الجزء الحادي عشر - ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في المحرم منها ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيماً جداً، وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوماً إلى أن اضمحل‏.‏

قال‏:‏ وفي نصف ربيع الأول بلغ الكر من الحنطة مائتي دينار، وأكل الضعفاء الميتة، ودام الغلاء وكثر الموت، وتقطعت السبل، وشغل الناس بالمرض والفقر، وتركوا دفن الموتى، وشغلوا عن الملاهي واللعب‏.‏

قال‏:‏ ثم جاء مطر كأفواه القرب، وبلغت زيادة دجلة عشرين ذراعاً وثلثا‏.‏

وذكر ابن الأثير في ‏(‏الكامل‏)‏‏:‏ أن محمد بن رائق وقع بينه وبين البريدي وحشة، لأجل أن البريدي منع خراج واسط، فركب إليه ابن رائق ليتسلم ما عنده من المال، فوقعت مصالحة ورجع ابن رائق إلى بغداد، فطالبه الجند بأرزاقهم وضاق عليه حاله وتحيز جماعة من الأتراك عنه إلى البريدي، فضعف جانب ابن رائق وكاتب البريدي بالوزارة ببغداد، ثم قطع اسم الوزارة عنه، فاشتد حنق البريدي عليه، وعزم على أخذ بغداد، فبعث أخاه أبا الحسين في جيش إلى بغداد، فتحصن ابن رائق مع الخليفة بدار الخلافة ونصبت فيها المجانيق والعرادات - العرادة شيء أصغر من المنجنيق - على دجلة أيضاً‏.‏

فاضطربت أهل بغداد ونهب الناس بعضهم بعضاً ليلاً ونهاراً، وجاء أبو الحسين أخو أبي عبد الله البريدي بمن معه، فقاتلهم الناس في البر وفي دجلة، وتفاقم الحال جداً، مع ما الناس فيه من الغلاء والوباء والفناء‏.‏

فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم إن الخليفة وابن رائق انهزما في جمادى الآخرة - ومع الخليفة ابنه أبو منصور - في عشرين فارساً، فقصدوا نحو الموصل واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة، وقتل من وجد فيها من الحاشية، ونهبوها حتى وصل النهب إلى الحريم، ولم يتعرضوا للقاهر وهو إذ ذاك أعمى مكفوفاً، وأخرجوا كورتكين من الحبس فبعثه أبو الحسين إلى البريدي، فكان آخر العهد به، ونهبوا بغداد جهاراً علانية، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس الخادم التي كان يسكنها ابن رائق، وكانوا يكبسون الدور ويأخذون ما فيها من الأموال، فكثر الجور وغلت الأسعار جداً، وضرب أبو الحسين المكس على الحنطة والشعير، وذاق أهل بغداد لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون‏.‏

وكان معه طائفة كبيرة من القرامطة، فأفسدوا في البلد فساداً عظيماً، ووقع بينهم وبين الأتراك حروب طويلة شديدة، فغلبهم الترك وأخرجوهم من بغداد، فوقعت الحرب بين العامة والديلم جند أبي الحسين‏.‏ ‏

وفي شعبان منها‏:‏ اشتد الحال أيضاً، ونهبت المساكن وكبس أهلها ليلاً ونهاراً، وخرج جند البريدي فنهبوا الغلات من القرى والحيوانات، وجرى ظلم لم يسمع بمثله‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وإنما ذكرنا هذا ليعلم الظلمة أن أخبارهم الشنيعة تنقل وتبقى بعدهم على وجه الأرض وفي الكتب، ليذكروا بها ويذموا ويعابوا، ذلك لهم خزي في الدنيا وأمرهم إلى الله لعلهم أن يتركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله‏.‏

وقد كان الخليفة أرسل وهو ببغداد إلى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل يستمده ويستحثه على البريدي، فأرسل ناصر الدولة أخاه سيف الدولة علياً في جيش كثيف، فلما كان بتكريت إذا الخليفة وابن رائق قد هربا فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة كثيرة‏.‏

ولما وصلوا إلى الموصل خرج عنها ناصر الدولة فنزل شرقها، وأرسل التحف والضيافات، ولم يجئ إلى الخليفة خوفاً من الغائلة من جهة ابن رائق، فأرسل الخليفة ولده أبا منصور ومعه ابن رائق للسلام على ناصر الدولة، فصارا إليه فأمر ناصر الدولة أن ينثر الذهب والفضة على رأس ولد الخليفة، وجلسا عنده ساعة، ثم قاما ورجعا، فركب ابن الخليفة وأراد ابن رائق أن يركب معه، فقال له ناصر الدولة‏:‏ اجلس اليوم عندي حتى نفكر فيما نصنع في أمرنا هذا، فاعتذر إليه بابن الخليفة واستراب بالأمر وخشي، فقبض ابن حمدان بكمه فجبذه ابن رائق منه فانقطع كمه، وركب سريعاً فسقط عن فرسه، فأمر ناصر الدولة بقتله فقتل، وذلك يوم الاثنين لسبع بقين من رجب منها‏.‏

فأرسل الخليفة إلى ابن حمدان فاستحضره وخلع عليه ولقبه ناصر الدولة يومئذ، وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة يومئذ، ولما قتل ابن رائق وبلغ خبر مقتله إلى صاحب مصر الأخشيد محمد بن طغج، ركب إلى دمشق فتسلمها من محمد بن يزداد نائب ابن رائق ولم ينتطح فيها عنزان‏.‏

ولما بلغ خبر مقتله إلى بغداد فارق أكثر الأتراك أبا الحسين البريدي لسوء سيرته، وقبح سريرته قبحه الله، وقصدوا الخليفة وابن حمدان فتقوى بهم، وركب هو والخليفة إلى بغداد، فلما اقتربوا منها هرب عنها أبو الحسين أخو البريدي فدخلها المتقي ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة، وذلك في شوال منها، ففرح المسلمون فرحاً شديداً‏.‏

وبعث الخليفة إلى أهله - وقد كان أخرجهم إلى سامرا -فردهم، وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعد ما كانوا قد ترحلوا عنها، ورد الخليفة أبا إسحاق القراريطي إلى الوزارة وولى توزون شرطة جانبي بغداد، وبعث ناصر الدولة أخاه سيف الدولة في جيش وراء أبي الحسين أخي البريدي فلحقه عند المدائن فاقتتلوا قتالاً شديداً في أيام نحسات، ثم كان آخر الأمر أن انهزم أبو الحسين إلى أخيه البريدي بواسط، وقد ركب ناصر الدولة بنفسه فنزل المدائن قوة لأخيه‏.‏

وقد انهزم سيف الدولة مرة من أخي البريدي فرده أخوه وزاده جيشاً حتى كسر البريدي، وأسر جماعة من أعيان أصحابه، وقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

ثم أرسل أخاه سيف الدولة إلى واسط لقتال أبي عبد الله البريدي، فانهزم منه البريدي وأخوه إلى البصرة وتسلم سيف الدولة واسطاً، وسيأتي ما كان من خبره في السنة الآتية مع البريدي‏.‏

وأما ناصر الدولة فإنه عاد إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر ذي الحجة وبين يديه الأسارى على الجمال، ففرح المسلمون واطمأنوا ونظر في المصالح العامة وأصلح معيار الدنيار‏.‏

وذلك أنه وجده قد غير عما كان عليه، فضرب دنانير سماها الإبريزيه، فكانت تباع كل دينار بثلاثة عشر درهماً، وإنما كان يباع ما قبلها بعشرة‏.‏

وعزل الخليفة بدراً الخرشني عن الحجابة وولاها سلامة الطولوني، وجعل بدراً على طريق الفرات، فسار إلى الأخشيد فأكرمه واستنابه على دمشق فمات بها‏.‏

وفيها‏:‏ وصلت الروم إلى قريب حلب فقتلوا خلقاً وأسروا نحواً من خمسة عشر ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ دخل نائب طرسوس إلى بلاد الروم فقتل وسبى وغنم وسلم وأسر من بطارقتهم المشهورين منهم وغيرهم خلقاً كثيراً ولله الحمد‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إسحاق بن محمد بن يعقوب النهرجوري

أحد مشايخ الصوفية، صحب الجنيد بن محمد وغيره من أئمة الصوفية، وجاور بمكة حتى مات بها‏.‏

ومن كلامه الحسن‏:‏ مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب‏.‏

الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان

أبو عبد الله الضبي القاضي المحاملي الفقيه الشافعي المحدث، سمع الكثير وأدرك خلقاً من أصحاب ابن عيينة نحواً من سبعين رجلاً‏.‏

وروى عن جماعة من الأئمة، وعنه الدارقطني وخلق، وكان يحضر مجلسه نحو من عشرة آلاف‏.‏

وكان صدوقاً ديناً فقيهاً محدثاً، ولي قضاء الكوفة ستين سنة

، وأضيف إليه قضاء فارس وأعمالها، ثم استعفى من ذلك كله ولزم منزله، واقتصر على إسماع الحديث وسماعه‏.‏

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وتسعين سنة‏.‏

وقد تناظر هو و بعض الشيعة بحضرة بعض الأكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته‏.‏

ثم قال للمحاملي‏:‏ أتعرفها‏؟‏

قال‏:‏ نعم، ولكن أتعرف أنت أين كان الصديق يوم بدر‏؟‏

كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه، وعلي رضي الله عنه في المبارزة، ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه‏.‏

فأفحم الشيعي‏.‏ ‏

وقال المحاملي‏:‏ وقد قدمه الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموه عليه حيث لا مال له ولا عبيد ولا عشيرة، وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم‏.‏

فأفحمه أيضاً‏.‏

 

 علي بن محمد بن سهل

أبو الحسن الصائغ، أحد الزهاد العباد أصحاب الكرامات‏.‏

روى عن ممشاد الدينوري‏:‏ أنه شاهد أبا الحسن هذا يصلي في الصحراء في شدة الحر، ونسر قد نشر عليه جناحيه يظله من الحر‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين، وهو من ولد أبي موسى الأشعري‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح أن الأشعري توفي سنة أربع وعشرين ومائتين كما تقدم ذكره هناك‏.‏

قال‏:‏ وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي الفقيه الشافعي، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، أخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي‏.‏

قلت‏:‏ وقد توفي فيها أبو حامد بن بلال‏.‏

وزكريا بن أحمد البلخي‏.‏

وعبد الغافر بن سلامة الحافظ‏.‏

ومحمد بن رائق الأمير ببغداد‏.‏

وفيها توفي الشيخ‏:‏

أبو صالح مفلح الحنبلي

واقف مسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي من دمشق، وكانت له كرامات وأحوال ومقامات، واسمه مفلح بن عبد الله أبو صالح المتعبد، الذي ينسب إليه المسجد خارج باب شرقي من دمشق، صحب الشيخ أبا بكر بن سعيد حمدونه الدمشقي، وتأدب به، وروى عنه الموحد بن إسحاق بن البري، وأبو الحسن علي بن العجة قيّم المسجد، وأبو بكر بن داود الدينوري الدقي‏.‏

روى الحافظ ابن عساكر من طريق الدقي عن الشيخ أبي صالح‏.‏

قال‏:‏ كنت أطوف بجبل لكام أطلب العباد، فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه فقلت له‏:‏ ما تصنع ههنا‏؟‏

فقال‏:‏ أنظر وأرعى‏.‏

فقلت له‏:‏ لا أرى بين يديك شيئاً تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة‏.‏

فقال‏:‏ بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك علي إلا صرفت بصرك عني‏.‏

فقلت له‏:‏ نعم، ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك‏.‏

فقال‏:‏ من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم‏.‏

ثم تركني ومضى‏.‏

وقال أبو صالح‏:‏ مكثت ستة أيام أو سبعة لم آكل ولم أشرب، ولحقني عطش عظيم، فجئت إلى النهر الذي وراء المسجد فجلست أنظر إلى الماء، فتذكرت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏‏.‏

فذهب عني العطش فمكثت تمام العشرة أيام‏.‏

وقال‏:‏ مكثت أربعين يوماً لم أشرب، ثم شربت، وأخذ رجل فضلتي ثم ذهب إلى امرأته فقال‏:‏ اشربي فضل رجل قد مكث أربعين يوماً لم يشرب الماء‏.‏

قال أبو صالح‏:‏ ولم يكن اطلع على ذلك أحد إلا الله عز وجل‏.‏

ومن كلام أبي صالح‏:‏ الدنيا حرام على القلوب حلال على النفوس، لأن كل شيء يحل لك أن تنظر بعين رأسك إليه يحرم عليك أن تنظر بعين قلبك إليه‏.‏

وكان يقول‏:‏ البدن لباس القلب والقلب لباس الفؤاد، والفؤاد لباس الضمير، والضمير لباس السر، والسر لباس المعرفة به‏.‏

ولأبي صالح مناقب كثيرة رحمه الله، توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة

فيها دخل سيف الدولة إلى واسط وقد انهزم عنها البريدي وأخوه أبو الحسين، ثم اختلف الترك على سيف الدولة، فهرب منها قاصداً بغداد، وبلغ أخاه أمير الأمراء خبره فخرج من بغداد إلى الموصل، فنهبت داره‏.‏

وكانت دولته على بغداد ثلاثة عشر شهراً وخمسة أيام‏.‏

وجاء أخوه سيف الدولة بعد خروجه منها فنزل بباب حرب، فطلب من الخليفة أن يمده بمال يتقوى به على حرب توزون، فبعث إليه بأربعمائة ألف درهم، ففرقها بأصحابه‏.‏

وحين سمع بقدوم توزون خرج من بغداد، ودخلها توزون في الخامس والعشرين من رمضان، فخلع عليه الخليفة وجعله أمير الأمراء واستقر أمره ببغداد‏.‏

وعند ذلك رجع البريدي إلى واسط وأخرج من كان بها من أصحاب توزون، وكان في أسر توزون غلام سيف الدولة، يقال له‏:‏ ثمال، فأرسله إلى مولاه ليخبره حاله ويرفع أمره عند آل حمدان‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ببلاد نسا، سقط منها عمارات كثيرة، وهلك بسببها خلق كثير‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان ببغداد في أيلول وتشرين حر شديد يأخذ بالأنفاس‏.‏

وفي صفر منها ورد الخبر بورود الروم إلى أرزن وميافارقين وأنهم سبوا‏.‏

وفي ربيع الآخر منها عقد أبو منصور إسحاق بن الخليفة المتقي عقده على علوية بنت ناصر الدولة بن حمدان، على صداق مائة ألف دينار وألف ألف درهم، وولى العقد على الجارية المذكورة أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، ولم يحضر ناصر الدولة، وضرب ناصر الدولة سكة ضرب فيها ناصر الدولة عبد آل محمد‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها غلت الأسعار حتى أكل الناس الكلاب ووقع البلاء في الناس، ووافى من الجراد شيء كثير جداً، ‏‏ حتى بيع منه كل خمسين رطلاً بالدرهم، فارتفق الناس به في الغلاء‏.‏

وفيها‏:‏ ورد كتاب ملك الروم إلى الخليفة يطلب فيه منديلاً بكنيسة الرها، كان المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من الأسارى خلقاً كثيراً‏.‏

فأحضر الخليفة العلماء فاستشارهم في ذلك، فمن قائل‏:‏ نحن أحق بعيسى منهم، وفي بعثه إليهم غضاضة على المسلمين ووهن في الدين‏.‏

فقال علي بن عيسى الوزير‏:‏ يا أمير المؤمنين إنقاذ أسارى المسلمين من أيدي الكفار خير وأنفع للناس من بقاء ذلك المنديل بتلك الكنيسة‏.‏

فأمر الخليفة بإرسال ذلك المنديل إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم‏.‏

قال الصولي‏:‏ وفيها وصل الخبر بأن القرمطي ولد له مولود فأهدى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا كثيرة، منها مهد من ذهب مرصع بالجوهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كثر الرفض ببغداد فنودي بها من ذكر أحداً من الصحابة بسوء فقد برئت منه الذمة‏.‏

وبعث الخليفة إلى عماد الدولة بن بويه خلعاً فقبلها ولبسها بحضرة القضاة والأعيان‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر، وقد مرض قبل موته بالسل سنة وشهراً، واتخذ في داره بيتاً سماه بيت العبادة، فكان يلبس ثياباً نظافاً ويمشي إليه حافياً ويصلي فيه، ويتضرع ويكثر الصلاة‏.‏

وكان يجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات رحمه الله، فقام بالأمر من بعده ولده نوح بن نصر الساماني، ولقب بالأمير الحميد‏.‏

وقتل محمد بن أحمد النسفي، وكان قد طعن فيه عنده وصلبه‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 ثابت بن سنان بن قرة الصابي

أبو سعيد الطبيب، أسلم على يد القاهر بالله ولم يسلم ولده ولا أحد من أهل بيته، وقد كان مقدماً في الطب وفي علوم أخر كثيرة‏.‏

توفي في ذي القعدة منها بعلة الذرب ولم تغن عنه صناعته شيئاً، حتى جاءه الموت‏.‏

وما أحسن ما قال بعض الشعراء في ذلك‏:‏

قل للذي صنع الدواء بكفه * أتردُّ مقدوراً عليك قد جرى

مات المداوي والمداوى والذي * صنع الدواء بكفه ومن اشترى

وذكر ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏ وفاة الأشعري فيها وتكلم فيه، وحط عليه كما جرت عادة الحنابلة يتكلمون في الأشعرية قديماً وحديثاً‏.‏

وذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي في هذه السنة، وأنه صحب الجبائي أربعين سنة ثم رجع عنه، وتوفي ببغداد ودفن بمشرعة السرواني‏.‏

 محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة

ابن الصلت السدوسي مولاهم أبو بكر، سمع جده وعباساً الدوري وغيرهما، وعنه أبو بكر بن مهدي، وكان ثقة‏.‏ ‏روى الخطيب أن والد محمد هذا حين ولد أخذ طالع مولده المنجمون فحسبوا عمره وقالوا‏:‏ إنه يعيش كذا وكذا‏.‏

فأرصد أبوه له جباً فكان يلقي فيه عن كل يوم من عمره الذي أخبروه به ديناراً، فلما امتلأ أرصد له جباً آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فكان يضع فيها في كل يوم ثلاثة دنانير على عدد أيام عمر ولده‏.‏

ومع هذا ما أفاده ذلك شيئاً، بل افتقر هذا الولد حتى صار يستعطي من الناس، وكان يحضر مجلس السماع عليه عباءة بلا إزار، فكان يتصدق عليه أهل المجلس بشيء يقوم بأوده‏.‏

والسعيد من أسعده الله عز وجل‏.‏

 محمد بن مخلد بن جعفر

أبو عمر الدوري العطار، كان يسكن الدور - وهي محلة بطرف بغداد - سمع الحسن بن عرفة والزبير بن بكار ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعنه الدارقطني وجماعة، وكان ثقة فهماً واسع الرواية مشكور الديانة مشهوراً بالعبادة‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها، وقد استكمل سبعاً وسبعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوماً‏.‏

المجنون البغدادي، روى ابن الجوزي من طريق أبي بكر الشبلي قال‏:‏ رأيت مجنوناً عند جامع الرصافة، وهو عريان وهو يقول‏:‏ أنا مجنون الله، أنا مجنون الله‏.‏

فقلت له‏:‏ ما لك ألا تستتر وتدخل الجامع وتصلي‏؟‏

فأنشأ يقول‏:‏

يقولون زرنا واقض واجب حقنا * وقد أسقطت حالي حقوقهم عني

إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها * ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني

 ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة

فيها‏:‏ خرج المتقي أمير المؤمنين من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتوزون وهو إذ ذاك بواسط، وقد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي، وصارا يداً واحدة على الخليفة، وأرسل ابن شيرزاد في ثلاثمائة إلى بغداد فأفسد فيها وقطع ووصل، واستقل بالأمر من غير مراجعة المتقي‏.‏

فغضب المتقي وخرج منها مغاضباً له بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الأمراء، قاصداً الموصل إلى بني حمدان، فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت، ثم جاءه ناصر الدولة وهو بتكريت أيضاً، وحين خرج المتقي من بغداد أكثر ابن شيرزاد فيها الفساد، وظلم أهلها وصادرهم، وأرسل يعلم توزون، فأقبل مسرعاً نحو تكريت فتواقع هو وسيف الدولة، فهزم توزون سيف الدولة، وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة، ثم كر إليه سيف الدولة فهزمه توزون أيضاً‏.

