الجزء الحادي عشر - خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد

خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد

جددت له البيعة بعد موت أخيه وقت السحر لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة من هذه السنة - أعني سنة خمس وتسعين ومائتين - وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وإحدى وعشرون يوماً، ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر منه، ولما جلس في منصب الخلافة صلى أربع ركعات ثم سلم ورفع صوته بالدعاء والاستخارة، ثم بايعه الناس بيعة العامة، وكتب اسمه على الرقوم وغيرها‏:‏ المقتدر بالله، وكان في بيت مال الخاصة خمسة عشر ألف ألف دينار، وفي بيت مال العامة ستمائة ألف دينار ونيف، وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بني أمية وأيام بني العباس قد تناهى جمعها، فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفذها، وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة، وقد استوزر جماعة من الكتاب يكثر تعدادهم، منهم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، ولاّه ثم عزله بغيره، ثم أعاده ثم عزله ثم قتله، وقد استقصى ذكرهم ابن الجوزي‏.‏

وكان له من الخدم والحشمة التامة والحجّاب شيء كثير جداً، وكان كريماً وفيه عبادة مع هذا كله كان كثير الصلاة كثير الصيام تطوعاً، وفي يوم عرفة في أول ولايته فرق من الأغنام والأبقار ثلاثين ألف رأس، ومن الإبل ألفي بعير، وردّ الرسوم والأرزاق والكلف إلى ما كانت عليه في زمن الأوائل من بني العباس، وأطلق أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، فوكل أمر ذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وكان قد بنيت له أبنية في الرحبة صرف عليها في كل شهر ألف دينار، فأمر بهدمها ليوسع على المسلمين الطرقات، وسيأتي ذكر شيء من أيامه في ترجمته‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو إسحاق المزكي

إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه بن عبد الله أبو إسحاق المزكي، الحافظ الزاهد، إمام أهل عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرجال والعلل، وقد سمع خلقاً من المشايخ الكبار، ودخل على الإمام أحمد وذاكره، وكان مجلسه مهيباً ويقال‏:‏ إنه كان مجاب الدعوة، وكان لا يملك الإداره التي يسكنها وحانوتاً يستغله كل شهر سبعة عشر درهماً ينفقها على نفسه وعياله، وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وكان يطبخ له الجزر بالخل فيأتدم به طول الشتاء، وقد قال أبو علي الحسين بن علي الحافظ‏:‏ لم ترَ عيناي مثله‏.‏

 أبو الحسين النوري أحد أئمة الصوفية

اسمه أحمد بن محمد، ويقال‏:‏ محمد بن محمد، والأول أصح ويعرف بابن البغوي، أصله من خراسان وحدّث عن سرى السقطي ثم صار هو من أكابر أئمة القوم، قال أبو أحمد المغازلي‏:‏ ما رأيت أحداً قط أعبد من أبي الحسين النوري، قيل له‏:‏ ولا الجنيد‏؟‏

قال‏:‏ ولا الجنيد ولا غيره‏.‏

وقال غيره‏:‏ صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لا من أهله ولا من غيره‏.‏

وتوفي في مسجد وهو مقنّع فلم يعلم به أحد إلا بعد أربعة أيام‏.‏

 إسماعيل بن أحمد بن سامان

أحد ملوك خراسان وهو الذي قتل عمرو بن الليث الصفار الخارجي، وكتب بذلك إلى المعتضد فولاّه خراسان ثم ولاّه المكتفي الري وما وراء النهر وبلاد الترك، وقد غزا بلادهم وأوقع بهم بأساً شديداً، وبنى الربط في الطرقات يسع الرباط منها ألف فارس، وأوقف عليهم أوقافاً جزيلة، وقد أهدى إليه طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث هدايا جزيلة منها ثلاث عشرة جوهرة زنة كل جوهرة منها ما بين السبع مثاقيل إلى العشرة، وبعضها أحمر وبعضها أزرق قيمتها مائة ألف دينار، فبعث بها إلى الخليفة المعتضد وشفع في طاهر فشفعه فيه‏.‏

ولما مات إسماعيل بن أحمد وبلغ المكتفي موته تمثّل بقول أبي نواس‏:‏

لن يخلفَ الدهر مثلهم أبداً * هيهاتِ هيهاتِ شأنهُ عجبُ

 المعمري الحافظ

صاحب عمل اليوم والليلة، وهو الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري الحافظ، رحل وسمع من الشيوخ وأدرك خلقاً منهم علي بن المديني ويحيى بن معين، وعنه ابن صاعد والنجاد والجلدي، وكان من بحور العلم وحفاظ الحديث، صدوقاً ثبتاً، وقد كان يشبك أسنانه بالذهب من الكبر، لأنه جاوز الثمانين، وكان يكنى أولاً بأبي القاسم، ثم بأبي علي، وقد ولي القضاء للبرتي على القصر وأعمالها وإنما قيل له المعمري بأمه أم الحسن بنت أبي سفيان صاحب معمر بن راشد‏.‏

وقد صنف المعمري كتاباً جيداً في عمل يوم وليلة، واسمه الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري، توفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم‏.‏

عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب واسم أبي شعيب عبد الله بن مسلم أبو شعيب الأموي الحرَّاني المؤدب المحدث ابن المحدث، تولد سنة ست وثمانين ومائتين، سمع أباه وجده وعفان بن مسلم وأبا خيثمة، كان صدوقاً ثقة مأموناً، توفي في ذي الحجة منها‏.‏

علي بن أحمد المكتفي بالله تقدم ذكره‏.‏

أبو جعفر الترمذي محمد بن محمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الفقيه الشافعي، كان من أهل العلم والزهد، ووثقه الدارقطني، كان مأموناً ناسكاً‏.‏

وقال القاضي أحمد بن كامل‏:‏ لم يكن لأصحاب الشافعي بالعراق أرأس منه، ولا أورع‏:‏ كان متقللاً في المطعم على حالة عظيمة فقراً وورعاً وصبراً، وكان ينفق في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحداً شيئاً، وكان قد اختلط في آخر عمره، توفي في المحرم منها‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين

في ربيع الأول منها اجتمع جماعة من القواد والجند والأمراء على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز الخلافة، فأجابهم على أنه لا يُسفك بسببه دم، وكان المقتدر قد خرج يلعب بالصولجان فقصد إليه الحسين بن حمدان يريد أن يفتك به، فلما سمع المقتدر الصيحة بادر إلى دار الخلافة فأغلقها دون الجيش، واجتمع الأمراء والأعيان والقضاة في دار المخرمي، فبايعوا عبد الله بن المعتز، وخوطب بالخلافة ولقب بالمرتضى بالله‏.‏

وقال الصولي‏:‏ إنما لقبوه المنتصف بالله، واستوزر أبا عبيد الله محمد بن داود، وبعث إلى المقتدر يأمره بالتحول من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر لينتقل إليها، فأجابه بالسمع والطاعة، فركب الحسين بن حمدان من الغد إلى دار الخلافة ليتسلمها، فقاتله الخدم ومن فيها، ولم يسلموها إليه، وهزموه فلم يقدر على تخليص أهله وماله إلا بالجهد‏.‏

ثم ارتحل من فوره إلى الموصل، وتفرق نظام ابن المعتز وجماعته فأراد ابن المعتز أن يتحول إلى سامرا لينزلها، فلم يتبعه أحد من الأمراء، فدخل دار ابن الجصاص فاستجار به فأجاره، ووقع النهب في البلد واختبط الناس وبعث المقتدر إلى أصحاب ابن المعتز فقبض عليهم وقتل أكثرهم وأعاد ابن الفرات إلى الوزارة، فجدد البيعة إلى المقتدر، وأرسل إلى دار ابن الجصاص فتسلمها‏.‏

وأحضر ابن المعتز وابن الجصاص فصادر ابن الجصاص بمال جزيل جداً، نحو ستة عشر ألف ألف درهم ثم أطلقه، واعتقل ابن المعتز، فلما دخل في ربيع الآخر ليلتان ظهر للناس موته وأخرجت جثته فسلمت إلى أهله فدفن، وصفح المقتدر عن بقية من سعى في هذه الفتنة حتى لا تفسد نيات الناس‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ولا يعرف خليفة خلع ثم أعيد إلا الأمين والمقتدر‏.‏

وفي يوم السبت لأربع بقين من ربيع الأول سقط ببغداد ثلج عظيم، حتى اجتمع على الأسطحة منه نحو أربعة أصابع، وهذا غريب في بغداد جداً، ولم تخرج السنة حتى خرج الناس يستسقون لأجل تأخر المطر عن إبانة‏.‏

وفي شعبان منها خلع على مونس الخادم، وأمر بالمسير إلى طرسوس لأجل غزو الروم‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ أمر المقتدر بأن لا يستخدم أحد من اليهود والنصارى في الدواوين، وألزموا بلزومهم بيوتهم، وأن يلبسوا المساحي ويضعوا بين أكتافهم رقاعاً ليعرفوا بها، وألزموا بالذلِّ حيث كانوا‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل ابن عبد الملك الهاشمي، ورجع كثير من الناس من قلة الماء بالطريق‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن محمد بن زكريا بن أبي عتاب أبو بكر البغدادي الحافظ، ويعرف بأخي ميمون‏.‏

روى عن نصر بن علي الجهضمي وغيره، وروى عنه الطبراني، وكان يمتنع من أن يحدث وإنما يسمع منه في المذاكرة‏.‏

توفي في شوال منها‏.‏

 أبو بكر الأثرم

أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم تلميذ الإمام أحمد، سمع عفان وأبا الوليد والقعنبي وأبا نعيم وخلقاً كثيراً، وكان حافظاً صادقاً قوي الذاكرة، كان ابن معين يقول عنه‏:‏ كان أحد أبويه جنيّاً لسرعة فهمه وحفظه، وله كتب مصنفة في العلل والناسخ والمنسوخ، وكان من بحور العلم‏.‏

عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حاتم القاضي الحنفي، كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء، ومن أئمة العلماء ورعاً نزهاً كثير الصيانة والديانة والأمانة، وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم‏:‏

 خلف بن عمرو بن عبد الرحمن بن عيسى

أبو محمد العكبري، سمع الحديث وكان ظريفاً وكان له ثلاثون خاتماً وثلاثون عكازاً، يلبس في كل يوم من الشهر خاتماً ويأخذ في يده عكازاً، ثم يستأنف ذلك في الشهر الثاني، وكان له سوط معلق في منزله، فإذا سئل عن ذلك قال‏:‏ ليرهب العيال منه‏.‏

ابن المعتز الشاعر والخليفة

عبد الله بن المعتز بالله محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد، يكنى أبو العباس الهاشمي العباسي، كان شاعراً مطيقاً فصيحاً بليغاً مطبقاً، وقريش قادة الناس في الخير ودفع الشر‏.‏

وقد سمع المبرد وثعلباً، وقد روي عنه من الحكم والآداب شيء كثير، فمن ذلك قوله‏:‏ أنفاس الحي خطايا‏.‏

أهل الدنيا ركب يسار بهم وهو نيام، ربما أورد الطمع ولم يصدر، ربما شرق شارب الماء قبل ريه، من تجاوز الكفاف لم يغنه الإكثار، كلما عظم قدر المتنافس فيه عظمت الفجيعة به، من ارتحله الحرص أضناه الطلب‏.‏

وروي انضاه الطلب أي‏:‏ أضعفه، والأول معناه أمرضه‏.‏

الحرص نقص من قدر الإنسان ولا يزيد في حظه شيئاً، أشقى الناس أقربهم من السلطان، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أقربها حريقاً‏.‏

من شارك السلطان في عزِّ الدنيا شاركه في ذلِّ الآخرة، يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك‏.‏

الفرصة سريعة الفوت بعيدة العود، الأسرار إذا كثرت خزانها ازدادت ضياعاً، العزل نصحك من تيه الولاة‏.‏

الجزع أتعب من الصبر، لا تشن وجه العفو بالتقريع، تركة الميت عزّ للورثة وذلّ له‏.‏

إلى غير ذلك من كلامه وحكمه‏.‏

ومن شعره مما يناسب المعنى قوله‏:‏ ‏

بادر إلى مالكٍ ورِّثه * ما المرءُ في الدنيا بلباث

كم جامعٍ يخنق أكياسه * قد صارَفي ميزانِ ميراث

وله أيضاً‏:‏

ياذا الغنى والسطوة القاهرة * والدولة الناهية الآمرة

ويا شياطين بني آدمٍ * ويا عبيدَ الشهوةِ الفاجرة

انتظرو الدنيا وقد أدبرت * وعن قليل تلدُ الآخرة

وله أيضاً‏:‏

ابكِ يانفسُ وهاتي * توبةً قبلَ الممات

قبل أن يفجعنا الده * رُ ببينٍ وشتات

لا تخونيني إذا متُ * وقامت بي نعاتي

إنما الوفي بعهدي * من وفى بعد وفاتي

قال الصولي‏:‏ نظر ابن المعتز في حياة أبيه الخليفة إلى جارية فأعجبته، فمرض من حبها، فدخل أبوه عليه عائداً فقال له‏:‏ كيف تجدك‏؟‏

فأنشأ يقول‏:‏

أيها العاذلون لا تعذلوني * وانظروا حسنَ وجهها تعذروني

وانظروا هل ترونَ أحسنَ منها * إن رأيتم شبيهها فاعذلوني

قال‏:‏ ففحص الخليفة عن القصة واستعلم خبر الجارية، ثم بعث إلى سيدها فاشتراها منه بسبعة آلاف دينار، وبعث بها إلى ولده‏.‏

وقد تقدم أن في ربيع الأول من هذه السنة اجتمع الأمراء والقضاة على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز هذا، ولقب بالمرتضى والمنتصف بالله، فما مكث بالخلافة إلا يوماً أو بعض يوم، ثم انتصر المقتدر وقتل غالب من خرج عليه واعتقل ابن المعتز عنده في الدار ووكل به مونس الخادم فقتل في أوائل ربيع الآخر لليلتين خلتا منه، ويقال‏:‏ إنه أنشد في آخر يوم من حياته وهو معتل‏:‏

يانفسُ صبراً لعل الخرً عقباكِ * خانتكِ من بعد طولِ الأمن دنياك

مرت بنا سحراً طير فقلتُ لها * طوباكِ ياليتني إياكِ طوباك

إن كانَ قصدك شرقاً فالسلامُ على * شاطي الصراة أبلغي إن كان مسراك

من موثقٍ بالمنايا لا فكاكَ له * يبكي الدماءَ على إلفٍ له باكي

فربَّ آمنة جاءت منيتها * وربَّ مفلتة من بين أشراك

أظنه آخرَ الأيام من عمري * وأوشكَ اليومَ أن يبكيَ لي الباكي

ولما قدم ليقتل أنشأ يقول‏:‏

فقل للشامتينَ بنا رُوَيداً * أمامكمُ المصائبُ والخطوبُ

هو الدهرُ لا بد من أن * يكونَ إليكم منهُ ذنوبُ

ثم كان ظهور قتله لليلتين من ربيع الآخر منها‏.‏

وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة، منها ‏(‏طبقات الشعراء‏)‏ وكتاب ‏(‏أشعار الملوك‏)‏ وكتاب ‏(‏الآداب‏)‏وكتاب ‏(‏البديع‏)‏، وكتاب في الغناء وغير ذلك‏.‏

وذكر أن طائفة من الأمراء خلعوا المقتدر وبايعوه بالخلافة يوماً وليلة، ثم تمزق شمله واختفى في بيت ابن الجصاص الجوهري، ثم ظهر عليه فقتل، وصودر ابن الجصاص بألفي دينار، وبقي معه ستمائة ألف دينار‏.‏

وكان ابن المعتز أسمر اللون مدور الوجه يخضب بالسواد، عاش خمسين سنة، وذكر شيئاً من كلامه وأشعاره رحمه الله‏.‏

محمد بن الحسين بن حبيب

أبو حصين الوادعي القاضي، صاحب المسند، من أهالي الكوفة، قدم بغداد وحدث بها عن أحمد بن يونس اليربوعي ويحيى بن عبد الحميد، وجندل بن والق، وعنه ابن صاعد والنجاد والمحاملي‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ كان ثقة، توفي بالكوفة‏.‏

محمد بن داود بن الجراح أبو عبد الله الكاتب، عم الوزير علي بن عيسى، كان من أعلم الناس بالأخبار وأيام الخلفاء، له مصنفات في ذلك روى عن عمر بن شيبة وغيره، كانت وفاته في ربيع الأول منها عن ثلاث وخمسين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ غزا القاسم بن سيما الصائفة، وفادى يونس الخادم الأسارى الذين بأيدي الروم، وحكى ابن الجوزي عن ثابت بن سنان‏:‏ أنه رأى في أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وإنما كفاها ملصقان بكتفيها، لاتسطيع أن تعمل بهما شيئاً، وإنما كانت تعمل برجليها ما تعمله النساء بأيديهن‏:‏ الغزل والفتل ومشط الرأس وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ تأخرت الأمطار عن بغداد، وارتفعت الأسعار بها، وجاءت الأخبار بأن مكة جاءها سيل عظيم غرق أركان البيت، وفاضت زمزم، ولم ير ذلك قبل هذه السنة‏.‏

