الجزء الحادي عشر - ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

في صفر منها كان قدوم علي بن عيسى الوزير من دمشق، وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق، فمنهم من لقيه إلى الأنبار، ومنهم دون ذلك‏.‏

وحين دخل إلى الخليفة خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته ثم انصرف إلى منزله، فبعث الخليفة وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار، واستدعاه من الغد فخلع عليه فأنشد وهو في الخلعة‏:‏

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها * فكيف ما انقلبت به انقلبوا

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت * يوماً عليه بما لا يشتهي وثبوا

وفيها‏:‏ جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط وأخذوا جميع ما فيها، ونصبوا فيها خيمة الملك، وضربوا الناقوس في الجامع بها، فأمر الخليفة مؤنس الخادم بالتجهيز إليهم، وخلع عليه خلعة سنية‏.‏

ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً جداً فلله الحمد والمنة‏.‏

ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم فأعلمه أن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذ دخل لوداعه، وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع فيها، فأحجم عن الذهاب وجاءت الأمراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة، فبعث إليه الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أن هذا الأمر الذي بلغه ليس بصحيح‏.‏

فطابت نفسه وركب إلى دار الخلافة في غلمانه فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة، وحلف أنه طيب القلب عليه وله عنده الصفاء الذي يعرفه‏.‏

ثم خرج من بين يديه معظماً مكرماً، وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه، وكبر الأمراء بين يديه مثل الحجبة، وكان خروجه يوماً مشهوداً قاصداً بلاد الثغور لقتال الروم‏.‏

وفي جمادى الأولى منها قبض على رجل خناق قد قتل خلقاً من النساء، وكان يدّعي لهن أنه يعرف العطف والتنجيم، فقصده النساء لذلك فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ففعل الفاحشة وخنقها بوتر وأعانته امرأته وحفر لها في داره فدفنها، فإذا امتلأت تلك الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى‏.‏

ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيراً سبع عشرة امرأة قد خنقهن، ثم تتبعت الدور التي سكنها فوجدوه قد قتل شيئاً كثيراً من النساء، فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات‏.‏

وفيها‏:‏ كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الري، وكان فيهم ملك غلب على أمرهم يقال له‏:‏ مرداويج، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من فضة، ويقول‏:‏ أنا سليمان بن داود‏.‏

وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جداً، فكان يقتل النساء والصبيان في المهد، ويأخذ أموال الناس، وهو في غاية الجبروت والشدة والجرأة على محارم الله عز وجل، فقتلته الأتراك وأراح الله المسلمين من شره‏.‏

وفيها‏:‏ كانت بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة موقعة، فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسف بن أبي الساج‏:‏ اسمع وأطع وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال منها، فكتب إليه‏:‏ هلم‏.‏

فسار إليه، فلما تراءا الجمعان استقل يوسف الجيش القرمطي، وكان مع يوسف بن أبي الساج عشرون ألفاً، ومع القرمطي ألف فارس وخمسمائة رجل‏.‏

فقال يوسف‏:‏ وما قيمة هؤلاء الكلاب‏؟‏

وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح إلى الخليفة قبل اللقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتاً عظيماً، ونزل القرمطي فحرَّض أصحابه، وحمل بهم حملة صادقة، فهزموا جند الخليفة، وأسروا يوسف بن أبي الساج أمير الجيش، وقتلوا خلقاً كثيراً من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفة، وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد‏.‏ ‏

وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد، فانزعج الناس لذلك وظنوا صدقه، فاجتمع الوزير بالخليفة وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الأموال إنما تدخر لتكون عوناً على قتال أعداء الله، وإن هذا الأمر لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة، وإن بيت المال ليس فيه شيء، فاتق الله يا أمير المؤمنين، وخاطب السيدة - يعني أمه - لعل أن يكون عندها شيء ادخرته لشدة، فهذا وقته‏.‏

فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك، وبذلت له خمسمائة ألف دينار، وكان في بيت المال مثلها، فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز الجيوش لقتال القرامطة، فجهز جيشاً أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له‏:‏ بليق، فسار نحوهم، فلما سمعوا به أخذوا عليه الطرقات، فأراد دخول بغداد فلم يمكنه، ثم التقوا معه فلم يلبث بليق وجيشه أن انهزم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيداً في خيمة فجعل ينظر إلى محل الوقعة، فلما رجع القرمطي قال‏:‏ أردت أن تهرب‏؟‏

فأمر به فضربت عنقه‏.‏

ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الأنبار، ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة، وكذلك الخليفة وأمه والوزير شكراً لله على صرفه عنهم‏.‏

وفيها‏:‏ بعث المهدي المدعي أنه فاطمي ببلاد المغرب ولده أبا القاسم في جيش إلى بلاد منها، فانهزم جيشه وقتل من أصحابه خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ اختط المهدي المذكور مدينته المحمدية‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر عبد الرحمن بن الداخل إلى بلاد المغرب الأموي مدينة طليطلة، وكانوا مسلمين، لكنهم نقضوا عهده ففتحها قهراً وقتل خلقاً من أهلها‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 ابن الجصاص الجوهري

واسمه الحسين بن عبد الله بن الجصاص الجوهري أبو عبد الله البغدادي، كان ذا مال عظيم وثروة واسعة، وكان أصل نعمته من بيت أحمد بن طولون، كان قد جعله جوهرياً له يسوق له ما يقع من نفائش الجواهر بمصر، فاكتسب بسبب ذلك أموالاً جزيلة جداً‏.‏

قال ابن الجصاص‏:‏ كنت يوماً بباب ابن طولون إذ خرجت القهرمانة وبيدها عقد فيه مائة حبة الجوهر، تساوي كل واحدة ألفي دينار‏.‏

قالت‏:‏ أريد أن تأخذ هذا فتخرطه حتى يكون أصغر من هذا الحجم‏.‏

فإن هذا نافر عما يريدونه‏.‏

فأخذته منها وذهبت به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوي أقل من عشر قيمة تلك بكثير، فدفعتها إليها وفزت أنا بذلك الذي جاءت به وأرادت خرطه وإتلافه‏.‏

فكانت قيمته مائتي ألف دينار‏.‏

واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة، أخذ منه فيها ما يقاوم ستة عشر ألف ألف دينار، وبقي معه من الأموال شيء كثير جداً‏.‏ ‏

قال بعض التجار‏:‏ دخلت عليه فوجدته يتردد في منزله كأنه مجنون، فقلت له‏:‏ ما لك هكذا‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك، أخذ مني كذا وكذا فأنا أحس أن روحي ستخرج، فعذرته ثم أخذت في تسليته فقلت له‏:‏ إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية تساوي سبعمائة ألف دينار، وأصدقني كم بقي عندك من الجواهر والمتاع‏؟‏

فإذا شيء يساوي ثلاثمائة ألف دينار غير ما بقي عند من الذهب والفضة المصكوكة‏.‏

فقلت له‏:‏ إن هذا أمر لا يشاركك فيه أحد من التجار ببغداد، مع ما لك من الوجاهة عند الدولة والناس‏.‏

قال‏:‏ فسرى عنه وتسلى عما فات وأكل - وكان له ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً - ولما خلص في مصادرة المقتدر بشفاعة أمه السيدة فيه حكى عنه نفسه قال‏:‏ نظرت في دار الخلافة إلى مائة خيشة، فيها متاع رث مما حمل إليّ من مصر، وهو عندهم في دار مضيعة وكان لي في حملٍ منها ألف دينار موضوعة في مصر لا يشعر بها أحد، فاستوهبت ذلك من أم المقتدر فكلمت في ذلك ولدها، فأطلقه إليّ فتسلمته فإذا الذهب لم ينقص منه شيء‏.‏

وقد كان ابن الجصاص مع ذلك مغفلاً شديد التغفل في كلامه وأفعاله، وقد ذكر عنه أشياء تدل على ذلك، وقيل‏:‏ إنه إنما كان يظهر ذلك قصداً ليقال‏:‏ إنه مغفل، وقيل‏:‏ إنه كان يقول ذلك على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عبد الله بن محمد القزويني‏.‏

 علي بن سليمان بن المفضل

أبو الحسن الأخفش، روى عن المبرّد وثعلب واليزيدي وغيرهم، وعنه الروياني والمعافا وغيرهما‏.‏

وكان ثقة في نقله فقيراً في ذات يده، توصل إلى أبي علي بن مقلة حتى كلّم فيه الوزير علي بن عيسى في أن يرتب له شيئاً فلم يجبه إلى ذلك، وضاق به الحال حتى كان يأكل اللفت النيء فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها‏.‏

وهذا هو الأخفش الصغير، والأوسط هو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه، وأما الكبير فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، من أهل هجر، وهو شيخ سيبويه وأبي عبيد وغيرهما‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي صاحب الأصول في النحو فيها مات‏.‏

قاله ابن الأثير‏.‏

ومحمد بن المسيب الأرغياني‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة

فيها عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي في الأرض فساداً، حاصر الرحبة فدخلها قهراً وقتل من أهلها خلقاً، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان فأمنهم، وبعث سراياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقاً، حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وقدر على الأعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل سنة، عن كل رأس ديناران‏.‏

وعاث في نواحي الموصل فساداً، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب‏.‏

فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فابتنى بها داراً سماها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية‏.‏

وتفاقم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد، فيقتلون أهلها وينهبون أموالها، ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك‏.‏

ولما رأى الوزير علي ابن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الإسلام، وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه منها، فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهور، فوليها بسفارة نصر الحاجب والي عبد الله البريدي - بالباء الموحدة - من البريد، ويقال‏:‏ اليزيدي، لخدمة جده يزيد بن منصور الجهيري‏.‏

ثم جهز الخليفة جيشاً كثيفاً مع مؤنس الخادم، فاقتتلوا مع القرامطة فقتلوا من القرامطة خلقاً كثيراً، وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم، ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، وطابت أنفس البغاددة، وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشأوا وفشوا بأرض العراق، وفوّض القرامطة أمرهم إلى رجل يقال له‏:‏ حريث بن مسعود، ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء‏.‏

كما سيأتي تفصيله وبيانه في موضعه‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت وحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر، وسبب ذلك‏:‏ أن نازوكاً أمير الشرطة وقع بينه وبين هارون بن غريب - وهو ابن خال المقتدر - فانتصر هارون على نازوك، وشاع بين العامة أن هارون سيصير أمير الأمراء‏.‏

فبلغ ذلك مؤنس الخادم وهو بالرقة فأسرع الأوبة إلى بغداد، واجتمع بالخليفة فتصالحا، ثم إن الخليفة نقل هارون إلى دار الخلافة فقويت الوحشة بينهما، وانضم إلى مؤنس جماعة من الأمراء وترددت الرسل بينهما، وانقضت هذه السنة والأمر كذلك‏.‏

وهذا كله من ضعف الأمور واضطرابها وكثرة الفتن وانتشارها‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل الحسين بن القاسم الداعي العلوي صاحب الري على يد صاحب الديلم وسلطانهم مرداويج قبحه الله‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد

أبو الحسن الزاهد، ويعرف بالحمال، وكانت له كرامات كثيرة، وله منزلة كبيرة عند الناس، وكان لا يقبل من السلطان شيئاً، وقد أنكر يوماً على ابن طولون شيئاً من المنكرات وأمره بالمعروف، فأمر به فألقي بين يدي الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فأمر برفعه من بين يديه وعظمه الناس جداً، وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي الأسد فقال له‏:‏ لم يكن عليّ بأس، قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طاهر أم نجس‏؟‏

قالوا‏:‏ وجاءه رجل فقال له‏:‏ إن لي على رجل مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة، وأنا أخشى أن ينكر الرجل، فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله عليّ الوثيقة‏.‏

فقال بنان‏:‏ إني رجل قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أحب الحلواء، فاذهب فاشتر لي منها رطلاً وأتني به حتى أدعو لك‏.‏

فذهب الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه ففتح الورقة التي فيها الحلواء، فإذا هي حجته بالمائة دينار‏.‏

فقال له‏:‏ أهذه حجتك‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ خذ حجتك وخذ الحلواء فأطعمها صبيانك‏.‏

ولما توفي خرج أهل مصر في جنازته تعظيماً له وإكراماً لشأنه‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 محمد بن عقيل البلخي‏.

وأبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ‏.‏

وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الأسفرائيني، صاحب الصحيح المستخرج على مسلم، وقد كان من الحفاظ المكثرين، والأئمة المشهورين‏.‏

ونصر الحاجب، كان من خيار الأمراء، ديناً عاقلاً، أنفق من ماله في حرب القرامطة مائة ألف دينار، وخرج بنفسه محتسباً فمات في أثناء الطريق في هذه السنة، وكان حاجباً للخليفة المقتدر‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

فيها‏:‏ كان خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد بالله‏:‏ في المحرم منها اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر بالله، وتفاقم الحال وآل إلى أن اجتمعوا على خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافة وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله‏.‏

وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقلد علي بن مقلة وزارته، ونهبت دار المقتدر، وأخذوا منها شيئاً كثيراً جداً،  وأخذوا لأم المقتدر خمسمائة ألف دينار - وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها - فحملت إلى بيت المال، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وخواصه وجواريه من دار الخلافة، وذلك بعد محاصرة دار الخلافة، وهرب من كان بها من الحجبة والخدم‏.‏

وولى نازوك الحجوبة مضافاً إلى ما بيده من الشرطة، وألزم المقتدر بأن كتب على نفسه كتاباً بالخلع من الخلافة، وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الأمراء والأعيان، وسلم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فقال لولده الحسين‏:‏ احتفظ بهذا الكتاب فلا يرينه أحد من خلق الله‏.‏

ولما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه، فشكره على ذلك جداً وولاه قضاء القضاة‏.‏

فلما كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزير أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العمال بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضاً عن المقتدر، وأطلق علي بن عيسى من السجن، وزاد في أقطاع جماعة من الأمراء الذين قاموا بنصره، منهم أبو الهيجاء بن حمدان‏.‏

فلما كان يوم الاثنين جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا، وبادروا إلى نازوك فقتلوه، وكان مخموراً، ثم صلبوه‏.‏

وهرب الوزير ابن مقلة، وهرب الحجاب ونادوا‏:‏ يا مقتدر يا منصور، ولم يكن مؤنس يومئذ حاضراً، وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر، فأغلق بابه دونهم وجاحف دونه خدمه‏.‏

فلما رأى مؤنس أنه لا بد من تسليم المقتدر إليهم أمره بالخروج، فخاف المقتدر أن يكون حيلة عليه، ثم تجاسر فخرج فحمله الرجال على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة، فسأل عن أخيه القاهر وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتب لهما أماناً، فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه رأس أبي الهيجاء قد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاه إليه، وقبل بين عينيه، وقال‏:‏ يا أخي أنت لا ذنب لك، وقد علمت أنك مكره مقهور، والقاهر يقول‏:‏ الله الله، نفسي يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبداً‏.‏

وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة، وتراجعت الأمور إلى حالها الأول، وحمل رأس نازوك وأبي الهيجاء ونودي عليهما‏:‏ هذا رأس من عصى مولاه‏.‏

وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل، وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافة خرج من بغداد متنكراً فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها، وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر، وإنما وافق جماعة الأمراء مكرهاً، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم، بل كان يطيب قلبه، ولو شاء لقتله لمّا طُلب من داره‏.‏

فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده، لثقته به‏.‏

وقرر أبا علي بن مقلة على الوزارة، وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة، وجعل محمداً أخاه - وهو القاهر - عند والدته بصفة محبوس عندها، فكانت تحسن إليه غاية الإحسان، وتشتري له السراري وتكرمه غاية الإكرام‏.‏

‏ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم

فيها‏:‏ خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول‏:‏ أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا‏.‏

فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك‏:‏

ترى المحبين صرعى في ديارهم * كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصلِّ عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر‏.‏

وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار‏.‏

فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال‏:‏ أين الطير الأبابيل‏؟‏ أين الحجارة من سجيل‏؟‏

ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهباً إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج‏.‏

وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحاداً لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه، وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد‏.‏

وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وقد كان صباغاً بسلمية، وكان يهودياً فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادّعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدنية سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له‏.‏

وذكر ابن الأثير‏:‏ أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها، وعوده إليها‏.‏

فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك‏.‏

وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر‏.‏

فقال لي ذات ليلة وهو سكران‏:‏ ما تقول في محمدكم‏؟‏

فقلت‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال‏:‏ كان سائساً‏.‏

ثم قال‏:‏ ما تقول في أبي بكر‏؟‏

فقلت‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال‏:‏ كان ضعيفاً مهيناً، وكان عمر فظاً غليظاً، وكان عثمان جاهلاً أحمق، وكان علي ممخرقاً ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم، أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة‏؟‏‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا كله مخرقة‏.‏

فلما كان من الغد قال‏:‏ لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحداً‏.‏

ذكره ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏.‏

وروى عن بعضهم أنه قال‏:‏ كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال‏:‏ يا حمير - ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا‏:‏ ‏{‏وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏

