الجزء الثاني عشر - ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

فيها‏:‏ فتح السلطان طغرلبك أصبهان بعد حصار سنة، فنقل إليها حواصله من الري وجعلها دار إقامته، وخرب قطعة من سورها، وقال‏:‏ إنما يحتاج إلى السور من تضعف قوته، وإنما حصنني عساكري وسيفي، وقد كان فيها أبو منصور قرامز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كالويه، فأخرجه منها وأقطعه بعض بلادها‏.‏

وفيها‏:‏ سار الملك الرحيم إلى الأهواز وأطاعه عسكر فارس‏.‏

وفيها‏:‏ استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الإمارة، وأسروا أبا المظفر بن أبي كاليجار‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت العرب بإذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقية، وجرت بينهم وبين المعز بن باديس حروب طويلة، وعاثوا في الأرض فساداً عدة سنين‏.‏

وفيها‏:‏ اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم وهذا عجيب جداً، إلا أن يكون من باب التقية، ورخصت الأسعار ببغداد جداً‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 علي بن عمر بن الحسن

أبو الحسن الحربي المعروف بالقزويني، ولد في مستهل المحرم في سنة ستين وثلاثمائة، وهي الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري، وسمع أبا بكر بن شاذان وأبا حفص بن حيويه، وكان وافر العقل من كبار عباد الله الصالحين، له كرامات كثيرة، وكان يقرأ القرآن ويروي الحديث، ولا يخرج إلا إلى الصلاة‏.‏

توفي في شوال منها، فغلقت بغداد لموته يومئذ، وحضر الناس جنازته، وكان يوماً مشهوداً رحمه الله‏.‏

 عمر بن ثابت

الثمانيني النحوي الضرير، شارح اللمع، كان في غاية العلم بالنحو، وكان يأخذ عليه‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه اشتغل على ابن جني، وشرح كلامه، وكان ماهراً في صناعة النحو، قال‏:‏ ونسبته إلى قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجبل الجودي، يقال لها‏:‏ ثمانين، باسم الثمانين الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة‏.‏

 قرواش بن مقلد

أبو المنيع، صاحب الموصل والكوفة وغيرها، كان من الجبارين، وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الأحيان فاستماله إليه، فخطب له ببلاده ثم تركه، واعتذر إلى الخليفة فعذره، وقد جمع هذا الجبار بين أختين في النكاح ولامته العرب، فقال‏:‏ وأي شيء عملته‏؟‏ إنما عملت ما هو مباح في الشريعة‏.‏

وقد نكب في أيام المعز الفاطمي ونهبت حواصله، وحين توفي قام بالأمر بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلد‏.‏

 مودود بن مسعود

ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، توفي فيها وقام بالأمر من بعده عمه عبد الرشيد بن محمود‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجاً وكتبوا عيها بالذهب‏:‏ محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد صلى الله عليه وسلم في هذا، فنشبت الحرب بينهم، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد، ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر، وأحرقوا ضريح موسى، ومحمد الجواد، وقبور بنى بوية، وقبور من هناك من الوزراء‏.‏

وأحرق قبر جعفر بن المنصور، ومحمد الأمين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة جداً‏.‏

وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضاً بمفاسد كثيرة، وبعثروا قبوراً قديمة، وأحرقوا من فيها من الصالحين، حتى هموا بقبر الإمام أحمد، فمنعهم النقيب، وخاف من غائلة ذلك، وتسلط على الرافضة عيار يقال له‏:‏ القطيعي، وكان يتبع رؤسهم وكبارهم فيقتلهم جهاراً وغيلة، وعظمت المحنة بسببه جداً، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر‏.‏

ولما بلغ ذلك دبيس بن علي بن مزيد - وكان رافضياً - قطع خطبة الخليفة، ثم روسل فأعادها‏.‏

وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إليه بما كان بعثه له من الخلع والتقليد، وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف دينار، وإلى الحاشية بخمسة آلاف، وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار، وقد كان طغرلبك حين عمر الري وخرب فيها أماكن وجد فيها دفائن كثيرة من الذهب والجوهر، فعظم شأنه بذلك، وقوي ملكه بسببه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن محمد بن أحمد

أبو الحسن الشاعر البصروي، نسبة إلى قرية دون عكبرا يقال لها‏:‏ بصرى، باسم المدينة التي هي أم حوران، وقد سكن بغداد، وكان متكلماً مطبوعاً، له نوادر، ومن شعره قوله‏:‏

نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا * وما يخلو من الشهوات قلب

فلا يغررك زخرف ما تراه * وعيش لين الأعطاف رطب

فضول العيش أكثرها هموم * وأكثر ما يضرك ما تحب

إذا ما بلغة جاءتك عفواً * فخذها فالغنى مرعى وشرب

إذا اتفق القليل وفيه سلم * فلا ترد الكثير وفيه حرب

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة

فيها‏:‏ كتبت تذكرة الخلفاء المصريين وأنهم أدعياء كذبة لا نسب لهم صحيحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسخاً كثيرة، وكتب فيها الفقهاء والقضاة والأشراف‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلازل عظيمة في نواحي أرجان والأهواز وتلك البلاد، تهدم بسببها شيء كثير من العمران وشرفات القصور، وحكى بعض من يعتد قوله‏:‏ أنه انفرج إيوانه وهو يشاهد ذلك، حتى رأى السماء منه ثم عاد إلى حاله لم يتغير‏.‏

وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض، وأحرقوا أماكن كثيرة، وقتل من الفريقين خلائق، وكتبوا على مساجدهم‏:‏ محمد وعلي خير البشر، وأذنوا بحي على خير العمل، واستمرت الحرب بينهم، وتسلط القطيعي العيار على الروافض، بحيث كان لا يقر لهم معه قرار، وهذا من جملة الأقدار‏.‏

 

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحسن بن علي

ابن محمد بن علي بن أحمد بن وهب بن شنبل بن قرة بن واقد، أبو علي التميمي الواعظ، المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وسمع مسند الإمام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه، وقد سمع الحديث من أبي بكر بن ماسي وابن شاهين والدارقطني وخلق‏.‏

وكان ديناً خيراً، وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع لمسند أحمد من القطيعي غير أنه ألحق اسمه في أجزاء‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وليس هذا بقدح في سماعه، لأنه إذا تحقق سماعه جاز أن يلحق اسمه فيما تحقق سماعه له، وقد عاب عليه الخطيب أشياء لا حاجة إليها‏.‏

 علي بن الحسين

ابن محمد، أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي، وقد أقام بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أهلها، وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنه من ذوي الأحوال والمكاشفات، وهو في ذلك كاذب قبحه الله وقبح عمه، وقد كان مع هذا رافضياً خبيثاً قرمطياً‏.‏

توفي في هذا العام، فلله الحمد والشكر والإنعام‏.‏ ‏

 القاضي أبو جعفر

محمد بن أحمد بن أحمد، أبو جعفر السمناني القاضي، أحد المتكلمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد سمع الدارقطني وغيره، كان عالماً فاضلاً سخياً، تولى القضاء بالموصل، وكان له في داره مجلس للمناظرة، وتوفي لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها، في ربيع الأول منها وقد بلغ خمساً وثمانين سنة، سامحه الله‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة

فيها‏:‏ تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض، وسرى الأمر وتفاقم الحال‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار بأن المعز الفاطمي عازم على قصد العراق‏.‏

وفيها‏:‏ نقل إلى الملك طغرلبك أن الشيخ أبا الحسن الأشعري يقول بكذا وكذا، وذكر بشيء من الأمور التي لا تليق بالدين والسنة، فأمر بلعنه، وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك، فضج أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن من ذلك، وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة، واستدعى السلطان جماعة من رؤس الأشاعرة منهم القشيري فسألهم عما أنهي إليه من ذلك، فأنكروا ذلك، وأن يكون الأشعري قال ذلك‏.‏

فقال السلطان‏:‏ نحن إنما لعنا من يقول هذا‏.‏‏.‏ وجرت فتنة عظيمة طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ استولى فولا بسور الملك أبي كاليجار على شيراز، وأخرج منها أخاه أبا سعد، وفي شوال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا في الأرض فقهرهم وأخذ أموالهم‏.‏

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق‏.‏

 

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عمر بن روح

أبو الحسن النهرواني، وكان ينظر في العيار بدار الضرب، وله شعر حسن، قال‏:‏ كنت يوماً على شاطئ النهروان فسمعت رجلاً يتغنى في سفينة منحدرة يقول‏:‏

وما طلبوا سوى قتلي * فهان عليّ ما طلبوا

قال‏:‏ فاستوقفته وقلت‏:‏ أضف إليه غيره‏.‏

على قتلي الأحبـ *ـة في التمادي، بالجفا غلبوا

وبالهجران من عيني * طيب النوم قد سلبوا

وما طلبوا سوى قتلي * فهان عليّ ما طلبوا

 إسماعيل بن علي

ابن الحسين بن محمد بن زنجويه، أبو سعيد الرازي، المعروف بالسمان، شيخ المعتزلة، سمع الحديث الكثير وكتب عن أربعة آلاف شيخ‏.‏

وكان عالماً عارفاً فاضلاً مع اعتزاله، ومن كلامه‏:‏ من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام‏.‏

وكان حنفي المذهب عالماً بالخلاف والفرائض والحساب وأسماء الرجال، وقد ترجمه ابن عساكر في ‏(‏تاريخه‏)‏ فأطنب في شكره والثناء عليه‏.‏

 عمر بن الشيخ أبي طالب المكي

محمد بن علي بن عطية، سمع أباه وابن شاهين، وكان صدوقاً يكنى بأبي جعفر‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن عثمان بن الفرج الأزهر، أبو طالب المعروف بابن السوادي، وهو أخو أبي القاسم الأزهري توفي عن نيف وثمانين سنة‏.‏

 محمد بن أبي تمام

الزينبي نقيب النقباء، قام ببغداد بعد أبيه مقامه بالنقابة‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة

فيها‏:‏ غزا السلطان طغرلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان، فغنم من بلاد الروم وسبى وعمل أشياء حسنة، ثم عاد سالماً فأقام بأذربيجان سنة‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ قريش بن بدران الأنبار، وخطب بها وبالموصل لطغرلبك، وأخرج منها نواب البساسيري‏.‏

وفيها‏:‏ دخل البساسيري بغداد مع بني خفاجة منصرفة من الوقعة، وظهرت منه آثار النفرة للخلافة، فراسله الخليفة لتطيب نفسه، وخرج في ذي الحجة إلى الأنبار فأخذها، وكان معه دبيس بن علي بن مزيد، وخرب أماكن وحرق غيرها ثم أذن له الخليفة في الدخول إلى بيت النوبة ليخلع عليه، فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الأرض وانصرف إلى منزله، ولم يعبر، فقويت الوحشة‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسين بن جعفر بن محمد

ابن داود أبو عبد الله السلماسي، سمع ابن شاهين وابن حيويه والدارقطني، وكان ثقة مأموناً مشهوراً باصطناع المعروف، وفعل الخير، وافتقاد الفقراء، وكثرة الصدقة، وكان قد أريد على الشهادة فأبى ذلك، وكان له في كل شهر عشرة دنانير نفقة لأهله‏.‏

 عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

أبو عبد الله الأصبهاني، المعروف بابن اللبان، أحد تلامذة أبي حامد الإسفرايني، ولي قضاء الكرخ، وكان يصلي بالناس التراويح، ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر، وربما انقضى الشهر عنه ولم يضطجع إلى الأرض رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ملك طغرلبك بغداد، وهو أول ملوك السلجوقية، ملكها وبلاد العراق‏.‏

وفيها‏:‏ تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، واشتكت الأتراك منه، وأطلق رئيس الرؤساء عبارته فيه، وذكر قبيح أفعاله، وأنه كاتب المصريين بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة العباسيين وقال الخليفة‏:‏ وليس إلا إهلاكه‏.‏

وفيها‏:‏ غلت الأسعار بنواحي الأهواز حتى بيع الكر بشيراز بألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الفتنة بين السنة والرافضة على العادة، فاقتتلوا قتالاً مستمراً، ولا تمكن الدولة أن يحجزوا بين الفريقين‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد أعظم أمره واستفحل، لعدم أقرانه من مقدمي الأتراك واستولى على البلاد وطار اسمه، وخافته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية والأهواز ونواحيها، ولم يكن للخليفة قطع ولا وصل دونه، ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة من الأتراك أنه عازم على نهب دار الخلافة، وأنه يريد القبض على الخليفة‏.‏ ‏

فعند ذلك كاتب الخليفة محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب طغرلبك يستنهضه على المسير إلى العراق، فانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد سريعاً، ثم أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب الغربي فأحرقوها، وهدموا أبنيتها‏.‏

ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في رمضان سنة سبع وأربعين، وقد تلقاه إلى أثناء الطريق الأمراء والوزراء والحجاب، ودخل بغداد في أبهة عظيمة جداً، وخطب له بها ثم بعده للملك الرحيم، ثم قطعت خطبة الملك الرحيم، ورفع إلى القلعة معتقلاً عليه، وكان آخر ملوك بني بويه، وكانت مدة ولايتهم قريب المائة والعشر سنين، وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة أيام‏.‏

ونزل طغرلبك دار المملكة بعد الفراغ من عمارتها، ونزل أصحابه دور الأتراك وكان معه ثمانية أفيلة، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة، ونهب الجانب الشرقي بكماله، وجرت خبطة عظيمة‏.‏

وأما البساسيري فإنه فرّ من الخليفة إلى بلاد الرحبة وكتب إلى صاحب مصر بأنه على إقامة الدعوى له بالعراق، فأرسل إليه بولاية الرحبة ونيابته بها، ليكون على أهبة الأمر الذي يريد‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة قلد أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني قضاء القضاة، وخلع عليه به، وذلك بعد موت ابن ماكولا، ثم خلع الخليفة على الملك طغرلبك بعد دخوله بغداد بيوم، ورجع إلى داره وبين يديه الدبادب والبوقات‏.‏

وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن الخليفة القائم بأمر الله، وهو ولي عهد أبيه فعظمت الرزية به‏.‏

