ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية، فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالاً شديداً، وانتهبت الأموال.
وفيها: عصى نجا غلام سيف الدولة عليه، وذلك أنه كان في العام الماضي قد صادر أهل حران وأخذ منهم أموالاً جزيلة، فتمرد بها وذهب إلى أذربيجان وأخذ طائفة منها من يد رجل من الأعراب يقال له: أبو الورد، فقتله وأخذ من أمواله شيئاً كثيراً، وقويت شوكته بسبب ذلك، فسار إليه سيف الدولة فأخذه وأمر بقتله فقتل بين يديه، وألقيت جثته في الأقذار.
وفيها: جاء الدمستق إلى المصيصة فحاصرها وثقب سورها، فدافعه أهلها فأحرق رستاقها، وقتل ممن حولها خمسة عشر ألفاً وعاثوا فساداً في بلاد أذنة وطرسوس، وكرّ راجعاً إلى بلاده.
وفيها: قصد معز الدولة الموصل وجزيرة ابن عمر فأخذ الموصل وأقام بها، فراسله في الصلح صاحبها فاصطلحا على أن يكون الحمل في كل سنة، وأن يكون أبو تغلب بن ناصر الدولة ولي عهد أبيه من بعده، فأجاب معز الدولة إلى ذلك، وكرّ راجعاً إلى بغداد بعد ما جرت له خطوب كثيرة استقصاها ابن الأثير.
وفيها: ظهر رجل ببلاد الديلم وهو أبو عبد الله محمد بن الحسين من أولاد الحسين بن علي، ويعرف بابن الداعي، فالتف عليه خلق كثير، ودعا إلى نفسه وتسمى بالمهدي، وكان أصله من بغداد وعظم شأنه بتلك البلاد، وهرب منه ابن الناصر العلوي.
وفيها: قصد ملك الروم وفي صحبته الدمستق ملك الأرمن بلاد طرسوس فحاصرها مدة، ثم غلت عليهم الأسعار وأخذهم الوباء فمات كثير منهم، فكروا راجعين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25].
وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذوا على البلاد الإسلامية كلها، وذلك لسوء حكامها وفساد عقائدهم في الصحابة، فسلم الله ورجعوا خائبين.
وفيها: كانت وقعة المختار ببلاد صقلية، وذلك أنه أقبل من الروم خلق كثير، ومن الفرنج ما يقارب مائة ألف، فبعث أهل صقلية إلى المعز الفاطمي يستنجدونه، فبعث إليهم جيوشاً كثيرة في الأسطول، وكانت بين المسلمين والمشركين وقعة عظيمة صبر فيها الفريقان من أول النهار إلى العصر، ثم قتل أمير الروم (مويل).
وفرت الروم وانهزموا هزيمة قبيحة، فقتل المسلمون منهم خلقاً كثيراً، وسقط الفرنج في واد من الماء عميق فغرق أكثرهم وركب الباقون في المراكب، فبعث الأمير أحمد صاحب صقلية في آثارهم مراكب أخر فقتلوا أكثرهم في البحر أيضاً، وغنموا في هذه الغزوة كثيراً من الأموال والحيوانات والأمتعة والأسلحة، فكان في جملة ذلك سيف مكتوب عليه: (هذا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالاً، طالما قوتل به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فبعثوا به في جملة تحف إلى المعز الفاطمي إلى إفريقية.
وفيها: قصدت القرامطة مدينة طبرية ليأخذوها من يد الأخشيد صاحب مصر والشام، وطلبوا من سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحاً، فقلع لهم أبواب الرقة - وكانت من حديد صامت - وأخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ أواقي الباعة والأسواق، وأرسل بذلك كله إليهم، فأرسلوا إليه يقولون: اكتفينا.
وفيها: طلب معز الدولة من الخليفة أن يأذن له في دخول دار الخلافة ليتفرج فيها فأذن له فدخلها، فبعث الخليفة خادمه وصاحبه معه فطافوا بها وهو مسرع خائف، ثم خرج منها وقد خاف من غائلة ذلك وخشي أن يقتل في دهاليزها، فتصدق بعشرة آلاف لما خرج شكراً لله على سلامته، وازداد حباً في الخليفة المطيع من يومئذ.
وكان في جملة ما رأى فيها من العجائب: صنم من نحاس على صورة امرأة حسناء جداً، وحولها أصنام صغار في هيئة الخدم لها كان قد أتي بها في زمن المقتدر فأقيمت هناك ليتفرج عليها الجواري والنساء، فهم معز الدولة أن يطلبه من الخليفة ثم ارتأى فترك ذلك.
وفي ذي الحجة منها خرج رجل بالكوفة فادعى أنه علوي، وكان يتبرقع فسمي المتبرقع وغلظت فتنته وبعد صيته، وذلك في غيبة معز الدولة عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل كما تقدم، فلما رجع إلى بغداد اختفى المتبرقع وذهب في البلاد فلم ينتج له أمر بعد ذلك.
وممن توفي فيها من الأعيان:
بكار بن أحمد
ابن بكار بن بيان بن بكار بن درستويه بن عيسى المقري، روى الحديث عن عبد الله بن أحمد، و عنه أبو الحسن الحماني، وكان ثقة أقرأ القرآن أزيد من ستين سنة رحمه الله.
توفي في ربيع الأول منها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين، ودفن بمقبرة الخيزران عند قبر أبي حنيفة.
أبو إسحاق الجهمي
ولد سنة خمسين ومائتين، وسمع الحديث وكان إذا سئل أن يحدث يقسم أن لا يحدث حتى يجاوز المائة فأبر الله قسمه وجاوزها فأسمع، توفي عن مائة سنة وثلاثين سنة رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مآتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وغلقت الأسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الإسلام، ولو كان هذا أمراً محموداً لفعله خير القرون وصدر هذه الأمة وخيرتها وهم أولى به {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11].
وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون، ثم تسلطت أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض وقتلوا بعض من كان فيه من القومة.
وفيها: في رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسراً وقتل من أهلها خلقاً، واستاق بقيتهم معه أسارى، وكانوا قريباً من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم جاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها، واتخذ مسجدها الأعظم اسطبلاً لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر أهلها معه لعنه الله.
وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل ذلك بلاء وغلاء عظيم، ووباء شديد، بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثمانمائة نفر، ثم دهمهم هذا الأمر الشديد فانتقلوا من شهادة إلى شهاد أعظم منها.
وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين، ثم عنّ له فسار إلى القسطنطينية وفي خدمته الدمستق ملك الأرمن لعنه الله.
وفيها: جعل أمر تسفير الحجيج إلى نقيب الطالبين وهو أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي، وهو والد الرضى والمرتضى، وكتب له منشور بالنقابة والحجيج.
وفيها: توفيت أخت معز الدولة، فركب الخليفة في طيارة وجاء لعزائه فقبّل معز الدولة الأرض بين يديه وشكر سعيه إليه، وصدقاته عليه.
وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عملت الروافض عيد غدير خم على العادة الجارية كما تقدم.
وفيها: تغلب على إنطاكية رجل يقال له: رشيق النسيمي، بمساعدة رجل يقال له: ابن الأهوازي، وكان يضمن الطواحين، فأعطاه أموالاً عظيمة وأطمعه في أخذ إنطاكية، وأخبره أن سيف الدولة قد اشتغل عنه بميا فارقين وعجز عن الرجوع إلى حلب، ثم تم لهما ماراماه من أخذ إنطاكية.
ثم ركبا منها في جيوش إلى حلب فجرت بينهما وبين نائب سيف الدولة حروب عظيمة، ثم أخذ البلد وتحصن النائب بالقلعة وجاءته نجدة من سيف الدولة مع غلام له اسمه بشارة، فانهزم رشيق فسقط عن فرسه فابتدره بعض الأعراب فقتله وأخذ رأسه وجاء به إلى حلب، واستقل ابن الأهوازي سائراً إلى إنطاكية، فأقام رجلاً من الروم اسمه دزبر فسماه الأمير، وأقام آخر من العلويين ليجعله خليفة وسماه الأستاذ.
فقصده نائب حلب وهو قرعويه فاقتتلا قتالاً شديداً فهزمه ابن الأهوازي واستقر بإنطاكية، فلما عاد سيف الدولة إلى حلب لم يبت بها إلا ليلة واحدة حتى سار إلى إنطاكية، فالتقاه ابن الأهوازي فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزم دزبر وابن الأهوازي وأسرا فقتلهما سيف الدولة.
وفيها: ثار رجل من القرامطة اسمه مروان كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة، صار بحمص فملكها وما حولها، فقصده جيش من حلب مع الأمير بدر فاقتتلوا معه فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه، واتفق أن أسر أصحاب مروان بدراً فقتله مروان بين يديه صبراً، ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه.
وفيها: عصى أهل سجستان أميرهم خلف بن أحمد، وذلك أنه حج في سنة ثلاث وخمسين واستخلف عليهم طاهر بن الحسين، فطمع في الملك بعده واستمال أهل البلد، فلما رجع من الحج لم يسلمه البلد وعصي عليه، فذهب إلى بخارا إلى الأمير منصور بن نوح الساماني فاستنجده، فبعث معه جيشاً فاستنقذ البلد من طاهر وسلمها إلى الأمير خلف بن أحمد - وقد كان خلف عالماً محباً للعلماء - فذهب طاهر فجمع جموعاً ثم جاء فحاصر خلفاً وأخذ منه البلد.
فرجع خلف إلى الأمير منصور الساماني فبعث معه من استرجع له البلد ثانية وسلمها إليه، فلما استقر خلف بها وتمكن منها منع ما كان يحمله من الهدايا والتحف والخلع إلى الأمير منصور الساماني ببخارا، فبعث إليه جيشاً فتحصن خلف في حصن يقال له: حصن إراك، فنازله الجيش فيه تسع سنين لم يقدروا عليه، وذلك لمناعة هذا الحصن وصعوبته وعمق خندقه وارتفاعه، وسيأتي ما آل إليه أمر خلف بعد ذلك.
وفيها: قصدت طائفة من الترك بلاد الخزر فاستنجد أهل الخزر بأهل خوارزم فقالوا لهم: لو أسلمتم لنصرناكم.
فأسلموا إلا ملكهم، فقاتلوا معهم الترك فأجلوهم عنها ثم أسلم الملك بعد ذلك ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
المتنبي الشاعر المشهور
أحمد بن الحسين بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الشاعر المعروف بالمتنبي، كان أبوه يعرف بعيدان السقا وكان يسقي الماء لأهل الكوفة على بعير له، وكان شيخاً كبيراً.
وعيدان هذا قال ابن ماكولا والخطيب: هو بكسر العين المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت، وقيل: بفتح العين لا كسرها، فالله أعلم.
كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست وثلاثمائة، ونشأ بالشام بالبادية فطلب الأدب ففاق أهل زمانه فيه، ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظي عنده، ثم صار إلى مصر وامتدح الأخشيد ثم هجاه وهرب منه، وورد بغداد فامتدح بعض أهلها، وقدم الكوفة ومدح ابن العميد فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار، ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه فأطلق له أموالاً جزيلة تقارب مائتي ألف درهم، وقيل: بل حصل له منه نحو من ثلاثين ألف دينار، ثم دس إليه من يسأله أيما أحسن عطايا عضد الدولة بن بويه أو عطايا سيف الدولة بن حمدان؟
فقال: هذه أجزل وفيها تكلف، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها، لأنها عن طبيعة وهذه عن تكلف.
فذكر ذلك لعضد الدولة فتغيظ عليه ودس عليه طائفة من الأعراب فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد، ويقال: إنه كان قد هجى مقدمهم ابن فاتك الأسدي - وقد كانوا يقطعون الطريق - فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ويأخذوا له ما معه من الأموال، فانتهوا إليه ستون راكباً في يوم الأربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام، وقيل: بل قتل في يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان، وقيل: بل كان ذلك في شعبان.
وقد نزل عند عين تحت شجرة انجاص، وقد وضعت سفرته ليتغدى، ومعه ولده محسن وخمسة عشر غلاماً له، فلما رآهم قال: هلموا يا وجوه العرب إلى الغداء.
فلما لم يكلموه أحس بالشر فنهض إلى سلاحه وخيله فتواقفوا ساعة فقتل ابنه محسن وبعض غلمانه وأراد هو أن ينهزم.
فقال له مولى له: أين تذهب وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فقال له: ويحك قتلتني، ثم كر راجعاً فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله.
ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه وأخذوا جميع ما معه، وذلك بالقرب من النعمانية، وهو آيب إلى بغداد، ودفن هناك وله من العمر ثمان وأربعون سنة.
وذكر ابن عساكر أنه لما نزل تلك المنزلة التي كانت قبل منزلته التي قتل بها، سأله بعض الأعراب أن يعطيهم خمسين درهماً ويخفرونه، فمنعه الشح والكبر ودعوى الشجاعة من ذلك.
وقد كان المتنبي جعفي النسب صلبيبة منهم، وقد ادّعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريباً من حمص أنه علوي، ثم ادّعى أنه نبي يوحى إليه، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم، وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله:
(والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي خسار، امض على سنتك و اقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه، وضل عن سبيله)
وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لكان أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء، ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والإنس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سورة لما استطاعوا.
ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الأخشيد وهو الأمير لؤلؤ بيض الله وجهه، فقاتله وشرد شمله، وأسر مذموماً مدحوراً، وسجن دهراً طويلاً، فمرض في السجن وأشرف على التلف، فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتاباً اعترف فيه ببطلان ما ادّعاه من النبوة، وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الإسلام، فأطلق الأمير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيا.
وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان، وهي لفظة المتنبي، الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة.
وقد قال بعضهم يهجوه:
أي فضل لشاعر يطلب الـ * ـفضل من الناس بكرة وعشيا
عاش حيناً يبيع في الكوفة الما * ء وحيناً يبيع ماء المحيا
وللمتنبي ديوان شعر مشهور، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة، بل مبتكرة شائقة.
وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في المتقدمين، وهو عندي كما ذكر من له خبرة بهذه الأشياء مع تقدم أمره.
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في (منتظمه) قطعاً رائقة استحسنها من شعره، وكذلك الحافظ ابن عساكر شيخ إقليمه، فمما استحسنه ابن الجوزي قوله:
عزيزاً سبى من داؤه الحدق النجل * عياء به مات المحبون من قبل
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري * نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي * فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
ومن جسدي لم يترك السقم شعرة * فما فوقها إلا وفا له فعل
كأن رقيباً منك سد مسامعي * عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد الليل يعشق مقلتي * فبينهما في كل هجر لنا وصل
ومن ذلك قوله:
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها * في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها * فأرتني القمرين في وقت معا
ومن ذلك قوله:
ما نال أهل الجاهلية كلهم * شعري ولا سمعت بسحري بابل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل
من لي بفهم أهيل عصر يدعي * أن يحسب الهندي منهم باقل
ومن ذلك قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى * عدواً له ما من صداقته بد
وله:
وإذا كانت النفوس كباراً * تعبت في مرادها الأجسام
وله:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت * على عينيه يرى صدقها كذبا
وله:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به * في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وله في مدح بعض الملوك:
تمضي الكواكب والأبصار شاخصة * منها إلى الملك الميمون طائره
قد حزن في بشر في تاجه قمر * في درعه أسد تدمى أظافره
حلو خلائقه شوس حقائقه * يحصى الحصى قبل أن تحصى ماثره
ومنها قوله:
يا من ألوذ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره * ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى.
وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذلّ والخضوع.
ومما أورده ابن عساكر للمتنبي في ترجمته قوله:
أبعين مفتقر إليك رأيتني * فأهنتني وقدفتني من حالقي
لست الملوم، أنا الملوم، لأنني * أنزلت آمالي بغير الخالق
قال ابن خلكان: وهذان البيتان ليسافي ديوانه، وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح.
ومن ذلك قوله:
إذا ما كنت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير * كطعم الموت في أمر عظيم
وله قوله:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة * قبيح هوى يرجى عليه ثواب
إذا نلت منك الود فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب
وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست وثلاثمائة، وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
قال ابن خلكان: وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة أربع وخمسين لما كان من ابن خالويه إليه ما كان من ضربه إياه بمفتاح في وجهه فأدماه، فصار إلى مصر فامتدح كافور الأخشيد وأقام عنده أربع سنين، وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه فتوهم منه كافور فجأة، فخاف المتنبي فهرب، فأرسل في طلبه فأعجزه، فقيل لكافور: ما هذا حتى تخافه؟
فقال: هذا رجل أراد أن يكون نبياً بعد محمد، أفلا يروم أن يكون ملكاً بديار مصر؟والملك أقل وأذل من النبوة.
ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة فامتدحه فأعطاه مالاً كثيراً، ثم رجع من عنده فعرض له فاتك ابن أبي الجهل الأسدي فقتله وابنه محسن وغلامه مفلح يوم الأربعاء لست بقين من رمضان وقيل لليلتين، بسواد بغداد، وقد رثاه الشعراء، وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحواً من ستين شرحاً وجيزاً وبسيطاً.
وممن توفي فيها من الأعيان: أبو حاتم البستي صاحب الصحيح.
محمد بن حبان
ابن أحمد بن حبان بن معاذ أبو حاتم البستي صاحب الأنواع والتقاسيم، وأحد الحفاظ الكبار المصنفين المجتهدين، رحل إلى البلدان وسمع الكثير من المشايخ، ثم ولي قضاء بلده ومات بها في هذه السنة وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبه إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وهي نزعة فلسفية والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه.
وقد ذكرته في طبقات الشافعية.
محمد بن الحسن بن يعقوب
ابن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر بن مقسم المقري، ولد سنة خمس ومائتين، وسمع الكثير من المشايخ، روى عن الدارقطني وغيره، وكان من أعرف الناس بالقراءات، وله كتاب في النحو على طريقة الكوفيين، سماه (كتاب الأنوار).
قال ابن الجوزي: ما رأيت مثله، وله تصانيف غيره، ولكن تكلم الناس فيه بسبب تفرده بقراءات لا تجوز عند الجميع، وكان يذهب إلى أن كل ما لا يخالف الرسم ويسوغ من حيث المعنى تجوز القراءة به كقوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف: 80] أي: يتناجون.
قال: لو قرئ نجيباً من النجابة لكان قوياً.
وقد ادعي عليه وكتب عليه مكتوب أنه قد رجع عن مثل ذلك، ومع هذا لم ينته عما كان يذهب إليه حتى مات.
