخذ أموالهم وسبى نساءهم فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار، وعدة من قتل عشرين ألف إنسان، وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج وفي أيديهم الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه، لعنهن الله ولعن أزواجهن‏.‏

ذكر مقتل زكرويه لعنه الله

لما بلغ الخليفة خبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث، جهز إليه جيشاً كثيفاً، فالتقوا معه فاقتتلوا قتالاً شديداً جداً، قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك في أول ربيع الأول منها‏.‏

وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه، وأخذ أسيراً فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بطنه وصّبروه وحملوه في جماعة من رؤوس أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل، وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي وأن يطاف برأسه في سائر بلاد خراسان، لئلا يمتنع الناس عن الحج‏.‏ ‏

وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسروهم‏.‏

وفيها‏:‏ غزا أحمد بن كنغلغ نائب دمشق بلاد الروم من ناحية طرسوس، فقتل منهم نحواً من أربعة آلاف، وأسر من ذراريهم نحواً من خمسين ألفاً، وأسلم بعض البطارقة وصحبته ونحو من مائتي أسير كانوا في حبسه من المسلمين، فأرسل ملك الروم جيشاً في طلب ذلك البطريق، فركب في جماعة من المسلمين فكبس جيش الروم فقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم غنيمة كثيرة جداً، ولما قدم على الخليفة أكرمه وأحسن إليه وأعطاه ما تمناه عليه‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر بالشام رجل فادعى أنه السفياني، فأخذ وبعث به إلى بغداد فادعى أنه موسوس فترك‏.‏

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ الحسين بن محمد بن حاتم بن يزيد بن علي بن مروان أبو علي، المعروف بعبيد العجلي، كان حافظاً مكثراً متقناً مقدماً في حفظ المسندات، توفي في صفر منها‏.‏

صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي الأسدي - أسد خزيمة - المعروف بجزرة لأنه قرأ على بعض المشايخ كانت له خرزة يرقأ بها المريض، فقرأها هو جزرة تصحيفاً منه فغلب عليه ذلك فلقب به، وقد كان حافظاً مكثراً جوّالاً رحالاً طاف الشام ومصر وخراسان، وسكن بغداد ثم انتقل منها إلى بخارى فسكنها، وكان ثقة صدوقاً أميناً، وله رواية كثيرة عن يحيى بن معين وسؤالات كثيرة، كان مولده بالرقة سنة عشر ومائتين‏.‏

وتوفي في هذه السنة‏:‏ محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف بالبياضي لأنه حضر مجلس الخليفة وعليه ثياب البياض، فقال الخليفة‏:‏ من ذاك البياضي‏؟‏

فعُرف به‏.‏

وكان ثقة روى عن ابن الأنباري وابن مقسم‏.‏

قتله القرامطة في هذه السنة‏.‏

محمد بن الإمام إسحاق بن راهويه، سمع أباه وأحمد بن حنبل وغيرهما، وكان عالماً بالفقه والحديث، جميل الطريقة حميد السيرة قتلته القرامطة في هذه السنة في جملة من قتلوا من الحجيج‏.‏

محمد بن نصر أبو عبد الله المروزي

ولد ببغداد ونشأ بنيسابور واستوطن سمرقند، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام، وكان عالماً بالأحكام، وقد رحل إلى الآفاق وسمع من المشايخ الكثير النافع وصنف الكتب المفيدة الحافلة النافعة، ‏‏ وكان من أحسن الناس صلاة وأكثرهم خشوعاً فيها، وقد صنف كتاباً عظيماً في الصلاة‏.‏

وقد روى الخطيب عنه أنه قال‏:‏ خرجت من مصر قاصداً مكة، فركبت البحر ومعي جارية فغرقت السفينة فذهب لي في الماء ألفا جزء وسلمت أنا والجارية فلجأنا إلى جزيرة فطلبنا بها ماء فلم نجد، فوضعت رأسي على فخذ الجارية ويئست من الحياة، فبينا أنا كذلك إذا رجل قد أقبل وفي يده كوز فقال‏:‏ هاه، فأخذته فشربت منه وسقيت الجارية ثم ذهب فلم أدر من أين أقبل ولا إلى أين ذهب‏.‏