فأين الأمن‏؟‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ اسمع جوابك‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ إنما أراد الله‏:‏ فأمنوه‏.‏

قال‏:‏ فثنى رأس فرسه وانصرف‏.‏

وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً‏.‏

فقال‏:‏ قد أحلَّ الله سبحانه بأصحاب الفيل - وكانوا نصارى - ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلاّ عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل‏؟‏

وقد أجيب عن ذلك‏:‏ بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولمّا يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله‏.‏

وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معالجتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏}‏، ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 196-197‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏} ‏[‏يونس‏:‏ 70‏]‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي، وبين طائفة من العامة اختلفوا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

فقالت الحنابلة‏:‏ يجلسه معه على العرش‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ المراد بذلك الشفاعة العظمى‏.‏

فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك‏:‏ مقام الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الأولون والآخرون‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بالموصل بين العامة فيما يتعلق بأمر المعاش، وانتشرت وكثر أهل الشر فيها واستظهروا، وجرت بينهم شرور ثم سكنت‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة ببلاد خراسان بين بني ساسان وأميرهم نصر بن أحمد الملقب بسعيد، وخرج في شعبان خارجيّ بالموصل، وخرج آخر بالبوازيج، فقاتلهم أهل تلك الناحية حتى سكن شرهم وتفرق أصحابهم‏.‏

وفيها‏:‏ التقى مفلح الساجي وملك الروم الدمستق، فهزمه مفلح وطرد وراءه إلى أرض الروم، وقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح شديدة ببغداد تحمل رماداً أحمر يشبه رمل أرض الحجاز، فامتلأت منه البيوت‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن الحسن بن الفرج بن سفيان أبو بكر النحوي، كان عالماً بمذهب الكوفيين وله فيه تصانيف‏.‏ ‏

 أحمد بن مهدي بن رستم

العابد الزاهد، أنفق في طلب العلم ثلاثمائة ألف درهم، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش‏.‏

وقد روى الحافظ أبو نعيم عنه‏:‏ أنه جاءته امرأة ذات ليلة فقالت له‏:‏ إني قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وأنا حبلى منه، وقد تسترت بك وزعمت أنك زوجي، وأنَّ هذا الحمل منك فاسترني سترك الله ولا تفضحني‏.‏

فسكت عنها، فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد، فأظهرت البشر وبعثت فاشتريت بدينارين شيئاً حلواً وأطعمتهم، وكنت أوجه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة للمولود، وأقول‏:‏ أقرئها مني السلام، فإنه قد سبق مني ما فرق بيني وبينها‏.‏

فمكثت كذلك سنتين، ثم مات الولد فجاؤوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد، قد جمعتها في صرة عندها، فقالت لي‏:‏ سترك الله وجزاك خيراً، وهذه الدنانير التي كنت ترسل بها‏.‏

فقلت‏:‏ إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك، فافعلي بها ما شئت، فدعت وانصرفت‏.‏

 بدر بن الهيثم

ابن خلف بن خالد بن راشد بن الضحاك بن النعمان بن محرق بن النعمان بن المنذر، أبو القاسم البلخي القاضي الكوفي‏.‏

نزل بغداد وحدّث بها عن أبي كريب وغيره، وكان سماعه للحديث بعد ما جاوز أربعين سنة، وكان ثقة نبيلاً، عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة‏.‏

توفي في شوال منها بالكوفة‏.‏

 عبد الله بن محمد بن عبد العزيز

ابن المرزبان بن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوي، ويعرف بابن بنت منيع، ولد سنة ثلاثة عشرة، وقيل‏:‏ أربعة عشرة ومائتين، ورأى أبا عبيد القاسم بن سلام ولم يسمع منه، وسمع من أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعلي بن الجعد، وخلف بن هشام بن البزار، وخلق كثير، وكان معه جزء فيه سماعه من ابن معين فأخذه موسى بن هارون الحافظ فرماه في دجلة، وقال‏:‏ يريد أن يجمع بين الثلاثة‏؟‏

وقد تفرد عن سبع وثمانين شيخاً، وكان ثقة حافظاً ضابطاً، روى عن الحفاظ وله مصنفات‏.‏

وقال موسى بن هارون الحافظ‏:‏ كان ابن بنت منيع ثقة صدوقاً، فقيل له‏:‏ إن ههنا ناساً يتكلمون فيه‏.‏

فقال‏:‏ يحسدونه، ابن بنت منيع لا يقول إلا الحق‏.‏

وقال ابن أبي حاتم وغيره‏:‏ أحاديثه تدخل في الصحيح‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ كان البغوي قل ما يتكلم على الحديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج‏.‏

وقد ذكره ابن عدي في ‏(‏كامله‏)‏ فتكلم فيه، وقال‏:‏ حدث بأشياء أنكرت عليه‏.‏

وكان معه طرف من معرفة الحديث والتصانيف‏.‏

وقد انتدب ابن الجوزي للرد على ابن عدي في هذا الكلام، وذكر أنه توفي ليلة عيد الفطر منها، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهوراً، وهو مع ذلك صحيح السمع والبصر والأسنان، يطأ الإماء‏.‏

توفي ببغداد ودفن بمقبرة باب التبن، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

 محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان

الشهيد الحافظ أبو الفضل الهروي، يعرف بابن أبي سعد، قدم بغداد وحدّث بها عن محمد بن عبد الله الأنصاري‏.‏

وحدّث عنه ابن المظفر الحافظ، وكان من الثقات الأثبات الحفاظ المتقنين، له مناقشات على بضعة عشر حديثاً من صحيح مسلم‏.‏

قتلته القرامطة يوم التروية بمكة في هذه السنة في جملة من قتلوا، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

 الكعبي المتكلم

هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي المتكلم، نسبة إلى بني كعب، وهو أحد مشايخ المعتزلة، وتنسب إليه الطائفة الكعبية منهم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام‏.‏

من ذلك‏:‏ أنه كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه ولا مشيئة‏.‏

قلت‏:‏ وقد خالف الكعبي نص القرآن في غير ما موضع‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ‏} ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏} ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلاثمائة

فيها‏:‏ عزل الخليفة المقتدر وزيره أبا علي بن مقلة، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام، واستوزر مكانه سليمان بن الحسن بن مخلد، وجعل علي بن عيسى ناظراً معه‏.‏

وفي جمادى الأولى منها أحرقت دار أبي علي بن مقلة، وكان قد أنفق عليها مائة ألف دينار، فانتهب الناس أخشابها وما وجدوا فيها من حديد ورصاص وغيره، وصادره الخليفة بمائتي ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ طرد الخليفة الرجالة الذين كانوا بدار الخلافة عن بغداد، وذلك أنه لما ردَّ المقتدر إلى الخلافة شرعوا ينفسون بكلام كثير عليه، ويقولون‏:‏ من أعان ظالماً سلطه الله عليه، ومن أصعد الحمار على السطح لم يقدر أن ينزله‏.‏

فأمر بإخراجهم ونفيهم عن بغداد، ومن أقام منهم عوقب‏.‏

فأحرقت دور كثيرة من قراباتهم، واحترق بعض نسائهم وأولادهم، فخرجوا منها في غاية الإهانة، فنزلوا واسط وتغلبوا عليها وأخرجوا عاملها منها، فركب إليهم مؤنس الخادم فأوقع بهم بأساً شديداً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة‏.‏

وفي ربيع الأول منها عزل الخليفة ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل، وولى عليها عميه سعيداً ونصراً ابنا حمدان‏.‏

وولاه ديار‏:‏ ربيعة نصيبين وسنجار ورأس العين، ومعها ميافارقين وازرن، ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة‏.‏

وفي جمادى الأولى منها خرج رجل ببلاد البوازيج يقال له‏:‏ صالح بن محمود، فاجتمع عليه جماعة من بني مالك، ثم سار إلى سنجار فحاصرها فدخلها وأخذ شيئاً كثيراً من أموالها، وخطب بها خطبة ووعظ فيها وذكر، فكان في جملة ما قال‏:‏ نتولى الشيخين، ونتبرأ من الخبيثين، ولا نرى المسح على الخفين‏.‏

ثم سار فعاث في الأرض فساداً‏.‏

فانتدب له نصر بن حمدان فقاتله فأسره ومعه ابنان له‏.‏

فحمل إلى بغداد فدخلها وقد اشتهر شهرة فظيعة‏.‏

وخرج آخر ببلاد الموصل فاتبعه ألف رجل، فحاصر أهل نصيبين فخرجوا إليه فاقتتلوا معه، فقتل منهم مائة وأسر ألفاً، ثم باعهم نفوسهم وصادر أهلها بأربعمائة ألف درهم، فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به وأسره وأرسله إلى بغداد أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ خلع الخليفة على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش، وأعطاه نيابة فارس وكرمان وسجستان ومكران، وخلع على ابنه أبي العباس الراضي وجعله نائب بلاد المغرب ومصر والشام، وجعل مؤنس الخادم يسد عنه أمورها‏.‏

وحج بالناس فيها عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمي‏.‏

وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والإياب من القرامطة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن إسحاق

ابن البهلول بن حسان بن أبي سنان أبو جعفر التنوخي القاضي الحنفي، العدل الثقة، الرضي‏.‏

وكان فقيهاً نبيلاً، سمع الحديث الكثير، وروى عن أبي كريب حديثاً واحداً، وكان عالماً بالنحو، فصيح العبارة، جيد الشعر، محموداً في الأحكام‏.‏

اتفق أن السيدة أم المقتدر وقفت وقفاً وجعل هذا عنده نسخة به في سلة الحكم، ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف فطلبت هذا الحاكم وأن يحضر معه كتاب الوقف لتأخذه منه فتعدمه، فلما حضر من وراء الستارة فهم المقصود فقال لها‏:‏ لا يمكن هذا، لأني خازن المسلمين، فإما أن تعزلوني عن القضاء وتولوا هذا غيري، وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه، فلا سبيل إليه وأنا حاكم‏.‏

فشكته إلى ولدها المقتدر فشفع عنده المقتدر بذلك، فذكر له صورة الحال‏.‏

فرجع إلى أمه فقال لها‏:‏ إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه، ولا سبيل إلى عزله ولا التلاعب به‏.‏

فرضيت عنه وبعثت تشكره على ما صنع من ذلك‏.‏

فقال‏:‏ من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم، ورزقه خيرهم‏.‏

وقد كانت وفاته في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين‏.‏

 يحيى بن محمد بن صاعد

أبو محمد مولى أبي جعفر المنصور، رحل في طلب الحديث، وكتب وسمع وحفظ، وكان من كبار الحفاظ، وشيوخ الرواية، وكتب عنه جماعة من الأكابر، وله تصانيف تدل على حفظه وفقهه وفهمه‏.‏

توفي بالكوفة وله سبعون سنة‏.‏

 الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد

المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني، الشاعر المشهور، وكان أحد سمار المعتضد، وله مرثاة طنانة في هرٍّ له، قتله جيرانه لأنه أكل أفراخ حمامهم من أبراجهم‏.‏

وفيها‏:‏ آداب ورقة، ويقال‏:‏ إنه أراد بها ابن المعتز لكنه لم يتجاسر أن ينسبها إليه من الخليفة المقتدر، لأنه هو الذي قتله‏.‏

وأولها‏:‏

يا هرُّ فارقتنا ولم تعد * وكنت عندي بمنزل الولد

وهي خمس وستون بيتاً‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

في المحرم منها دخل الحجيج بغداد، وقد خرج مؤنس إلى الحج فيها في جيش كثيف، خوفاً من القرامطة، ‏‏ ففرح المسلمون بذلك وزينت بغداد يومئذ وضربت الخيام والقباب لمؤنس الخادم، وقد بلغ مؤنساً في أثناء الطريق أن القرامطة أمامه، فعدل بالناس عن الجادة، وأخذ بهم في شعاب وأودية أياماً، فشاهد الناس في تلك الأماكن عجائب، ورأوا غرائب وعظاماً في غاية الضخامة، وشاهدوا ناساً قد مسخوا حجارة‏.‏

ورأى بعضهم امرأة واقفة على تنور تخبز فيه قد مسخت حجراً، والتنور قد صار حجراً‏.‏

وحمل مؤنس من ذلك شيئاً كثيراً إلى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك‏.‏

ذكر ذلك ابن الجوزي في منتظمه‏.‏

فيقال‏:‏ إنهم من قوم عاد أو من قوم شعيب أو من ثمود، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بعد سنة وشهرين وتسعة أيام، واستوزر مكانه أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم عزله بعد شهرين وثلاثة أيام، واستوزر الحسين بن القاسم ثم عزله أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس، بسبب أن الخليفة ولى الحسبة لرجل اسمه محمد بن ياقوت، وكان أميراً على الشرطة، فقال مؤنس‏:‏ إن الحسبة لا يتولاها إلا القضاة والعدول وهذا لا يصلح لها‏.‏

ولم يزل بالخليفة حتى عزل محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضاً، وانصلح الحال بينهما‏.‏

ثم تجددت الوحشة بينهما في ذي الحجة من هذه السنة، وما زالت تتزايد حتى آل الحال إلى قتل المقتدر بالله كما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ أوقع ثمل متولى طرسوس بالروم وقعة عظيمة، قتل منهم خلقاً كثيراً وأسر نحواً من ثلاثة آلاف، وغنم من الذهب والفضة والديباج شيئاً كثيراً جداً، ثم أوقع بهم مرة ثانية كذلك‏.‏

وكتب ابن الديراني الأرمني إلى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد الإسلام ووعدهم النصر منه والإعانة، فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جداً، وانضاف إليهم الأرمني فركب إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج وهو يومئذ نائب أذربيجان، واتبعه خلق كثير من المتطوعة، فقصد أولاً بلاد ابن الديراني فقتل من الأرمن نحواً من مائة ألف، وأسر خلقاً كثيراً، وغنم أموالاً جزيلة‏.‏

وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك، وكاتب الروم فوصلوا إلى شميشاط فحاصروها، فبعث أهلها يستصرخون سعيد بن حمدان نائب الموصل، فسار إليهم مسرعاً، فوجد الروم قد كادوا يفتحونها، فلما علموا بقدومه رحلوا عنها واجتازوا بملطية فنهبوها، ورجعوا خاسئين إلى بلادهم، ومعهم ابن نفيس المتنصر، وقد كان من أهل بغداد‏.‏

وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم، فقتل خلقاً كثيراً منهم وأسر وغنم أشياء كثيرة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفي شوال من هذه السنة جاء سيل عظيم إلى تكريت ارتفع في أسواقها أربعة عشر شبراً، وغرق بسببه أربعمائة دار، وخلق لا يعلمهم إلا الله، حتى كان المسلمون والنصارى يدفنون جميعاً، لا يعرف هذا من هذا‏.‏

قال‏:‏ وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسوّدت حتى كان الإنسان لا يبصر صاحبه نهاراً، وظنّ الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله عليهم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

الحسين بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأنطاكي قاضي ثغور الشام، يعرف بابن الصابوني، وكان ثقة نبيلاً قدم بغداد وحدث بها‏.‏

 علي بن الحسين بن حرب بن عيسى

تولى القضاء بمصر مدة طويلة جداً، وكان ثقة عالماً من خيار القضاة وأعدلهم، تفقه على مذهب أبي ثور، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، وقد استعفى عن القضاء فعزل عنه في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، ورجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، في صفر منها، وصلى عليه أبو سعيد الأصطخري، ودفن بداره‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي في الصحيح، ولعله مات قبله بعشرين سنة‏.‏

وذكر من جلالته وفضله رحمه الله‏.‏

محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخي الزاهد، حكي عنه أنه مكث أربعين سنة لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه، ولا نظر في شيء فاستحسنه حياء من الله عز وجل، وأنه مكث ثلاثين سنة لم يمل على ملكيه قبيحاً‏.‏

 محمد بن سعد بن أبي الحسين الوراق

صاحب أبي عثمان النيسابوري، وكان فقيهاً يتكلم على المعاملات‏.‏

ومن جيد كلامه قوله‏:‏ من غض بصره عن محرّم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدي بها سامعوه، ومن غض نفسه عن شبهة نوّر الله قلبه نوراً يهتدي به إلى طريق مرضاة الله‏.‏

يحيى بن عبد الله بن موسى أبو زكريا الفارسي، كتب بمصر عن الربيع بن سليمان، وكان ثقة عدلاً صدوقاً عند الحكام‏.‏

 ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة

فيها‏:‏ كان مقتل المقتدر بالله الخليفة، وكان سبب ذلك‏:‏ أن مؤنساً الخادم خرج من بغداد في المحرم منها مغاضباً الخليفة في ممالكيه وحشمه، متوجهاً نحو الموصل، ورد من أثناء الطريق مولاه يسرى إلى المقتدر ليستعلم له أمره، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ويعاتبه في أشياء‏.‏