قاله ابن الجوزي.
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد ربه
ابن موسى أبو بكر الشافعي، ولد بجبلان سنة ستين ومائتين، وسمع الكثير، وسكن بغداد، وكان ثقة ثبتاً كثير الرواية، سمع منه الدارقطني وغيره من الحفاظ، وكان يحدث بفضائل الصحابة حين منعت الديالم من ذلك جهراً بالجامع بمدينة المنصور مخالفة لهم، وكذلك بمسجده بباب الشام.
توفي في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة
في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد.
وفيها: أُجلي القرامطة الهجريين من عمان.
وفيها: قصدت الروم آمد فحاصروها فلم يقدروا عليها، ولكن قتلوا من أهلها ثلاثمائة وأسروا منهم أربعمائة، ثم ساروا إلى نصيبين، وفيها سيف الدولة، فهمّ بالهرب مع العرب، ثم تأخر مجيء الروم فثبت مكانه وقد كادت تزلزل أركانه.
وفيها: وردت طائفة من جيش خراسان - وكانوا بضعة عشر ألفاً - يظهرون أنهم يريدون غزو الروم، فأكرمهم ركن الدولة بن بويه وأمنوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الديلم على غرة فقاتلهم ركن الدولة فظفر بهم لأن البغي له مصرع وخيم، وهرب أكثرهم.
وفيها: خرج معز الدولة من بغداد إلى واسط لقتال عمران بن شاهين حين تفاقم الحال بشأنه، واشتهر أمره في تلك النواحي، فقوي المرض بمعز الدولة فاستناب على الحرب ورجع إلى بغداد فكانت وفاته في السنة الآتية كما سنذكره إلى حيث ألقت.
وفيها: قوي أمر أبي عبد الله بن الداعي ببلاد الديلم، وأظهر النسك والعبادة ولبس الصوف، وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد يدعو إلى الجهاد في سبيل اله من سبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي جمادى الآخرة نودي برفع المواريث الحشرية وأن ترد إلى ذوي الأرحام.
وفيها: وقع الفداء بين سيف الدولة وبين الروم، فاستنقد منهم أسارى كثيرة، منهم ابن عمه أبو فراس بن سعيد بن حمدان، وأبو الهيثم بن حصن القاضي، وذلك في رجب منها.
وفيها: ابتدأ معز الدولة بن بويه في بناء مارستان، وأرصد له أوقافاً جزيلة.
وفيها: قطعت بنو سليم السابلة على الحجيج من أهل الشام ومصر والمغرب، وأخذوا منهم عشرين ألف جمل بأحمالها، وكان عليها من الأموال والأمتعة ما لا يقدر كثرة.
وكان لرجل يقال له: ابن الخواتيمي، قاضي طرسوس مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار عيناً، وذلك أنه أراد التحول من بلاد الشام إلى العراق بعد الحج، وكذلك أراد كثير من الناس، وحين أخذوا جمالهم تركوهم على برد الديار لاشيء لهم، فقل منهم من سلم والأكثر عطب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسن بن دواد
ابن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي الحسني.
قال الحاكم: أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد، ويبكي.
وما سمعته ذكر عائشة إلا قال: الصدّيقة بنت الصدّيق، حبيبة حبيب الله، ويبكي.
وقد سمع الحديث من ابن خزيمة وطبقته، وكان آباؤه بخراسان وفي سائر بلدانهم سادات نجباء حيث كانوا:
من آل بيت رسول الله منهم * لهم دانت رقاب بني معد
محمد بن الحسين بن علي بن الحسن
ابن يحيى بن حسان بن الوضاح، أبو عبد الله الأنباري الشاعر المعروف بالوضاحي، كان يذكر أنه سمع الحديث من المحاملي وابن مخلد وأبي روق.
روى عنه الحاكم شيئاً من شعره كان أشعر من في وقته، ومن شعره:
سقى الله باب الكرخ ربعاً ومنزلاً * ومن حله صوب السحاب المجلل
فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى * وجارتها أم الرباب بمأسل
رأى عرصات الكرخ أوحل أرضها * لأمسك عن ذكر الدخول فحومل
أبو بكر بن الجعابي
محمد بن عمر بن سلم بن البراء بن سبرة بن سيار، أبو بكر الجعابي، قاضي الموصل، ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين، سمع الكثير وتخرج بأبي العباس بن عقدة، وأخذ عنه علم الحديث وشيئاً من التشيع أيضاً، وكان حافظاً مكثراً، يقال: إنه كان يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها، ويذاكر بستمائة ألف حديث ويحفظ من المراسيل والمقاطيع والحكايات قريباً من ذلك، ويحفظ أسماء الرجال وجرحهم وتعديلهم، وأوقات وفياتهم ومذاهبهم، حتى تقدم على أهل زمانه، وفاق سائر أقرانه.
وكان يجلس للإملاء فيزدحم الناس عند منزله، وإنما كان يملي من حفظه إسناد الحديث ومتنه جيداً محرراً صحيحاً، وقد نسب إلى التشيع كأستاذه ابن عقدة، وكان يسكن بباب البصرة عندهم، وقد سئل عنه الدارقطني فقال: خلط.
وقال أبو بكر البرقاني: صاحب غرائب، ومذهبه معروف في التشيع، وقد حكى عنه قلة دين وشرب خمر فالله أعلم.
ولما احتضر أوصى أن تحرق كتبه فحرقت، وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس، فبئس ما عمل.
ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة
استهلت هذه السنة والخليفة المطيع لله، والسلطان معز الدولة بن بويه الديلمي.
وفيها: عملت الروافض في يوم عاشوراء عزاء الحسين على عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم.
وفاة معز الدولة بن بويه
ولما كان ثالث عشر ربيع الأول منها، توفي أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض، ويقال له: معز الدولة، بعلة الذرب، فصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية، فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، وردّ كثيراً من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن علياً زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، فقال: والله ما سمعت بهذا قط.
ورجع إلى السنة ومتابعتها، ولما حضر وقت الصلاة خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة: إلى أين تذهب؟
فقال: إلى الصلاة.
فقال له: ألا تصلي ههنا؟
قال: لا.
قال: ولم؟
قال: لأن دارك مغصوبة.
فاستحسن منه ذلك.
وكان معز الدولة حليماً كريماً عاقلاً، وكانت إحدى يديه مقطوعة، وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعاً إلى شيراز، وحظي عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل، وبرغوش، يتعصب لهذا عوام أهل السنة، ولهذا عوام أهل الشيعة، وجرت لهما مناصف ومواقف.
ولما مات معز الدولة دفن بباب التبن في مقابر قريش، وجلس ابنه للعزاء.
وأصاب الناس مطر ثلاثة أيام تباعاً، وبعث عز الدولة إلى رؤوس الأمراء في هذه الأيام بمال جزيل، لئلا تجتمع الدولة على مخالفته قبل استحكام مبايعته، وهذا من دهائه، وكان عمر معز الدولة ثلاثاً وخمسين سنة، ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهراً ويومين، وقد كان نادى في أيامه برد المواريث إلى ذوي الأرحام قبل بيت المال، وقد سمع بعض الناس ليلة توفي معز الدولة هاتفاً يقول:
لما بلغت أبا الحسين * مراد نفسك بالطلب
وأمنت من حدث الليا * لي واحتجبت عن النوب
مدت إليك يد الردى * وأخذت من بين الرتب
ولما مات قام بالأمر بعده ولده عز الدولة فأقبل على اللعب واللهو والاشتغال بأمر النساء فتفرق شمله واختلفت الكلمة عليه، وطمع الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان في ملك بني بويه، وأرسل الجيوش الكثيرة صحبة وشمكير، فلما علم بذلك ركن الدولة بن بويه أرسل إلى ابنه عضد الدولة وابن أخيه عز الدولة يستنجدهما، فأرسلا إليه بجنود كثيرة، فركب فيها ركن الدولة وبعث إليه وشمكير يتهدده ويتوعده، ويقول: لئن قدرت عليك لأفعلن بك ولأفعلن.
فبعث إليه ركن الدولة يقول: لكني إن قدرت عليك لأحسنن إليك ولأصفحن عنك.
فكانت الغلبة لهذا، فدفع الله عنه شره، وذلك أن وشمكير ركب فرساً صعباً يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الفرس فألقته على الأرض فخرج الدم من أذنيه فمات من ساعته وتفرقت العساكر.
وبعث ابن وشمكير يطلب الأمان من ركن الدولة فأرسل إليه بالمال والرجال، ووفى بما قال من الإحسان، وصرف الله عنه كيد السامانية، وذلك بصدق النية وحسن الطوية والله أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان
أبو الفرج الأصبهاني
صاحب كتاب (الأغاني)، واسمه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي، صاحب كتاب (الأغاني) وكتاب (أيام العرب)، ذكر فيه ألفاً وسبعمائة يوم من أيامهم، وكان شاعراً أديباً كاتباً، عالماً بأخبار الناس وأيامهم، وكان فيه تشيع.
قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر، وقد روى الحديث عن محمد بن عبد الله بن بطين وخلق، وروى عنه الدارقطني وغيره.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، التي توفي فيها البحتري الشاعر، وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها: (الأغاني) و(المزارات) و(أيام العرب).
وفيها توفي:
سيف الدولة
أحد الأمراء الشجعان، والملوك الكثيري الإحسان، على ما كان فيه من تشيع، وقد ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له أشياء غريبة منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء.
ومنها: أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي.
وكان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل.
ومن شعره في أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل:
رضيت لك العليا، وقد كنت أهلها * وقلت لهم: بيني وبين أخي فرق
وما كان لي عنها نكول، وإنما * تجاوزت عن حقي فتم لك السبق
أما كنت ترضى أن أكون مصلياً * إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وله:
قد جرى في دمعه دمه * قال لي كم أنت تظلمه
رد عنه الطرف منك * فقد جرحته منك أسهمه
كيف تستطيع التجلد * خطرات الوهم تؤلمه
وكان سبب موته الفالج، وقيل: عسر البول.
توفي بحلب وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وعمره ثلاث وخمسون سنة، ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي الشريف، ثم تغلب عليه مولى أبيه قرعويه فأخرجه من حلب إلى أمه بميافارقين، ثم عاد إليها كما سيأتي.
وذكر ابن خلكان أشياء كثيرة مما قاله سيف الدولة، وقيل فيه، قال: ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم، وقال: إنه ولد سنة ثلاث، وقيل: إحدى وثلاثمائة وأنه ملك حلب بعد الثلاثين والثلاثمائة، وقبل ذلك ملك واسطاً ونواحيها، ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب.
انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الأخشيد، وقد قال يوماً: أيكم يجيز قولي وما أظن أحداً منكم يجيز ذلك: لك جسمي تعله فدمي لم تحله؟
فقال أبو فراس أخوه بديهة: إن كنت مالكاً الأمر كله.
وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول.
وفيها توفي:
كافور الأخشيد
مولى محمد بن طغج الأخشيدي، وقد قام بالأمر بعده مولاه لصغر ولده.
تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدولة وغيره وقد كتب على قبره:
أنظر إلى غير الأيام ما صنعت * أفنت قروناً بها كانوا وما فنيت
دنياهم ضحكت أيام دولتهم * حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت
أبو علي القالي
صاحب (الأمالي)، إسماعيل بن القاسم بن عبدون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان، أبو علي القاضي القالي اللغوي الأموي مولاهم، لأن سليمان هذا كان مولى لعبد الملك بن مروان، والقالي نسبة إلى قالي قلا.
ويقال: إنها أردن الروم فالله أعلم.
وكان مولده بميافارقين، جزء من أرض الجزيرة من ديار بكر، وسمع الحديث من أبي يعلى الموصلي وغيره، وأخذ النحو واللغة عن ابن دريد وأبي بكر الأنباري ونفطويه وغيرهم، وصنف (الأمالي) وهو مشهور، وله كتاب (التاريخ على حروف المعجم) في خمسة آلاف ورقة، وغير ذلك من المصنفات في اللغة، ودخل بغداد وسمع بها ثم ارتحل إلى قرطبة فدخلها في سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوطنها، وصنف بها كتباً كثيرة إلى أن توفي بها في هذه السنة عن ثمان وستين سنة.
قاله ابن خلكان.
وفيها توفي: أبو علي محمد بن إلياس صاحب بلاد كرمان ومعاملاتها، فأخذ عضد الدولة بن ركن الدولة بلاد كرمان، من أولاد محمد بن إلياس - وهم ثلاثة -اليسع، وإلياس، وسليمان، والملك الكبير وشمكير، كما قدمنا.
وفيها توفي من الملوك أيضاً: الحسن بن الفيرزان.
فكانت هذه السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة، وكافور، وسيف الدولة، قال ابن الأثير: وفيها هلك نقفور ملك الأرمن وبلاد الروم - يعني الدمستق كما تقدم -.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة
فيها: شاع الخبر ببغداد وغيرها من البلاد أن رجلاً ظهر يقال له: محمد بن عبد الله، وتلقب بالمهدي وزعم أنه الموعود به، وأنه يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، ودعا إليه ناس من الشيعة، وقالوا: هذا علوي من شيعتنا، وكان هذا الرجل إذ ذاك مقيماً بمصر عند كافور الأخشيدي قبل أن يموت وكان يكرمه، وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب، وكان شيعياً فظنه علوياً، وكتب إليه أن يقدم إلى بغداد ليأخذ له البلاد، فترحل عن مصر قاصداً العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إلى قريب الأنبار، فلما رآه عرفه وإذا هو محمد بن المستكفي بالله العباسي، فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثنى رأيه فيه، فتفرق شمله وتمزق أمره، وذهب أصحابه كل مذهب، وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى المطيع لله فجدع أنفه واختفى أمره، فلم يظهر له خبر بالكلية بعد ذلك.
وفيها: وردت طائفة من الروم إلى بلاد إنطاكية فقتلوا خلقاً من حواضرها وسبوا اثني عشر ألفاً من أهلها ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد.
وفيها: عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين، وفي يوم غدير خم الهناء والسرور.
وفيها: في تشرين عرض للناس داء الماشري فمات به خلق كثير.
وفيها: مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش، ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج.
وفيها: اقتتل أبو المعالي شريف بن سيف الدولة هو وخاله وابن عم أبيه أبو فراس في المعركة.
قال ابن الأثير: ولقد صدق من قال: إن الملك عقيم.
وفيها توفي من الأعيان أيضاً:
إبراهيم المتقي لله، وكان قد ولي الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة إلى هذه السنة، وألزم بيته فمات في هذه السنة ودفن بداره عن ستين سنة.
عمر بن جعفر بن عبد الله
ابن أبي السري، أبو جعفر البصري الحافظ، ولد سنة ثمانين ومائتين، حدث عن أبي الفضل ابن الحباب وغيره، وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها.
قال الدارقطني: فنظرت فيها فإذا الصواب مع عمر بن جعفر.
محمد بن أحمد بن علي بن مخلد
أبو عبد الله الجوهري المحتسب، ويعرف بابن المخرم، كان أحد أصحاب ابن جرير الطبري، وقد روى عن الكديمي وغيره، وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عليه جلس يكتب الحديث فجاءت أمها فأخذت الدواة فرمت بها وقالت: هذه أضر على ابنتي من مائة ضرة.
توفي في هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، وكان يضعف في الحديث.
كافور بن عبد الله الأخشيدي
كان مولى السلطان محمد بن طغج، اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر ديناراً، ثم قرّبه وأدناه، وخصه من بين الموالي واصطفاه، ثم جعله أتابكاً حين ملك ولداه، ثم استقل بالأمور بعد موتهما في سنة خمس وخمسين، واستقرت المملكة باسمه فدعي له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية، وكان شهماً شجاعاً ذكياً جيد السيرة، مدحه الشعراء، منهم المتنبي، وحصل له منه مال، ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة، ودفن كافور بتربته المشهورة به، وقام في الملك بعده أبو الحسن علي بن الأخشيد، ومنه أخذ الفاطميون الأدعياء بلاد مصر كما سيأتي.
ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة
في عاشوراء منها عملت الروافض بدعتهم، وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على عادتهم.
وفيها: حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية، وكاد الناس أن يهلكوا.
وفيها: عاث الروم في الأرض فساداً وحرقوا حمص وأفسدوا فيها فساداً عريضاً، وسبوا من المسلمين نحواً من مائة ألف إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها: دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعز الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شعبان، فلما كان يوم الجمعة خطبوا للمعز الفاطمي على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بحي على خير العمل، وأن يجهر الأئمة بالتسليمة الأولى، وذلك أنه لما مات كافور لم يبق بمصر من تجتمع القلوب عليه، وأصابهم غلاء شديد أضعفهم، فلما بلغ ذلك المعز بعث جوهراً هذا - وهو مولى أبيه المنصور - في جيش إلى مصر.
فلما بلغ ذلك أصحاب كافور هربوا منها قبل دخول جوهر إليها فدخلها بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة، ففعل ما ذكرنا واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد.
وفيها: شرع جوهر القائد في بناء القاهرة المعزية، وبناء القصرين عندها على ما نذكره.
وفيها: شرع في الإمامات إلى مولاه المعز الفاطمي.
وفيها: أرسل جوهر جعفر بن فلاح في جيش كثيف إلى الشام فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مطاعاً في أهل الشام فجاحف عن العباسيين مدة طويلة، ثم آل الحال إلى أن يخطبوا للمعز بدمشق، وحمل الشريف أبو القاسم هذا إلى الديار المصرية، وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الأمراء وحملوا إلى الديار المصرية، فحملهم جوهر القائد إلى المعز بإفريقية، واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه.
وفيها: دخلت الروم إلى حمص فوجدوا أكثر أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا، فحرقوها وأسروا ممن بقي فيها ومن حولها نحواً من مائة ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي ذي الحجة منها: نقل عز الدولة والده معز الدولة بن بويه من داره إلى تربته بمقابر قريش.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء، فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن، والمسوح معلقة في الأسواق والتبن مدرور فيها.
وفيها: دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والأطفال نحواً من عشرين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك كله بتدبير ملك الأرمن نقفور لعنه الله، وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد، قبحهم الله.