وحج بالناس الفضل الهاشمي‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 محمد بن داود بن علي

أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظاهري، كان عالماً بارعاً أديباً شاعراً فقيهاً ماهراً، له كتاب ‏(‏الزهرة‏)‏ اشتغل على أبيه وتبعه في مذهبه ومسلكه وما اختاره من الطرائق وارتضاه، وكان أبوه يحبه ويقربه ويدنيه‏.‏

قال رويم بن محمد‏:‏ كنا يوماً عند داود إذ جاء ابنه هذا باكياً فقال‏:‏ مالك‏؟‏

فقال‏:‏ إن الصبيان يلقبونني عصفور الشوك‏.‏

فضحك أبوه فاشتد غضب الصبي وقال لأبيه‏:‏ أنت أضر علي منهم، فضمه أبوه إليه وقال‏:‏ لا إله إلا الله، ما الألقاب إلا من السماء ما أنت يابني إلا عصفور الشوك‏.‏

ولما توفي أبوه أجلس في مكانه في الحلقة، فاستصغره الناس عن ذلك، فسأله سائل يوماً عن حد السُّكر فقال‏:‏ إذا غربت عنه الفهوم وباح بسره المكتوم‏.‏

فاستحسن الحاضرون منه ذلك، وعظم في أعين الناس‏.‏

قال ابن الجوزي في المنتظم‏:‏ وقد ابتلي بحب صبي اسمه محمد بن جامع، ويقال‏:‏ محمد بن زحرف، فاستعمل العفاف والدين في حبه، ولم يزل ذلك دأبه فيه حتى كان سبب وفاته في ذلك‏.‏

قلت‏:‏ فدخل في الحديث المروي عن ابن عباس موقوفاً عليه ومرفوعاً عنه‏:‏ من عشق فكتم فعف فمات مات شهيداً‏.‏

وقد قيل عنه‏:‏ إنه كان يبيح العشق بشرط العفاف‏.‏

وحكى هو عن نفسه أنه لم يزل يتعشق منذ كان في الكتَّاب، وأنه صنف كتاب ‏(‏الزهرة‏)‏ في ذلك من صغره، ورد ما وقف أبوه داود على بعض ذلك، وكان يتناظر هو وأبو العباس بن شريح كثيراً بحضرة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فيعجب الناس من مناظرتهما وحسنها‏.‏

وقد قال له ابن شريح يوماً في مناظرته‏:‏ أنت بكتاب الزهرة أشهر منك بهذا‏.‏

فقال له‏:‏ تعيرنى بكتاب الزهرة وأنت لا تحسن تشتم قراءته، وهو كتاب جمعناه هزلاً فاجمع أنت مثله جداً‏.‏

وقال القاضي أبوعمر‏:‏ كنت يوماً أنا وأبو بكر بن داود راكبين فإذا جارية تغني بشيء من شعره‏:‏

أشكو إليك فؤاداً أنت متلفهُ * شكوى عليلٍ إلى إلفٍ يعلله

سُقمي تزيد على الأيام كثرتهُ * وأنت في عظم ما ألقى تقلِّلهُ

الله حرمَ قتلي في الهوى أسفاً * وأنت يا قاتلي ظلماً تحلِّلهُ

فقال أبو بكر‏:‏ كيف السبيل إلى استرجاع هذا‏؟‏

فقلت‏:‏ هيهات سار به الركبان‏.‏

كانت وفاة محمد بن داود رحمه الله في رمضان من هذه السنة، وجلس ابن شريح لعزاه وقال‏:‏ ما أثني إلا على التراب الذي أكل لسان محمد بن داود رحمه الله‏.‏

 محمد بن عثمان بن أبي شيبة

أبو جعفر، حدث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وخلق، وعنه ابن صاعد والخلدي والباغندي وغيرهم، وله كتاب في التاريخ وغيره من المصنفات، ‏‏ وقد وثقه صالح بن محمد جزرة وغيره، وكذبه عبد الله بن الإمام أحمد وقال‏:‏ هو كذاب بينِّ الأمر، وتعجب ممن يروي عنه، توفي في ربيع الأول منها‏.‏

محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسن بن مصعب من بيت الإمارة والحشمة، باشر نيابة العراق مدة ثم خراسان، ثم ظفر به يعقوب بن الليث في سنة ثمان وخمسين فأسره، وبقي معه يطوف به الآفاق أربع سنين، ثم تخلص منه في بعض الوقعات ونجا بنفسه، ولم يزل مقيماً ببغداد إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

 موسى بن إسحاق

ابن موسى بن عبد الله أبو بكر الأنصارى الخطمي، مولده سنة عشر ومائتين، سمع أباه وأحمد ابن حنبل وعلي بن الجعد وغيرهم، وحدث عنه الناس وهو شاب وقرؤوا عليه القرآن، وكان ينتحل مذهب الشافعي، وولي قضاء الأهواز، وكان ثقة فاضلاً عفيفاً فصيحاً كثير الحديث‏.‏

توفي في المحرم منها‏.‏

 يوسف بن يعقوب

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، والد القاضي أبي عمر، وهو الذي قتل الحلاج، كان يوسف هذا من أكابر العلماء وأعيانهم، ولد سنة ثمان ومائتين، وسمع سليمان بن حرب وعمرو بن مرزوق وهدبة ومسدداً، وكان ثقة، ولي قضاء البصرة وواسط والجانب الشرقي من بغداد، وكان عفيفاً شديد الحرمة نزهاً، جاءه يوماً بعض خدم الخليفة المعتضد، فترفع في المجلس على خصمه، فأمره حاجب القاضي أن يساوي خصمه، فامتنع إدلالاً بجاهه عند الخليفة، فزبره القاضي وقال‏:‏ ائتوني بدلال النخس حتى أبيع هذا العبد وأبعث بثمنه إلى الخليفة، وجاء حاجب القاضي فأخذه بيده وأجلسه مع خصمه، فلما انقضت الحكومة رجع الخادم إلى المعتضد فبكى بين يديه فقال له‏:‏ مالك‏؟‏

فأخبره بالخبر وما أراد القاضي من بيعه، فقال‏:‏ والله لو باعك لأجزت بيعه ولما استرجعتك أبداً، فليس خصوصيتك عندي تزيل مرتبة الشرع فإنه عمود السلطان وقوام الأديان، كانت وفاته في رمضان منها‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين

فيها قدم القاسم بن سيما من بلاد الروم، فدخل بغداد ومعه الأسارى والعلوج، بأيديهم أعلام عليها صلبان من الذهب وخلق من الأسارى‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت هدايا نائب خراسان أحمد بن إسماعيل ابن أحمد الساماني، من ذلك مائة وعشرون غلاماً بحرابهم وأسلحتهم وما يحتاجون إليه، وخمسون بازاً وخمسون جملاً تحمل من مرتفع الثياب وخمسون رطلاً من مسك وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ فلج القاضي عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب، فقلد مكانه على الجانب الشرقي والكرخ ابنه محمد‏.‏

وفيها‏:‏ في شعبان أخذ رجلان يقال‏:‏ لأحدهما أبو كبيرة والآخر يعرف بالسمري، فذكروا أنهما من أصحاب رجل يقال له‏:‏ محمد بن بشر، وأنه يدعى الربوبية‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار بأن الروم قصدت اللاذقية‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار بأن ريحاً صفراء هبت بمدينة الموصل، فمات من حرها بشر كثير‏.‏

وفيها حج بالناس الفضل الهاشمي‏.‏

 وفيها توفى من الأعيان‏:‏

 ابن الراوندي

أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهودياً فأظهر الإسلام، ويقال‏:‏ إنه حرف التوراة، كما عادى ابنه القرآن بالقرآن وألحد فيه، وصنف كتاباً في الرد على القرآن سماه ‏(‏الدامغ‏)‏‏.‏

وكتاباً في الرد على الشريعة والإعتراض عليها سماه ‏(‏الزمردة‏)‏‏.‏

وكتاباً يقال له‏:‏ التاج في معنى ذلك، وله كتاب ‏(‏الفريد‏)‏، وكتاب ‏(‏إمامة المفضول الفاضل‏)‏‏.‏

وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة، منهم الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه، وقد أجاد في ذلك‏.‏

وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام ابن أبى علي، قال الشيخ أبو علي‏:‏ قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندى، فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء‏.‏

قال‏:‏ وقد وضع كتاباً في قدم العالم، ونفي الصانع، وتصحيح مذهب الدهرية، والرد على أهل التوحيد، ووضع كتاباً في الرد على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة عشر موضعاً، ونسبه إلى الكذب - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - وطعن على القرآن، ووضع كتاباً لليهود والنصارى، وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن الإسلام‏.‏

نقل ذلك ابن الجوزي عنه‏.‏

وقد أورد ابن الجوزي في منتظمه طرفاً من كلامه وزندقته وطعنه على الآيات والشريعة، ورد عليه في ذلك وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه‏.‏

وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر، منها ما هو صحيح عنه، ومنها ماهو مفتعل عليه ممن هو مثله وعلى طريقه ومسلكه في الكفر والتستر في المسخرة، يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدّعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه‏.‏

وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏65-66‏]‏‏.‏

وقد كان أبو عيسى الوراق مصاحباً لابن الراوندي قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات‏.‏

وأما ابن الراوندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي، وصنف له في مدة مقامه عنه كتابه الذي سماه ‏(‏الدامغ للقرآن‏)‏ فلم يلبث بعده إلا أياماً يسيرة حتى مات لعنه الله‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أخذ وصلب‏.‏

قال أبو الوفاء بن عقيل‏:‏ ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستاً وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير لعنه الله وقبحه ولا رحم عظامه‏.‏

وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجيناً، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم‏.‏

وأرخ ابن خلكان تاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد وهم وهماً فاحشاً، والصحيح أنه توفي في هذه السنة كما أرخه ابن الجوزي وغيره‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الجنيد بن محمد بن الجنيد

أبو القاسم الخزاز، ويقال له‏:‏ القواريري، أصله من نهاوند، ولد ببغداد ونشأ بها‏.‏

وسمع الحديث من الحسين بن عرفة‏.‏

وتفقه بأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وكان يفتي بحضرته وعمره عشرون سنة، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، واشتهر بصحبة الحارث المحاسبي، وخاله سري السقطي، ولازم التعبد، ففتح الله عليه بسبب ذلك علوماً كثيرة، وتكلم على طريقة الصوفية‏.‏

وكان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة، وثلاثين ألف تسبيحة‏.‏

ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش، ففتح عليه من العلم النافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، وكان يعرف سائر فنون العلم، وإذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة ولا كبوة، حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوهاً كثيرة لم تخطر للعلماء ببال، وكذلك في التصوف وغيره‏.‏

ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له‏:‏ لورفقت بنفسك في مثل هذا الحال‏؟‏

فقال‏:‏ لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ أخذ الفقه عن أبي ثور، ويقال‏:‏ كان يتفقه على مذهب سفيان الثوري، وكان ابن سريح يصحبه ويلازمه، وربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال، ويقال‏:‏ إنه سأله مرة عن مسألة‏.‏

فأجابه فيها بجوابات كثيرة، فقال‏:‏ يا أبا القاسم ألم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها عليّ‏.‏

فأعادها بجوابات أخرى كثيرة‏.‏

فقال‏:‏ والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك‏.‏

فقال له‏:‏ لم أسمع بمثل هذا فأمله عليّ حتى أكتبه‏.‏ ‏

فقال الجنيد‏:‏ لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي‏:‏ إن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني، وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم، وإنما هذا من فضل الله عز وجل يلهمنيه ويجريه على لساني‏.‏

فقال‏:‏ فمن أين استفدت هذا العلم‏؟‏

قال‏:‏ من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة‏.‏

والصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري وطريقه، والله أعلم‏.‏

وسئل الجنيد عن العارف‏؟‏

فقال‏:‏ من نطق عن سرك وأنت ساكت‏.‏

وقال‏:‏ مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في مذهبنا وطريقتنا‏.‏

ورأى بعضهم معه مسبحة فقال له‏:‏ أنت مع شرفك تتخذ مسبحة‏؟‏

فقال‏:‏ طريق وصلت به إلى الله لا أفارقه‏.‏

وقال له خاله السري‏:‏ تكلم على الناس‏.‏

فلم ير نفسه موضعاً‏.‏

فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ تكلم على الناس‏.‏

فغدا على خاله، فقال له‏:‏ لم تسمع مني حتى قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فتكلم على الناس، فجاءه يوماً شاب نصراني في صورة مسلم، فقال له‏:‏ يا أبا القاسم ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله‏)‏‏)‏‏؟‏‏.‏

فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه وقال‏:‏ أسلم فقد آن لك أن تسلم‏.‏

قال‏:‏ فأسلم الغلام‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها من جارية تغني بها في غرفة وهي تقول‏:‏

إذا قلتُ‏:‏ أهدى الهجرُ لي حِللَ البِلى * تقولين‏:‏ لولا الهجرُ لم يطب الحبُّ

وإن قلتُ‏:‏ هذا القلبُ أحرقه الجوى * تقولين لي‏:‏ إنَّ الجوى شرف القلب

وإن قلت‏:‏ ما أذنبت، قالت مجيبة‏:‏ * حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

قال‏:‏ فصعقت وصحت، فخرج صاحب الدار فقال‏:‏ ياسيدي مالك‏؟‏

قلت‏:‏ مما سمعت‏.‏

قال‏:‏ هي هبة مني إليك‏.‏

فقلت‏:‏ قد قبلتها وهي حرة لوجه الله، ثم زوجتها لرجل فأولدها ولداً صالحاً، حج على قدميه ثلاثين حجة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ

ولد بالري، ونشأ بها، ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن مات بها، وقد دخل بغداد‏.‏

وكان يقال‏:‏ إنه مجاب الدعوة‏.‏

قال الخطيب‏:‏ أخبرنا عبد الكريم بن هوازن قال‏:‏ سمعت أبا عثمان يقول‏:‏ منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حالة فكرهتها، ولا نقلني إلى غيرها فسخطتها‏.‏

وكان أبو عثمان ينشد‏:‏

أسأت ولم أحسن، وجئتك هارباً * وأين لعبد عن مواليه مهرب‏؟‏

يؤمل غفراناً، فإن خاب ظنه * فما أحد منه على الأرض أخيب

وروى الخطيب أنه سئل‏:‏ أي أعمالك أرجى عندك‏؟‏

فقال‏:‏ إني لما ترعرعت وأنا بالري وكانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، فجائتني امرأة فقالت‏:‏ يا أبا عثمان قد أحببتك حباً أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل به إليه لما تزوجتني‏.‏

فقلت‏:‏ ألك والد‏؟‏

فقالت‏:‏ نعم‏.‏

فأحضرته فاستدعى بالشهود فتزوجتها، فلما خلوت بها إذا هي عوراء عرجاء شوهاء -مشوهة الخلق - فقلت‏:‏ اللهم لك الحمد على ما قدرته لي، وكان أهل بيتي يلومونني على تزويجي بها، فكنت أزيدها براً وإكراماً، وربما احتبستني عندها ومنعتني من الحضور إلى بعض المجالس، وكأني كنت في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها من ذلك شيئاً‏.‏

فمكثت كذلك خمس عشرة سنة، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 

 

 سمنون بن حمزة

ويقال ابن عبد الله، أحد مشايخ الصوفية، كان ورده في كل يوم وليلة خمسمائة ركعة، وسمى نفسه سمنوناً الكذاب لقوله‏:‏

فليس لي في سواك حظ * فكيفما شئت فامتحني

فابتلي بعسر البول فكان يطوف على المكاتب ويقول للصبيان‏:‏ ادعوا لعمكم الكذاب‏.‏

وله كلام متين في المحبة، ووسوس في آخر عمره، وله كلام في المحبة مستقيم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 صافي الحربي

كان من أكابر أمراء الدولة العباسية، أوصى في مرضه أن ليس له عند غلامه القاسم شيء، فلما مات حمل غلامه القاسم إلى الوزير ألف دينار وسبعمائة وعشرين منطقة من الذهب مكللة، فاستمروا به على إمرته ومنزلته‏.‏ ‏

 إسحاق بن حُنين بن إسحاق

أبو يعقوب العبادي - نسبة إلى قبائل الجزيرة - الطبيب ابن الطبيب، له ولأبيه مصنفات كثيرة في هذا الفن، وكان أبوه يعرب كلام إرسططاليس وغيره من حكماء اليونان، توفي في هذه السنة‏.‏

 الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا

أبو عبد الله الشيعي، الذي أقام الدعوة للمهدي، وهو عبد الله بن ميمون الذي يزعم أنه فاطمي وقد زعم غير واحد من أهل التاريخ أنه كان يهودياً صباغاً بسلمية، والمقصود الآن‏:‏ أن أبا عبد الله الشيعي دخل بلاد إفريقيا وحدهم فقيراً لا مال له ولا رجال، فلم يزل يعمل الحيلة حتى انتزع الملك من يد أبي مضر زيادة الله، آخر ملوك بني الأغلب على بلاد إفريقية، واستدعى حينئذ مخذومه المهدي من بلاد المشرق، فقدم فلم يخلص إليه إلا بعد شدائد طوال، وحبس في أثناء الطريق، فاستنقذه هذا الشيعي وسلمه من الهلكة، فندمه أخوه أحمد وقال له‏:‏ ماذا صنعت‏؟‏وهلا كنت استبددت بالأمر دون هذا‏؟‏

فندم وشرع يعمل الحيلة في المهدي، فاستشعر المهدي بذلك فدس إليهما من قتلهما في هذه السنة بمدينة رقادة من بلاد القيروان، من إقليم إفريقية‏.‏

هذا ملخص ما ذكره ابن خلكان‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها ظهرت ثلاث كواكب مذنبة، أحدها في رمضان، واثنان في ذي القعدة تبقى أياماً ثم تضمحل‏.‏

وفيها‏:‏ وقع طاعون بأرض فارس مات فيه سبعة آلاف إنسان‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ غضب الخليفة على الوزير علي بن محمد بن الفرات، وعزله عن الوزارة، وأمر بنهب داره فنهبت أقبح نهب، واستوزر أبا علي محمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان، وكان قد التزم لأم ولد المعتضد بمائة ألف دينار حتى سعت في ولايته‏.‏

وفيها‏:‏ وردت هدايا كثيرة من الأقاليم من ديار مصر وخراسان وغيرها، من ذلك خمسمائة ألف دينار من مصر استخرجت من كنز وجد هناك من غير موانع كما يدعيه كثير من جهلة العوام وغيرهم من ضعيفي الأحلام، مكراً وخديعة ليأكلوا أموال الطغام والعوام أهل الطمع والآثام، وقد وجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة أشبار وعرضه شبر، وذكر أنه من قوم عاد فالله أعلم‏.‏

وكان من جملة هدية مصر تيس له ضرع يحلب لبناً‏.‏

ومن ذلك بساط أرسله ابن أبي الساج في جملة هداياه، طوله سبعون ذراعاً وعرضه ستون ذراعاً، عمل في عشر سنين لا قيمة له، وهدايا فاخرة أرسلها أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني من بلاد خراسان كثيرة جداً‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك العباسي، أمير الحجيج من مدة طويلة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن نصر بن إبراهيم‏:‏ أبو عمرو الخفاف

الحافظ، كان يذاكر بمائة ألف حديث، سمع إسحاق بن راهويه وطبقته، وكان كثير الصيام سرده نيفاً وثلاثين سنة، وكان كثير الصدقة، سأله سائل فأعطاه درهمين فحمد الله فجعلها خمسة، فحمد الله فجعلها عشرة، ثم ما زال يزيده ويحمد السائل الله حتى جعلها مائة‏.‏

فقال‏:‏ جعل الله عليك واقية باقية‏.‏

فقال للسائل‏:‏ والله لو لزمت الحمد لأزيدنك ولو إلى عشرة آلاف درهم‏.‏

 البهلول بن إسحاق بن البهلول

ابن حسان بنم سنان أبو محمد التنوخي، سمع إسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن منصور ومصعباً الزبيري وغيرهم، وعنه جماعة آخرهم أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ، وكان ثقة حافظاً ضابطاً بليغاً فصيحاً في خطبه‏.‏

توفي فيها عن خمس وتسعين سنة‏.‏

 الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو علي الخرقي

صاحب المختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كان خليفة للمروذي‏.‏

توفي يوم عيد الفطر ودفن عند قبر الإمام أحمد بن حنبل‏.‏

محمد بن إسماعيل‏:‏ أبو عبد الله المغربي

حج على قدميه سبعاً وتسعين حجة، وكان يمشي في الليل المظلم حافياً كما يمشي الرجل في ضوء النهار، وكان المشاة يأتمون به فيرشدهم إلى الطريق، وقال‏:‏ ما رأيت ظلمة منذ سنين كثيرة، وكانت قدماه مع كثرة مشيه كأنهما قدما عروس مترفة، وله كلام مليح نافع، ولما مات أوصى أن يدفن إلى جانب شيخه علي بن رزين، فهما على جبل الطور‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ كان أبو عبد الله المغربي من المعمرين، توفي عن مائة وعشرين سنة، وقبره بجبل طور سينا عند قبر أستاذه علي بن رزين‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ أفضل الأعمال عمارة الأوقاف‏.‏

وقال‏:‏ الفقير هو الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الإلتجاء إلى من إليه فقره ليعينه بالاستعانة كما عزره بالافتقار إليه‏.‏

وقال‏:‏ أعظم الناس ذلاً فقير داهن غنياً وتواضع له، وأعظم الناس عزاً غني تذلل لفقير أو حفظ حرمته‏.‏

 محمد بن أبي بكر بن أبي خيثمة

أبو عبد الله الحافظ بن الحافظ كان أبوه يستعين به في جمع التاريخ، وكان فهماً حاذقاً حافظاً، توفي في ذي القعدة منها‏.‏

 محمد بن أحمد بن كيسان النحوي

أحد حفاظه والمكثرين منه، كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معاً‏.‏

قال ابن مجاهد‏:‏ كان ابن كيسان أنحى من الشيخين المبرّد وثعلب‏.‏

 محمد بن يحيى

أبو سعيد، سكن دمشق، روى عن إبراهيم بن سعد الجوهري، وأحمد بن منيع، وابن أبي شيبة وغيرهم، روى عنه أبو بكر النقاش وغيره، وكان محمد بن يحيى هذا يدعى بحامل كفنه، وذلك ما ذكره الخطيب قال‏:‏ بلغني أنه توفي فغسل وكفن وصلي عليه ودفن، فلما كان الليل جاء نباش ليسرق كفنه ففتح عليه قبره‏.‏

فلما حل عنه كفنه استوى جالساً، وفر النباش هارباً من الفزع، ونهض محمد بن يحيى هذا فأخذ كفنه معه، وخرج من القبر وقصد منزله فوجد أهله يبكون عليه، فدق عليهم الباب فقالوا‏:‏ من هذا‏؟‏

فقال‏:‏ أنا فلان‏.‏

فقالوا‏:‏ يا هذا لا يحل لك أن تزيدنا حزناً إلى حزننا‏.‏

فقال‏:‏ افتحوا والله أنا فلان‏.‏ ‏

فعرفوا صوته، فلما رأوه فرحوا به فرحاً شديداً، وأبدل الله حزنهم سروراً، ثم ذكر لهم ما كان من أمره وأمر النباش‏.‏

وكأنه قد أصابته سكتة، ولم يكن قد مات حقيقة فقدر الله بحوله وقوته أن بعث له هذا النباش ففتح عليه قبره، فكان ذلك سبب حياته، فعاش بعد ذلك عدة سنين، ثم كانت وفاته في هذه السنة‏.‏

 فاطمة القهرمانة

غضب عليها المقتدر مرة فصادرها، وكان في جملة ما أخذ منها مائتي ألف دينار، ثم غرقت في طيارة لها في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاثمائة من الهجرة

فيها‏:‏ كثر ماء دجلة وتراكمت الأمطار ببغداد، وتناثرت نجوم كثيرة في ليلة الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت الأمراض ببغداد والأسقام وكلبت الكلاب حتى الذئاب بالبادية‏.‏

وكانت تقصد الناس بالنهار فمن عضته أكلبته‏.‏

وفيها‏:‏ انحسر جبل بالدينور يعرف بالتل فخرج من تحته ماء عظيم غرّق عدة من القرى‏.‏

وفيها‏:‏ سقطت شرذمة - أي‏:‏ قطعة - من جبل لبنان إلى البحر‏.‏

وفيها‏:‏ حملت بغلة ووضعت مهرة‏.‏

وفيها‏:‏ صلب الحسين بن منصور الحلاج وهو حي أربعة أيام، يومين في الجانب الشرقي ويومين في الجانب الغربي، وذلك في ربيع الأول منها‏.‏

وحج بالناس أمير الحجيج المتقدم ذكره في السنين قبلها وهو الفضل بن عبد الملك الهاشمي العباسي أثابه الله وتقبل منه‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأحوص بن الفضل

ابن معاوية بن خالد بن غسان، أبو أمية الغلابي القاضي بالبصرة وغيرها، روى عن أبيه التاريخ، استتر مرة عنده ابن الفرات، فلما أعيد إلى الوزارة ولاه قضاء البصرة والأهواز وواسط‏.‏

وكان عفيفاً نزهاً، فلما نكب ابن الفرات قبض عليه نائب البصرة فأودعه السجن فلم يزل به حتى مات فيه فيها‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ولا نعلم قاضياً مات في السجن سواه‏.‏

 عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

ابن الحسين بن مصعب أبو أحمد الخزاعي، ولي إمرة بغداد‏.‏

وحدث عن الزبير بن بكار وعنه الصولي والطبراني، وكان أديباً فاضلاً، ومن شعره‏:‏ ‏

حق التنائي بين أهل الهوى * تكاتب يسخن عين النوى

وفي التداني لا انقضى عمره * تزاور يشفى غليل الجوى

واتفق له مرة أن جارية له مرضت فاشتهت ثلجاً، وكان حظية عنده، فلم يوجد الثلج إلا عند رجل، فساومه وكيله على رطل منه فامتنع من بيعه إلا كل رطل بالعراقي بخمسة آلاف درهم -وذلك لعلم صاحب الثلج بحاجتهم إليه - فرجع الوكيل ليشاوره فقال‏:‏ ويحك اشتره ولو بما عساه أن يكون، فرجع إلى صاحب الثلج فقال‏:‏ لا أبيعه إلا بعشرة آلاف‏.‏ فاشتراه بعشرة آلاف ثم اشتهت الجارية ثلجاً أيضاً - وذلك لموافقته لها - فرجع فاشترى منه رطلاً آخر بعشرة آلاف‏.‏

ثم آخر بعشرة آلاف وبقي عند صاحب الثلج رطلان فنطفت نفسه إلى أكل رطل منه ليقول‏:‏ أكلت رطلاً من الثلج بعشرة آلاف، فأكله وبقي عنده رطل فجاءه الوكيل فامتنع أن يبيعه الرطل إلا بثلاثين ألفاً فاشتراه منه فشفيت الجارية وتصدقت بمال جزيل فاستدعى سيدها صاحب الثلج فأعطاه من تلك الصدقة مالاً جزيلاً فصار من أكثر الناس مالاً بعد ذلك، واستخدمه ابن طاهر عنده والله أعلم‏.‏

ومن توفي في حدود الثلاثمائة من الهجرة‏:‏

 الصنوبري الشاعر

وهو محمد بن أحمد بن محمد بن مراد أبو بكر الضبي الصنوبري الحنبلي‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ كان شاعراً محسناً‏.‏

وقد حكى عن علي بن سليمان الأخفش، ثم ذكر أشياء من لطائف شعره فمن ذلك قوله‏:‏

لا النوم أدرى به ولا الأرق * يدري بهذين من به رمق

إن دموعي من طول ما استبقت * كلّت فما تستطيع تستبق

ولي مَلك لم تبد صورته * مذ كان إلا صلّت له الحدق

نويت تقبيل نار وجنته * وخفت أدنو منها فأحترق

وله أيضاً‏:‏

شمس غداً يشبه شمساً غدت *وخدها في النور من خده

تغيب في فيه ولكنها * من بعد ذا تطلع في خده

وقد روى الحافظ البيهقي عن شيخه الحاكم عن أبي الفضل نصر بن محمد الطوسي قال‏:‏ أنشدنا أبو بكر الصنوبري فقال‏:‏

هدم الشيب ما بناه الشباب * والغواني ما عصين خضاب

قلب الآبنوس عاجاً * فللأعين منه والقلوب انقلاب

وضلال في الرأي أن يشنأ الـ * ـبازي على حسنه ويهوى الغراب

وله أيضاً وقد أورده ابن عساكر في ابن له فطم فجعل يبكي على ثديه‏:‏

منعوه أحب شيء إليه * من جميع الورى ومن والديه

منعوه غذاه ولقد كان * مباحاً له وبين يديه

عجباً له على صغر السن * هوى فاهتدى الفراق إليه

إبراهيم بن أحمد بن محمد

ابن المولد، أبو إسحاق الصوفي الواعظ الرقي أحد مشايخها، روى الحديث وصحب أبا عبد الله ابن الجلاء الدمشقي، والجنيد وغير واحد‏.‏

وروى عنه تمام بن محمد وأبو عبد الرحمن السلمي‏.‏

وقد أورد ابن عساكر من شعره قوله‏:‏

لكِ مني على البعاد نصيب * لم ينله على الدنو حبيب

وعلى الطرف من سواكِ حجاب * وعلى القلب من هواكِ رقيب

زين في ناظري هواك وقلبي * والهوى فيه رائع ومشوب

كيف يغني قرب الطبيب عليلاً * أنت أسقمته وأنت الطبيب

وقوله‏:‏

الصمت آمن من كل نازلة * من ناله نال أفضل الغنم

ما نزلت بالرجال نازلة * أعظم ضراً من لفظة نعم

عثرة هذا اللسان مهلكة * ليست لدينا كعثرة القدم

احفظ لساناً يلقيك في تلف * فرب قول أذل ذا كرم

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائة

فيها‏:‏ غزا الحسين بن حمدان الصائفة، ففتح حصوناً كثيرة من بلاد الروم، وقتل منها أمماً لا يحصون كثرة‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المقتدر محمد بن عبيد الله عن وزارته، وقلدها عيسى بن علي، وكان من خيار الوزراء وأقصدهم للعدل والإحسان واتباع الحق‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت الأمراض الدموية ببغداد في تموز وآب، فمات من ذلك خلق كثير من أهلها‏.‏

وفيها‏:‏ وصلت هدايا صاحب عمان، ومن جملتها بغلة بيضاء، وغزال أسود‏.‏

وفي شعبان منها‏:‏ ركب المقتدر إلى باب الشماسية على الخيل ثم انحدر إلى داره في دجلة - وكانت أول ركبة ركبها جهرة للعامة -‏.‏

وفيها‏:‏ استأذن الوزير علي بن عيسى الخليفة المقتدر في مكاتبة رأس القرامطة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، فأذن له، فكتب كتاباً طويلاً، يدعوه فيه إلى السمع والطاعة، ويوبخه على ما يتعاطاه من ترك الصلاة، والزكاة، وارتكاب المنكرات، وإنكارهم على من يذكر الله ويسبحه ويحمده، واستهزائهم بالدين واسترقاقهم الحرائر، ثم توعده بالحرب وتهدده بالقتل، فلما سار بالكتاب نحوه قتل أبو سعيد قبل أن يصله قتله بعض خدمه، وعهد بالأمر من بعده لولده سعيد فغلبه على ذلك أخوه أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد، فلما قرأ كتاب الوزير أجابه بما حاصله‏:‏ إن هذا الذي تنسب إلينا مما ذكرتم لم يثبت عندكم إلا من طريق من يشنع علينا، وإذا كان الخليفة ينسبنا إلى الكفر بالله فكيف يدعونا إلى السمع والطاعة له‏؟‏

وفيها‏:‏ جيء بالحسين بن منصور الحلاج إلى بغداد، وهو مشهور على جمل وغلام له راكب جملاً آخر، ينادي عليه‏:‏ أحد دعاة القرامطة فاعرفوه، ثم حبس ثم جيء به إلى مجلس الوزير فناظره، فإذا هو لا يقرأ القرآن، ولا يعرف في الحديث ولا الفقه شيئاً ولا في اللغة ولا في الأخبار ولا في الشعر شيئاً‏.‏

وكان الذي نقم عليه‏:‏ أنه وجدت له رقاع يدعو فيها الناس إلى الضلالة والجهالة بأنواع من الرموز، يقول في مكاتباته كثيراً‏:‏ تبارك ذو النور الشعشعاني‏.‏

فقال له الوزير‏:‏ تعلمك الطهور والفروض أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها، وما أحوجك إلى الأدب‏.‏

ثم أمر به فصلب حياً صلب الإشتهار لا القتل، ثم أنزل فأجلس في دار الخلافة، فجعل يظهر لهم أنه على السنة، وأنه زاهد، حتى اغتر به كثير من الخدام وغيرهم من أهل دار الخلافة من الجهلة، حتى صاروا يتبركون به ويتمسحون بثيابه‏.‏

وسيأتي ما صار إليه أمره حين قتل بإجماع الفقهاء وأكثر الصوفية‏.‏

ووقع في هذه السنة في آخرها‏:‏ ببغداد وباء شديد جداً مات بسببه بشر كثير، ولا سيما بالحربية غلقت عامة دورها‏.‏ وحج بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن خالد الشافعي