وانهزم المتقي وناصر الدولة وسيف الدولة من الموصل إلى نصيبين، وجاء توزون فدخل الموصل وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه، فأرسل الخليفة يقول‏:‏ لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان‏.‏

فاصطلحوا، وضمن ناصر الدولة بلاد الموصل بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف، ورجع توزون إلى بغداد، وأقام الخليفة عند بني حمدان‏.‏

وفي غيبة توزون هذه عن واسط أقبل إليها معز الدولة بن بويه في خلق من الديلم كثيرين، فانحدر توزون مسرعاً إلى واسط فاقتتل مع معز الدولة بضعة عشر يوماً، وكان آخر الأمر أن انهزم معز الدولة ونهبت حواصله، وقتل من جيشه خلق كثير، وأسر جماعة من أشراف أصحابه‏.‏

ثم عاود توزون ما كان يعتريه من مرض الصرع، فشغل بنفسه فرجع إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف، وكان سبب ذلك‏:‏ أن البريدي قل ما في يده من الأموال، فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف فيقرضه القليل، ثم يشنع عليه ويذم تصرفه بمال الجند، إلى أن مال الجند إلى أبي يوسف وأعرض غالبهم عن البريدي، فخشي أن يبايعوه فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة، ثم انتقل إلى داره وأخذ جميع حواصله وأمواله، فكان قيمة ما أخذ منه من الأموال ما يقارب ثلاثمائة ألف ألف دينار‏.‏

ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر مرض فيها مرضاً شديداً بالحمى الحادة، حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة، فقام مقامه أخوه أبو الحسين قبحه الله، فأساء السيرة في أصحابه، فثاروا عليه فلجأ إلى القرامطة قبحهم الله فاستجار بهم، فقام بالأمر من بعده أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي في بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي من الأهواز وغيرها‏.‏

وأما الخليفة المتقي لله فإنه لما أقام عند أولاد حمدان بالموصل ظهر له منهم تضجر، وأنهم يرغبون في مفارقته‏.‏

فكتب إلى توزون في الصلح، فاجتمع توزون مع القضاة والأعيان وقرؤوا كتاب الخليفة وقابله بالسمع والطاعة، وحلف له ووضع خطه بالإقرار له، ولمن معه بالإكرام والاحترام، فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد ما سيأتي في السنة الآتية‏.‏

وفيها‏:‏ أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان فقصدوا بردعة فحاصروها، فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم، وغنموا أموالهم وسبوا من استحسنوا من نسائهم، ثم مالوا إلى المراغة فوجدوا بها ثماراً كثيرة، فأكلوا منها فأصابهم وباء شديد فمات أكثرهم، وكان إذا مات أحدهم دفنوا معه ثيابه وسلاحه، فأخذه المسلمون وأقبل إليهم المرزبان بن محمد فقتل منهم‏.‏

وفي ربيع الأول منها جاء الدمستق ملك الروم إلى رأس العين في ثمانين ألفاً، فدخلها ونهب ما فيها وقتل وسبى منهم نحواً من خمسة عشر ألفاً، وأقام بها ثلاثة أيام، فقصدته الأعراب من كل وجه فقاتلوه قتالاً عظيماً حتى انجلى عنها‏.‏

وفي جمادى الأولى منها غلت الأسعار ببغداد جداً، وكثرت الأمطار حتى تهدم البناء، ومات كثير من الناس تحت الهدم، وتعطلت أكثر الحمامات والمساجد من قلة الناس، ونقصت قيمة العقار حتى بيع منه بالدرهم ما كان يساوي الدينار، وخلت الدور‏.‏

وكان الدلالون يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليخربوها‏.‏ ‏

وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل، حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول، وكثرت الفتن من كل جهة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏.‏

وفي رمضان منها كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله، وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة تسع عشرة وثلاثمائة ثم مات قبحه الله وهو عندهم، لم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة كما سيأتي‏.‏

ولما مات هذا القرمطي قام بالأمر من بعده إخوته الثلاثة، وهم‏:‏ أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العباس ضعيف البدن مقبلاً على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلاً على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شيء، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضاً‏.‏

وفي شوال منها توفي أبو عبد الله البريدي فاستراح المسلمون من هذا كما استراحوا من الآخر‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:

أبو العباس بن عقدة الحافظ‏.‏

أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن

أبو العباس الكوفي المعروف بابن عقدة، لقبوه بذلك من أجل تعقيده في التصريف والنحو، وكان أيضاً عقدة في الورع والنسك، وكان من الحفاظ الكبار، سمع الحديث الكثير ورحل فسمع من خلائق من المشايخ، وسمع منه الطبراني والدارقطني وابن الجعابي وابن عدي وابن المظفر وابن شاهين‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ أجمع أهل الكوفة على أنه لم ير من زمن ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة أحفظ منه، ويقال‏:‏ إنه كان يحفظ نحواً من ستمائة ألف حديث، منها ثلاثمائة ألف في فضائل أهل البيت، بما فيها من الصحاح والضعاف، وكانت كتبه ستمائة حمل جمل، وكان ينسب مع هذا كله إلى التشيع والمغالاة‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ كان رجل سوء‏.‏

ونسبه ابن عدي إلى أنه كان يعمل النسخ لأشياخ ويأمرهم بروايتها‏.‏

قال الخطيب‏:‏ حدثني علي بن محمد بن نصر قال‏:‏ سمعت حمزة بن يوسف، سمعت أبا عمر بن حيويه يقول‏:‏ كان ابن عقدة يجلس في جامع براثى معدن الرفض يملي مثالب الصحابة - أو قال الشيخين - فتركت حديثه لا أحدث عنه بشيء‏.‏

قلت‏:‏ وقد حررت الكلام فيه في كتابنا التكميل بما فيه كفاية، توفي في ذي القعدة منها‏.‏

أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المروروذي

نسبة إلى مر والروذ، والروذ اسم للنهر، وهو الفقيه الشافعي تلميذ أبي إسحاق المروذي - نسبة إلى مروذ الشاهجان، وهي أعظم من تلك البلاد - له ‏(‏شرح مختصر المزني‏)‏، وله كتاب ‏(‏الجامع في المذهب‏)‏ وصنف في أصول الفقه، وكان إماماً لا يشق غباره، توفي في هذه السنة رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

فيها‏:‏ رجع الخليفة المتقي إلى بغداد وخلع من الخلافة وسملت عيناه، وكان - وهو مقيم بالموصل- قد أرسل إلى الأخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والبلاد الشامية أن يأتيه‏.‏

فأقبل إليه في المنتصف من المحرم من هذه السنة، وخضع للخليفة غاية الخضوع، وكان يقوم بين يديه كما تقوم الغلمان، ويمشي والخليفة راكب، ثم عرض عليه أن يصير معه إلى الديار المصرية أو يقوم ببلاد الشام، وليته فعل، بل أبى عليه، فأشار عليه بالمقام مكانه بالموصل، ولا يذهب إلى توزون، وحذره من مكر توزون وخديعته، فلم يقبل ذلك، وكذلك أشار عليه وزيره أبو حسين بن مقلة فلم يسمع‏.‏

وأهدى ابن طغج للخليفة هدايا كثيرة فاخرة، وكذلك أهدى إلى الأمراء والوزير، ثم رجع إلى بلاده، واجتاز بحلب فانحاز عنها صاحبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان‏.‏

وكان ابن مقاتل بها، فأرسله إلى مصر نائباً عنه حتى يعود إليها‏.‏

وأما الخليفة فإنه ركب من الرقة في الدجلة إلى بغداد، وأرسل إلى توزون فاستوثق منه ما كان حلف له من الأيمان فأكدها وقررها، فلما قرب من بغداد خرج إليه توزون ومعه العساكر، فلما رأى الخليفة قبَّل الأرض بين يديه، وأظهر له أنه قد وفى له بما كان حلف له عليه وأنزله في منظرته، ثم جاء فاحتاط على من مع الخليفة من الكبراء، وأمر بسمل عيني الخليفة فسملت عيناه، فصاح صيحة عظيمة سمعها الحريم فضجت الأصوات بالبكاء، فأمر توزون بضرب الدبادب حتى لا تسمع أصوات الحريم، ثم انحدر من فوره إلى بغداد فبايع المستكفي‏.‏

فكانت خلافة المتقي ثلاثة سنين وخمسة أشهر وعشرين يوماً، وقيل‏:‏ وأحد عشر شهراً، وستأتي ترجمته عند ذكر وفاته‏.‏

خلافة المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بن المعتضد

لما رجع توزون إلى بغداد وقد سمل عيني المتقي، استدعي بالمستكفي فبايعه ولقب بالمستكفي بالله، واسمه عبد الله، وذلك في العشر الأواخر من صفر من هذه السنة، وجلس توزون بين يديه وخلع عليه المستكفي‏.‏

وكان المستكفي مليح الشكل ربعة حسن الجسم و الوجه، أبيض اللون مشرباً حمرة أقنى الأنف، خفيف العارضين، وكان عمره يوم بويع بالخلافة إحدى وأربعين سنة‏.‏ ‏

وأحضر المتقي بين يديه وبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري، ولم يكن إليه من الأمر شيء، وإنما الذي يتولى الأمور ابن شيرزاد، وحبس المتقي بالسجن‏.‏

وطلب المستكفي أبا القاسم الفضل بن المقتدر، وهو الذي ولي الخلافة بعد ذلك، ولقب المطيع لله، فاختفى منه ولم يظهر مدة خلافة المستكفي، فأمر المستكفي بهدم داره التي عند دجلة‏.‏

وفيها‏:‏ مات القائم الفاطمي، وتولى ولده المنصور إسماعيل فكتم موت أبيه مدة حتى اتفق أمره ثم أظهره، والصحيح أن القائم مات في التي بعدها‏.‏

وقد حاربهم أبو يزيد الخارجي فيها، وأخذ منهم مدناً كباراً وكسروه مراراً متعددة، ثم يبرز إليهم ويجمع الرجال ويقاتلهم، فانتدب المنصور هذا لقتاله بنفسه وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، وقد بسطها ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏.‏

وقد انهزم في بعض الأحيان جيش المنصور ولم يبق إلا في عشرين نفساً‏.‏

فقاتل بنفسه قتالاً عظيماً، فهزم أبا يزيد بعدما كاد يقتله، وثبت المنصور ثباتاً عظيماً، فعظم في أعين الناس وزادت حرمته وهيبته، واستنقذ بلاد القيروان منه، وما زال يحاربه حتى ظفر به المنصور وقتله‏.‏

ولما جيء برأسه سجد شكراً لله‏.‏

وكان أبو يزيد هذا قبيح الشكل أعرج قصيراً خارجياً شديداً، يكفر أهل الملة‏.‏

وفي ذي الحجة منها قتل أبو الحسين البريدي، وصلب ثم أحرق، وذلك أنه قدم بغداد يستنجد بتوزون وأبي جعفر بن شيرزاد على ابن أخيه فوعدوه النصر، ثم شرع يفسد ما بين توزون وابن شيرزاد، فعلم بذلك ابن شيرزاد فأمر بسجنه وضربه، ثم أفتاه بعض الفقهاء بإباحة دمه، فأمر بقتله وصلبه ثم أحرقه، وانقضت أيام البريدية، وزالت دولتهم‏.‏

وفيها‏:‏ أمر المستكفي بإخراج القاهر الذي كان خليفة وأنزله دار ابن طاهر، وقد افتقر القاهر حتى لم يبق له شيء من اللباس سوى قطعه عباءة يلتف بها، وفي رجله قبقاب من خشب‏.‏

وفيها‏:‏ اشتد البرد والحر‏.‏

وفيها‏:‏ ركب معز الدولة في رجب منها إلى واسط، فبلغ خبره إلى توزون فركب هو والمستكفي، فلما سمع بهما رجع إلى بلاده وتسلمها الخليفة، وضمنها أبو القاسم بن أبي عبد الله، ثم رجع توزون والخليفة إلى بغداد في شوال منها‏.‏

وفيها‏:‏ ركب سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى حلب، فتسلمها من يأنس المؤنسي، ثم سار إلى حمص ليأخذها فجاءته جيوش الأخشيد محمد بن طغج مع مولاه كافور فاقتتلوا يقنسرين، فلم يظفر أحذ منهما بصاحبه، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، ثم عاد إلى حلب فاستقر ملكه بها، فقصدته الروم في جحافل عظيمة، فالتقى معهم فظفر بهم فقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

 

 ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة

في المحرم زاد الخليفة في لقبه إمام الحق، وكتب ذلك على السكة المتعامل بها، ودعا له الخطباء على المنابر أيام الجُمع‏.‏

وفي المحرم منها مات توزون التركي في داره ببغداد، وكانت إمارته سنتين وأربعة أشهر وعشرة أيام‏.‏ ‏

وكان ابن شيرزاد كاتبه، وكان غائباً بهيت لتخليص المال، فلما بلغه موته أراد أن يعقد البيعة لناصر الدولة بن حمدان، فاضطربت الأجناد وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر، وخرج إليه الأجناد كلهم وحلفوا له وحلف الخليفة والقضاة والأعيان، ودخل على الخليفة فخاطبه بأمير الأمراء، وزاد في أرزاق الجند وبعث إلى ناصر الدولة يطالبه بالخراج، فبعث إليه بخمسمائة ألف درهم، وبطعام يفرقه في الناس، وأمر ونهى وعزل وولى، وقطع ووصل، وفرح بنفسه ثلاثة أشهر وعشرين يوماً‏.‏

ثم جاءت الأخبار بأن معز الدولة بن بويه قد أقبل في الجيوش قاصداً بغداد، فاختفى ابن شيرزاد والخليفة أيضاً، وخرج إليه الأتراك قاصدين الموصل ليكونوا مع ناصر الدولة بن حمدان‏.‏

 أول دولة بني بويه وحكمهم ببغداد

أقبل معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه في جحافل عظيمة من الجيوش قاصداً بغداد، فلما اقترب منها بعث إليه الخليفة المستكفي بالله الهدايا والإنزالات، وقال للرسول‏:‏ أخبره أني مسرور به، وأني إنما اختفيت من شر الأتراك الذين انصرفوا إلى الموصل‏.‏

وبعث إليه بالخلع والتحف، ودخل معز الدولة بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة، فنزل بباب الشماسية، ودخل من الغد إلى الخليفة فبايعه، ودخل عليه المستكفي ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن بعماد الدولة، وأخاه أبا علي الحسن بركن الدولة، وكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير‏.‏

ونزل معز الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابه من الديلم بدور الناس، فلقي الناس منهم ضائقة شديدة، وأمن معز الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتبه على الخراج، ورتب للخليفة بسبب نفقاته خمسة آلاف درهم في كل يوم، واستقرت الأمور على هذا النظام والله أعلم‏.‏

 القبض على الخليفة المستكفي بالله وخلعه

لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة حضر معز الدولة إلى الحضرة، فجلس على سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم فمدا أيديهما إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة حتى خلص إلى الحريم، وتفاقم الحال، وسيق الخليفة ماشياً إلى دار معز الدولة فاعتقل بها، وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة، وسملت عينا المستكفي وأودع السجن، فلم يزل به مسجوناً حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة كما يأتي ذكر ترجمته هناك‏.‏

 خلافة المطيع لله

لما قدم معز الدولة بغداد وقبض على المستكفي وسمل عينيه، استدعى بأبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله، وقد كان مختفياً من المستكفي وهو يحث على طلبه ويجتهد، فلم يقدر عليه‏.‏

ويقال‏:‏ إنه اجتمع بمعز الدولة سراً فحرضه على المستكفي حتى كان من أمره ما كان، ثم أحضره وبويع له بالخلافة ولقب بالمطيع الله، وبايعه الأمراء والأعيان والعامة، وضعف أمر الخلافة جداً حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضاً، وإنما يكون له كاتب على أقطاعه، وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة، وذلك لأن بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد، وكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين، حتى عزم معز الدولة على تحويل الخلافة إلى العلويين واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلاً واحداً من أصحابه، كان سديد الرأي فيهم، فقال‏:‏ لا أرى لك ذلك‏.‏

قال‏:‏ ولم ذاك‏؟‏

قال‏:‏ لأن هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الإمارة، حتى لو أمرت بقتله قتله أصحابك، ولو وليت رجلاً من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة، فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك، ولو أمر بقتلك لقتلك أصحابك‏.‏

فلما فهم ذلك صرفه عن رأيه الأول، وترك ما كان عزم عليه للدنيا لا لله عز وجل‏.‏

ثم نشبت الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان وبين معز الدولة بن بويه، فركب ناصر الدولة بعدما خرج معز الدولة والخليفة إلى عكبرا، فدخل بغداد فأخذ الجانب الشرقي ثم الغربي، وضعف أمر معز الدولة والديلم الذين كانوا معه، ثم مكر به معز الدولة وخدعه حتى استظهر عليه وانتصر أصحابه فنهبوا بغداد وما قدروا عليه من أموال التجار وغيرهم، وكان قيمة ما أخذ أصحاب معز الدولة من الناس عشرة آلاف ألف دينار، ثم وقع الصلح بين ناصر الدولة ومعز الدولة‏.‏