قال ابن الجوزي: وكان قد تمرد وطغا، وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الذي كان قبله، ولهذا الملك المتقدم ابنان، فأراد أن يخصيهما ويجعلهما في الكنيسة لئلا يصلحا بعد ذلك للملك، فلما فهمت ذلك أمهما عملت عليه وسلطت عليه الأمراء فقتلوه وهو نائم، وملكوا عليهم أكبر ولديها.
وفي ربيع الأول صرف عن القضاء أبو بكر أحمد بن سيار وأعيد إليه أبو محمد بن معروف.
قال ابن الجوزي: وفيها نقصت دجلة حتى غارت الآبار.
وحج بالناس الشريف أبو أحمد النقيب، وانقضّ كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الأرض حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.
قال ابن الأثير: وفي المحرم منها خطب للمعز الفاطمي بدمشق عن أمر جعفر بن فلاح الذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر، فقاتله أبو محمد الحسن بن عبد الله بن طغج بالرملة، فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية.
وفيها: وقعت المنافرة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين ابنه أبي تغلب، وسببه أنه لما مات معز الدولة بن بويه عزم أبو تغلب ومن وافقه من أهل بيته على أخذ بغداد، فقال لهم أبوهم: إن معز الدولة قد ترك لولده عز الدولة أموالاً جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده، فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر، فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه، فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول ولم يزل بأبيه حتى سجنه بالقلعة، فاختلف أولاده بينهم وصاروا أحزاباً، وضعفوا عما في أيديهم، فبعث أبو تغلب إلى عز الدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة، واتفق موت أبيه ناصر الدولة في هذه السنة، واستقر أبو تغلب بالموصل وملكها، إلا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين.
وفيها: دخل ملك الروم إلى طرابلس فأحرق كثيراً منها وقتل خلقاً، وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها منها لشدة ظلمه، فأسرته الروم واستحوذوا على جميع أمواله وحواصله، وكانت كثيرة جداً، ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلداً سوى القرى، وتنصر خلق كثير على أيديهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجاؤوا إلى حمص فأحرقوا ونهبوا وسبوا، ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه، وصارت له مهابة في قلوب الناس ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي وصبية، وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم، وبعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا وسبوا، وكان قرعويه غلام سيف الدولة قد استحوذ على حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف، فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إليهم، فذهب إلى أمه بميافارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان فمكث عندها حيناً، ثم سار إلى حماه فملكها، ثم عاد إلى حلب بعد سنتين كما سيأتي.
ولما عاثت الروم في هذه السنة بالشام صانعهم قرعوية عن حلب، وبعث إليهم بأموال وتحف ثم عادوا إلى إنطاكية فملكوها وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وسبوا عامة أهلها وركبوا إلى حلب وأبو المعالي شريف محاصر قرعويه بها، فخافهم فهرب عنها فحاصرها الروم فأخذوا البلد، وامتنعت القلعة عليهم ثم اصطلحوا مع قرعويه على هدية ومال يحمله إليهم كل سنة، وسلموا إليه البلد ورجعوا عنه.
وفيها: خرج على المعز الفاطمي وهو بإفريقية رجل يقال له: أبو خزر، فنهض إليه بنفسه وجنوده، وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها، ويطلبه إليها ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها:
يقول بنو العباس قد فتحت مصر * فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وفيها: رام عز الدولة صاحب بغداد محاصرة عمران بن شاهين الصياد فلم يقدر عليه، فصالحه ورجع إلى بغداد.
وفيها: اصطلح قرعويه وأبو المعالي شريف، فخطب له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي، وكذلك حمص ودمشق، ويخطب بمكة للمطيع بالله وللقرامطة، وبالمدينة للمعز الفاطمي.
وخطب أبو أحمد الموسوي بظاهرها للمطيع.
وذكر ابن الأثير: أن نقفور توفي في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الذي قبله، قال: وكان يقال له: الدمستق، وكان من أبناء المسلمين كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس، فتنصر ولده هذا وحظي عند النصارى حتى صار من أمره ما صار، وقد كان من أشد الناس على المسلمين، أخذ منهم بلاداً كثيرة عنوة، من ذلك طرسوس والأذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك، وقتل من المسلمين خلقاً لا يعلمهم إلا الله، وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله، وتنصروا أو غالبهم، وهو الذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم.
وممن توفي فيها من الأعيان:
محمد بن أحمد بن الحسين
ابن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله أبو علي الصواف، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وطبقته، وعنه خلق منهم الدارقطني.
وقال: ما رأت عيناي مثله في تحريره ودينه، وقد بلغ تسعاً وثمانين سنة رحمه الله.
محارب بن محمد بن محارب
أبو العلاء الفقيه الشافعي من ذرية محارب بن دثار، كان ثقة عالماً، روى عن جعفر الفريابي وغيره.
أبو الحسين أحمد بن محمد
المعروف بابن القطان أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وتفرد برياسة المذهب بعد موت أبي القاسم الداراني، وصنف في أصول الفقه وفروعه، وكانت الرحلة إليه ببغداد، ودرس بها وكتب شيئاً كثيراً.
توفي في جمادى الأولى منها.
ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة
في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة.
وفي ذي القعدة منها: أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح، وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام وقد أمده عز الدولة من بغداد بسلاح وعدد كثيرة، ثم ساروا إلى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نواباً.
ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة في جمع كثير من الأعراب والأخشيدية والكافورية، فوصلوا عين شمس فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالاً شديداً، والظفر للقرامطة وحصروا المغاربة حصراً عظيماً.
ثم حملت المغاربة في بعض الأيام على ميمنة القرامطة فهزمتها ورجعت القرامطة إلى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة، فأرسل جوهر إلى أصحابه خمسة عشر مركباً ميرة لأصحابه، فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الإفرنج.
وجرت خطوب كثيرة.
ومن شعر الحسين بن أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك:
زعمت رجال الغرب أني هبتها * فدمي إذن ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم * يروي ثراك فلا سقاني النيل
وفيها: تزوج أبو تغلب بن حمدان بنت بختيار عز الدولة وعمرها ثلاث سنين على صداق مائة ألف دينار، ووقع العقد في صفر منها.
وفيها: استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد فأصلح أموره وساس دولته جيداً.
وفيها: أذن بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل.
قال ابن عساكر في ترجمته جعفر بن فلاح نائب دمشق: وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين، أخبرنا أبو محمد الأكفاني قال: قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام: وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر من سنة ستين وثلاثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد، وسائر المساجد بحي على خير العمل بعد حي على الفلاح، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح، ولم يقدروا على مخالفته، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بداً.
وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الأذان والتكبير في الإقامة مثنى مثنى.
وأن يقولوا في الإقامة: حي على خير العمل، فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى.
وفيها توفي من الأعيان:
سليمان بن أحمد بن أيوب
أبو القاسم الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير، والأوسط، والصغير، وله كتاب (السنة) وكتاب (مسند الشاميين)، وغير ذلك من المصنفات المفيدة، عمر مائة سنة.
توفي بأصبهان ودفن على بابها عند قبر حممة الصحابي.
قاله أبو فرج بن الجوزي.
قال ابن خلكان: سمع من ألف شيخ، قال: وكانت وفاته في يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: في شوال منها، وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة.
الرفا الشاعر أحمد بن السري أبو الحسن
الكندي الرفا الشاعر الموصلي، أرخ وفاته ابن الأثير في هذه السنة، توفي في بغداد.
وذكر ابن الجوزي: أنه توفي سنة ثنتين وستين وثلاثمائة كما سيأتي.
محمد بن جعفر
ابن محمد بن الهيثم بن عمران بن يزيد أبو بكر بن المنذر أصله أنباري، سمع من أحمد بن الخليل بن البرجلاني، ومحمد بن العوام الرياحي، وجعفر بن محمد الصائغ، وأبي إسماعيل الترمذي.
قال ابن الجوزي: وهو آخر من روى عنهم.
قالوا: وكانت أصوله جياداً بخط أبيه، وسماعه صحيحاً، وقد انتقى عنه أبو عمرو البصري.
توفي فجأة يوم عاشوراء وقد جاوز التسعين.
محمد بن الحسن بن عبد الله أبو بكر الآجري
سمع جعفر الفريابي، وأبا شعيب الحراني، وأبا مسلم الكجي وخلقاً، وكان ثقة صادقاً ديناً، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها (الأربعون الآجرية)، وقد حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها حتى مات بعد إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله.
محمد بن جعفر بن محمد
أبو عمرو الزاهد، سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع منه الحفاظ الكبار، وكان فقيراً متقللاً يضرب اللبن بقبور الفقراء، ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة، ويقوم الليل كله.
توفي في جمادى الآخرة منها عن خمس وتسعين سنة.
محمد بن داود أبو بكر الصوفي
ويعرف بالدقي أصله من الدينور أقام ببغداد، ثم ارتحل وانتقل إلى دمشق، وقد قرأ على ابن مجاهد وسمع الحديث من محمد بن جعفر الخرائطي، صاحب ابن الجلاء، والدقاق.
توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة.
محمد بن الفرحاني
ابن زرويه المروزي الطبيب، دخل بغداد وحدث بها عن أبيه بأحاديث منكرة، روى عن الجنيد وابن مرزوق، قال ابن الجوزي: وكان فيه ظرف ولباقة، غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث.
أحمد بن الفتح
ويقال: ابن أبي الفتح الخاقاني، أبو العباس النجاد، إمام دمشق.
قال ابن عساكر: كان عابداً صالحاً، وذكر أن جماعة جاؤوا لزيارته فسمعوه يتأوه من وجع كان به، فأنكروا عليه ذلك.
فلما خرج إليهم قال لهم: إن آه اسم من تستروح إليه الأعلى، قال: فزاد في أعينهم وعظموه.
قلت: لكن هذا الذي قال لا يؤخذ عنه مسلماً إليه فيه، بل يحتاج إلى نقل صحيح عن المعصوم، فإن أسماء الله تعالى توقيفية على الصحيح.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الروافض بدعتهم كما تقدم، وفي المحرم منها أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقاً من أهل الرها، وساروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك، ولم يغن عن تلك النواحي أبو تغلب بن حمدان متوليها شيئاً، ولا دافع عنهم ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخون، فرثا لهم أهل بغداد وجاؤوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة مشغولاً بالصيد، فذهبت الرسل وراءه فبعث الحاجب سبكتكين يستنفر الناس، فتجهز خلق كثير من العامة، وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والإقامة، فأظهر السرور والفرح، ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم.
وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس، وتناقض النقيب أبو أحمد الموسوي والوزير أبو الفضل الشيرازي، وأرسل بختيار بن معز الدولة إلى الخليفة يطلب منه أموالاً يستعين بها على هذه الغزوة، فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه، ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك.
فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده، فاحتاج الخليفة أن يحصل له شيئاً، فباع بعض ثياب بدنه وشيئاً من أثاث بيته، ونقض بعض سقوف داره وحصل له أربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزاة، فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيراً عن المسلمين.
وفيها: تسلم أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين فنقل حواصلها وما فيها إلى الموصل.
وفيها: اصطلح الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وركن الدولة بن بويه وابنه عضد الدولة على أن يحملا إليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج بابنة ركن الدولة، فحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يعد ولا يحصى.
وفي شوال منها خرج المعز الفاطمي بأهله وحاشيته وجنوده من المدينة المنصورة من بلاد المغرب قاصداً البلاد المصرية، بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين، واستخلف المعز على بلاد المغرب ونواحيها وصقلية وأعمالها نواباً من جهته وحزبه وأنصاره من أهل تلك البلاد، واستصحب معه شاعره محمد بن هانئ الأندلسي، فتوفي في أثناء الطريق، وكان قدوم المعز إلى القاهرة في رمضان من السنة الآتية على ما سيأتي.
وفيها حج بالناس الشريف أبو أحمد الموسوي النقيب على الطالبيين كلهم.
وفيها توفي من الأعيان:
سعيد بن أبي سعيد الجنابي
أبو القاسم القرمطي الهجري، وقام بالأمر من بعده أخوه أبو يعقوب يوسف، ولم يبق من سلالة أبي سعيد سواه.
عثمان بن عمر بن خفيف
أبو عمر المقري المعروف بالدراج، روى عن أبي بكر بن أبي داود وعنه ابن زرقويه، وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة، وكان يعد من الأبدال.
توفي يوم الجمعة في رمضان منها.
علي بن إسحاق بن خلف
أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالزاهي.
ومن شعره:
قم فهن عاشقين * أصبحا مصطحبين
جمعا بعد فراق * فجعا منه ببين
تم عادا في سرور * من صدود آمنين
بهما روح ولكن * ركبت في بدنين
أحمد بن سهل
ابن شداد أبو بكر المخرمي، سمع أبا خليفة وجعفر الفريابي، وابن أبي الفوارس وابن جرير وغيرهم، وعنه الدارقطني وابن زرقويه وأبو نعيم.
وقد ضعفه البرقاني وابن الجوزي وغيرهم.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلاثمائة
في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الأسواق ما تقدم قبلها.
وفيها: اجتمع الفقيه أبو بكر الرازي الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي بعز الدولة بختيار بن بويه وحرضوه على غزو الروم، فبعث جيشاً لقتالهم فأظفره الله بهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وبعثوا برؤوسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس.
وفيها: سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد، وعليها هزرمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستنصره فبعث إليه أخاه أبا القاسم هبة الله ناصر الدولة بن حمدان، فاجتمعا لقتاله فلقياه في آخر يوم من رمضان في مكان ضيق لا مجال للخيل فيه، فاقتتلوا مع الروم قتالاً شديداً، فعزمت الروم على الفرار فلم يقدروا فاستحر فيهم القتل وأخذ الدمستق أسيراً، فأودع السجن فلم يزل فيه حتى مرض ومات في السنة القابلة، وقد جمع أبو تغلب الأطباء فلم ينفعه شيء.
وفيها: أحرق الكرخ ببغداد، وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلاً من العامة فمات فثارت عليه العامة وجماعة من الأتراك، فهرب منهم فدخل داراً فأخرجوه مسجوناً وقتلوه وحرقوه، فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي - وكان شديد التعصب للسنة - وبعث حاجبه إلى أهل الكرخ فألقى في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال من ذلك ثلاثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجداً، وسبعة عشر ألف إنسان.
فعند ذلك عزله بختيار عن الوزارة وولاها محمد بن بقية، فتعجب الناس من ذلك، وذلك أن هذا الرجل كان وضيعاً عند الناس لا حرمة له، كان أبوه فلاحاً بقرية كوثا، وكان هو ممن يخدم عز الدولة، كان يقدم له الطعام ويحمل منديل الزفر على كتفه، إلى أن ولي الوزارة، ومع هذا كان أشد ظلماً للرعية من الذي قبله، وكثر في زمانه العيّارون ببغداد، وفسدت الأمور.
وفيها: وقع الخلاف بين عز الدولة وبين حاجبه سبكتكين ثم اصطلحا على دخن.
وفيها: كان دخول المعز الفاطمي الديار المصرية، وصحبته توابيت آبائه، فوصل إلى إسكندرية في شعبان، وقد تلقاه أعيان مصر إليها، فخطب الناس هنالك خطبة بليغة ارتجالاً، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب فقال فيها: إن الله أغاث الرعايا بهم وبدولتهم.
وحكى قاضي بلاد مصر وكان جالساً إلى جنبه فسأله: هل رأيت خليفة أفضل مني؟
فقال له: لم أر أحداً من الخلفاء سوى أمير المؤمنين.
فقال له: أحججت؟
قال: نعم.
قال: وزرت قبر الرسول؟
قال: نعم.
قال: وقبر أبي بكر وعمر؟
قال: فتحيرت ما أقول، فإذا ابنه العزيز مع كبار الأمراء، فقلت: شغلني عنهما رسول الله كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد من بعده، ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره.
ثم سار من الإسكندرية إلى مصر، فدخلها في الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل القصرين، فقيل: إنه أول ما دخل إلى محل ملكه خر ساجداً شكراً لله عز وجل.
ثم كان أول حكومة انتهت إليه أن امرأة كافور الأخشيدي ذكرت: أنها كانت أودعت رجلاً من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوخ بالذهب، وأنه جحدها ذلك، فاستحضره وقرره، فجحد ذلك وأنكره.
فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها ما فيها، فوجدوا القباء بعينة قد جعله في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره، فسلمه المعز إليها ووفره عليها، ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها، فاستحسن الناس منه ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)).
وفيها توفي من الأعيان:
السري بن أحمد بن أبي السري
أبو الحسن الكندي الموصلي الرفا الشاعر، له مدائح في سيف الدولة بن حمدان، وغيره من الملوك والأمراء، وقد قدم بغداد فمات بها في هذه السنة.
وقيل: في سنة أربع.
وقيل: خمس.
وقيل: ست وأربعين.
وقد كان بينه وبين محمد بن سعيد معاداة وادعى عليه أنه سرق شعره، وكان مغنياً ينسج على ديوان كشاجم الشاعر، وربما زاد فيه من شعر الخالديين ليكثر حجمه.
قال ابن خلكان: وللسري الرفا هذا ديوان كبير جداً وأنشد من شعره:
يلقى الندى برقيقِ وجهٍ مسفر * فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى * في جحفل ترك الفضاء مضيقا
محمد بن هاني
الأندلسي، الشاعر، استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر، فمات ببعض الطريق، وجد مقتولاً على حافة البحر في رجب منها.
وقد كان قوي النظم إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق، فمن ذلك قوله يمدح المعز:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار * فاحكم فأنت الواحد القهار
وهذا من أكبر الكفر.
وقال أيضاً قبحه الله وأخزاه:
ولطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا
ومن ذلك قوله - قال ابن الأثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه:
جل بزيادة جل المسيح * بها وجل آدم ونوح
جل بها الله ذو المعالي * فكل شيء سواه ريح
وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له.
قلت: هذا الكلام إن صح عنه فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة ولا في هذه الدار.
وفيها توفي:
إبراهيم بن محمد
ابن شجنونة بن عبد الله المزكي أحد الحفاظ، أنفق على الحديث وأهله أموالاً جزيلة، وأسمع الناس بتخريجه، وعقد له مجلس للإملاء بنيسابور، ورحل وسمع من المشايخ غرباً وشرقاً.
ومن مشايخه: ابن جرير وابن أبي حاتم، وكان يحضر مجلسه خلقٌ كثير من كبار المحدثين، منهم: أبو العباس الأصم وأضرابه، توفي عن سبع وستين سنة.