جمع العلم والزهد، وهو من تلاميذ أبى بكر الإسماعيلي‏.‏

جعفر بن محمد

ابن الحسين بن المستفاض أبو بكر الفريابي، قاضي الدينور، طاف البلاد في طلب العلم، وسمع الكثير من المشايخ الكثيرين، مثل قتيبة وأبى كريب وعلي بن المديني، وعنه أبو الحسين بن المنادي والنجاد وأبو بكر الشافعي وخلق، واستوطن بغداد وكان ثقة حافظاً حجة، وكان عدة من يحضر مجلسه نحواً من ثلاثين ألفاً، والمستملون عليه منهم فوق الثلاثمائة، وأصحاب المحابر نحواً من عشرة آلاف‏.‏

توفي في المحرم منها عن أربع وتسعين سنة، وكان قد حفر لنفسه قبراً قبل وفاته بخمس سنين، وكان يأتيه فيقف عنده‏.‏

ثم لم يقض له الدفن فيه بل دفن بمكان آخر‏.‏

رحمه الله حيث كان‏.‏

أبو سعيد الجنابي القرمطي

وهو الحسن بن بهرام قبحه الله رأس القرامطة، والذي يعول عليه في بلاد البحرين وما والاها‏.‏

‏(‏علي بن أحمد الراسبي‏)‏كان يلي بلاد واسط إلى شهر زور وغير ذلك، وقد خلف من الأموال شيئاً كثيراً، فمن ذلك ألف ألف دينار، ومن آنيه الذهب والفضة نحو مائة ألف دينار، ومن البقر ألف ثور، ومن الخيل والبغال والجمال ألف رأس‏.‏

محمد بن عبد الله بن علي بن محمد بن أبي الشوارب

يعرف بالأحنف، كان قد ولي قضاء مدينة المنصور نيابة عن أبيه حين فلج، مات في جمادى الأولى منها‏.‏

وتوفي أبوه في رجب منها، بينهما ثلاثة وسبعون يوماً، ودفنا في موضع واحد‏.‏

وأبو بكر محمد بن هارون البردعي‏.‏

الحافظ بن ناجية والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثمائة

فيها‏:‏ ورد كتاب مؤنس الخادم بأنه قد أوقع بالروم بأساً شديداً، وقد أسر منهم مائة وخمسين بطريقاً -أي‏:‏ أميراً -ففرح المسلمون بذلك‏.‏

وفيها‏:‏ ختن المقتدر خمسة من أولاده، فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار، وقد ختن قبلهم ومعهم خلقاً من اليتامى، وأحسن إليهم بالمال والكساوي، وهذا صنيع حسن إن شاء الله‏.‏

وفيها‏:‏ صادر المقتدر أبا علي بن الجصاص بستة عشر ألف ألف دينار، غير الآنية والثياب الثمينة‏.‏

وفيها‏:‏ أدخل الخليفة أولاده إلى المكتب، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفيها‏:‏ بنى الوزير المارستان بالحربية من بغداد، وأنفق عليه أموالاً جزيلة، جزاه الله خيراً‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي‏.‏

وقطعت الأعراب وطائفة من القرامطة الطريقين على الراجعين من الحجيج، وأخذوا منهم أموالاً كثيرة وقتلوا منهم خلقاً وأسروا أكثر من مائتي امرأة حرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

بشر بن نصر بن منصور

أبو القاسم الفقيه الشافعي، من أهل مصر يعرف بغلام عَرَق، وعرق خادم من خدام السلطان كان يلي البريد، فقدم معه بهذا الرجل مصر فأقام بها حتى مات بها‏.‏

بدعة جارية غريب المغنية، بذل لسيدتها فيها مائة ألف دينار وعشرون ألف دينار من بعض من رغب فيها من الخلفاء فعرض ذلك عليها فكرهت مفارقة سيدتها، فأعتقتها سيدتها في موتها، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة، وقد تركت من المال العين والأملاك مالم يملكه رجل‏.‏

القاضي أبو زرعه محمد بن عثمان الشافعي

قاضي مصر ثم دمشق، وهو أول من حكم بمذهب الشافعي بالشام وأشاعه بها وقد كان أهل الشام على مذهب الأوزاعي من حين مات إلى هذه السنة‏.‏

وثبت على مذهب الأوزاعي بقايا كثيرون لم يفارقوه، وكان ثقة عدلاً من سادات القضاة، وكان أصله من أهل الكتاب من اليهود، ثم أسلم وصار إلى ما صار إليه‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

فيها‏:‏ وقف المقتدر بالله أموالاً جزيلة وضياعاً على الحرمين الشريفين، واستدعى بالقضاة والأعيان، وأشهدهم على نفسه بما وقفه من ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ قدم إليه بجماعة من الأسارى من الأعراب الذين كانوا قد اعتدوا على الحجيج، فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عليهم فقتلوهم، فأخذ بعضهم فعوقب لكونه افتات على السلطان‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق شديد في سوق النجارين ببغداد فأحرق السوق بكامله، وفي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثلاثة عشر يوماً، ولم يمرض في خلافته مع طولها إلا هذه المرضة‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها، فاتهمه بعض الكتاب بمراسلته القرامطة، فلما انكشف أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جداً‏.‏

 وممن توفي من الأعيان‏:‏

 النسائي أحمد بن علي

ابن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي صاحب السنن، الإمام في عصره والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره، رحل إلى الآفاق، واشتغل بسماع الحديث والاجتماع بالأئمة الحذاق، ومشايخه الذين روى عنهم مشافهة قد ذكرناهم في كتابنا التكميل وترجمناه أيضاً هنالك، وروى عنه خلق كثير، وقد جمع السنن الكبير وانتخب منه ما هو أقل حجماً منه بمرات‏.‏

وقد وقع لي سماعهما‏.‏

وقد أبان في تصنيفه عن حفظ وإتقان وصدق وإيمان وعلم وعرفان‏.‏

قال الحاكم عن الدارقطني‏:‏ أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وكان يسمي كتابه الصحيح‏.‏

وقال أبو علي الحافظ‏:‏ للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم بن الحجاج، وكان من أئمة المسلمين‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ هو الإمام في الحديث بلا مدافعة‏.‏

وقال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد‏.‏

وقال غيره كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان له أربع زوجات وسريتان، وكان كثير الجماع، حسن الوجه مشرق اللون‏.‏

قالوا‏:‏ وكان يقسم للإماء كما يقسم للحرائر‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ كان أبو بكر بن الحداد كثير الحديث ولم يرو عن أحد سوى النسائي وقال‏:‏ رضيت به حجة فيما بيني وبين الله عز وجل‏.‏

وقال ابن يونس‏:‏ كان النسائي إماماً في الحديث ثقة ثبتاً حافظاً، كان خروجه من مصر في سنة ثنتين وثلاثمائة‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ سمعت منصوراً الفقيه وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان‏:‏ أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين، وكذلك أثنى عليه غير واحد من الأئمة وشهدوا له بالفضل والتقدم في هذا الشأن‏.‏

وقد ولي الحكم بمدينة حمص‏.‏

سمعته من شيخنا المزي عن رواية الطبراني في معجمه الأوسط حيث قال‏:‏ حدثنا أحمد بن شعيب الحاكم بحمص وذكروا أنه كان له من النساء أربع نسوة، وكان غاية الحسن، وجهه كأنه قنديل، وكان يأكل في كل يوم ديكا ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال، وقد قيل عنه‏:‏ إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع‏.‏

قالوا‏:‏ ودخل إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية فقال‏:‏ أما يكفي معاوية أن يذهب رأساً برأس حتى يروى له فضائل‏؟‏

فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد الجامع، فسار من عندهم إلى مكة فمات بها في هذه السنة، وقبره بها هكذا حكاه الحاكم عن محمد بن إسحاق الأصبهاني عن مشايخه‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ كان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع، فقال‏:‏ أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، فتوفي بمكة مقتولاً شهيداً مع ما رزق من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره، مات مكة سنة ثلاث وثلاثمائة‏.‏

قال الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الغنى بن نقطة في تقييده ومن خطه نقلت ومن خط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري الحافظ‏:‏ مات أبو عبد الرحمن النسائي بالرملة مدينة فلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة، ودفن ببيت المقدس‏.‏

وحكى ابن خلكان أنه توفي في شعبان من هذه السنة، وأنه إنما صنف الخصائص في فضل علي وأهل البيت، لأنه رأى أهل دمشق حين قدمها في سنة ثنتين وثلاثمائة عندهم نفرة من علي وسألوه عن معاوية فقال ما قال، فدققوه في خصيتيه فمات‏.‏

وهكذا ذكر ابن يونس وأبو جعفر الطحاوي‏:‏ إنه توفي بفلسطين في صفر من هذه السنة، وكان مولده في سنة خمس عشرة أو أربع عشرة ومائتين تقريباً عن قوله، فكان عمره ثمانياً وثمانين سنة‏.‏

 الحسن بن سفيان

ابن عامر بن عبد العزيز بن النعمان بن عطاء، أبو العباس الشيباني النسوي، محدث خراسان، وقد كان يضرب إليه آباط الإبل في معرفة الحديث والفقه‏.‏

رحل إلى الآفاق وتفقه على أبي ثور، وكان يفتي بمذهبه، وأخذ الأدب عن أصحاب النضر بن شميل، وكانت إليه الرحلة بخراسان‏.‏

ومن غريب ما اتفق له‏:‏ أنه كان هو وجماعة من أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الحديث، فضاق عليهم الحال حتى مكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون فيها شيئاً، ولا يجدون ما يبيعونه للقوت، واضطرهم الحال إلى تجشم السؤال، وأنفت أنفسهم من ذلك وعزت عليهم وامتنع كل الامتناع، والحاجة تضطرهم إلى تعاطي ذلك، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يقوم بأعباء هذا الأمر، فوقعت القرعة على الحسن بن سفيان هذا

فقام عنهم فاختلى في زاوية المسجد الذي هم فيه فصلى ركعتين أطال فيهما واستغاث بالله عز وجل، وسأله بأسمائه العظام، فما انصرف من الصلاة حتى دخل عليهم المسجد شاب حسن الهيئة مليح الوجه فقال‏:‏ أين الحسن بن سفيان‏؟‏

فقلت‏:‏ أنا‏.‏

فقال‏:‏ الأمير طولون يقرأ عليكم السلام ويعتذر إليكم في تقصيره عنكم، وهذه مائة دينار لكل واحد منكم‏.‏

فقلنا له‏:‏ ما الحامل له على ذلك‏؟‏

فقال‏:‏ إنه أحب أن يختلي اليوم بنفسه، فبينما هو الآن نائم إذ جاءه فارس في الهواء بيده رمح فدخل عليه منزله ووضع عقب الرمح في خاصرته فوكزه وقال‏:‏ قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه، قم فأدركهم، قم فأدركهم، فإنهم منذ ثلاث جياع في المسجد الفلاني‏.‏ ‏

فقال له‏:‏ من أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أنا رضوان خازن الجنة‏.‏

فاستيقظ الأمير وخاصرته تؤلمه ألماً شديداً، فبعث بالنفقة في الحال إليكم‏.‏

ثم جاء لزيارتهم واشترى ما حول ذلك المجلس ووقفه على الواردين عليه من أهل الحديث، جزاه الله خيراً‏.‏

وقد كان الحسن بن سفيان رحمه الله من أئمة هذا الشأن وفرسانه وحفاظه، وقد اجتمع عنده جماعة من الحفاظ منهم ابن جرير الطبري وغيره، فقرؤوا عليه شيئاً من الحديث وجعلوا يقلبون الأسانيد ليستعلموا ما عنده من العلم، فما قلبوا شيئاً من الإسناد إلا ردّهم فيه إلى الصواب، وعمره إذ ذاك سبعون سنة، وهو في هذا السن حافظ ضابط لا يشذ عنه شيء من حديثه‏.‏

ومن فوائده‏:‏ العبسي كوفي، والعيشي بصري، والعنسي مصري‏.‏

 

 رويم بن أحمد

ويقال‏:‏ ابن محمد بن رويم بن يزيد، أبو الحسن، ويقال‏:‏ أبو محمد، أحد أئمة الصوفية، كان عالماً بالقرآن ومعانيه، وكان يتفقه على مذهب داود بن علي الظاهري، قال بعضهم‏:‏ كان رويم يكتم حب الدنيا أربعين سنة، ومعناه أنه تصوف أربعين سنة، ثم لما ولي إسماعيل بن إسحاق القضاء ببغداد جعله وكيلاً في بابه، فترك التصوف ولبس الخز والقصب والديبقى وركب الخيل وأكل الطيبات وبنى الدور‏.‏

زهير بن صالح بن الإمام أحمد بن حنبل

روى عن أبيه وعنه أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد، كان ثقة، مات وهو شاب، قاله الدارقطني‏.‏

 أبو علي الجبائي

شيخ المعتزلة، واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو علي الجبائي شيخ طائفة الاعتزال في زمانه، وعليه اشتغل أبو الحسن الأشعري ثم رجع عنه، وللجبائي تفسير حافل مطول، له فيه اختيارات غريبة في التفسير، وقد رد عليه الأشعري فيه وقال‏:‏ وكأن القرآن نزل في لغة أهل جباء‏.‏

كان مولده في سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات في هذه السنة‏.‏

 أبو الحسن بن بسام الشاعر

واسمه علي بن أحمد بن منصور بن نصر بن بسام البسامي الشاعر المطبق للهجاء، فلم يترك أحداً حتى هجاه حتى أباه وأمه أمامة بنت حمدون النديم‏.‏

وقد أورد له ابن خلكان أشياء كثيرة من شعره، فمن ذلك قوله في تخريب المتوكل قبر الحسن بن علي وأمره بأن يزرع ويمحي رسمه، وكان شديد التحامل على علي وولده‏.‏

فلما وقع ما ذكرناه سنة ست وثلاثين ومائتين‏.‏

قال ابن بسام هذا في ذلك‏:‏

تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما

 ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة

فيها عزل المقتدر وزيره أبا الحسن علي بن عيسى بن الجراح، وذلك لأنه وقعت بينه وبين أم موسى القهرمانة نفرة شديدة، فسأل الوزير أن يُعفى من الوزارة فعزل ولم يتعرضوا لشيء من أملاكه‏.‏

وطلب أبو الحسن بن الفرات فأعيد إلى الوزارة بعد عزله عنها خمس سنين، وخلع عليه الخليفة يوم التروية سبع خلع، وأطلق إليه ثلاثمائة ألف درهم، وعشرة تخوت ثياب، ومن الخيل والبغال والجمال شيء كثير، وأقطع الدار التي بالحريم فسكنها، وعمل فيها ضيافة تلك الليلة فسقى فيها أربعين ألف رطل من الثلج‏.‏

وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيواناً يقال له‏:‏ الزرنب، يطوف بالليل يأكل الأطفال من الأسرّة ويعدو على النيام فربما قطع يد الرجل وثدي المرأة وهو نائم‏.‏

فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين وغيرها ينفرونه عنهم، حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها، واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف وغيرها، واغتنمت اللصوص هذه الشوشة فكثرت النقوب وأخذت الأموال، فأمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على الجسر ليسكن الناس عن ذلك، ففعلوا فسكن الناس ورجعوا إلى أنفسهم واستراح الناس من ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ قلد ثابت بن سنان الطبيب أمر المارستان ببغداد في هذه السنة، وكانت خمساً، وكان هذا الطبيب مؤرخاً‏.‏

وفيها‏:‏ ورد كتاب من خراسان بأنهم وجدوا قبور شهداء قد قتلوا في سنة سبعين من الهجرة مكتوبة أسماؤهم في رقاع مربوطة في آذانهم، وأجسادهم طرية كما هي، رضي الله عنهم‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

لبيد بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن صالح

ابن عبد الله بن الحصين بن علقمة بن نعيم بن عطارد بن حاجب، أبو الحسن التميمي الملقب فروجة، قدم بغداد وحدث بها، وكان ثقة حافظاً‏.‏

 يوسف بن الحسين بن علي

أبو يعقوب الرازي، سمع أحمد بن حنبل وصحب ذا النون، وكان قد بلغه أن ذا النون يحفظ اسم الله الأعظم فقصده ليعلمه إياه، قال‏:‏ فلما وردت عليه استهان بي وكانت لي لحية طويلة ومعي ركوة طويلة‏.‏

فجاء رجل يوماً فناظر ذا النون فأسكت ذا النون، فقلت له‏:‏ دع الشيخ وأقبل عليّ‏.‏

فأقبل فناظرته فأسكته، فقام ذو النون فجلس بين يدي وهو شيخ وأنا شاب، ثم اعتذر إلي‏.‏

فخدمته سنة ثم سألته أن يعلمني الاسم الأعظم، فلم يبعد مني ووعدني، فمكثت عنده بعد ذلك ستة أشهر، ثم أخرج إلي طبقاً عليه مكبة مستوراً بمنديل، فقال لي‏:‏ اذهب بهذا الطبق إلى صاحبنا فلان‏.‏