وفيها‏:‏ استولى أبو كامل علي بن محمد الصليحي الهمداني على أكثر أعمال اليمن، وخطب للفاطميين، وقطع خطبة العباسيين‏.‏

وفيها‏:‏ كثر فساد الغز ونهبوا دواب الناس حتى بيع الثور بخمسة قراريط‏.‏

وفيها‏:‏ اشتد الغلاء بمكة وعدمت الأقوات، وأرسل الله عليهم جراداً فتعوضوا به عن الطعام‏.‏

ولم يحج أحدا من أهل العراق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسن بن علي

ابن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن أبي دلف العجلي قاضي القضاة، المعروف بابن ماكولا الشافعي، وقد ولي القضاء بالبصرة، ثم ولي قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة المقتدر، وأقره ابنه القائم إلى أن مات في هذه السنة عن تسع وسبعين سنة، منها في القضاء سبع وعشرون سنة‏.‏

وكان صيناً ديناً لا يقبل من أحد هدية ولا من الخليفة، وكان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله بن منده، وله شعر حسن فمنه‏:‏

تصابى برهة من بعد شيب * فما أغنى المشيب عن التصابي

وسود عارضيه بلون خضب * فلم ينفعه تسويد الخضاب

وأبدى للأحبة كل لطف * فما زادوا سوى فرط اجتناب

سلام الله عوداً بعد بدئ * على أيام رعيان الشباب

تولى عزمه يوماً وأبقى * بقلبي حسرة ثم اكتئاب

علي بن المحسن بن علي

ابن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التنوخي، قال ابن الجوزي‏:‏ وتنوخ اسم لعدة قبائل اجتمعوا بالبحرين، وتحالفوا على التناصر والتآزر، فسموا تنوخاً‏.‏

ولد بالبصرة سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة، وسمع الحديث سنة سبعين، وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، وولي القضاء بالمدائن وغيرها، وكان صدوقاً محتاطاً، إلا أنه كان يميل إلى الاعتزال والرفض‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

في يوم الخميس لثمان بقين من المحرم عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك على صداق مائة ألف دينار، وحضر هذا العقد عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وبقية العلويين وقاضي القضاة الدامغاني والماوردي، ورئيس الرؤساء ابن المسلمة‏.‏

فلما كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طغرلبك وقال له‏:‏ أمير المؤمنين يقول لك‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ وقد أمرني أن أنقل الوديعة إلى داره العزيزة‏.‏

فقال‏:‏ السمع والطاعة‏.‏

فذهبت أم الخليفة لدار الملك لاستدعاء العروس، فجاءت معها وفي خدمتها الوزير عميد الملك والحشم، فدخلوا داره وشافه الوزير الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والإحسان إليها، فلما دخلت إليه قبلت الأرض مراراً بين يديه، فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه، وأفاض عليها خلعاً سنية وتاجاً من جوهر ثمين، وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجاً وقصبات من ذهب، وطاسة ذهب قد نبت فيها الجوهر والياقوت والفيروزج، وأقطعها في كل سنة من ضياعه ما يغل اثنا عشر ألف دينار وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أمر السلطان طغرلبك ببناء دار الملك العضدية فخربت محال كثيرة في عمارتها، ونهبت العامة أخشاباً كثيرة من دور الأتراك، والجانب الغربي، وباعوه على الخبازين والطباخين وغيرهم‏.‏

وفيها‏:‏ رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغلت الأشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيراً، واعترى الناس موت كثير، واغبر الجو وفسد الهواء‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وعم هذا الوباء والغلاء مكة والحجاز وديار بكر والموصل وبلاد بكر وبلاد الروم وخراسان والجبال والدنيا كلها‏.‏

هذا لفظه في ‏(‏المنتظم‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند الصباح موت أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل‏.‏

وفيها‏:‏ أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهلها لذلك، وكان كثير الأذية للرافضة، وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح شديدة وارتفعت سحابة ترابية وذلك ضحى، فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في الأسواق وغيرها إلى السرج‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع، وفي عرض نحو الذراع، ولبث كذلك إلى النصف من رجب، ثم اضمحل‏.‏

وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين‏.‏

وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين‏.‏

وفيها‏:‏ ألزم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح، بعد حي على الفلاح‏:‏ الصلاة خير من النوم، مرتين، وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة‏:‏ محمد وعلي خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بني بويه كانوا حكاماً، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت دولتهم‏.‏

وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلوجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، والله المحمود أبداً على طول المدى‏.‏

وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره‏.‏

وفيها‏:‏ جاء البساسيري قبحه الله إلى الموصل ومعه نور الدولة دبيس في جيش كثيف، فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش بن عم طغرلبك، وهو جد ملوك الروم فهزمهما البساسيري، وأخذ البلد قهراً، فخطب بها للمصريين، وأخرج كاتبه من السجن، وقد كان أظهر الإسلام ظناً منه أنه ينفعه، فلم ينفعه فقتل، وكذلك خطب للمصريين فيها بالكوفة وواسط وغيرها من البلاد‏.‏ ‏

وعزم طغرلبك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري فنهاه الخليفة عن ذلك لضيق الحال وغلاء الأسعار، فلم يقبل فخرج بجيشه قاصداً الموصل بجحافل عظيمة، ومعه الفيلة والمنجنيقات، وكان جيشه لكثرتهم ينهبون القرى، وربما سطوا على بعض الحريم، فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن ذلك، فبعث إليه يعتذر لكثرة من معه، واتفق أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسلم عليه فأعرض عنه، فقال‏:‏ يا رسول الله لأي شيء تعرض عني ‏؟‏

فقال‏:‏ يحكمك الله في البلاد ثم لا ترفق بخلقه ولا تخاف من جلال الله عز وجل‏.‏

فاستيقظ مذعوراً وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل، وأن لا يظلم أحد أحداً‏.‏

ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلاداً، ثم فتحها وسلمها إلى أخيه داود، ثم سار منها إلى بلاد بكر ففتح أماكن كثيرة هناك‏.‏

وفيها‏:‏ ظهرت دولة الملثمين في بلاد المغرب، وأظهروا إعزاز الدين وكلمة الحق، واستولوا على بلاد كثيرة منها سجلماسة وأعمالها والسوس، وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وأول ملوك الملثمين رجل يقال له‏:‏ أبو بكر بن عمر، وقد أقام بسجلماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين كما سيأتي بيانه‏.‏

ثم ولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين، وتلقب بأمير المؤمنين، وقوي أمره، وعلا قدره ببلاد المغرب‏.‏

وفيها‏:‏ ألزم أهل الذمة بلبس الغيار ببغداد، عن أمر السلطان‏.‏

وفيها‏:‏ ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولداً ذكر، وهو أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله‏.‏

وفيها‏:‏ كان الغلاء والفناء أيضاً مستمرين على الناس ببغداد وغيرها من البلاد، على ما كان عليه الأمر في السنة الماضية، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 علي بن أحمد بن علي بن سلك

أبو الحسن المؤدب، المعروف بالفالي، صاحب ‏(‏الأمالي‏)‏ وفالة قرية قريبة من إيذج، أقام بالبصرة مدة، وسمع بها من عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة في نفسه، كثير الفضائل‏.‏ ‏

ومن شعره الحسن‏:‏

لما تبدلت المجالس أوجهاً * غير الذين عاهدت من علمائها

ورأيتها محفوفة بسوى الأولى * كانوا ولاة صدورها وفنائها

أنشدت بيتاً سائراً متقدماً * والعين قد شرقت بجاري مائها

أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائها

ومن شعره أيضا‏:‏

تصدر للتدريس كل مهوس * بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا * ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدى من هزالها * كلاها وحتى سامها كل مفلس

 محمد بن عبد الواحد بن محمد الصباغ

الفقيه الشافعي، وليس بصاحب الشامل، ذاك متأخر وهذا من تلاميذ أبي حامد الإسفرايني، كانت له حلقة للفتوى بجامع المدينة، وشهد عند قاضي القضاة الدامغاني الحنفي فقبله، وقد سمع الحديث من ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل القدر‏.‏

 هلال بن المحسن

ابن إبراهيم بن هلال، أبو الخير الكاتب الصابئ، صاحب ‏(‏التاريخ‏)‏، وجده أبو إسحاق الصابئ صاحب ‏(‏الرسائل‏)‏، وكان أبوه صابئياً أيضاً، أسلم هلال هذا متأخراً، وحسن إسلامه، وقد سمع في حال كفره من جماعة من المشايخ، وذلك أنه كان يتردد إليهم يطلب الأدب، فلما أسلم نفعه ذلك، وكان ذلك سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي بسنده مطولاً‏:‏ إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام مراراً يدعوه إلى الله عز وجل، ويأمره بالدخول في الإسلام، ويقول له‏:‏ أنت رجل عاقل، فلِمَ تدع دين الإسلام الذي قامت عليه الدلائل ‏؟‏

وأراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة، فمنها أنه قال له‏:‏ إن امرأتك حامل بولد ذكر، فسمه محمداً، فولدت ذكراً، فسماه محمداً، وكناه أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي، فأسلم وحسن إسلامه، وكان صدوقاً‏.‏

توفي عن تسعين سنة، منها في الإسلام نيف وأربعون سنة‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة

فيها‏:‏ كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد، بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد، وأكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضر، وشوى رجل صبية في الأتون وأكلها، فقيل‏:‏ وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه‏.‏

وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان، وأحصي من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة وطرقات خالية، وأبواباً مغلقة، ووحشة وعدم أنس‏.‏

حكاه ابن الجوزي‏.‏

قال‏:‏ وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جداً‏.‏

قال‏:‏ ووقع وباء بالأهواز وبواط وأعمالها وغيرها، حتى طبق البلاد، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، كان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور ويشوون الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسان بينما هو جالس إذ انشق قلبه عن دم المهجة، فيخرج منه إلى الفم قطرة فيموت الإنسان من وقته، وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول‏:‏ أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك‏.‏

وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلّ دار يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم، ودخل على مريض له سبعة أيام في النزع فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر فأراقوها فمات من وقته بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم، فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم أحد حي، بل ماتوا جميعاً‏.‏

وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة متفقه، فمات وماتوا كلهم، إلا اثني عشر نفراً منهم، ولما اصطلح السلطان دبيس بن علي رجع إلى بلاده فوجدها خراباً لقلة أهلها من الطاعون، فأرسل رسولاً منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وأكلوه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس، وأصحاب السقط وباب الشعير، وسوق العطارين وسوق العروس والأنماطيين والخشابين والجزارين والتمارين، والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وسويقة غالب والصفارين والصباغين وغير ذلك من المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من الجوع والغلاء والفناء، ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ كثر العياريون ببغداد، وأخذوا الأموال جهاراً، وكبسوا الدور ليلاً ونهاراً، وكبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته، ويدعو إليها أهل ملته ونحلته، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الملك طغرلبك بغداد عائداً إليها من الموصل فتلقاه الناس والكبراء إلى أثناء الطريق، وأحضر له رئيس الرؤساء خلعة من الخليفة مرصعة بالجوهر فلبسها، وقبل الأرض ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة، وقد ركب إليها فرساً من مراكب الخليفة، فلما دخل على الخليفة إذا هو على سرير طوله سبعة أذرع، وعلى كتفه البردة النبوية، وبيده القضيب، فقبل الأرض وجلس على سرير دون سرير الخليفة، ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء‏:‏ قل له‏:‏ أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفعلك، آنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، فاتق الله فيما ولاك، واجتهد في عمارة البلاد وإصلاح العباد ونشر العدل، وكف الظلم‏.‏

ففسر له عميد الدولة ما قال الخليفة فقام وقبل الأرض وقال‏:‏ أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق‏.‏

ثم أمره الخليفة أن ينهض للبس الخلعة فقام إلى بيت في ذلك البهو، فأفيض عليه سبع خلع وتاج، ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبّل يد الخليفة، ورام تقبيل الأرض، فلم يتمكن من التاج، فأخرج الخليفة سيفاً فقلده إياه وخوطب بملك الشرق والغرب، وأحضرت ثلاثة ألوية فعقد منها الخليفة لواء بيده، وأحضر العهد إلى الملك، وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية، ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها على عينيه‏.‏

ثم خرج في أبهة عظيمة إلى داره وبين يديه الحجاب والجيش بكماله، وجاء الناس للسلام عليه، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة منها خمسون ألف دينار، وخمسون غلاماً أتراكاً، بمراكبهم وسلاحهم ومناطقهم، وخمسمائة ثوب أنواعاً، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة قماش وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازري، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، وأحيط على ثمانين من أصحابه، وقد كان هذا الوزير فقيهاً حنفياً، يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين، وقد كان الشيخ أبو يوسف القزويني يثني عليه ويمدحه‏.‏ ‏:

 من الأعيان

 أحمد بن عبد الله بن سليمان

ابن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، أبو العلاء المعري، التنوخي الشاعر، المشهور بالزندقة، اللغوي صاحب الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة‏.‏

ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وأصابه جدري وله أربع سنين أو سبع، فذهب بصره، وقال الشعر وله إحدى أو ثنتا عشرة سنة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم خرج منها طريداً منهزماً لأنه سأل سؤالاً بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال‏:‏

تناقض فما لنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار

يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار

وهذا من إفكه يقول‏:‏ اليد ديتها خمسمائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار‏.‏

وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته‏.‏

وذلك أنه إذا جنى عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، ولهذا قال بعضهم‏:‏ كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت‏.‏

ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله فكان لا يخرج منه‏.‏

وكان يوماً عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء‏:‏ لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها‏:‏

لك يا منازل في القلوب منازل * لكفاه ذلك‏.‏

فغضب الخليفة وأمر به فسحب برجله على وجهه وقال‏:‏ أخرجوا عني هذا الكلب‏.‏

وقال الخليفة‏:‏ أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة‏؟‏ وذكره لها ‏؟‏