سعيد بن القاسم بن خالد
أبو عمرو البردعي أحد الحفاظ، روى عنه الدارقطني وغيره.
محمد بن الحسن بن كوثر بن علي
أبو بحر البربهاري، روى عن إبراهيم الحربي وتمام والباغندي، والكديمي، وغيرهم، وقد روى عنه ابن زرقويه وأبو نعيم، وانتخب عليه الدارقطني، وقال: اقتصروا على ما خرجته له، فقد اختلظ صحيح سماعه بفاسده.
وقد تكلم فيه غير واحد من حفاظ زمانه بسبب تخليطه وغفلته، واتهمه بعضهم بالكذب أيضاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة
فيها: في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد، بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد، وذلك: أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقال: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلقٌ كثير، وعاث العيارون في البلد فساداً، ونهبت الأموال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا، فسكنت الفتنة.
وفيها: أخذ بختيار بن معز الدولة الموصل، وزوج ابنته بابن أبي تغلب بن حمدان.
وفيها: وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والأتراك، فقويت الديلم على الترك، بسبب أن الملك فيهم، فقتلوا خلقاً كثيراً، وحبسوا رؤوسهم، ونهبوا كثيراً من أموالهم.
وكتب عز الدولة إلى أهله:
إني سأكتب إليكم أني قدمت، فإذا وصل إليكم الكتاب فأظهروا النوح، واجلسوا للعزاء، فإذا جاء سبكتكين للعزاء فاقبضوا عليه فإنه ركن الأتراك ورأسهم.
فلما جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا النوح، وجلسوا للعزاء، ففهم سبكتكين أن هذه مكيدة فلم يقربهم، وتحقق العدواة بينه وبين عز الدولة، وركب من فوره في الأتراك فحاصر دار عز الدولة يومين، ثم أنزل أهله منها ونهب ما فيها، وأحدرهم إلى دجلة وإلى واسط منفيين.
وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معهم فتوسل إليه الخليفة، فعفا عنه، وأقره بداره، وقويت شوكة سبكتكين والأتراك ببغداد، ونهبت الأتراك دور الديلم، وخلع سبكتكين على رؤوس العامة، لأنهم كانوا معه على الديلم، وقويت السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ - لأنه محل الرافضة - ثانياً، وظهرت السنة على يدي الأتراك، وخلع المطيع وولي ولده على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
خلافة الطائع وخلع المطيع
ذكر ابن الأثير: أنه لما كان الثالث عشر من ذي القعدة.
وقال ابن الجوزي: كان ذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من ذي القعدة من هذه السنة، خلع المطيع لله وذلك لفالج أصابه فثقل لسانه، فسأله سبكتكين أن يخلع نفسه، ويولي من بعده ولده الطائع، فأجاب إلى ذلك، فعقدت البيعة للطائع بدار الخلافة على يدي الحاجب سبكتكين.
وخلع أبوه المطيع بعد تسع وعشرين سنة كانت له في الخلافة، ولكن تعوض بولاية ولده.
واسم الطائع: أبو بكر عبد الكريم بن المطيع أبي القاسم، ولم يل الخلافة من اسمه عبد الكريم سواه، ولا من أبوه حي سواه، ولا من كنيته أبو بكر سواه، وسوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، كان عمره لما تولى ثمانياً وأربعين سنة، وكانت أمه أم ولد اسمها غيث تعيش يوم ولي، ولما بويع ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين والجيش، ثم خلع من الغد على سبكتكين خلع الملوك، ولقبه ناصر الدولة، وعقد له الإمارة.
ولما كان يوم الأضحى ركب الطائع وعليه السواد، فخطب الناس بعد الصلاة خطبة خفيفة حسنة.
وحكى ابن الجوزي في (منتظمه): أن المطيع لله كان يسمى بعد خلعه: بالشيخ الفاضل.
الحرب بين المعز الفاطمي والحسين
لما استقر المعز الفاطمي بالديار المصرية، وابتنى فيها القاهرة والقصرين، وتأكد ملكه، سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي من الأحساء في جمع كثيف من أصحابه، والتف معه أمير العرب ببلاد الشام وهو حسان بن الجراح الطائي في، عرب الشام بكمالهم.
فلما سمع بهم المعز الفاطمي أسقط في يده لكثرتهم، وكتب إلى القرمطي يستميله ويقول: إنما دعوة آبائك كانت إلى آبائي قديماً، فدعوتنا واحدة، ويذكر فيه فضله وفضل آبائه.
فرد عليه الجواب: وصل كتابك الذي كثر تفضيله، وقل تحصيله، ونحن سائرون إليك على إثره والسلام.
فلما انتهوا إلى ديار مصر، عاثوا فيها قتلاً ونهباً وفساداً، وحار المعز فيما يصنع، وضعف جيشه عن مقاومتهم، فعدل إلى المكيدة والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب، ووعده بمائة ألف دينار إن هو خذل بين الناس، فبعث إليه حسان يقول: أن ابعث إليَّ بما التزمت وتعال بمن معك، فإذا لقيتنا انهزمت بمن معي، فلا يبقى للقرمطي قوة فتأخذه كيف شئت.
فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها، ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس، وألبسه ذهباً، وجعله في أسفل الأكياس، وجعل في رؤوسها الدنانير الخالصة، ولما بعثها إليه ركب في إثرها في جيشه، فالتقى الناس فانهزم حسان بمن معه.
فضعف جانب القرمطي، وقوي عليه الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله، وبعث المعز في آثارهم القائد أبا محمود بن إبراهيم في عشرة آلاف فارس، ليحسم مادة القرامطة ويطفئ نارهم عنه.
المعز الفاطمي ينتزع دمشق من القرامطة
لما انهزم القرمطي بعث المعز سرية، وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي، فجاؤوا إلى دمشق فتسلمها من القرامطة بعد حصار شديد، واعتقل متوليها أبا الهيجاء القرمطي وابنه، واعتقل رجلاً يقال له: أبو بكر من أهل نابلس، كان يتكلم في الفاطميين ويقول: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بواحد و رميت الفاطميين بتسعة.
فأمر به فسلخ بين يدي المعز وحشي جلده تبناً، وصلب بعد ذلك.
ولما تفرغ أبو محمود القائد من قتال القرامطة، أقبل نحو دمشق فخرج إليه ظالم بن موهوب، فتلقاه إلى ظاهر البلد وأكرمه، وأنزله ظاهر دمشق، فأفسد أصحابه في الغوطة ونهبوا الفلاحين، وقطعوا الطرقات، فتحول أهل الغوطة إلى البلد من كثرة النهب، وجيء بجماعة من القتلى فألقوا فكثر الضجيج، وغلقت الأسواق، واجتمعت العامة للقتال، والتقوا مع المغاربة، فقتل من الفريقين جماعة، وانهزمت العامة غير مرة.
وأحرقت المغاربة ناحية باب الفراديس، فاحترق شيءٌ كثير من الأموال والدور، وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين وأحرقت البلد مرة أخرى بعد عزل ظالم بن موهوب، وتولية جيش بن صمصامة بن أخت أبي محمود قبحه الله.
وقطعت القنوات وسائر المياه عن البلد، ومات كثيرٌ من الفقراء في الطرقات من الجوع والعطش، ولم يزل الحال كذلك حتى ولي عليهم الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فسكنت النفوس ولله الحمد.
ولما قويت الأتراك ببغداد، تحير بختيار بن معز الدولة في أمره وهو مقيم بالأهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد، فأرسل إلى عمه ركن الدولة يستنجده، فأرسل إليه بعسكر مع وزيره أبي الفتح ابن العميد، وأرسل إلى ابن عمه عضد الدولة ابن ركن الدولة، فأبطأ عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين فلم يجبه، وأرسل إلى أبي تغلب ابن حمدان فأظهر نصره، وإنما يريد في الباطن أخذ بغداد، وخرجت الأتراك من بغداد في جحفل عظيم ومعهم الخليفة المطيع وأبوه.
فصل
فلما انتهوا إلى واسط، توفي المطيع، وبعد أيام توفي سبكتكين، فحملا إلى بغداد، والتف الأتراك على أمير يقال له: أفتكين، فاجتمع شملهم، والتقوا مع بختيار، فضعف أمره جداً، وقوي عليه ابن عمه عضد الدولة، فأخذ منه ملك العراق، وتمزق شمله، وتفرق أمره.
وفيها: خطب للمعز الفاطمي بالحرمين مكة والمدينة النبوية.
وفيها: خرج طائفة من بني هلال وطائفة من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام.
وفيها: انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وأوله من سنة خمس وتسعين ومائتين، وهي أول دولة المقتدر.
وفيها: كانت زلزلة شديدة بواسط، وحج بالناس فيها الشريف أبو أحمد الموسوي، ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى من كان معه على درب العراق.
وقد أخذ بالناس على طريق المدينة، فتم حجهم.
وفيها توفي من الأعيان:
العباس بن الحسين
أبو الفضل السراجي، الوزير لعز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه، وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها، عكس مخدومه، فعزله وولى محمد بن بقية البابا، كما تقدم، وحبس هذا، فقتل في محبسه في ربيع الآخر منها، عن تسع وخمسين سنة، وكان فيه ظلم وحيف فالله أعلم.
وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر
الفقيه الحنبلي، المعروف: بغلام، أحد مشاهر الحنابلة الأعيان، وممن صنف وجمع وناظر، وسمع الحديث من أبي القاسم البغوي وطبقته، ومات وقد عدا الثمانين.
قال ابن الجوزي: وله (المقنع) في مائة جزء، و (الشافي) في ثمانين جزء، و(زاد المسافر)، و(الخلاف مع الشافعي)، و(كتاب القولين)، و(مختصر السنة)، وغير ذلك في التفسير والأصول.
علي بن محمد
أبو الفتح البستي، الشاعر المشهور، له ديوان جيد قوي، وله في المطابقة والمجانسة اليد الطولى، ومبتكرات أولى.
وقد ذكر ابن الجوزي له في (منتظمه): من ذلك قطعة كبيرة مرتبة على حروف المعجم، من ذلك قوله:
إذا قنعت بميسور من القوت * بقيت في الناس حراً غير ممقوت
يا قوت يومي إذا مادر خلفك لي * فلست آسي على در وياقوت
وقوله:
يا أيها السائل عن مذهبي * ليقتدي فيه بمنهاجي
منهاجي الحق وقمع الهوى * فهل لمنهاجي من هاجي
وقوله:
أفد طبعك المكدود بالجد راحة * تجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيت ذلك فليكن * بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
أبو فراس بن حمدان الشاعر
له ديوان مشهور.
استنابه أخوه سيف الدولة على حران ومنبج، فقاتل مرة الروم فأسروه ثم استنقذه سيف الدولة، واتفق موته في هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة، وله شعر رائق ومعاني حسنة.
وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال:
المرء رهن مصائب لا تنقضي * حتى يوارى جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في أهله * ومعجل يلقى الأذى في نفسه
فلما قالهما كان عنده رجل من العرب فقال: قل في معناهما، فقال الأعرابي:
من يتمنى العمر فليتخذ * صبراً على فقد أحبابه
ومن يعمر يلق في نفسه * ما يتمناه لأعدائه
كذا ذكر ابن الساعي هذين البيتين من شعر سيف الدولة في أخيه أبي فراس.
وذكرها ابن الجوزي: من شعر أبي فراس نفسه، وأن الأعرابي أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما.
ومن شعر أبي فراس:
سيفقدني قومي إذا جد جدهم * وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا * به وما فعل النسر الرفيق مع الصقر
وقوله من قصيدة:
إلى الله أشكو إننا بمنازل * تحكم في آسادهن كلاب
فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة
فيها: جاء عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى واسط، ومعه وزير أبيه أبو الفتح بن العميد، فهرب منه الفتكين في الأتراك إلى بغداد، فسار خلفهم فنزل في الجانب الشرقي منها.
وأمر بختيار أن ينزل على الجانب الغربي، وحصر الترك حصراً شديداً، وأمر أمراء الأعراب أن يغيروا على الأطراف، ويقطعوا عن بغداد الميرة الواصلة إليها، فغلت الأسعار، وامتنع الناس من المعاش من كثرة العيارين والنهوب، وكبس الفتكين البيوت، لطلب الطعام، واشتد الحال ثم التفت الأتراك وعضد الدولة فكسرهم وهربوا إلى تكريت، واستحوذ عضد الدولة على بغداد، وما والاها من البلاد.
وكانت الترك قد أخرجوا معهم الخليفة، فرده عضد الدولة إلى دار الخلافة مكرماً، ونزل هو بدار الملك، وضعف أمر بختيار جداً، ولم يبق معه شيء بالكلية، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عن بابه، واستعفى عن الإمارة، وكان ذلك بمشورة عضد الدولة، فاستعطفه عضد الدولة في الظاهر، وقد أشار عليه في الباطن أن لا يقبل فلم يقبل.
وترددت الرسل بينهما، فصمم بختيار على الامتناع ظاهراً، فألزم عضد الدولة بذلك وأظهر للناس أنه إنما يفعل هذا عجزاً منه عن القيام بأعباء الملك، فأمر بالقبض على بختيار وعلى أهله وإخوته، ففرح بذلك الخليفة الطائع، وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارساً، وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها آنساً.
وأرسل إلى الخليفة بالأموال والأمتعة الحسنة العزيزة، وقتل المفسدين من مردة الترك وشطار العيارين.
قال ابن الجوزي: وفي هذه السنة عظم البلاء بالعيارين ببغداد وأحرقوا سوق باب الشعير، وأخذوا أموالاً كثيرة، وركبوا الخيول، وتلقبوا بالقواد، وأخذوا الخفر من الأسواق والدروب، وعظمت المحنة بهم جداً، واستفحل أمرهم حتى أن رجلاً منهم أسود كان مستضعفاً نجم فيهم، وكثر ماله حتى اشترى جارية بألف دينار، فلما حصلت عنده حاولها عن نفسها فأبت عليه، فقال لها: ماذا تكرهين مني؟
قالت: أكرهك كلك.
فقال: فما تحبين؟
فقالت: تبيعني.
فقال: أو خير من ذلك؟
فحملها إلى القاضي فأعتقها وأعطاها ألف دينار وأطلقها، فتعجب الناس من حلمه وكرمه مع فسقه وقوته.
قال: وورد الخبر في المحرم بأنه خطب للمعز الفاطمي بمكة والمدينة في الموسم، ولم يخطب للطائع.
قال: وفي رجب منها: غلت الأسعار ببغداد، حتى بيع الكر الدقيق الحواري بمائة ونيف وسبعين ديناراً.
قال: وفيها: اضمحل أمر عضد الدولة بن بويه، وتفرق جنده عنده، ولم يبق معه سوى بغداد وحدها، فأرسل إلى أبيه يشكو له ذلك، فأرسل يلومه على الغدر بابن عمه بختيار، فلما بلغه ذلك خرج من بغداد إلى فارس، بعد أن أخرج ابن عمه من السجن وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه، وشرط عليه أن يكون نائباً له بالعراق يخطب له بها، وجعل معه أخاه أبا إسحاق أمير الجيوش لضعف بختيار عن تدبير الأمور، واستمر ذاهباً إلى بلاده، وذلك كله عن أمر أبيه له بذلك، وغضبه عليه بسبب غدره بابن عمه، وتكرار مكاتباته فيه إليه.
ولما سار ترك بعده وزير أبيه أبا الفتح ابن العميد، ولما استقر عز الدولة بختيار ببغداد وملك العراق، لم يف لابن عمه عضد الدولة بشيء مما قال، ولا ما كان التزم، بل تمادى على ضلاله القديم، واستمر على مشيه الذي هو غير مستقيم من الرفض وغيره.
قال: وفي يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة، تزوج الخليفة الطائع شاه باز بنت عز الدولة، على صداق مائة ألف دينار، وفي سلخ ذي القعدة عزل القاضي أبو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان، وقلده أبو محمد معروف. وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي، وخطب له بالحرمين دون الطائع، والله سبحانه أعلم.
ذكر أخذ دمشق من أيدي الفاطميين
ذكر ابن الأثير في (كامله): أن الفتكين، غلام معز الدولة الذي كان قد خرج عن طاعته كما تقدم، والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والأعراب، نزل في هذه السنة على دمشق، وكان عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها، فذكروا له ما هم فيه من الظلم والغشم، ومخالفة الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يصمم على أخذها ليستنقذها منهم.
فعند ذلك صمم على أخذها، ولم يزل حتى أخذها وأخرج منها ريان الخادم، وكسر أهل الشر بها، ورفع أهل الخير، ووضع في أهلها العدل، وقمع أهل اللعب واللهو، وكف أيدي الأعراب الذين كانوا قد عاثوا في الأرض فساداً، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ونهبوا أهلها.
ولما استقامت الأمور على يديه، وصلح أمر أهل الشام، كتب إليه المعز الفاطمي يشكر سعيه، ويطلبه إليه ليخلع عليه، ويجعله نائباً من جهته، فلم يجبه إلى ذلك؛ بل قطع خطبته من الشام وخطب للطائع العباسي، ثم قصد صيدا، وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ، وفيهم ظالم بن موهوب العقيلي، الذي كان نائباً على دمشق للمعز الفاطمي، فأساء بهم السيرة، فحاصرهم، ولم يزل حتى أخذ البلد منهم، وقتل منهم نحواً من أربعة آلاف من سراتهم.
ثم قصد طبرية، ففعل بأهلها مثل ذلك، فعند ذلك عزم المعز الفاطمي على المسير إليه، فبينما هو يجمع له العساكر إذ توفي المعز في سنة خمس وستين كما سيأتي.
وقام بعده ولده العزيز، فاطمأن عند ذلك الفتكين بالشام، واستفحل أمره، وقويت شوكته، ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا جوهراً القائد لقتاله، وأخذ الشام من يده، فعند ذلك حلف أهل الشام لأفتكين أنهم معه على الفاطميين، وأنهم ناصحون له غير تاركيه.
وجاء جوهر فحصر دمشق سبعة أشهر حصراً شديداً، ورأى من شجاعة الفتكين ما بهره، فلما طال الحال أشار من أشار من الدماشقة على الفتكين أن يكتب إلى الحسين بن أحمد القرمطي، وهو بالأحساء ليجيء إليه.