ورجع ابن حمدان إلى بلده الموصل، واستقر أمر معز الدولة ببغداد، ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغ أخاه ركن الدولة أخباره، فغوى الناس في ذلك وعلموا أبناءهم سعاة، حتى أن من الناس من كان يقطع نيفاً وثلاثين فرسخاً في يوم واحد‏.‏

وأعجبه المصارعون والملاكون، وغيرهم من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة، وتعلموا السباحة ونحوها، وكانت تضرب الطبول بين يديه ويتصارع الرجال، والكوسان تدق حول سور المكان الذي هو فيه، وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه‏.‏

ثم احتاج إلى صرف أموال في أرزاق الجند فأقطعهم البلاد عوضاً عن أرزاقهم، فأذى ذلك إلى خراب البلاد وترك عمارتها إلا الأراضي التي بأيدي أصحاب الجاهات‏.‏

وفي هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد، حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم‏.‏

وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحداً، بل يتركون على الطرقات فيأكل كثيراً منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار بالخبز، وانتجع الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق، ومنهم من وصل إليها بعد مدة مديدة‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبد الله المهدي، وولى الأمر من بعده ولده المنصور إسماعيل، وكان حازم الرأي شديداً شجاعاً كما ذكرنا ذلك في السنة الماضية، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة على الصحيح‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الأخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية، كانت وفاته بدمشق وله من العمر بضع وستون سنة، وأقيم ولده أبو القاسم أبو جور - وكان صغيراً - وأقيم كافور الأخشيد أتابكه، وكان يدبر الممالك بالبلاد كلها، واستحوذ على الأمور كلها وسار إلى مصر فقصد سيف الدولة بن حمدان دمشق فأخذها من أصحاب الأخشيد، ففرح بها فرحاً شديداً، واجتمع بمحمد بن محمد بن نصر الفارابي التركي الفليسوف بها‏.‏

وركب سيف الدولة يوماً مع الشريف العقيلي في بعض نواحي دمشق، فنظر سيف الدولة إلى الغوطة فأعجبته وقال‏:‏ ينبغي أن يكون هذا كله لديوان السلطان - كأنه يعرض بأخذها من ملاكها - فأوغر ذلك صدر العقيلي وأوعاه إلى أهل دمشق، فكتبوا إلى كافور الأخشيدي يستنجدونه، فأقبل إليهم في جيوش كثيرة كثيفة، فأجلى عنهم سيف الدولة وطرده عن حلب أيضاً، واستناب عليها ثم كر راجعاً إلى دمشق، فاستناب عليها بدراً الأخشيدي - ويعرف ببدير - فلما صار كافور إلى الديار المصرية رجع سيف الدولة إلى حلب، فأخذها كما كانت أولاً له، ولم يبق له في دمشق شيء يطمع فيه‏.‏

وكافور هذا الذي هجاه المتنبي ومدحه أيضاً‏.‏

 وممن توفي من الأعيان‏:‏

 عمر بن الحسين

صاحب ‏(‏المختصر في الفقه‏)‏ على مذهب الإمام أحمد، وقد شرحه القاضي أبو يعلى بن الفراء والشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي، وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد، كثير الفضائل والعبادة، خرج من بغداد مهاجراً لما كثر بها الشر والسب للصحابة، وأودع كتبه في بغداد فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وعدمت مصنفاته، وقصد دمشق فأقام بها حتى مات في هذه السنة، وقبره بباب الصغير يزار قريباً من قبور الشهداء‏.‏ ‏

وذكر في مختصره هذا في الحج‏:‏ ويأتي الحجر الأسود ويقبله إن كان هناك، وإنما قال ذلك لأن تصنيفه لهذا الكتاب كان والحجر الأسود قد أخذته القرامطة وهو في أيديهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما تقدم ذلك، ولم يرد إلى مكانه إلا سنة سبع وثلاثين كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ قال لي القاضي أبو يعلى‏:‏ كان للخرقي مصنفات كثيرة وتخريجات على المذهب لم تظهر لأنه خرج من مدينته لما ظهر بها سب الصحابة، وأودع كتبه فاحترقت الدار التي هي فيها فاحترقت الكتب ولم تكن قد انتشرت لبعده عن البلد‏.‏

ثم روى الخطيب من طريقه عن أبي الفضل عبد السميع عن الفتح بن شخرف عن الخرقي قال‏:‏ رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المنام فقال لي‏:‏ ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء ‏!‏‏!‏

قال‏:‏ قلت زدني يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء‏.‏

قال‏:‏ ورفع له كفه فإذا فيها مكتوب‏:‏

قد كنت ميتاً فصرت حياً * وعن قريب تعود ميتا

فابن بدار البقاء بيتاً * ودع بدار الفناء بيتا

قال ابن بطة‏:‏ مات الخرقي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وزرت قبره رحمه الله‏.‏

 محمد بن عيسى

أبو عبد الله بن موسى الفقيه الحنفي، أحد أئمة العراقيين في زمانه، وقد ولى القضاء ببغداد للمتقي ثم للمستكفي، وكان ثقة فاضلاً، كبست اللصوص داره يظنون أنه ذو مال، فضربه بعضهم ضربة أثخنته، فألقى نفسه من شدة الفزع إلى الأرض فمات رحمه الله تعالى في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

 محمد بن محمد بن عبد الله

أبو الفضل السلمي الوزير الفقيه المحدث الشاعر، سمع الكثير وجمع وصنف، وكان يصوم الاثنين والخميس، ولا يدع صلاة الليل والتصنيف، وكان يسأل الله تعالى الشهادة كثيراً‏.‏

فولي الوزارة للسلطان فقصده الأجناد فطالبوه بأرزاقهم، واجتمع منهم ببابه خلق كثير، فاستدعى بحلاق فحلق رأسه، وتنور وتطيب ولبس كفنه وقام يصلي، فدخلوا عليه فقتلوه وهو ساجد، رحمه الله، في ربيع الآخر من هذه السنة‏.‏

 

 الأخشيد محمد بن عبد الله بن طغج

أبو بكر الملقب بالأخشيد ومعناه ملك الملوك، لقبه بذلك الراضي لأنه كان ملك فرغانة، وكل من ملكها كان يسمى الأخشيد، كما أن من ملك اشروسية يسمى الآفشين‏.‏

ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه، ومن ملك جرجان يسمى صول، ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهبذ، ومن ملك طبرستان يسمى أرسلان‏.‏

قاله ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وكانت العرب تسمي من ملك الشام مع الجزيرة كافراً قيصر، ومن ملك فارس كسرى، ومن ملك اليمن تبع، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الإسكندرية المقوقس، وذكر غير ذلك‏.‏

توفي بدمشق ونقل إلى بيت المقدس فدفن هناك رحمه الله‏.‏

 أبو بكر الشبلي

أحد مشايخ الصوفية، اختلفوا في اسمه على أقوال فقيل‏:‏ دلف بن جعفر، ويقال‏:‏ دلف بن جحدر، وقيل‏:‏ جعفر بن يونس، أصله من قرية يقال لها‏:‏ شبلة من بلاد أُشروسنة من خراسان، وولد بسامرا، وكان أبوه حاجب الحجاب للموفق، وكان خاله نائب الإسكندرية، وكانت توبة الشبلي على يدي خير النساج، سمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فتاب من فوره، ثم صحب الفقراء ولمشايخ، ثم صار من أئمة القوم‏.‏

قال الجنيد‏:‏ الشبلي تاج هؤلاء‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ أخبرنا أبو الحسن علي بن محمود الزوزني قال‏:‏ سمعت علي بن المثنى التميمي يقول‏:‏ دخلت يوماً على الشبلي في داره وهو يهيج ويقول‏:‏

علي بعدك لا يصبر * من عادته القرب

ولا يقوى على هجرك * من تيّمه الحب

فإن لم ترك العين * فقد يبصرك القلب

وقد ذكر له أحوال وكرامات، وقد ذكرنا أنه كان ممن اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الأقوال من غير تأمل لما فيها، مما كان الحلاج يحاوله من الإلحاد والاتحاد، ولما حضرته الوفاة قال لخادمه‏:‏ قد كان عليّ درهم مظلمة فتصدقت عن صاحبه بألوف، ومع هذا ما على قلبي شغل أعظم منه‏.‏

ثم أمره بأن يوضئه فوضأه وترك تخليل لحيته، فرفع الشبلي يده - وقد كان اعتقل لسانه - فجعل يخلل لحيته‏.‏

وذكره ابن خلكان في ‏(‏الوفيات‏)‏، وحكى عنه أنه دخل يوماً على الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشد‏:‏ ‏

عودوني الوصال والوصل عذب * ورموني بالصد والصد صعب

زعموا حين اعتبوا أن جرمي * فرط حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحق الخضوع عند التلاقي * ما جزاء من يحب إلا يحب

وذكر عنه قال‏:‏ رأيت مجنوناً على باب جامع الرصافة يوم جمعة عرياناً وهو يقول‏:‏ أنا مجنون الله، فقلت‏:‏ ألا تستتر وتدخل إلى الجامع فتصلى الجمعة‏.‏

فقال‏:‏

يقولون زرنا واقض واجب حقنا * وقد أسقطت حالي حقوقهم عني

إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها * ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني

وذكر الخطيب في‏(‏تاريخه‏)‏ عنه أنه انشد لنفسه فقال‏:‏ مضتِ الشبيبة والحبيبة فانبرى * دمعان في الأجفان يزدحمان

ما أنصفتني الحادثات رمينني * بمودعين وليس لي قلبان

كانت وفاته رحمه الله تعالى ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة، ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة

في هذه السنة استقر أمر الخليفة المطيع لله في دار الخلافة، واصطلح معز الدولة بن بويه وناصر الدولة بن حمدان على ذلك، ثم حارب ناصر الدولة تكين التركي فاقتتلا مرات متعددة، ثم ظفر ناصر الدولة بتكين فسمل بين يديه، واستقر أمره بالموصل والجزيرة، واستحوذ ركن الدولة على الري وانتزعها من الخراسانية، واتسعت مملكة بني بويه جداً، فإنه صار بأيديهم أعمال الري والجبل وأصبهان وفارس والأهواز والعراق، ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار ربيعة من الجزيرة وغيرها‏.‏

ثم اقتتل جيش معز الدولة وجيش أبي القاسم البريدي، فهزم أصحاب البريدي وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الفداء بين الروم والمسلمين على يد نصر المستملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان، فكان عدة الأسارى نحواً من ألفين وخمسمائة مسلم ولله الحمد والمنة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسين بن حمويه بن الحسين

القاضي الاستراباذي، روى الكثير وحدث، وكان له مجلس للإملاء، وحكم ببلده مدة طويلة، وكان من المجتهدين في العبادة المتهجدين بالأسحار، ويضرب به المثل في ظرفه وفكاهته‏.‏ ‏

وقد مات فجأة على صدر جاريته عند إنزاله‏.‏

 عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله

أبو عبد الله الختلي، سمع ابن أبي الدنيا وغيره، وحدث عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة نبيلاً حافظاً، حدث من حفظه بخمسين ألف حديث‏.‏

عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم أبو محمد الكلبي، الملقب بديك الجن الشاعر الماجن الشيعي‏.‏

ويقال‏:‏ إنه من موالي بني تميم، وله أشعار قوية، خمارية وغير خمارية، وقد استجاد أبو نواس شعره في الخماريات‏.‏

 

 

 علي بن عيسى بن داود ابن الجراح

أبو الحسن الوزير للمقتدر والقاهر، ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وسمع الكثير، وعنه الطبراني وغيره، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عفيفاً، كثير التلاوة والصيام والصلاة، يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم، أصله من الفرس، وكان من أكبر القائمين على الحلاج‏.‏

وروي عنه أنه قال‏:‏ كسبت سبعمائة ألف دينار أنفقت منها في وجوه الخير ستمائة ألف وثمانين ألفاً‏.‏

ولما دخل مكة حين نفي من بغداد طاف بالبيت وبالصفا والمروة في حر شديد، ثم جاء إلى منزله فألقى نفسه وقال‏:‏ أشتهي على الله شربة ثلج‏.‏

فقال له بعض أصحابه‏:‏ هذا لا يتهيأ ههنا‏.‏

فقال‏:‏ أعرف ولكن سيأتي به الله إذا شاء، وأصبر إلى المساء‏.‏

فلما كان في أثناء النهار جاءت سحابة فأمطرت وسقط منها برد شديد كثير، فجمع له صاحبه من ذلك البرد شيئاً كثيراً وخبأه له، وكان الوزير صائماً، فلما أمسى جاء به، فلما جداء المسجد أقبل إليه صاحبه بأنواع الأشربة وكلها بثلج، فجعل الوزير يسقيه لمن حواليه من الصوفية والمجاورين، ولم يشرب هو منه شيئاً، فلما رجع إلى المنزل جئته بشيء من ذلك الشراب كنا خبأناه له، وأقسمت عليه ليشربنه فشربه بعد جهد جهيد، وقال‏:‏ أشتهي لو كنت تمنيت المغفرة‏.‏

رحمه الله وغفر له‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

فمن كان عني سائلاً بشماتةٍ * لما نابني أو شامتاً غير سائل

فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرة * صبوراً على أهوال تلك الزلازل

وقد روى أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي عن أبيه عن جماعة‏:‏ أن عطاراً من أهل الكرخ كان مشهوراً بالسنة، ركبه ستمائة دينار ديناً فأغلق دكانه وانكسر عن كسبه ولزم منزله، وأقبل على الدعاء والتضرع والصلاة ليالي كثيرة، فلما كان في بعض تلك الليالي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له‏:‏ اذهب إلى علي بن عيسى الوزير فقد أمرته لك بأربعمائة دينار‏.‏

فلما أصبح الرجل قصد باب الوزير فلم يعرفه أحد، فجلس لعل أحدا يستأذن له على الوزير حتى طال عليه المجلس وهمّ بالإنصراف، ثم إنه قال لبعض الحجبة‏:‏ قل للوزير إني رجل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا أريد أن أقصه على الوزير‏.‏

فقال له الحاجب‏:‏ وأنت صاحب الرؤيا‏؟‏

إن الوزير قد أنفذ في طلبك رسلاً متعددة‏.‏

ثم دخل الحجاب فأخبروا الوزير فقال‏:‏ أدخله عليّ سريعاً‏.‏

فدخل عليه فأقبل عليه الوزير يستعلم عن حاله واسمه وصفته ومنزله، فذكر ذلك له، فقال له الوزير‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرني بإعطائك أربعمائة دينار، فأصبحت لا أدري من أسأل عنك، ولا أعرفك ولا أعرف أين أنت، وقد أرسلت في طلبك إلى الآن عدة رسل، فجزاك الله خيراً عن قصدك إياي‏.‏

ثم أمر الوزير بإحضار ألف دينار فقال‏:‏ هذه أربعمائة دينار لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وستمائة هبة من عندي‏.‏

فقال الرجل‏:‏ لا والله لا أزيد على ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرجو الخير والبركة فيه‏.‏

ثم أخذ منها أربعمائة دينار، فقال الوزير‏:‏ هذا هو الصدق واليقين‏.‏

فخرج ومعه الأربعمائة دينار فعرض على أرباب الديون أموالهم فقالوا‏:‏ نحن نصبر عليك ثلاث سنين، وافتح بهذا الذهب دكانك ودم على كسبك‏.‏

فأبى إلا أن يعطيهم من أموالهم الثلث، فدفع إليهم مائتي دينار، وفتح حانوته بالمائتي دينار الباقية، فما حال عليه الحول حتى ربح ألف دينار‏.‏

ولعلي بن عيسى الوزير أخبار كثيرة صالحة‏.‏

كانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة‏.‏

ويقال‏:‏ في التي قبلها والله أعلم‏.‏

 محمد بن إسماعيل

ابن إسحاق بن بحر أبو عبد الله الفارسي الفقيه الشافعي، كان ثقة ثبتاً فاضلاً، سمع أبا زرعة الدمشقي وغيره، وعنه الدارقطني وغيره وآخر من حدث عنه أبو عمر بن مهدي، توفي في شوال من هذه السنة‏.‏

 هارون بن محمد

ابن هارون بن علي بن موسى بن عمرو بن جابر بن يزيد بن جابر بن عامر بن أسيد بن تميم بن صبح بن ذهل بن مالك بن سعيد بن حبنة أبو جعفر، والد القاضي أبي عبد الله الحسن بن هارون‏.‏

كان أسلافه ملوك عمان في قديم الزمان، وجده يزيد بن جابر أدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان هارون هذا أول من انتقل من أهله من عمان فنزل بغداد وحدث بها، وروى عن أبيه، وكان فاضلاً متضلعاً من كل فن، وكانت داره مجمع العلماء في سائر الأيام، ونفقاته دارّة عليهم، وكان له منزلة عالية، ومهابة ببغداد، وقد أثنى عليه الدارقطني ثناء كثيراً، وقال‏:‏ كان مبرزاً في النحو واللغة والشعر، ومعاني القرآن، وعلم الكلام‏.‏ ‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العباس بن صول الصولي، وكان عالماً بفنون الآداب والأخبار، وإنما ذكره ابن الجوزي في التي بعدها كما سيأتي‏.‏

أبو العباس بن القاص أحمد بن أبي أحمد الطبري

الفقيه الشافعي، تلميذ ابن سريج له كتاب ‏(‏التلخيص‏)‏ وكتاب ‏(‏المفتاح‏)‏، وهو مختصر شرحه أبو عبد الله الحسين، وأبو عبد الله السنجي أيضاً، وكان أبوه يقص على الناس الأخبار والآثار، وأما هو فتولى قضاء طرسوس وكان يعظ الناس أيضاً، فحصل له مرة خشوع فسقط مغشياً عليه فمات في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة

فيها خرج معز الدولة والخليفة المطيع لله من بغداد إلى البصرة فاستنقذاها من يد أبي القاسم بن البريدي، وهرب هو وأكثر أصحابه، واستولى معز الدولة على البصرة وبعث يتهدد القرامطة ويتوعدهم بأخذ بلادهم، وزاد في إقطاع الخليفة ضياعاً تعمل في كل سنة مائتي ألف دينار، ثم سار معز الدولة لتلقي أخيه عماد الدولة بالأهواز فقبل الأرض بين يدي أخيه وقام بين يديه مقاماً طويلاً، فأمره بالجلوس فلم يفعل‏.‏

ثم عاد إلى بغداد صحبة الخليفة فتمهدت الأمور جيداً‏.‏

وفي هذه السنة استحوذ ركن الدولة على بلاد طبرستان وجرجان من يد وشمكير أخي مرداويج ملك الديلم، فذهب وشمكير إلى خراسان يستنجد بصاحبها كما سيأتي‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو الحسين بن المنادي

أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، سمع جده وعباساً الدوري ومحمد بن إسحاق الصاغاني‏.‏

وكان ثقة أميناً حجة صادقاً، صنف كثيراً وجمع علوماً جمة، ولم يسمع الناس منها إلا اليسير، وذلك لشراسة أخلاقه‏.‏