ثم إن الله سبحانه أغاثنا فنجانا من ذلك الغم‏.‏

وقد كان من أكرم الناس وأسخاهم نفساً‏.‏

وكان إسماعيل بن أحمد يصله في كل سنة بأربعة آلاف، ويصله أخوه إسحاق بن أحمد بأربعة آلاف، ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف فينفق ذلك كله، فقيل له‏:‏ لو ادخرت شيئاً لنائبة‏.‏

فقال‏:‏ سبحان الله أنا كنت بمصر أنفق فيها في كل سنة عشرين درهماً فرأيت إذا لم يحصل لي شيء من هذا المال لا يتهيأ لي في السنة عشرون درهماً‏.‏

وكان محمد بن نصر المروزي إذا دخل على إسماعيل بن أحمد الساماني ينهض له ويكرمه، فعاتبه يوماً أخوه إسحاق، فقال له‏:‏ تقوم لرجل في مجلس حكمك، وأنت ملك خراسان‏؟‏

قال إسماعيل‏:‏ فبت تلك الليلة وأنا مشتت القلب من قول أخي - وكانوا هم ملوك خراسان وما وراء النهر - قال‏:‏ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول‏:‏ يا إسماعيل ثبت ملكك وملك بنيك بتعظيمك محمد بن نصر، وذهب ملك أخيك باستخفافه بمحمد بن نصر‏.‏ وقد اجتمع بالديار المصرية محمد بن نصر‏.‏

ومحمد بن جرير الطبري‏.‏

ومحمد بن المنذر، فجلسوا في بيت يكتبون الحديث ولم يكن عندهم في ذلك اليوم شيء يقتاتونه، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يخرج يسعى لهم في شيء يأكلونه، فوقعت القرعة على محمد بن نصر هذا، فقام إلى الصلاة فجعل يصلي ويدعو الله عز وجل، وذلك وقت القائلة، فرأى نائب مصر - وهو طولون وقيل‏:‏ أحمد بن طولون - في منامه في ذلك الوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له‏:‏

أدرك المحدثين فإنهم ليس عندهم ما يقتاتونه‏.‏

فانتبه من ساعته فسأل من‏:‏ ها هنا من المحدثين‏؟‏

فذكر له هؤلاء الثلاثة، فأرسل إليهم في الساعة الراهنة بألف دينار، فدخل الرسول بها عليهم وأزال الله ضررهم ويسر أمرهم‏.‏

واشترى طولون تلك الدار وبناها مسجداً وجعلها على أهل الحديث، وأوقف عليها أوقافاً جزيلة‏.‏

وقد بلغ محمد بن نصر سناً عالية وكان يسأل الله ولداً فأتاه يوماً إنسان فبشره بولد ذكر، فرفع يديه فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، فاستفاد الحاضرون من ذلك عدة فوائد‏:‏ منها أنه قد ولد له على الكبر ولد ذكر بعد ما كان يسأل الله عز وجل، ومنها أنه سمي يوم مولده كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولده إبراهيم يوم مولده قبل السابع، ومنها اقتداؤه بالخليل أول ولد له إسماعيل‏.‏

موسى بن هارون بن عبد الله أبو عمران المعروف والده بالحمال، ولد سنة أربع عشرة ومائتين، وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وكان إمام عصره في حفظ الحديث ومعرفة الرجال، وكان ثقة متقناً شديد الورع عظيم الهيبة، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري‏:‏ كان أحسن الناس كلاماً على الحديث، أثنى عليه علي بن المديني ثم موسى بن هارون ثم الدارقطني‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ كانت المفاداة بين المسلمين والروم، وكان من جملة من استنقذ من أيدي الروم من نساء ورجال نحواً من ثلاثة آلاف نسمة، وفي المنتصف من صفر منها كانت وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني أمير خراسان وما وراء النهر، وقد كان عاقلاً عادلاً حسن السيرة في رعيته حليماً كريماً‏.‏