قال‏:‏ فجعلت أفكر في الطريق ما هذا الذي أرسلني به‏؟‏

فلما وصلت الجسر فتحته فإذا فأرة ففرت وذهبت، فاغتظت غيظاً شديداً، وقلت‏:‏ ذو النون سخر بي، فرجعت إليه وأنا حنق فقال لي‏:‏ ويحك إنما اختبرتك، فإذا لم تكن أميناً على فأرة فإن لا تكون أميناً على الاسم الأعظم بطريق الأولى، اذهب عني فلا أراك بعدها‏.‏

وقد رُئي أبو الحسين الرازي هذا في المنام بعد موته فقيل له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بقولي عند الموت‏:‏ اللهم إني نصحت الناس قولاً وخنت نفسي فعلاً، فهب خيانة فعلي لنصح قولي‏.‏

 يموت بن المزرّع بن يموت

أبو بكر العبدي من عبد القيس، وهو ثوري، وهو ابن أخت الجاحظ‏.‏

قدم بغداد وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وكان صاحب أخبار وآداب وملح، وقد غير اسمه بمحمد فلم يغلب عليه إلا الأول، وكان إذا ذهب يعود مريضاً فدق الباب فقالوا‏:‏ من‏؟‏

فيقول‏:‏ ابن المزرع ولا يذكر اسمه لئلا يتفاءلوا به‏.‏ ‏

 

 ثم دخلت سنة خمسة وثلاثمائة

فيها قدم رسول ملك الروم في طلب المفاداة والهدنة، وهو شاب حدث السن ومعه شيخ منهم وعشرون غلاماً، فلما قدم بغداد شاهد أمراً عظيماً جداً، وذلك أن الخليفة أمر الجيش والناس بالاحتفال بذلك ليشاهد ما فيه إرهاب الأعداء، فركب الجيش بكماله وكان مائة ألف وستين ألفاً، ما بين فارس وراجل، غير العساكر الخارجة في سائر البلاد مع نوابها، فركبوا في الأسلحة والعدد التامة، وغلمان الخليفة سبعة آلاف، أربعة آلاف بيض، وثلاثة آلاف سود، وهم في غاية الملابس والعدد والحلي، والحجبة يومئذ سبعمائة حاجب، وأما الطيارات التي بدجلة والزيارب والسمريات فشيء كثير مزينة، فحين دخل الرسول دار الخلافة انبهر وشاهد أمراً أدهشه، ورأى من الحشمة والزينة والحرمة ما يبهر الأبصار‏.‏

وحين اجتاز بالحاجب ظن أنه الخليفة فقيل له‏:‏ هذا الحاجب، فمر بالوزير في أبهته فظنه الخليفة فقيل له‏:‏ هذا الوزير‏.‏

وقد زينت دار الخلافة بزينة لم يسمع بمثلها، كان فيها من الستور يومئذ ثمانية وثلاثون ألف ستر، منها عشرة آلاف وخمسمائة ستر مذهبة، وقد بسط فيها اثنان وعشرون ألف بساط لم ير مثلها، وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس، تأكل من أيديهم ومائة سبع من السباعة‏.‏

ثم أدخل إلى دار الشجرة، وهي عبارة عن بركة فيها ماء صاف وفي وسط ذلك الماء شجرة من ذهب وفضة لها ثمانية عشر غصناً أكثرها من ذهب، وفي الأغصان الشماريخ والأوراق الملونة من الذهب والفضة واللآلئ واليواقيت، وهي تصوت بأنواع الأصوات من الماء المسلط عليها، والشجرة بكمالها تتمايل كما تتمايل الأشجار بحركات عجيبة تدهش من يراها‏.‏

ثم أدخل إلى مكان يسمونه الفردوس فيه من أنواع المفارش والآلات ما لا يحد ولا يوصف كثرة وحسناً‏.‏

وفي دهاليزه ثمانية عشرة ألف جوشن مذهبة‏.‏

فما زال كلما مر على مكان أدهشه وأخذ ببصره حتى انتهى إلى المكان الذي فيه الخليفة المقتدر بالله، وهو جالس على سرير من آبنوس، قد فرش بالديبقى المطرز بالذهب، وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة، وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر، كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار، ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها، فأوقف الرسول والذين معه بين يدي الخليفة على نحو من مائة ذراع، والوزير علي بن محمد بن الفرات واقف بين يدي الخليفة، والترجمان دون الوزير، والوزير يخاطب الترجمان والترجمان يخاطبهما، ‏فلما فرغ منها خلع عليهما وأطلق لهما خمسين سقرقاً في كل سقرق خمسة آلاف درهم، وأخرجا من بين يديه وطيف بهما في بقية دار الخلافة، وعلى حافات دجلة الفيلة والزرافات والسباع والفهود وغير ذلك، ودجلة داخلة في دار الخلافة، وهذا من أغرب ما وقع من الحوادث في هذه السنة‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 محمد بن أحمد أبو موسى

النحوي الكوفي المعروف بالجاحظ، صحب ثعلباً أربعين سنة وخلفه في حلقته، وصنف غريب الحديث، وخلق الإنسان، والوحوش والنبات، وكان ديناً صالحاً، روى عنه أبو عمر الزاهد‏.‏

توفي ببغداد في ذي الحجة منها، ودفن بباب التين‏.‏

و عبد الله شيرويه الحافظ، وعمران بن مجاشع، وأبو خليفة الفضل بن الحباب‏.‏

وقاسم بن زكريا ابن يحيى المطرز المقري أحد الثقات الأثبات، سمع أبا كريب، وسويد بن سعيد، وعنه الخلدي وأبو الجعابي، توفي ببغداد‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

في أول يوم من المحرم فتح المارستان الذي بنته السيدة أم المقتدر وجلس فيه سنان بن ثابت ورتبت فيه الأطباء والخدم والقومة، وكانت نفقته في كل شهر ستمائة دينار، وأشار سنان على الخليفة ببناء مارستان، فقبل منه وبناه وسماه المقتدري‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار عن أمراء الصوائف بما فتح الله عليهم من الحصون في بلاد الروم‏.‏

وفيها‏:‏ رجفت العامة وشنعوا بموت المقتدر، فركب في الجحافل حتى بلغ الثريا ورجع من باب العامة ووقف كثيراً ليراه الناس، ثم ركب إلى الشماسية وانحدر إلى دار الخلافة في دجلة فسكنت الفتن‏.‏

وفيها‏:‏ قلد المقتدر حامد بن العباس الوزارة وخلع عليه وخرج من عنده وخلفه أربعمائة غلام لنفسه، فمكث أياماً ثم تبين عجزه عن القيام بالأمور فأضيف إليه علي بن عيسى لينفذ الأمور وينظر معه في الأعمال،  وكان أبو علي بن مقلة ممن يكتب أيضاً بحضرة حامد بن العباس الوزير، ثم صارت المنزلة كلها لعلي بن عيسى واستقل بالوزارة في السنة الآتية‏.‏

وفيها‏:‏ أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها تعرف بتملي أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة في كل يوم جمعة، وأن تنظر في المظالم التي ترفع إليها في القصص، ويحضر في مجلسها القضاة والفقهاء‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 إبراهيم بن أحمد بن الحارث

أبو القاسم الكلابي الشافعي، سمع الحارث بن مسكين وغيره، وكان رجلاً صالحاً، تفقه على مذهب الشافعي وكان يحب الخلوة والانقباض، توفي في شعبان منها‏.‏

أحمد بن الحسن الصوفي أحد مشايخ الحديث المكثرين المعمرين‏.‏

 أحمد بن عمر بن سريج

أبو العباس القاضي بشيراز، صنف نحو أربعمائة مصنف، وكان أحد أئمة الشافعية، ويلقب بالباز الأشهب، أخذ الفقه عن أبي قاسم الأنماطي وعن أصحاب الشافعي، كالمزني وغيره، وعنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، وقد ذكرنا ترجمته في الطبقات‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ توفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الأول وعمره سبع وخمسون سنة وثلاثة أشهر، وقبره يزار‏.‏

 أحمد بن يحيى

أبو عبد الله الجلاء بغدادي، سكن الشام وصحب أبا التراب النخشبي، وذا النون المصري، روى أبو نعيم بسنده عنه قال‏:‏ قلت لأبوي وأنا شاب‏:‏ إني أحب أن تهباني لله عز وجل‏.‏

فقالا‏:‏ قد وهبناك لله‏.‏

فغبت عنهما مدة طويلة ثم رجعت إلى بلدنا عشاء في ليلة مطيرة، فانتهيت إلى الباب فدفعته فقالا‏:‏ من هذا‏؟‏

فقلت‏:‏ أنا ولدكما فلان‏.‏

فقالا‏:‏ إنه قد كان لنا ولد ووهبناه لله عز وجل، ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبنا‏.‏

ولم يفتحا لي الباب‏.‏

الحسن بن يوسف بن إسماعيل بن حماد بن زيد

القاضي أبو يعلى، وهو أخو القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، كان إليه ولاية القضاء بالأردن‏.‏

 عبد الله بن أحمد بن موسى بن زياد

أبو محمد الجواليقي القاضي، المعروف بعبدان، الأهوازي، ولد سنة ست عشرة ومائتين، كان أحد الحفاظ الأثبات، يحفظ مائة ألف حديث، جمع المشايخ والأبواب، روى عن هدبة وكامل بن طلحة وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وغيرهم‏.‏

محمد بن بابشاذ أبو عبيد الله البصري

سكن بغداد وحدث بها عن عبيد الله بن معاذ العنبري وبشر بن معاذ العقدي وغيرهما، وفي حديثه غرائب ومناكير‏.‏

توفي في شوال منها‏.‏

 محمد بن الحسين بن شهريار

أبو بكر القطان البلخي الأصل، روى عن الفلاس وبشر بن معاذ‏.‏

وعنه أبو بكر الشافعي ومحمد بن عمر بن الجعاني‏.‏

كذبه ابن ناجية‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ ليس به بأس‏.‏

محمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد

أبو بكر الضبي القاضي المعروف بوكيع، كان عالماً فاضلاً عارفاً بأيام الناس، فقيهاً قارئاً نحوياً، له مصنفات منها‏:‏ كتاب ‏(‏عدد آي القرآن‏)‏، ولي القضاء بالأهواز‏.‏

وحدث عن الحسن بن عرفة والزبير بن بكار وغيرهما، وعنه أحمد بن كامل وأبو علي الصواف وغيرهما‏.‏

ومن شعره الجيد‏:‏

إذا ما غدت طلابة العلم تبتغي * من العلم يوماً ما يخلد في الكتب

غدوت بتشمير وجد عليهم * ومحبرتي أذني ودفترها قلبي

 منصور بن إسماعيل بن عمر

أبو الحسن الفقير، أحد أئمة الشافعية، وله مصنفات في المذهب، وله الشعر الحسن‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ويظهر في شعره التشيع، وكان جندياً ثم كفّ بصره وسكن الرملة، ثم قدم مصر ومات بها‏.‏

 أبو نصر المحب

أحد مشايخ الصوفية، كان له كرم وسخاء ومروءة، ومر بسائل سأل وهو يقول‏:‏ شفيعي إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق أبو نصر إزاره وأعطاه نصفه، ثم مشى خطوتين ثم رجع إليه فأعطاه النصف الآخر وقال‏:‏ هذا نذالة‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة

في صفر منها وقع حريق بالكرخ في الباقلانتين، هلك فيه خلق كثير من الناس‏.‏

وفي ربيع الآخر منها دخل بأسارى من الكرخ نحو مائة وخمسين أسيراً، أنقذهم الأمير بدر الحماني‏.‏

وفي ذي القعدة منها انقضّ كوكب عظيم غالب الضوء وتقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم‏.‏

ذكره ابن الجوزي‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت القرامطة إلى البصرة فأكثروا فيها الفساد‏.‏

وفيها‏:‏ عزل حامد بن العباس عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن بن الفرات المرة الثالثة‏.‏

وفيها‏:‏ كسرت العامة أبواب السجون فأخرجوا من كان بها، وأدركت الشرطة من أخرجوا من السجن فلم يفتهم أحد منهم، بل ردوا إلى السجون‏.‏

وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو أم موسى القهرمانة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي بن المثنى

أبو يعلى الموصلي صاحب المسند المشهور، سمع الإمام أحمد بن حنبل وطبقته، وكان حافظاً خيراً حسن التصنيف عدلاً فيما يرويه، ضابطاً لما يحدث به‏.‏

إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن سلمة

أبو يعقوب البزار الكوفي، رحل إلى الشام ومصر وكتب الكثير وصنف المسند، واستوطن بغداد، وكان من الثقات، روى عنه ابن المظفر الحافظ، قدم بغداد وروى عنه الطبراني والأزدي وغيرهما من الحفاظ، وكان ثقة حافظاً عارفاً‏.‏

توفي بحلب في هذه السنة‏.‏

 زكريا بن يحيى الساجي

الفقيه المحدث شيخ أبي الحسن الأشعري في السنّة والحديث‏.‏

علي بن سهل بن الأزهر أبو الحسن الأصبهاني، كان أولاً مترفاً ثم صار زاهداً عابداً، يبقى الأيام لا يأكل فيها شيئاً، وكان يقول‏:‏ ألهاني الشوق إلى الله عن الطعام والشراب‏.‏

وكان يقول‏:‏ أنا لا أموت كما يموتون بالأعلال والأسقام، إنما هو دعاء وإجابة، أدعي فأجيب‏.‏

فكان كما قال‏:‏ بينما هو جالس في جماعة إذ قال‏:‏ لبيك ووقع ميتاً‏.‏

محمد بن هارون الروياني صاحب المسند‏.‏

وابن دريج العكبري‏.‏

والهيثم بن خلف‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة

فيها‏:‏ غلت الأسعار في هذه السنة ببغداد، فاضطربت العامة وقصدوا دار حامد بن العباس الذي ضمن براثى من الخليفة فغلت الأسعار بسبب ذلك، وعدوا في ذلك اليوم - وكان يوم الجمعة - على الخطيب، فمنعوه الخطبة وكسروا المنابر وقتلوا الشرط وحرقوا جسوراً كثيرة، فأمر الخليفة بقتال العامة ثم نقض الضمان الذي كان حامد بن العباس ضمنه فانحطت الأسعار، وبيع الكر بناقص خمسة دنانير، فطابت أنفس الناس بذلك وسكنوا‏.‏

وفي تموز منها وقع برد شديد جداً حتى نزل الناس عن الأسطحة وتدثروا باللحف والأكسية، ووقع في شتاء هذه السنة بلغم عظيم، وكان فيها برد شديد جداً بحيث أضر ذلك ببعض النخيل‏.‏

وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو القهرمانة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن سفيان الفقيه

راوي صحيح مسلم عنه‏.‏

 أحمد بن الصلت

أحمد بن الصلت ابن المغلس أبو العباس الحماني أحد الوضاعين للأحاديث، روى عن خاله جبارة بن المغلس وأبي نعيم ومسلم بن إبراهيم، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم‏:‏ أحاديث كلها وضعها هو في مناقب أبي حنيفة وغير ذلك‏.‏

وحكى عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وبشر بن الحارث أخباراً كلها كذب‏.‏

قال أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ قال لي محمد بن أبي الفوارس‏:‏ كان أحمد بن الصلت يضع الحديث‏.‏

 إسحاق بن أحمد الخزاعي‏.‏

والمفضل الجندي‏.‏

و عبد الله بن محمد بن وهب الدينوري‏.‏

و عبد الله بن ثابت بن يعقوب

أبو عبد الله المقري النحوي التوزي، سكن بغداد، وروى عن عمرو بن شبة، وعنه أبو عمرو بن السماك‏.‏

ومن شعره الجيد‏:‏

إذا لم تكن حافظاً واعياً * فعلمك في البيت لا ينفع

وتحضر بالجهل في مجلس * وعلمك في الكتب مستودع

ومن يك في دهره هكذا * يكن دهره القهقرى يرجع

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة

فيها‏:‏ وقع حريق كثير في نواحي بغداد بسبب زنديق قتل فألقى من كان من جهته الحريق في أماكن كثيرة، فهلك بسبب ذلك خلق كثير من الناس‏.‏

وفي جمادى الأولى منها قلد المقتدر مؤنس الخادم بلاد مصر والشام ولقبه المظفر‏.‏

وأمر بكتب ذلك في المراسلات إلى الآفاق‏.‏

وفي ذي القعدة منها أحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إلى دار الوزير عيسى بن علي لمناظرة الحنابلة في أشياء نقموها عليه، فلم يحضروا ولا واحد منهم‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الوزير حامد بن العباس للخليفة بستاناً بناه وسماه الناعورة قيمته مائة ألف دينار، وفرش مساكنه بأنواع المفارش المفتخرة‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل الحسين بن منصور الحلاج ولنذكر شيئاً من ترجمته وسيرته، وكيفية قتله على وجه الإيجاز وبيان المقصود بطريق الإنصاف والعدل، من غير تحمل ولا هوى ولا جور‏.‏