أراد قول المتنبي فيها‏:‏

وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الدليل عليّ أني كامل

وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا‏.‏

وهذا من فرط ذكاء الخليفة، حيث تنبه لهذا‏.‏

وقد كان المعري أيضاً من الأذكياء، ومكث المعري خمساً وأربعين سنة من عمره، لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، ولا شيئاً من حيوان، على طريقة البراهمة الفلاسفة، ويقال‏:‏ إنه اجتمع براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشككه في دين الإسلام‏.‏

وكان يتقوت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين، وكان لا يأكل بحضرة أحد، ويقول‏:‏ أكل الأعمى عورة‏.‏

وكان في غاية الذكاء المفرط، على ما ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الأشياء المكذوبة المختلفة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال‏:‏ إما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو الأرض قد ارتفعت مقدار درهم، أي‏:‏ أنه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم الذي وضع تحته، فهذا لا أصل له‏.‏

وكذلك يذكرون عنه أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ أما هنا شجرة ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديماً مرة، فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه لمّا جازوا تحتها، فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفاً من أن يصيبه شيء منها، فهذا لا يصح‏.‏

وقد كان ذكياً، ولم يكن زكياً، وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر، وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقته، وانحلاله من الدين، ومن الناس من يعتذر عنه ويقول‏:‏ إنه إنما كان يقول ذلك مجوناً ولعباً، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد كان باطنه مسلماً‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ لما بلغه‏:‏ وما الذي ألجأه أن يقول في دار الإسلام ما يكفره به الناس ‏؟‏

قال‏:‏ والمنافقون مع قلة عقلهم وعلمهم أجود سياسة منه، لأنهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها، وهذا أظهر الكفر الذي تسلط عليه به الناس وزندقوه، والله يعلم أن ظاهره كباطنه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد رأيت لأبي العلاء المعري كتاباً سماه ‏(‏الفصول والغايات في معارضة السور والآيات‏)‏، على حروف المعجم في آخر كلماته وهو في غاية الركاكة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته‏.‏

قال‏:‏ وقد نظرت في كتابه المسمى ‏(‏لزوم ما لا يلزم‏)‏، ثم أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الإسلام أشياء كثيرة‏.‏

فمن ذلك قوله‏:‏

إذا كان لا يحظى برزقك عاقل * وترزق مجنوناً وترزق أحمقا

فلا ذنب يا رب السماء على امرئ * رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

وقوله‏:‏

ألا إن البرية في ضلال * وقد نظر اللبيب لما اعتراها

تقدم صاحب التوراة موسى * وأوقع في الخسار من افتراها

فقال رجاله وحي أتاه * وقال الناظرون بل افتراها

وما حجي إلى أحجار بيت * كروس الحمر تشرف في ذراها

إذا رجع الحليم إلى حجاه * تهاون بالمذاهب وازدراها

وقوله‏:‏

عفت الحنيفة والنصارى اهتدت * ويهود جارت والمجوس مضلله

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا * دين وآخر ذو دين ولا عقل له

وقوله‏:‏

فلا تحسب مقال الرسل حقاً * ولكن قول زور سطروه

فكان الناس في عيش رغيد * فجاؤا بالمحال فكدروه

وقلت أنا معارضة عليه‏:‏

فلا تحسب مقال الرسل زوراً * ولكن قول حق بلغوه

وكان الناس في جهل عظيم * فجاؤا بالبيان فأوضحوه

وقوله‏:‏

إن الشرائع ألقت بيننا إحناً * وأورثتنا أفانين العداوات

وهل أبيح نساء الروم عن عرض * للعرب إلا بإحكام النبوات

و قوله‏:‏

وما حمدي لآدم أو بنيه * وأشهد أن كلهم خسيس

وقوله‏:‏

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما * دياناتكم مكراً من القدما

وقوله‏:‏

صرف الزمان مفرق الألفين * فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

نهيت عن قتل النفوس تعمداً * وبعثت تقبضها مع الملكين

وزعمت أن لها معاداً ثانياً * ما كان أغناها عن الحالين

وقوله‏:‏

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة * وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

تحطمنا الأيام حتى كأننا * زجاج ولكن لا يعود له سبك

وقوله‏:‏

أمور تستخف بها حلوم * وما يدري الفتى لمن الثبور

كتاب محمد وكتاب موسى * وإنجيل ابن مريم والزبور

وقوله‏:‏

قالت معاشر لم يبعث إلهكم * إلى البرية عيساها ولا موسى

وإنما جعلوا الرحمن مأكلة * وصيروا دينهم في الناس ناموسا

‏وذكر ابن الجوزي وغيره أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله، ويقال‏:‏ إنه أوصى أن يكتب على قبره‏:‏

هذا جناه أبي علي * وما جنيت على أحد

معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله‏.‏

وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه، وأنه قال قصيدة يعتذر فيها من ذلك كله، ويتنصل منه، وهي القصيدة التي يقول فيها‏:‏

يا من يرى مد البعوض جناحها * في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في نحرها * والمخ في تلك العظام النحل

امنن علي بتوبة تمحو بها * ما كان مني في الزمان الأول

توفي في ربيع الأول من هذه السنة بمعرة النعمان عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوماً، وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته، وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة، حتى قال بعضهم في مرثاه له‏:‏

إن كنت لم ترق الدماء زهادة * فلقد أرقت اليوم من جفني دما

قال ابن الجوزي‏:‏ وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه إما جهال بأمره، وإما ضلال على مذهبه وطريقه‏.‏

وقد رأى بعضهم في النوم رجلاً ضريراً على عاتقه حيتان مدليتان على صدره، رافعتان رؤسهما إليه، وهما ينهشان من لحمه، وهو يستغيث، وقائل يقول‏:‏ هذا المعري الملحد‏.‏

وقد ذكره ابن خلكان فرفع في نسبه على عادته في الشعراء، كما ذكرنا‏.‏

وقد ذكر له من المصنفات كتباً كثيرة، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتابه المسمى بـ‏(‏الأيك والغصون‏)‏، وهو المعروف بالهمز والردف، وأنه أخذ العربية عن أبيه واشتغل بحلب على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي، وذكر أنه مكث خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم على طريقة الحكماء، وإنه أوصى أن يكتب على قبره‏:‏

هذا جناه أبي علي * وما جنيت على أحد

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا أيضاً متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون اتخاذ الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه، لأنه يتعرض للحوادث والآفات‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يدل على أنه لم يتغير عن اعتقاده، و هو ما يعتقده الحكماء إلى آخر وقت، وأنه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم، والله أعلم بظواهر الأمور وبواطنها‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أن عينه اليمنى كانت ناتئة وعليها بياض، وعينه اليسرى غائرة، وكان نحيفاً، ثم أورد من أشعاره الجيدة أبياتاً فمنها قوله‏:‏

لا تطلبن بآلة لك رتبة * قلم البليغ بغير جد مغزل

سكن السما كان السماء كلاهما * هذا له رمح وهذا أعزل

 الأستاذ أبو عثمان الصابوني

إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن عابد النيسابوري، الحافظ الواعظ المفسر، قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج فسمع بها وذكر الناس، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة، وأورد له أشياء حسنة من أقواله وشعره، فمن ذلك قوله‏:‏

إذا لم أصب أموالكم ونوالكم * ولم آمل المعروف منكم ولا البرا

وكنتم عبيداً للذي أنا عبده * فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرا ‏؟‏

وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال‏:‏ كنت أتردد وأنا بمكة في المذاهب فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني‏.‏

رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ كانت فتنة الخبيث البساسيري، وهو أرسلان التركي، وذلك أن إبراهيم ينال أخا الملك طغرلبك ترك الموصل الذي كان قد استعمله أخوه عليها، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل، فاستدعاه أخوه وخلع عليه وأصلح أمره، ولكن في غضون ذلك ركب البساسيري ومعه قريش بن بدران أمير العرب إلى الموصل فأخذها، وأخرب قلعتها‏.‏

فسار إليه الملك طغرلبك سريعاً فاستردها وهرب منه البساسيري وقريش خوفاً منه، فتبعهما إلى نصيبين، وفارقه أخوه إبراهيم، وعصى عليه، وهرب إلى همذان، وذلك بإشارة البساسيري عليه، فسار الملك طغرلبك وراء أخيه وترك عساكره وراءه فتفرقوا وقل من لحقه منهم، ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندري إلى بغداد‏.‏

ثم جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه، وأن طغرلبك محصور بهمذان، فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وجاء الخبر بأن البساسيري على قصد بغداد، وأنه قد اقترب من الأنبار، فقوي عزم الكندري على الهروب، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إلى الجانب الغربي، ونهبت داره وقطع الجسر الذي بين الجانبين، وركبت الخاتون في جمهور الجيش، وذهبت إلى همذان لأجل زوجها‏.‏

وسار الكندري ومعه أنوشروان بن تومان وأم الخاتون المذكورة، ومعها بقية الجيش إلى بلاد الأهواز وبقيت بغداد ليس بها أحد من المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وليته فعل، ثم أحب داره والمقام مع أهله، فمكث فيها اغتراراً ودعة، ولما خلى البلد من المقاتلة قيل للناس‏:‏ من أراد الرحيل من بغداد فليذهب حيث شاء‏.‏

فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت المعبرة ديناراً ودينارين لعدم الجسر‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحاً مزعجاً، وقيل لرئيس الرؤساء‏:‏ المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة، فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة من العوام، ودفع إليهم سلاح كثير من دار المملكة‏.‏

فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة جاء البساسيري إلى بغداد ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد‏.‏

ونزل قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، وكان البساسيري قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة‏.‏

ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات، وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي على منابرها وغيرها، وضربت له السكة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة، فجاحف الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء، بمن معه من المستخدمين دونها فلم يفد ذلك شيئاً، فركب الخليفة بالسواد والبردة، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مصلت، وحوله زمرة من العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رؤس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف‏.‏

ثم إن الخليفة أخذ ذماماً من أمير العرب قريش ليمنعه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فأمنه على ذلك كله، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال‏:‏ قد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا بيني وبينك‏.‏

ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخاً مفضحاً، ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضرباً مبرحاً، واعتقله مهاناً عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والأثاث والدواب، وغير ذلك مما لا يحد ولا يوصف‏.‏

ثم اتفق رأي البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة عانة، وهو مهارش بن مجلي الندوي وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلاً فيه دين وله مروءة‏.‏ ‏

فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك شيئاً، وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حولاً كاملاً، وليس معه أحد من أهله، فحكى عن الخليفة أنه قال‏:‏ لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله عز وجل بما سنح لي، ثم قلت‏:‏ اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الأنس زاهراً، وربع القرب عامراً، وفلفل العزا وبرج الجفا‏.‏

قال‏:‏ فسمعت قائلاً على شاطئ الفرات يقول‏:‏ نعم نعم‏.‏

فقلت‏:‏ هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول‏:‏ إلى الحول إلى الحول‏.‏

فقلت‏:‏ إنه هاتف أنطقه الله بما جرى الأمر عليه، وكان كذلك، خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة‏.‏

وقد قال الخليفة القائم بأمر الله في مدة مقامه بالحديثة شعراً يذكر فيه حاله فمنه‏:‏

ساءت ظنوني فيمن كنت آمله * ولم يجل ذكر من واليت في خلدي

تعلموا من صروف الدهر كلهم * فما أرى أحداً يحنو على أحد

فما أرى من الأيام إلا موعداً * فمتى أرى ظفري بذاك الموعد

يومي يمر وكلما قضيته * عللت نفسي بالحديث إلى غد

أقبح بنفس تستريح إلى المنى * وعلى مطامعها تروح وتغتدي

وأما البساسيري وما اعتمده في بغداد فإنه ركب يوم عيد الأضحى وألبس الخطباء والمؤذنين البياض، وكذلك أصحابه، وعلى رأسه الألوية المصرية، وخطب للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور، والأذان بسائر العراق بحي على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرق خلقاً ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق ممن كان يحبه ويواليه، وأظهر العدل‏.‏

ولما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرؤساء، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملاً أحمر وطيف به في البلد، وخلفه من يصفعه بقطعة جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك يتلو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ثم لما فرغوا من التطواف به جيء به إلى المعسكر فألبس جلد ثور بقرنيه، وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة، فجعل يضطرب إلى آخر النهار فمات، رحمه الله‏.‏ ‏

وكان آخر كلامه أن قال‏:‏ الحمد لله الذي أحياني سعيداً، وأماتني شهيداً‏.‏

وفيها‏:‏ وقع برد بأرض العراق أهلك كثيراً من الغلات، وقتل بعض الفلاحين، وزادت دجلة زيادة كثيرة، وزلزلت بغداد في هذه السنة قبل الفتنة بشهر زلزالاً شديداً، فتهدمت دور كثيرة، ووردت الأخبار أن هذه الزلزلة اتصلت بهمذان وواسط، وتكريت، وعانة، وذكر أن الطواحين وقفت من شدتها‏.‏

وفيها‏:‏ كثر النهب ببغداد حتى كانت العمائم تخطف عن الرؤس، وخطفت عمامة الشيخ أبي نصر بن الصباغ، وطيلسانة هو ذاهب إلى صلاة الجمعة‏.‏

وفي أواخر السنة خرج السلطان طغرلبك من همذان فقاتل أخاه وانتصر عليه، ففرح الناس وتباشروا بذلك، ولم يظهروا ذلك خوفاً من البساسيري، واستنجد طغرلبك بأولاد أخيه داود - وكان قد مات - على أخيه إبراهيم فغلبوه وأسروه في أوائل سنة إحدى وخمسين، واجتمعوا على عمهم طغرلبك، فسار بهم نحو العراق، فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء الله‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحسن بن محمد أبو عبد الله الوني

الفرضي، وهو شيخ الحربي، وكان شافعي المذهب، قتل في بغداد في فتنة البساسيري، ودفن في يوم الجمعة يوم عرفة منها‏.‏

داود أخو طغرلبك

وكان الأكبر منهم، توفي فيها وقام أولاده مقامه‏.‏

 أبو الطيب الطبري

الفقيه، شيخ الشافعية، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، سمع الحديث بجرجان من أبي أحمد الغطريفي، وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي، وعليه درس الفقه أيضاً وعلى أبي علي الزجاجي، وأبي القاسم بن كج، ثم اشتغل ببغداد على أبي حامد الإسفرايني، وشرح ‏(‏المختصر‏)‏، و‏(‏فروع ابن الحداد‏)‏‏.‏ ‏