فلما وصل أمر الوزير - وهو الحسين بن القاسم وكان من أكبر أعداء مؤنس - بأن يؤديها فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة، فأحضره بين يديه وأمره بأن يقولها للوزير فامتنع، وقال‏:‏ ما أمرني بهذا صاحبي، فشتمه الوزير وشتم صاحبه مؤنساً، وأمر بضربه ومصادرته بثلاثمائة ألف دينار، وأخذ خطه بها، وأمر بنهب داره، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه‏.‏ ‏

فحصل من ذلك مال عظيم، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر، ولقبه عميد الدولة، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتمكن من الأمور جداً، فعزل وولى، وقطع ووصل أياماً يسيرة، وفرح بنفسه حيناً قليلاً‏.‏

وأرسل إلى هارون بن عريب في الحال، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة عوضاً عن مؤنس، فصمم المظفر مؤنس في سيره فدخل الموصل، وجعل يقول لأمراء الأعراب‏:‏ إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة‏.‏

فالتف عليه منهم خلق كثير، وجعل ينفق فيهم الأموال الجزيلة، وله إليهم قبل ذلك أيادي سابغة‏.‏

وقد كتب الوزير إلى آل حمدان - وهم ولاة الموصل وتلك النواحي - يأمرهم بمحاربته فركبوا إليه في ثلاثين ألفاً، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من ممالكيه وخدمه، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد، يقال له‏:‏ داود، وكان من أشجعهم، وقد كان مؤنس ربّاه وهو صغير‏.‏

ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته، لإحسانه إليهم قبل ذلك، من بغداد والشام ومصر والأعراب، حتى صار في جحافل من الجنود‏.‏

وأما الوزير المذكور فإنه ظهرت خيانته وعجزه فعزله المقتدر في ربيع الآخر منها، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، وكان آخر وزراء المقتدر‏.‏

وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصداً بغداد ليطالب المقتدر بأرزاق الأجناد وإنصافهم، فسار - وقد بعث بين يديه الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن عريب عن كره منه‏.‏

وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالاً ينفقه في الأجناد، فقال‏:‏ لم يبق عندها شيء، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط، وأن يترك بغداد إلى مؤنس حتى يتراجع أمر الناس ثم يعود إليها، فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه، فإنهم متى رأوا الخليفة هربوا كلهم إليه وتركوا مؤنساً‏.‏

فركب وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف المنشورة، وعليه البردة والناس حوله، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في الناس‏:‏ من جاء برأس فله خمسة دنانير، ومن جاء بأسير له عشرة دنانير‏.‏

ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم فامتنع من التقدم إلى محل المعركة، ثم ألحوا عليه فجاء بعد تمنع شديد، فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه، فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن بليق، فلما رآه ترجّل وقبّل الأرض بين يديه وقال‏:‏ لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم‏.‏

ثم وكل به قوماً من المغاربة البربر، فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح، فقال لهم‏:‏ ويلكم أنا الخليفة‏.‏

فقالوا‏:‏ قد عرفناك يا سفلة، إنما أنت خليفة إبليس، تنادي في جيشك من جاء برأس فله خمسة دنانير‏؟‏

وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض، وذبحه آخر وتركوا جثته، وقد سلبوه كل شيء كان عليه، حتى سراويله، وبقي مكشوف العورة مجندلاً على الأرض، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ثم دفنه في موضعه وعفا أثره، وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة قد رفعوها وهم يلعنونه،  فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضراً الوقعة - فحين نظر إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال‏:‏ ويلكم، والله لم آمركم بهذا، لعنكم الله، والله لنقتلن كلنا‏.‏

ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب، وهرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن عريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فعل مؤنس هذا سبباً لطمع ملوك الأطراف في الخلفاء، وضعف أمر الخلافة جداً، مع ما كان المقتدر يعتمده في التبذير والتفريط في الأموال، وطاعة النساء، وعزل الوزراء، حتى قيل‏:‏ إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار‏.‏

 ترجمة المقتدر بالله

هو جعفر بن أحمد المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، أمير المؤمنين العباسي، مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة ثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها شغب، ولقبت في خلافة ولدها بالسيدة‏.‏

بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي يوم الأحد لأربع عشرة مضت من ذي القعدة، سنة خمس وتعسين ومائتين، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام‏.‏

ولهذا أراد الجند خلعه في ربيع الأول من سنة ست وتسعين محتجين بصغره وعدم بلوغه، وتولية عبد الله بن المعتز، فلم يتم ذلك، وانتقض الأمر في ثاني يوم كما ذكرنا‏.‏

ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وولوا أخاه محمداً القاهر كما تقدم، فلم يتم ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافة كما ذكرنا‏.‏

وقد كان المقتدر ربعة من الرجال حسن الوجه والعينين، بعيد ما بين المنكبين، حسن الشعر، مدور الوجه، مشرباً بحمرة، حسن الخلق، قد شاب رأسه وعارضاه، وقد كان معطاءاً جواداً، وله عقل جيد، وفهم وافر، وذهن صحيح‏.‏

وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات، وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرياسة، وما زاد شيء إلا نقص‏.‏

كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصي، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسودان، وكان له دار يقال لها‏:‏ دار الشجرة، بها من الأثاث والأمتعة شيء كثير جداً، كما ذكرنا ذلك في سنة خمس، حين قدم رسول ملك الروم‏.‏

وقد ركب المقتدر يوماً في حراقة، وجعل يستعجل الطعام فأبطأوا به فقال للملاح‏:‏ ويحك هل عندك شيء آكل‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فأتاه بشيء من لحم الجدي وخبز حسن وملوحاً وغير ذلك‏.‏

فأعجبه ثم استدعاه فقال‏:‏ هل عندك شيء من الحلواء، فإني لا أحس بالشبع حتى آكل شيئاً من الحلواء‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب‏.‏

فقال‏:‏ هذا شيء لا أطيقه‏.‏

ثم جيء بطعام فأكل منه وأوتي بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن يعمل كل في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها، وإن لم يتفق ركوبه كانت للملاح‏.‏ ‏

وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبداً‏.‏

وقد أراد بعض خواصه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس في هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية، وكانت صفة قرية من القرى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها وزروعها، وثمارها وأشجارها وأنهارها، وما يتبع ذلك مما يكون في القرى، الجميع من فضة مصوّر‏.‏

وأمر بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل، وأن لا يكلف شيء من المطاعم سوى سمك طري، فاشترى الرجل بثلاثمائة دينار سمكاً طرياً، وكان جملة ما أنفق الرجل على سماط المقتدر ألفاً وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحرمين وأرباب الوظائف، وكان كثير التنفل بالصلاة والصوم والعبادة، ولكنه كان مؤثراً لشهواته، مطيعاً لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون‏.‏

وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي غلمان مؤنس الخادم، فقتل عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة - أعني سنة ثلاثمائة وعشرين - وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته أربعاً وعشرين سنة وإحدى عشر شهراً وأربعة عشر يوماً، كان أكثر مدة ممن تقدمه من الخلفاء‏.‏

 خلافة القاهر

لما قتل المقتدر بالله عزم مؤنس على تولية أبي العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم المقتدر، فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الأمراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي‏:‏ بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن ويشاورهن‏؟‏

ثم أحضروا محمد بن المعتضد - وهو أخو المقتدر - فبايعه القضاة والأمراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال منها، واستوزر أبا علي بن مقلة، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله ثم أبا العباس، ثم الخصيبي‏.‏

وشرع القاهر في مصادرة أصحاب المقتدر وتتبع أولاده، واستدعى بأم المقتدر وهي مريضة بالاستسقاء، وقد تزايد بها الوجع من شدة جزعها على ولدها حين بلغها قتله، وكيف بقي مكشوف العورة‏.‏

فبقيت أياماً لا تأكل شيئاً، ثم وعظها النساء حتى أكلت شيئاً يسيراً من الخبز والملح، ومع هذا كله استدعى بها القاهر فقررها على أموالها فذكرت له ما يكون للنساء من الحلي والمصاغ والثياب، ولم تقرّ بشيء من الأموال والجواهر، وقالت له‏:‏ لو كان عندي من هذا شيء ما سلمت ولدي للقتل‏.‏

فأمر بضربها وعلقت برجليها ومسها بعذاب شديد من العقوبة، فأشهدت على نفسها ببيع أملاكها، فأخذه الجند مما يحاسبون به من أرزاقهم‏.‏

وأرادها على بيع أوقافها فامتنعت من ذلك وأبت أشد الإباء‏.‏

ثم استدعى القاهر بجماعة من أولاد المقتدر منهم أبو العباس وهارون والعباس وعلي والفضل وإبراهيم، فأمر بمصادرتهم وحبسهم، وسلمهم إلى حاجبه علي بن بليق، وتمكن الوزير علي بن مقلة فعزل وولى، وأخذ وأعطى أياماً، ومنع البريدي من عمالتهم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عمير بن جوصا

أبو الحسن الدمشقي أحد المحدثين الحفاظ، والرواة الأيقاظ‏.‏

وإبراهيم بن محمد بن علي بن بطحاء بن علي بن مقلة أبو إسحاق التميمي، المحتسب ببغداد، روى عن عباس الدوري وعلي بن حرب وغيرهما، وكان ثقة فاضلا ً‏.‏

مرَّ يوماً على باب القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، والخصوم عكوف على بابه والشمس قد ارتفعت عليهم، فبعث حاجبه إليه يقول له‏:‏ إما أن تخرج فتفصل بين الخصوم، وإما أن تبعث فتعتذر إليهم إن كان لك عذر حتى يعودوا إليك بعد هذا الوقت‏.‏

 أبو علي بن خيران

الفقيه الشافعي، أحد أئمة المذهب، واسمه الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الكبير الورع‏.‏

عرض عليه منصب القضاء فلم يقبل، فختم عليه الوزير علي بن عيسى على بابه ستة عشر يوماً، حتى لم يجد أهله ماء إلا من بيوت الجيران، وهو مع ذلك يمتنع عليهم، ولم يل لهم شيئاً‏.‏

فقال الوزير‏:‏ إنما أردنا أن نعلم الناس أن ببلدنا وفي مملكتنا من عرض عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فلم يقبل‏.‏

وقد كانت وفاته في ذي الحجة منها، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية بما فيه كفاية‏.‏ ‏

عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه الاستراباذي، أحد أئمة المسلمين والحفاظ المحدثين وقد ذكرناه أيضاً في طبقات الشافعية‏.‏

 القاضي أبو عمر المالكي‏:‏ محمد بن يوسف

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، أبو عمر القاضي ببغداد ومعاملاتها في سائر البلاد، كان من أئمة الإسلام علماً ومعرفة، وفصاحة وبلاغة، وعقلاً ورياسة، بحيث كان يضرب بعقله المثل‏.‏

وقد روى الكثير عن المشايخ، وحدث عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ، وحمل الناس عنه علماً كثيراً من الفقه والحديث، وقد جمع قضاء القضاة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة‏.‏

وجمع مسنداً حافلاً، وكان إذا جلس للحديث جلس أبو القاسم البغوي عن يمينه وهو قريب من سن أبيه، وجلس عن يساره أيضاً ابن صاعد، وبين يديه أبو بكر النيسابوري، وسائر الحفاظ حول سريره من كل جانب‏.‏

قالوا‏:‏ ولم ينتقد عليه حكم من أحكامه أخطأ فيه قط‏.‏

قلت‏:‏ وكان من أكبر صوّاب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في سنة تسع وثلاثمائة كما تقدم‏.‏

وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الأخلاق، حسن المعاشرة، اجتمع عنده يوماً أصحابه فجيء بثوب فاخر ليشتريه بنحو من خمسين ديناراً، فاستحسنه الحاضرون، فدعا بالقلانسي، وأمره أن يقطع ذلك الثوب قلانس بعدد الحاضرين‏.‏

وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى‏.‏

توفي في رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل بك ربك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بدعوة الرجل الصالح إبراهيم الحربي‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

في صفر منها أحضر القاهر رجلاً كان يقطع الطريق فضرب بين يديه ألف سوط، ثم ضربت عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم‏.‏

وفيها‏:‏ أمر القاهر بإبطال الخمر والمغاني والقيان، وأمر ببيع الجواري المغنيات بسوق النخس، على أنهن سواذج‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وإنما فعل ذلك لأنه كان محباً للغناء فأراد أن يشتريهن برخص الأثمان، نعوذ بالله من هذه الأخلاق‏.‏

وفيها‏:‏ أشاعت العامة بينهم بأن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر، فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبي محمد الواعظ ليقابله على ذلك، فهرب واختفى، فأمر بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة‏.‏

وفيها‏:‏ عظم الخليفة وزيره على بن مقلة وخاطبه بالاحترام والإكرام‏.‏

ثم إن الوزير ومؤنساً الخادم وعلي بن بليق وجماعة من الأمراء اشتوروا فيما بينهم على خلع القاهر وتولية أبي أحمد المكتفي، وبايعوه سرّاً فيما بينهم، وضيقوا على القاهر بالله في رزقه، وعلى من يجتمع به‏.‏

وأرادوا القبض عليه سريعاً‏.‏

فبلغ ذلك القاهر - بلغه طريف اليشكري - فسعى في القبض عليهم، فوقع في مخالبه الأمير المظفر مؤنس الخادم‏.‏ ‏

فأمر بحبسه قبل أن يراه والاحتياط على دوره وأملاكه - وكانت فيه عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد - وجعل في منزلته - أمير الأمراء ورياسة الجيش - طريفاً اليشكري، وقد كان أحد الأعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك‏.‏

وقبض على بليق، واختفى ولده علي بن بليق، وهرب الوزير ابن مقلة فاستوزر مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله في مستهل شعبان، وخلع عليه وأمر بتحريق دار ابن مقلة، ووقع النهب ببغداد، وهاجت الفتنة، وأمر القاهر بأن يجعل أبو أحمد المكتفي بين حائطين ويسد عليه بالآجر والكلس، وهو حي فمات‏.‏

وأرسل منادي على المختفين‏:‏ إن من أخفاهم قتل وخربت داره‏.‏

فوقع بعلي بن بليق فذبح بين يديه كما تذبح الشاة، فأخذ رأسه في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه، فوضع رأس ابنه بين يديه، فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه، فأمر بذبحه أيضاً فذبح، ثم أخذ الرأسين في طستين فدخل بهما على مؤنس الخادم، فلما رآهما تشهد ولعن قاتلهما، فقال القاهر‏:‏ جروا برجل الكلب، فأخذ فذبح أيضاً وأخذ رأسه فوضع في طست وطيف بالرؤوس في بغداد‏.‏

ونودي عليهم‏:‏ هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في الدولة فساداً‏.‏

ثم أعيدت الرؤوس إلى خزائن السلاح‏.‏

وفي ذي القعدة منها‏:‏ قبض القاهر على الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وسجنه، وكان مريضاً بالقولنج، فبقي ثمانية عشر يوماً ومات، وكانت وزارته ثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبي، ثم قبض على طريف اليشكري الذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ من أعان ظالماً سلطه الله عليه‏.‏

فلم يزل اليشكري في الحبس حتى خلع القاهر‏.‏

وفيها‏:‏ جاء الخبر بموت العامل بديار مصر، وأن ابنه محمداً قد قام مقامه فيها، وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره‏.‏

ابتداء أمر بني بويه وظهور دولتهم

وهم ثلاثة إخوة‏:‏ عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن قباخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شيركيده بن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور الملك بن سابور ذي الأكتاف الفارسي‏.‏

كذا نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه‏.‏

وإنما قيل لهم‏:‏ الديالمة، لأنهم جاوروا الديلم، وكانوا بين أظهرهم مدة، وقد كان أبوهم أبو شجاع بويه فقيراً مدقعاً، يصطاد السمك ويحتطب بنوه الحطب على رؤوسهم، وقد ماتت امرأته وخلفت له هؤلاء الأولاد الثلاثة، فحزن عليها وعليهم، فبينما هو يوماً عند بعض أصحابه وهو شهريار بن رستم الديلمي، إذ مرّ منجم فاستدعاه فقال له‏:‏ إني رأيت مناماً غريباً أحب أن تفسره لي، رأيت كأني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة حتى كادت تبلغ عنان السماء، ثم انفرقت ثلاث شعب ثم انتشرت كل شعبة حتى صارت شعباً كثيرة، فأضاءت الدنيا بتلك النار، ورأيت البلاد والعباد قد خضعت لهذه النار‏.‏

فقال له‏:‏ المنجم هذا منام عظيم لا أفسره لك إلا بمال جزيل‏.‏

فقال‏:‏ والله لا شيء عندي أعطيك، ولا أملك إلا فرسي هذه‏.‏

فقال‏:‏ هذا يدل على أنه يملك من صلبك ثلاثة ملوك، ثم يكون من سلالة كل واحد منهم ملوك عدة‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك أتسخر بي‏؟‏