وآخر من روى عنه محمد بن فارس اللغوي، ونقل ابن الجوزي عن أبي يوسف القدسي أنه قال‏:‏ صنف أبو الحسن بن المنادي في علوم القرآن أربعمائة كتاب، ونيفاً وأربعين كتاباً، ولا يوجد في كلامه حشو، بل هو نقي الكلام جمع بين الرواية والدراية‏.‏ ‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ ومن وقف على مصنفاته علم فضله وإطلاعه ووقف على فوائد لا توجد في غير كتبه‏.‏

توفي في محرم من هذه السنة عن ثمانين سنة‏.‏

 الصولي محمد بن عبد الله بن العباس

ابن محمد صول أبو بكر الصولي، كان أحد العلماء بفنون الأدب وحسن المعرفة بأخبار الملوك، وأيام الخلفاء ومآثر الأشراف وطبقات الشعراء‏.‏

روى عن أبي داود السجستاني والمبرد وثعلب وأبي العيناء وغيرهم‏.‏

وكان واسع الرواية جيد الحفظ حاذقاً بتصنيف الكتب‏.‏

وله كتب كثيرة هائلة، ونادم جماعة من الخلفاء، وحظي عندهم، وكان جده صول وأهله ملوكاً بجرجان، ثم كان أولاده من كبار الكتاب، وكان الصولي هذا جيد الاعتقاد حسن الطريقة، وله شعر حسن، وقد روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

أحببت من أجله من كان يشبهه * وكل شيء من المعشوق معشوق

حتى حكيت بجسمي ماء مقلته * كأن سقمي من عينيه مسروق

خرج الصولي من بغداد إلى البصرة لحاجة لحقته فمات بها في هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة ابنة الشيخ أبي الزاهد المكي، وكانت من العابدات الناسكات المقيمات بمكة، وكانت تقتات من كسب أبيها من عمل الخوص، في كل سنة ثلاثين درهماً يرسلها إليها، فاتفق أنه أرسلها مرة مع بعض أصحابه فزاد عليها ذلك الرجل عشرين درهماً - يريد بذلك برها وزيادة في نفقتها - فلما اختبرتها قالت‏:‏ هل وضعت في هذه الدراهم شيئاً من مالك‏؟‏

أصدقني بحق الذي حججت له‏.‏

فقال‏:‏ نعم عشرين درهماً‏.‏

فقالت‏:‏ ارجع بها لا حاجة لي فيها، ولولا أنك قصدت الخير لدعوت الله عليك، فإنك قد أجعتني عامي هذا، ولم يبق لي رزق إلا من المزابل إلى قابل‏.‏

فقال‏:‏ خذي منها الثلاثين التي أرسل بها أبوك إليك ودعي العشرين‏.‏

فقالت‏:‏ لا، إنها قد اختلطت بمالك ولا أدري ما هو‏.‏

قال الرجل‏:‏ فرجعت بها إلى أبيها فأبى أن يقبلها وقال‏:‏ شققت يا هذا عليّ وضيقت عليها، ولكن اذهب فتصدق بها‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

فيها ركب معز الدولة من بغداد إلى الموصل فانهزم منه ناصر الدولة إلى نصيبين، فتملك معز الدولة بن بويه الموصل في رمضان فعسف أهلها وأخذ أموالهم، وكثر الدعاء عليه‏.‏

ثم عزم على أخذ البلاد كلها من ناصر الدولة بن حمدان، فجاء خبر من أخيه ركن الدولة يستنجده على من قبله من الخراسانية، فاحتاج إلى مصالحة ناصر الدولة على أن يحمل ما تحت يده من بلاد الجزيرة والشام في كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم، وأن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة على منابر بلاده كلها ففعل‏.‏

وعاد معز الدولة إلى بغداد وبعث إلى أخيه بجيش هائل، وأخذ له عهد الخليفة بولاية خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم، فلقيه جمع كثيف من الروم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم سيف الدولة وأخذت الروم ما كان معهم، وأوقعوا بأهل طرسوس بأساً شديداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي رمضان انتهت زيادة دجلة أحد وعشرين ذراعاً وثلثاً‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن محمد بن حمدويه

ابن نعيم بن الحكم أبو محمد البيع، وهو والد الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، أذن ثلاثاً وستين سنة وغزا اثنتين وعشرين غزوة، وأنفق على العلماء مائة ألف، وكان يقوم الليل كثيراً، وكان كثير الصدقة، أدرك عبد الله بن أحمد بن حنبل ومسلم بن الحجاج، وروى عن ابن خزيمة وغيره، وتوفي عن ثلاث وتسعين سنة‏.‏

قدامة الكاتب المشهور

هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له مصنف في الخراج وصناعة الكتابة، وبه يقتدي علماء هذا الشأن، وقد سأل ثعلباً عن أشياء‏.‏

محمد بن علي بن عمر أبو علي المذكر الواعظ بنيسابور، كان كثير التدليس عن المشايخ الذين لم يلقهم، توفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين سامحه الله‏.‏

محمد بن مطهر بن عبد الله

أبو المنجا الفقيه الفرضي المالكي، له كتاب في الفقه على مذهب مالك، وله مصنفات في الفرائض قليلة النظير، وكان أديباً إماماً فاضلاً صادقاً، رحمه الله‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة

في ربيع الأول منها وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة، ونهبت الكرخ‏.‏

وفي جمادى الآخرة تقلد أبو السائب عتبة بن عبيد الله الهمداني قضاء القضاة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له‏:‏ عمران بن شاهين، كان قد استوجب بعض العقوبات، فهرب من السلطان إلى ناحية البطائح، وكان يقتات مما يصيده من السمك والطيور، والتف عليه خلق من الصيادين وقطاع الطريق، فقويت شوكته واستعمله أبو القاسم بن البريدي على بعض تلك النواحي، وأرسل إليه معز الدولة بن بويه جيشاً مع وزيره أبي جعفر بن بويه الضميري، فهزم ذلك الصياد الوزير، واستحوذ على ما معه من الأموال، فقويت شوكة ذلك الصياد، ودهم الوزير وفاة عماد الدولة بن بويه وهو‏:‏

أبو الحسن علي بن بويه

وهو أكبر أولاد بويه وأول من تملك منهم، وكان عاقلاً حاذقاً حميد السيرة رئيساً في نفسه‏.‏

كان أول ظهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة كما ذكرنا‏.‏

فلما كان في هذا العام قويت عليه الأسقام وتواترت عليه الآلام، فأحس من نفسه بالهلاك، ولم يفاده ولا دفع عنه أمر الله ما هو فيه من الأموال والملك وكثرة الرجال والأموال، ولا رد عنه جيشه من الديالم والأتراك والأعجام، مع كثرة العدد والعدد، بل تخلوا عنه أحوج ما كان إليهم، فسبحان الله الملك القادر القاهر العلام‏.‏

ولم يكن له ولد ذكر، فأرسل إلى أخيه ركن الدولة يستدعيه إليه وولده عضد الدولة، ليجعله ولي عهده من بعده، فلما قدم عليه فرح به فرحاً شديداً، وخرج بنفسه في جميع جيشه يتلقاه، فلما دخل به إلى دار المملكة أجلسه على السرير وقام بين يديه كأحد الأمراء، ليرفع من شأنه عند أمرائه ووزرائه وأعوانه‏.‏

ثم عقد له البيعة على ما يملكه من البلدان والأموال، وتدبير المملكة والرجال‏.‏

وفيهم من بعض رؤوس الأمراء كراهة لذلك، فشرع في القبض عليهم وقتل من شاء منهم وسجن آخرين، حتى تمهدت الأمور لعضد الدولة‏.‏

ثم كانت وفاة عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وكان ممن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الأمراء، وبذلك كان يكاتبه الخلفاء، ولكن أخوه معز الدولة كان ينوب عنه في العراق والسواد‏.‏

ولما مات عماد الدولة اشتغل الوزير أبو جعفر الضميري عن محاربة عمران بن شاهين الصياد - وكان قد كتب إليه معز الدولة أن يسير إلى شيراز ويضبط أمرها - فقوي أمر عمران بعد ضعفه، وكان من أمره ما سيأتي في موضعه‏.‏ ‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو جعفر النحاس النحوي‏.‏

أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس

أبو جعفر المرادي المصري النحوي المعروف بالنحاس، اللغوي المفسر الأديب، له مصنفات كثيرة في التفسير وغيره، وقد سمع الحديث ولقي أصحاب المبرد، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ لخمس خلون منها يوم السبت‏.‏

وكان سبب وفاته‏:‏ أنه جلس عند المقياس يقطع شيئاً من العروض، فظنه بعض العامة يسحر النيل فرفسه برجله فسقط فغرق، ولم يدر أين ذهب‏.‏

وقد كان أخذ النحو عن علي بن سليمان الأحوص وأبي بكر الأنباري وأبي إسحاق الزجاج ونفطويه وغيرهم، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها ‏(‏تفسير القرآن‏)‏ و‏(‏الناسخ والمنسوخ‏)‏وشرح أبيات سيبويه، ولم يصنف مثله، وشرح المعلقات والدواوين العشرة، وغير ذلك‏.‏

وروى الحديث عن النسائي، وكان بخيلاً جداً، وانتفع الناس به‏.‏

وفيها كانت وفاة الخليفة‏:‏

 المستكفي بالله

عبد الله بن علي المكتفي بالله، وقد ولي الخلافة سنة وأربعة أشهر ويومين، ثم خلع وسملت عيناه كما تقدم ذكره‏.‏

توفي في هذه السنة وهو معتقل في داره، وله من العمر ست وأربعون سنة وشهران‏.‏

علي بن حمشاد بن سحنون بن نصر

أبو المعدل، محدث عصره بنيسابور، رحل إلى البلدان وسمع الكثير وحدث وصنف مسنداً أربعمائة جزء، وله غير ذلك مع شدة الإتقان والحفظ، وكثرة العبادة والصيانة والخشية لله عز وجل‏.‏

قال بعضهم‏:‏ صحبته في السفر والحضر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة‏.‏

وله تفسير في مائتي جزء ونيف، ودخل الحمام من غير مرض فتوفي فيه فجأة، وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من شوال من هذه السنة رحمه الله‏.‏

علي بن محمد بن أحمد بن الحسن

أبو الحسن الواعظ البغدادي، ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى عرف بالمصري، سمع الكثير وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان له مجلس وعظ يحضر فيه الرجال والنساء، وكان يتكلم وهو مبرقع لئلا يرى النساء حسن وجهه، وقد حضر مجلسه أبو بكر النقاش مستخفياً فلما سمع كلامه قام قائماً وشهر نفسه وقال له‏:‏ القصص بعدك حرام‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان ثقة أميناً عارفاً، جمع حديث الليث وابن لهيعة وله كتب كثيرة في الزهد‏.‏

توفي في ذي القعدة منها، وله سبع وثمانون سنة والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة

في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رد الحجر الأسود المكي إلى مكانه في البيت، وقد كان القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما تقدم، وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك، وقد بذل لهم الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا، وقالوا‏:‏ نحن أخذناه بأمر فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره‏.‏

فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من جامعها ليراه الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتاباً فيه‏:‏ إنا أخذنا هذا الحجر بأمر وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه ليتم حج الناس ومناسكهم‏.‏

ثم أرسلوه إلى مكة بغير شيء على قعود، فوصل في ذي القعدة من هذه السنة ولله الحمد والمنة، وكان مدة مغايبته عنده ثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحاً شديداً‏.‏

وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال فعطبت تحته، واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى‏.‏

وفيها‏:‏ دخل سيف الدولة بن حمدان بجيش عظيم نحو من ثلاثين ألفاً إلى بلاد الروم، فوغل فيها وفتح حصوناً وقتل خلقاً وأسر أمماً وغنم شيئاً كثيراً ثم رجع، فأخذت عليه الروم الدرب الذي يخرج منه فقتلوا عامة من معه وأسروا بقيتهم واستردوا ما كان أخذه، ونجا سيف الدولة في نفر يسير من أصحابه‏.‏

وفيها‏:‏ مات الوزير أبو جعفر الضميري، فاستوزر معز الدولة مكانه أبا محمد الحسين بن محمد المهلبي في جمادى الأولى‏.‏

فاستفحل أمر عمران بن شاهين الصياد وتفاقم الأمر به، فبعث إليه معز الدولة جيشاً بعد جيش، كل ذلك يهزمهم مرة بعد مرة، ثم عدل معز الدولة إلى مصالحته واستعماله له على بعض تلك النواحي، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن داود بن باب شاذ

أبو الحسن المصري قدم بغداد‏.‏

كان من أفاضل الناس وعلمائهم بمذهب أبي حنيفة، مبسوط الذكاء قوي الفهم، كتب الحديث، وكان ثقة‏.‏

مات ببغداد في هذه السنة، ودفن بمقبرة الشونيزية ولم يبلغ من العمر أربعين سنة‏.‏

محمد القاهر بالله أمير المؤمنين

ابن المعتضد بالله، ولي الخلافة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، وكان بطاشاً سريع الانتقام، فخاف منه وزيره أبو علي بن مقلة فاستتر منه فشرع في العمل عليه عند الأتراك، فخلعوه وسملوا عينيه وأودع دار الخلافة برهة من الدهر، ثم أخرج في سنة ثلاث وثلاثين إلى دار ابن طاهر، وقد نالته فاقة وحاجة شديدة، وسأل في بعض الأيام‏.‏

ثم كانت وفاته في هذا العام، وله ثنتان وخمسون سنة، ودفن إلى جانب أبيه المعتضد‏.‏

محمد بن عبد الله بن أحمد

أبو عبد الله الصفار الأصبهاني محدث عصره بخراسان، سمع الكثير وحدث عن ابن أبي الدنيا ببعض كتبه، وكان مجاب الدعوة، ومكث لا يرفع رأسه إلى السماء نيفاً وأربعين سنة، وكان يقول‏:‏ اسمي محمد واسم أبي عبد الله واسم أمي آمنة‏.‏

يفرح بهذه الموافقة في الاسم واسم الأب واسم الأم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه محمد، واسم أبيه عبد الله، وأمه اسمها آمنة‏.‏

 أبو نصر الفارابي

التركي الفيلسوف، وكان من أعلم الناس بالموسيقى، بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم‏.‏

وكان حاذقاً في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول‏:‏ بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين‏.‏

مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ قصد صاحب عمان البصرة ليأخذها في مراكب كثيرة، وجاء لنصره أبو يعقوب الهجري فمانعه الوزير أبو محمد المهلبي وصده عنها، وأسر جماعة من أصحابه وسبا سبياً كثيراً من مراكبه فساقها معه في دجلة، ودخل بها إلى بغداد في أبهة عظيمة، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ رفع إلى الوزير أبي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبي جعفر بن أبي العز الذي كان قتل على الزندقة كما قتل الحلاج، فكان هذا الرجل يدعي ما كان يدعيه ابن أبي العز، وقد اتبعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد، وصدقوه في دعواه الربوبية، وأن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليهم‏.‏

ووجد في منزله كتب تدل على ذلك‏.‏

فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه، وقد كان معز الدولة بن بويه يحب الرافضة قبحه الله‏.‏

فلما اشتهر عنه ذلك لم يتمكن الوزير منه خوفاً على نفسه من معز الدولة، وأن تقوم عليه الشيعة، إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولكنه احتاط على شيء من أموالهم، فكان يسميها أموال الزنادقة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي رمضان منها وقعت فتنة عظيمة بسبب المذهب‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

أشهب بن عبد العزيز بن أبي داود بن إبراهيم أبو عمرو العامري - نسبة إلى عامر بن لؤي - كان أحد الفقهاء المشهورين، توفي في شعبان منها‏.‏

 أبو الحسن الكرخي

أحد أئمة الحنفية المشهورين، ولد سنة ستين ومائتين، وسكن بغداد ودرس فقه أبي حنيفة، وانتهت إليه رئاسة أصحابه في البلاد، وكان متعبداً كثير الصلاة والصوم، صبوراً على الفقر، عزوفاً عما في أيدي الناس، وكان مع ذلك رأساً في الاعتزال، وقد سمع الحديث من إسماعيل بن إسحاق القاضي، وروى عنه حيوة وابن شاهين‏.‏

وأصابه الفالج في آخر عمره، فاجتمع عنده بعض أصحابه واشتوروا فيما بينهم أن يكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان ليساعده بشيء يستعين به في مرضه، فلما علم بذلك رفع رأسه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني‏.‏

فمات عقب ذلك قبل أن يصل إليه ما أرسل به سيف الدولة، وهو عشرة آلاف درهم‏.‏

فتصدقوا بها بعد وفاته في شعبان من هذه السنة عن ثمانين سنة، وصلى عليه أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي، وكان صاحبه، ودفن في درب أبي زيد علي نهر الواسطيين‏.‏

 محمد بن صالح بن يزيد

أبو جعفر الوراق سمع الكثير، وكان يفهم ويحفظ، وكان ثقة زاهداً لا يأكل إلا من كسب يده، ولا يقطع صلاة الليل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ صحبته سنين كثيرة فما رأيته فعل إلا ما يرضي الله عز وجل، ولا قال إلا ما يسأل عنه، وكان يقوم أكثر الليل‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة منصور بن قرابكين صاحب الجيوش الخراسانية من جهة الأمير نوح الساماني من مرض حصل له، وقيل‏:‏ لأنه أدمن شرب الخمر أياماً متتابعة فهلك بسبب ذلك، فأقيم بعده في الجيوش أبو علي المحتاج‏.‏

الزجاجي، مصنف ‏(‏الجمل‏)‏، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق النحوي اللغوي البغدادي الأصل‏.‏

ثم الدمشقي، مصنف ‏(‏الجمل في النحو‏)‏، وهو كتاب نافع، كثير الفائدة، صنفه بمكة، وكان يطوف بعد كل باب منه ويدعو الله تعالى أن ينفع به‏.‏

أخذ النحو أولاً عن محمد بن العباس اليزيدي، وأبي بكر بن دريد، وابن الأنباري، توفي في رجب سنة سبع، وقيل‏:‏ سنة تسع وثلاثين، وقيل‏:‏ سنة أربعين، توفي في دمشق، وقيل‏:‏ بطبرية‏.‏

وقد شرح كتابه ‏(‏الجمل‏)‏ بشروح كثيرة من أحسنها وأجمعها ما وضعه ابن عصفور، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ ملكت الروم سروج، وقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها قصد موسى بن وجيه صاحب عمان البصرة فمنعه منها المهلبي كما تقدم‏.‏

وفيها‏:‏ نقم معز الدولة على وزيره فضربه مائة وخمسين سوطاً، ولم يعزله بل رسم عليه‏.‏

وفيها‏:‏ اختصم المصريون والعراقيون بمكة، فخطبوا لصاحب مصر، ثم غلبهم العراقيون فخطبوا لركن الدولة بن بويه‏.‏