وصنف في الأصول والجدل وغير ذلك من العلوم الكثيرة النافعة، وسمع ببغداد من الدارقطني وغيره، وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري، وكان ثقة ديناً ورعاً، عالماً بأصول الفقه وفروعه، حسن الخلق سليم الصدر مواظباً على تعليم العلم ليلاً ونهاراً‏.‏

وقد ترجمته في ‏(‏طبقات الشافعية‏)‏‏.‏

وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عنه - وكان شيخه، وقد أجلسه بعده في الحلقة - أن أبا الطيب أسلم خفاً له - وكان متقللاً من الدنيا فقيراً- عند خفاف ليصلحه له، فأبطأ عليه فكان كلما مر عليه أخذه فغمسه في الماء وقال‏:‏ أيها الشيخ الساعة أصلحه‏.‏

فقال الشيخ‏:‏ أسلمته لتصلحه ولم أسلمه لتعلمه السباحة‏.‏

وحكى ابن خلكان‏:‏ أنه كان له ولأخيه عمامة واحدة، وقميص واحد، إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت لا يخرج منه، وإذا لبسهما هذا احتاج الآخر أن يقعد في البيت ولا يخرج منه، وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى أن ييبسا، وقد قال في ذلك أبو الطيب‏:‏

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم * لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

وقد توفي في هذه السنة عن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويشتغل إلى أن مات، وقد ركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب، فقيل له‏:‏ ما هذا يا أبا الطيب ‏؟‏

فقال‏:‏ هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر، رحمه الله‏.‏

 القاضي الماوردي

صاحب ‏(‏الحاوي الكبير‏)‏، علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي البصري، شيخ الشافعية، صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع والتفسير والأحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين‏.‏

قال‏:‏ بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، يعني‏:‏ الإقناع‏.‏

وقد ولي الحكم في بلاد كثيرة، وكان حليماً وقوراً أديباً، لم ير أصحابه ذراعه يوماً من الدهر من شدة تحرزه وأدبه، وقد استقصيت ترجمته في ‏(‏الطبقات‏)‏، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب‏.‏

 رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة

علي بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عمر، وزير القائم بأمر الله، كان أولاً قد سمع الحديث من أبي أحمد الفرضي وغيره، ثم صار أحد المعدلين، ثم استكتبه القائم بأمر الله واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الوزراء، كان متضلعاً بعلوم كثيرة مع سداد رأي، ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهراً، ثم قتله البساسيري بعد ما شهره كما تقدم، وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر‏.‏

 منصور بن الحسين

أبو الفوارس الأسدي، صاحب الجزيرة، توفي فيها وأقاموا ولده بعده‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

استهلت هذه السنة وبغداد في حكم البساسيري، يخطب فيها لصاحب مصر الفاطمي، والخليفة العباسي بحديثة عانة، ثم لما كان يوم الاثنين ثاني عشر صفر أحضر القضاة أبا عبد الله الدامغاني وجماعة من الوجوه والأعيان والأشراف، وأخذ عليهم البيعة لصاحب مصر المستنصر الفاطمي، ثم دخل دار الخلافة وهؤلاء المذكورون معه وأمر بنقض تاج دار الخلافة، فنقض بعض الشراريف، ثم قيل له‏:‏ إن القبح في هذا أكثر من المصلحة‏.‏

فتركه، ثم ركب إلى زيارة المشهد بالكوفة، وعزم على عبور نهر جعفر ليسوق إلى الحائر لوفاء نذر كان عليه، وأمر بأن تنقل جثة ابن مسلمة إلى ما يقارب الحريم الظاهري، وأن تنصب على دجلة‏.‏

وكتبت إليه أم الخليفة - وكانت عجوزاً كبيرة قد بلغت التسعين وهي مختفية في مكان - تشكو إليه الحاجة والفقر وضيق الحال، فأرسل إليها من نقلها إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلاً من خبز، وأربعة أرطال من لحم‏.‏

 فصل ‏(‏كتابة السلطان طغرلبك كتاباً إلى قريش بن بدران بإعادة الخليفة لوطنه‏)‏‏.‏

ولما خلص السلطان طغرلبك من حصره بهمذان وأسر أخاه إبراهيم وقتله، وتمكن في أمره، وطابت نفسه، ولم يبق له في تلك البلاد منازع، كتب إلى قريش بن بدران يأمره بأن يعيد الخليفة إلى وطنه، وداره وتوعده على أنه إن لم يفعل ذلك وإلا أحل به بأساً شديداً، فكتب إليه قريش يتلطف به ويدخل عليه، ويقول‏:‏ أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه، حتى يمكنك الله منه، ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو تبدر إليه بادرة سوء يكون عليّ عارها، ولكن سأعمل على ما أمرتني به بكل ما يمكنني‏.‏

وأمر برد امرأة الخليفة خاتون إلى دارها وقرارها، ثم إنه راسل البساسيري بعود الخليفة إلى داره، وخوفه من جهة الملك طغرلبك، وقال له فيما قال‏:‏ إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر الفاطمي، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا رسول ولا أحد من عنده، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد، قريب منا، وقد جاءني منه كتاب عنوانه‏:‏

إلى الأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران، مولى أمير المؤمنين، من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك، أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان‏.‏ ‏

حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏

وكان في الكتاب‏:‏ والآن قد سرت بنا المقادير إلى هلاك كل عدو في الدين، ولم يبق علينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا القائم بأمر الله أمير المؤمنين، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه، فإن الذي يلزمنا ذلك، ولا فسحة في التقصير فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجنود المشرق وخيولها إلى هذا المهم العظيم، ونريد من الأمير الجليل علم الدين إبانة النجح الذي وفق له وتفرد به، وهو أن يتم وفاءه من إقامته وخدمته، في باب سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، إما أن يأتي به مكرماً في عزه وإمامته إلى موقف خلافته من مدينة السلام، ويتمثل بين يديه متولياً أمره ومنفذاً حكمه، وشاهراً سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا وتلك الخدمة بعض ما يجيب له، ونحن نوليك العراق بأسرها ونصفي لك مشارع برها وبحرها، لا يطؤها حافر خيل من خيول العجم شبراً من أراضي تلك المملكة، إلا ملتمساً لمعاونتك ومظاهرتك، وإما أن تحافظ على شخصه الغالي بتحويله من القلعة إلى حين نحظى بخدمته، فليمتثل ذلك ويكون الأمير الجليل مخيراً بين أن يلقانا أو يقيم حيث يشاء فنوليه العراق كلها، ونستخلفه في الخدمة الإمامية، ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية، فهمتنا لا تقتضي إلا هذا‏.‏

فعند ذلك كتب قريش إلى مهاوش بن مجلي الذي عنده الخليفة يقول له‏:‏ إن المصلحة تقتضي تسليم الخليفة إليّ، حتى آخذ لي ولك به أماناً‏.‏

فامتنع عليه مهاوش وقال‏:‏ قد غرني البساسيري ووعدني بأشياء لم أرها، ولست بمرسله إليك أبداً، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدرها‏.‏

وكان مهارش هذا رجلاً صالحاً، فقال للخليفة‏:‏ إن المصلحة تقتضي أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان طغرلبك، فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا، فإني أخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا‏.‏

فقال له الخليفة‏:‏ افعل ما فيه المصلحة‏.‏

فسارا في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا، فتلقته رسل السلطان طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها، وجاءت الأخبار بأن السلطان طغرلبك قد دخل بغداد، وكان يوماً مشهوداً، غير أن الجيش نهبوا البلد غير دار الخليفة، وصودر خلق كثير من التجار، وأخذت منهم أموال كثيرة، وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق وملابس، وما يليق بالخليفة في السفر، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندري‏.‏

ولما انتهوا إلى الخليفة أرسلوا بتلك الآلات إليه قبل أن يصلوا إليه، وقالوا‏:‏ اضربوا السرادق وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجيء نحن ونستأذن عليه فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة‏.‏

فلما فعلوا ذلك دخل الوزير ومن معه فقبّلوا الأرض بين يديه، وأخبروه بسرور السلطان بسلامته، وبما حصل من العود إلى بغداد، وكتب عميد الملك كتاباً إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى، وأحب أن يضع الخليفة علامته في أعلا الكتاب ليكون أقر لعين السلطان، وأحضر الوزير دواته ومعها سيف الدولة وقال‏:‏ هذه خدمة السيف والقلم‏.‏ ‏

فأعجب الخليفة ذلك، وترحلوا من منزلهم ذلك بعد يومين‏.‏

فلما وصلوا النهروان خرج السلطان لتلقي الخليفة، فلما وصل السلطان إلى سرادق الخليفة قبل الأرض سبع مرات بين يدي الخليفة، فأخذ الخليفة مخدة فوضعها بين يديه فأخذها الملك فقبّلها، ثم جلس عليها كما أشار الخليفة، وقدم الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه، فوضعه بين يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة من لؤلؤ كبار، وقال أرسلان خاتون - يعني زوجة الملك - تخدم الخليفة، وسأله أن يسبح بهذه المسبحة، وجعل يعتذر من تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه فقتله، واتفق موت أخي الأكبر أيضاً، فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا ذاهب إن شاء الله خلف الكلب البساسيري، فأقتله إن شاء الله، ثم أدخل الشام وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة‏.‏

فدعا له الخليفة، وأعطى الخليفة للملك سيفاً كان معه، لم يبق معه من أمور الخلافة سواه، واستأذن الملك لبقية الجيش أن يخدموا الخليفة، فرفعت الأستار عن جوانب الحركات، فلما شاهد الأتراك الخليفة قبّلوا الأرض، ثم دخلوا بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة، وكان يوماً مشهوداً، الجيش كله معه والقضاة والأعيان والسلطان آخذ بلجام بغلته، إلى أن وصل باب الحجرة، ثم إنه لما وصل الخليفة إلى دار مملكته استأذنه السلطان في الذهاب وراء البساسيري، فأرسل جيشاً من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو والناس في التاسع والعشرين من الشهر‏.‏

وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلات وأمور يهيئها لقتال السلطان، وعنده أن الملك طغرلبك ومن عنده ليسوا بشيء يخاف منه، وذلك لما يريده الله تعالى من إهلاكه إن شاء الله‏.‏

 مقتل البساسيري على يدي السلطان طغرلبك

لما سار السلطان وراءه وصلت السرية الأولى فلقوه بأرض واسط ومعه ابن مزيد، فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحابه عنه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس، فتبعه بعض الغلمان فرمي فرسه بنشابة فألقته إلى الأرض، فجاء الغلام فضربه على وجهه ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له‏:‏ كمسكين، فحز رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله، ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به إلى بغداد، وأن يرفع على رمح، وأن يطاف به في المحال، وأن يطوف معه الدبادب والبوقات والنفاطون، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه، ففعل ذلك‏.‏

ثم نصب على الطيارة تجاه دار الخليفة، وقد كان مع البساسيري خلق من البغاددة خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إلى بغداد، فهلكوا ونهبت أموالهم، ولم ينج من أصحابه إلا القليل، وفر ابن مزيد في ناس قليل إلى البطيحة، ومنه أولاد البساسيري وأمهم، وقد سلبتهم الأعراب فلم يتركوا لهم شيئاً‏.‏ ‏

ثم استؤمن لابن مزيد من السلطان ودخل معه بغداد، وقد نهبت العساكر ما بين واسط والبصرة والأهواز، وذلك لكثرة الجيش وانتشاره وكثافته‏.‏

وأما الخليفة فإنه حين عاد إلى دار الخلافة جعل لله عليه أن لا ينام على وطاء ولا يأتيه أحد بطعام إذا كان صائماً، ولا يخدمه في وضوئه وغسله أحد، بل يتولى ذلك كله بنفسه لنفسه، وعاهد الله أن لا يؤذي أحداً ممن آذاه، وأن يصفح عن من ظلمه، وقال‏:‏ ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه‏.‏

وفيها‏:‏ تولى الملك ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بلاد حران بعد وفاة أبيه، بتقرير عمه طغرلبك، وكان له من الأخوة سليمان وقاروت بك، وياقوتي، فتزوج طغرلبك بأم سليمان‏.‏

وفيها‏:‏ كان بمكة رخص لم يسمع بمثله، بيع التمر والبر كل مائتي رطل بدينار‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها‏.‏

 ترجمة أرسلان أبو الحارس البساسيري التركي

كان من مماليك بهاء الدولة، وكان أولاً مملوكاً لرجل من أهل مدينة بسا، فنسب إليه فقيل له‏:‏ البساسيري، وتلقب بالملك المظفر، ثم كان مقدماً كبيراً عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمراً دونه، وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى وتمرد، وعتا وخرج على الخليفة والمسلمين ودعا إلى الخلافة الفاطميين، ثم انقضى أجله في هذه السنة، وكان دخوله إلى بغداد بأهله في سادس ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمائة، ثم اتفق خروجهم منها في سادس ذي القعدة أيضاً من سنة إحدى وخمسين، بعد سنة كاملة‏.‏

ثم كان خروج الخليفة من بغداد في يوم الثلاثاء الثاني عشر من كانون الأول، واتفق قتل البساسيرى في يوم الثلاثاء الثامن عشر من كانون الأول، بعد سنة شمسية، وذلك في ذي الحجة منها‏.‏ ‏

الحسن بن الفضل

أبو علي الشرمقاني المؤدب المقري الحافظ للقرآن والقراءات، واختلافها، كان ضيق الحال فرآه شيخه ابن العلاف ذات يوم وهو يأخذ أوراق الخس من دجلة ويأكلها، فأعلم ابن المسلمة بحاله، فأرسل ابن المسلمة غلاماً له وأمره أن يذهب إلى الخزانة التي له بمسجده فيتخذ لها مفتاحاً غير مفتاحه، ثم كان كل يوم يضع فيها ثلاثة أرطال من خبز السميد، ودجاجة، وحلاوة السكر، فظن أبو علي الشرمقاني أن ذلك كرامة أكرمه الله بها، وأن هذا الطعام الذي يجده في خزانته من الجنة، فكتمه زماناً وجعل ينشد‏:‏