 ترجمة الحلاج

ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله، فنقول‏:‏ هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، ويقال‏:‏ أبو عبد الله، كان جده مجوسياً اسمه محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها‏:‏ البيضاء، ونشأ بواسط، ويقال‏:‏ بتستر، ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلاً من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة‏.‏

وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف‏:‏ الحسين بن منصور عالم رباني‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن السلمي - واسمه محمد بن الحسين - سمعت إبراهيم بن محمد النصراباذي وعوتب في شيء حكي عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه‏:‏ إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج‏.‏

قال أبو عبد الرحمن‏:‏ وسمعت منصور بن عبد الله يقول‏:‏ سمعت الشبلي يقول‏:‏ كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً إلا أنه أظهر وكتمت‏.‏

وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال، وقد رأى الحلاج مصلوباً‏:‏ ألم أنهك عن العالمين‏؟‏

قال الخطيب‏:‏ والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقيدته وعقده‏.‏ ‏

قال‏:‏ وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون‏.‏

وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق، وله شعر على طريقة الصوفية‏.‏

قلت‏:‏ لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره، فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة‏:‏ إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافراً، وكان كافراً ممخرقاً مموهاً مشعبذاً، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه‏.‏

ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله، فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان‏.‏

فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد، فصار من أهل الانحلال والانحراف‏.‏

وقد روى من وجه‏:‏ أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل‏.‏

وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال‏:‏ أدعو به إلى الله وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث - أي‏:‏ أنه من رجال المغيث - ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت‏.‏

ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد‏.‏

وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار‏.‏

وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له‏:‏ المصطلم، وأهل البصرة يقولون له‏:‏ المحير، ويقال‏:‏ إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم، وقيل‏:‏ لأنه مرة قال لحلاج‏:‏ اذهب لي في حاجة كذا وكذا‏.‏

فقال‏:‏ إني مشغول بالحلج‏.‏

فقال‏:‏ اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعاً فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه، يقال‏:‏ إنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن، وفي صحة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا، فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم‏.‏

وقيل‏:‏ لأن أباه كان حلاجاً‏.‏

ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها‏:‏ شعره في ذلك فمن ذلك قوله‏:‏

جبلت روحك في روحي كما * يجبل العنبر بالمسك الفنق

فإذا مسك شيء مسني * وإذا أنت أنا لا نفترق

وقوله‏:‏

مزجت روحك في روحي كما * تمزج الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسك شيء مسني * فإذا أنت أنا في كل حال

وقوله أيضاً‏:‏

قد تحققتك في سر * ي فخاطبك لساني

فاجتمعنا لمعان * وافترقنا لمعان

إن يكن غيبتك التعظي * م عن لحظ العيان

فلقد صيرك الوج * د من الأحشاء دان

وقد أنشد لابن عطاء قول الحلاج‏:‏

أريدك لا أريدك للثواب * ولكني أريدك للعقاب

وكل مآربي قد نلت منها * سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

فقال ابن عطاء‏:‏ قال‏:‏ هذا ما تزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف، واحتراق الأسف، فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهاطل من الحق دائم سكب‏.‏

وقد أنشد لأبي عبد الله بن خفيف قول الحلاج‏:‏

سبحان من أظهر ناسوته * سرَّسنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهراً * في صورة الآكل والشارب

حتى قد عاينه خلقه * كلحظة الحاجب بالحاجب

فقال ابن خفيف‏:‏ علا من يقول هذا لعنه الله‏؟‏

فقيل له‏:‏ إن هذا من شعر الحلاج‏.‏

فقال‏:‏ قد يكون مقولاً عليه‏.‏

وينسب إليه أيضاً‏:‏

أوشكت تسأل عني كيف كنت * وما لاقيت بعدك من هم وحزن

لا كنت إن كنت إن كنت أدري كيف كنت * ولا لا كنت أدري كيف لم أكن

قال ابن خلكان‏:‏ ويروى لسمنون لا للحلاج‏.‏

ومن شعره أيضاً قوله‏:‏

متى سهرت عيني لغيرك أو بكت * فلا أعطيت ما أملت وتمنت

وإن أضمرت نفسي سواك فلا زكت * رياض المنى من وجنتيك وجنت

ومن شعره أيضاً‏:‏

دنيا تغالطني كأن * ني لست أعرف حالها

حظر المليك حرامها * وأنا احتميت حلالها

فوجدتها محتاجة * فوهبت لذتها لها

وقد كان الحلاج يتلّون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس زرية، وتارة يلبس لباس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك والأجناد‏.‏

وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة وبيده ركوة وعكازة وهو سائح فقال له‏:‏ ما هذه الحالة يا حلاج‏؟‏

فأنشأ يقول‏:‏

لئن أمسيت في ثوبي عديم * لقد بليا على حرّ كريم

فلا يغررك أن أبصرت حالاً * مغيرة عن الحال القديم

فلي نفس ستتلف أو سترقى * لعمرك بي إلى أمر جسيم

ومن مستجاد كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه الله به‏.‏

فقال‏:‏ عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك عن الحق‏.‏

وقال له رجل‏:‏ عظني‏.‏

فقال‏:‏ كن مع الحق بحكم ما أوجب‏.‏

وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال‏:‏ علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات‏:‏ حب الجليل وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخطأ الحلاج في المقامين الأخيرين، فلم يتبع التنزيل ولم يبق على الاستقامة، بل تحول عنها إلى الإعوجاج والبدعة والضلالة، نسأل الله العافية‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي‏:‏ أنه قال‏:‏ كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال‏:‏ يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول‏:‏ الناس فيه - يعني حسين بن منصور الحلاج - بين قبول ورد‏.‏

ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي يقول‏:‏ سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول‏:‏ لو قدرت عليه لقتلته بيدي‏.‏

فقلت له‏:‏ إيش الذي وجد الشيخ عليه‏؟‏

قال‏:‏ قرأت آية من كتاب الله فقال‏:‏ يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به‏.‏

قال أبو زرعة الطبري‏:‏ وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول

‏:‏ زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال، خبيث كافر‏.‏

قلت‏:‏ كان تزويجه إياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريق الخطيب‏.‏

وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ‏:‏ أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئاً في أوراق فقال له‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقال‏:‏ هو ذا أعارض القرآن‏.‏

قال‏:‏ فدعا عليه فلم يفلح بعدها‏.‏

وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته‏.‏

وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتباً كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يميناً وشمالاً، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلطه على صديق‏.‏

كيف وقد تهجم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ولا إلحاد أعظم من هذا‏.‏ ‏

وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏‏.‏

 أشياء من حيل الحلاج

روى الخطيب البغدادي‏:‏ أن الحلاج بعث رجلاً من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته، قال لهم‏:‏ يا جماعة الخير، إنه لا ينفني شيء مما تفعلون‏.‏

ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له‏:‏ إن شفاءك لا يكون إلا على يديّ القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وصفته كذا وكذا‏.‏

وقال له الحلاج‏:‏ إني سأقدم عليك في ذلك الوقت‏.‏

فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد، ويظهر الصلاح والتنسك ويقرأ القرآن‏.‏

فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه، ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حيناً على ذلك، ثم أظهر لهم أنه قد زمن، فسعوا بمداواته بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء، فقال لهم‏:‏ يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج شيئاً وأنا قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول لي‏:‏ إن عافيتك وشفاءك إنما هو على يديّ القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وكانوا أولاً يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه كان في الوقت الذي ذكر لهم، واتفق هو والحلاج عليه، أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفياً وعليه ثياب صوف بيض، فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتفت إلى أحد، فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل، فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به‏.‏

ثم جاؤوا إلى ذلك الزمن المتعافى فأخبره بخبره، فقال‏:‏ صفوه لي‏.‏

فوصفوه له فقال‏:‏ هذا الذي أخبرني عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأن شفائي على يديه، اذهبوا بي إليه‏.‏

فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال‏:‏ يا أبا عبد الله إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام‏.‏

ثم ذكر له رؤياه، فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر، ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته، فمشى كأنه لم يكن به شيء والناس حضور، وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده، فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه، وعظموا الحلاج تعظيماً زائداً على ما أظهر لهم من الباطل والزور‏.‏

ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم‏.‏

فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالاً كثيراً فقال‏:‏ أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا، وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا، ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس، ويحجون ويتصدقون، محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك‏.‏

فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى‏:‏ صدق الشيخ، قد ردّ الله عليّ بصري ومنّ الله عليّ بالعافية، لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم، ‏ ثم حثهم على إعطائه من المال ما طابت به أنفسهم‏.‏

ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالاً كثيراً ألوفاً من الذهب والفضة، فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال‏.‏

وروي عن بعضهم قال‏:‏ كنت أسمع أن الحلاج له أحوال وكرامات، فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي‏:‏ تشتهي على الساعة شيئاً‏؟‏

فقلت أشتهي سمكاً طرياً‏.‏

فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج علي ومعه سمكة تضطرب ورجلاه عليهما الطين‏.‏

فقال‏:‏ دعوت الله فأمرني أن آتي البطائح لآتيك بهذه السمكة، فخضت الأهواز وهذا الطين منها‏.‏

فقلت‏:‏ إن شئت أدخلتني منزلك حتى أنظر ليقوى يقيني بذلك، فإن ظهرت على شيء وإلا آمنت بك‏.‏

فقال‏:‏ ادخل، فدخلت فأغلق علي الباب وجلس يراني‏.‏

فدرت البيت فلم أجد فيه منفذاً إلى غيره، فتحيرت في أمره ثم نظرت فإذا أنا بتأزيرة - وكان مؤزراً بازار ساج - فحركتها فانفلقت فإذا هي باب منفذ فدخلته فأفضى بي إلى بستان هائل، فيه من سائر الثمار الجديدة والعتيقة، قد أحسن إبقاءها‏.‏

وإذا أشياء كثيرة معدودة للأكل، وإذا هناك بركة كبيرة فيها سمك كثير صغار وكبار، فدخلتها فأخرجت منها واحدة فنال رجلي من الطين مثل الذي نال رجليه، فجئت إلى الباب فقلت‏:‏ افتح قد آمنت بك‏.‏

فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جرياً يريد أن يقتلني‏.‏

فضربته بالسمكة في وجهه وقلت‏:‏ يا عدو الله أتعبتني في هذا اليوم‏.‏

ولما خلصت منه لقيني بعد أيام فضاحكني وقال‏:‏ لا تفش ما رأيت لأحد، وإلا بعثت إليك من يقتلك على فراشك‏.‏

قال‏:‏ فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحداً حتى صلب‏.‏

وقال الحلاج يوماً لرجل‏:‏ آمن بي حتى أبعث لك بعصفورة تأخذ من ذرقها وزن حبة، فتضعه على كذا مناً من نحاس فيصير ذهباً‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ آمن أنت بي حتى أبعث إليك بفيل إذا استلقى على قفاه بلغت قوائمه إلى السماء، وإذا أردت أن تخفيه وضعته في إحدى عينيك‏.‏

قال‏:‏ فبهت وسكت‏.‏

ولما ورد بغداد جعل يدعو إلى نفسه ويظهر أشياء من المخاريق والشعوذة وغيرها من الأحوال الشيطانية، وأكثر ما كان يروج على الرافضة لقلة عقولهم وضعف تمييزهم بين الحق والباطل‏.‏

وقد استدعى يوماً برئيس من الرافضة فدعاه إلى الإيمان به، فقال له الرافضي‏:‏ إني رجل أحب النساء، وإني أصلع الرأس، وقد شبت، فإن أنت أذهبت عني هذا وهذا، آمنت بك وأنك الإمام المعصوم، وإن شئت قلت إنك نبي، وإن شئت قلت أنك أنت الله‏.‏

قال‏:‏ فبهت الحلاج ولم يحر إليه جواباً‏.‏

قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ كان الحلاج متلوناً تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم‏:‏ إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقاً أو غيرهم، ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة، فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال‏:‏ إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتاً لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك‏.‏

فلما بلغ ذلك إلى الحلاج تحول من الأهواز‏.‏

قال الخطيب‏:‏ أنبأ إبراهيم بن مخلد أنبأ إسماعيل بن علي الخطيب في تاريخه قال‏:‏ وظهر أمر رجل يقال له‏:‏ الحلاج الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به، وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان - يعني الخليفة المقتدر بالله - فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حياً أياماً متوالية في رحبة الجسر، في كل يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس‏.‏

فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس، خوفاً من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم، إلى أن حبس آخر حبسة في دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من الحيل، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله‏.‏

فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار‏.‏

فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحواً من ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه وجلاه‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن بن الحسن السلمي‏:‏ سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول‏:‏ قال أبو القاسم الرازي، قال أبو بكر بن ممشاذ‏:‏ حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها ليلاً ولا نهاراً، فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتاباً للحلاج، عنوانه‏:‏ ‏(‏من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان‏)‏ - يدعوه إلى الضلالة والإيمان به - فبعث بالكتب إلى بغداد فسئل الحلاج عن ذلك فأقر أنه كتبه فقالوا له‏:‏ كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الألوهية والربوبية‏؟‏

فقال‏:‏ لا ولكن هذا عين الجمع عندنا‏.‏

هل الكاتب إلا الله وأنا واليد آلة‏؟‏

فقيل له‏:‏ معك على ذلك أحد‏؟‏

قال‏:‏ نعم ابن عطاء وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي‏.‏

فسئل الحريري عن ذلك فقال‏:‏ من يقول بهذا كافر‏.‏

وسئل الشبلي عن ذلك فقال‏:‏ من يقول بهذا يمنع‏.‏

وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال‏:‏ القول ما يقول الحلاج في ذلك‏.‏

فعوقب حتى كان سبب هلاكه‏.‏

ثم روى أبو عبد الرحمن السلمي عن محمد بن عبد الرحمن الرازي‏:‏ أن الوزير حامد بن العباس لما أحضر الحلاج سأله عن اعتقاده فأقر به فكتبه، فسأل عن ذلك فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفروا من اعتقده، فكتبه‏.‏ ‏

فقال الوزير‏:‏ إن أبا العباس بن عطاء يقول بهذا‏.‏

فقالوا‏:‏ من قال بهذا فهو كافر‏.‏

ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس، فسأله عن قول الحلاج فقال‏:‏ من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد‏.‏

فقال الوزير لابن عطاء‏:‏ ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد‏؟‏

فقال ابن عطاء‏:‏ ما لك ولهذا، عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم وقتلهم، فما لك ولكلام هؤلاء السادة من الأولياء‏.‏

فأمر الوزير عند ذلك بضرب شدقيه ونزع خفيه وأن يضرب بهما على رأسه، فما زال يفعل به ذلك حتى سال الدم من منخريه، وأمر بسجنه‏.‏

فقالوا له‏:‏ إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها‏.‏

فحمل إلى منزله، فقال ابن عطاء‏:‏ اللهم اقتله واقطع يديه ورجليه‏.‏

ثم مات ابن عطاء بعد سبعة أيام، ثم بعد مدة قتل الوزير شر قتلة، وقطعت يداه ورجلاه وأحرقت داره‏.‏

وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فيمن أوذي ممن لهم معه هوى‏:‏ بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذي ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره‏:‏ هذا بخطيئة فلان‏.‏

وقد اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا‏.‏

قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الأولى قبل وفاة أبو بكر هذا وسئل عنه فقال‏:‏ إن كان ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم حقاً وما جاء به حقاً، فما يقوله الحلاج باطل‏.‏

وكان شديداً عليه‏.‏

وقال أبو بكر الصولي‏:‏ قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلاً يتعاقل، وغبياً يتبالغ، وخبيثاً مدعياً، وراغباً يتزهد، وفاجراً يتعبد‏.‏

ولما صلب في أول مرة ونودي عليه أربعة أيام سمعه بعضهم وقد جيء به ليصلب وهو راكب على بقرة يقول‏:‏ ما أنا بالحلاج، ولكن ألقي علي شبهه وغاب عنكم، فلما أدني إلى الخشبة ليصلب عليها سمعته وهو مصلوب يقول‏:‏ يا معين الفنا علي أعني على الفنا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ سمعته وهو مصلوب يقول‏:‏ إلهي أصبحت في دار الرغائب، أنظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك فكيف بمن يؤذى فيك‏.‏

صفة مقتل الحلاج

قال الخطيب البغدادي وغيره‏:‏ كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس، فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقاً من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه‏.‏

وقال‏:‏ إنه أحيا عدة من الطير‏.‏

وذكر لعلي بن عيسى‏:‏ أن رجلاً يقال له‏:‏ محمد بن علي القنائي الكاتب، يعبد الحلاج ويدعو الناس إلى طاعته، فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود‏.‏