وفيها كانت وفاة‏:‏

 المنصور الفاطمي

وهو أبو طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب المغرب، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوماً، وكان عاقلاً شجاعاً فاتكاً قهر أبا يزيد الخارجي الذي كان لا يطاق شجاعة وإقداماً وصبراً، وكان فصيحاً بليغاً، يرتجل الخطبة على البديهة في الساعة الراهنة‏.‏

وكان سبب موته ضعف الحرارة الغريزية كما أورده ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏، فاختلف عليه الأطباء، وقد عهد بالأمر إلى المعز الفاطمي وهو باني القاهرة المعزية كما سيأتي بيانه واسمه، وكان عمره إذ ذلك أربعاً وعشرين سنة، وكان شجاعاً عاقلاً أيضاً حازم الرأي، أطاعه من البربر وأهل تلك النواحي خلق كثير، وبعث مولاه جوهر القائد فبنى له القاهرة المتاخمة لمصر، واتخذ له فيها دار الملك، وهما القصران اللذان هناك - اللذان يقال لهما‏:‏ بين القصرين اليوم - وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة كما سيأتي‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح

أبو علي الصفار أحد المحدثين، لقي المبرد واشتهر بصحبته، وكان مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين، وسمع الحسن بن عرفة وعباساً الدوري وغيرهما، وروى عنه جماعة منهم الدارقطني‏.‏

وقال‏:‏ صام أربعة وثمانين رمضاناً‏.‏

وقد كانت وفاته في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة رحمه الله تعالى‏.‏

 

 أحمد بن محمد بن زياد

ابن يونس بن درهم أبو سعيد بن الأعرابي، سكن مكة وصار شيخ الحرم، وصحب الجنيد بن محمد والنوري وغيرهما، وأسند الحديث وصنف كتباً للصوفية‏.‏

إسماعيل بن القائم بن المهدي الملقب بالمنصور العبيدي الذي يزعم أنه فاطمي، صاحب بلاد المغرب‏.‏

وهو والد المعز باني القاهرة، وهو باني المنصورية ببلاد المغرب‏.‏

قال أبو جعفر المروزي‏:‏ خرجت معه لما كسر أبا يزيد الخاجي، فبينما أنا أسير معه إذ سقط رمحه فنزلت فناولته إياه وذهبت أفاكهه بقول الشاعر‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

فقال‏:‏ هلا قلت كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 45‏]‏‏.‏

{‏فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 118-119‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ أنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت ببعض ما علمت، وأنا قلت بما بلغ به أكثر علمي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا كما جرى لعبد الملك بن مروان حين أمر الحجاج أن يبني باباً ببيت المقدس ويكتب عليه اسمه، فبنى له باباً وبنى لنفسه باباً آخر، فوقعت صاعقة على باب عبد الملك فأحرقته، فكتب إلى الحجاج بالعراق يسأله عما أهمه من ذلك يقول‏:‏ ما أنا وأنت إلا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ‏} ‏[‏المائدة‏:‏ 27‏]‏‏.‏

فرضي عنه الخليفة بذلك‏.‏

توفي المنصور في هذه السنة من برد شديد والله أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم، فقتل منهم خلقاً كثيراً وأسر آخرين، وغنم أموالاً جزيلة، ورجع سالماً غانماً‏.‏

وفيها‏:‏ اختلف الحجيج بمكة، ووقعت حروب بين أصحاب ابن طغج وأصحاب معز الدولة، فغلبهم العراقيون وخطبوا لمعز الدولة، ثم بعد انقضاء الحج اختلفوا أيضاً فغلبهم العراقيون أيضاً، وجرت حروب كثيرة بين الخراسانية والسامانية تقصاها ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 علي بن محمد بن أبي الفهم

أبو القاسم التنوخي جد القاضي أبي القاسم التنوخي شيخ الخطيب البغدادي، ولد بإنطاكية وقدم بغداد فتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وكان يعرف الكلام على طريقة المعتزلة، ويعرف النجوم ويقول الشعر، ولي القضاء بالأهواز وغيرها، وقد سمع الحديث من البغوي وغيره، وكان فهماً ذكياً حفظ وهو ابن خمس عشر سنة قصيدة دعبل الشاعر في ليلة واحدة، وهي ستمائة بيت، وعرضها على أبيه صبيحتها فقام إليه وضمه وقبل بين عينيه وقال‏:‏ يا بني لا تخبر بهذا أحداً لئلا تصيبك العين‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه كان نديماً للوزير المهلبي، ووفد على سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وأحسن إليه، وأورد له من شعره أشياء حسنة، فمن ذلك قوله في الخمر‏:‏

وراح من الشمس مخلوقة * بدت لك في قدح من نهار

هواء، ولكنه جامد * وماء، ولكنه ليس جار

كأن المدير له باليميـ * ـن إذا مال للفيء أو بالنهار

تدرع ثوباً من الياسميـ * ـن له برد كم من الجلنار‏

 محمد بن إبراهيم

ابن الحسين بن الحسن بن عبد الخلاق أبو الفرج البغدادي الفقيه الشافعي، يعرف بابن سكره، سكن مصر وحدث بها، وسمع منه أبو الفتح بن مسرور، وذكر أن فيه ليناً‏.‏

محمد بن موسى بن يعقوب

بن المأمون بن الرشيد هارون أبو بكر، ولي إمرة مكة في سنة ثمان وستين ومائتين، وقدم مصر فحدث بها عن علي بن عبد العزيز البغوي بموطأ مالك‏.‏

وكان ثقة مأموناً، توفي بمصر في ذي الحجة منها‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة بين سيف الدولة بن حمدان وبين الدمستق، فقتل خلقاً من أصحاب الدمستق، وأسر آخرين في جماعة من رؤوساء بطارقته، وكان في جملة من قتل قسطنطين بن الدمستق، وذلك في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

ثم جمع الدمستق خلقاً كثيراً فالتقوا مع سيف الدولة في شعبان منها، فجرت بينهم حروب عظيمة وقتال شديد، فكانت الدائرة للمسلمين وخذل الله الكافرين، فقتل منهم خلق كثير، وأسر جماعة من الرؤوساء، وكان منهم صهر الدمستق وابن بنته أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ حصل للناس أمراض كثيرة وحمة وأوجاع في الحلق‏.‏

وفيها‏:‏ مات الأمير الحميد بن نوح بن نصر الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وقام بالأمر من بعده ولده عبد الملك‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن أحمد

أبو علي الكاتب المصري، صحب أبا علي الروذباري وغيره، وكان عثمان المغربي يعظم أمره ويقول‏:‏ أبو علي الكاتب من السالكين إلى الله‏.‏

ومن كلامه الذي حكاه عنه أبو عبد الرحمن السلمي قوله‏:‏ روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها، ويظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها، وتبدو عليهم وإن ستروها‏.‏

وأنشد‏:‏

إذا ما استسرت أنفس الناس ذكره * تبين فيهم وإن لم يتكلموا

تطيبهم أنفاسهم فتذيعها * وهل سرّ مسك أودع الريح يكتم‏؟‏

 علي بن محمد بن عقبة بن همام

أبو الحسن الشيباني الكوفي، قدم بغداد فحدث بها عن جماعة وروى عنه الدارقطني‏.‏

وكان ثقة عدلاً كثير التلاوة فقيهاً، مكث يشهد على الحكام ثلاثاً وسبعين سنة، مقبولاً عندهم، وأذن في مسجد حمزة الزيات نيفاً وسبعين سنة، وكذلك أبوه من قبله‏.‏

محمد بن علي بن أحمد بن العباس

الكرخي الأديب، كان عالماً زاهداً ورعاً، يختم القرآن كل يوم ويديم الصيام، سمع الحديث من عبدان وأقرانه‏.‏

 أبو الخير التيناني

العابد الزاهد، أصله من العرب، كان مقيماً بقرية يقال لها‏:‏ تينان، من عمل إنطاكية، ويعرف بالأقطع لأنه كان مقطوع اليد، كان قد عاهد الله عهداً ثم نكثه، فاتفق له أنه مسك مع جماعة من اللصوص في الصحراء وهو هناك سائح يتعبد، فأخذ معهم فقطعت يده معهم، وكانت له أحوال وكرامات، وكان ينسج الخوص بيده الواحدة‏.‏

دخل عليه بعض الناس فشاهد منه ذلك فأخذ منه العهد أن لا يخبر به أحداً ما دام حياً، فوفى له بذلك‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ فيها شمل الناس ببغداد وواسط وأصبهان والأهواز داء مركب من دم وصفراء ووباء، مات بسبب ذلك خلق كثير، بحيث كان يموت في كل يوم قريب من ألف نفس، وجاء فيها جراد عظيم أكل الخضروات والأشجار والثمار‏.‏

وفي المحرم منها عقد معز الدولة لابنه أبي منصور بختيار الأمر من بعده بأمرة الأمراء‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل من أذربيجان ادعى أنه يعلم الغيب، وكان يحرم اللحم وما يخرج من الحيوانات، فأضافه مرة رجل فجاءه بطعام كشكية بشحم فأكله، فقال له الرجل بحضرة من معه‏:‏ إنك تدعي أنك تعلم الغيب وهذا طعام فيه شحم وأنت تحرمه فلم لا علمته‏؟‏

فتفرق عنه الناس‏.‏ وفيها‏:‏ جرت حروب كثيرة بين المعز الفاطمي وبين صاحب الأندلس عبد الرحمن الناصر الأموي، استقصاها ابن الأثير‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

عثمان بن أحمد

ابن عبد الله بن يزيد أبو عمرو الدقاق المعروف بابن السماك، روى عن حنبل بن إسحاق وغيره، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة ثبتاً، كتب المصنفات الكثيرة بخطه، توفي في ربيع الأول منها، ودفن بمقبرة باب التبن، وحضر جنازته خمسون ألفاً‏.‏

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد

أبو جعفر القاضي السمناني، ولد سنة إحدى وستين ومائتين، وسكن بغداد وحدث بها، وكان ثقة عالماً فاضلاً سخياً حسن الكلام، عراقي المذهب، وكانت داره مجمع العلماء، ثم ولي قضاء الموصل وتوفي بها في هذه السنة في ربيع الأول منها‏.‏

محمد بن أحمد بن بطة بن إسحاق الأصبهاني

أبو عبد الله، سكن نيسابور ثم عاد إلى أصبهان‏.‏

وليس هذا بعبد الله بن بطة العكبري، هذا متقدم عليه، هذا شيخ الطبراني وابن بطة الثاني يروي عن الطبراني، وهذا بضم الباب من بطة، وابن بطة الثاني وهو الفقيه الحنبلي بفتحها‏.‏

وقد كان جد هذا، وهو ابن بطة بن إسحاق أبو سعيد، من المحدثين أيضاً‏.‏

ذكره ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏.‏

 محمد بن محمد بن يوسف بن الحجاج

أبو النضر الفقيه الطوسي، كان عالماً ثقة عابداً، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدق بالفاضل من قوته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رحل في طلب الحديث إلى الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة، وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث للنوم، وثلث للتنصيف، وثلث للقراءة‏.‏

وقد رآه بعضهم في النوم بعد وفاته فقال له‏:‏ وصلت إلى ما طلبت‏؟‏

فقال‏:‏ أي والله نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرضت مصنفاتي في الحديث عليه فقبلها‏.‏

 أبو بكر الحداد

الفقيه الشافعي، هو محمد بن أحمد بن محمد أبو بكر بن الحداد أحد أئمة الشافعية، روى عن النسائي، وقال‏:‏ رضيت به حجة بيني وبين الله عز وجل‏.‏

وقد كان ابن الحداد فقيهاً فروعياً، ومحدثاً ونحوياً وفصيحاً في العبارة، دقيق النظر في الفروع، وله كتاب في ذلك غريب الشكل، وقد ولي القضاء بمصر نيابة عن أبي عبيد بن حربويه‏.‏

ذكرناه في طبقات الشافعية‏.‏

 أبو يعقوب الأذرعي

إسحاق بن إبراهيم بن هاشم بن يعقوب النهدي، قال ابن عساكر‏:‏ من أهل أذرعات - مدينة بالبلقاء - أحد الثقات من عباد الله الصالحين‏.‏

رحل وحدث عنه جماعة من أجل أهل دمشق وعبادها وعلمائها، وقد روى عنه ابن عساكر أشياء تدل على صلاحه وخرق العادة له، فمن ذلك قال‏:‏ إني سألت الله أن يقبض بصري فعميت، فلما استضررت بالطهارة سألت الله عوده فرده علي‏.‏

توفي بدمشق في هذه السنة - سنة أربع وخمسين - وصححه ابن عساكر وقد نيف على التسعين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة

وفيها‏:‏ عصى الروزبهان على معز الدولة وانحاز إلى الأهواز ولحق به عامة من كان مع المهلبي الذي كان يحاربه، فلما بلغ ذلك معز الدولة لم يصدقه لأنه كان قد أحسن إليه ورفع من قدره بعد الضعة والخمول، ثم تبين له أن ذلك حق، فخرج لقتاله وتبعه الخليفة المطيع لله خوفاً من ناصر الدولة بن حمدان فإنه قد بلغه أنه جهز جيشاً مع ولده أبي المرجّا جابر إلى بغداد ليأخذها، فأرسل معز الدولة حاجبه سبكتكين إلى بغداد، وصمد معز الدولة إلى الروزبهان فاقتتلوا قتالاً شديداً، وهزمه معز الدولة وفرق أصحابه وأخذه أسيراً إلى بغداد فسجنه، ثم أخرجه ليلاً وغرقه، لأن الديلم أرادوا إخراجه من السجن قهراً‏.‏

وانطوى ذكر روزبهان وإخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار‏.‏

وحظيت الأتراك عند معز الدولة وانحطت رتبة الديلم عنده، لأنه ظهر له خيانتهم في أمر الروزبهان وإخوته‏.‏

وفيها‏:‏ دخل سيف الدولة إلى بلاد الروم فقتل وسبى ورجع إلى حلب، فحميت الروم فجمعوا وأقبلوا إلى ميافارقين فقتلوا وسبوا وحرقوا ورجعوا، وركبوا في البحر إلى طرسوس فقتلوا من أهلها ألفاً وثمانمائة وسبوا وحرقوا قرى كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ زلزلت همذان زلزالاً شديداً تهدمت البيوت وانشق قصر شيرين بصاعقة، ومات تحت الهدم خلق كثير لا يحصون كثرة، ووقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قم بسبب سب الصحابة من أهل قم، فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ونهبوا أموال التجار، فغضب ركن الدولة لأهل قم، لأنه كان شيعياً، فصادر أهل أصبهان بأموال كثيرة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 غلام ثعلب

محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمرو الزاهد غلام ثعلب، روى عن الكديمي وموسى بن سهل الوشاء وغيرهما، روى عنه جماعة، وآخر من حدث عنه أبو علي بن شاذان وكان كثير العلم والزهد حافظاً مطيقاً يملي من حفظه شيئاً كثيراً، ضابطاً لما يحفظه‏.‏

ولكثرة إغرابه اتهمه بعض الرواة ورماه بالكذب، وقد اتفق له مع القاضي أبي عمر حكاية - وكان يؤدب ولده - فإنه أملى من حفظه ثلاثين مسألة بشواهدها وأدلتها من لغة العرب، واستشهد على بعضها ببيتين غريبين جداً، فعرضهما القاضي أبو عمر على ابن دريد وابن الأنباري وابن مقسم، فلم يعرفوا منهما شيئاً‏.‏

حتى قال ابن دريد‏:‏ هذا ما وضعه أبو عمرو من عنده، فلما جاء أبو عمرو ذكر له القاضي ما قال ابن دريد عنه، فطلب أبو عمرو أن يحضر له من كتبه دواوين العرب‏.‏

فلم يزل أبو عمرو يعمد إلى كل مسألة ويأتيه بشاهد بعد شاهد حتى خرج من الثلاثين مسألة ثم قال‏:‏ وأما البيتان فإن ثعلباً أنشدناهما وأنت حاضر فكتبتهما في دفترك الفلاني، فطلب القاضي دفتره فإذا هما فيه، فلما بلغ ذلك ابن دريد كف لسانه عن أبي عمرو الزاهد فلم يذكره حتى مات‏.‏

توفي أبو عمرو هذا يوم الأحد ودفن يوم الاثنين الثالث عشر من ذي القعدة، ودفن في الصفة المقابلة لقبر معروف الكرخي ببغداد رحمه الله‏.‏

 محمد بن علي بن أحمد بن رستم

أبو بكر المادرائي الكاتب، ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين بالعراق، ثم صار إلى مصر هو وأخوه أحمد مع أبيهما، وكان على الخراج لخمارويه بن أحمد بن طولون، ثم صار هذا الرجل من رؤوساء الناس وأكابرهم، سمع الحديث من أحمد بن عبد الجبار وطبقته‏.‏

وقد روى الخطيب عنه أنه قال‏:‏ كان ببابي شيخ كبير من الكتّاب قد تعطل عن وظيفته، فرأيت والدي في المنام وهو يقول‏:‏ يا بني أما تتقي الله‏؟‏أنت مشغول بلذاتك والناس ببابك يهلكون من العرى والجوع، هذا فلان قد تقطع سراويله ولا يقدر على إبداله، فلا تهمل أمره‏.‏

فاستيقظت مذعوراً وأنا أناوله الإحسان، ثم نمت فأنسيت المنام، فبينا أنا أسير إلى دار الملك، فإذا بذلك الرجل الذي ذكره على دابة ضعيفة، فلما رآني أراد أن يترجل لي فبدا لي فخذه وقد لبس الخف بلا سراويل، فلما رأيت ذلك ذكرت المنام فاستدعيت به وأطلقت له ألف دينار وثياب، ورتبت له على وظيفته مائتي دينار كل شهر، ووعدته بخير في الآجل أيضاً‏.‏

 أحمد بن محمد بن إسماعيل

ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، الشريف الحسني الرسي - أبو القاسم المصري الشاعر - كان نقيب الطالبين بمصر ومن شعره قوله‏:‏ ‏

قالت‏:‏ لطيف خيال زارني ومضى * بالله صفه، ولا تنقص ولا تزد

فقلت‏:‏ أبصرته لو مات من ظمأ * وقال‏:‏ قف لا ترد الماء لم يرد

قالت‏:‏ صدقت، وفاء الحب عادته * يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

توفي ليلة الثلاثاء لخمس بقين من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ وقعت فتنة بين أهل الكرخ وأهل السنة بسبب السب، فقتل من الفريقين خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ نقص البحر المالح ثمانين ذراعاً‏.‏