فلما كتب إليه أقبل لنصره، فلما سمع به جوهر لم يمكنه أن يبقى بين عدوين من داخل البلد وخارجها، فارتحل قاصداً الرملة، فتبعه ألفتكين والقرمطي في نحو من خمسين ألفاً، فتواقعوا عند نهر الطواحين على ثلاث فراسخ من الرملة، وحصروا جوهراً بالرملة.
فضاق حاله جداً من قلة الطعام والشراب، حتى أشرف هو ومن معه على الهلاك، فسأل من الفتكين على أن يجتمع هو وهو على ظهور الخيل، فأجابه إلى ذلك، فلم يزل يترفق له أن يطلقه حتى يذهب بمن معه من أصحابه إلى أستاذه شاكراً له مثنياً عليه الخير، ولا يسمع من القرمطي فيه - وكان جوهر داهية - فأجابه إلى ذلك، فندمه القرمطي، وقال:
الرأي أنا كنا نحصرهم حتى يموتوا عن آخرهم، فإنه يذهب إلى أستاذه، ثم بجمع العساكر ويأتينا، ولا طاقة لنا به.
وكان الأمر كما قال، فإنه لما أطلقه الفتكين من الحصر لم يكن له دأب، إلا أنه حث العزيز على الخروج إلى الفتكين بنفسه، فأقبل في جحافل أمثال الجبال، وفي كثرة من الرجال والعدد والأثقال والأموال، وعلى مقدمته جوهر القائد.
وجمع الفتكين والقرمطي الجيوش والأعراب، وساروا إلى الرملة، فاقتتلوا في محرم سنة سبع وستين، ولما تواجهوا رأى العزيز من شجاعة الفتكين ما بهره، فأرسل إليه يعرض عليه إن أطاعه ورجع إليه أن يجعله مقدم عساكره، وأن يحسن إليه غاية الإحسان.
فترجل افتكين عن فرسه بين الصفين، وقبل الأرض نحو العزيز، وأرسل إليه يقول: لو كان هذا القول سبق قبل هذا الحال، لأمكنني وسارعت وأطعت، وأما الآن فلا.
ثم ركب فرسه، وحمل على ميسرة العزيز، ففرق شملها، وبدد خيلها ورجلها، فبرز عند ذلك العزيز من القلب، وأمر الميمنة فحملت حملة صادقة فانهزم القرمطي، وتبعه بقية الشاميين، وركبت المغاربة أقفيتهم يقتلون ويأسرون من شاؤوا، وتحول العزيز فنزل خيام الشاميين بمن معه، وأرسل السرايا وراءهم، وجعل لا يؤتى بأسير إلا خلع على من جاء به، وجعل لمن جاءه الفتكين مائة ألف دينار.
فاتفق أن الفتكين عطش عطشاً شديداً، فاجتاز بمفرج بن دغفل، وكان صاحبه فاستسقاه فسقاه، وأنزله عنده في بيوته، وأرسل إلى العزيز يخبره بأن طلبته عنده، فليحمل المال إلي، وليأخذ غريمه.
فأرسل إليه بمائة ألف دينار، وجاء من تسلمه منه، فلما أحيط بالفتكين لم يشك أنه مقتول فما هو إلا أن حضر عند العزيز، أكرمه غاية الإكرام، ورد إليه حواصله وأمواله، لم يفقد منها شيئاً، وجعله من أخص أصحابه وأمرائه، وأنزله إلى جانب منزله، ورجع به إلى الديار المصرية مكرماً معظماً، وأقطعه هنالك إقطاعات جزيلة.
وأرسل إلى القرمطي أن يقدم عليه ويكرمه، كما أكرم الفتكين، فامتنع عليه وخاف منه، فأرسل إليه بعشرين ألف دينار، وجعلها له عليه في كل سنة، يكف بها شره، ولم يزل الفتكين مكرماً عند العزيز، حتى وقع بينه وبين الوزير ابن كلس، فعمل عليه حتى سقاه سماً فمات، وحين علم العزيز بذلك غضب على الوزير، وحبسه بضعاً وأربعين يوماً وأخذ منه خمسمائة ألف دينار، ثم رأى أن لا غنى به عنه، فأعاده إلى الوزارة.
وهذا ملخص ما ذكره ابن الأثير.
وفيها توفي من الأعيان:
سبكتكين الحاجب التركي
مولى المعز الديلمي وحاجبه، وقد ترقى في المراتب حتى آل به الأمر إلى أن قلده الطائع الإمارة، وخلع عليه، وأعطاه اللواء، ولقبه: بنور الدولة، وكانت مدة أيامه في هذا المقام شهرين وثلاثة عشر يوماً، ودفن ببغداد، وداره هي دار الملك ببغداد، وهي دار عظيمة جداً.
وقد اتفق له أنه سقط مرة عن فرسه، فانكسر صلبه، فداواه الطبيب حتى استقام ظهره، وقدر على الصلاة، إلا أنه لا يستطيع الركوع، فأعطاه شيئاً كثيراً من الأموال، وكان يقول للطبيب: إذا ذكرت وجعي ومداواتك لي لا أقدر على مكافأتك، ولكن إذا تذكرت وضعك قدميك على ظهري اشتد غضبي منك.
توفي ليلة الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها.
وقد ترك من الأموال شيئاً كثيراً جداً من ذلك ألف ألف دينار، وعشرة آلاف ألف درهم، وصندوقان من جوهر، وخمسة عشر صندوقاً من البلور، وخمسة وأربعين صندوقاً من آنية الذهب، ومائة وثلاثون كوكباً من ذهب، منها خمسون وزن كل واحد ألف دينار، وستمائة مركب من فضة، وأربعة آلاف ثوب من ديباج، وعشرة آلاف ديبقي وعتابي، وثلاثمائة عدل معكومة من الفرش، وثلاثة آلاف فرس وألف جمل، وثلاثمائة غلام وأربعون خادماً، وذلك غير ما أودع عند أبي بكر البزار، وكان صاحبه.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة
فيها: قسم ركن الدولة ابن بويه ممالكه بين أولاده عندما كبرت سنه، فجعل لولده عضد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همدان والدينور، وجعل ولده أبا العباس في كنف عضد الدولة، وأوصاه به.
وفيها: جلس قاضي القضاة ببغداد، أبو محمد ابن معروف في دار عز الدولة لفصل الحكومات عن أمره له بذلك، فحكم بين يديه بين الناس.
وفيها: حج بالناس أمير المصريين من جهة العزيز الفاطمي، بعد ما حاصر أهل مكة، ولقوا شدةً عظيمة، وغلت الأسعار بها جداً.
وفيها: ذكر ابن الأثير: أن يوسف بلكين نائب المعز الفاطمي على بلاد إفريقية، ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فجعل يتأمل من أين يحاصرها، فحاصرها نصف يوم فخافه أهلها خوفاً شديداً، ثم انصرف عنها إلى مدينة هنالك يقال لها: بصرة في المغرب، فأمر بهدمها ونهبها.
ثم سار إلى مدينة برغواطة، وبها رجل يقال له: عيسى ابن أم الأنصار، وهو ملكها، وقد اشتدت المحنة به لسحره وشعبذته، وادعى أنه نبي فأطاعوه، ووضع لهم شريعة يقتدون بها، فقاتلهم بلكين فهزمهم، وقتل هذا الفاجر، ونهب أموالهم، وسبى ذراريهم، فلم يرَ سبي أحسن أشكالاً منهم، فيما ذكره أهل تلك البلاد في ذلك الزمان. (ج/ص: 11/ 321)
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن جعفر بن محمد بن مسلم
أبو بكر الختلي، له مسند كبير، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي محمد الكجي، وخلق، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة، وقد قارب التسعين.
ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي
المؤرخ فيما ذكره ابن الأثير في (الكامل).
الحسين بن محمد بن أحمد
أبو علي الماسرجسي الحافظ، رحل وسمع الكثير وصنف (مسنداً) في ألف وثلاثمائة جزء بطرقه وعلله، وله (المغازي والقبائل)، وخرَّج على الصحيح وغيره.
قال ابن الجوزي: وفي بيته وسلفه تسعة عشر محدثاً.
توفي في رجب منها.
أبو أحمد بن عدي الحافظ
أبو عبد الله بن محمد بن أبي أحمد الجرجاني - أبو أحمد بن عدي - الحافظ الكبير المفيد الإمام العالم، الجوال النقال الرحال، له كتاب (الكامل في الجرح والتعديل) لم يسبق إلى مثله، ولم يلحق في شكله.
قال حمزة عن الدارقطني: فيه كفاية لا يزاد عليه.
ولد أبو أحمد ابن عدي في سنة سبع وسبعين ومائتين، وهي السنة التي توفي فيها أبو حاتم الرازي، وتوفي ابن عدي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
المعز الفاطمي
باني القاهرة، معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد الله أبو تميم المدعي أنه فاطمي، صاحب الديار المصرية، وهو أول من ملكها من الفاطميين، وكان أول ملكاً ببلاد إفريقية وما والاها من بلاد المغرب.
فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بعث بين يديه جوهراً القائد فأخذ له بلاد مصر من كافور الأخشيدي بعد حروب تقدم ذكرها، واستقرت أيدي الفاطميين عليها، فبنى بها القاهرة، وبنى منزل الملك، وهما القصران، ثم أقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلاثمائة، ثم قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل من الجيوش، وأمراء من المغاربة والأكابر.
وحين نزل الإسكندرية تلقاه وجوه الناس، فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها: أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه، وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهراً وباطناً.
كما قاله القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قبحهم الله وإياه.
وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة، ورميت المصريين بسهم.
فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله.
فقال: كيف قلت؟
قال: قلت: ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر.
وقال: ولِمَ؟
قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله.
فكان يقال له: الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير.
وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة، وقوة حزم وشدة عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق، ولكنه كان مع ذلك منجماً، يعتمد على حركات النجوم.
قال له منجمه: إن عليك قطعاً - أي: خوفاً - في هذه السنة فتوار عن وجه الأرض حتى تنقضي هذه المدة، فعمل له سرداباً، وأحضر الأمراء وأوصاهم بولده نزار، ولقبه العزيز، وفوض إليه الأمر، حتى يعود إليهم.
فبايعوه على ذلك، ودخل المعز ذلك السرداب، فتوارى فيه سنة، فكانت المغاربة إذا رأوا سحاباً ترجل الفارس منهم له عن فرسه، وأومأ إليه بالسلام، ظانين أن المعز في ذلك الغمام، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
ثم برز إليهم بعد سنة، وجلس في مقام الملك، وحكم على عادته أياماً، ولم تطل مدته بل عاجله القضاء المحتوم، ونال رزقه المقسوم، فكانت وفاته في هذه السنة.
وكانت أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثلاثاً وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي ببلاد المغرب، وجملة عمره كلها خمسة وأربعون سنة وستة أشهر، لأنه ولد بإفريقية في عاشر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكانت وفاته بمصر في اليوم السابع عشر من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة، وهي هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة
فيها: توفي ركن الدولة ابن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سنة، وكانت أيام ولايته نيفاً وأربعين سنة، وقبل موته بسنة قسم ملكه بين أولاده كما ذكرنا.
وقد عمل ابن العميد مرة ضيافة في داره، وكانت حافلة حضرها ركن الدولة، وبنوه وأعيان الدولة، فعهد ركن الدولة في هذا اليوم إلى ابنه عضد الدولة.
وخلع عضد الدولة على إخوته وسائر الأمراء الأقبية والأكسية على عادة الديلم، وحفوه بالريحان على عادتهم أيضاً، وكان يوماً مشهوداً.
وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر، وتوفي بعد هذه الوليمة بقليل في هذه السنة، وكان حليماً وقوراً كثير الصدقات، محباً للعلماء، فيه بر وكرم وإيثار، وحسن عشرة ورياسة، وحنو على الرعية وعلى أقاربه.
وحين تمكن ابنه عضد الدولة قصد العراق ليأخذها من ابن عمه بختيار لسوء سيرته، ورداءة سريرته، فالتقوا في هذه السنة بالأهواز فهزمه عضد الدولة وأخذ أثقاله وأمواله، وبعث إلى البصرة فأخذها وأصلح بين أهلها حيي ربيعة ومضر، وكان بينهما خلف متقادم من نحو مائة وعشرين سنة، وكانت مضر تميل إليه وربيعة عليه، ثم اتفق الحيان عليه، وقويت شوكته، وأذل بختيار، وقبض على وزيره ابن بقية، لأنه استحوذ على الأمور دونه، وجبى الأموال إلى خزائنه، فاستظهر عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لابن بقية، ولم يبق له منها بقية.
وكذلك أمر عضد الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح ابن العميد لموجدة تقدمت منه إليه، وقد سلف ذكرها. ولم يبقَ لابن العميد أيضاً في الأرض بقية، وقد كانت الأكابر تتقيه.
وقد كان ابن العميد من الفسوق والعصيان بأوفر مكان، فخانته المقادير، ونزل به غضب السلطان، ونحن نعوذ بالله من غضب الرحمن.
وفي منتصف شوال منها: توفي الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب بلاد خراسان وبخارى وغيرها، وكانت ولايته خمس عشر سنة، وقام بالأمر من بعده ولده أبو القاسم نوح، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة ولقب بالمنصور.
وفيها: توفي الحاكم وهو المستنصر بالله ابن الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي، وقد كان هذا من خيار الملوك وعلمائهم، وكان عالماً بالفقه والخلاف والتواريخ محباً للعلماء محسناً إليهم، توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة وسبعة أشهر. ومدة خلافته منها خمسة عشر سنة وخمسة أشهر.
وقام بالأمر من بعده ولده هشام، وله عشر سنين، ولقب: بالمؤيد بالله، وقد اختلف عليه في أيامه واضطربت الرعايا عليه وحبس مدة، ثم أخرج وأعيد إلى الخلافة، وقام بأعباء أمره حاجبه المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المغافري، وابناه المظفر والناصر، فساسوا الرعايا جيداً وعدلا فيهم، وغزوا الأعداء، واستمر لهم الحال كذلك نحوا من ست وعشرين سنة.
وقد ساق ابن الأثير هنا قطعة من أخبارهم وأطال.
وفيها: رجع ملك حلب إلى أبي المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، وذلك أنه لما مات أبوه، وقام هو من بعده تغلب قرعويه مولاهم، واستولى عليهم، سار إليه فأخرجه منها خائفاً يترقب.
ثم جاء فنزل حماه وكانت الروم قد خربت حمص فسعى في عمارتها وترميمها وسكنها، ثم لما اختلفت الأمور على قرعويه كتب أهل حلب إلى أبي المعالي هذا، وهو بحمص أن يأتيهم، فسار إليهم فحاصر حلب أربعة أشهر فافتتحها، وامتنعت منه القلعة، وقد تحصن بها نكجور، ثم اصطلح مع أبي المعالي على أن يؤمنه على نفسه ويستنيبه بحمص، ثم انتقل إلى نيابة دمشق، وإليه تنسب هذه المزرعة ظاهر دمشق، التي تعرف بالقصر النكجوري.
ابتداء ملك بني سبكتكين
والد محمود صاحب غزنة.
وقد كان سبكتكين مولى الأمير أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة وأعمالها للسامانية، وليس هذا بحاجب معز الدولة ذاك.
توفي قبل هذه السنة كما تقدم، وأما هذا فإنه لما مات مولاه لم يترك أحداً يصلح للملك من بعده لا من ولده ولا من قومه، فاصطلح الجيش على مبايعة سبكتكين هذا لصلاحه فيهم، وخيره وحسن سيرته، وكمال عقله، وشجاعته، وديانته.
فاستقر الملك في يده، واستمر من بعده في ولده السعيد محمود بن سبكتكين، وقد غزا هذا بلاد الهند، وفتح شيئاً كثيراً من حصونهم، وغنم أموالاً كثيرة، وكسر من أصنامهم ونذورهم أمراً هائلاً، وباشر من معه من الجيوش حرباً عظيمة هائلة، وقد قصده جيبال ملك الهند الأعظم بنفسه، وجنوده التي تعم السهول والجبال، فكسره مرتين، وردهم إلى بلادهم في أسوأ حال وأردأ بال.
وذكر ابن الأثير في (كامله): أن سبكتكين لما التقى مع جيبال ملك الهند في بعض الغزوات، كان بالقرب منهم عين في عقبة باغورك، وكان من عادتهم أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذراً اكفهرت السماء، وأرعدت، وأبرقت، وأمطرت، ولا تزال كذلك حتى تطهر تلك العين من ذلك الشيء الذي ألقي فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة فيها - وكانت قريبة من نحو العدو - فلم يزالوا في رعود وبروق وأمطار وصواعق، حتى ألجأهم ذلك إلى الهرب والرجوع إلى بلادهم خائبين هاربين.
وأرسل ملك الهند يطلب من سبكتكين الصلح، فأجابه بعد امتناع من ولده محمود على مال جزيل يحمله إليه، وبلاد كثيرة يسلمها إليه، وخمسين فيلاً، ورهائن من رؤوس قومه يتركها عنده، حتى يقوم بما التزمه من ذلك.
وفيها توفي:
أبو يعقوب يوسف
ابن الحسين الجنابي صاحب هجر، ومقدم القرامطة، وقام بالأمر من بعده ستة من قومه، وكانوا يسمون: بالسادة، وقد اتفقوا على تدبير الأمر من بعده، ولم يختلفوا، فمشى حالهم.
وفيها كانت وفاة:
الحسين بن أحمد
ابن أبي سعيد الجنابي أبو محمد القرمطي.
قال ابن عساكر: واسم أبي سعيد: الحسين بن بهرام، ويقال: ابن أحمد، يقال: أصلهم من الفرس، وقد تغلب هذا على الشام في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، ثم عاد إلى الأحساء بعد سنة، ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين، وكسر جيش جعفر بن فلاح أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي وقتله.
ثم توجه إلى مصر فحاصرها في مستهل ربيع الأول من سنة إحدى وستين، واستمر محاصرها شهوراً، وقد كان استخلف على دمشق ظالم بن موهوب، ثم عاد إلى الأحساء، ثم رجع إلى الرملة فتوفي بها في هذه السنة، وقد جاوز التسعين، وهو يظهر طاعة عبد الكريم الطائع لله العباسي.