ووجد عنده سفطاً فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده‏.‏

فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم، فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذبهم‏.‏

وقال‏:‏ أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك‏.‏

وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويكثر أن يقول‏:‏ سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏

وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيداً، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضاً، وكان مع ذلك يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة‏.‏

وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذوناً لمن يدخل إليه وكان يسمي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح، وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها‏.‏

فنفق سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العباس فحبسه في قيود كثيرة في رجليه، وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق‏.‏

ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه، أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له‏:‏ الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرفة والسحر شيئاً كثيراً، وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة‏.‏

من ذلك‏:‏ أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال‏:‏ قومي إلى الصلاة، وإنما كان يريد أن يطأها‏.‏

وأمر ابنتها بالسجود له فقالت‏:‏ أو يسجد بشر لبشر‏؟‏

فقال‏:‏ نعم إله في السماء وإله في الأرض‏.‏

ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحنها دنانير كثيرة مبدورة‏.‏

ولما كان معتقلاً في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه، فوجده قد ملأ البيت من سقفه إلى أرضه، فذعر ذلك الغلام وفزع فزعاً شديداً، وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام، ورجع محموماً فمرض عدة أيام‏.‏

ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف، وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه‏:‏ من أراد الحج ولم يتيسر له، فليبن في داره بيتاً لا يناله شيء من النجاسة، ولا يمكن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة‏.‏ ‏

ثم يستدعي بثلاثين يتيماً فيطعمهم من طعامه، ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم - أو قال‏:‏ ثلاثة دراهم - فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج‏.‏

وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا، أجزأه ذلك عن صيام رمضان‏.‏

ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره، أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك‏.‏

وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم، ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره‏.‏

فقال له القاضي أبو عمر‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏

فقال‏:‏ من كتاب الإخلاص للحسن البصري‏.‏

فقال له‏:‏ كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا‏.‏

فأقبل الوزير على القاضي فقال له‏:‏ قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة، وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة، وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر، وجعل الحلاج يقول لهم‏:‏ ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا عليّ ما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين، فالله الله في دمي‏.‏

فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول‏.‏

وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الأمر‏.‏

ورد الحلاج إلى محبسه، وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس، فكتب إلى الخليفة يقول له‏:‏ إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان، وقد افتتن كثير من الناس به‏.‏

فجاء الجواب‏:‏ بأن يسلم إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، وليضربه ألف سوط، فإن مات وإلا ضربت عنقه‏.‏

ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة، فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه، يصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفاً من أن يستنقذ من أيديهم‏.‏

وذلك بعد عشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة على مثل شكله، فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة، فذكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيراً‏.‏

قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ سمعت أبا بكر الشاشي يقول‏:‏ قال أبو الحديد - يعني المصري -‏:‏ لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله، فلما كان آخر الليل قام قائماً فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة، فتكلم بكلام جائز الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله‏:‏ نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك ومشيئتك‏.‏

وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إني أوعزت إلى شاهدك لأني في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعداً في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي، إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات‏.‏

ولججت في الجاريات، وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي، لأعظم من الراسيات‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

أنعى إليك نفوساً طاح شاهدها * فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم

أنعى إليك قلوباً طالما هطلت * سحائب الوحى فيها أبحر الحكم

أنعى إليك لسان الحق منك ومن * أودى وتذكاره في الوهم كالعدم

أنعي إليك بياناً يستكين له * أقوال كل فصيح مقول فهم

أنعى إليك إشارات العقول معاً * لم يبق منهن إلا دارس العلم

أنعى وحبك أخلاقاً لطائفة * كانت مطاياهم من مكمد الكظم

مضى الجميع فلا عين ولا أثر * مضى عاد وفقدان الأولى إرم

وخلفوا معشراً يحذون لبستهم * أعمى من البهم بل أعمى من النعم

قالوا‏:‏ ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد‏:‏

طلبت المستقر بكل أرض * فلم أر لي بأرض مستقرا

وذقت من الزمان وذاق مني * وجدت مذاقه حلوا ومرا

أطعت مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قنعت لعشت حرا

وقيل‏:‏ إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب، والمشهور الأول‏.‏

فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته، وفي رجليه ثلاثة عشر قيداً وجعل ينشد ويتمايل‏:‏

نديمي غير منسوب * إلى شيء من الحيف

فلما دارت الكأس * دعا بالنطع والسيف

سقاني مثل ما يشر * ب قعل الضيف الضيف

كذا من يشرب الراح * مع التنين في الصيف

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏} ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل‏.‏

قالوا‏:‏ ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة، ولم يتغير لونه، ويقال‏:‏ إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد‏.‏

قال أبو عبد الرحمن‏:‏ سمعت عبد الله بن علي يقول‏:‏ سمعت عيسى القصار يقول‏:‏ آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال‏:‏ حسب الواحد إفراد الواحد له‏.‏

فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا رق له، واستحسن هذا الكلام منه‏.‏

وقال السلمي‏:‏ سمعت أبا بكر المحاملي يقول‏:‏ سمعت أبا الفاتك البغدادي - وكان صاحب الحلاج - قال‏:‏ رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز وجل، وأنا أقول‏:‏ يا رب ما فعل الحسين بن منصور‏؟‏

فقال‏:‏ كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ بل جزع عند القتل جزعاً شديداً وبكى بكاء كثيراً، فالله أعلم‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ ثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال‏:‏ قال لنا أبو عمر بن حيوية‏:‏ لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه‏:‏ لا يهولنكم هذا الأمر، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً‏.‏

ثم قتل فما عاد‏.‏

وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبد الصمد والي الشرطة‏:‏ أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية‏.‏

فقال له‏:‏ قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل‏.‏

ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوماً‏.‏

وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال‏:‏ لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول، إني لست به، وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم‏.‏

وكانوا بجهلهم يقولون‏:‏ إنما قتل عدو من أعداء الحلاج‏.‏

فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال‏:‏ إن كان هذا الرأي صادقاً، فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به، كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب‏.‏

قال الخطيب‏:‏ واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة‏.‏

فقال‏:‏ إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها‏.‏

وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديماً وحديثاً‏.‏

ونودي ببغداد‏:‏ أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع‏.‏

وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلاثمائة ببغداد‏.‏

وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات، وحكى اختلاف الناس فيه، ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار، وتأول كلامه وحمله على ما يليق‏.‏

ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول‏:‏ إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس، وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين، وابن المقفع ببلاد الترك، ودخل الحلاج العراق، فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا لا ينتظم، فإن ابن المقفع كان قبل الحلاج بدهر في أيام السفاح والمنصور، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين أو قبلها‏.‏

ولعل إمام الحرمين أراد ابن المقفع الخراساني الذي ادعى الربوبية وأوتي العمر واسمه عطاء، وقد قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة، ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضاً، وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر، فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الذي ذكره، وابن السمعاني - يعني أبا جعفر محمد بن علي - وأبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي الذي قتل الحجاج، وأخذ الحجر الأسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة‏.‏

فهؤلاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطاً، وذكره ابن خلكان ملخصاً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو العباس بن عطاء أحد أئمة الصوفية

وهو أحمد بن محمد بن عطاء الأدمي‏.‏

حدث عن يوسف بن موسى القطان، والمفضل بن زياد وغيرهما، وقد كان موافقاً للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله، وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم ختمة، فإذا كان شهر رمضان قرأ في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها‏.‏

فمكث فيها سبعة عشرة سنة، ومات ولم يختمها، وهذا الرجل ممن كان اشتبه عليه أمر الحلاج وأظهر موافقته فعاقبه الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ على شدقيه، وأمر بنزع خفيه وضربه بهما على رأسه حتى سال الدم من منخريه، ومات بعد سبعة أيام من ذلك، وكان قد دعا على الوزير بأن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة‏.‏

فمات الوزير بعد مدة كذلك‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هارون الطبيب الحراني‏.‏

 وأبو محمد عبد الله بن حمدون النديم‏.‏

 

 

 ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة

فيها‏:‏ أطلق يوسف بن أبي الساج من الضيق، وكان معتقلاً، وردت إليه أمواله وأعيد إلى عمله وأضيف إليه بلدان أخرى، ووظف عليه في كل سنة خمسمائة ألف دينار يحملها إلى الحضرة، فبعث حينئذ إلى مؤنس الخادم يطلب منه أبا بكر بن الأدمي القارئ، وكان قد قرأ بين يديه حين اعتقل في سنة إحدى وستين ومائتين ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فخاف القارئ من سطوته واستعفى من مؤنس الخادم فقال له مؤنس‏:‏ اذهب وأنا شريكك في الجائزة‏.‏

فلما دخل عليه قرأ بين يديه‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ بل أحب أن تقرأ ذلك العشر الذي قرأته عند سجني وإشهاري ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فإن ذلك كان سبب توبتي ورجوعي إلى الله عز وجل، وكان ذلك على يديك‏.‏

ثم أمر له بمال جزيل وأحسن إليه‏.‏

وفيها‏:‏ مرض علي بن عيسى الوزير فجاءه هارون بن المقتدر ليعوده ويبلغه سلام أبيه عليه، فبسط له الطريق، فلما اقترب من داره تحامل وخرج إليه فبلغه سلام الخليفة، وجاء مؤنس الخادم معه، ثم جاء الخبر بأن الخليفة قد عزم على عيادته فاستعفى من مؤنس الخادم، ثم ركب على جهد عظيم حتى سلم على الخليفة لئلا يكلفه الركوب إليه‏.‏

وفيها‏:‏ قبض على القهرمانة أم موسى ومن ينسب إليها، وكان حاصل ما حمل إلى بيت المال من جهتها ألف ألف دينار‏.‏ ‏

وفي يوم الخميس منها لعشر بقين من ربيع الآخر ولى المقتدر منصب القضاء أبا الحسين عمر بن الحسين بن علي الشيباني المعروف بابن الاشناني - وكان من حفاظ الحديث وفقهاء الناس - ولكنه عزل بعد ثلاثة أيام، وكان قبل ذلك محتسباً ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ عزل محمد بن عبد الصمد عن شرطة بغداد ووليها نازوك وخلع عليه‏.‏

وفيها‏:‏ في جمادى الآخرة فيها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة‏.‏

وفي شعبان منه وصلت هدايا نائب مصر وهو الحسين بن المادراني، وفي جملتها بغلة معها فلوها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه‏.‏

وفيها‏:‏ قرئت الكتب على المنابر بما كان من الفتوح على المسلمين ببلاد الروم‏.‏

وفيها‏:‏ ورد الخبر بأنه انشق بأرض واسط فلوع في الأرض في سبعة عشر موضعاً أكبرها طوله ألف ذراع، وأقلها مائتا ذراع، وأنه غرق من أمهات القرى ألف وثلاثمائة قرية‏.‏

وحج بالناس إسحاق بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو بشر الدولابي

محمد بن أحمد بن حماد أبو سعيد أبو بشر الدولابي، مولى الأنصار، ويعرف بالوراق، أحد الأئمة من حفاظ الحديث، وله تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك، وروى عن جماعة كثيرة‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ كان يصعق، توفي وهو قاصد الحج بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 أبو جعفر بن جرير الطبري

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان، وروى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع‏.‏

ومن أحسن ذلك ‏(‏تهذيب الآثار‏)‏ ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه‏.‏

وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، ‏ وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات كلها، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في الأحكام، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم‏.‏

وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله‏.‏

وكتاب سماه ‏(‏تهذيب الآثار‏)‏لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه‏.‏

وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات، وتفرد بمسائل حفظت عنه‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الأسفرائيني أنه قال‏:‏ لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيراً، أو كما قال‏.‏

وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال‏:‏ ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة‏.‏

وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ -ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة‏:‏ لو كتبت عنه لكان خيراً لك من كل من كتبت عنه‏.‏

قلت‏:‏ وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات، وكان من كبار الصالحين، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا‏.‏

وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقيل‏:‏ محمد بن نصر، فرزقهم الله‏.‏

وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقاً عليها بين العلماء، فقيل له‏:‏ لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده‏.‏

وقال له‏:‏ سل حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ لا حاجة لي‏.‏

فقال‏:‏ لا بد أن تسألني حاجة أو شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤَّال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع‏.‏

فأمر الخليفة بذلك‏.‏

وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان‏.‏

ومن شعره‏:‏

إذا أعسرت لم يعلم رفيقي * وأستغني فيستغني صديقي

حيائي حافظ لي ماء وجهي * ورفقي في مطالبتي رفيقي

ولو أني سمحت ببذل وجهي * لكنت إلى الغنى سهل الطريق

ومن شعره أيضاً‏:‏

خُلُقان لا أرضى طريقهما * بطر الغنى ومذلة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطراً * وإذا افتقرت فته على الدهر

وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة‏.‏

وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهاراً ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله‏.‏

بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض‏.‏

ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهوراً يصلون عليه، وقد رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين، وكتاباً جمع فيه طريق حديث الطير‏.‏

ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما، وقد اشتهر عنه هذا‏.‏

فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات‏.‏

والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم‏.‏

وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الأعرابي حيث يقول‏:‏

حدث مفظع وخطب جليل * دق عن مثله اصطبار الصبور

قام ناعي العلوم اجمع لما * قام ناعي محمد بن جرير

فهوت أنجم لها زاهرات * مؤذنات رسومها بالدثور

وتغشى ضياها النير الإشـ * ـراق ثوب الدّجنّة الديجور

وغدا روضها الأنيق هشيماً * ثم عادت سهولها كالوعور

يا أبا جعفر مضيت حميداً * غير وانٍ في الجد والتشمير

بين أجر على اجتهادك موفو * ر وسعي إلى التقى مشكور

مستحقّاً به الخلود لدى جن * ة عدن في غبطة وسرور

ولأبي بكر بن دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها‏.‏

والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة

فيها دخل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي أمير القرامطة في ألف وسبعمائة فارس إلى البصرة ليلاً، نصب السلالم الشعر في سورها فدخلها قهراً وفتحوا أبوابها وقتلوا من لقوه من أهلها، وهرب أكثر الناس فألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، ومكث بها سبعة عشر يوماً يقتل ويأسر من نسائها وذراريها، ويأخذ ما يختار من أموالها‏.‏

ثم عاد إلى بلده هجر، كلما بعث إليه الخليفة جنداً من قبله فرّ هارباً وترك البلد خاوياً، إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المقتدر عن الوزارة حامد بن العباس وعلي بن عيسى وردها إلى أبي الحسن بن الفرات مرة ثالثة، وسلم إليه حامداً وعلي بن عيسى، فأما حامد فإن المحسن بن الوزير ضمنه من المقتدر بخمسمائة ألف ألف دينار، فتسلمه فعاقبه بأنواع العقوبات، وأخذ منه أموالاً جزيلة لا تحصى ولا تعد كثرة، ثم أرسله مع موكلين عليه إلى واسط ليحتاطوا على أمواله وحواصله هناك، وأمرهم أن يسقوه سماً في الطريق فسقوه ذلك في بيض مشوي كان قد طلبه منهم، فمات في رمضان من هذه السنة‏.‏

وأما علي بن عيسى فإنه صودر بثلاثمائة ألف دينار وصودر قوم آخرون من كتابه، فكان جملة ما أخذ من هؤلاء مع ما كان صودرت به القهرمانة من الذهب شيئاً كثيراً جداً آلاف ألف من الدنانير، وغير ذلك من الأثاث والأملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة‏.‏

وأشار الوزير ابن الفرات على الخليفة المقتدر بالله أن يبعد عنه مؤنس الخادم إلى الشام - وكان قد قدم من بلاد الروم من الجهاد، وقد فتح شيئاً كثيراً من حصون الروم وبلدانهم، وغنم مغانم كثيرة جداً - فأجابه إلى ذلك، فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان، وكان مؤنس من أعلم بما يعتمده ابن الوزير من تعذيب الناس ومصادرتهم بالأموال، فأمر الخليفة مؤنساً بالخروج إلى الشام‏.‏

وفيها‏:‏ كثر الجراد وأفسد كثيراً من الغلات‏.‏

وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوي الأرحام‏.‏

وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة، منها ما كان صنفه الحلاج وغيره، فسقط منها ذهب كثير كانت محلاة به‏.‏

وفيها‏:‏ اتخذ أبو الحسن بن الفرات الوزير مرستاناً في درب الفضل، وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الخلال أحمد بن محمد بن هاون

أبو بكر الخلال، صاحب الكتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد، ولم يصنف في مذهب الإمام أحمد مثل هذا الكتاب، وقد سمع الخلال الحديث من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما‏.‏

توفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة‏.‏

 أبو محمد الجريري

أحد أئمة الصوفية أحمد بن محمد بن الحسين أبو محمد الجريري أحد كبار الصوفية، صحب سرياً السقطي، وكان الجنيد يكرمه ويحترمه‏.‏