من أطلعوه على سر فباح به * لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وأبعدوه فلم يظفر بقربهم * وأبدلوه فكان الأنس إيحاشا

فلما كان بعض الأيام ذاكره ابن العلاف في أمره، وقال له، فيما قال‏:‏ أراك قد سمنت فما هذا الأمر، وأنت رجل فقير ‏؟‏

فجعل يلوح ولا يصرح، ويكني ولا يفصح، ثم ألح عليه فأخبره أنه يجد كل يوم في خزانته من طعام الجنة ما يكفيه، وأن هذا كرامة أكرمه الله بها، فقال له‏:‏ ادع لابن المسلمة فإنه الذي يفعل ذلك، وشرح له صورة الحال، فكسره ذلك ولم يعجبه‏.‏

علي بن محمود بن إبراهيم بن ماجره

أبو الحسن الزوزني، شيخ الصوفية، و إليه ينسب الرباط الزوزني، وقد كان بنى لأبي الحسن شيخه، وقد صحب أبا عبد الرحمن السلمي، وقال‏:‏ صحبت ألف شيخ، وأحفظ عن كل شيخ حكاية‏.‏

توفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة‏.‏

محمد بن علي

ابن الفتح بن محمد بن علي بن أبي طالب الحربي، المعروف بالعشاري، لطول جسده، وقد سمع الدارقطني وغيره، وكان ثقة ديناً صالحاً، توفي في جمادى الأولى منها، وقد نيف على الثمانين‏.‏

الوني الفرضي

الحسين بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله الوني، نسبة إلى ونّ قرية من أعمال جهستان، الفرضي شيخ الحربي، وهو أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم، كان الونّي إماماً في الحساب والفرائض، وانتفع الناس به، توفي فيها ببغداد شهيداً في فتنة البساسيري والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

في يوم الخميس السابع عشر من صفر، دخل السلطان بغداد مرجعه من واسط، بعد قتل البساسيري، وفي يوم الحادي والعشرين جلس الخليفة في داره وأحضر الملك طغرلبك، ومد سماطاً عظيماً فأكل الأمراء منه والعامة، ثم في يوم الخميس ثاني ربيع الأول عمل السلطان سماطاً للناس‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة قدم الأمير عدة الدين أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله، وعمته، وله من العمر يومئذ أربع سنين، صحبة أبي الغنائم، فتلقاه الناس إجلالاً لجده، وقد ولي الخلافة بعد ذلك، وسمي المقتدي بأمر الله‏.‏

وفي رجب وقف أبو الحسن محمد بن هلال العتابي دار كتب، وهي دار بشارع ابن أبي عوف من غربي بغداد، ونقل إليها ألف كتاب، عوضاً عن دار ازدشير التي أحرقت بالكرخ‏.‏

وفي شعبان ملك محمود بن نصر حلب وقلعتها فامتدحه الشعراء‏.‏

وفيها‏:‏ ملك عطية بن مرداس الرحبة، وذلك كله منتزع من أيدي الفاطميين‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها، غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة وذهبوا مع الخفراء‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو منصور الجيلي

من تلاميذ أبي حامد، ولي القضاء بباب الطلق، وبحريم دار الخلافة، وسمع الحديث من جماعة‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وكتبنا عنه وكان ثقة‏.‏

 الحسن بن محمد

ابن أبي الفضل أبو محمد الفسوي، الوالي، سمع الحديث وكان ذكياً في صناعة الولاية، ومعرفة التهم والمتهومين من الغرماء، بلطيف من الصنيع كما نقل عنه أنه أوقف بين يديه جماعة اتهموا بسرقة فأتى بكوز يشرب منه، فرمى به فانزعج الواقفون إلا واحداً، فأمر به أن يقرر، وقال‏:‏ السارق يكون جريئاً قوياً‏.‏

فوجد الأمر كذلك، وقد قتل مرة رجلاً في ضرب بين يديه فادّعى عليه عند القاضي أبي الطيب، فحكم عليه بالقصاص، ثم فادى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص‏.‏

 محمد بن عبيد الله

ابن أحمد بن محمد بن عمروس، أبو الفضل البزار، انتهت إليه رياسة الفقهاء المالكيين ببغداد، وكان من القراء المجيدين، وأهل الحديث المسندين، سمع ابن حبانة والمخلص وابن شاهين، وقد قبل شهادته أبو عبد الله الدامغاني، وكان أحد المعدلين‏.‏ ‏

 

 

 قطر الندى

ويقال‏:‏ الدجى، ويقال‏:‏ علم، أم الخليفة القائم بأمر الله، كانت عجوزاً كبيرة بلغت التسعين، وهي التي احتاجت في زمان البساسيري فأجرى عليها رزقاً، وأخدمها جاريتين، ثم لم تمت حتى أقر الله عينها بولدها، ورجوعه إليها، واستمر أمرهم على ما كانوا عليه، ثم توفيت في هذه السنة، فحضر ولدها الخليفة جنازتها، وكانت حافلة جداً‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ خطب الملك طغرلبك ابنة الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وقال‏:‏ هذا شيء لم تجر العادة بمثله، ثم طلب شيئاً كثيراً كهيئة الفرار‏.‏

ومن ذلك ما كان لزوجته التي توفيت من الإقطاعات بأرض واسط، وثلاثمائة ألف دينار، وأن يقيم الملك ببغداد لا يرحل عنها ولا يوماً واحداً، فوقع الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع ابنة أخيه داود زوجة الخليفة، وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة، والنثار والجواري ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر، وزن القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال، وأشياء أخرى‏.‏

فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك الوزير لمخدومه السلطان، وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتاباً يأمر الخليفة بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون، ونقلها من دار الخلافة إلى دار الملك، حتى تنفصل هذه القضية، فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد، فانزعج الناس لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى رئيس شحنة بغداد برشتق يأمره بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة رد أصحابه بالحرمان، ويعزم على نقل الخاتون إلى دار المملكة، وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها، كل ذلك غضباً على الخليفة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي رمضان منها رأى إنسان من الزمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو قائم ومعه ثلاثة أنفس، فجاءه أحدهم فقال له‏:‏ ألا تقوم ‏؟‏

فقال‏:‏ لا أستطيع، أنا رجل مقعد، فأخذ بيده فقال‏:‏ قم، فقام وانتبه‏.‏

فإذا هو قد برأ وأصبح يمشي في حوائجه‏.‏

وفي ربيع الآخر استوزر الخليفة أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست الأهوازي، وخلع عليه وجلس في مجلس الوزارة‏.‏

وفي جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منه كسفت الشمس كسوفاً عظيماً، جميع القرص غاب، فمكث الناس أربع ساعات حتى بدت النجوم، وآوت الطيور إلى أوكارها، وتركت الطيران لشدة الظلمة‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ ولي أبو تميم بن معز الدولة بلاد إفريقية‏.‏

وفيها‏:‏ ولي ابن نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي ديار بكر‏.‏

وفيها‏:‏ ولي قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين‏.‏

وفيها‏:‏ خلع على طراد بن محمد الزينبي الملقب بالكامل نقابة الطالبيين، ولقب المرتضى‏.‏

وفيها‏:‏ ضمن أبو إسحاق بن علاء اليهودي، ضياع الخليفة من صرصر إلى أواثى، كل سنة ستة وثمانين ألف دينار، وسبع عشرة ألف كر من غلة‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق هذه السنة‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن مروان

أبو نصر الكردي، صاحب بلاد بكر وميافارقين، لقبه القادر نصر الدولة، وملك هذه البلاد ثنتين وخمسين سنة، وتنعم تنعماً لم يقع لأحد من أهل زمانه، ولا أدركه فيه أحد من أقرانه، وكان عنده خمسمائة سرية سوى من يخدمهن، وعنده خمسمائة خادم، وكان عنده من المغنيات شيء كثير كل واحدة مشتراها خمسة آلاف دينار، وأكثر وكان يحضر في مجلسه من آلات اللهو والأواني ما يساوي مائتي ألف دينار، وتزوج بعدة من بنات الملوك، وكان كثير المهادنة للملوك، إذا قصده عدو أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به، فيرجع عنه‏.‏

وقد أرسل إلى الملك طغرلبك بهدية عظيمة حين ملك العراق، من ذلك حبل من ياقوت كان لبني بويه اشتراه منهم بشيء كثير، ومائة ألف دينار، وغير ذلك، وقد وزر له أبو قاسم المغربي مرتين، ووزر له أيضاً أبو نصر محمد بن محمد بن جرير، وكانت بلاده آمن البلاد، وأطيبها وأكثرها عدلاً، وقد بلغه أن الطيور تجوع فتجمع في الشتاء من الحبوب التي في القرى فيصطادها الناس، فأمر بفتح الأهراء وإلقاء ما يكفيها من الغلات في مدة الشتاء، فكانت تكون في ضيافته طول الشتاء مدة عمره، توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ قال ابن الأزرق في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ إنه لم يصادر أحداً من رعيته سوى رجل واحد، ولم تفته صلاة مع كثرة مباشرته للّذات، وكان له ثلاثمائة وستون حظية، يبيت عند كل واحد ليلة في السنة، وخلف أولاداً كثيرة، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال منها‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ وردت الكتب الكثيرة من الملك طغرلبك يشكو من قلة إنصاف الخليفة، وعدم موافقته له، ويذكر ما أسداه إليه من الخير والنعم إلى ملوك الأطراف، وقاضي القضاة الدامغاني، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن الملك أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أموال الخليفة، كتب إلى الملك يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل ذلك إلى الملك فرح فرحاً شديداً، وأرسل إلى نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة، واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق، فوكل الخليفة في العقد‏.‏

فوقع العقد بمدينة تبريز بحضرة الملك طغرلبك، وعمل سماطاً عظيماً، فلما جيء بالوكلة قام لها الملك وقبل الأرض عند رؤيتها، ودعا للخليفة دعاء كثيراً، ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، ثم بعث ابنة أخيه الخاتون زوجة الخليفة في شوال بتحف كثيرة، وجوهر وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة وهدايا عظيمة لأم العروس وأهلها، وقال الملك جهرة للناس‏:‏ أنا عبد الخليفة ما بقيت، لا أملك شيئاً سوى ما عليّ من الثياب‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الخليفة وزيره واستوزر أبا نصر محمد بن محمد بن جُهير، استقدمه من ميافارقين‏.‏

وفيها‏:‏ عم الرخص جميع الأرض حتى بيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمان قراريط‏.‏

ولم يحج فيها أحد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 ثمال بن صالح

معز الدولة، صاحب حلب، كان حليماً كريماً وقوراً‏.‏

ذكر ابن الجوزي‏:‏ أن الفراش تقدم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست، فعفا عنه‏.‏

 

 

الحسن بن علي بن محمد

أبو محمد الجوهري، ولد في شعبان سنة ثلاث وستين، وسمع الحديث على جماعة، وتفرد بمشايخ كثيرين، منهم أبو بكر بن مالك القطيعي، وهو آخر من حدث عنه، توفي في ذي القعدة منها‏.‏ ‏

 الحسين بن أبي يزيد

أبو على الدباغ‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يميتني على الإسلام‏.‏

فقال‏:‏ وعلى السنة‏.‏

 سعد بن محمد بن منصور

أبو المحاسن الجرجاني، كان رئيساً قديماً، وجه رسولاً إلى الملك محمود بن سبكتكين في حدود سنة عشر، وكان من الفقهاء العلماء، تخرج به جماعة وروى الحديث عن جماعة، وعقد له مجلس المناظرة ببلدان كثيرة، وقتل ظلماً باستراباذ في رجب منها رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ دخل السلطان طغرلبك بغداد، وعزم الخليفة على تلقيه، ثم ترك ذلك وأرسل وزيره أبا نصر عوضاً عنه، وكان من الجيش أذية كثيرة للناس في الطريق، وتعرضوا للحريم حتى هجموا على النساء في الحمامات، فخلصهن منهم العامة بعد جهد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

دخول الملك طغرلبك على بنت الخليفة

لما استقر السلطان ببغداد، أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل ابنته إلى دار المملكة، فتمنع الخليفة من ذلك وقال‏:‏ إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط بحصول التشريف والتزمتم لها بعود المطالبة‏.‏

فتردد الناس في ذلك بين الخليفة والملك، وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، وتحفاً أخر، وأشياء لطيفة‏.‏

فلما كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السرادقات من دجلة إلى دار المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار، فلما دخلت أجلست على سرير مكلل بالذهب، وعلى وجهها برقع، ودخل الملك طغرلبك فوقف بين يديها فقبل الأرض، ولم تقم له ولم تره، ولم يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار، والحجاب والأتراك يرقصون هناك فرحاً وسروراً‏.‏

وبعث لها مع الخاتون زوجة الخليفة عقدين فاخرين، وقطعة ياقوت حمراء كبيرة هائلة، ودخل من الغد فقبل الأرض وجلس على سرير مكلل بالفضة بإزائها ساعة، ثم خرج وأرسل لها جواهر كثيرة ثمينة وفرجية نسج بالذهب مكلل بالحب، وما زال كذلك كل يوم يدخل ويقبل الأرض ويجلس على سرير بإزائها، ثم يخرج عنها ويبعث بالتحف والهدايا، ولم يكن منه إليها شيء مقدار سبعة أيام، ويمد كل يوم من هذه الأيام السبعة سماطاً هائلاً، وخلع في اليوم السابع على جميع الأمراء، ثم عرض له سفر واعتراه مرض، فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد، ثم يعود بها، فأذن له بعد تمنع شديد وحزن عظيم، فخرج بها وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة، برسم خدمتها، وقد تألمت والدتها لفقدها ألماً شديداً، وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه‏.‏ ‏

فلما كانت ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأنه توفي في ثامن الشهر، فثار العيارون فقتلوا العميدي وسبعمائة من أصحابه، ونهبوا الأموال، وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهاراً، حتى انسلخ الشهر وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود، وكان طغرلبك قد نص عليه وأوصى إليه، لأنه كان قد تزوج بأمه، واتفقت الكلمة عليه، ولم يبق عليه خوف إلا من جهة أخي سليمان، وهو الملك عضد الدولة ألب أرسلان، محمد بن داود، فإن الجيش كانوا يميلون إليه، وقد خطب له أهل الجبل ومعه نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره، ولما رأى الكندري قوة أمره خطب له بالري، ثم من بعده لأخيه سليمان بن داود‏.‏