وأمر بنيه فصفعوه ثم أعطاه عشرة دراهم‏.‏

فقال لهم المنجم‏:‏ اذكروا هذا إذا قدمت عليكم وأنتم ملوك وخرج وتركهم‏.‏

وهذا من أعجب الأشياء، وذلك أن هؤلاء الأخوة الثلاثة كانوا عند ملك يقال له‏:‏ ماكان بن كاني، في بلاد طبرستان، فتسلط عليه مرداويج فضعف ماكان، فتشاوروا في مفارقته حتى يكون من أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة من الأمراء، فصاروا إلى مرادويج فأكرمهم واستعملهم على الأعمال في البلدان‏.‏

فأعطى عماد الدولة على بويه نيابة الكرج، فأحسن فيها السيرة والتف عليه الناس وأحبوه، فحسده مردوايج وبعث إليه بعزله عنها، ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه، وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة، واستولى على أصبهان‏.‏

وإنما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعظم في أعين الناس‏.‏

فلما بلغ ذلك مرداويج قلق منه، فأرسل إليه جيشاً فأخرجوه من أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الأموال شيء كثير جداً، ثم أخذ بلداناً كثيرة، واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته‏.‏

فقصده الناس محبة وتعظيماً، فاجتمع إليه من الجند خلق كثير وجم غفير، فلم يزل يترقى في مراقي الدنيا حتى آل به وبأخويه الحال إلى أن ملكوا بغداد من أيدي الخلفاء العباسيين، وصار لهم فيها القطع والوصل، والولاية والعزل، وإليهم تجبى الأموال، ويرجع إليهم في سائر الأمور والأحوال، على ما سنذكر ذلك مبسوطاً والله المستعان‏.‏

 

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن سلامة

ابن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الطحاوي، نسبة إلى قرية بصعيد مصر، الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة، والفوائد الغزيرة، وهو أحد الثقات الأثبات، والحفاظ الجهابذة، وطحا بلدة بدريا مصر‏.‏

وهو ابن أخت المزني، توفي في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة‏.‏

وذكر أبو سعيد السمعاني‏:‏ أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين، فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين، والله أعلم‏.‏

وذكر ابن خلكان في ‏(‏الوفيات‏)‏‏:‏ أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني، أن خاله قال له يوماً‏:‏ والله لا يجيء منك شيء‏.‏

فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي، حتى برع وفاق أهل زمانه، وصنف كتباً كثيرة منها‏:‏

‏(‏أحكام القرآن‏)‏، و‏(‏اختلاف العلماء‏)‏، و‏(‏معاني الآثار‏)‏، و‏(‏التاريخ الكبير‏)‏‏.‏

وله في الشروط كتاب، وكان بارعاً فيها‏.‏

وقد كتب للقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه، وكان يقول‏:‏ رحم الله المزني، لو كان حياً لكفّر عن يمينه، توفي في مستهل ذي القعدة كما تقدم‏.‏

ودفن بالقرافة، وقبره مشهور بها رحمه الله‏.‏

وقد ترجمه ابن عساكر وذكر‏:‏ أنه قد قدم دمشق سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ الفقه عن قاضيها أبي حازم‏.‏

 أحمد بن محمد بن موسى بن النضر

ابن حكيم بن علي بن زربى، أبو بكر المعروف‏:‏ بابن أبي حامد، صاحب بيت المال، سمع عباساً الدوري، وخلقاً، وعنه الدارقطني‏.‏

وكان ثقة صدوقاً جواداً ممدحاً، اتفق في أيامه أن رجلاً من أهل العلم كانت له جارية يحبها حباً شديداً، فركبته ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيراً في أمره، ثم باعها الذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبي حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الأول - الذي باعها في الدين - ببعض أصحاب ابن أبي حامد في أن يردها إليه بثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء‏.‏

فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبي حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وذلك أن امرأته كانت اشترتها له ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنتعها له وهيأتها حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أمرها بهت لعدم علمه بها‏.‏

ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على تلك الصفة فرح فرحاً شديداً، إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول الذي تشفع فيه صاحبه، فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له‏:‏ هذه جاريتك‏؟‏

فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر، اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ خذها، بارك الله لك فيها‏.‏

ففرح الفتى بها فرحاً شديداً‏.‏

وقال‏:‏ سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك‏؟‏

فقال‏:‏ لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي، وهذا الحلي والمصاغ الذي عليها‏؟‏

فقال‏:‏ هذا شيء وهبناه لها لا نرجع فيه، ولا يعود إلينا أبداً، فدعا له واشتد فرحه بها جداً وأخذها وذهب‏.‏

فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية‏:‏ أيما أحب إليك نحن أو سيدك هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ أما أنتم فقد أحسنتم إليّ وأعنتموني فجزاكم الله خيراً، وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالأموال الجزيلة، ولا فرطت فيه أبداً‏.‏

فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها مع صغر سنها‏.‏

شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة

كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار، فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد‏.‏

وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضاً إلى مرضها، ولما استقر أمر القاهر في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه، وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له، ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها، فكانت تكرمه وتشتري له الجواري‏.‏

فلما قتل ابنها وتولى مكانه، طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جداً، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الأموال فلم يجد لها شيئاً سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها‏.‏

قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها، وأتى بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فرفع الستر بإذن الخليفة‏.‏

فقالوا لها‏:‏ أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر‏؟‏

فبكت بكاء طويلاً ثم قالت‏:‏ نعم، فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون، دقيقة الجبين‏.‏

وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها‏.‏

ولم يذكر القاهر شيئاً من إحسانها إليه، رحمها الله وعفا عنه‏.‏

توفيت في جمادى الأولى من هذه السنة، ودفنت بالرصافة‏.‏ ‏

 عبد السلام بن محمد

ابن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم ابن المتكلم، المعتزلي بن المعتزلي، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة، وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله، مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، توفي في شعبان منها‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان له ابن يقال له‏:‏ أبو علي، دخل يوماً على الصاحب بن عباد فأكرمه واحترمه وسأله عن شيء من المسائل فقال‏:‏ لا أعرف نصف العلم‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر‏.‏

محمد بن الحسن بن دُريد بن عتاهية

أبو بكر بن دريد الأزدي اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة، ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتنقل في البلاد لطلب العلم والأدب، وكان أبوه من ذوي اليسار، وقدم بغداد وقد أسن فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

روى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وأبي حاتم، والرياشي‏.‏

وعنه أبو سعيد السيرافي، وأبو بكر بن شاذان، وأبو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم، ويقال‏:‏ كان أعلم من شعر من العلماء‏.‏

وقد كان متهتكاً في الشراب منهمكاً فيه‏.‏

قال أبو منصور الأزهري‏:‏ دخلت عليه فوجدته سكران فلم أعد إليه‏.‏

وسئل عنه الدارقطني فقال‏:‏ تكلموا فيه‏.‏

وقال ابن شاهين‏:‏ كنا ندخل عليه فنستحي مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو والشراب المصفى، وقد جاوز التسعين وقارب المائة‏.‏

توفي يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان، وفي هذا اليوم توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المعتزلي، فصلي عليهما معاً، ودفنا في مقبرة الخيزران‏.‏

فقال الناس‏:‏ مات اليوم عالم اللغة، وعالم الكلام‏.‏

وكان ذلك يوماً مطيراً‏.‏

ومن مصنفات ابن دريد ‏(‏الجمهرة في اللغة‏)‏ نحو عشر مجلدات، و‏(‏كتاب المطر‏)‏، و‏(‏المقصورة‏)‏، و‏(‏القصيدة الأخرى في المقصور والممدود‏)‏، وغير ذلك سامحه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة

فيها‏:‏ قصد ملك الروم ملطية في خمسين ألفاً فحاصرهم، ثم أعطاهم الأمان حتى تمكن منهم، فقتل منهم خلقاً كثيراً وأسر ما لا يحصون كثرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار أن مردوايج قد تسلم أصبهان وانتزعها من علي بن بويه، وأن علي بن بويه توجه إلى أرجان فأخذها، وقد أرسل ابن بويه إلى الخليفة بالطاعة والمعونة، ‏‏ وإن أمكن أن يقبل العتبة الشريفة ويحضر بين يدي الخليفة إن رسم، ويذهب إلى شيراز فيكون مع ابن ياقوت‏.‏

ثم اتفق الحال بعد ذلك أن صار إلى شيراز وأخذها من نائبها ابن ياقوت بعد قتالٍ عظيم، ظفر فيه ابن بويه بابن ياقوت وأصحابه، فقتل منهم خلقاً وأسر جماعة، فلما تمكن أطلقهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، وعدل في الناس‏.‏

وكانت معه أموال كثيرة قد استفادها من أصبهان والكرج وهمذان وغيرها‏.‏

وكان كريماً جواداً معطياً للجيوش الذين قد التفوا عليه، ثم إنه أملق في بعض الأحيان وهو بشيراز، وطالبه الجند بأرزاقهم وخاف أن ينحل نظام أمره وملكه، فاستلقى على قفاه يوماً مفكراً في أمره، وإذا حية قد خرجت من شق في سقف المكان الذي هو فيه ودخلت في آخر، فأمر بنزع تلك السقوف، فوجد هناك مكاناً فيه شيء كثير من الذهب، نحو خمسمائة ألف دينار، فأنفق في جيشه ما أراد، وبقي عنده شيء كثير‏.‏

وركب ذات يوم يتفرج في جوانب البلد وينظر إلى ما بنته الأوائل، ويتعظ بمن كان فيه قبله، فانخسفت الأرض من تحت قوائم فرسه، فأمر فحفر هنالك فوجد من الأموال شيئاً كثيراً أيضاً‏.‏

واستعمل عند رجل خياط قماشاً ليلبسه فاستبطأه فأمر بإحضاره، فلما وقف بين يديه تهدده - وكان الخياط أصم لا يسمع جيداً - فقال‏:‏ والله أيها الملك ما لابن ياقوت عندي سوى اثنا عشر صندوقاً لا أدري ما فيها‏.‏

فأمر بإحضارها فإذا فيها أموال عظيمة تقارب ثلاثمائة ألف دينار، واطلع على ودائع كانت ليعقوب بن الليث، فيها من الأموال ما لا يحد ولا يوصف كثرة، فقوي أمره وعظم سلطانه جداً‏.‏

وهذا كله من الأمور المقدرة لما يريد الله بهم من السعادة الدنيوية، بعد الجوع والقلة ‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ‏} ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وكتب إلى الراضي ووزيره ابن مقلة‏:‏ أن يقاطع على ما قبله من البلاد على ألف ألف في كل سنة، فأجابه الراضي إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء وأبهة الملك‏.‏

وفيها‏:‏ قتل القاهر أميرين كبيرين، وهما‏:‏ إسحاق بن إسماعيل النوبختي، وهو الذي كان قد أشار على الأمراء بخلافة القاهر‏.‏

وأبا السرايا بن حمدان أصغر ولد أبيه، وكان في نفس القاهر منهما بسبب أنهما زايداه من قبل أن يلي الخلافة في جاريتين مغنيتين‏.‏

فاستدعاهما إلى المسامرة فتطيبا وحضرا، فأمر بإلقائهما في جب هناك فتضرعا إليه فلم يرحمهما، بل ألقيا فيها وطم عليهما‏.‏

 ذكر خلع القاهر وسمل عينيه وعذابه

وكان سبب ذلك‏:‏ أن الوزير علي بن مقلة كان قد هرب حين قبض على مؤنس كما تقدم، فاختفى في داره، وكان يراسل الجند ويكاتبهم ويغريهم بالقاهر، ويخوفهم سطوته وإقدامه وسرعة بطشه، ويخبرهم بأن القاهر قد أعد لأكابر الأمراء أماكن في دار الخلافة يسجنهم فيها، ومهالك يلقيهم فيها، كما فعل بفلان وفلان فهيجهم ذلك على القبض على القاهر‏.‏

فاجتمعوا وأجمعوا رأيهم على مناجزته في هذه الساعة، فركبوا مع الأمير المعروف‏:‏ بسيما، وقصدوا دار الخلافة فأحاطوا بها، ثم هجموا عليه من سائر أبوابها وهو مخمور، فاختفى في سطح حمام فظهروا عليه فقبضوا عليه وحبسوه في مكان طريف اليشكري، وأخرجوا طريفاً من السجن، وخرج الوزير الخصيبي مستتراً في زي امرأة، فذهب‏.‏

واضطربت بغداد ونهبت، وذلك يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الأولى فيها، في الشهر الذي ماتت فيه شغب‏.‏

فلم يكن بين موتها والقبض عليه وسمل عينيه وعذابه بأنواع العقوبات إلا مقدار سنة واحدة، وانتقم الله منه‏.‏

ثم أمروا بإحضاره، فلما حضر سملوا عينيه حتى سالتا على خديه، وارتكب منه أمر عظيم لم يسمع مثله في الإسلام، ثم أرسلوه‏.‏

وكان تارة يحبس وتارة يخلى سبيله‏.‏

وقد تأخر موته إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة‏.‏

وافتقر حتى قام يوماً بجامع المنصور فسأل الناس فأعطاه رجل خمسمائة دينار‏.‏

ويقال‏:‏ إنما أراد بسؤاله التشنيع عليهم‏.‏

وسنذكر ترجمته إذا ذكرنا وفاته‏.‏

 خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر بالله

لما خلعت الجند القاهر وسملوا عينيه أحضروا أبا العباس محمد بن المقتدر بالله فبايعوه بالخلافة، ولقبوه‏:‏ الراضي بالله‏.‏

وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يلقب‏:‏ بالمرضي بالله، فلم يقبلوا، وذلك يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى منها‏.‏

وجاؤوا بالقاهر وهو أعمى قد سملت عيناه فأوقف بين يديه، فسلم عليه بالخلافة وسلمها إليه، فقام الراضي بأعبائها، وكان من خيار الخلفاء على ما سنذكره‏.‏

وأمر بإحضار أبي علي بن مقلة فولاه الوزارة، وجعل علي بن عيسى ناظراً معه، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، واستدعى عيسى طبيب القاهر فصادره بمائتي ألف دينار، وتسلم منه الوديعة التي كان القاهر أودعه إياها، وكانت جملة مستكثرة من الذهب والفضة والجواهر النفيسة‏.‏

وفيها‏:‏ عظم أمر مرداويج بأصبهان وتحدث الناس أنه يريد أخذ بغداد، وأنه ممالئ لصاحب البحرين أمير القرامطة، وقد اتفقا على رد الدولة من العرب إلى العجم، وأساء السيرة في رعيته، لا سيما في خواصه‏.‏

فتمالؤا عليه فقتلوه، وكان القائم بأعباء قتله أخص مماليكه وهو بجكم بيض الله وجهه، وبجكم هذا هو الذي استنقذ الحجر الأسود من أيدي القرامطة حتى ردوه، واشتراه منهم بخميس ألف دينار‏.‏

ولما قتل الأمير بجكم مرداويج عظم أمر علي بن بويه، وارتفع قدره بين الناس، وسيأتي ما آل إليه حاله‏.‏

ولما خلع القاهر وولي الراضي، طمع هارون بن غريب في الخلافة، لكونه ابن خال المقتدر، وكان نائباً على ماه، والكوفة، والدينور، وما سبذان، فدعا إلى نفسه واتبعه خلقٌ كثير من الجند والأمراء، وجبى الأموال واستفحل أمره وقويت شوكته، وقصد بغداد فخرج إليه محمد بن ياقوت رأس الحجبة بجميع جند بغداد فاقتتلوا‏.‏

فخرج في بعض الأيام هارون بن غريب يتقصد لعله يعمل حيلة في أسر محمد بن ياقوت فتقنطر به فرسه، فألقاه في نهر فضربه غلامه حتى قتله، وأخذ رأسه حتى جاء به إلى محمد بن ياقوت، وانهزم أصحابه ورجع ابن ياقوت فدخل بغداد ورأس هارون بن غريب يحمل على رمح، ففرح الناس بذلك، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر بن علي الشلمغاني، ويقال له‏:‏ ابن العرافة، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الإلهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك‏.‏

ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي، وادعى عليه بما كان ذكر عنه، فأنكر ثم أقر بأشياء، فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطاً، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله‏.‏

وكان هذا اللعين من جملة من اتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر‏.‏

وقد بسط ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏ مذهب هؤلاء الكفرة بسطاً جيداً، وشبه مذهبهم بمذهب النصيرية‏.‏

وادعى رجل آخر ببلاد الشاش النبوة وأظهر المخاريق وأشياء كثيرة من الحيل، فجاءته الجيوش فقاتلوه، وانطفأ أمره‏.‏

 وفاة المهدي صاحب أفريقية

وفيها‏:‏ كان موت المهدي صاحب إفريقية أول خلفاء الفاطميين الأدعياء الكذبة، وهو‏:‏ أبو محمد عبيد الله المدعي أنه علوي، وتلقب بالمهدي، وبنى المهدية ومات بها عن ثلاث وستين سنة، وكانت ولايته - منذ دخل رقادة وادعى الإمامة - أربعاً وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً‏.‏

وقد كان شهماً شجاعاً، ظفر بجماعة ممن خالفه وناوأه وقاتله وعاداه، فلما مات قام بأمر الخلافة من بعده ولده أبو القاسم الملقب‏:‏ بالخليفة القائم بأمر الله‏.‏