ويقال‏:‏ باعاً، فبدت به جبال وجزائر وأماكن لم تكن ترى من قبل ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كان بالعراق وبلاد الري والجبل وقم ونحوها زلازل كثيرة مستمرة نحو أربعين يوماً، تسكن ثم تعود، فتهدمت بسبب ذلك أبنية كثيرة وغارت مياه كثيرة، ومات خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ تجهز معز الدولة بن بويه لقتال ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فراسله ناصر الدولة والتزم له بأموال يحملها إليه كل سنة، فسكت عنه، ثم إنه مع ما اشترط على نفسه لم يرجع عنه معز الدولة، بل قصده في السنة الآتية كما سيأتي بيانه‏.‏

وفي تشرين منها كثرت في الناس أورام في حلوقهم ومناخرهم، وكثر فيهم موت الفجأة، حتى إن لصاً نقب داراً ليدخلها فمات وهو في النقب‏.‏

ولبس القاضي خلعة القضاء ليخرج للحكم فلبس إحدى خفيه فمات قبل أن يلبس الأخرى‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عبد الله بن الحسين

أبو هريرة العذري، المستملي على المشايخ، كتب عن أبي مسلم الكجي وغيره، وكان ثقة توفي في ربيع الأول منها‏.‏

 الحسن بن خلف بن شاذان

أبو علي الواسطي روى عن إسحاق الأزرق ويزيد بن هارون وغيرهما، وروى عنه البخاري في صحيحه‏.‏

توفي في هذه السنة‏.‏

هكذا رأيت ابن الجوزي ذكر هذه الترجمة في هذه السنة في ‏(‏منتظمه‏)‏والله أعلم‏.‏ ‏

 أبو العباس الأصم

محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان بن عبد الله الأموي مولاهم أبو العباس الأصم، مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين، رأى الذهلي ولم يسمع ولم يسمع منه، ورحل به أبوه إلى أصبهان ومكة ومصر والشام والجزيرة وبغداد وغيرها من البلاد، فسمع الكثير بها عن الجم الغفير، ثم رجع إلى خراسان وهو ابن ثلاثين سنة، وقد صار محدثاً كبيراً، ثم طرأ عليه الصمم فاستحكم حتى كان لا يسمع نهيق الحمار، وكان مؤذناً في مسجده ثلاثين سنة، وحدث ستاً وسبعين سنة، فألحق الأحفاد بالأجداد، وكان ثقة صادقاً ضابطاً لما سمعه ويسمعه، كف بصره قبل موته بشهر، وكان يحدث من حفظه بأربعة عشر حديثاً، وسبع حكايات ومات وقد بقي له سنة من المائة‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ كانت زلزلة ببغداد في شهر نيسان وفي غيرها من البلاد الشرقية، فمات بسببها خلق كثير، وخربت دور كثير، وظهر في آخر نيسان وشهر أيار جراد كثير أتلف الغلات الصيفية والثمار‏.‏

ودخلت الروم آمد، وميّا فارقين فقتلوا ألفاً وخمسمائة إنسان، وأخذوا مدينة سمساط وأخربوها‏.‏

وفي المحرم منها ركب معز الدولة إلى الموصل فأخذها من يد ناصر الدولة، وهرب ناصر الدولة إلى نصيبين، ثم إلى ميا فارقين، فلحقه معز الدولة فصار إلى حلب إلى عند أحيه سيف الدولة، ثم أرسل سيف الدولة إلى معز الدولة في المصالحة بينه وبين أخيه، فوقع الصلح على أن يحمل ناصر الدولة في كل سنة ألفي ألف وتسعمائة ألف، ورجع معز الدولة إلى بغداد بعد انعقاد الصلح، وقد امتلأت البلاد رفضاً وسبّاً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد، كانوا رفضاً، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة‏.‏

وفيها‏:‏ بعث المعز الفاطمي مولاه أبا الحسن جوهر القائد في جيوش معه ومعه زيري بن هناد الصنهاجي ففتحوا بلاداً كثيرة من أقصى بلاد المغرب، حتى انتهوا إلى البحر المحيط، فأمر جوهر بأن يصطاد له منه سمك، فأرسل به في قلال الماء إلى المعز الفاطمي، وحظي عنده جوهر وعظم شأنه حتى صار بمنزلة الوزير‏.‏ ‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

الزبير بن عبد الرحمن

ابن محمد بن زكريا بن صالح بن إبراهيم‏.‏

أبو عبد الله الاستراباذي، رحل وسمع الحديث وطوف الأقاليم، سمع الحسن بن سفيان وابن خزيمة وأبا يعلى وخلقاً، وكان حافظاً متقناً صدوقاً، صنف الشروح والأبواب‏.‏

 أبو سعيد بن يونس

صاحب تاريخ مصر، هو عبد الرحمن بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري المؤرخ، كان حافظاً مكثراً خبيراً بأيام الناس وتواريخهم، له تاريخ مفيد جداً لأهل مصر ومن ورد إليها‏.‏

وله ولد يقال له‏:‏ أبو الحسن علي، كان منجماً له زيج مفيد يرجع إليه أصحاب هذا الفن، كما يرجع أصحاب الحديث إلى أقوال أبيه وما يؤرخه وينقله ويحكيه، ولد الصدفي سنة إحدى وثمانين ومائتين، وتوفي في هذه السنة يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة في القاهرة‏.‏

 ابن درستويه النحوي

عبد الله بن جعفر بن دُرُستويه بن المرزبان أبو محمد الفارسي النحوي سكن بغداد وسمع عباساً الدوري وابن قتيبة والمبرّد، وسمع منه الدارقطني وغيره من الحافظ، وأثنى عليه غير واحد، منهم أبو عبد الله بن منده، توفي في صفر منها، وذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة مفيدة، فيما يتعلق باللغة والنحو وغيره‏.‏

 محمد بن الحسن

ابن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الأموي قاضي بغداد، كان حسن الأخلاق طلابة للحديث، ومع هذا كان ينسب إلى أخذ الرشوة في الأحكام والولايات رحمه الله‏.‏

 محمد بن علي

أبو عبد الله الهاشمي الخاطب الدمشقي‏.‏

وأظنه الذي تنسب إليه حارة الخاطب من نواحي باب الصغير، كان خطيب دمشق في أيام الأخشيد، وكان شاباً حسن الوجه مليح الشكل، كامل الخلق‏.‏ ‏

توفي يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير لا يحصون كثرة، هكذا أرخه ابن عساكر، ودفن بباب الصغير‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ كانت فتنة بين الرافضة وأهل السنة، قتل فيها خلق كثير، ووقع حريق بباب الطاق، وغرق في دجلة خلق كثير من الحجاج الموصل نحو من ستمائة نفس‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت الروم طرسوس والرها وقتلوا وسبوا، وأخذوا الأموال ورجعوا‏.‏

وفيها‏:‏ قلت الأمطار وغلت الأسعار واستسقى الناس فلم يسقوا، وظهر جراد عظيم في آذار فأكل ما نبت من الخضراوات، فاشتد الأمر جداً على الخلق فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

وفيها‏:‏ عاد معز الدولة إلى بغداد من الموصل وزوج ابنته من ابن أخيه مؤيد الدولة بن معز الدولة، وسيرها معه إلى بغداد‏.‏

 وممن توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن شيبان القرميسيني

شيخ الصوفية بالجبل، صحب أبا عبد الله المغربي‏.‏

ومن جيد كلامه قوله‏:‏ إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد عنه الرغبة في الدنيا‏.‏

 أبو بكر النجاد

أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر النجاد الفقيه، أحد أئمة الحنابلة ولد سنة ثلاث وخمسين ومائتين، سمع عبد الله بن أحمد وأبا داود، والباغندي وابن أبي الدنيا وخلقاً كثيراً، وكان يطلب الحديث ماشياً حافياً، وقد جمع المسند وصنف في السنن كتاباً كبيراً، وكان له بجامع المنصور حلقتان، واحدة للفقه وأخرى لإملاء الحديث‏.‏

وحدث عنه الدارقطني وابن رزقويه وابن شاهين وأبو بكر بن مالك القطيعي وغيرهم، وكان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويعزل منه لقمة، فإذا كانت ليلة الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف صحيحاً‏.‏

توفي ليلة الجمعة لعشرين من ذي الحجة عن خمس وتسعين سنة، ودفن قريباً من قبر بشر الحافي رحمه الله‏.‏

 جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم

أبو محمد الخواص المعروف بالخلدي، سمع الكثير وحدث كثيراً، وحج ستين حجة، وكان ثقة صدوقاً ديناً‏.‏ ‏

 محمد بن إبراهيم بن يوسف بن محمد

أبو عمر الزجاج النيسابوري، صحب أبا عثمان والجنيد والنوري والخواص وغيرهم، وأقام بمكة وكان شيخ الصوفية بها، وحج ستين حجة، ويقال‏:‏ إنه مكث أربعين سنة لم يتغوط ولم يبل إلا خارج الحرم بمكة‏.‏

 محمد بن جعفر بن محمد بن فضالة

ابن يزيد بن عبد الملك أبو بكر الأدمي، صاحب الألحان، كان حسن الصوت بتلاوة القرآن وربما سمع صوته من بعد في الليل، وحج مرة مع أبي القاسم البغوي، فلما كانوا بالمدينة دخلوا المسجد النبوي فوجدوا شيخاً أعمى يقص على الناس أخباراً موضوعة مكذوبة، فقال البغوي‏:‏ ينبغي الإنكار عليه‏.‏

فقال له بعض أصحابه‏:‏ إنك لست ببغداد يعرفك الناس إذا أنكرت عليه، ومن يعرفك هنا قليل والجمع كثير، ولكن نرى أن تأمر أبا بكر الأدمي فيقرأ، فأمره فاستفتح فقرأ فلم يتم الاستعاذة حتى انجفل الناس عن ذلك الأعمى وتركوه، وجاؤوا إلى أبي بكر ولم يبق عند الضرير أحد، فأخذ الأعمى بيد قائده وقال له‏:‏ اذهب بنا فهكذا تزول النعم‏.‏

توفي في الأربعاء لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏

قال‏:‏ وقفني بين يديه وقاسيت شدائد وأهوالاً‏.‏

فقلت له‏:‏ فتلك القراءة الحسنة وذلك الصوت الحسن وتلك المواقف‏؟‏

فقال‏:‏ ما كان شيء أضر علي من ذلك، لأنها كانت للدنيا‏.‏

فقلت‏:‏ إلى أي شيء انتهى أمرك‏؟‏

فقال‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين‏.‏

 أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي

ابن الحسن بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المصري، كان من ساداتها وكبرائها، لا تزال الحلوى تعقد بداره، ولا يزال رجل يكسر اللوز بسببها، وللناس عليه رواتب من الحلوى، فمنهم من يهدي إليه كل يوم، ومنهم في الجمعة، ومنهم في الشهر‏.‏

وكان لكافرو الأخشيد عليه في كل يوم جامان ورغيف من الحلوى، ولما قدم المعز الفاطمي إلى القاهرة وتلقاه سأله‏:‏ إلى من ينتسب مولانا من أهل البيت‏؟‏

فقال‏:‏ الجواب إلى أهل البلد، فلما دخل القصر جمع الأشارف وسلّ نصف سيفه وقال‏:‏ هذا نسبي، ثم نثر عليهم الذهب وقال‏:‏ هذا حسبي‏.‏

فقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏

والصحيح أن القائل للمعز هذا الكلام ابن هذا أو شريف آخر فالله أعلم‏.‏

فإن وفاة هذا كانت في هذا العام عن ثنتين وستين سنة، والمعز إنما قدم مصر في سنة ثنتين وستين وثلاثمائة كما سيأتي‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ ظهر رجل بأذربيجان من أولاد عيسى بن المكتفي بالله فلقب بالمتسجير بالله ودعا إلى الرضا من آل محمد، وذلك لفساد دولة المرزبان في ذلك الزمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزم أصحاب المستجير وأخذ أسيراً فمات، واضمحل أمره‏.‏

وفيها‏:‏ دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم فقتل من أهلها خلقاً كثيراً، وفتح حصوناً، وأحرق بلداناً كثيرة، وسبى وغنم وكر راجعاً، فأخذت الروم عليه فمنعوه من الرجوع ووضعوا السيف في أصحابه فما نجا هو في ثلاثمائة فارس إلا بعد جهد جهيد‏.‏

وفيها‏:‏ كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة قتل فيها خلق كثير، وفي أخرها توفي أنوجور بن الأخشيد صاحب مصر، فأقام بالأمر بعده أخوه علي‏.‏

وفيها‏:‏ مات أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي الذي كان صاحب الأهواز وواسط‏.‏

وفيها‏:‏ رجع حجيج مصر من مكة فنزلوا وادياً، فجاءهم سيل فأخذهم فألقاهم في البحر عن آخرهم‏.‏

وفيها‏:‏ أسلم من الترك مائتا ألف خركاة فسموا ترك إيمان، ثم خفف اللفظ بذلك فقيل‏:‏ تركمان‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 جعفر بن حرب الكاتب

كانت له نعمة وثروة عظيمة تقارب أبهة الوزارة، فاجتاز يوماً وهو راكب في موكب له عظيم، فسمع رجلاً يقرأ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏

فصاح‏:‏ اللهم بلى، وكررها دفعات ثم بكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دجلة، فاستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرّق جميع أمواله في المظالم التي كانت عليه، وردها إلى أهلها، وتصدق بالباقي ولم يبق له شيء بالكلية، فاجتاز به رجل فتصدق عليه بثوبين فلبسهما، وخرج فانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات رحمه الله‏.‏

 أبو علي الحافظ

ابن علي بن يزيد بن داود أبو علي الحافظ النيسابوري، أحد أئمة الحفاظ المتقنين المصنفين‏.‏ ‏قال الدارقطني‏:‏ كان إماماً مهذباً‏.‏

وكان ابن عقدة لا يتواضع لأحد كتواضعه له‏.‏

توفي في جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة‏.‏

حسان بن محمد بن أحمد بن مروان

أبو الوليد القرشي الشافعي إمام أهل الحديث بخراسان في زمانه، وأزهدهم وأعبدهم، أخذ الفقه عن ابن سريج وسمع الحديث من الحسن بن سفيان وغيره، وله التصانيف المفيدة، وقد ذكرنا ترجمته في الشافعيين‏.‏

كانت وفاته ليلة الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول من هذه السنة، عن ثنتين وسبعين سنة‏.‏

 حمد بن إبراهيم بن الخطاب

أبو سليمان الخطابي، سمع الكثير وصنف التصانيف الحسان، منها ‏(‏المعالم‏)‏ شرح فيها سنن أبي داود، ‏(‏والأعلام‏)‏ شرح فيه البخاري، و‏(‏غريب الحديث‏)‏‏.‏

وله فهم مليح وعلم غزير ومعرفة باللغة والمعاني والفقه‏.‏

ومن أشعاره قوله‏:‏

ما دمت حياً فدار الناس كلهم * فإنما أنت في دار المداراة

من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى * عما قليل نديما للندامات

هكذا ترجمه أبو الفرج بن الجوزي حرفاً بحرف‏.‏

عبد الواحد بن عمر بن محمد

ابن أبي هاشم، كان من أعلم الناس بحروف القراءات، وله في ذلك مصنفات، وكان من الأمناء الثقات، روى عن ابن مجاهد وأبي بكر بن أبي داود، وعنه أبو الحسن الحماني، توفي في شوال منها، ودفن بمقبرة الخيزران‏.‏

 أبو أحمد العسال

الحافظ محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد أبو أحمد العسال الأصبهاني، أحد الأئمة الحفاظ وأكابر العلماء، سمع الحديث وحدث به‏.‏ ‏

قال ابن منده‏:‏ كتبت عن ألف شيخ لم أر أفهم ولا أتقن من أبي أحمد العسال‏.‏

توفي في رمضان منها رحمه الله، والله سبحانه أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة

في المحرم منها مرض معز الدولة بن بويه بانحصار البول، فقلق من ذلك وجمع بين صاحبه سبكتكين ووزيره المهلبي وأصلح بينهما ووصاهما بولده بختيار خيراً، ثم عوفي من ذلك فعزم على الرحيل إلى الأهواز لاعتقاده أن ما أصابه من هذه العلة بسبب هواء بغداد ومائها، فأشاروا عليه بالمقام بها، وأن يبني بها داراً في أعلاها حيث الهواء أرق والماء أصفى، فبنى له داراً غرم عليه ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج لذلك أن يصادر بعض أصحابه، ويقال‏:‏ أنفق عليها ألفي ألف دينار، ومات وهو يبني فيها ولم يسكنها، وقد خرب أشياء كثيرة من معالم الخلفاء ببغداد في بنائها‏.‏

وكان مما خرب المعشوق من سر من رأى، وقلع الأبواب الحديد التي على مدينة المنصور والرصافة وقصورها، وحولها إلى داره هذه، لا تمت فرحته بها، فإنه كان رافضياً خبيثاً‏.‏

وفيها‏:‏ مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبد الله وقبضت أملاكه، وولى بعده القضاء أبو عبد الله الحسين بن أبي الشوارب، وضمن أن يؤدي في كل سنة إلى معز الدولة مائتي ألف درهم، فخلع عليه معز الدولة وسار ومعه الدبابات والبوقات إلى منزله، وهو أول من ضمن القضاء ورشى عليه والله أعلم‏.‏

ولم يأذن له الخليفة المطيع لله في الحضور عنده ولا في حضور الموكب من أجل ذلك غضباً عليه، ثم ضمن معز الدولة الشرطة وضمن الحسبة أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ سار قفل من أنطاكية يريدون طرسوس، وفيهم نائب أنطاكية، فثار عليهم الفرنج فأخذوهم عن بكرة أبيهم، فلم يفلت منهم سوى النائب جريحاً في مواضع من بدنه‏.‏

وفيها‏:‏ دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم فقتل وسبى وغنم ورجع سالماً‏.‏

 وفيها توفي الأمير‏:‏

 نوح بن عبد الملك الساماني

صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر، سقط عن فرسه فمات، فقام بالأمر من بعده أخوه منصور بن نوح الساماني‏.‏ ‏

وفيها توفي‏:‏

 الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي

صاحب الأندلس، وكانت خلافته خمسين سنة وستة أشهر، وله من العمر يوم مات ثلاث وسبعون سنة، وترك أحد عشر ولداً، كان أبيض حسن الوجه عظيم الجسم طويل الظهر قصير الساقين، وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين من أولاد الأمويين الداخلين إلى المغرب، وذلك حين بلغه ضعف الخلفاء بالعراق، وتغلب الفاطميين، فتلقب قبل موته بثلاث وعشرين سنة‏.‏

ولما توفي قام بالأمر من بعده ولده الحكم وتلقب بالمنتصر، وكان الناصر شافعي المذهب ناسكاً شاعراً، ولا يعرف في الخلفاء أطول مدة منه، فإنه أقام خليفة خمسين سنة، إلا الفاطمي المستنصر بن الحاكم الفاطمي صاحب مصر، فإنه مكث ستين كما سيأتي ذلك‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو سهل بن زياد القطان

أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد أبو سهل القطان، كان ثقة حافظاً كثير التلاوة للقرآن، حسن الانتزاع للمعاني من القرآن، فمن ذلك‏:‏ أنه استدل على تكفير المعتزلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏‏.‏

إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن بيان أبو محمد الحطبي

سمع الحديث من ابن أبي أسامة و عبد الله بن أحمد والكوكبي وغيرهم، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة حافظاً فاضلاً نبيلاً عارفاً بأيام الناس، وله تاريخ مرتب على السنين، وكان أدبياً لبيباً عاقلاً صدوقاً، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، عن إحدى وثمانين سنة‏.‏

 أحمد بن محمد بن سعيد

ابن عبيد الله بن أحمد بن سعيد بن أبي مريم أبو بكر القرشي الوراق، ويعرف بابن فطيس، وكان حسن الكتابة مشهوراً بها، وكان يكتب الحديث لابن جوصا، ترجمه ابن عساكر وأرخ وفاته بثاني شوال من هذه السنة‏.‏

 تمام بن محمد بن عباس

ابن عبد المطلب أبو بكر الهاشمي العباسي، حدث عن عبد الله بن أحمد، وعنه ابن رزقويه، توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة‏.‏

 الحسين بن القاسم

أبو علي الطبري الفقيه الشافعي، أحد الأئمة المحررين في الخلاف، وهو أول من صنف فيه، وله ‏(‏الإيضاح في المذهب‏)‏، وكتاب في الجدل، وفي أصول الفقه وغير ذلك من المصنفات، وقد ذكرناه في الطبقات‏.‏

 عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم

ابن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور الهاشمي الإمام، ويعرف بابن بويه، ولد سنة ثلاث وستين ومائتين، روى عن ابن أبي الدنيا وغيره، وعنه ابن رزقويه، وكان خطيباً بجامع المنصور مدة طويلة، وقد خطب فيه سنة ثلاثين وثلاثمائة وقبلها تمام سنة، ثم خطب فيه الواثق سنة ثلاثين ومائتين وهما في النسب إلى المنصور سواء‏.‏

توفي في صفر منها‏.‏

 عتبة بن عبد الله

بن موسى بن عبد الله أبو السائب القاضي الهمذاني الشافعي، كان فاضلاً بارعاً، ولي القضاء، وكان فيه تخليط في الأمور، وقد رآه بعضهم بعد موته فقال‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏

قال‏:‏ غفر لي وأمر بي إلى الجنة على ما كان مني من التخليط، وقال لي‏:‏ إني كتبت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين‏.‏

وهذا الرجل أول من ولي قضاء القضاة ببغداد من الشافعية والله أعلم‏.‏

 محمد بن أحمد بن حيان

أبو بكر الدهقان، بغدادي، سكن بخارى وحدث بها عن يحيى بن أبي طالب، والحسن بن مكرم وغيرهما، وتوفي عن سبع وثمانين سنة‏.‏

 أبو علي الخازن

توفي في شعبان منها فوجد في داره من الدفائن وعند الناس من الودائع ما قارب أربعمائة ألف دينار، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة

فيها‏:‏ كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله، في مائتي ألف مقاتل، وكان سبب ذلك‏:‏ أنه ورد إليها بغتة فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر عنده من المقاتلة، فلم يقو به لكثرة جنوده، وقتل من أصحاب سيف الدولة خلقاً كثيراً، وكان سيف الدولة قليل الصبر ففرّ منهزماً في نفر يسير من أصحابه‏.‏

فأول ما استفتح به الدمستق قبحه الله أن استخوذ على دار سيف الدولة، وكانت ظاهر حلب، فأخذ ما فيها من الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة، والعدد وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم‏.‏

ثم حاصر سور حلب فقاتل أهل البلد دونه قتالاً عظيماً، وقتلوا خلقاً كثيراً من الروم، وثلمت الروم بسور حلب ثلمة عظيمة، فوقف فيها الروم فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلما جنّ الليل جد المسلمون في إعادتها فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت، وحفظوا السور حفظاً عظيماً‏.‏

ثم بلغ المسلمون أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم قبحهم الله، فإنهم أهل شر وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من لقوه، فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً وانتهبوا الأموال وأخذوا الأولاد والنساء‏.‏

وخلصوا من كان بأيدي المسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فأخذ الأسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم، وأسروا نحواً من بضعة عشر ألفاً ما بين صبي وصبية، ومن النساء شيئاً كثيراً، ومن الرجال الشباب ألفين، وخربوا المساجد وأحرقوها، وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض، وأهلكوا كل شيء قدروا عليه، وكل شيء لا يقدرون على حمله أحرقوه‏.‏

وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله‏.‏

وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضياً يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب، ثم عزم الدمستق على الرحيل عنهم خوفاً من سيف الدولة، فقال له ابن أخيه‏:‏ أين تذهب وتدع القلعة وأموال الناس غالبها فيها ونساؤهم‏؟‏

فقال له الدمستق‏:‏ إنا قد بلغنا فوق ما كنا نأمل، وإن بها مقاتلة ورجالاً غزاة‏.‏

فقال له‏:‏ لا بد لنا منها‏.‏

فقال له‏:‏ اذهب إليها، فصعد إليها في جيش ليحاصرها فرموه بحجر فقتلوه في الساعة الراهنة من بين الجيش كله، فغضب عند ذلك الدمستق وأمر بإحضار من في يديه من أسارى المسلمين، وكانوا قريباً من ألفين فضربت أعناقهم بين يديه لعنه الله‏.‏

ثم كر راجعاً وقد دخلوا عين زربة قبل ذلك في المحرم من هذه السنة، فأستأمنه أهلها فأمنهم وأمر بأن يدخلوا كلهم المسجد ومن بقي في منزله قتل، فصاروا إلى المسجد كلهم ثم قال‏:‏ لا يبقين أحد من أهلها اليوم إلا ذهب حيث شاء، ومن تأخر قتل‏.‏

فازدحموا في خروجهم من المسجد فمات كثير منهم، وخرجوا على وجوههم لا يدرون أين يذهبون، فمات في الطرقات منهم خلق كثير‏.‏

ثم هدم الجامع وكسر المنبر وقطع من حول البلد أربعين ألف نخلة، وهدم سور البلد والمنازل المشار إليها، وفتح حولها أربعة وخمسين حصناً بعضها بالسيف وبعضها بالأمان، وقتل الملعون خلقاً كثيراً، وكان في جملة من أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان نائب منبج من جهة سيف الدولة، وكان شاعراً مطيقاً، له ديوان شعر حسن، وكان مدة مقامه بعين زربة إحدى وعشرين يوماً‏.‏ ‏

ثم سار إلى قيسرية فلقيه أربعة آلاف من أهل طرسوس مع نائبها ابن الزيات، فقتل أكثرهم وأدركه صوم النصارى فاشتغل به حتى فرغ منه، ثم هجم على حلب بغتة، وكان من أمره ما ذكرناه‏.‏

وفيها‏:‏ كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد‏:‏ لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكتبوا أيضاً‏:‏ ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر ومن أخرج العباس من الشورى - يعنون عمر - ومن نفى أبا ذر - يعنون عثمان - رضي الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده - يعنون مروان بن الحكم -‏.‏

ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه‏:‏ لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين، والتصريح باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون‏.‏

وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم وتركهم أنبياءهم وعلمائهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام بلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع‏.‏

والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة عظيمة بين أهل البصرة بسبب السب أيضاً، قتل فيها خلق كثير وجم غفير‏.‏

وفيها‏:‏ أعاد سيف الدولة بن حمدان بناء عين زربة، وبعث مولاه نجا فدخل بلاد الروم، فقتل منها خلقاً كثيراً وسبى جماً غفيراً، وغنم وسلم‏.‏

وبعث حاجبه مع جيش طرسوس فدخلوا بلاد الروم فغنموا وسبوا ورجعوا سالمين‏.‏

وفيها‏:‏ فتح المعز الفاطمي حصن طبرمين من بلاد المغرب - وكان من أحصن بلاد الفرنج - فتحه قسراً بعد محاصرة سبعة أشهر ونصف، وقصد الفرنج جزيرة إقريطش فاستنجد أهلها المعز، فأرسل إليهم جيشاً فانتصروا على الفرنج ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن محمد بن هارون

المهلبي الوزير لمعز الدولة بن بويه، مكث وزيراً له ثلاث عشرة سنة، وكان فيه حلم وكرم وأناة، حكى أبو إسحاق الصابي قال‏:‏ كنت يوماً عنده وقد جيء بدواة قد صنعت له ومرفع قد حليا له بحلية كثيرة، فقال أبو محمد الفضل بن عبد الله الشيرازي - سراً بيني وبينه -‏:‏ ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأنتفع بها‏.‏

قلت‏:‏ وأي شيء ينتفع الوزير بها‏؟‏

فقال‏:‏ تدخل في خزانتها‏.‏

فسمعها الوزير - وكان مصغ لنا ولا نشعر - فلما أمسى بعث بالدواة إلى أبي محمد الشيرازي ومرفعها وعشرة ثياب وخمسة آلاف درهم، واصطنع له غيرها‏.‏

فاجتمعنا يوماً آخر عنده وهو يوقع من تلك الدواة الجديدة، فنظر إلينا فقال‏:‏ من يريدها منكما‏؟‏

قال‏:‏ فاستحيينا وعلمنا أنه قد سمع كلامنا ذلك اليوم، وقلنا‏:‏ يمتع الله الوزير بها ويبقيه ليهب لنا مثلها‏.‏

توفي المهلبي في هذه السنة عن أربع وستين سنة‏.‏

دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن

أبو محمد السجستاني المعدل، سمع بخراسان وحلوان وبغداد والبصرة والكوفة ومكة، وكان من ذوي اليسار والمشهورين بالبر والأفضال، وله صدقات جارية، وأوقاف دارة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان‏.‏

كانت له دار عظيمة ببغداد، وكان يقول‏:‏ ليس في الدنيا مثل بغداد، ولا في بغداد مثل القطيعة، ولا في القطيعة مثل دار أبي خلف، ولا في دار أبي خلف مثل داري‏.‏

وصنف الدارقطني له مسنداً‏.‏

وكان إذا شك في حديث طرحه جملة، وكان الدارقطني يقول‏:‏ ليس في مشايخنا أثبت منه، وقد أنفق في ذوي العلم والحاجات أموالاً جزيلة كثيرة جداً‏.‏

اقترض منه بعض التجار عشرة آلاف دينار، فاتجر بها، فربح في مدة ثلاث سنين ثلاثين ألف دينار، فعزل منها عشرة آلاف دينار وجاءه بها فأضافه دعلج ضيافة حسنة، فلما فرغ من شأنها قال له‏:‏ ما شأنك‏؟‏

قال له‏:‏ هذه العشرة آلاف دينار التي تفضلت بها، قد أحضرت‏.‏

فقال‏:‏ يا سبحان الله، إني لم أعطكها لتردها فصل بها الأهل‏.‏

فقال‏:‏ إني قد ربحت بها ثلاثين ألف دينار فهذه منها‏.‏

فقال له دعلج‏:‏ اذهب بارك الله لك‏.‏

فقال له‏:‏ كيف يتسع ما لك هذا‏؟‏ومن أين أفدت هذا المال‏؟‏

قال‏:‏ إني كنت في حداثة سني أطلب الحديث، فجاءني رجل تاجر من أهل البحر فدفع إلي ألف ألف درهم، وقال‏:‏ اتجر في هذه، فما كان من ربح فبيني وبينك، وما كان من خسارة فعلي دونك، وعليك عهد الله وميثاقه إن وجدت ذا حاجة أو خلة إلا سددتها من مالي هذا دون مالك، ثم جاءني فقال‏:‏ إني أريد الركوب في البحر فإن هلكت فالمال في يدك على ما شرطت عليك‏.‏

فهو في يدي على ما قال‏.‏

ثم قال لي‏:‏ لا تخبر بها أحداً مدة حياتي، فلم أخبر به أحداً حتى مات‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن أربع أو خمس وتسعين سنة، رحمه الله‏.‏ ‏

 عبد الباقي بن قانع

ابن مرزوق أبو الحسن الأموي مولاهم، سمع الحارث بن أسامة، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة أميناً حافظاً، ولكنه تغير في آخر عمره‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ كان يخطئ ويصر على الخطأ، توفي في شوال منها‏.‏

 أبو بكر النقاش المفسر

محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون بن جعفر، أبو بكر النقاش المفسر المقرئ، مولى أبي دُجانة سمِاك بن خَرَشة، أصله من الموصل، كان عالماً بالتفسير وبالقراءات، وسمع الكثير في بلدان شتى عن خلق من المشايخ، وحدث عنه أبو بكر بن مجاهد والخلدي وابن شاهين وابن زرقويه وخلق، وآخر من حدث عنه ابن شاذان، وتفرد بأشياء منكرة، وقد وثقه الدارقطني على كثير من خطئه ثم رجع عن ذلك، وصرح بعضهم بتكذيبه والله أعلم‏.‏

وله كتاب التفسير الذي سماه ‏(‏شفاء الصدور‏)‏ وقال بعضهم‏:‏ بل هو سقام الصدور، وقد كان رجلاً صالحاً في نفسه عابداً ناسكاً، حكى من حضره وهو يجود بنفسه وهو يدعو بدعاء ثم رفع صوته يقول‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 61‏]‏‏.‏ يرددها ثلاث مرات ثم خرجت روحه رحمه الله‏.‏

توفي يوم الثلاثاء الثاني من شوال منها ودفن بداره بدار القطن‏.‏

محمد بن سعيد أبو بكر الحربي الزاهد، ويعرف بابن الضرير، كان ثقة صالحاً عابداً‏.‏

ومن كلامه‏:‏ دافعت الشهوات حتى صارت شهوتي المدافعة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه قبحه الله أن تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر، وأن يخرجن في الأسواق حاسرات عن وجههن، ناشرات شعورهم يلطمن وجوههن ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يمكن أهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم، وكون السلطان معهم‏.‏

وفي عشر ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد، وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد، وأن تضرب الدبادب والبوقات، وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط، فرحاً بعيد الغدير - غدير حم - فكان وقتاً عجيباً مشهوداً، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على الرها، فقتلوا وأسروا ورجعوا موقرين، ثم ثارت الروم بملكهم فقتلوه وولوا غيره، ومات الدمستق أيضاً ملك الأرمن واسمه النقفور، وهو الذي أخذ حلب وعمل فيها ما عمل، وولوا غيره‏.‏ ‏

 ترجمة النقفور ملك الأرمن واسمه الدمستق

الذي توفي في سنة ثنتين -وقيل خمس وقيل ست -وخمسين وثلاثمائة لا رحمه الله‏.‏

كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلباً، وأشدهم كفراً، وأقواهم بأساً، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتلاً وقتالاً للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسراً، واستمرت في يديه قهراً، وأضيفت إلى مملكة الروم قدراً‏.‏

وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشو البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام، فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد، فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الأعداء وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستعان‏.‏

وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين، وجال فيها جولة، ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله، وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب، وأخذ أموالها وحواصلها وعددها وبدد شملها، وفرق عددها، واستفحل أمر الملعون بها فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وبالغ في الاجتهاد في قتال الإسلام وأهله، وجدّ في التشمير، فالحكم لله العلي الكبير‏.‏

وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والأطفال، وجعل جامعها اصطبلاً لخيوله، وكسر منابرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله‏.‏

ولم يزل ذلك دأبه وديدنه حتى سلط الله عليه زوجته فقتلته بجواريها في وسط مسكنه‏.‏

وأراح الله منه الإسلام وأهله، وأزاح عنهم قيام ذلك الغمام ومزق شمله، فلله النعمة والأفضال، وله الحمد على كل حال‏.‏

واتفق في سنة وفاته موت صاحب القسطنطينية‏.‏

فتكاملت المسرات وخلصت الأمنية، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتذهب السيئات، وبرحمته تغفر الزلات‏.‏

والمقصود أن هذا اللعين - أعني النقفور الملقب بالدمستق ملك الأرمن - كان قد أرسل قصيدة إلى الخليفة المطيع لله، نظمها له بعض كتّابه ممن كان قد خذله الله وأذله، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وصرفه عن الإسلام وأصله، يفتخر فيها بهذا اللعين ويتعرض لسب الإسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الإسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين، عما قريب من الأعوام، وهو أقل وأذل وأخس وأضل من الأنعام، ويزعم أنه ينتصر لدين المسيح عليه السلام ابن البتول‏.‏

وربما يعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والإكرام، ودوام الصلاة مدى الأيام‏.‏

ولم يبلغني عن أحد من أهل ذلك العصر أنه رد علبه جوابه، إما لأنها لم تشتهر، وإما لأنه أقل من أن يردوا خطابه لأنه كالمعاند الجاحد‏.‏

ونفس ناظمها تدل على أنه شيطان مارد، وقد انتخى للجواب عنها بعد ذلك أبو محمد بن حزم الظاهري‏:‏ فأفاد وأجاد، وأجاب عن كل فصل باطل بالصواب والسداد، فبلّ الله بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه‏.‏ ‏

وها أنا أذكر القصيدة الأرمنية المخذولة الملعونة، وأتبعها بالفريدة الإسلامية المنصورة الميمونة‏.‏

قال المرتد الكافر الأرمني على لسان ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يا رب العالمين‏.‏

ومن خط ابن عساكر كتبتها، وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني‏:‏

من الملك الطهر المسيحي مالك * إلى خلف الأملاك من آل هاشم

إلى الملك الفضيل المطيع أخي العلا * ومن يرتجى للمعضلات العظائم

أما سمعت أذناك ما أنا صانع * ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم

فإن تك عما قد تقلدت نائماً * فإني عما همني غير نائم

ثغوركم لم يبق فيها - لوهنكم * وضعفكم - إلا رسوم المعالم

فتحنا الثغور الأرمنية كلها * بفتيان صدق كالليوث الضراغم

ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها * وتبلغ منها قضمها للشكائم

إلى كل ثغر بالجزيرة آهل * إلى جند قنسرينكم فالعواصم

ملطية مع سميساط من بعد كركر * وفي البحر أضعاف الفتوح التواخم

وبالحدث الحمراء جالت عساكري * وكيسوم بعد الجعفري للمعالم

وكم قد ذللنا من أعزة أهلها * فصاروا لنا من بين عبد وخادم

وسد سروج إذ خربنا بجمعنا * لنا رتبة تعلوا على كل قائم

وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا * بمنديل مولى علا عن وصف آدمي

وصبح رأس العين منا بطارق * ببيض غزوناها بضرب الجماجم

ودارا وميافارقين وأزرنا * أذقناهم بالخيل طعم العلاقم

واقريطش قد جازت إليها مراكبي * على ظهر بحر مزبد متلاطم

فحزتهم أسرى وسقيت نساؤهم * ذوات الشعور المسبلات النواعم

هناك فتحنا عين زربة عنوة * نعم وأبدنا كل طاغ وظالم

إلى حلب حتى استبحنا حريمها * وهدم منها سورها كل هادم

أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم * وصبيانهم مثل المماليك خادم