ولما حضرت الجنيد الوفاة أوصى أن يجالس الجريري، وقد اشتبه على الجريري هذا شأن الحلاج فكان ممن أجمل القول فيه، على أن الجريري هذا مذكور بالصلاح والديانة وحسن الأدب‏.‏

 الزجاج صاحب معاني القرآن

إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، كان فاضلاً ديناً حسن الاعتقاد، وله المصنفات الحسنة، منها كتاب ‏(‏معاني القرآن‏)‏ وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، وقد كان أول أمره يخرط الزجاج فأحب علم النحو فذهب إلى المبرّد، وكان يعطي المبرّد كل يوم درهماً، ثم استغنى الزجاج وكثر ماله ولم يقطع عن المبرد ذلك الدرهم حتى مات‏.‏

وقد كان الزجاج مؤدباً للقاسم بن عبيد الله، فلما ولي الوزارة كان الناس يأتونه بالرقاع ليقدمها إلى الوزير، فحصل له بسبب ذلك ما يزيد على أربعين ألف دينار‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها‏.‏

وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، نسب إليه لأخذه عنه، وهو صاحب كتاب ‏(‏الجمل في النحو‏)‏‏.‏

 بدر مولى المعتضد

وهو بدر الحمامي، ويقال له‏:‏ بدر الكبير، كان في آخر وقت على نيابة فارس، ثم وليها من بعده ولده محمد‏.‏

 حامد بن العباس

الوزير استوزره المقتدر في سنة ست وثلاثمائة، وكان كثير المال والغلمان، كثير النفقات كريماً سخياً، كثير المروءة‏.‏

له حكايات تدل على بذله وإعطائه الأموال الجزيلة، ومع هذا كان قد جمع شيئاً كثيراً، وجد له في مطمورة ألوف من الذهب، كان كل يوم إذا دخلها ألقى فيها ألف دينار، فلما امتلأت طمها، فلما صودر دل عليها فاستخرجوا منها مالاً كثيراً جداً‏.‏

ومن أكبر مناقبه أنه كان من السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك‏.‏

توفي الوزير حامد بن العباس في رمضان منها مسموماً‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عمر بن محمد بجير البجيري صاحب الصحيح‏.‏

 ابن خزيمة

محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي، مولى محسن بن مزاحم الإمام أبو بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، كان بحراً من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآ فاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها، وهو من المجتهدين في دين الإسلام، حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية عنه أنه قال‏:‏ ما قلدت أحداً منذ بلغت ستة عشر سنة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية‏.‏

وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته‏.‏

وقد ذكرنا نحو ذلك في ترجمة الحسن بن سفيان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ محمد بن زكريا الطبيب صاحب المصنف الكبير في الطب‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلاثمائة

في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله ولعن أباه للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام، قد أدوا فرض الله عليهم، فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعاً عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم، فقتل منهم خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه من أموال ما يقاوم ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل‏.‏

وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره‏.‏

إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان عدة من مع القرمطي ثمانمائة مقاتل، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة قصمه الله‏.‏

ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ونشرن شعورهن ولطمن خدودهن، وانضاف إليهن نساء الذين نكبوا على يد الوزير وابنه، وكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية البشاعة والشناعة، فسأل الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نسوة الحجيج ومعهن نساء الذين صادرهم ابن الفرات، وجاءت على يد الحاجب نصر بن القشوري على الوزير فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما استولى هذا القرمطي على ما استولى عليه بسبب إبعادك مؤنس الخادم المظفر، فطمع هؤلاء في الأطراف، وما أشار عليك بإبعاده إلا ابن الفرات‏.‏

فبعث الخليفة إلى ابن الفرات يقول له‏:‏ إن الناس يتكلمون فيك لنصحك إياي‏.‏

وأرسل يطيب قلبه، فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا عليه فأكرمهما وطيب قلوبهما، فخرجا من عنده فنالهما أذى كثير من نصر الحاجب وغيره من كبار الأمراء، وجلس، الوزير في دسته فحكم بين الناس كعادته، وبات ليلته تلك مفكراً في أمره، وأصبح كذلك وهو ينشد‏:‏ ‏

فأصبح لا يدري وإن كان حازماً * أقدامه خير له أم داره‏؟‏

ثم جاءه في ذلك اليوم أميران من جهة الخليفة، فدخلا عليه داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفاً رأسه وهو في غاية الذل والصغار، والإهانة والعار، فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر‏.‏

وفهم الناس ذلك فرجموا ابن الفرات بالآجر، وتعطلت الجوامع وخربت العامة المحاريب، ولم يصلِّ الناس الجمعة فيها، وأخذ خط الوزير بألفي ألف دينار، وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار، وسلما إلى نازوك أمير الشرطة، فاعتقلا حيناً حتى خلصت منهما الأموال، ثم أرسل الخليفة خلف مؤنس الخادم، فلما قدم سلمهما إليه فأهانهما غاية الإهانة بالضرب والتقريع له ولولده المجرم الذي ليس بمحسن، ثم قتلا بعد ذلك‏.‏

واستوزر عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن محمد بن يحيى بن خاقان أبو القاسم، وذلك في تاسع ربيع الأول منها‏.‏

ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم، وشفع عند ابن خاقان في أن يرسل إلى علي بن عيسى - وكان قد صار إلى صنعاء اليمن مطروداً - فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر الشام ومصر، وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال القرامطة، وأنفق على خروجه ألف ألف دينار، وأطلق القرمطي من كان أسره من الحجيج، وكانوا ألفي رجل وخمسمائة امرأة، وأطلق أبا الهيجاء نائب الكوفة معهم أيضاً‏.‏

وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والأهواز فلم يجب إلى ذلك، وركب المظفر مؤنس في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها، ثم انحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة ياقوت الخادم، فتمهدت الأمور وانصلحت‏.‏

وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وصدقه على ذلك طائفة من الأعراب والطغام، والتفوا عليه وقويت شوكته في شوال، فأرسل إليه الوزير جيشاً فقاتلوه فهزموه وقتلوا خلقاً من أصحابه، وتفرق بقيتهم‏.‏

وهذا المدعي المذكور هو رئيس الإسماعيلية وهو أولهم‏.‏

وظفر نازوك صاحب الشرطة بثلاثة من أصحاب الحلاج‏:‏ وهم حيدرة، والشعراني، وابن منصور، فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا، فضرب رقابهم وصلبهم في الجانب الشرقي‏.‏

ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق لكثرة خوف الناس من القرامطة‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن خميس

أبو إسحاق الواعظ الزاهد، كان يعظ الناس، فمن جملة كلامه الحسن قوله‏:‏ يضحك القضاء من الحذر، ويضحك الأجل من الأمل، ويضحك التقدير من التدبير، وتضحك القسمة من الجهد والعناء‏.‏

علي بن محمد بن الفرات

ولاه المقتدر الوزارة ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم قتله في هذه السنة، وقتل ولده، وكان ذا مال جزيل‏:‏ ملك عشرة آلاف ألف دينار، وكان يدخل له من ضياعه كل سنة ألف ألف دينار، وكان ينفق على خمسة آلاف من العباد والعلماء، تجري عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم، وكان له معرفة بالوزارة والحساب، يقال‏:‏ إنه نظر يوماً في ألف كتاب ووقع على ألف رقعة، فتعجب من حضره من ذلك، وكانت فيه مروءة وكرم وحسن سيرة في ولاياته، غير هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم، فأخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، أخذ عزيز مقتدر‏.‏

وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة، ذاكر عنده ذات ليلة أهل الحديث والصوفية وأهل الأدب، فأطلق من ماله لكل طائفة عشرين ألفاً‏.‏

وكتب رجل على لسانه إلى نائب مصر كتاباً فيه وصية به منه إليه، فلما دفع المكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال‏:‏ ما هذا خط الوزير‏.‏

وأرسل به إلى الوزير، فلما وقف عليه عرف أنه كذب وزور، فاستشار الحاضرين عنده فيما يفعل بالذي زور عليه، فقال بعضهم‏:‏ تقطع يديه‏.‏

وقال آخر‏:‏ تقطع إبهاميه‏.‏

وقال آخر‏:‏ يضرب ضرباً مبرحاً‏.‏

فقال الوزير‏:‏ أوَ خير من ذلك كله‏؟‏

ثم أخذ الكتاب وكتب عليه‏:‏ نعم هذا خطي وهو من أخص أصحابي، فلا تتركن من الخير شيئاً مما تقدر عليه إلا أوصلته إليه‏.‏

فلما عاد الكتاب أحسن نائب مصر إلى ذلك الرجل إحساناً بالغاً، ووصله بنحو من شعرين ألف دينار‏.‏

واستدعى ابن الفرات يوماً ببعض الكتّاب فقال له‏:‏ ويحك إن نيتي فيك سيئة، وإني في كل وقت أريد أن أقبض عليك وأصادرك، فأراك في المنام تمنعني برغيف، وقد رأيتك في المنام من ليالٍ، وإني أريد القبض عليك، فجعلت تمتنع مني، فأمرت جندي أن يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشيء من سهام وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك، فلا يصل إليك شيء، فأعلمني ما قصة هذا الرغيف‏.‏

فقال‏:‏ أيها الوزير إن أمي منذ كنت صغيراً كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفاً، فإذا أصبحت تصدقت به عني، فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت‏.‏

فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي، فكل ليلة أضع تحت وسادتي رغيفاً ثم أصبح فأتصدق به‏.‏

فعجب الوزير من ذلك وقال‏:‏ والله لا ينالك مني بعد اليوم سوء أبداً، ولقد حسنت نيتي فيك، وقد أحببتك‏.‏

وقد أطال ابن خلكان ترجمته فذكر بعض ما أوردنا في ترجمته‏.‏

محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث بن عبد الرحمن

أبو بكر الأزدي الواسطي، المعروف بالباغندي، سمع محمد بن عبد الله بن نمير، وابن أبي شيبة وشيبان بن فروخ، علي بن المديني، وخلقاً من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وبغداد، ورحل إلى الأمصار البعيدة، وعني بهذا الشأن واشتغل فيه فأفرط، حتى قيل‏:‏ إنه ربما سرد بعض الأحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم وهو لا يشعر، فكانوا يسبحون به حتى يتذكر أنه في الصلاة، وكان يقول‏:‏ أنا أجيب في ثلاثمائة ألف مسألة من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره‏.‏

وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له‏:‏ يا رسول الله أيما أثبت في الأحاديث منصور أو الأعمش‏؟‏

فقال له‏:‏ منصور‏.‏

وقد كان يعاب بالتدليس حتى قال الدارقطني‏:‏ هو كثير التدليس، يحدث بما لم يسمع، وربما سرق بعض الأحاديث والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في ليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد‏.‏

وفي صفر منها بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثى فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة، ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل الذي ظهر بين الكوفة وبغداد، ويدّعون أنه المهدي، ويتبرؤون من المقتدر وممن تبعه‏.‏

فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه مسجد ضرار، فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح ونودي عليهم‏.‏

وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم هدمه نازوك، وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي‏.‏

وخرج الناس للحج في ذي القعدة فاعترضهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي، فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم، ويقال‏:‏ إن بعضهم سأل منه الأمان ليذهبوا فأمنهم‏.‏

وقد قاتله جند الخليفة فلم يفد ذلك شيئاً لتمرده وشدة بأسه، فانزعج أهل بغداد من ذلك، وترحل أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي خوفاً منهم، ودخل القرمطي إلى الكوفة فأقام بها شهراً يأخذ من أموالها ونسائها ما يختار‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية أرطال بحبة، وعمل منه تمر وحمل إلى البصرة‏.‏

وعزل المقتدر وزيره الخاقاني بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين، وولى مكانه أبا القاسم أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخطيب الخصيبي، لأجل مال بذله من جهة زوجة للحسن بن الفرات، وكان ذلك المال سبعمائة ألف دينار، فأمر الخصيبي علي بن عيسى على أن يكون مشرفاً على ديار مصر وبلاد الشام، وهو مقيم بمكة يسير إلى تلك البلاد في بعض الأوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 علي بن عبد الحميد بن عبد الله بن سليمان

أبو الحسن الغضائري، سمع القواريري وعباساً العنبري، وكان من العباد الثقات‏.‏

قال‏:‏ جئت يوماً إلى السري السقطي فدققت عليه بابه، فخرج إلي ووضع يده على عضادتي الباب وهو يقول‏:‏ اللهم اشغل من شغلني عنك بك‏.‏

قال‏:‏ فنالتني بركة هذه الدعوة فحججت على قدميّ من حلب إلى مكة أربعين حجة ذاهباً وآيباً‏.‏

 أبو العباس السراج الحافظ

محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران بن عبد الله الثقفي مولاهم، أبو العباس السراج، أحد الأئمة الثقات الحفاظ، مولده سنة ثمان عشرة ومائتين، سمع قتيبة واسحق بن راهوية وخلقاً كثيراً من أهل خراسان وبغداد والكوفة والبصرة والحجاز، وقد حدث عنه البخاري ومسلم، وهما أكبر منه وأقدم ميلاداً ووفاة‏.‏

وله مصنفات كثيرة نافعة جداً، وكان يعد من مجابي الدعوة‏.‏

وقد رأى في منامه كأنه يرقى في سلم فصعد فيه تسعاً وتسعين درجة، فما أولها على أحد إلا قال له‏:‏ تعيش تسعاً وتسعين سنة، فكان كذلك‏.‏

وقد ولد له ابنه أبو عمر وعمره ثلاث وثمانون سنة‏.‏

قال الحاكم‏:‏ فسمعت أبا عمرو يقول‏:‏ كنت إذا دخلت المسجد على أبي والناس عنده يقول لهم‏:‏ هذا عملته في ليلة ولي من العمر ثلاث وثمانون سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة

فيها كتب ملك الروم، وهو الدمستق لعنه الله، إلى أهل السواحل أن يحملوا إليه الخراج، فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده في أول هذه السنة، فعاث في الأرض فساداً، ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقاً وأسر وأقام بها ستة عشر يوماً، وجاء أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة عليه‏.‏

ووقع في بغداد حريق في مكانين، مات فيهما خلق كثير، وأحرق في أحدهما ألف دار ودكان، وجاءت الكتب بموت الدمستق ملك النصارى فقرئت الكتب على المنابر‏.‏

وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم وقصدهم إياهم، فرحلوا منها إلى الطائف وتلك النواحي‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجاراً كثيرة وهدمت البيوت‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي يوم الأحد لثمان مضين من شوال منها - وهو سابع كانون الأول - سقط ببغداد ثلج عظيم جداً حصل بسببه برد شديد، بحيث أتلف كثيراً من النخيل والأشجار، وجمدت الأدهان حتى الأشربة، وماء الورد والخل والخلجان الكبار، ودجلة‏.‏

وعقد بعض مشايخ الحديث مجلساً للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد، وكتب هنالك، ثم انكسر البرد بمطر وقع فأزال ذلك كله ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد فاعتذر إليهم مؤنس الخادم بأن القرامطة قد قصدوا مكة، فرجعوا ولم يتهيأ الحج في هذه السنة من ناحية العراق بالكلية‏.‏

وفي ذي القعدة عزل الخليفة وزيره أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين، وأمر بالقبض عليه وحبسه، وذلك لإهماله أمر الوزارة والنظر في المصالح، وذلك لاشتغاله بالخمر في كل ليلة فيصبح مخموراً لا تمييز له، وقد وكل الأمور إلى نوابه فخانوا وعلموا مصالحهم‏.‏

وولى أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني نيابة عن علي بن عيسى، حتى يقدم، ثم أرسل في طلب علي بن عيسى وهو بدمشق فقدم بغداد في أبهة عظيمة، فنظر في المصالح الخاصة والعامة، ورد الأمور إلى السداد، وتمهدت الأمور‏.‏

واستدعى بالخصيبي فتهدده ولامه وناقشه على ما كان يعتمده ويفعله في خاصة نفسه من معاصي الله عز وجل، وفي الأمور العامة، وذلك بحضرة القضاة والأعيان، ثم رده إلى السجن‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ نصر بن أحمد الساماني الملقب بالسعيد بلاد الري وسكنها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة‏.‏

وفيها‏:‏ غزت الصائفة من طرسوس بلاد الروم فغنموا وسلموا‏.‏

ولم يحج ركب العراق خوفاً من القرامطة‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ سعد النوبي صاحب باب النوبى من دار الخلافة ببغداد في صفر، وأقيم أخوه مكانه في حفظ هذا الباب الذي صار ينسب بعد إليه‏.‏

ومحمد بن محمد الباهلي‏.‏

ومحمد بن عمر ابن لبابة القرطبي‏.‏

ونصر بن القاسم الفرائضي الحنفي أبو الليث، سمع القواريري وكان ثقة عالماً بالفرائض على مذهب أبي حنيفة، مقرباً جليلاً‏.‏