وقد كان الملك طغرلبك حليماً كثير الاحتمال، شديد الكتمان للسر، محافظاً على الصلوات، وعلى صوم الاثنين والخميس، مواظباً على لبس البياض، وكان عمره يوم مات سبعين سنة، ولم يترك ولداً، وملك بحضرة القائم بأمر الله سبع سنين وإحدى عشر شهراً، واثني عشر يوماً، ولما مات اضطربت الأحوال وانتقضت بعده جداً، وعاثت الأعراب في سواد بغداد وأرض العراق ينهبون، وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة، فانزعج الناس لذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام، فهدمت قطعة من سور طرابلس‏.‏

وفيها‏:‏ وقع بالناس موتان بالجدري والفجأة، ووقع بمصر وباء شديد، كان يخرج منها كل يوم ألف جنازة‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الصليحي صاحب اليمن مكة، وجلب الأقوات إليها، وأحسن إلى أهلها‏.‏

وفي أوائلها طلبت الست أرسلان زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمها، وذلك لما هجرها وبارت عنده، فبعثها مع الوزير الكندري إلى عمها، فلما وصلت إليه كان مريضاً مدنفاً، فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه بها، فكتب الخليفة إليه ارتجالاً‏:‏

ذهبت شرتي وولى الغرام * وارتجاع الشباب ما لا يرام

أذهبت مني الليالي جديداً * والليالي يضعفن والأيام

فعلى ما عهدته من شبابي * وعلى الغانيات مني السلام

 من الأعيان‏:‏

 زهير بن علي بن الحسن بن حزام

أبو نصر الحزامي، ورد بغداد وتفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وسمع بالبصرة سنن أبي داود على القاضي أبي عمر، وحدث بالكثير، وكان يرجع إليه في الفتاوى، وحل المشكلات، وكانت وفاته بسرخس فيها‏.‏

 سعيد بن مروان

صاحب آمد، ويقال‏:‏ إنه سم، فانتقم صاحب ميا فارقين ممن سمه، فقطعه قطعاً‏.‏

 الملك أبو طالب

محمد بن ميكائيل بن سلجوق طغرلبك، كان أول ملوك السلاجقة، وكان خيراً مصلياً، محافظاً على الصلاة في أول وقتها، يديم صيام الاثنين والخميس، حليماً عمن أساء إليه، كتوماً للأسرار، سعيداً في حركاته، ملك في أيام مسعود بن محمود عامة بلاد خراسان، واستناب أخاه داود وأخاه لأمه إبراهيم بن ينال، وأولاد إخوته، على كثير من البلاد، ثم استدعاه الخليفة إلى ملك بغداد كما تقدم ذلك كله مبسوطاً‏.‏

توفي في ثامن رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبعون سنة، وكان له في الملك ثلاثون سنة، منها في ملك العراق ثمان سنين إلا ثمانية عشر يوماً‏.‏

 

 

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ قبض السلطان ألب أرسلان على وزير عمه عميد الملك الكندري، وسجنه ببيته ثم أرسل إليه من قتله، واعتمد في الوزارة على نظام الملك، وكان وزير صدق، يكرم العلماء والفقراء، ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش، وخرج عن الطاعة، وأراد أخذ ألب أرسلان، خاف منه ألب أرسلان فقال له الوزير‏:‏ أيها الملك لا تخف، فإني قد استدمت لك جنداً ما بارزوا عسكراً إلا كسروه، كائناً ما كان‏.‏

قال له الملك‏:‏ من هم ‏؟‏

قال‏:‏ جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء‏.‏

فطابت نفس الملك بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره، وقتل خلقاً من جنوده، وقتل قتلمش في المعركة، واجتمعت الكلمة على ألب أرسلان‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل ولده ملكشاه ووزيره نظام الملك هذا في جنود عظيمة إلى بلاد الكرج، ففتحوا حصوناً كثيرة، وغنموا أموالاً جزيلة، وفرح المسلمون بنصرهم، وكتب كتاب ولده على ابنة الخان الأعظم صاحب ما وراء النهر وزفت إليه، وزوج ابنه الآخر بابنة صاحب غزنة، واجتمع شمل الملكين السلجوقي والمحمودي‏.‏

وفيها‏:‏ أذن ألب أرسلان لابنة الخليفة في الرجوع إلى أبيها، وأرسل معها بعض القضاة والأمراء، فدخلت بغداد في تجمل عظيم، وخرج الناس لينظروا إليها، فدخلت ليلاً، ففرح الخليفة وأهلها بذلك، وأمر الخليفة بالدعاء لألب أرسلان على المنابر في الخطب، فقيل في الدعاء‏:‏ اللهم وأصلح السلطان المعظم، عضد الدولة، وتاج الملة، ألب أرسلان أبا شجاع محمد بن داود‏.‏

ثم أرسل الخليفة إلى الملك بالخلع والتقليد مع الشريف نقيب النقباء، طراد بن محمد، وأبي محمد التميمي، وموفق الخادم، واستقر أمر السلطان ألب أرسلان على العراق‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي ربيع الأول شاع في بغداد أن قوماً من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خياماً سوداً، سمعوا بها لطماً شديداً، وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول‏:‏ قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم به عليه، ولم يقم له مأتم فيه‏.‏

قال‏:‏ فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام، ويخرقن ثيابهن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من الفساق يفعلون ذلك، وفعل هذا بواسط وخوزستان وغيرها من البلاد، قال‏:‏ وهذا من الحمق لم ينقل مثله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبد الصمد على أبي علي بن الوليد، المدرس للمعتزلة، فسبوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع، وتدريسه للناس بهذا المذهب، وأهانوه وجروه، ولعنت المعتزلة في جامع المنصور، وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة‏.‏

وفي شوال ورد الخبر أن السلطان غزا بلداً عظيماً فيه ستمائة ألف دنليز، وألف بيعة ودير، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأسر خمسمائة ألف إنسان‏.‏

وفي ذي القعدة حدث بالناس وباء شديد ببغداد وغيرها من بلاد العراق‏.‏

وغلت أسعار الأدوية، وقل التمرهندي، وزاد الحر في تشارين، وفسد الهواء‏.‏

وفي هذا الشهر خلع على أبي الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي بنقابة الطالبيين، وولاية الحج والمظالم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وقرئ تقليده في الموكب‏.‏ ‏

 

 وحج أهل العراق في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 ابن حزم الظاهري

هو الإمام الحافظ العلامة، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، أصل جده من فارس، أسلم وخلف المذكور، وهو أول من دخل بلاد المغرب منهم، وكانت بلدهم قرطبة، فولد ابن حزم هذا بها في سلخ رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، فقرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية، وبرز فيها وفاق أهل زمانه، وصنف الكتب المشهورة، يقال‏:‏ إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة‏.‏

وكان أديباً طبيباً شاعراً فصيحاً، له في الطب والمنطق كتب، وكان من بيت وزارة ورياسة، ووجاهة ومال وثروة، وكان مصاحباً للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري، وكان مناوئاً للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وقد جرت بينهما مناظرات يطول ذكرها، وكان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، فأورثه ذلك حقداً في قلوب أهل زمانه، ومازالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته في قرية له في شعبان من هذه السنة وقد جاوز التسعين‏.‏

والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره، وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرفه، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول، وآيات الصفات، وأحاديث الصفات، لأنه كان أولاً قد تضلع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، ذكره ابن ماكولا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات‏.‏

 عبد الواحد بن علي بن برهان

أبو القاسم النحوي، كان شرس الأخلاق جداً، لم يلبس سراويل قط، ولا غطى رأسه ولم يقبل عطاء لأحد، وذكر عنه أنه كان يقبل المردان من غير ريبة‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ وكان على مذهب مرجئة المعتزلة وينفي خلود الكفار في النار، ويقول‏:‏ دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه له، مع ما وصف الله به نفسه من الرحمة، ويتأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏ أي‏:‏ أبداً من الآباد‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد كان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد، ويخالف اعتقاد المسلمين لأنه قد خالف الإجماع، ثم ذكر كلامه في هذا وغيره، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ سار جماعة من العراق إلى الحج بخفارة، فلم يمكنهم المسير فعدلوا إلى الكوفة ورجعوا‏.‏ ‏

وفي ذي الحجة منها شرع في بناء المدرسة النظامية، ونقض لأجلها دور كثيرة من مشرعة الزوايا وباب البصرة‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين تميم بن المعز بن باديس، وأولاد حماد، والعرب والمغاربة بصنهاجة وزناتة‏.‏

وحج بالناس من بغداد النقيب أبو الغنائم‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل عميد الملك الكندري، وهو منصور بن محمد أبو نصر الكندري، وزير طغرلبك، وكان مسجوناً سنة تامة، ولما قتل حمل فدفن عند أبيه بقرية كندرة، من عمل طريثيث وليست بكندرة التي هي بالقرب من قزوين‏.‏

واستحوذ السلطان على أمواله وحواصله، وقد كان ذكياً فصيحاً شاعراً، لديه فضائل جمة، حاضر الجواب سريعه‏.‏

ولما أرسله طغرلبك إلى الخليفة يطلب ابنته، وامتنع الخليفة من ذلك وأنشد متمثلاً بقول الشاعر‏:‏

ما كل ما يتمنى المرء يدركه *

فأجابه الوزير تمام قوله‏:‏

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

فسكت الخليفة وأطرق‏.‏

قتل عن نيف وأربعين سنة‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

إن كان في الناس ضيق عن منافستي * فالموت قد وسع الدنيا على الناس

مضيت والشامت المغبون يتبعني * كل لكاس المنايا شاربٌ حاسي

وقد بعثه الملك طغرلبك يخطب له امرأة خوارزم شاه فتزوجها هو، فخصاه الملك، وأمره على عمله فدفن ذكره بخوارزم، وسفح دمه حين قتل بمروالروذ، ودفن جسده بقريته، وحمل رأسه فدفن بنيسابور، ونقل قحف رأسه إلى كرمان، وأنا أشهد أن الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم، أين كانوا وحيث كانوا، وعلى أي صفة كانوا، وعلى أي صفة كانوا سبحانه وتعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

في يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين، كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة المخالفة، فحين وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك‏.‏

فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، أنه حين علم أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ في ربيع الأول ولد بباب الأزج صبية لها رأسان ووجهان ورقبتان وأربع أيد، على بدن كامل ثم ماتت‏.‏

قال‏:‏ وفي جمادى الآخرة كانت بخراسان زلزلة مكثت أياماً، تصدعت منها الجبال، و هلك جماعة، وخسف بعدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هنالك‏.‏

ووقع حريق بنهر معلى فاحترق مائة دكان وثلاثة دور، وذهب للناس شيء كثير، ونهب بعضهم بعضاً‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي شعبان وقع قتال بدمشق فأحرقوا داراً كانت قريبة من الجامع، فاحترق جامع دمشق‏.‏

كذا قال ابن الجوزي‏:‏ والصحيح المشهور أن حريق جامع دمشق إنما هو في ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد ثلاث سنين مما قال، وأن غلمان الفاطميين اقتتلوا مع غلمان العباسيين فألقيت نار بدار الإمارة، وهي الخضراء، فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع فسقطت سقوفه، وبادت زخرفته، وتلف رخامه، وبقي كأنه خربة، وبادت الخضراء فصارت كوماً من تراب بعد ما كانت في غاية الإحكام والإتقان، وطيب الفناء، ونزهة المجالس، وحسن المنظر، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرداءة مكانها إلا سفلة الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الخلافة والملك والإمارة، منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وأما الجامع الأموي فإنه لم يكن على وجه الأرض شيء أحسن منه، ولا أبهى منظراً، إلى أن احترق فبقي خراباً مدة طويلة ثم شرع الملوك في تجديده وترميمه، حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب، ولم يزالوا في تحسين معالمه إلى زماننا هذا، فتماثل وهو بالنسبة إلى حاله الأول كلا شيء، ولا زال التحسين فيه إلى أيام الأمير سيف الدين بتكنزين عبد الله الناصري، في حدود سنة ثلاث وسبعمائة، وما قبلها وما بعدها بيسير‏.‏

وفيها‏:‏ رخصت الأسعار ببغداد رخصاً كثيراً، ونقصت دجلة نقصاً بيناً‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ الملك ألب أرسلان العهد بالملك من بعده لولده ملكشاه، ومشى بين يديه بالغاشية، والأمراء يمشون بين يديه، و كان يوماً مشهوداً‏.‏

وحج بالناس فيها نور الهدى أبو طالب الحسين بن نظام الحضرتين الزينبي، وجاور بمكة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي

أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي، له التصانيف التي سارت بها الركبان إلى سائر الأمصار، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وكان أوحد أهل زمانه في الإتقان والحفظ والفقه والتصنيف، كان فقيهاً محدثاً أصولياً، أخذ العلم عن الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، وسمع على غيره شيئاً كثيراً، وجمع أشياء كثيرة نافعة، لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها، منها‏:‏ كتاب ‏(‏السنن الكبير‏)‏، و‏(‏نصوص الشافعي‏)‏، كل في عشر مجلدات، و‏(‏السنن الصغير‏)‏، و‏(‏الآثار‏)‏، و‏(‏المدخل‏)‏، و‏(‏الآداب‏)‏، و‏(‏شعب الإيمان‏)‏، و‏(‏الخلافيات‏)‏، و‏(‏دلائل النبوة‏)‏، و‏(‏البعث والنشور‏)‏‏.‏ ‏

وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار المفيدة التي لا تسامى ولا تدانى، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا، كثير العبادة والورع، توفي بنيسابور، ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الأولى منها‏.‏

 الحسن بن غالب

ابن علي بن غالب بن منصور بن صعلوك، أبو علي التميمي، ويعرف بابن المبارك المقري، صحب ابن سمعون، وقرأ القرآن على حروف أنكرت عليه، وجرب عليه الكذب، إما عمداً وإما خطأ، واتهم في رواية كثيرة، وكان أبو بكر القزويني ممن ينكر عليه، وكتب عليه محضر بعدم الإقراء بالحروف المنكرة‏.‏