وقد أورد له ابن عساكر أشعاراً رائقة، من ذلك ما كتب به إلى جعفر بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما، وهي من أفحل الشعر:
الكتب معذرة والرسل مخبرة * والحق متبع والخير محمود
والحرب ساكنة والخيل صافنة * والسلم مبتذل والظل ممدود
فإن أنبتم فمقبول إنابتكم * وإن أبيتم فهذا الكور مشدود
على ظهور المنايا أو يردن بنا * دمشق والباب مسدود ومردود
إني امرؤ ليس من شأني ولا أربى * طبل يرن ولا ناي ولا عود
ولا اعتكاف على خمر ومخمرة * وذات دل لها غنج وتفنيد
ولا أبيت بطين البطن من شبع * ولي رفيق خميص البطن مجهود
ولا تسامت بي الدنيا إلى طمع * يوما ولا غرني فيها المواعيد
ومن شعره أيضاً:
يا سكان البلد المنيف تعززا * بقلاعه وحصونه وكهوفه
لا عز إلا للعزيز بنفسه * وبخيله وبرجله وسيوفه
وبقية بيضاء قد ضربت على * شرف الخيام بجاره وضيوفه
قوم إذا اشتد الوغا أردى العدا * وشفى النفوس بضربه وزحوفه
لم يجعل الشرف التليد لنفسه * حتى أفاد تليده بطريفه
وفيها: تملك قابوس بن وشمكير بلاد جرجان وطبرستان، وتلك النواحي.
وفيها: دخل الخليفة الطائع بشاه بار بنت عز الدولة ابن بويه، وكان عرساً حافلاً.
وفيها: حجت جميلة بنت ناصر الدولة ابن حمدان في تجمل عظيم، حتى كان يضرب المثل بحجها، وذلك أنها عملت أربعمائة محمل وكان لا يدري في أيها هي.
ولما وصلت إلى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار على الفقراء والمجاورين، وكست المجاورين بالحرمين كلهم، وأنفقت أموالاً جزيلة في ذهابها وإيابها.
وحج بالناس من العراق الشريف أحمد بن الحسين بن محمد العلوي، وكذلك حج بالناس إلى سنة ثمانين وثلاثمائة، وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
إسماعيل بن نجيد
ابن أحمد بن يوسف أبو عمرو السلمي، صحب الجنيد وغيره، وروى الحديث، وكان ثقة، ومن جيد كلامه قوله: من لم تهدك رؤيته فليس بمهذب.
وقد احتاج شيخه أبو عثمان مرة إلى شيء، فسأل أصحابه فيه، فجاءه ابن نجيد بكيس فيه ألفا درهم فقبضه منه، وجعل يشكره إلى أصحابه، فقال له ابن نجيد بين أصحابه: يا سيدي إن المال الذي دفعته إليك كان من مال أمي، أخذته وهي كارهة، فأنا أحب أن ترده إليّ حتى أرده إليها فأعطاه إياه.
فلما كان الليل جاء به وقال: أحب أن تصرفها في أمرك ولا تذكرها لأحد. فكان أبو عثمان يقول: أنا أجتني من همة أبي عمرو بن نجيد رحمهم الله تعالى.
الحسن بن بويه
أبو علي ركن الدولة عرض له قولنج فمات في ليلة السبت الثامن والعشرين من المحرم منها، وكانت مدة ولايته أربعاً وأربعين سنة وشهراً وتسعة أيام، ومدة عمره ثمان وسبعون سنة، وكان حليماً كريماً. (ج/ص: 11/ 327)
محمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بن رافع بن إبراهيم بن أفلح بن عبد الرحمن بن رفاعة بن رافع، أبو الحسن الأنصاري الزرقي، كان نقيب الأنصار، وقد سمع الحديث من أبي القاسم البغوي وغيره، وكان ثقة يعرف أيام الأنصار ومناقبهم، وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها.
محمد بن الحسن
ابن أحمد بن إسماعيل أبو الحسن السراج، سمع يوسف بن يعقوب القاضي وغيره، وكان شديد الاجتهاد في العبادة.
صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، توفي يوم عاشوراء منها.
القاضي منذر البلوطي
رحمه الله، قاضي قضاة الأندلس، كان إماماً عالماً فصيحاً خطيباً شاعراً أديباً، كثير الفضل، جامعاً لصنوف من الخير والتقوى والزهد، وله مصنفات واختيارات، منها: أن الجنة التي سكنها آدم وأهبط منها كانت في الأرض، وليست بالجنة التي أعدها الله لعباده في الآخرة، وله في ذلك مصنف مفرد، له وقع في النفوس، وعليه حلاوة وطلاوة.
دخل يوماً على الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي، وقد فرغ من بناء المدينة الزهراء وقصورها، وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع الدهانات وكسي الستور، وجلس عنده رؤوس دولته وأمراؤه، فجاءه القاضي فجلس إلى جانبه وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه، والقاضي ساكت لا يتكلم، فالتفت إليه الملك وقال:
ما تقول أنت يا أبا الحكم؟
فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته وقال: ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك، المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.
قال الله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ*وَزُخْرُفاً..} الآية [الزخرف: 33-35].
قال: فوجم الملك عند ذلك وبكى، وقال: جزاك الله خيراً وأكثر في المسلمين مثلك.
وقد قحط في بعض السنين، فأمره الملك أن يستسقي للناس.
فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك.
فقال: تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعاً.
فقال القاضي: سقيتم والله إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء.
ثم قال لغلامه: ناد في الناس الصلاة، فجاء الناس إلى محل الاستسقاء، وجاء القاضي منذر، فصعد المنبر والناس ينظرون إليه، ويسمعون ما يقول.
فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به قال: سلام عليكم، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54].
ثم أعادها مراراً فأخذ الناس في البكاء والنحيب والتوبة والإنابة، فلم يزالوا كذلك حتى سقوا ورجعوا يخوضون الماء.
أبو الحسن علي بن أحمد
ابن المرزبان الفقيه الشافعي تفقه بأبي الحسين ابن القطان وأخذ عنه الشيخ أبو حامد الإسفراييني.
قال ابن خلكان: كان ورعاً زاهداً ليس لأحد عنده مظلمة، وله في المذهب وجه، وكان له درس ببغداد.
توفي في رجب منها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة
فيها: دخل عضد الدولة إلى بغداد، وخرج منها عز الدولة بختيار واتبعه عضد الدولة وأخذ معه الخليفة فاستعفاه فأعفاه، وسار عضد الدولة وراءه فأخذه أسيراً، ثم قتل سريعاً وتصرمت دولته واستقر أمر عضد الدولة ببغداد، وخلع عليه الخليفة الخلع السنية والأسورة والطوق، وأعطاه لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة، ولم يكن هذا لغيره إلا لأولياء العهد، وأرسل إليه خليفة بتحف سنية.
وبعث عضد الدولة إلى الخليفة أموالاً جزيلة من الذهب والفضة، واستقرت يده على بغداد وما والاها من البلاد، وزلزلت بغداد مراراً في هذه السنة، وزادت دجلة زيادة كثيرة غرق بسببها خلقٌ كثير.
وقيل لعضد الدولة: إن أهل بغداد قد قلوا كثيراً بسبب الطاعون، وما وقع بينهم من الفتن بسبب الرفض والسنة وأصابهم حريق وغرق، فقال: إنما يهيج الشر بين الناس هؤلاء القصاص والوعاظ، ثم رسم أن أحداً لا يقص ولا يعظ في سائر بغداد، ولا يسأل سائل باسم أحد من الصحابة، وإنما يقرأ القرآن فمن أعطاه أخذ منه.
فعمل بذلك في البلد، ثم بلغه أن أبا الحسين ابن سمعون الواعظ - وكان من الصالحين - لم يترك الوعظ بل استمر على عادته.
فأرسل إليه من جاء به، وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون: إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبل التراب.
فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون في حقه كلام بحضرة الناس يؤثر عنه.
ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح القراءة بقوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ...} الآية [هود: 102] ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] ثم أخذ في مخاطبة الملك ووعظه، فبكى عضد الدولة بكاءً كثيراً، وجزاه خيراً.
فلما خرج من عنده قال للحاجب: اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم، وعشرة أثواب وادفعها له فإن قبلها جئني برأسه.
قال الحاجب: فجئته.
فقلت: هذا أرسل به الملك إليك.
فقال: لا حاجة لي به، هذه ثيابي من عهد أبي منذ أربعين سنة، كلما خرجت إلى الناس لبستها، فإذا رجعت طويتها ولي دار آكل من أجرتها، تركها لي أبي، فأنا في غنية عما أرسل به الملك.
فقلت: فرقها في فقراء أهلك.
فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء أهلي، وأفقر إليها منهم.
فرجعت إلى الملك لأشاوره وأخبره بما قال، فسكت ساعة، ثم قال: الحمد لله الذي سلمه منا وسلمنا منه.
ثم إن عضد الدولة أخذ ابن بقية الوزير لعز الدولة، فأمر به فوضع بين قوائم الفيلة فتخبطته بأرجلها حتى هلك، ثم صلب على رأس الجسر في شوال منها، فرثاه أبو الحسين ابن الأنباري بأبيات يقول فيها:
علو في الحياة وفي الممات * بحق أنت إحدى المعجزاتِ
كأن الناس حولك حين قاموا * وفود نداك أيام الصلاتِ
كأنك واقف فيهم خطيباً * وكلهم وقوف للصلاةِ
مددت يديك نحوهم احتفاء * كمدهما إليهم بالهباتِ
وهي قصيدة طويلة، أورد كثيراً منها ابن الأثير في (كامله).
مقتل عز الدين بختيار
لما دخل عضد الدولة بغداد وتسلمها، خرج منها بختيار ذليلاً طريداً في فلٍّ من الناس، و من عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لأبي تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات، فحلف له على ذلك.
وحين خرج من بغداد كان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان، فحسن لعز الدولة أخذ بلاد الموصل من أبي تغلب، لأنها أطيب، وأكثر مالاً من الشام وأقرب إليه، وكان عز الدولة ضعيف العقل قليل الدين، فلما بلغ ذلك أبا تغلب أرسل إلى عز الدولة يقول له: لئن أرسلت إلى ابن أخي حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة، وأردك إليها.
فعند ذلك أمسك حمدان وأرسله إلى عمه أبي تغلب، فسجنه في بعض القلاع.
وبلغ ذلك عضد الدولة، وأنهما قد اتفقا على حربه فركب إليهما بجيشه، وأراد إخراج الخليفة الطائع معه، فأعفاه فذهب إليهما، فالتقى معهما فكسرهما وهزمهما، وأخذ عز الدولة أسيراً وقتله من فوره، وأخذ الموصل ومعاملتها، وكان قد حمل معه ميرة كثيرة، وشرد أبا تغلب في البلاد، وبعث وراءه السرايا في كل وجه، وأقام بالموصل إلى أواخر سنة ثمان وستين.
وفتح ميافارقين وآمد وغيرهما من بلاد بكر وربيعة، وتسلم بلاد مضر من أيدي نواب أبي تغلب، وأخذ منهم الرحبة، ورد بقيتها على صاحب حلب سعد الدولة بن سيف الدولة، وتسلط على سعد الدولة.
وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا الوفا، وعاد إلى بغداد فتلقاه الخليفة ورؤوس الناس إلى ظاهر البلد، وكان يوماً مشهوداً.
ومما وقع من الحوادث فيها: الوقعة التي كانت بين العزيز بن المعز الفاطمي وبين ألفتكين غلام معز الدولة، صاحب دمشق، فهزمه وأسره وأخذه معه إلى الديار المصرية، مكرماً معظماً كما تقدم، وتسلم العزيز دمشق وأعمالها، وقد تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين.
وفيها: خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي بقضاء قضاة الري وما تحت حكم مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وله مصنفات حسنة منها: (دلائل النبوة)، و(عمد الأدلة) وغيرها.
وحج بالناس فيها: نائب المصريين وهو الأمير باديس بن زيري، أخو يوسف بن بلكين.
ولما دخل مكة اجتمع إليه اللصوص، وسألوا منه أن يُضمِّنهم الموسم هذا العام بما شاء من الأموال.
فأظهر لهم الإجابة إلى ما سألوا وقال لهم: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون حرامياً.
فقال: هل بقي منكم أحد؟
فحلفوا له إنه لم يبق منهم أحد، فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم، ونعمّا ما فعل.
وكانت الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الملك عز الدولة بختيار بن بويه الديلمي
ملك بعد أبيه وعمره فوق العشرين سنة بقليل، وكان حسن الجسم، شديد البطش، وقوي القلب، يقال: إنه كان يأخذ بقوائم الثور الشديد فيلقيه في الأرض من غير أعوان، ويقصد الأسود في أماكنها، ولكنه كان كثير اللهو واللعب والإقبال على اللذات.
ولما كسره ابن عمه ببلاد الأهواز، كان في جملة ما أخذ منه أمرد كان يحبه حباً شديداً لا يهنأ بالعيش إلا معه، فبعث يترفق له في رده إليه، وأرسل إليه بتحفٍ كثيرة وأموالٍ جزيلة وجاريتين عوادتين لا قيمة لهما، فرد عليه الغلام المذكور، فكثر تعنيف الناس له عند ذلك، وسقط من أعين الملوك، فإنه كان يقول: ذهاب هذا الغلام مني أشد علي من أخذ بغداد من يدي، بل وأرض العراق كلها.
ثم كان من أمره بعد ذلك أن ابن عمه أسره كما ذكرنا، وقتله سريعاً، فكانت مدة حياته ستاً وثلاثين سنة، ومدة دولته منها إحدى وعشرين سنة وشهور، وهو الذي أظهر الرفض ببغداد، وجرى بسبب ذلك شرور كما تقدم.
محمد بن عبد الرحمن
أبو بكر القاضي، المعروف: بابن قُريعة، ولي القضاء بالسندية، وكان فصيحاً يأتي بالكلام المسجوع من غير تكلف ولا تردد، وكان جميل المعاشرة، ومن شعره:
لي حيلة في من ينمـ * ـم وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو * ل فحيلتي فيه قليله
وكان يقول للرجل من أصحابه إذا تماشيا: إذا تقدمت بين يديك فإني حاجب، وإن تأخرت فواجب.
توفي يوم السبت لعشرٍ بقين من جمادى الآخرة منها.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة
في شعبان منها أمر الطائع لله أن يدعى لعضد الدولة بعد الخليفة على المنابر ببغداد، وأن تضرب الدبادب على بابه وقت الفجر وبعد المغرب والعشاء.
قال ابن الجوزي: وهذا شيء لم يتفق لغيره من بني بويه.
وقد كان معز الدولة سأل من الخليفة أن يضرب الدبادب على بابه فلم يأذن له، وقد افتتح عز الدولة في هذه السنة وهو مقيم بالموصل أكثر بلاد أبي تغلب بن حمدان، كآمد والرحبة وغيرهما، ثم دخل بغداد في سلخ في ذي القعدة، فتلقاه الخليفة والأعيان إلى أثناء الطريق.
قسّام التراب يملك دمشق
لما ذهب الفتكين إلى ديار مصر، نهض رجل من أهل دمشق يقال له: قسام التراب، كان الفتكين يقربه ويدنيه ويأمنه على أسراره، فاستحوذ على دمشق وطاوعه أهلها وقصدته عساكر العزيز من مصر فحاصروه فلم يتمكنوا منه، وجاء أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدر أن يدخل دمشق، فانصرف عنه خائباً إلى طبرية، فوقع بينه وبين بني عقيل وغيرهم من العرب حروب طويلة، آل الحال إلى أن قتل أبو تغلب، وكانت معه أخته وجميلة امرأته وهي بنت سيف الدولة، فردتا إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، فأخذ أخته وبعث بجميلة إلى بغداد فحبست في دار وأخذ منها أموال جزيلة.
وأما قسام التراب هذا - وهو من بني الحارث بن كعب من اليمن - فإنه أقام بالشام فسد خللها وقام بمصالحها مدة سنين عديدة، وكان مجلسه بالجامع يجتمع الناس إليه فيأمرهم وينهاهم فيمتثلون ما يأمر به.
قال ابن عساكر: أصله من قرية تلفيتا، وكان تراباً.
قلت: والعامة يسمونه قسيم الزبال، وإنما هو قسام، ولم يكن زبالاً بل تراباً من قرية تلفيتا بالقرب من قرية منين، وكان بدو أمره أنه انتمى إلى رجل من أحداث أهل دمشق يقال له: أحمد بن المسطان، فكان من حزبه ثم استحوذ على الأمور وغلب على الولاة والأمراء، إلى أن قدم بلكتكين التركي من مصر في يوم الخميس السابع عشر من المحرم سنة ست وسبعين وثلاثمائة، فأخذها منه واختفى قسام التراب مدة ثم ظهر فأخذه أسيراً وأرسله مقيداً إلى الديار المصرية، فأطلق وأحسن إليه وأقام بها مكرماً.
وممن توفي فيها من الأعيان:
العقيقي
صاحب الحمام والدار المنسوبتين إليه بدمشق بمحلة باب البريد، واسمه أحمد بن الحسن القعقيقي بن ضعقن بن عبد الله بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الشريف أبو القاسم الحسين القعقيق.
قال ابن عساكر: كان من وجوه الأشراف بدمشق وإليه تنسب الدار والحمام بمحلة باب البريد.
وذكر أنه توفي يوم الثلاثاء لأربع خلون من جمادى الأولى منها، وأنه دفن من الغد وأغلقت البلد لأجل جنازته، وحضرها نكجور وأصحابه - يعني نائب دمشق - ودفن خارج باب الصغير.
قلت: وقد اشترى الملك الظاهر بيبرس داره وبناها مدرسة ودار حديث وتربة وبها قبره، وذلك في حدود سنة سبعين وستمائة كما سيأتي بيانه.
أحمد بن جعفر
ابن مالك بن شبيب بن عبد الله أبو بكر بن مالك القطيعي - من قطيعة الدقيق ببغداد - راوي مسند أحمد عن ابنه عبد الله، وقد روى عنه غير ذلك من مصنفات أحمد، وحدث عن غيره من المشايخ، وكان ثقة كثير الحديث، حدث عنه الدارقطني، وابن شاهين، والبرقاني، وأبو نعيم، والحاكم، ولم يمتنع أحد من الرواية عنه ولا التفتوا إلى ما طعن عليه بعضهم وتكلم فيه، بسبب غرق كتبه حين غرقت القطيعة بالماء الأسود، فاستحدث بعضها من نسخ أخرى، وهذا ليس بشيء، لأنها قد تكون معارضة على كتبه التي غرقت والله اعلم.
ويقال: إنه تغير في آخر عمره فكان لا يدري ما جرى عليه، وقد جاوز التسعين.