وحين توفي أبوه كتم موته سنة حتى دبر ما أراده من الأمور، ثم أظهر ذلك وعزاه الناس فيه، وقد كان كأبيه شهماً شجاعاً‏:‏ فتح البلاد، وأرسل السرايا إلى بلاد الروم، ورام أخذ الديار المصرية فلم يتفق له ذلك، وإنما أخذ الديار المصرية ابن ابنه المعز الفاطمي باني القاهرة المعزية، كما سنذكره إن شاء الله‏.‏

قال ابن خلكان في ‏(‏الوفيات‏)‏‏:‏ وقد اختلف في نسب المهدي هذا اختلافاً كثيراً جداً، فقال صاحب ‏(‏تاريخ القيروان‏)‏‏:‏ هو عبيد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو عبيد الله بن التقي وهو الحسين بن الوفي بن أحمد بن الرضي، وهو عبد الله هذا، وهو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق‏.‏ ‏

وقيل غير ذلك في نسبه‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ والمحققون ينكرون دعواه في النسب‏.‏

قلت‏:‏ قد كتب غير واحد من الأئمة منهم الشيخ أبو حامد الأسفراييني، والقاضي الباقلاني، والقدوري، أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمونه، وأن والد عبيد الله المهدي هذا كان يهودياً صباغاً بسلمية‏.‏

وقيل‏:‏ كان اسمه سعد، وإنما لقب بعبيد الله زوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسمي‏:‏ القداح، لأنه كان كحالاً يقدح العيون‏.‏

وكان الذي وطأ له الأمر بتلك البلاد أبو عبد الله الشيعي، كما قدمنا ذلك‏.‏

ثم استدعاه فلما قدم عليه من بلاد المشرق وقع في يد صاحب سجلماسة فسجنه، فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الأمر، ثم ندم الشيعي على تسليمه الأمر وأراد قتله، ففطن عبيد الله لما أراد به، فأرسل إلى الشيعي من قتله وقتل أخاه معه‏.‏

ويقال‏:‏ إن الشيعي لما دخل السجن الذي قد حبس فيه عبيد الله هذا وجد صاحب سجلماسة قد قتله، ووجد في السجن رجلاً مجهولاً محبوساً فأخرجه إلى الناس، لأنه كان قد أخبر الناس أن المهدي كان محبوساً في سجلماسة وأنه إنما يقاتل عليه، فقال للناس‏:‏ هذا هو المهدي - وكان قد أوصاه أن لا يتكلم إلا بما يأمره به وإلا قتله - فراج أمره‏.‏

فهذه قصته‏.‏

وهؤلاء من سلالته، والله أعلم‏.‏

وكان مولد المهدي هذا في سنة ستين ومائتين، وقيل‏:‏ قبلها، وقيل‏:‏ بعدها، بسلمية، وقيل‏:‏ بالكوفة، والله أعلم‏.‏

وأول ما دعي له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة، وكان ظهوره بها في ذي الحجة من السنة الماضية - سنة ست وتسعين ومائتين - فلما ظهر زالت دولة بني العباس عن تلك الناحية من هذا الحين إلى أن ملك العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏

توفي بالمدينة المهدية التي بناها في أيامه للنصف من ربيع الأول منها، وقد جاوز الستين على المشهور، وسيفصل الله بين الآمر والمأمور يوم البعث والنشور‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر‏.‏

حدث عن أبيه بكتبه المشهورة، وتوفي وهو قاض بالديار المصرية في ربيع الأول منها‏.‏

 محمد بن أحمد بن القاسم أبو علي الروذباري

وقيل‏:‏ اسمه أحمد بن محمد، ويقال‏:‏ الحسين بن الهمام، والصحيح الأول‏.‏

أصله من بغداد وسكن مصر، وكان من أبناء الرؤوساء والوزراء والكتبة، وصحب الجنيد وسمع الحديث وحفظ منه كثيراً، وتفقه بإبراهيم الحربي، وأخذ النحو عن ثعلب، وكان كثير الصدقة والبر للفقراء، وكان إذا أعطى الفقير شيئاً جعله في كفه تحت يد الفقير، ثم يتناوله الفقير، يريد أن لا تكون يد الفقير تحت يديه‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول‏:‏ إنه وصل إلى منزلة لا يؤثر فيه اختلاف الأحوال‏.‏

فقال‏:‏ نعم وصل، ولكن إلى سقر‏.‏ ‏

وقال‏:‏ الإشارة الإبانة، لما تضمنه الوجد من المشار إليه لا غير، وفي الحقيقة أن الإشارة تصححها العلل، والعلل بعيدة من غير الحقائق‏.‏

وقال‏:‏ من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك، فتترك الإنابة والتوبة توهماً أنك تسامح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك‏.‏

وقال‏:‏ تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق، فألقيت إليها الأسامي، فركنت إليها مشغوفة بها عن الذات إلى أوان التجلي، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ فوقفوا معها عن إدراك الحقائق، فأظهر الأسامي وأبراها للخلق، لتسكين شوق المحبين إليه، وتأنيس قلوب العارفين به‏.‏

وقال‏:‏ لا رضى لمن لا يصبر، ولا كمال لمن لا يشكر‏.‏

وبالله وصل العارفون إلى محبته وشكروه على نعمته‏.‏

وقال‏:‏ إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الشوق عند ورود المكاشف لهم عن روح الوصال إلى قربه أحلى من الشهد‏.‏

وقال‏:‏ من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات‏:‏ بطن جائع معه قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه قناعة دائمة‏.‏

وقال‏:‏ في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها فيا عجباً لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى‏.‏

ومن شعره‏:‏

لو مضى الكل مني لم يكن عجباً * وإنما عجبي في البعض كيف بقي

أدرك بقية روح منك قد تلفت * قبل الفراق فهذا آخر الرمق

 محمد بن إسماعيل

المعروف‏:‏ بخير النساج أبو الحسن الصوفي، من كبار المشايخ ذوي الأحوال الصالحة، والكرامات المشهورة‏.‏

أدرك سرياً السقطي وغيره من مشايخ القوم، وعاش مائة وعشرين سنة‏.‏

ولما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت، فقال‏:‏ قف رحمك الله، فإنك عبد مأمور وأنا عبد مأمور، وما أمرت به لا يفوت وما أمرت به يفوت‏.‏

ثم قام وتوضأ وصلى وتمدد ومات رحمه الله تعالى‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏

فقال‏:‏ استرحنا من دنياكم الوخيمة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

فيها‏:‏ أحضر ابن شنبوذ المقري فأنكر عليه جماعة من الفقهاء والقراء حروفاً انفرد بها، فاعترف ببعضها وأنكر بعضها، فاستتيب من ذلك واستكتب خطه بالرجوع عما نقم عليه، وضرب سبع درر بإشارة الوزير أبي علي بن مقلة، ونفي إلى البصرة‏.‏

فدعا على الوزير أن تقطع يده، ويشتت شمله، فكان ذلك عما قريب‏.‏

وفي جمادى الآخرة نادى ابن الحرسي صاحب الشرطة في الجانبين من بغداد‏:‏ أن لا يجتمع اثنان من أصحاب أبي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي‏.‏

وحبس من أصحابه جماعة، واستتر ابن البربهاري فلم يظهر مدة‏.‏

قال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ وفي شهر أيار تكاثفت الغيوم واشتد الحر جداً، فلما كان آخر يوم منه - وهو الخامس والعشرين من جمادى الآخرة منها - هاجت ريح شديدة جداً، وأظلمت الأرض واسودت إلى بعد العصر، ثم خفت ثم عادت إلى بعد عشاء الآخرة‏.‏

وفيها‏:‏ استبطأ الأجناد أرزاقهم فقصدوا دار الوزير أبي علي بن مقلة فنقبوها وأخذوا ما فيها‏.‏

ووقع حريق عظيم في طريق الموازين، فاحترق الناس شيء كثير، فعوض عليهم الراضي بعض ما كان ذهب لهم‏.‏

وفي رمضان اجتمع جماعة من الأمراء على بيعة جعفر بن المكتفي، فظهر الوزير على أمرهم فحبس جعفراً ونهبت داره، وحبس جماعة ممن كان بايعه، وانطفأت ناره‏.‏

وخرج الحجاج في غفارة الأمير لؤلؤ، فاعترضهم أبو طاهر القرمطي فقتل أكثرهم، ورجع من انهزم منهم إلى بغداد، وبطل الحج في هذه السنة من طريق العراق‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها تساقطت كواكب كثيرة ببغداد والكوفة على صورة لم ير مثلها، ولا ما يقاربها، وغلا السعر في هذه السنة حتى بيع الكر من الحنظة بمائة وعشرين ديناراً‏.‏

وفيها‏:‏ على الصحيح كان مقتل مرداويج بن زياد الديلمي، وكان قبحه الله سيء السيرة والسريرة، يزعم أن روح سليمان بن داود حلت فيه، وله سرير من ذهب يجلس عليه والأتراك بين يديه، ويزعم أنهم الجن الذين سخروا لسليمان بن داود‏.‏

وكان يسيء المعاملة لجنده، ويحتقرهم غاية الاحتقار، فما زال ذلك دأبه حتى أمكنهم الله منه فقتلوه شر قتلة في حمام، وكان الذي مالأ على قتله غلامه بجكم التركي‏.‏

وكان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده فأطلق لما قتل، فذهب إلى أخيه عماد الدولة، وذهبت طائفة من الأتراك معه إلى أخيه، والتفت طائفة منهم على بجكم فسار بهم إلى بغداد بإذن الخليفة له في ذلك، ثم صرفوا إلى البصرة فكانوا بها‏.‏

وأما الديلم فإنهم بعثوا إلى أخي مرداويج وهو وشمكير، فلما قدم عليهم تلقوه إلى أثناء الطريق حفاة مشاة فملكوه عليهم لئلا يذهب ملكهم، فانتدب إلى محاربته الملك السعيد نصر بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر، وما والاها من تلك البلاد والأقاليم، فانتزع منه بلدانا هائلة‏.‏

وفيها‏:‏ بعث القائم بأمر الله الفاطمي جيشاً من إفريقية في البحر إلى ناحية الفرنج فافتتحوا مدينة جنوه، وغنموا غنائم كثيرة وثروة‏.‏

ورجعوا سالمين غانمين‏.‏

وفيها‏:‏ بعث عماد الدولة إلى أصبهان فاستولى عليها وعلى بلاد الجبل، واتسعت مملكته جداً‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد بخراسان، ووقع بها فناء كثير، بحيث كان يهمهم أمر دفن الموتى‏.‏

وفيها‏:‏ قتل ناصر الدولة أبو الحسن بن حمدان نائب الموصل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان لأنه أراد أن ينتزعها منه، فبعث إليه الخليفة وزيره أبا علي بن مقلة في جيوش، فهرب منه ناصر الدولة، فلما طال مقام ابن مقلة بالموصل ولم يقدر على ناصر الدولة رجع إلى بغداد، فاستقرت يد ناصر الدولة على الموصل‏.‏

وبعث به إلى الخليفة أن يضمنه تلك الناحية، فأجيب إلى ذلك، واستمر الحال على ما كان‏.‏ ‏

وخرج الحجيج فلقيهم القرمطي فقاتلهم وظفر بهم، فسألوه الأمان فأمنهم على أن يرجعوا بغداد، فرجعوا وتعطل الحج عامهم ذلك أيضاً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 نفطويه النحوي

واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي أبو عبد الله العتكي المعروف بنفطويه النحوي‏.‏

له مصنفات فيه، وقد سمع الحديث وروى عن المشايخ، وحدث عنه الثقات، وكان صدوقاً، وله أشعار حسنة‏.‏

وروى الخطيب عن نفطويه‏:‏ أنه مر على بقال فقال له‏:‏ أيها الشيخ كيف الطريق إلى درب الرآسين - يعني درب الرواسين - فالتفت البقال إلى جاره فقال له‏:‏ قبح الله غلامي أبطأ علي بالسلق، ولو كان عندي لصفعت هذا بحزمة منه‏.‏

فانصرف عنه نفطويه ولم يرد عليه‏.‏

توفي نفطويه في شهر صفر من هذه السنة عن ثلاث وثمانين سنة، وصلى عليه البربهاري رئيس الحنابلة، ودفن بمقابر دار الكوفة‏.‏

ومما أنشده أبو علي القالي في الأمالي له‏:‏

قلبي أرق عليه من خديكا * وفؤادي أوهى من قوى جفنيكا

لم لا ترق لمن يعذب نفسه * ظلماً ويعطفه هواه عليكا

قال ابن خلكان‏:‏ وفي نفطويه يقول أبو محمد عبد الله بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور، صاحب ‏(‏الإمامة‏)‏، و‏(‏إعجاز القرآن‏)‏ وغير ذلك من الكتب‏:‏ من سره أن لا يرى فاسقاً فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه، وصير الباقي صراخاً عليه‏.‏

قال الثعالبي‏:‏ إنما سمى نفطويه لدمامته‏.‏

وقال ابن خالويه‏:‏ لا يعرف من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سواه‏.‏

عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي

حدث عن بشار بن نصر الحلبي وغيره، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة فاضلاً فقيهاً شافعياً‏.‏

عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الاستراباذي المحدث الفقيه الشافعي أيضاً، توفي عن ثلاث وثمانين سنة‏.‏

علي بن الفضل بن طاهر بن نصر بن محمد أبو الحسن البلخي، كان من الجوالين في طلب الحديث، وكان ثقة حافظاً، سمع أبا هاشم الرازي وغيره‏.‏

وعنه الدارقطني وغيره‏.‏

محمد بن أحمد بن أسد أبو بكر الحافظ، ويعرف‏:‏ بابن البستبنان، سمع الزبير بن بكار وغيره، وعنه الدارقطني وغيره، جاوز الثمانين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة

فيها‏:‏ جاءت الجند فأحدقوا بدار الخلافة، وقالوا‏:‏ ليخرج إلينا الخليفة الراضي بنفسه فيصلي بالناس‏.‏

فخرج فصلى بهم، وخطبهم‏.‏

وقبض الغلمان على الوزير ابن مقلة، وسألوا الخليفة أن يستوزر غيره، فرد الخيرة إليهم فاختاروا علي بن عيسى فلم يقبل، وأشار بأخيه عبد الرحمن بن عيسى فاستوزره، وأحرقت دار ابن مقلة، وسلم هو إلى عبد الرحمن بن عيسى فضرب ضرباً عنيفاً، وأخذ خطه بألف ألف دينار‏.‏

ثم عجز عبد الرحمن بن عيسى فعزل بعد خمسين يوماً، وقلد الوزارة أبو جعفر بن القاسم الكرخي، فصادر علي بن عيسى بمائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بن عيسى بسبعين ألف دينار، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر ونصف، وقلد سليمان بن الحسن، ثم عزل بأبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وذلك في السنة الآتية‏.‏

وأحرقت داره كما أحرقت دار ابن مقلة في يوم أحرقت تلك فيه، سنة بينهما واحدة‏.‏

وهذا كله من تخبيط الأتراك والغلمان‏.‏

ولما أحرقت دار ابن مقلة في هذه السنة، كتب بعض الناس على بعض جدرانها‏:‏

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت * ولم تخف يوماً يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر

وفيها‏:‏ ضعف أمر الخلافة جداً، وبعث الراضي إلى محمد بن رائق - وكان بواسط - يدعوه إليه ليوليه إمرة الأمراء ببغداد، وأمر الخراج والمغل في جميع البلاد والدواوين، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه بالخلع‏.‏

فقدم ابن رائق إلى بغداد على ذلك كله، ومعه الأمير بجكم التركي غلام مرداويج، وهو الذي ساعد على قتل مرداويج‏.‏

واستحوذ ابن رائق على أموال العراق بكماله، ونقل أموال بيت المال إلى داره، ولم يبق للوزير تصرف في شيء بالكلية، ووهى أمر الخلافة جداً، واستقل نواب الأطراف بالتصرف فيها، ولم يبق للخليفة حكم في غير بغداد ومعاملاتها‏.‏

ومع هذا ليس له مع ابن رائق نفوذ في شيء، ولا تفرد بشيء، ولا كلمة تطاع، وإنما يحمل إليه ابن رائق ما يحتاج إليه من الأموال والنفقات وغيرها‏.‏

وهكذا صار أمر من جاء بعده من أمراء الأكابر، كانوا لا يرفعون رأساً بالخليفة، وأما بقية الأطراف فالبصرة مع ابن رائق هذا، يولي فيها من شاء‏.‏

وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي، وقد غلب ابن ياقوت على ما كان بيده في هذه السنة من مملكة تستر وغيرها، واستحوذ على حواصلها وأموالها‏.‏

وأمر فارس إلى عماد الدولة بن بويه ينازعه في ذلك، وشمكير أخو مرداويج وكرمان بيد أبي علي محمد بن إلياس بن اليسع‏.‏

وبلاد الموصل والجزيرة وديار بكر ومضر وربيعة مع بني حمدان‏.‏

ومصر والشام في يد محمد بن طغج‏.‏

وبلاد إفريقية والمغرب في يد القائم بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وقد تلقب‏:‏ بأمير المؤمنين‏.‏

والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد، الملقب‏:‏ بالناصر الأموي‏.‏

وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني‏.‏

وطبرستان وجرجان في يد الديلم‏.‏

والبحرين واليمامة وهجر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي‏.‏

وفيها‏:‏ وقع ببغداد غلاء عظيم، وفناء كثير، بحيث عدم الخبز منها خمسة أيام، ومات من أهلها خلقٌ كثير، وأكثر ذلك كان في الضعفاء، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقوم بهم، ويحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى، وربما يوضع بينهم صبي، وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة‏.‏

ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق بعمان أحرق فيه من السودان ألف، ومن البيضان خلقٌ كثير، وكان جملة ما أحرق فيه أربعمائة حمل كافور‏.‏

وعزل الخليفة أحمد بن كيغلغ عن نيابة الشام، وأضاف ذلك إلى ابن طغج نائب الديار المصرية‏.‏

وفيها‏:‏ ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة بن بويه بأصبهان‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 ابن مجاهد المقري

أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقري، أحد أئمة هذا الشأن‏.‏

حدث عن خلقٍ كثير، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة مأموناً، سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان ثعلب يقول‏:‏ ما بقي في عصرنا أحد أعلم بكتاب الله منه‏.‏

توفي يوم الأربعاء، وأخرج يوم الخميس لعشر بقين من شعبان من هذه السنة‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام وهو يقرأ فقال له‏:‏ أما مت‏؟‏

فقال‏:‏ بلى، ولكن كنت أدعو الله عقب كل ختمة أن أكون ممن يقرأ في قبره، فأنا ممن يقرأ في قبره‏.‏

رحمه الله‏.‏

 جحظة الشاعر البرمكي

أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أبو الحسن النديم المعروف‏:‏ بجحظة الشاعر الماهر الأديب الأخباري، ذو الفنون في العلوم والنوادر الحاضرة، وكان جيد الغناء‏.‏

ومن شعره‏:‏

قد نادت الدنيا على نفسها * لو كان في العالم من يسمع

كم آمل خيّبت آماله * وجامع بدّدت ما يجمع

وكتب له بعض الملوك رقعة على صيرفي بمال أطلقه له فلم يحصل له، فكتب إلى الملك يذكر له ذلك‏:‏

إذا كانت صلاتكم رقاعاً * تخطط بالأنامل والأكف

فلا تجد الرقاع عليّ نفعاً * فذا خطي فخذه بألف ألف

ومن شعره يهجو صديقاً له ويذمه على شدة شحه وبخله وحرصه فقال‏:‏

لنا صاحب من أبرع الناس في البخل * يسمى بفضل، وهو ليس بذي فضل

دعاني كما يدعو الصديق صديقه * فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي

فلما جلسنا للغداء رأيته * يرى أنما من بعض أعضائه أكلي

فيغتاظ أحياناً ويشتم عبده * فأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي

أمدّ يدي سراً لآكل لقمة * فيلحظني شزراً فأعبث بالبقل

إلى أن جنت كفي علي جناية * وذلك أن الجوع أعدمني عقلي

فأهوت يميني نحو رجل دجاجة * فجرت رجلها كما جرت يدي رجلي

ومن قوي شعره قوله‏:‏

رحلتم فكم من أنة بعد حنة * مبينة للناس حزني عليكم

وقد كنت أعتقت الجفون من البكا * فقد ردها في الرق شوقي إليكم

وقد أورد له ابن خلكان من شعره الرائق قوله‏:‏

فقلت لها‏:‏ بخلت علي يقظي * فجودي في المنام لمستهام فقالت لي‏:‏ وصرت تنام أيضاً * وتطمع أن أزورك في المنام‏؟‏ قال‏:‏ وإنما لقبه بجحظة عبد الله بن المعتز، وذلك لسؤ منظره بمآقيه‏.‏

قال بعض من هجاه‏:‏

ببيت جحظة تسعَينَّ جحوظة * من فيل شطرنج ومن سرطان

وارحمتا لمنادميه تحملوا * ألم العيون للذة الآذان

توفي سنة ست وعشرين، وقيل‏:‏ أربع وعشرين وثلاثمائة بواسط‏.‏

 ابن المغلس الفقيه الظاهري

المشهور، له المصنفات المفيدة في مذهبه، أخذ الفقه عن أبي بكر بن داود، وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وعلي بن داود القنطري، وأبي قلابة الرياشي، وآخرين‏.‏

وكان ثقة، فقيهاً، فاضلاً، وهو الذي نشر علم داود في تلك البلاد، توفي بالسكتة‏.‏

 أبو بكر بن زياد

النيسابوري عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، أبو بكر الفقيه الشافعي النيسابوري مولى أبان بن عثمان، رحل إلى العراق والشام ومصر، وسكن بغداد‏.‏

حدث عن محمد بن يحيى الذهلي، وعباس الدوري، وخلق‏.‏

وعنه الدارقطني وغير واحد من الحفاظ‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ لم ير في مشايخنا أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع

وقال عبد الله بن بطة‏:‏ كنا نحضر مجلس ابن زياد، وكان يحرز من يحضر من أصحاب المحابر ثلاثين ألفاً‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأ يوسف بن عمر بن مسرور، سمعت أبا بكر بن زياد النيسابوري يقول‏:‏ أعرف من قام الليل أربعين سنة لم ينم إلا جاثياً، ويتقوت كل يوم خمس حبات، ويصلي صلاة الغد بطهارة العشاء، ثم يقول‏:‏ أنا هو، كنت أفعل هذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن - يعني أم ولده - إيش أقول لمن زوجني‏.‏

ثم قال في إثر هذا‏:‏ ما أراد إلا الخير‏.‏

توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة‏.‏

 عفان بن سليمان

ابن أيوب أبو الحسن التاجر، أقام بمصر، وأوقف بها أوقافاً دارة على أهل الحديث، وعلى سلالة العشرة رضي الله عنهم‏.‏

وكان تاجراً موسعاً عليه في الدنيا، مقبول الشهادة عند الحكام، توفي في شعبان منها‏.‏

 أبو الحسن الأشعري

قدم بغداد، وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي، وتفقه بابن سريج‏.‏

وقد ذكرنا ترجته في طبقات الشافعية‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه كان يجلس في حلقة الشيخ أبي إسحاق المروزي، وقد كان الأشعري معتزلياً فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم، وله من الكتب‏:‏ ‏(‏الموجز‏)‏ وغيره‏.‏

وحُكي عن ابن حزم أنه قال‏:‏ للأشعري خمسة وخمسون تصنيفاً‏.‏

وذكر أن مغله كان في كل سنة سبعة عشر ألف درهم، وأنه كان من أكثر الناس دعابة، وأنه ولد سنة سبعين ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ستين ومائتين، ومات في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة ثلاثين، وقيل‏:‏ في سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة، فالله أعلم‏.‏

محمد بن الفضل بن عبد الله أبو ذر التميمي، كان رئيس جرجان، سمع الكثير، وتفقه بمذهب الشافعي، وكانت داره مجمع العلماء، وله إفضال كثير على طلبة العلم من أهل زمانه‏.‏

هارون بن المقتدر أخو الخليفة الراضي، توفي في ربيع الأول منها، فحزن عليه أخوه الراضي، وأمر بنفي بختيشوع ابن يحيى المتطبب إلى الأنبار، لأنه اتهم في علاجه، ثم شفعت فيه أم الراضي فرده‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

في المحرم منها خرج الخليفة الراضي وأمير الأمراء محمد بن رائق من بغداد، قاصدين واسط لقتال أبي عبد الله البريدي نائب الأهواز، الذي قد تجبر بها ومنع الخراج، فلما سار ابن رائق إلى واسط خرج الحجون فقاتلوه، فسلط عليهم بجكم فطحنهم، ورجع فَلّهم إلى بغداد، فتلقاهم لؤلؤ أمير الشرطة فاحتاظ على أكثرهم ونهبت دورهم، ولم يبق لهم رأس يرتفع، وقطعت أرزاقهم من بيت المال بالكلية‏.‏

وبعث الخليفة وابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يتهددانه، فأجاب إلى حمل كل سنة ثلاثمائة ألف وستين ألف دينار يقوم بها، تحمل كل سنة على حدته، وأنه يجهز جيشاً إلى قتال عضد الدولة بن بويه‏.‏

فلما رجع الخليفة إلى بغداد لم يحمل شيئاً، ولم يبعث أحداً‏.‏

ثم بعث ابن رائق بجكم وبدراً الحسيني لقتال البريدي، فجرت بينهم حروب وخطوب، وأمور يطول ذكرها‏.‏

ثم لجأ البريدي إلى عماد الدولة واستجار به، واستحوذ بجكم على بلاد الأهواز، وجعل إليه ابن رائق خراجها، وكان بجكم هذا شجاعاً فاتكاً‏.‏

وفي ربيع الأول خلع الخليفة على بجكم وعقد له الإمارة ببغداد، وولاه نيابة المشرق إلى خراسان‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أبو حامد بن الشرقي‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسن

أبو حامد الشرقي، مولده سنة أربعين ومائتين، وكان حافظاً كبير القدر، كثير الحفظ، كثير الحج‏.‏

رحل إلى الأمصار وجاب الأقطار، وسمع من الكبار‏.‏

نظر إليه ابن خزيمة يوماً فقال‏:‏ حياة أبي حامد تحول بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسن الخزاز النحوي، حدث عن المبرد وثعلب، وكان ثقة‏.‏

له مصنفات في علوم القرآن غزيرة الفوائد‏.‏

محمد بن إسحاق بن يحيى أبو الطيب النحوي، قال أبو الوفا‏:‏ له مصنفات مليحة في الأخبار، وقد حدث عن الحارث بن أبي المبرد وأسامة وثعلب، وغيرهم‏.‏

محمد بن هارون أبو بكر العسكري، الفقيه على مذهب أبي ثور، روى عن الحسن بن عرفة، وعباس الدوري وعن الدارقطني والآجري، وغيرهما، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة

فيها‏:‏ ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي مكتوب بالرومية، والتفسير بالعربية، فالرومي بالذهب والعربي بالفضة، وحاصله طلب الهدنة بينه وبينه، ووجه مع الكتاب بهدايا وألطاف كثيرة فاخرة، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وفودي من المسلمين ستة آلاف أسير، ما بين ذكر وأنثى على نهر البدندون‏.‏

وفيها‏:‏ ارتحل الوزير أبو الفتح بن الفرات من بغداد إلى الشام، وترك الوزارة، فوليها أبو علي بن مقلة، وكانت ولايته ضعيفه جداً، ليس له من الأمر شيء مع ابن رائق، وطلب من ابن رائق أن يفرغ له عن أملاكه فجعل يماطله، فكتب إلى بجكم يطمعه في بغداد، وأن يكون عوضاً عن ابن رائق‏.‏

وكتب ابن مقلة أيضاً إلى الخليفة يطلب منه أن يسلم إليه ابن رائق وابن مقاتل، ويضمنهم بألفي دينار، فبلغ ذلك ابن رائق فأخذه فقطع يده، وقال‏:‏ هذا أفسد في الأرض‏.‏

ثم جعل يحُسِّن للراضي أن يستوزره، وأن قطع يده لا يمنعه من الكتابة، وأنه يشد القلم على يده اليمنى المقطوعة فيكتب بها‏.‏

ثم بلغ ابن رائق أنه قد كتب إلى بجكم بما تقدم، وأنه يدعو عليه‏.‏

فأخذه فقطع لسانه وسجنه في مكان ضيق، وليس عنده من يخدمه، فكان يستقي الماء بنفسه، يتناول الدلو بيده اليسرى ثم يمسكه بفيه ثم يجذب باليسرى ثم يمسك بفيه إلى أن يستقي، ولقي شدة وعناء، ومات في محبسه هذا وحيداً، فدفن فيه‏.‏

ثم سأل أهله نقله فدفن في داره، ثم نقل منها إلى غيرها، فاتفق له أشياء غريبة منها‏:‏

أنه وزر ثلاث مرات، وعزل ثلاث مرات، وولي لثلاثة من الخلفاء، ودفن ثلاث مرات، وسافر ثلاث سفرات، مرتين منفياً ومرة إلى الموصل كما تقدم‏.‏

وفيها‏:‏ دخل بجكم بغداد، فقلده الراضي إمرة الأمراء مكان ابن رائق، وقد كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض وزير ماكان بن كالي الديلمي، فاستوهبه ماكان من الوزير فوهبه له، ثم فارق ماكان ولحق بمرداويج، وكان في جملة من قتله في الحمام كما تقدم‏.‏

فلما ولاه الخليفة إمرة الأمراء أسكن في دار مؤنس الخادم، وعظم أمره جداً وانفصل ابن رائق وكانت أيامه سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوماً‏.‏

وفيها‏:‏ بعث عماد الدولة بن بويه أخاه معز الدولة، فأخذ الأهواز لأبي عبد الله البريدي، وانتزعها من يد بجكم وأعادها إليه‏.‏

وفيها‏:‏ استولى لشكري أحد أمراء وشمكير الديلمي على بلاد أذربيجان، وانتزعها من رستم بن إبراهيم الكردي، أحد أصحاب ابن أبي الساج بعد قتال طويل‏.‏

وفيها‏:‏ اضطرب أمر القرامطة جداً وقتل بعضهم بعضاً، وانكفوا بسبب ذلك عن التعرض للفساد في الأرض، ولزموا بلدهم هجر لا يرومون منه انتقالاً إلى غيره ولله الحمد والمنة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أحمد بن زياد بن عبد الرحمن الأندلسي، كان أبوه من أصحاب مالك، وهذا الرجل هو أول من أدخل فقه مالك إلى الأندلس وقد عرض عليه القضاء بها فلم يقبل‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة

في المحرم منها، خرج الراضي أمير المؤمنين إلى الموصل لمحاربة ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان نائبها، وبين يديه بجكم أمير الأمراء، وقاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف، وقد استخلف على بغداد ولده القاضي أبا نصر يوسف بن عمر، في منصب القضاء، عن أمر الخليفة بذلك‏.‏

وكان فاضلاً عالماً، ولما انتهى بجكم إلى الموصل واقع الحسن بن عبد الله بن حمدان فهزم بجكم ابن حمدان، وقرر الخليفة الموصل والجزيزة وولى فيها‏.‏

وأما محمد بن رائق فإنه اغتنم غيبة الخليفة عن بغداد واستجاش بألف من القرامطة وجاء بهم فدخل بغداد، فأكثر فيها الفساد، غير أنه لم يتعرض لدار الخلافة، ثم بعث إلى الخليفة يطلب منه المصالحة والعفو عما جنى، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف، وترحل ابن رائق عن بغداد ودخلها الخليفة في جمادى الأولى، ففرح المسلمون بذلك‏.‏

ونزل عند غروب الشمس أول ليلة من شهر آذار في جمادى الأولى مطر عظيم، وبرد كبار، كل واحدة نحو أوقيتين، واستمر فسقط بسببه دور كثيرة من بغداد‏.‏

وظهر جراد كثير في هذه السنة، وكان الحج من جهة درب العراق قد تعطل من سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى هذه السنة،‏ فشفع في الناس الشريف أبو علي محمد بن يحيى العلوي عند القرامطة، وكانوا يحبونه لشجاعته وكرمه، في أن يمكنهم من الحج، وأن يكون لهم على كل جمل خمسة دنانير، وعلى المحمل سبعة دنانير، فاتفقوا معه على ذلك، فخرج الناس في هذه السنة إلى الحج على هذا الشرط، وكان في جملة من خرج الشيخ أبو علي بن أبي هريرة أحد أئمة الشافعية، فلما اجتاز بهم طالبوه بالخفارة فثنى رأس راحلته ورجع وقال‏:‏ ما رجعت شحاً ولكن سقط عني الوجوب بطلب هذه الخفارة‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بالأندلس، وذلك أن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس الملقب بالناصر لدين الله، قتل وزيره أحمد فغضب له أخوه أمية بن إسحاق - وكان نائباً على مدينة شنترين - فارتد ودخل بلاد النصارى واجتمع بملكهم ردمير ودلهم على عورات المسلمين، فسار إليهم في جيش كثيف في الجلالقة فخرج إليهم عبد الرحمن فأوقع بهم بأساً شديداً، وقتل من الجلالقة خلقاً كثيراً، ثم كر الفرنج على المسلمين فقتلوا منهم خلقاً كثيراً قريباً ممن قتلوا منهم، ثم والى المسلمون الغارات على بلاد الجلالقة فقتلوا منهم أمماً لا يحصون كثرة، ثم ندم أمية بن إسحاق على ما صنع، وطلب الأمان من عبد الرحمن فبعث إليه بالأمان، فلما قدم عليه قبله واحترمه‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحسن بن القاسم بن جعفر بن دحيم

أبو علي الدمشقي، من أبناء المحدثين، كان أخبارياً له في ذلك مصنفات، وقد حدث عن العباس بن الوليد البيروتي وغيره‏.‏