قال أبو محمد السمرقندي‏:‏ كان كذاباً‏.‏

توفي فيها عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن عند إبراهيم الحربي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ أخذ الفقه عن أبي الفتح نصر بن محمد العمري المروزي، ثم غلب عليه الحديث واشتهر به، ورحل في طلبه‏.‏

 القاضي أبو يعلي بن الفرا الحنبلي

محمد بن الحسن بن محمد بن خلف بن أحمد الفرا القاضي، أبو يعلى شيخ الحنابلة، وممهد مذهبهم في الفروع، ولد في محرم سنة ثمانين وثلاثمائة، وسمع الحديث الكثير، وحدث عن ابن حبابة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان من سادات العلماء الثقات، وشهد عند ابن ماكولا وابن الدامغاني فقبلاه، وتولى النظر في الحكم بحريم الخلافة، وكان إماماً في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهت إليه رياسة المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه‏.‏

وجمع الإمامة والفقه والصدق، وحسن الخلق، والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن السمت والصمت عما لا يعني، توفي في العشرين من رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، واجتمع في جنازته القضاة والأعيان، وكان يوماً حاراً، فأفطر بعض من اتبع جنازته‏.‏

وترك من البنين عبيد الله أبا القاسم، وأبا الحسين، وأبا حازم، ورآه بعضهم في المنام فقال‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ رحمني وغفر لي وأكرمني، ورفع منزلتي، وجعل يعد ذلك بأصبعه‏.‏

فقال‏:‏ بالعلم ‏؟‏

فقال‏:‏ بل بالصدق‏.‏

 ابن سيده

صاحب ‏(‏المحكم في اللغة‏)‏، أبو الحسين علي بن سماعيل المرسي‏.‏

كان إماماً حافظاً في اللغة، وكان ضرير البصر، أخذ علم العربية واللغة عن أبيه، وكان أبوه ضريراً أيضاً، واشتغل على أبي العلاء صاعد البغدادي، وله ‏(‏المحكم‏)‏ في مجلدات عديدة، وله ‏(‏شرح الحماسة‏)‏ في ست مجلدات، وغير ذلك‏.‏

وقرأ على الشيخ أبي عمر الطملنكي كتاب ‏(‏الغريب‏)‏ لأبي عبيد سرداً من حفظه، فتعجب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب، فسمع الناس بقراءته من حفظه‏.‏

توفي في ربيع الأول منها، وله ستون سنة، وقيل‏:‏ إنه توفي في سنة ثمان وأربعين، والأول أصح، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة

فيها‏:‏ بنى أبو سعيد المستوفي الملقب بشرف الملك، مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد، وعقد عليه قبة، وعمل بإزائه مدرسة، فدخل أبو جعفر بن البياضي زائراً لأبي حنيفة فأنشد‏:‏

ألم تر العلم كان مضيعاً * فجمعه هذا المغيب في اللحد

كذلك كانت هذه الأرض ميتة * فأنشرها جود العميد أبي السعد

وفيها‏:‏ هبت ريح حارة فمات بسببها خلق كثير، وورد أن ببغداد تلف شجر كثير من الليمون والأترج‏.‏

وفيها‏:‏ احترق قبر معروف الكرخي، وكان سببه أن القيم طبخ له ماء الشعير لمرضه فتعدت النار إلى الأخشاب فاحترق المشهد‏.‏

وفيها‏:‏ وقع غلاء وفناء بدمشق وحلب وحران، وأعمال خراسان بكمالها، ووقع الفناء في الدواب‏:‏ كانت تنتفخ رؤسها وأعينها حتى كان الناس يأخذون حمر الوحش بالأيدي، وكانوا يأنفون من أكلها‏.‏

قال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد أبو سعد الناس ليحضروا الدرس بالنظامية ببغداد، وعين لتدريسها ومشيختها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فلما تكامل اجتماع الناس وجاء أبو إسحاق ليدرس لقيه فقيه شاب فقال‏:‏ يا سيدي تذهب تدرس في مكان مغصوب ‏؟‏

فامتنع أبو إسحاق من الحضور ورجع إلى بيته، فأقيم الشيخ أبو نصر الصباغ فدرس، فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيظ على العميد وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق فرده إلى التدريس بالنظامية، في ذي الحجة من هذه السنة، وكان لا يصلي فيها مكتوبة، بل كان يخرج إلى بعض المساجد فيصلي، لما بلغه من أنها مغصوبة، وقد كان مدة تدريس ابن الصباغ فيها عشرين يوماً، ثم عاد أبو إسحاق إليها‏.‏ ‏

وفي ذي القعدة من هذه السنة قتل الصليحي أمير اليمن وصاحب مكة، قتله بعض أمراء اليمن، وخطب للقائم بأمر الله العباسي‏.‏

وفيها حج بالناس أبو الغنائم النقيب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن إسماعيل بن محمد

أبو علي الطرسوسي، ويقال له‏:‏ العراقي، لظرفه وطول مقامه بها، سمع الحديث من أبي طاهر المخلص، وتفقه على أبي محمد الباقي، ثم على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وولي قضاء بلدة طرسوس، وكان من الفقهاء الفضلاء المبرزين‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في جمادى الأولى كانت زلزلة بأرض فلسطين، أهلكت بلد الرملة، ورمت شراريف من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقت وادي الصفر وخيبر، وانشقت الأرض عن كنوز كثيرة من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة‏.‏

وجاء كتاب بعض التجار فيه ذكر هذه الزلزلة وذكر فيه أنها خسفت الرملة جميعاً حتى لم يسلم منها إلا داران فقط، وهلك منها خمس عشرة ألف نسمة، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغار البحر مسيرة يوم، وساخ في الأرض وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها، ودخل الناس في أرضه يلتقطون، فرجع عليهم فأهلك كثيراً منهم أو أكثرهم‏.‏

وفي يوم النسف من جمادى الآخرة قرئ الاعتقاد القادري الذي فيه مذهب أهل السنة، والإنكار على أهل البدع، وقرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدث كتاب ‏(‏التوحيد‏)‏ لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين‏.‏

وذكر بمحضر من الوزير ابن جهير وجماعة الفقهاء وأهل الكلام، واعترفوا بالموافقة، ثم قرئ الاعتقاد القادري على الشريف أبي جعفر بن المقتدي بالله بباب البصرة، وذلك لسماعه له من الخليفة القادر بالله مصنفه‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الخليفة وزيره أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، الملقب فخر الدولة، وبعث إليه يعاتبه في أشياء كثيرة، فاعتذر منها وأخذ في الترفق والتذلل، فأجيب بأن يرحل إلى أي جهة شاء، فاختار ابن مزيد فباع أصحابه أملاكهم وطلقوا نساءهم وأخذ أولاده وأهله، وجاء ليركب في سفينة لينحدر منها إلى الحلة، والناس يتباكون حوله لبكائه، فلما اجتاز بدار الخلافة قبّل الأرض دفعات والخليفة في الشباك، و الوزير يقول‏:‏ يا أمير المؤمنين ارحم شيبتي وغربتي وأولادي‏.‏

فأعيد إلى الوزارة بشفاعة دبيس بن مزيد في السنة الآتية، وامتدحه الشعراء، وفرح الناس برجوعه إلى الوزارة، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 عبد الملك بن محمد بن يوسف بن منصور

الملقب بالشيخ الأجل، كان أوحد زمانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمبادرة إلى فعل الخيرات، واصطناع الأيادي عند أهلها من أهل السنة، مع شدة القيام على أهل البدع ولعنهم، وافتقاد المستورين بالبر والصدقة، وإخفاء ذلك جهده وطاقته‏.‏

ومن غريب ما وقع له أنه كان يصل إنساناً في كل يوم بعشرة دنانير، كان يكتب بها معه إلى ابن رضوان، فلما توفي الشيخ جاء الرجل إلى ابن رضوان فقال‏:‏ ادفع إلى ما كان يصرف لي الشيخ‏.‏

فقال له ابن رضوان‏:‏ إنه قد مات ولا أصرف لك شيئاً‏.‏

فجاء الرجل إلى قبر الشيخ الأجل فقرأ شيئاً من القرآن، ودعا له وترحم عليه، ثم التفت فإذا هو بكاغد فيه عشرة دنانير، فأخذها وجاء بها إلى ابن رضوان فذكر له ما جرى له، فقال‏:‏ هذه سقطت مني اليوم عند قبره فخذها ولك عندي في كل يوم مثلها‏.‏

توفي في نصف المحرم منها عن خمس وستين سنة، وكان يوم موته يوماً مشهوداً، حضره خلق لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، فرحمه الله تعالى‏.‏

 أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي

فقيه الشيعة، ودفن في مشهد علي، و كان مجاوراً به حين أحرقت داره بالكرخ، وكتبه، سنة ثمان وأربعين إلى محرم هذه السنة فتوفي ودفن هناك‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة

في ليلة النصف من شعبان منها كان حريق جامع دمشق، وكان سببه أن غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء المتاخمة للجامع من جهة القبلة، فاحترقت، وسرى الحريق إلى الجامع فسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة، وتغيرت معالمه، وتقلعت الفسيفساء التي كانت في أرضه وعلى جدرانه، وتبدلت بضدها، وقد كانت سقوفه مذهبة كلها، والجملونات من فوقها، وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا، بحيث إن الإنسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصوراً كهيئته، فلا يسافر إليه ولا يعنى في طلبه‏.‏ ‏

فقد وجده من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقاً وغرباً، كل إقليم في مكان لائق به، ومصور فيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة، مصور مشكل في بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى أصول الحيطان إلى مقدار الثلث منها ستور، وباقي الجدران بالفصوص الملونة، وأرضه كلها بالفصوص، ليس فيها بلاط، بحيث إنه لم يكن في الدنيا بناء أحسن منه، لا قصور الملوك ولا غيرها‏.‏

ثم لما وقع هذا الحريق فيه تبدل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طيناً في زمن الشتاء، وغباراً في زمن الصيف، محفورة مهجورة، ولم يزل كذلك حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب، بعد الستمائة سنة من الهجرة، وكان جميع ما سقط منه من الرخام والفصوص والأخشاب وغيرها، مودعاً في المشاهد الأربعة، حتى فرغها من ذلك كمال الدين الشهرزوري، في زمن العادل نور الدين محمود بن زنكي، حين ولاه نظره مع القضاء ونظر الأوقاف كلها، ونظر دار الضرب وغير ذلك‏.‏

ولم تزل الملوك تجدد في محاسنه إلى زماننا هذا، فتقارب حاله في زمن تنكيز نائب الشام، وقد تقدم أن ابن الجوزي أرخ ما ذكرنا في سنة ثمان وخمسين، وتبعه ابن الساعي أيضاً في هذه السنة، وكذلك شيخنا الذهبي مؤرخ الإسلام، وغير واحد، والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفا بن عقيل، وهو من كبرائهم، بتردده إلى أبي علي بن الوليد المتكلم المعتزلي، واتهموه بالاعتزال، وإنما كان يتردد إليه ليحيط علماً بمذهبه، ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة كادت روحه تخرج معها، وصارت فيه نزعة منه، وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة وتأذى بسببها جماعة منهم، وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين، ثم اصطلحوا فيما بينهم، بعد اختصام كبير‏.‏

وفيها‏:‏ زادت دجلة على إحدى وعشرين ذراعاً حتى دخل الماء مشهد أبي حنيفة‏.‏

وفيها‏:‏ ورد الخبر بأن الأفشين دخل بلاد الروم حتى انتهى إلى غورية، فقتل خلقاً وغنم أموالاً كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ كان رخص عظيم في الكوفة حتى بيع السمك كل أربعين رطلاً بحبة‏.‏

وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 الفوراني صاحب ‏(‏الإبانة‏)‏

أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني، المروزي، أحد أئمة الشافعية، ومصنف ‏(‏الإبانة‏)‏ التي فيها من النقول الغريبة والأقوال والأوجه التي لا توجد إلا فيها‏.‏ ‏

كان بصيراً بالأصول والفروع، أخذ الفقه عن القفال، وحضر إمام الحرمين عنده وهو صغير، فلم يلتفت إليه، فصار في نفسه منه، فهو يخطئه كثيراً في ‏(‏النهاية‏)‏‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ فمتى قال في ‏(‏النهاية‏)‏‏:‏ وقال بعض المصنفين كذا وغلط في ذلك وشرع في الوقوع فيه فمراده أبو القاسم الفوراني‏.‏

توفي الفوراني في رمضان منها بمرو، عن ثلاث وسبعين سنة، وقد كتب تلميذه أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المأمون المعري المدرس بالنظامية بعد أبي إسحاق وقبل ابن الصباغ، وبعده أيضاً، كتاباً على الإبانة، فسماه ‏(‏تتمة الإبانة‏)‏، انتهى فيه إلى كتاب الحدود، ومات قبل إتمامه‏.‏

فتممه أسعد العجلي، وغيره لم يلحقوا شأوه ولا حاموا حوله، وسموه ‏(‏تتمة التتمة‏)‏‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ فمن الحوادث فيها أنه كان على ثلاث ساعات في يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الأولى، وهو ثامن عشرين آذار، كانت زلزلة عظيمة بالرملة وأعمالها، فذهب أكثرها وانهدم سورها، وعم ذلك بيت المقدس ونابلس، وانخسفت إيليا، وجفل البحر حتى انكشفت أرضه، ومشى ناس فيه، ثم عاد وتغير، وانهدم إحدى زوايا جامع مصر، وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان أخريان‏.‏

وفيها‏:‏ توجه ملك الروم من قسطنطينية إلى الشام في ثلاثمائة ألف مقاتل، فنزل على منبج وأحرق القرى ما بين منبج إلى أرض الروم، وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم، وفزع المسلمون بحلب وغيرها منه فزعاً عظيماً، فأقام ستة عشر يوماً ثم رده الله خاسئاً وهو حسير، وذلك لقلة ما معهم من الميرة وهلاك أكثر جيشه بالجوع، ولله الحمد والمنة‏.‏