وقد فر عنها سيف دولة دينكم * وناصركم منا على رغم راغم

وملنا على طرسوس ميلة حازم * أذقنا لمن فيها لحزّ الحلاقم

فكم ذات عز حرة علوية * منعمة الأطراف ريا المعاصم

سبينا فسقنا خاضعات حواسراً * بغير مهور، لا ولا حكم حاكم

وكم من قتيل قد تركنا مجندلاً * يصب دماً بين اللها واللهازم

وكم وقعة في الدرب أفنت كماتكم * وسقناهم قسراً كوسق البهائم

وملنا على أرياحكم وحريمها * مدوخة تحت العجاج السواهم

فأهوت أعاليها وبدل رسمها * من الأنس وحشاً بعد بيض نواعم

إذا صاح فيها البوم جاوبه الصدى * وأتبعه في الربع نوح الحمائم

وإنطاك لم تبعد علي وإنني * سأفتحها يوماً بهتك المحارم

ومسكن آبائي دمشق فإنني * سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي

ومصر سأفتحها بسيفي عنوة * وآخذ أموالاً بها وبهائمي

وأجزي كافوراً بما يستحقه * بمشط ومقراض وقص محاجم

ألا شمروا يا أهل حمدان شمروا * أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم

فإن تهربوا تنجوا كراماً وتسلموا * من الملك الصادي بقتل المسالم

كذاك نصيبين وموصلها إلى * جزيرة آبائي وملك الأقادم

سأفتح سامرا وكوثا وعكبرا * وتكريتها مع ماردين العواصم

وأقتل أهليها الرجال بأسرها * وأغنم أموالاً بها وحرائم

ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم * فكلكم مستضعف غير رائم

رضيتم بحكم الديلمي ورفضه * فصرتم عبيداً للعبيد الديالم

ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا * إلى أرض صنعا راعيين البهائم

وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة * وخلوا بلاد الروم أهل المكارم

سألقي جيوشاً نحو بغداد سائراً * إلى باب طاق حيث دار القماقم

وأحرق أعلاها وأهدم سورها * وأسبي ذراريها على رغم راغم

وأحرز أموالاً بها وأسرّة * وأقتل من فيها بسيف النقائم

وأسري بجيشي نحو الأهواز مسرعاً * لإحراز ديباج وخزّ السواسم

وأشعلها نهباً وأهدم قصورها * وأسبي ذراريها كفعل الأقادم

ومنها إلى شيراز والري فاعلموا * خراسان قصري والجيوش بحارم

إلى شاس بلخ بعدها وخواتها * وفرغانة مع مروها والمخازم

وسابور أهدمها وأهدم حصونها * وأوردها يوماً كيوم السمائم

وكرمان لا أنسى سجستان كلها * وكابلها النائي وملك الأعاجم

أسير بجندي نحو بصرتها التي * لها بحر عجاج رائع متلازم

إلي واسط وسط العراق وكوفة * كما كان يوماً جندنا ذو العزائم

وأخرج منها نحو مكة مسرعاً * أجر جيوشاً كالليالي السواجم

فأملكها دهراً عزيزاً مسلماً * أقيم بها للحق كرسي عالم

وأحوي نجداً كلها وتهامها * وسراً واتهام مذحج وقحاطم

وأغزو يماناً كلها وزبيدها * وصنعاءها مع صعدة والتهائم

فاتركها أيضاً خراباً بلاقعاً * خلاء من الأهلين أهل نعائم

وأحوي أموال اليمانين كلها * وما جمع القرماط يوم محارم

أعود إلى القدس التي شرفت بنا * بعز مكين ثابت الأصل قائم

وأعلو سريري للسجود معظماً * وتبقى ملوك الأرض مثل الخوادم

هنالك تخلو الأرض من كل مسلم * لكل نقي الدين أغلف زاعم

نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم * وأعلنتمو بالمنكرات العظائم

قضاتكم باعوا القضاء بدينهم * كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم

عدو لكم بالزور يشهد ظاهراً * وبالإفك والبرطيل مع كل قائم

سأفتح أرض الله شرقاً ومغرباً * وأنشر ديناً للصليب بصارمي

فعيسى علا فوق السموات عرشه * يفوز الذي والاه يوم التخاصم

وصاحبكم بالتراب أودى به الثرى * فصار رفاتاً بين تلك الرمائم

تناولتم أصحابه بعد موته * بسبّ وقذف وانتهاك المحارم

هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار، ‏{‏يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 52‏]‏ ويوم يدعو ناظمها ثبوراً ويصلى ناراً سعيراً، ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27-29‏]‏‏.‏

إن كان مات كافراً‏.‏

وهذا جوابها لأبي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الأندلسي قالها ارتجالاً حين بلغته هذه الملعونة غضباً لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه وغفر له خطاياه‏.‏

من المحتمي بالله رب العوالم * ودين رسول الله من آل هاشم

محمد الهادي إلى الله بالتقى * وبالرشد والإسلام أفضل قائم

عليه من الله السلام مردداً * إلى أن يوافي الحشر كل العوالم

إلى قائل بالإفك جهلاً وضلة * عن النقفور المفتري في الأعاجم

دعوت إماماً ليس من أمرائه * بكفيه إلا كالرسوم الطواسم

دهته الدواهي في خلافته كما * دهت قبله الأملاك دهم الدواهم

ولا عجب من نكبة أو ملمة * تصيب الكريم الجدود الأكارم

ولو أنه في حال ماضي جدوده * لجرعتم منه سموم الأراقم

عسى عطفة لله في أهل دينه * تجدد منه دارسات المعالم

فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة * لكان بفضل الله أحكم حاكم

إذن لاعترتكم خجلة عند ذكره * وأخرس منكم كل فاه مخاصم

سلبناكم كراً ففزتم بغرة * من الكر أفعال الضعاف العزائم

فطرتم سروراً عند ذاك ونسوة *كفعل المهين الناقص المتعالم

وما ذاك إلا في تضاعيف عقله * عريقاً وصرف الدهر جم الملاحم

ولما تنازعنا الأمور تخاذلاً * ودانت لأهل الجهل دولة ظالم

وقد شعلت فينا الخلائف فتنة * لعبدانهم مع تركهم والدلائم

بكفر أياديهم وجحد حقوقهم * بمن رفعوه من حضيض البهائم

وثبتم على أطرافنا عند ذاكم * وثوب لصوص عند غفلة نائم

ألم تنتزع منكم بأعظم قوة * جميع بلاد الشام ضربة لازم

ومصراً وأرض القيروان بأسرها * وأندلساً قسراً بضرب الجماجم

ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا * صقلية في بحرها المتلاطم

مشاهد تقديساتكم وبيوتها * لنا وبأيدينا على رغم راغم

أما بيت لحم والقمامة بعدها * بأيدي رجال المسلمين الأعاظم

وسر كيسكم قسراً برغم أنوفكم * وكرسيكم في القدس في أدرثاكم

ضممناكم قسراً برغم أنوفكم * وكرسي قسطنطينية في المعادم

ولا بد من عود الجميع بأسره * إلينا بعز قاهر متعاظم

أليس يزيد حل وسط دياركم * على باب قسطنطينية بالصورام

ومسلمة قد داسها بعد ذاكم * بجيش تهام قد دوى بالضراغم

وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي * بنى فيكم في عصره المتقادم

إلى جنب قصر الملك من دار ملككم * ألا هذه حق صرامة صارم

وأدى لهارون الرشيد مليككم * رفادة مغلوب وجزية غارم

سلبناكم مصراً شهود بقوة * حبانا بها الرحمن أرحم راحم

إلى بيت يعقوب وأرباب دومة * إلى لجة البحر المحيط المحاوم

فهل سرتم في أرضنا قط جمعة * أبى لله ذا كم يا بقايا الهزائم

فما لكم إلا الأماني وحدها * بضائع نوكي تلك أحلام نائم

رويداً بعد نحو الخلافة نورها * وسفر مغير وجوه الهواشم

وحينئذ تدرون كيف قراركم * إذا صدمتكم خيل جيش مصادم

على سالف العادات منا ومنكم * ليالي بهم في عداد الغنائم

سبيتم سبايا يحصر العد دونها * وسبيكم فينا كقطر الغمائم

فلو رام خلق عدها رام معجزاً * وأني بتعداد لرش الحمائم

بأبناء بني حمدان وكافور صلتم * أراذل أنجاس قصار المعاصم

دعي وحجام سطوتهم عليهما * وما قدر مصاص دماء المحاجم

فهلا على دميانة قبل ذاك أو * على محل أربا رماة الضراغم

ليالي قادوكم كما اقتادكم * أقيال جرجان بحز الحلاقم

وساقوا على رسل بنات ملوككم * سبايا كما سيقت ظباء الصرائم

ولكن سلوا عنا هرقلاً ومن خلى * لكم من ملوك مكرمين قماقم

يخبركم عنا التنوخ وقيصر * وكم قد سبينا من نساء كرائم

وعما فتحنا من منيع بلادكم * وعما أقمنا فيكم من مآتم

ودع كل نذل مفتر لا تعده * إماماً ولا الدعوى له بالتقادم

فهيهات سامراً وتكريت منكم * إلى جبل تلكم أماني هائم

منى يتمناها الضعيف ودونها * نظائرها‏.‏‏.‏‏.‏ وحز الغلاصم

تريدون بغداد سوقاً جديدة * مسيرة شهر للفنيق القواصم

محلة أهل الزهد والعلم والتقى * ومنزلة يختارها كل عالم

دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها * من المسلمين الغر كل مقاوم

ودون دمشق جمع جيش كأنه * سحائب طير ينتحي بالقوادم

وضرب يلقي الكفر كل مذلة * كما ضرب السكي بيض الدراهم

ومن دون أكناف الحجاز جحافل * كقطر الغيوم الهائلات السواحم

بها من بني عدنان كل سميدع * ومن حي قحطان كرام العمائم

ولو قد لقيتم من قضاعة كبة * لقيتم ضراماً في يبيس الهشائم

إذا أصبحوكم ذكروكم بما خلا * لهم معكم من صادق متلاحم

زمان يقودون الصوافن نحوكم * فجئتم ضماناً أنكم في الغنائم

سيأتيكم منهم قريباً عصائب * تنسيكم تذكار أخذ العواصم

وأموالكم حل لهم ودماؤكم * بها يشتفي حر الصدور الحوايم

وأراضيكم حقاً سيقتسمونها * كما فعلوا دهراً بعدل المقاسم

ولو طرقتكم من خراسان عصبة * وشيراز والري الملاح القوائم

لما كان منكم عند ذلك غير ما * عهدنا لكم ذل وعض الأباهم

فقد طالما زاروكم في دياركم * مسيرة عام بالخيول الصوادم

فأما سجستان وكرمان بالـ * ـأولى وكابل حلوان بلاد المراهم

وفي فارس والسوس جمع عرمرم * وفي أصبهان كل أروع عارم

فلوا قد أتاكم جمعهم لغدوتم * فرائس كالآساد فوق البهائم

وبالبصرة الغراء والكوفة التي * سمت وبآدي واسط بالعظائم

جموع تسامى الرمل عداً وكثرة * فما أحد عادوه منه بسالم

ومن دون بيت الله في مكة التي * حباها بمجد للبرايا مراحم

محل جميع الأرض منها تيقناً * محلة سفل الخف من فص خاتم

دفاع من الرحمن عنها بحقها * فما هو عنها رد طرف برائم

بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم * بحصباء طير في ذرى الجو حائم

وجمع كجمع البحر ماض عرمرم * حمى بنية البطحاء ذات المحارم

ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة * جموع كمسود من الليل فاحم

يقودهم جيش الملائكة العلى * دفاعاً ودفعاً عن مصل وصائم

فلو قد لقيناكم لعدتم رمائماً * كما فرق الإعصار عظم البهائم

وباليمن الممنوع فتيان غارة * إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم

وفي جانبي أرض اليمامة عصبة * معاذر أمجاد طوال البراجم

نستفينكم والقرمطيين دولة * تقووا بميمون التقية حازم

خليفة حق ينصر الدين حكمه * ولا يتقي في الله لومة لائم

إلى ولد العباس تنمي جدوده * بفخر عميم مزبد الموج فاعم

ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم * فاهلاّ بماضي منهم وبقادم

محلهم في مسجد القدس أو لدى * منازل بغداد محل المكارم

وإن كان من عليا عدي وتيمها * ومن أسد هذا الصلاح الحضارم

فاهلاً وسهلاً ثم نعمى ومرحباً * بهم من خيار سالفين أقادم

هم نصروا الإسلام نصراً مؤزراً * وهم فتحوا البلدان فتح المراغم

رويداً فوعد الله بالصدق وارد * بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم

سنفتح قسطنطينية وذواتها * ونجعلكم فوق النسور القعاشم

ونفتح أرض الصين والهند عنوة * بجيش لأرض الترك والخزر حاطم

مواعيد للرحمن فينا صحيحة * وليست كآمال العقول السواقم

ونملك أقصى أرضكم وبلادكم * ونلزمكم ذل الحرّ أو الغارم

إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه * جميع الأراضي بالجيوش الصوارم

أتقرن يا مخذول ديناً مثلثاً * بعيداً عن المعقول بادي المآثم

تدين لمخلوق يدين لغيره * فيا لك سحقاً ليس بخفي لعالم

أنا جيلكم مصنوعة قد تشابهت * كلام الأولى فيها أتوا بالعظائم

وعود صليب ما تزالون سجداً * له يا عقول الهاملات السوائم

تدينون تضلالاً بصلب إلهكم * بأيدي يهود أرذلين لائم

إلى ملة الإسلام توحيد ربنا * فما دين ذي دين لها بمقاوم

وصدق رسالات الذي جاء بالهدى * محمد الآتي برفع المظالم

وأذعنت الأملاك طوعاً لدينه * ببرهان صدق طاهر في المواسم

كما دان في صنعاء مالك دولة * وأهل عمان حيث رهط الجهاضم

وسائر أملاك اليمانين أسلموا * ومن بلد البحرين قوم اللهازم

أجابوا لدين الله لا من مخافة * ولا رغبة يحظى بها كف عادم

فحلوا عرى التيجان طوعاً ورغبة * بحق يقين بالبراهين فاحم

وحاباه بالنصر المكين إلهه * وصير من عاداه تحت المناسم

فقير وحيد لم تعنه عشيرة * ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم

ولا عنده مال عتيد لناصر * ولا دفع مرهوب ولا لمسالم

ولا وعد الأنصار مالاً يخصم * بلى كان معصوماً لأقدر عاصم

ولم تنهنهه قط قوة آسر * ولا مكنت من جسمه يد ظالم

كما يفتري إفكاً وزوراً وضلة * على وجهه عيسى منكم كل لاطم

على أنكم قد قلتموا هو ربكم * فيالضلال في القيامة عائم

أبى لله أن يدعى له ابن و صاحب * ستلقى دعاة الكفر حالة نادم

ولكنه عبد نبي رسول مكرم * من الناس مخلوق ولا قول زاعم

أيلطم وجه الرب تباً لدينكم * لقد فقتم في قولكم كل ظالم

وكم آية أبدى النبي محمد * وكم علم أبداه للشرك حاطم

تساوى جميع الناس في نصر حقه * بل لكل في إعطائه حال خادم

فعرب وأحبوش وفرس وبربر * وكرديهم قد فاز قدح المراحم

وقبط وأنباط وخزر وديلم * و روم رموكم دونه بالقواصم

أبوا كفر أسلاف لهم فتمنعوا * فآبوا بحظ في السعادة لازم

به دخلوا في ملة الحق كلهم * ودانوا لأحكام الإله اللوازم

به صح تفسير المنام الذي أتى * به دانيال قبله حتم حاتم

وهند وسند أسلموا وتدينوا * بدين الهدى رفض لدين الأعاجم

وشق له بدر السموات آية * وأشبع من صاع له كل طاعم

وسالت عيون الماء في وسط كفه * فأروى به جيشاً كثيرا هماهم

وجاء بما تقضي العقول بصدقه * ولا كدعاء غير ذات قوائم

عليه سلام الله ماذر شارق * تعقبه ظلماء أسحم قاتم

براهينه كالشمس لا مثل قولكم * وتخليطكم في جوهر وأقائم

لنا كل علم من قديم ومحدث * وأنتم حمير داميات المحازم

أتيتم بشعر بارد متخاذل * ضعيف معاني النظم جم البلاعم

فدونكها كالعقد فيه زمرد * ودر وياقوت بإحكام حاكم

وفيها‏:‏ عزل ابن أبي الشوارب عن القضاء ونقضت سجلاته وأبطلت أحكامه مدة أيامه، وولي القضاء عوضه أبو بشر عمر بن أكتم بن رزق، ورفع عنه ما كان يحمله ابن أبي الشوارب في كل سنة‏.‏

وفي ذي الحجة منها استسقى الناس لتأخر المطر - وذلك في كانون الثاني - فلم يسقوا‏.‏

وحكى ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏ عن ثابت بن سنان المؤرخ قال‏:‏ حدثني جماعة ممن أثق بهم أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين من الأرمن ملتصقين سنهما خمس وعشرون سنة، ملتحمين ومعهما أبوهما، ولهما سرتان وبطنان ومعدتان وجوعهما وريهما يختلفان، وكان أحدهما يميل إلى النساء، والآخر يميل إلى الغلمان، وكان يقع بينهما خصومة وتشاجر، وربما يحلف الآخر لا يكلم الآخر فيمكث كذلك أياماً ثم يصطلحان‏.‏

وهبهما ناصر الدولة ألفي درهم وخلع عليهما ودعاهما إلى الإسلام، فيقال‏:‏ إنهما أسلما‏.‏

وأراد أن يبعثهما إلى بغداد ليراهما الناس ثم رجع عن ذلك، ثم إنهما رجعا إلى بلدهما مع أبيهما فاعتلّ أحدهما ومات، وأنتن ريحه وبقي الآخر لا يمكنه التخلص منه، وقد كان اتصال ما بينهما من الخاصرتين، وقد كان ناصر الدولة أراد فصل أحدهما عن الآخر وجمع الأطباء لذلك فلم يمكن، فلما مات أحدهما حار أبوهما في فصله عن أخيه فاتفق اعتلال الآخر من غمه ونتن أخيه فمات غماً فدفنا جميعاً في قبر واحد‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

عمر بن أكتم بن أحمد بن حيان بن بشر أبو بشر الأسدي، ولد سنة أربع وثمانين ومائتين، وولي القضاء في زمن المطيع نيابة عن أبي السائب عتبة بن عبيد الله، ثم ولي قضاء القضاة، وهو أول من ولي قضاء القضاة من الشافعية سوى أبي السائب، وكان جيد السيرة في القضاء، توفي في ربيع الأول منها‏.‏