تميم بن المعز الفاطمي
وبه كان يكنى، وقد كان من أكابر أمراء دولة أبيه وأخيه العزيز، وقد اتفقت له كائنة غريبة وهي أنه أرسل إلى بغداد فاشتريت له جارية مغنية بمبلغ جزيل، فلما حضرت عنده أضاف أصحابه ثم أمرها فغنت - وكانت تحب شخصاً ببغداد -:
وبدا له من بعد ما انتقل الهوى * برق تألق من هنا لمعانه
يبدو لحاشية اللواء ودونه * صعب الذرى متمنع أركانه
فبدا لينظر كيف لاح فلم يطق * نظراً إليه وشده أشجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه * والماء ما سمحت به أجفانه
ثم غنته أبياتاً غيرها فاشتد طرب تميم هذا، وقال لها: لا بد أن تسأليني حاجة، فقالت: عافيتك.
فقال: ومع العافية.
فقالت: تردني إلى بغداد حتى أغني بهذه الأبيات، فوجم لذلك ثم لم يجد بداً من الوفاء لها بما سألت، فأرسلها مع بعض أصحابه فأحجبها ثم سار بها على طريق العراق، فلما أمسوا في الليلة التي يدخلون فيها بغداد من صبيحتها، ذهبت في الليل فلم يدر أين ذهبت، فلما سمع تميم خبرها شق عليه ذلك وتألم ألماً شديداً، وندم ندماً شديداً حيث لا ينفعه الندم.
أبو سعيد السيرافي
النحوي الحسن بن عبد الله بن المرزبان، القاضي، سكن بغداد وولي القضاء بها نيابة، وله (شرح كتاب سيبويه)، و(طبقات النحاة)، روى عن أبي بكر بن دريد وغيره، وكان أبوه مجوسياً، وكان أبو سعيد هذا عالماً باللغة والنحو والقراءات والفرائض والحساب وغير ذلك من فنون العلم.
وكان مع ذلك زاهداً لا يأكل إلا من عمل يده، كان ينسخ في كل يوم عشر ورقات بعشرة دراهم، تكون منها نفقته، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وكان ينتحل مذهب أهل العراق في الفقه، وقرأ القراءات على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على ابن سراج وابن المرزبان، ونسبه بعضهم إلى الاعتزال وأنكره آخرون.
توفي في رجب منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن بمقبرة الخيزران.
عبد الله بن إبراهيم
ابن أبي القاسم الريحاني، ويعرف بالأبندوني، رحل في طلب الحديث إلى الآفاق، ووافق ابن عدي في بعض ذلك، ثم سكن بغداد وحدث بها عن أبي يعلى، والحسن بن سفيان، وابن خزيمة وغيرهم، وكان ثقة ثبتاً، له مصنفات زاهداً، روى عنه البرقاني وأثنى عليه خيراً، وذكر أن أكثر أدم أهله الخبز المأدوم بمرق الباقلا، وذكر أشياء من تقلله وزهده وورعه، توفي عن خمس وتسعين سنة.
عبد الله بن محمد بن ورقاء
الأمير أبو أحمد الشيباني من أهل البيوتات والحشمة، بلغ التسعين سنة، روى عن ابن الأعرابي أنه أنشد في صفة النساء:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أيجمعن ضعفاً واقتداراً على الفتى * أليس عجيباً ضعفها واقتدارها
قلت: وهذا المعنى أخذه من الحديث الصحيح:
((إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)).
محمد بن عيسى
ابن عمرويه الجلودي راوي صحيح مسلم، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، عن مسلم بن الحجاج، وكان من الزهاد، يأكل من كسب يده من النسخ، وبلغ ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة
في المحرم منها توفي الأمير عمر بن شاهين صاحب بلاد البطيحة منذ أربعين سنة، تغلب عليها وعجز عنه الأمراء والملوك والخلفاء، وبعثوا إليه الجنود والسرايا والجيوش غير مرة، فكل ذلك يفلها ويكسرها، وكل ما له في تمكن وزيادة وقوة، ومكث كذلك هذه المدة، ومع هذا كله مات على فراشه حتف أنفه، فلا نامت أعين الجبناء.
وقام بالأمر من بعده ولده الحسن، فرام عضد الدولة أن ينتزع الملك من يده، فأرسل إليه سرية حافلة من الجنود فكسرهم الحسن بن عمر بن شاهين، وكاد أن يتلفهم بالكلية حتى أرسل إليه عضد الدولة فصالحه على مال يحمله إليه في كل سنة، وهذا من العجائب الغريبة.
وفي صفر قبض على الشريف أبي أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين، وقد كان أمير الحج مدة سنين، اُتهم بأنه يفشي الأسرار وأن عز الدولة أودع عنده عقداً ثميناً، ووجدوا كتاباً بخطه في إفشاء الأسرار، فأنكر أنه خطه وكان مزوراً عليه، واعترف بالعقد فأخذ منه وعزل عن النقابة وولوا غيره، وكان مظلوماً.
وفي هذا الشهر أيضاً عزل عضد الدولة قاضي القضاة أبا محمد بن معروف وولى غيره.
وفي شعبان منها ورد البريد من مصر إلى عضد الدولة بمراسلات كثيرة، فرد الجواب بما مضمونه صدق النية وحسن الطوية، ثم سأل عضد الدولة من الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر، وأن يزيد في إنشائه تاج الدولة، فأجابه إلى ذلك، وخلع عليه من أنواع الملابس ما لم يتمكن معه من تقبيل الأرض بين يدي الخليفة، وفوض إليه ما وراء بابه من الأمور ومصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحضر ذلك أعيان الناس، وكان يوماً مشهوداً.
وأرسل في رمضان إلى الأعراب من بني شيبان وغيرهم فعقرهم وكسرهم، وكان أميرهم منبه بن محمد الأسدي متحصناً بعين التمر مدة نيف وثلاثين سنة، فأخذ ديارهم وأموالهم.
وفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة تزوج الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى، وعقد العقد بحضرة الأعيان على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وكان وكيل عضد الدولة الشيخ أبا علي الحسين بن أحمد الفارسي النحوي، صاحب (الإيضاح والتكملة) وكان الذي خطب خطبة العقد القاضي أبو علي الحسن بن علي التنوخي.
قال ابن الأثير: وفيها جدد عضد الدولة عمارة بغداد ومحاسنها، وجدد المساجد والمشاهد، وأجرى على الفقهاء الأزراق، وعلى الأئمة من الفقهاء والمحدثين والأطباء والحساب وغيرهم، وأطلق الصلات لأرباب البيوتات والشرف، وألزم أصحاب الأملاك بعمارة بيوتهم ودورهم، ومهد الطرقات وأطلق المكوس وأصلح الطريق للحجاج من بغداد إلى مكة، وأرسل الصدقات للمجاورين بالحرمين.
قال: وأذن لوزيره نصر بن هارون - وكان نصرانياً - بعمارة البيع والأديرة، وأطلق الأموال لفقرائهم.
وفيها: توفي حسنويه بن حسين الكردي، وكان قد استحوذ على نواحي بلاد الدينور وهمدان ونهاوند مدة خمسين سنة، وكان حسن السيرة كثير الصدقة بالحرمين وغيرهما، فلما توفي اختلف أولاده من بعده وتمزق شملهم، وتمكن عضد الدولة من أكثر بلادهم، وقويت شوكته في تلك الأرض.
وفيها: ركب عضد الدولة في جنود كثيفة إلى بلاد أخيه فخر الدولة، وذلك لما بلغه من ممالأته لعز الدولة واتفاقهم عليه، فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة وهمدان والري وما بينهما من البلاد، وسلم ذلك إلى مؤيد الدولة - وهو أخوه الآخر - ليكون نائبه عليها، ثم سار إلى بلاد حسنويه الكردي فتسلمها وأخذ حواصله وذخائره، وكانت كثيرة جداً، وحبس بعض أولاده وأسر بعضهم، وأرسل إلى الأكراد الهكارية فأخذ منهم بعض بلادهم، وعظم شأنه وارتفع صيته، إلا أنه أصابه في هذا السفر داء الصداع، وكان قد تقدم له بالموصل مثله، وكان يكتمه إلى أن غلب عليه كثرة النسيان فلا يذكر الشيء إلا بعد جهد جهيد، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر.
دار إذا ما أضحكت في يومها * أبكت غداً، بعداً لها من دار
وفيها توفي من الأعيان:
أحمد بن زكريا أبو لحسن اللغوي
صاحب كتاب (المجمل في اللغة) وغيره، ومن شعره قبل موته بيومين:
يا رب إن ذنوبي قد أحطت بها * علماً وبي وبإعلاني وأسراري
أنا الموحد لكني المقر بها * فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري
ذكر ذلك ابن الأثير.
أحمد بن عطاء بن أحمد
أبو عبد الله الروذباري - ابن أخت أبي علي الروذباري - أسند الحديث، وكان يتكلم على مذهب الصوفية، وكان قد انتقل من بغداد فأقام بصور وتوفي بها في هذه السنة.
قال: رأيت في المنام كأن قائلاً يقول: أي شيء أصح في الصلاة؟
فقلت: صحة القصد، فسمعت قائلاً يقول: رؤية المقصود بإسقاط رؤية القصد أتم.
وقال: مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط.
وقال: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح.
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].
وترك الخشوع في الصلاة علامة النفاق وخراب القلب.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].
عبد الله بن إبراهيم
ابن أيوب بن ماسي أبو محمد البزاز، أسند الكثير وبلغ خمساً وتسعين سنة، وكان ثقة ثبتاً، توفي في رجب منها.
محمد بن صالح
ابن علي بن يحيى أبو الحسن الهاشمي، يعرف بابن أم شيبان، كان عالماً فاضلاً، له تصانيف، وقد ولي الحكم ببغداد قديماً وكان جيد السيرة، توفي فيها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة
فيها: ورد الصاحب بن عباد من جهة مؤيد الدولة إلى أخيه عضد الدولة فتلقاه عضد الدولة إلى ظاهر البلد وأكرمه، وأمر الأعيان باحترامه، وخلع عليه وزاده في إقطاعه، ورد معه هدايا كثيرة.
وفي جمادى الآخرة منها رجع عضد الدولة إلى بغداد، فتلقاه الخليفة الطائع وضرب له القباب وزينت الأسواق.
وفي هذا الشهر أيضاً وصلت هدايا من صاحب اليمن إلى عضد الدولة، وكانت الخطبة بالحرمين لصاحب مصر، وهو العزيز بن المعز الفاطمي.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو بكر الرازي الحنفي
أحمد بن علي أبو بكر الرازي الفقيه الحنفي الرازي أحد أئمة أصحاب أبي حنيفة، وله من المصنفات المفيدة كتاب (أحكام القرآن)، وهو تلميذ أبي الحسن الكرخي، وكان عابداً زاهداً ورعاً، انتهت إليه رياسة الحنفية في وقته ورحل إليه الطلبة من الآفاق، وقد سمع الحديث من أبي العباس الأصم، وأبي القاسم الطبراني، وقد أراده الطائع على أن يوليه القضاء فلم يقبل، توفي في ذي الحجة من هذا العام، وصلى عليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي. (ج/ص: 11/ 338)
محمد بن جعفر
ابن محمد بن زكريا أبو بكر الوراق، ويلقب بغندر، كان جوالاً رحالاً، سمع الكثير ببلاد فارس وخراسان، وسمع الباغندي وابن صاعد وابن دريد وغيرهم، وعنه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، وكان ثقة حافظاً.
ابن خالويه
الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبد الله النحوي اللغوي صاحب المصنفات، أصله من همذان، ثم دخل بغداد فأدرك بها مشايخ هذا الشأن: كابن دريد وابن مجاهد، وأبي عمر الزاهد، واشتغل على أبي سعيد السيرافي، ثم صار إلى حلب فعظمت مكانته عند آل حمدان، وكان سيف الدولة يكرمه وهو أحد جلسائه، وله مع المتنبي مناظرات.
وقد سرد له ابن خلكان مصنفات كثيرة منها: كتاب (ليس في كلام العرب) - لأنه كان يكثر أن يقول ليس في كلام العرب كذا وكذا - وكتاب (الآل) تكلم فيه على أقسامه وترجم الأئمة الإثنى عشر، وأعرب ثلاثين سورة من القرآن، و(شرح الدريدية) وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان به داء كانت به وفاته.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة
في ربيع الأول منها وقع حريق عظيم بالكرخ.
وفيها: سرق شيء نفيس لعضد الدولة فتعجب الناس من جرأة من سرقه مع شدة هيبة عضد الدولة، ثم مع هذا اجتهدوا كل الاجتهاد فلم يعرفوا من أخذ.
ويقال: إن صاحب مصر بعث من فعل ذلك فالله أعلم.
وممن توفي من الأعيان:
الإسماعيلي
أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ الكبير الرحال الجوال، سمع الكثير وحدث وخرج وصنف فأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد و الاعتقاد، صنف كتاباً على صحيح البخاري فيه فوائد كثيرة، وعلوم غزيرة.
قال الدارقطني: كنت عزمت غير مرة على الرحلة إليه فلم أرزق.
وكانت وفاته يوم السبت عاشر رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة رحمه الله.
الحسن بن صالح
أبو محمد السبيعي، سمع ابن جرر وقاسماً المطرز وغيرهما، وعنه الدارقطني والبرقاني، وكان ثقة حافظاً مكثراً، وكان عسر الرواية.
الحسن بن علي بن الحسن
ابن الهيثم بن طهمان أبو عبد الله الشاهد، المعروف بالبادي، سمع الحديث وكان ثقة، عاش سبعاً وتسعين سنة، منها خمس عشرة سنة مقيداً أعمى.
عبد الله بن الحسين
ابن إسماعيل بن محمد أبو بكر الضبي، ولي الحكم ببغداد، وكان عفيفاً نزهاً ديناً.
عبد العزيز بن الحارث
ابن أسد بن الليث أبو الحسن التميمي الفقيه الحنبلي، له كلام ومصنف في الخلاف، وسمع الحديث وروى عن غير واحد.
وقد ذكر الخطيب البغدادي: أنه وضع حديثاً.
وأنكر ذلك ابن الجوزي وقال: ما زال هذا دأب الخطيب في أصحاب أحمد بن حنبل.
قال: وشيخ الخطيب الذي حكى عنه هذا هو أبو القاسم عبد الواحد بن أسد العكبري لا يعتمد على قوله، فإنه كان معتزلياً وليس من أهل الحديث، وكان يقول: بأن الكفار لا يخلدون في النار.
قلت: وهذا غريب فإن المعتزلة يقولون: بأن الكفار يخلدون في النار، بل يقولون بتخليد أصحاب الكبائر.
قال: وعنه حكى الكلام عن ابن بطة أيضاً.
علي بن إبراهيم
أبو الحسن الحصري الصوفي الواعظ شيخ المتصوفة ببغداد، أصله من البصرة صحب الشبلي وغيره، وكان يعظ الناس بالجامع، ثم لما كبرت سنه بني له الرباط المقابل لجامع المنصور، ثم عرف بصاحبه المروزي، وكان لا يخرج إلا من الجمعة إلى الجمعة، وله كلام جيد في التصوف على طريقتهم.
ومما نقله ابن الجوزي عنه أنه قال: ما على مني؟وأي شيء لي في؟حتى أخاف وأرجو، وإن رحم رحم ماله، وإن عذب عذب ماله.
توفي في ذي الحجة وقد نيف على الثمانين، ودفن بمقبرة دار حرب من بغداد.
علي بن محمد الأحدب المزور
كان قوي الخط، له ملكة على التزوير لا يشاء يكتب على أحد كتابة إلا فعل، فلا يشك ذلك المزور عليه أنه خطه، وحصل للناس به بلاء عظيم، وختم السلطان على يده مراراً فلم يقدر، وكان يزور، ثم كانت وفاته في هذه السنة.
الشيخ أبو زيد المروزي الشافعي
محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد أبو زيد المروزي شيخ الشافعية في زمانه، وإمام أهل عصره في الفقه والزهد والعبادة والورع، سمع الحديث ودخل بغداد وحدث بها فسمع منه الدارقطني وغيره.
قال أبو بكر البزار: عادلت الشيخ أبا زيد في طريق الحج، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وقد ذكرت ترجمته بكمالها في طبقات الشافعية.
قال الشيخ أبو نعيم: توفي بمرو يوم الجمعة الثالث عشر من رجب من هذه السنة.
محمد بن خفيف
أبو عبد الله الشيرازي أحد مشاهير الصوفية، صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.
قال ابن الجوزي: وقد ذكرت في كتابي المسمى (بتلبيس إبليس) عنه حكايات تدل على أنه كان يذهب مذهب الإباحية.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وثلاثمائة
قال ابن الجوزي: في المحرم منها جرى الماء الذي ساقه عضد الدولة إلى داره وبستانه.
وفي صفر فتح المارستان الذي أنشأه عضد الدولة في الجانب الغربي من بغداد، وقد رتب فيه الأطباء والخدم، ونقل إليه من الأدوية والأشربة والعقاقير شيئاً كثيراً.
وقال: وفيها توفي عضد الدولة فكتم أصحابه وفاته حتى أحضروا ولده صمصامة فولوه الأمر، وراسلوا الخليفة فبعث إليه بالخلع والولاية.
شيء من أخبار عضد الدولة
أبو شجاع بن ركن الدولة أبو علي الحسين بن بويه الديلمي، صاحب ملك بغداد وغيرها، وهو أول من تسمى شاهنشاه، ومعناه: ملك الملوك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أوضع اسم - وفي رواية: أخنع اسم - عند الله رجل تسمى ملك الملوك)).
وفي رواية: ((ملك الأملاك لا ملك إلا الله عز وجل)).
وهو أول من ضربت له الدبادب ببغداد، وأول من خطب له بها مع الخليفة.
وذكر ابن خلكان: أنه امتدحه الشعراء بمدائح هائلة منهم المتنبي وغيره، فمن ذلك قول أبي الحسن محمد بن عبد الله السلامي في قصيدة له:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل * قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي * ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر
وبشرت آمالي بملك هو الورى * ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
وقال المتنبي أيضاً:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى * ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
قال: وقال أبو بكر أحمد الأرجاني في قصيدة له بيتاً فلم يلحق السلامي أيضاً وهو قوله:
لقيته فرأيت الناس في رجل * والدهر في ساعة والأرض في دار
قال: وكتب إليه افتكين مولى أخيه يستمده بجيش إلى دمشق يقاتل به الفاطميين، فكتب إليه عضد الدولة: غرك عزك فصار قصاراك ذلك، فاخش فاحش فعلك، فعلّك بهذا تهدأ.