توفي بمصر في محرم هذه السنة وقد أناف على الثمانين سنة‏.‏

الحسين بن القاسم بن جعفر بن محمد بن خالد بن بشر أبو علي الكوكبي الكاتب، صاحب الأخبار والآداب، روى عن أحمد بن أبي خيثمة وأبي العيناء وابن أبي الدنيا‏.‏

روى عنه الدارقطني وغيره

 عثمان بن الخطاب

ابن عبد الله أبو عمرو البلوي، المغربي الأشج، ويعرف بأبي الدنيا، قدم هذا الرجل بغداد بعد الثلاثمائة، وزعم أنه ولد أول خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ببلاد المغرب، وأنه وفد هو وأبوه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأصابهم في الطريق عطش فذهب يرتاد لأبيه ماء فرأى عيناً فشرب منها واغتسل، ثم جاء لأبيه ليسقيه فوجده قد مات‏.‏

وقدم هو على علي بن أبي طالب فأراد أن يقبل ركبته فصدمه الركاب فشج رأسه، فكان يعرف بالأشج‏.‏

وقد زعم صدقه في هذا الذي زعمه طائفة من الناس، ورووا عنه نسخة فيها أحاديث من روايته عن علي، وممن صدقه في ذلك الحافظ محمد بن أحمد بن المفيد ورواه عنه، ولكن كان المفيد متهم بالتشيع، فسمح له بذلك لانتسابه إلى علي‏.‏ ‏‏

وأما جمهور المحدثين قديماً وحديثاً فكذبوه في ذلك، وردوا عليه كذبه، ونصوا على أن النسخة التي رواها موضوعة، ومنهم أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، وأشياخنا الذين أدركناهم‏:‏ جهبذ الوقت شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، والجهبذ أبو الحجاج المزي، والحافظ مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الذهبي، وقد حررت ذلك في كتابي التكميل ولله الحمد والمنة‏.‏

قال المفيد‏:‏ بلغني أن الأشج هذا مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وهو راجع إلى بلده والله أعلم‏.‏

 محمد بن جعفر بن محمد بن سهل

أبو بكر الخرائطي، صاحب المصنفات، أصله من أهل سر من رأى، وسكن الشام وحدث بها عن الحسن بن عرفة وغيره‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏ الحافظ الكبير ابن الحافظ الكبير

 أبو محمد عبد الرحمن

ابن أبي حاتم محمد ابن إدريس الرازي، صاحب كتاب ‏(‏الجرح والتعديل‏)‏، وهو من أجل الكتب المصنفة في هذا الشأن، وله التفسير الحافل الذي اشتمل على النقل الكامل، الذي يربو فيه على تفسير ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، إلى زماننا، وله كتاب‏(‏العلل‏)‏ المصنفة المرتبة على أبواب الفقه وغير ذلك من المصنفات النافعة‏.‏

وكان من العبادة والزهادة والورع والحفظ والكرامات الكثيرة المشهورة على جانب كبير رحمه الله‏.‏

وقد صلى مرة فلما سلم قال له رجل من بعض من صلى معه‏:‏ لقد أطلت بنا، ولقد سبحت في سجودي سبعين مرة‏.‏

فقال عبد الرحمن‏:‏ لكني والله ما سبحت إلا ثلاثاً‏.‏

وقد انهدم سور بلد في بعض بلاد الثغور، فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم للناس‏:‏ أما تبنوه‏؟‏

وقد حثهم على عمارته، فرأى عندهم تأخراً‏.‏

فقال‏:‏ من يبنيه وأضمن له على الله الجنة‏؟‏

فقام رجل من التجار فقال‏:‏ اكتب لي خطك بهذا الضمان وهذه ألف دينار لعمارته‏.‏

فكتب له رقعة بذلك، فعمر ذلك السور ثم اتفق موت ذلك الرجل التاجر عما قريب، فلما حضر الناس جنازته طارت من كفنه رقعة، فإذا هي التي كتبها له ابن أبي حاتم وإذا في ظهرها مكتوب‏:‏ قد أمضينا لك هذا الضمان ولا تعد إلى ذلك‏.‏ والله سبحان أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏:‏ في غرة المحرم منها ظهرت في الجو حمرة شديدة في ناحية الشمال والمغرب، وفيها أعمدة بيض عظيمة كثيرة العدد‏.‏

وفيها‏:‏ وصل الخبر بأن ركن الدولة أبا علي الحسن بن بويه وصل إلى واسط، فركب الخليفة وبجكم إلى حربه فخاف فانصرف راجعاً إلى الأهواز، ورجعا إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ملك ركن الدولة بن بويه مدينة أصبهان، أخذها من وشمكير أخي مرداويج، لقلة جيشه في هذا الحين‏.‏ ‏

وفي شعبان منها زادت دجلة زيادة عظيمة وانتشرت في الجانب الغربي، وسقطت دور كثيرة، وانبثق بثق من نواحي الأنبار فغرق قرى كثيرة، وهلك بسببه حيوان وسباع كثيرة في البرية‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج بجكم بسارة بنت عبد الله البريدي‏.‏

ومحمد بن أحمد بن يعقوب الوزير يومئذ ببغداد، ثم صرف عن الوزارة بسليمان بن الحسن، وضمن البريدي بلاد واسط وأعمالها بستمائة ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ توفي قاضي القضاة أبو الحسن عمر بن محمد بن يوسف، وتولى مكانه ولده أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، وخلع عليه الخليفة الراضي يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها‏.‏

ولما خرج أبو عبد الله البريدي إلى واسط كتب إلى بجكم يحثه على الخروج إلى الجبل ليفتحها، ويساعده هو على أخذ الأهواز من يد عماد الدولة بن بويه، وإنما كان مقصوده أن يبعده عن بغداد ليأخذها منه‏.‏

فلما انفصل بجكم بالجنود بلغه ما يريده البريدي من المكيدة به، فرجع سريعاً إلى بغداد، وركب في جيش كثيف إليه، وأخذ الطرق عليه من كل جانب، لئلا يشعر به إلا وهو عليه‏.‏

فاتفق أن بجكماً كان راكباً في زورق وعنده كاتب له إذ سقطت حمامة في ذنبها كتاب، فأخذه بجكم فقرأه فإذا فيه كتاب من هذا الكاتب إلى أصحاب البريدي يعلمهم بخبر بجكم‏.‏

فقال له بجكم‏:‏ ويحك هذا خطك‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

ولم يقدر أن ينكر، فأمر بقتله فقتل وألقي في دجلة‏.‏

ولما شعر البريدي بقدوم بجكم هرب إلى البصرة ولم يقم بها أيضاً بل هرب منها إلى غيرها‏.‏

واستولى بجكم على بلاد واسط، وتسلط الديلم على جيشه الذين خلفهم بالجبل، ففروا سراعاً إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ استولى محمد بن رائق على بلاد الشام فدخل حمص أولاً فأخذها، ثم جاء إلى دمشق وعليها بدر بن عبد الله الأخشيد المعروف ببدر‏.‏

الأخشيد وهو محمد بن طغج، فأخرجه ابن رائق من دمشق قهراً واستولى عليها‏.‏

ثم ركب ابن رائق في جيش إلى الرملة فأخذها، ثم إلى عريش مصر فأراد دخولها فلقيه محمد بن طغج الأخشيد فاقتتلا هناك فهزمه ابن رائق، واشتغل أصحابه بالنهب ونزلوا بخيام المصريين، فكر عليهم المصريون فقتلوهم قتلاً عظيماً، وهرب ابن رائق في سبعين رجلاً من أصحابه، فدخل دمشق في أسوأ حال وشرها، وأرسل له ابن طغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيش فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابن رائق المصريين وقتل أخو الأخشيد فيمن قتل، فغسله ابن رائق وكفنه وبعث به إلى أخيه بمصر، وأرسل معه ولده وكتب إليه يحلف أنه ما أراد قتله، ولقد شق عليه، وهذا ولدي فاقتد منه‏.‏

فأكرم الأخشيد ولد محمد بن رائق، واصطلحا على أن تكون الرملة وما بعدها إلى ديار مصر للأخشيد، ويحمل إليه الأخشيد في كل سنة مائة آلف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملة إلى جهة دمشق تكون لابن رائق‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو محمد جعفر المرتعش

أحد مشايخ الصوفية، كذا ذكره الخطيب‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ اسمه عبد الله بن محمد أبو محمد النيسابوري، كان من ذوي الأموال فتخلى منها وصحب الجنيد وأبا حفص وأبا عثمان، وأقام ببغداد حتى صار شيخ الصوفية، فكان يقال‏:‏ عجائب بغداد‏:‏ إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر الخواص‏.‏

سمعت أبا جعفر الصائغ يقول‏:‏ قال المرتعش‏:‏ من ظن أن أفعاله تنجيه من النار أو تبلغه الرضوان فقد جعل لنفسه وفعله خطراً، ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله أقصى منازل الرضوان‏.‏

وقيل للمرتعش‏:‏ إن فلاناً يمشي على الماء‏.‏

فقال‏:‏ إن مخالفة الهوى أعظم من المشي على الماء، والطيران في الهواء‏.‏

ولما حضرته الوفاة بمسجد الشونيزية حسبوا ما عليه من الدين فإذا عليه سبعة عشر درهماً، فقال‏:‏ بيعوا خريقاتي هذه واقضوا بها ديني، وأرجو من الله تعالى أن يرزقني كفناً‏.‏

وقد سألت الله ثلاثاً أن يميتني فقيراً، وأن يجعل وفاتي في هذا المسجد فإني صحبت فيه أقواماً، وأن يجعل عندي من آنس به وأحبه‏.‏

ثم أغمض عينيه ومات‏.‏

 

 أبو سعيد الأصطخري الحسن بن أحمد

ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن يسار، أبو سعيد الأصطخري أحد أئمة الشافعية، كان زاهداً ناسكاً عابداً، ولي القضاء بقم، ثم حسبة بغداد، فكان يدور بها ويصلي على بغلته، وهو دائر بين الأزقة، وكان متقللاً جداً‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية، وله كتاب ‏(‏القضاء‏)‏لم يصنف مثله في بابه، توفي وقد قارب التسعين رحمه الله‏.‏

 علي بن محمد أبو الحسن المزين الصغير

أحد مشايخ الصوفية، أصله من بغداد، وصحب الجنيد وسهلاً التستري، وجاور بمكة حتى توفي في هذه السنة، وكان يحكي عن نفسه قال‏:‏ وردت بئراً في أرض تبوك فلما دنوت منها زلقت فسقطت في البئر، وليس أحد يراني‏.‏

فلما كنت في أسفله إذا فيه مصطبة فتعلقت بها وقلت‏:‏ إن مت لم أفسد على الناس الماء، وسكنت نفسي وطابت للموت، فبينا أنا كذلك إذا أفعى قد تدلت عليّ فلفت علي ذنبها ثم رفعتني حتى أخرجتني إلى وجه الأرض، وانسابت فلم أدر أين ذهبت، ولا من أين جاءت‏.‏

وفي مشايخ الصوفية آخر يقال له‏:‏ أبو جعفر المزين الكبير، جاور بمكة ومات بها أيضاً، وكان من العباد‏.‏

روى الخطيب عن علي بن أبي علي إبراهيم بن محمد الطبري عن جعفر الخلدي قال‏:‏ ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير فقلت له‏:‏ زودني‏.‏

فقال لي‏:‏ إذا فقدت شيئاً فقل‏:‏ يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء‏.‏

قال‏:‏ وجئت إلى الكتاني فودعته وسألته أن يزودني، فأعطاني خاتماً على فصه نقش فقال‏:‏ إذا اغتممت فانظر إلى فص هذا الخاتم يزول غمك‏.‏

قال‏:‏ فكنت لا أدعو بذلك الدعاء إلا استجيب لي، ولا أنظر في ذلك الفص إلا زال غمي، فبينا أنا ذات يوم في سمرية إذ هبت ريح شديدة، فأخرجت الخاتم لأنظر إليه فلم أدر كيف ذهب، فجعلت أدعو بذلك الدعاء يومي أجمع أن يجمع علي الخاتم، فلما رجعت إلى المنزل فتشت المتاع الذي في المنزل فإذا الخاتم في بعض ثيابي التي كانت بالمنزل‏.‏

 صاحب كتاب العقد الفريد أحمد بن عبد ربه

ابن حبيب بن جرير بن سالم أبو عمر القرطبي، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي‏.‏

كان من الفضلاء المكثرين، والعلماء بأخبار الأولين والمتأخرين، وكتابه ‏(‏العقد‏)‏ يدل على فضائل جمة، وعلوم كثيرة مهمة، ويدل كثير من كلامه على تشيع فيه، وميل إلى الحط على بني أمية‏.‏

وهذا عجيب منه، لأنه أحد مواليهم وكان الأولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله ديوان شعر حسن، ثم أورد منه أشعاراً في التغزل في المردان والنسوان أيضاً‏.‏

ولد في رمضان سنة ست وأربعين ومائتين، وتوفي بقرطبة يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

 

 عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب

ابن حماد بن زيد بن درهم، أبو الحسين الأزدي الفقيه المالكي القاضي، ناب عن أبيه وعمره عشرون سنة، وكان حافظاً للقرآن والحديث والفقه على مذهب مالك، والفرائض والحساب واللغة، والنحو والشعر‏.‏

وصنف مسنداً فرزق قوة الفهم وجودة القريحة، وشرف الأخلاق، وله الشعر الرائق الحسن، وكان مشكور السيرة في القضاء، عدلاً ثقة إماماً‏.‏

قال الخطيب‏:‏ أخبرنا أبو الطيب الطبري سمعت المعافى بن زكريا الجريري يقول‏:‏

كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسين فجئنا يوماً ننتظره على العادة فجلسنا عند بابه، وإذا أعرابي جالس كأن له حاجة إذ وقع غراب على نخلة في الدار، فصرخ ثم طار‏.‏

فقال الأعرابي‏:‏ إن هذا الغراب يخبر أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام‏.‏

قال‏:‏ فزبرناه فقام وانصرف، ثم خرج الإذن من القاضي أن هلموا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتماً، فقلنا له‏:‏ ما الخبر‏؟‏

فقال‏:‏ إني رأيت البارحة في المنام شخصاً يقول‏:‏

منازل آل حماد بن زيد * على أهليك والنعم السلام

وقد ضاق لذلك صدري‏.‏

قال‏:‏ فدعونا له وانصرفنا‏.‏

فلما كان اليوم السابع من ذلك اليوم دفن ليوم الخميس لسبع عشرة مضت من شعبان من هذه السنة، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وصلى عليه ابنه أبو نصر وولي بعده القضاء‏.‏

قال الصولي‏:‏ بلغ القاضي أبو الحسين من العلم مبلغاً عظيماً مع حداثة سنه، وحين توفي كان الخليفة الراضي يبكي عليه ويحرضنا ويقول‏:‏ كنت أضيق بالشيء ذرعاً فيوسعه علي، ثم يقول‏:‏ والله لا بقيت بعده‏.‏

فتوفي الراضي بعده في نصف ربيع الأول من هذه السنة الآتية رحمهما الله، وكان الراضي أيضاً حدث السن‏.‏

 ابن شنبوذ المقري

محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت أبو الحسن المقري المعروف بابن شنبوذ‏.‏

روى عن أبي مسلم الكجي، وبشر بن موسى وخلق، واختار حروفاً في القراءات أنكرت عليه، وصنف أبو بكر الأنباري كتاباً في الرد عليه، وقد ذكرنا فيما تقدم كيف أنه عقد له مجلس في دار الوزير ابن مقلة، وأنه ضرب حتى رجع عن كثير منها، وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره‏.‏

توفي في صفر منها، وقد دعا على الوزير ابن مقلة حين أمر بضربه فلم يفلح ابن مقلة بعدها، بل عوقب بأنواع من العقوبات، وقطعت يده ولسانه وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ‏.‏

وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير وهو‏:‏

 

 

 محمد بن علي بن الحسن بن عبد الله

أبو علي المعروف بابن مقلة الوزير، وقد كان في أول عمره ضعيف الحال، قليل المال، ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء‏:‏ المقتدر، والقاهر، والراضي‏.‏ ‏

وعزل ثلاث مرات وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، وحبس فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وهي صحيحة‏.‏

وقد كان خطه من أقوى الخطوط، كما هو مشهور عنه، وقد بنى له داراً في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقاً من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشائين كما أشار به المنجمون‏.‏

فما لبث بعد استتمامها إلا يسيراً حتى خربت وصارت كوماً، كما ذكرنا ذلك، وذكرنا ما كتبوا على جدرانها‏.‏

وقد كان له بستان كبير جداً، عدة أجربة - أي‏:‏ فدادين - وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القمارى والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شيء كثير، وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش والنعام وغير ذلك شيء كثير أيضاً‏.‏

ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء والزوال‏.‏

وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور‏.‏

وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا‏:‏

قل لابن مقلة‏:‏ لا تكن عجلاً * واصبر، فإنك في أضغاث أحلام

تبني بأحجر دور الناس مجتهداً * داراً ستهدم قنصاً بعد أيام

ما زلت تختار سعد المشتري لها * فكم نحوس به من نحس بهرام

إن القرآن وبطليموس ما اجتمعا * في حال نقص ولا في حال إبرام

فعزل ابن مقلة عسن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلي الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه‏.‏

وقاسى جهداً جهيداً بعد ما ذاق عيشاً رغيداً‏.‏

ومن شعره في يده‏:‏

ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة * بأيمانهم، فبانت يميني

بعت ديني لهم بدنياي حتى * حرموني دنياهم بعد ديني

ولقد حفظت ما استطعت بجهدي * حفظ أرواحهم، فما حفظوني

ليس بعد اليمين لذة عيش * يا حياتي بانت يميني فبيني

وكان يبكي على يده كثيراً ويقول‏:‏ كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم ينشد‏:‏

إذا ما مات بعضك فابك بعضاً * فإن البعض من بعض قريب

وقد مات عفا الله عنه في محبسه هذا ودفن في دار السلطان، ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول إلى عنده فأجيب فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره‏.‏

ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها‏.‏

فهذه ثلاث مرات‏.‏

توفي وله من العمر ست وخمسون سنة‏.‏

 أبو بكر ابن الأنباري

محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة أبو بكر الأنباري، صاحب كتاب ‏(‏الوقف والابتداء‏)‏، وغيره من الكتب النافعة، والمصنفات الكثيرة‏.‏

كان من بحور العلم في اللغة العربية والتفسير والحديث، وغير ذلك‏.‏

سمع الكديمي وإسماعيل القاضي وثعلباً وغيرهم، وكان ثقة صدوقاً أديباً، ديناً فاضلاً من أهل السنة‏.‏

كان من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظاً له وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة، أحمال جمال، وكان لا يأكل إلا النقالى ولا يشرب ماء إلا قريب العصر، مراعاة لذهنه وحفظه، ويقال‏:‏ إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً، وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة، وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة، وكانت وفاته ليلة عيد النحر من هذه السنة‏.‏

أم عيسى بنت إبراهيم الحربي

كانت عالمة فاضلة، تفتي في الفقه‏.‏

توفيت في رجب ودفنت إلى جانب أبيها رحمه الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة

في المنتصف من ربيع الأول كانت وفاة الخليفة الراضي بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، استخلف بعد عمه القاهر لست خلون من جمادى الأولى سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة‏.‏

وأمه أم ولد رومية تسمى ظلوم، كان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وعمره يوم مات إحدى وثلاثين سنة وعشرة أشهر‏.‏ ‏

وكان أسمر رقيق السمرة ذري اللون أسود الشعر، سبطه قصير القامة، نحيف الجسم، في وجهه طول، وفي مقدم لحيته تمام وفي شعرها رقة‏.‏

هكذا وصفه من شاهده‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ كان للراضي فضائل كثيرة، وختم الخلفاء في أمور عدة‏:‏ منها أنه كان آخر خليفة له شعر، وآخرهم انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على المنبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وأصحابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان فصيحاً بليغاً كريماً جواداً ممدحاً، ومن جيد كلامه الذي سمعه منه محمد بن يحيى الصولي‏:‏ لله أقوام هم مفاتيح الخير، وأقوام هم مفاتيح الشر، فمن أراد الله به خيراً قصده أهل الخير، وجعله الوسيلة إلينا فنقضي حاجته وهو الشريك في الثواب والأجر والشكر، ومن أراد الله به شراً عدل به إلى غيرنا، وهو الشريك في الوزر والإثم، والله المستعان على كل حال‏.‏

ومن ألطف الاعتذارات ما كتب به الراضي إلى أخيه المتقي وهما في المكتب - وكان المتقي قد اعتدى على الراضي والراضي هو الكبير منهما - فكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، أنا معترف لك بالعبودية فرضاً، وأنت معترف لي بالأخوة فضلاً، والعبد يذنب والمولى يعفو‏.‏

وقد قال الشاعر‏:‏

يا ذا الذي يغضب من غير شي * اعتب فعتباك حبيب إلي

أنت على أنك لي ظالم * أعز خلق الله طراً علي

قال‏:‏ فجاء إليه أخوه المتقي فأكب عليه يقبل يديه وتعانقا واصطلحا‏.‏

ومن لطيف شعره قوله فيما ذكره ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏:‏

يصفر وجهي إذا تأمله * طرفي ويحمر وجهه خجلاً

حتى كأن الذي بوجنته * من دم جسمي إليه قد نقلا

قال‏:‏ ومما رثا به أباه المقتدر‏:‏

ولو أن حياً كان قبراً لميت * لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا

ولو أن عمري كان طوع مشيئتي * وساعدني المقدور قاسمته العمرا

بنفسي ثرى ضاجعت في تربة البلى * لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا

ومما أنشده له ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏:‏

لا تكثرن لومي على الإسراف * ربح المحامد متجر الأشراف

أحوي لما يأتي المكارم سابقاً * وأشيد ما قد أسست أسلافي

إني من القوم الذين أكفهم * معتادة الإملاق والإتلاف

ومن شعره الذي رواه الخطيب عنه من طريق أبي بكر محمد بن يحيى الصولي النديم قوله‏:‏

كل صفو إلى كدر * كل أمن إلى حذر

ومصير الشباب للمو * ت فيه أو الكبر

درَّ درُّ المشيب من * واعظ ينذر البشر

أيها الآمل الذي * تاه في لجة الغرر

أين من كان قبلنا‏؟‏* درس العين والأثر

سيردَ المعاد من * عمره كله خطر

رب إني ادخرت عن * دك أرجوك مدخر

رب إني مؤمن بما * بين الوحي في السور

واعترافي بترك نف * عي وإيثاري الضرر

رب فاغفر لي الخطيـ * ـئة يا خير من غفر

وقد كانت وفاته بعلة الاستسقاء في ليلة السادس عشر من ربيع الأول منها‏.‏

وكان قد أرسل إلى بجكم وهو بواسط أن يعهد إلى ولده الأصغر أبي الفضل، فلم يتفق له ذلك، وبايع الناس أخاه المتقي لله إبراهيم بن المقتدر، وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏

 خلافة المتقى بالله

لما مات أخوه الراضي اجتمع القضاة والأعيان بدار بجكم واشتوروا فيمن يولون عليهم، فاتفق رأيهم كلهم على المتقي، فأحضروه في دار الخلافة وأرادوا بيعته فصلى ركعتين صلاة الاستخارة وهو على الأرض، ثم صعد إلى الكرسي بعد الصلاة، ثم صعد إلى السرير وبايعه الناس يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول منها، فلم يغير على أحد شيئاً، ولا غدر بأحد حتى ولا على سريته لم يغيرها ولم يتسر عليها وكان كاسمه المتقي بالله كثير الصيام والصلاة والتعبد‏.‏ ‏

وقال لا أريد جليساً ولا مسامراً، حسبي المصحف نديماً، لا أريد نديماً غيره‏.‏

فانقطع عنه الجلساء والسمار والشعراء والوزراء والتفوا على الأمير بجكم، وكان يجالسهم ويحادثونه ويتناشدون عنده الأشعار، وكان بجكم لا يفهم كثير شيء مما يقولون لعجمته، وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابي المتطبب، وكان بجكم يشكو إليه قوة النفس الغضبية فيه، وكان سنان يهذب من أخلاقه ويسكن جأشه، ويروض نفسه حتى يسكن عن بعض ما كان يتعاطاه من سفك الدماء‏.‏

وكان المتقي بالله حسن الوجه معتدل الخلق قصير الأنف أبيض مشرباً حمرة، وفي شعره شقرة، وجعودة، كث اللحية، أشهل العينين، أبي النفس‏.‏

لم يشرب خمراً ولا نبيذاً قط، فالتقى فيه الاسم والفعل ولله الحمد‏.‏

ولما استقر المتقي في الخلاقة أنفذ الرسل والخلع إلى بجكم وهو بواسط، ونفذت المكاتبات إلى الآفاق بولايته‏.‏

وفيها‏:‏ تحارب أبو عبد الله البريدي وبجكم بناحية الأهواز، فقتل بجكم في الحرب واستظهر البريدي عليه وقوي أمره، فاحتاط الخليفة على حواصل بجكم، وكان في جملة ما أخذ من أمواله ألف ألف دينار، ومائة ألف دينار‏.‏

وكانت أيام بجكم على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام‏.‏

ثم إن البريدي حدثته نفسه ببغداد، فأنفق المتقي أموالاً جزيلة في الجند ليمنعوه من ذلك، فركب بنفسه، فخرج أثناء الطريق ليمنعه من دخول بغداد، فخالفه البريدي ودخل بغداد في ثاني رمضان، ونزل بالشفيع، فلما تحقق المتقي ذلك بعث إليه يهنئه وأرسل إليه بالأطعمة، وخوطب بالوزير ولم يخاطبه بإمرة الأمراء‏.‏

فأرسل البريدي يطلب من المتقي خمسمائة ألف دينار، فامتنع الخليفة من ذلك فبعث إليه يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعز والمستعين والمهتدي والقاهر‏.‏

واختلفت الرسل بينهم، ثم كان آخر ذلك أن بعث الخليفة إليه بذلك قهراً، ولم يتفق اجتماع الخليفة والبريدي ببغداد حتى خرج منها البريدي إلى واسط، وذلك أنه ثارت عليه الديالمة والتفوا على كبيرهم كورتكين، وراموا حريق دار البريدي، ونفرت عن البريدي طائفة من جيشه، يقال لهم‏:‏ البجكمية، لأنه لما قبض المال من الخليفة لم يعطهم منه شيئاً‏.‏

وكانت من البجكمية طائفة أخرى قد اختلفت معه أيضاً وهم الديالمة قد صاروا حزبين‏.‏

والتفوا مع الديالمة فانهزم البريدي من بغداد يوم سلخ رمضان، واستولى كورتكين على الأمور ببغداد، ودخل إلى المتقي فقلده إمرة الأمراء، وخلع عليه، واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن ففوض إلى عبد الرحمن تدبير الأمور من غير تسمية بوزارة، ثم قبض كورتكين على رئيس الأتراك بكبك غلام بجكم وغرقه‏.‏

ثم تظلمت العامة من الديلم لأنهم كانوا يأخذون منهم درهم، فشكوا ذلك إلى كورتكين فلم يشكهم، فمنعت العامة الخطباء أن يصلوا في الجوامع، واقتتل الديلم والعامة، فقتل من الفريقين خلق كثير وجم غفير‏.‏ ‏‏

وكان الخليفة قد كتب إلى أبي بكر محمد بن رائق صاحب الشام يستدعيه إليه ليخلصه من الديلم ومن البريدي، فركب إلى بغداد في العشرين من رمضان ومعه جيش عظيم، وقد صار إليه من الأتراك البجكمية خلق كثير‏.‏

وحين وصل إلى الموصل حاد عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان، فتراسلا ثم اصطلحا، وحمل ابن حمدان مائة ألف دينار، فلما اقترب ابن رائق من بغداد خرج كورتكين في جيشه ليقاتله، فدخل ابن رائق بغداد من غربيها ورجع كورتكين بجيشه فدخل من شرقيها، ثم تصافوا ببغداد للقتال وساعدت العامة ابن رائق على كورتكين فانهزم الديلم، وقتل منهم خلق كثير، وهرب كورتكين فاختفى، واستقر أمر ابن رائق وخلع عليه الخليفة وركب هو وإياه في دجلة، فظفر ابن رائق بكورتكين فأودعه السجن الذي في دار الخلافة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى حضر الناس لصلاة الجمعة بجامع براثي، وقد كان المقتدر أحرق هذا الجامع لأنه كبسه فوجد فيه جماعة من الشيعة يجتمعون فيه للسب والشتم، فلم يزل خراباً حتى عمره بجكم في أيام الراضي، ثم أمر المتقي بوضع منبر فيه كان عليه اسم الرشيد وصلى فيه الناس الجمعة‏.‏

قال‏:‏ فلم يزل تقام فيه إلى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة‏.‏

قال‏:‏ وفي جمادى الآخرة في ليلة سابعه كانت ليلة برد ورعد وبرق، فسقطت القبة الخضراء من قصر المنصور، وقد كانت هذه القبة تاج بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم، وكان بين بنيانها وسقوطها مائة وسبعة وثمانون سنة‏.‏

قال‏:‏ وخرج عن الناس التشرينان والكانونان منها ولم يمطروا فيها بشيء سوى مطرة واحدة لم ينبل منها التراب، فغلت الأسعار ببغداد حتى بيع الكر بمائة وثلاثين دينار‏.‏

ووقع الفناء في الناس حتى كان الجماعة يدفنون في القبر الواحد، من غير غسل ولا صلاة، وبيع العقار والأثاث بأرخص الأسعار، حتى كان يشترى بالدرهم ما يساوي الدينار في غير تلك الأيام، ورأت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها وهو يأمرها بخروج الناس إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، فأمر الخليفة بامتثال ذلك فصلى الناس واستسقوا فجاءت الأمطار فزادت الفرات شيئاً لم ير مثله، وغرقت العباسية، ودخل الماء الشوارع ببغداد، فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة، وقطعت الأكراد الطريق على قافلة من خراسان، فأخذوا منهم ما قيمته ثلاثة آلاف دينار، وكان أكثر ذلك من أموال بجكم التركي‏.‏

وخرج الناس للحج ثم رجعوا من أثناء الطريق بسبب رجل من العلويين قد خرج بالمدينة النبوية، ودعا إلى نفسه وخرج عن الطاعة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن إبراهيم

ابن تزمرد الفقيه أحد أصحاب ابن سريج‏.‏

خرج من الحمام إلى خارجه فسقط عليه الحمام فمات من فوره‏.‏

 بجكم التركي

أمير الأمراء ببغداد، قبل بني بويه‏.‏

كان عاقلاً يفهم العربية ولا يتكلم بها‏.‏

يقول أخاف أن أخطئ والخطأ من الرئيس قبيح‏.‏

وكان مع ذلك يحب العلم وأهله، وكان كثير الأموال والصدقات، ابتدأ يعمل مارستان ببغداد فلم يتم، فجدده عضد الدولة بن بويه، وكان بجكم يقول‏:‏ العدل ربح السلطان في الدنيا والآخرة‏.‏

وكان يدفن أموالاً كثيرة في الصحراء، فلما مات لم يدر أين هي، وكان ندماء الراضي قد التفوا على بجكم وهو بواسط، وكان قد ضمنها بثمانمائة ألف دينار من الخليفة، وكانوا يسامرونه كالخليفة، وكان لا يفهم أكثر ما يقولون، وراض له مزاجه الطيب سنان بن ثابت الصابي حتى لان خلقه وحسنت سيرته، وقلت سطوته، ولكن لم يعمر إلا قليلاً بعد ذلك‏.‏

ودخل عليه مرة رجل فوعظه فأبكاه فأمر له بمائة ألف درهم، فلحقه بها الرسول فقال بجكم لجلسائه‏:‏ ما أظنه يقبلها ولا يريدها، وما يصنع هذا بالدنيا‏؟‏

هذا رجل مشغول بالعبادة، ماذا يصنع بالدراهم‏؟‏

فما كان بأسرع من أن رجع الغلام وليس معه شيء، فقال بجكم‏:‏ قبلها‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال بجكم‏:‏ كلنا صيادون ولكن الشباك مختلفة‏.‏

توفي لسبع بقين من رجب من هذه السنة‏.‏

وسبب موته أنه خرج يتصيد فلقي طائفة من الأكراد فاستهان بهم فقاتلوه فضربه رجل منهم فقتله‏.‏

وكانت إمرته على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام‏.‏

وخلف من الأموال والحواصل ما ينيف على ألفي ألف دينار، أخذها المتقي بالله كلها‏.‏

 أبو محمد البربهاري

العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ، صاحب المروزي وسهلاً التستري، وتنزه عن ميراث أبيه - وكان سبعين ألفاً - لأمر كرهه‏.‏

وكان شديداً على أهل البدع والمعاصي، وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة، وقد عطس يوماً وهو يعظ فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، فغار الخليفة من ذلك وتكلم فيه جماعة من أرباب الدولة، فطلب فاختفى عند أخت بوران شهراً، ثم أخذه القيام - داء - فمات عندها، فأمرت خادمها فصلى عليه فامتلأت الدار رجالاً عليهم ثياب بياض‏.‏

ودفنته عندها ثم أوصت إذا ماتت أن تدفن عنده‏.‏

وكان عمره يوم مات ستاً وتسعين سنة رحمه الله‏.‏

 يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول

أبو بكر الأزرق - لأنه كان أزرق العينين - التنوخي الكاتب، سمع جده والزبير بن بكار، والحسين بن عرفة وغيرهم، وكان خشن العيش كثير الصدقة‏.‏

فيقال‏:‏ إنه تصدق بمائة ألف دينار، وكان أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر‏.‏

روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ‏.‏

وكان ثقة عدلاً‏.‏

توفي في ذي الحجة منها عن ثنتين وتسعين سنة رحمه الله تعالى‏.‏