وهو الذي كان يحسن إلى محمد بن نصر المروزي ويعظمه ويكرمه ويحترمه ويقوم له في مجلس ملكه، فلما مات تولى بعده ولده أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني وبعث إليه الخليفة تشريفة‏.‏

وقد ذكر الناس يوماً عند إسماعيل بن أحمد هذا الفخر بالأنساب فقال‏:‏ إنما الفخر بالأعمال وينبغي أن يكون الإنسان عصامياً لا عظامياً - أي ينبغي أن يفتخر بنفسه لا بنسبه وبلده وجده - كما قال بعضهم‏:‏ ‏(‏وبجدِّي سموت لا بجدودي‏)‏‏.‏

وقال آخر‏:‏

حسبي فخاراً وشيمتي أدبي * ولست من هاشم ولا العرب

إنّ الفتى من يقولُ ها أنا ذا * وليس الفتى من يقولُ كانَ أبي

وفي ذي القعدة منها كانت وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد‏.‏

وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد ابن المعتضد

وهذه ترجمته وذكر وفاته، وهو أمير المؤمنين المكتفي بالله بن المعتضد بن الأمير أبي أحمد الموفق بن المتوكل على الله، وقد ذكرنا أنه ليس من الخلفاء من اسمه علي سواه بعد علي بن أبي طالب، وليس من الخلفاء من يكنى بأبي محمد سوى الحسن بن علي بن أبي طالب وهو، وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أبيه وفي حياته يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وعمره نحواً من خمس وعشرين سنة، وكان ربعة من الرجال جميلاً رقيق الوجه حسن الشعر، وافر اللحية عريضها‏.‏

ولما مات أبوه المعتضد وولي هو الخلافة دخل عليه بعض الشعراء فأنشده‏:‏

أجلُ الرزايا أن يموتَ إمام * وأسنى العطايا أن يقومَ إمامُ

فأسقى الذي مات الغمام وجوده * ودامت تحيات له وسلامُ‏.‏

وأبقى الذي قامَ الآله وزاده * مواهبُ لا يفنى لهنَّ دوام

وتمت له الآمالُ واتصلت بها * فوائد موصول بهنَّ تمتم

هو المكتفي بالله يكفيه كلما * عناهُ بركنٍ منه ليسَ برام

‏‏ فأمر له بجائزة سنية وقد كان يقول الشعر، فمن ذلك قوله‏:‏

من لي بأن أعلم ما ألقى * فتعرف مني الصبابة والعشقا

ما زال لي عبداً وحبي له * صيرني عبداً له رقا

العتق من شأني ولكنني * من حبِّه لا أملكُ العتقا

وكان نقش خاتمه‏:‏ علي المتوكل على ربه‏.‏

وكان له من الولد محمد وجعفر وعبد الصمد وموسى و عبد الله وهارون والفضل وعيسى والعباس وعبد الملك‏.‏

وفي أيامه فتحت أنطاكية وكان فيها من أسارى المسلمين بشر كثير وجم غفير، ولما حضرته الوفاة سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر بن المعتضد وقد صح عنده أنه بالغ، فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة منها وأحضر القضاة وأشهدهم على نفسه بأنه قد فوض أمر الخلافة إليه من بعده، ولقبه بالمقتدر بالله‏.‏

وتوفي بعد ثلاثة أيام وقيل‏:‏ آخر يوم السبت بعد المغرب، وقيل‏:‏ بين الظهر والعصر، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، ودفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، عن ثنتين وقيل‏:‏ ثلاث وثلاثين سنة، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً‏.‏

وأوصى بصدقة من خالص ماله ستمائة ألف دينار، وكان قد جمعها وهو صغير، وكان مرضه بداء الخنازير رحمه الله‏.‏