قال ابن خلكان: ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وقد جرى له من التعظيم من الخليفة ما لم يقع لغيره قبله، وقد اجتهد في عمارة بغداد والطرقات، وأجرى النفقات على المساكين والمحاويج، وحفر الأنهار وبنى المارستان العضدي وأدار السور على مدينة الرسول، فعل ذلك مدة ملكه على العراق، وهي خمسة سنين.
وقد كان عاقلاً فاضلاً حسن السياسة شديد الهيبة بعيد الهمة، إلا أنه كان يتجاوز في سياسة الأمور الشرعية، كان يحب جارية فألهته عن تدبير المملكة، فأمر بتغريقها.
وبلغه أن غلاماً له أخذ لرجل بطيخة فضربه بسيفه فقطعه نصفين، وهذه مبالغة.
وكان سبب موته الصرع.
وحين أخذ في علة موته لم يكن له كلام سوى تلاوة قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28-29] فكان هذا هجيراه حتى مات.
وحكى ابن الجوزي: أنه كان يحب العلم والفضيلة، وكان يقرأ عنده كتاب إقليدس وكتاب النحو لأبي علي الفارسي، وهو (الإيضاح والتكملة) الذي صنفه له.
وقد خرج مرة إلى بستان له فقال: أود لوجاء المطر، فنزل المطر فأنشأ يقول:
ليس شرب الراح إلا في المطر * وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى * ناعمات في تضاعيف الوتر
راقصات زاهرات نجل * رافلات في أفانين الحبر
مطربات غنجات لحن * رافضات الهم أمال الفكر
مبرزات الكاس من مطلعها * مسقيات الخمر من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها * مالك الأملاك غلاب القدر
سهّل الله إليه نصره * في ملوك الأرض مادام القمر
وأراه الخير في أولاده * ولباس الملك فيهم بالغرر
قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه قد اجترأ في أبياته هذه فلم يفلح بعدها، فيقال: إنه حين أنشد قوله: غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه.
ويقال: إن هذه الأبيات إنما أنشدت بين يديه ثم هلك عقيبها.
مات في شوال من هذه السنة عن سبع أو ثمان وأربعين سنة، وحمل إلى مشهد علي فدفن فيه، وكان فيه رفض وتشيع، وقد كتب على قبره في تربته عند مشهد علي: هذا قبر عضد الدولة، وتاج المملكة أبي شجاع بن ركن الدولة، أحب مجاورة هذا الإمام المتقي لطمعه في الخلاص {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا...} [النحل: 111] والحمد لله وصلواته على محمد وعترته الطاهرة.
وقد تمثل عند موته بهذه الأبيات وهي للقاسم بن عبيد الله:
قتلت صناديد الرجال فلم أدع * عدواً ولم أمهل على ظنه خلقا
وأخليت در الملك من كان باذلاً * فشردتهم غرباً وشردتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزاً ورفعة * وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي * فها أنا ذا في حفرتي عاطلاً ملقى
فأذهبت دنياي وديني سفاهة * فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى؟
ثم جعل يكرر هذه الأبيات وهذه الآية {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28-29] إلى أن مات.
وأجلس ابنه صمصامة على الأرض وعليه ثياب السواد، وجاءه الخليفة معزياً وناح النساء عليه في الأسواق حاسرات عن وجوههن أياماً كثيرة، ولما انقضى العزاء ركب ابنه صمصامة إلى دار الخلافة، فخلع عليه الخليفة سبع خلع وطوقه وسوره وألبسه التاج ولقبه شمس الدولة، وولاه ما كان يتولاه أبوه، وكان يوماً مشهوداً.
محمد بن جعفر
ابن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب أبو بكر الجريري المعروف بزوج الحرة، سمع ابن جرير والبغوي وابن أبي داود وغيرهم، وعنه ابن رزقويه وابن شاهين والبرقاني، وكان أحد العدول الثقات جليل القدر.
وذكر ابن الجوزي والخطيب سبب تسميته بزوج الحرة: أنه كان يدخل إلى مطبخ أبيه بدار مولاته التي كانت زوجة المقتدر بالله، فلما توفي المقتدر وبقيت هذه المرأة سالمة من الكتاب والمصادرات، وكانت كثيرة الأموال.
وكان هذا غلاماً شاباً حدث السن يحمل شيئاً من حوائج المطبخ على رأسه، فيدخل به إلى مطبخها مع جملة الخدم، وكان شاباً رشيقاً حركاً، فنفق على القهرمانة حتى جعلته كاتباً على المطبخ، ثم ترقى إلى أن صار وكيلاً للست على ضياعها، وينظر فيها وفي أموالها.
ثم آل به الحال حتى صارت الست تحدثه من وراء الحجاب، ثم علقت به وأحبته وسألته أن يتزوج بها، فاستصغر نفسه وخاف من غائلة ذلك فشجعته هي وأعطته أموالاً كثيرة ليظهر عليه الحشمة والسعادة مما يناسبها ليتأهل لذلك، ثم شرعت تهادي القضاة والأكابر، ثم عزمت على تزويجه ورضيت به عند حضور القضاة، واعترض أولياؤها عليها فغلبتهم بالمكارم والهدايا، ودخل عليها فمكثت معه دهراً طويلاً، ثم ماتت قبله فورث منها نحو ثلاثمائة ألف دينار، وطال عمره بعدها حتى كانت وفاته في هذه السنة، والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة
فيها: غلت الأسعار ببغداد حتى بلغ الكر من الطعام إلى أربعة آلاف وثمانمائة، ومات كثير من الناس جوعاً، وجافت الطرقات من الموتى من الجوع، ثم تساهل الحال في ذي الحجة منها، وجاء الخبر بموت مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وأن أبا القاسم بن عباد الوزير بعث إلى أخيه فخر الدولة فولاه الملك مكانه، فاستوزر ابن عباد أيضاً على ما كان عليه.
ولما بلغ القرامطة موت عضد الدولة قصدوا البصرة ليأخذوها مع الكوفة، فلم يتم لهم ذلك، ولكن صولحوا على مال كثير فأخذوه وانصرفوا.
وممن توفي فيها من الأعيان:
بويه مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وكان ملكاً على بعض ما كان أبوه يملكه، وكان الصاحب أبو القاسم بن عباد وزيره، وقد تزوج مؤيد الدولة هذا ابنة عمه معز الدولة، فغرم على عرسه سبعمائة ألف دينار، وهذا سرف عظيم. (ج/ص: 11/344)
بُلُكِّين بن زيري بن منادي
الحميري الصنهاجي، ويسمى أيضاً يوسف، وكان من أكابر أمراء المعز الفاطمي، وقد استخلفه على بلاد إفريقية حين سار إلى القاهرة، وكان حسن السيرة، له أربعمائة حظية، وقد بشر في ليلة واحدة بتسعة عشر ولداً، وهو جد باديس المغربي.
سعيد بن سلام
أبو عثمان المغربي، أصله من بلاد القيروان، ودخل الشام وصحب أبا الخير الأقطع، وجاور بمكة مدة سنين، وكان لا يظهر في المواسم، وكانت له كرامات، وقد أثنى عليه أبو سليمان الخطابي وغيره، وروى له أحوال صالحة رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد
ابن عبد الله بن عثمان بن المختار بن محمد المري الواسطي، يعرف بابن السقا، سمع عبدان وأبا يعلي الموصلي وابن أبي داود والبغوي، وكان فهماً حافظاً، دخل بغداد فحدث بها مجالس كثيرة من حفظه، وكان يحضره الدارقطني وغيره من الحفاظ فلم ينكروا عليه شيئاً، غير أنه حدث مرة عن أبي يعلى بحديث أنكروه عليه ثم وجدوه في أصله بخط الضبي، كما حدث به، فبرئ من عهدته.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة
فيها: جرى الصلح بين صمصامة وبين عمه فخر الدولة، فأرسل الخليفة لفخر الدولة خلعاً وتحفاً.
قال ابن الجوزي: وفي رجب منها عمل عرس في درب رياح فسقطت الدار على من فيها فهلك أكثر النساء بها، ونبش من تحت الردم فكانت المصيبة عامة.
وفيها كانت وفاة:
الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسن
ابن أحمد بن الحسين الأزدي الموصلي المصنف في الجرح والتعديل، وقد سمع الحديث من أبي يعلى وطبقته، وضعفه كثير من الحفاظ من أهل زمانه، واتهمه بعضهم بوضع حديث رواه لابن بويه، حين قدم عليه بغداد، فساقه يإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أن جبريل كان ينزل عليه في مثل صورة ذلك الأمير))، فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة.
والعجب إن كان هذا صحيحاً كيف راج على أحد ممن له أدنى فهم وعقل؟
وقد أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، وقد قيل: إنه توفي سنة تسع وستين.
وفيها توفي:
الخطيب بن نباته الحذاء
في بطن من قضاعة، وقيل: إياد الفارقي، خطيب حلب في أيام سيف الدولة بن حمدان، ولهذا أكثر ديوانه الخطب الجهادية، ولم يسبق إلى مثل ديوانه هذا، ولا يلحق إلا أن يشاء الله شيئاً، لأنه كان فصيحاً بليغاً ديناً ورعاً.
روى الشيخ تاج الدين الكندي عنه: أنه خطب يوم جمعة بخطبة المنام ثم رأى ليلة السبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه بين المقابر، فلما أقبل عليه قال له: مرحباً بخطيب الخطباء، ثم أومأ إلى قبور هناك فقال لابن نباتة: كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أبادهم الذي خلقهم، وأسكتهم الذي أنطقهم، وسيجدُّهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، فتم الكلام ابن نباتة حتى انتهى إلى قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وأشار إلى الصحابة الذين مع الرسول {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] وأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أحسنت أحسنت أدنه أدنه، فقبّل وجهه وتفل في فيه، وقال: وفقك الله.
فاستيقظ وبه من السرور أمر كبير، وعلى وجهه بهاء ونور، ولم يعش بعد ذلك إلا سبعة عشر يوماً لم يستطعم بطعام، وكان يوجد منه مثل رائحة المسك حتى مات رحمه الله.
قال ابن الأزرق الفارقي: ولد ابن نباتة في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة.
حكاه ابن خلكان.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة
فيها: خلع الخليفة على صمصامة الدولة، وسوره وطوقه وأركب على فرس بسرج ذهب، وبين يديه جنيب مثله.
وفيها: ورد الخبر بأن اثنين من سادة القرامطة وهما إسحاق وجعفر، دخلا الكوفة في حفل عظيم فانزعجت النفوس بسبب ذلك، وذلك لصرامتهما وشجاعتهما، ولأن عضد الدولة مع شجاعته كان يصانعهما، وأقطعهما أراضي من أراضي واسط، وكذلك عز الدولة من قبله أيضاً.
فجهز إليهما صمصامة جيشاً فطردهما عن تلك النواحي التي قد أكثروا فيها الفساد، وبطل ما كان في نفوس الناس منهما.
وفيها: عزم صمصامة الدولة على أن يضع مكساً على الثياب الابريسميات، فاجتمع الناس بجامع المنصور وأرادوا تعطيل الجمعة وكادت الفتنة تقع بينهم فأعفوا من ذلك.
وفي ذي الحجة ورد الخبر بموت مؤيد الدولة فجلس صمصامة للعزاء، وجاء إليه الخليفة معزياً له فقام إليه صمصامة وقبّل الأرض بين يديه، وتخاطبا في العزاء بألفاظ حسنة.
وفيها توفي الشيخ:
أبو علي بن أبي هريرة
واسمه الحسن بن الحسين، وهو أحد المشايخ الشافعية، وله اختيارات كثيرة غريبة في المذهب، وقد ترجمناه في طبقات الشافعية.
الحسين بن علي
ابن محمد بن يحيى أبو أحمد النيسابوري المعروف بحسنك، كانت تربيته عند ابن خزيمة وتلميذاً له، وكان يقدمه على أولاده ويقر له ما لا يقر لغيره، وإذا تخلف ابن خزيمة عن مجالس السلطان بعث حسنك مكانه.
ولما توفي ابن خزيمة كان عمر حسنك ثلاثاً وعشرين سنة، ثم عمّر بعده دهراً طويلاً، وكان من أكثر الناس عبادة وقراءة للقرآن، لا يترك قيام الليل حضراً ولا سفراً، كثير الصدقات والصِّلات، وكان يحكي وضوء ابن خزيمة وصلاته، ولم يكن في الأغنياء أحسن صلاة منه رحمه الله، وصلى عليه الحافظ أبو أحمد النيسابوري.
أبو القاسم الداركي
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد: أبو القاسم الداركي أحد أئمة الشافعية في زمانه، نزل نيسابور ثم سكن بغداد إلى أن مات بها.
قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: ما رأيت أفقه منه.
وحكى الخطيب عنه أنه كان يُسأل عن الفتوى فيجيب بعد تفكر طويل، فربما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فيقال له في ذلك فيقول: ويلكم روى فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فالأخذ به أولى من الأخذ بمذهب الشافعي وأبي حنيفة، ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث.
قال ابن خلكان: وله في المذهب وجوه جيدة دالة على متانة علمه، وكان يُتهم بالاعتزال، وكان قد أخذ العلم عن الشيخ أبي إسحاق المروزي، والحديث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي، وهو أحد مشايخ أبي حامد الأسفراييني، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق، وكانت وفاته في شوال، وقيل: في ذي القعدة منها، وقد نيف على السبعين رحمه الله.
محمد بن أحمد بن محمد حسنويه
أبو سهل النيسابوري، ويعرف بالحسنوي، كان فقيهاً شافعياً أديباً محدثاً مشتغلاً بنفسه عما لا يعنيه.
محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح
أبو بكر الفقيه المالكي، سمع من أبي عمرويه والباغندي وأبي بكر بن أبي داود وغيرهم، وعنه البرقاني، وله تصانيف في شرح مذهب مالك، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك، وعرض عليه القضاء فأباه وأشار بأبي بكر الرازي الحنفي، فلم يقبل الآخر أيضاً.
توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة
قال ابن الجوزي: في محرمها كثرت الحيات في بغداد فهلك بسبب ذلك خلق كثير.
ولسبع خلون من ربيع الأول - وكان يوم العشرين من تموز - وقع مطر كثير ببرق ورعد.
وفي رجب غلت الأسعار جداً وورد الخبر فيه بأنه وقع بالموصل زلزلة عظيمة سقط بسببها عمران كثير، ومات من أهلها أمة عظيمة.
وفيها: وقع بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة فاقتتلا فغلبه شرف الدولة ودخل بغداد فتلقاه الخليفة وهنأه بالسلامة، ثم استدعى شرف الدولة بفراش ليكحل صمصام الدولة فاتفق موته فأكحله بعد موته، وهذا من غريب ما وقع.
وفي ذي الحجة منها قبل قاضي القضاة أبو محمد ابن معروف شهادة القاضي الحافظ أبي الحسن الدارقطني، وأبي محمد بن عقبة، فذكر أن الدارقطني ندم على ذلك وقال: كان يقبل قولي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدي فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع غيري.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
في صفرها عقد مجلس بحضرة الخليفة فيه القضاة وأعيان الدولة، وجددت البيعة بين الطائع وبين شرف الدولة بن عضد الدولة وكان يوماً مشهوداً، ثم في ربيعها الأول ركب شرف الدولة من داره إلى دار الخليفة وزينت البلد وضربت البوقات والطبول والدبادب، فخلع عليه الخليفة وسوره وأعطاه لواءين معه، وعقد له على ما وراء داره، واستخلفه على ذلك، وكان في جملة من قدم مع شرف الدولة القاضي أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، فلما رآه الخليفة قال:
مرحباً بالأحبة القادمينا * أوحَشُونا وطال ما آنَسُونا
فقبّل الأرض بين يدي الخليفة، ولما قضيت البيعة دخل شرف الدولة على أخته امرأة الخليفة فمكث عندها إلى العصر والناس ينتظرونه، ثم خرج وسار إلى داره للتهنئة.
وفيها: اشتد الغلاء جداً ثم لحقه فناء كثير.
وفيها: توفيت أم شرف الدولة - وكانت تركية أم ولد - فجاءه الخليفة فعزاه.
وفيها: ولد لشرف الدولة ابنان توأمان.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن الحسين بن علي
أبو حامد المروزي، ويعرف بابن الطبري، كان حافظاً للحديث مجتهداً في العبادة، متقناً بصيراً بالأثر، فقيهاً حنفياً، درس على أبي الحسين الكرخي وصنف كتباً في الفقه والتاريخ، وولي قضاء القضاة بخراسان، ثم دخل بغداد وقد علت سنه، فحدث الناس وكتب الناس عنه، منهم الدارقطني.
إسحاق بن المقتدر بالله
توفي ليلة الجمعة لسبع عشر من ذي الحجة عن ستين سنة، وصلى عليه ابنه القادر بالله وهو إذ ذاك أمير المؤمنين، ودفن في تربة جدته شغب أم المقتدر، وحضر جنازته الأمراء والأعيان من جهة الخليفة وشرف الدولة، وأرسل شرف الدولة من عزى الخليفة فيه، واعتذر من الحضور لوجع حصل له.
جعفر بن المكتفي بالله
كان فاضلاً توفي فيها أيضاً.
أبو علي الفارسي النحوي
صاحب (الإيضاح) والمصنفات الكثيرة، ولد ببلده ثم دخل بغداد وخدم الملوك وحظي عند عضد الدولة بحيث إن عضد الدولة كان يقول: أنا غلام أبي علي في النحو.
وحصلت له الأموال، وقد اتهمه قوم بالاعتزال وفضّله قوم من أصحابه على المبرِّد، وممن أخذ عنه أبو عثمان بن جني وغيره، توفي فيها عن بضع وتسعين سنة.
ستيتة
بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، وتكنى أم عبد الواحد، قرأت القرآن وحفظت الفقه والفرائض والحساب والدرر والنحو وغير ذلك، وكانت من أعلم الناس في وقتها بمذهب الشافعي، وكانت تفتي به مع الشيخ أبي علي بن أبي هريرة، وكانت فاضلة في نفسها كثيرة الصدقة، مسارعة إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضاً، وكانت وفاتها في رجب عن بضع وتسعين سنة.