وفيها‏:‏ ضاقت النفقة على أمير مكة، فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب وباب الكعبة، فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذا فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في المسجد النبوي‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف والميتات والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب، ونزل الوزير يوماً عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها‏.‏

وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء، ويدفن رؤسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه‏.‏

وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون يدخلون لئلا يخطف وينهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهاراً، وإنما يدفنه ليلاً خفية، لئلا ينبش فيؤكل‏.‏

واحتاج صاحب مصر حتى باع أشياء من نفائس ما عنده، من ذلك إحدى عشر ألف درع، وعشرون ألف سيف محلى، وثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم، وبيعت ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن، وكذلك الأملاك وغيرها، وقد كان بعض هذه النفائس للخليفة، مما نهب من بغداد في وقعة البساسيري‏.‏

وفيها‏:‏ وردت التقادم من الملك ألب أرسلان إلى الخليفة‏.‏

وفيها اسم ولي العهد ابن الخليفة على الدنانير والدراهم، ومنع التعامل بغيرها، وسمي المضروب عليه الأميري‏.‏

وفيها‏:‏ ورد كتاب صاحب مكة إلى الملك ألب أرسلان وهو بخراسان يخبره بإقامة الخطبة بمكة للقائم بأمر الله وللسلطان، وقطع خطبة المصريين، فأرسل إليه بثلاثين ألف دينار وخلعة سنية، وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج عميد الدولة ابن جهير بابنة نظام الملك بالري‏.‏

وحج بالناس أبو الغنائم العلوي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان و المشاهير‏:‏

 الحسن بن علي

ابن محمد أبو الجوائز الواسطي، سكن بغداد دهراً طويلاً، وكان شاعراً أديباً ظريفاً، ولد سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة، ومات في هذه السنة عن مائة وعشر سنين‏.‏

ومن مستجاد شعره قوله‏:‏

واحسرتي من قولها * قد خان عهدي ولها

وحق من صيرني * وقفاً عليها ولها

ما خطرت بخاطري * إلا كستني ولها

 محمد بن أحمد بن سهل

المعروف بابن بشران النحوي الواسطي، ولد سنة ثمانين وثلاثمائة، وكان عالماً بالأدب، وانتهت إليه الرحلة في اللغة، وله شعر حسن، فمنه قوله‏:‏

يا شائداً للقصور مهلاً * أقصر فقصر الفتى الممات

لم يجتمع شمل أهل قصر * إلا قصارهم الشتات

وإنما العيش مثل ظل * منتقل ماله ثبات

وقوله‏:‏

ودعتهم ولي الدنيا مودعة * ورحت مالي سوى ذكراهم وطر

وقلت يا لذتي بيني لبينهم * كأن صفو حياتي بعدهم كدر

‏لولا تعلل قلبي بالرجاء لهم * ألفيته إن حدوا بالعيس ينفطر

يا ليت عيسهم يوم النوى نحرت * أوليتها للضواري بالفلا جزر

يا ساعة البين أنت الساعة اقتربت * يا لوعة البين أنت النار تستعر

وقوله‏:‏

طلبت صديقاً في البرية كلها * فأعيا طلابي أن أصيب صديقا

بلى من سمي بالصديق مجازه * ولم يك في معنى الوداد صدوقا

فطلقت ود العالمين ثلاثة * وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة

وفيها‏:‏ أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرج والفرنج، وعدد عظيم وعدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً، ومعه مائة ألف نقاب وحفار، وألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغردات والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رحل‏.‏

ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الإسلام وأهله، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد، واستوصى نائبها بالخليفة خيراً، فقال له‏:‏ ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا، ثم إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة، فاستعادوه من أيدي المسلمين، والقدر يقول‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 72‏]‏‏.‏

فالقتاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفاً، بمكان يقال له‏:‏ الزهوة، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند ملك الروم، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفتيان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسر ملكهم أرمانوس، أسره غلام رومي، فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاث مقارع وقال‏:‏ لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل ‏؟‏‏

قال‏:‏ كل قبيح‏.‏

قال‏:‏ فما ظنك بي ‏؟‏

فقال‏:‏ إما أن تقتل وتشهرني في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني‏.‏

قال‏:‏ ما عزمت على غير العفو والفداء‏.‏

فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار‏.‏

فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء، وقبل الأرض بين يديه، وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالاً وإكراماً، وأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة، وشيعه فرسخاً، وأرسل معه جيشاً يحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏

فلما انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملكوا عليهم غيره، فأرسل إلى السلطان يعتذر إليه، وبعث من الذهب والجواهر ما يقارب ثلاثمائة ألف دينار، وتزهد ولبس الصوف ثم استغاث بملك الأرمن، فأخذه وكحله وأرسله إلى السلطان يتقرب إليه بذلك‏.‏

وفيها‏:‏ خطب محمود بن مرداس للقائم وللسلطان ألب أرسلان، فبعث إليه الخليفة بالخلع والهدايا والتحف، والعهد مع طراد‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أبو الغنائم العلوي، وخطب بمكة للقائم، وقطعت خطبة المصريين منها، وكان يخطب لهم فيها من نحو مائة سنة، فانقطع ذلك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي

ابن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد مشاهير الحفاظ، وصاحب ‏(‏تاريخ بغداد‏)‏ وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، نحو من ستين مصنفاً، ويقال‏:‏ بل مائة مصنف، فالله أعلم‏.‏

ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وقيل‏:‏ سنة ثنتين وتسعين، وأول سماعه سنة ثلاث وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وتفقه على أبي طالب الطبري وغيره من أصحاب الشيخ أبي حامد الإسفرايني وسمع الحديث الكثير، ورحل إلى البصرة ونيسابور وأصبهان وهمذان والشام والحجاز‏.‏

وسمي الخطيب لأنه كان يخطب بدرب ريحان، وسمع بمكة على القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، وقرأ ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد وحظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة، ولما ادعى اليهود الخيابرة أن معهم كتاباً نبوياً فيه إسقاط الجزية عنهم، أوقف ابن مسلمة الخطيب على هذا الكتاب‏.‏

فقال‏:‏ هذا كذب‏.‏

فقال له‏:‏ وما الدليل على كذبه‏؟‏

فقال‏:‏ لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر، وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس‏.‏

فأعجب الناس ذلك‏.‏

وقد سبق الخطيب إلى هذا النقل سبقه محمد بن جرير كما ذكرت ذلك في مصنف مفرد، ولما وقعت فتنة البساسيري ببغداد سنة خمسين خرج الخطيب إلى الشام فأقام بدمشق بالمأذنة الشرقية من جامعها، وكان يقرأ على الناس الحديث، وكان جهوري الصوت، يسمع صوته من أرجاء الجامع كلها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/125‏)‏

فاتفق أنه قرأ على الناس يوماً فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين، فأرادوا قتله فتشفع بالشريف الزينبي فأجاره، وكان مسكنه بدار العقيقي، ثم خرج من دمشق فأقام بمدينة صور، فكتب شيئاً كثيراً من مصنفات أبي عبد الله الصوري بخطه كان يستعيرها من زوجته، فلم يزل مقيماً بالشام إلى سنة ثنتين وستين، ثم عاد إلى بغداد فحدث بأشياء من مسموعاته‏.‏

وقد كان سأل الله أن يملك ألف دينار، وأن يحدث بالتاريخ بجامع المنصور، فملك ألف دينار أو ما يقاربها ذهباً، وحين احتضر كان عنده قريب من مائتي دينار، فأوصى بها لأهل الحديث، وسأل السلطان أن يمضي ذلك، فإنه لا يترك وارثاً، فأجيب إلى ذلك‏.‏

وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها كتاب ‏(‏التاريخ‏)‏، وكتاب ‏(‏الكفاية‏)‏، و‏(‏الجامع‏)‏، و‏(‏شرف أصحاب الحديث‏)‏، و‏(‏المتفق والمفترق‏)‏، و‏(‏السابق واللاحق‏)‏، و‏(‏تلخيص المتشابه في الرسم‏)‏، و‏(‏فضل الوصل‏)‏، و‏(‏رواية الآباء عن الأبناء‏)‏، و‏(‏رواية الصحابة عن التابعين‏)‏، و‏(‏اقتضاء العلم للعمل‏)‏، و‏(‏الفقيه والمتفقه‏)‏، وغير ذلك‏.‏

وقد سردها ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ويقال‏:‏ إن هذه المصنفات أكثرها لأبي عبد الله الصوري، أو ابتدأها فتممها الخطيب، وجعلها لنفسه، وقد كان الخطيب حسن القراءة فصيح اللفظ عارفاً بالأدب يقول الشعر، وكان أولاً يتكلم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فانتقل عنه إلى مذهب الشافعي، ثم صار يتكلم في أصحاب أحمد ويقدح فيهم ما أمكنه، وله دسائس عجيبة في ذمهم‏.‏

ثم شرع ابن الجوزي ينتصر لأصحاب أحمد ويذكر مثالب الخطيب ودسائسه، وما كان عليه من محبة الدنيا والميل إلى أهلها بما يطول ذكره، وقد أورد ابن الجوزي من شعره قصيدة جيدة المطلع حسنة المنزع أولها قوله‏:‏

لعمرك ما شجاني رسم دار * وقفت به ولا رسم المغاني

ولا أثر الخيام أراق دمعي * لأجل تذكري عهد الغواني

ولا ملك الهوى يوماً قيادي * ولا عاصيته فثنى عناني

ولم أطمعه فيّ وكم قتيل * له في الناس ما تحصى دعاني

عرفت فعاله بذوي التصابي * وما يلقون من ذل الهوان

طلبت أخاً صحيح الود محظى * سليم الغيب محفوظ اللسان

فلم أعرف من الإخوان إلا * نفاقاً في التباعد والتداني

وعالم دهرنا لا خير فيهم * ترى صوراً تروق بلا معاني

ووصف جميعهم هذا فما أن * أقول سوى فلان أو فلان

ولما لم أجد حراً يواتى * على ما ناب من صرف الزمان

صبرت تكرماً لقراع دهري * ولم أجزع لما منه دهاني

ولم أك في الشدائد مستكيناً * أقول لها ألا كفي كفاني

ولكني صليب العود عود * ربيط الجأش مجتمع الجنان

أبي النفس لا أختار رزقاً * يجيء بغير سيفي أو سناني

فعز في لظى باغيه يهوى * ألذ من المذلة في الجنان

وقد ترجمه ابن عساكر في ‏(‏تاريخه‏)‏ ترجمة حسنة كعادته وأورد له من شعره قوله‏:‏

لا يغبطن أخا الدنيا لزخرفها * ولا للذة عيش عجلت فرحا

فالدهر أسرع شيء في تقلبه * وفعله بيّن للخلق قد وضحا

كم شارب عسلاً فيه منيته * وكم مقلد سيفاً من قربه ذبحا

توفي يوم الاثنين ضحى من ذي الحجة منها، وله ثنتان وسبعون سنة، في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة، جوار المدرسة النظامية، واحتفل الناس بجنازته، وحمل نعشه فيمن حمل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن إلى جانب قبر بشر الحافي في قبر رجل كان قد أعده لنفسه، فسئل أن يتركه للخطيب فشح به ولم تسمح نفسه، حتى قال له بعض الحاضرين‏:‏ بالله عليك لو جلست أنت والخطيب إلى بشر أيكما كان يجلسه إلى جانبه ‏؟‏

فقال‏:‏ الخطيب‏.‏

فقيل له‏:‏ فاسمح له به‏.‏

فوهبه منه فدفن فيه رحمه الله وسامحه، وهو ممن قيل فيه وفي أمثاله قول الشاعر‏:‏

ما زلت تدأب في التاريخ مجتهداً * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

 حسان بن سعيد

ابن حسان بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي المنيعي، كان في شبابه يجمع بين الزهد والتجارة حتى ساد أهل زمانه، ثم ترك ذلك، وأقبل على العبادة والزهد والبر والصلة والصدقة وغير ذلك، وبناء المساجد والرباطات، وكان السلطان يأتي إليه ويتبرك به‏.‏

ولما وقع الغلاء كان يعمل كل يوم شيئاً كثيراً من الخبز والأطعمة ويتصدق به، وكان يكسو في كل سنة قريباً من ألف فقير ثياباً وجباباً، وكذلك كان يكسو الأرامل وغيرهن من النساء، وكان يجهز البنات الأيتام وبنات الفقراء، وأسقط شيئاً كثيراً من المكوس والوظائف السلطانية عن بلاد نيسابور، وقرأها وهو مع ذلك في غاية التبذل والثياب والأطمار، وترك الشهوات ولم يزل كذلك إلى أن توفي في هذه السنة، في بلدة مرو الروز، تغمده الله برحمته، ورفع درجته، ولا خيب الله له سعياً‏.‏‏

أمين بن محمد بن الحسن بن حمزة

أبو علي الجعفري، فقيه الشيعة في زمانه‏.‏

محمد بن وشاح بن عبد الله

أبو علي مولى أبي تمام محمد بن علي بن الحسن الزينبي، سمع الحديث، وكان أديباً شاعراً، وكان ينسب إلى الاعتزال والرفض، ومن شعره قوله‏:‏

حملت العصا لا الضعف أوجب حملها * علي ولا أني نحلت من الكبر

ولكنني ألزمت نفسي حملها * لأعلمها أن المقيم على سفر

الشيخ الأجل أبو عمر عبد البر النمري

صاحب التصانيف المليحة الهائلة، منها ‏(‏التمهيد‏)‏، و‏(‏الاستذكار‏)‏، و‏(‏الاستيعاب‏)‏ وغير ذلك‏.‏

 ابن زيدون

الشاعر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو الوليد، الشاعر الماهر الأندلسي القرطبي، اتصل بالأمير المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، فحظي عنده وصار مشاوراً في منزلة الوزير، ثم وزر له ولولده أبي بكر بن أبي الوليد، وهو صاحب القصيدة الفراقية التي يقول فيها‏:‏

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا * شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

تكاد حين تناجيكم ضمائرنا * يقضي عليها الأسى لولا تاسينا

حالت لبعدكم أيامنا فغدت * سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا

بالأمس كنا ولا نخشى تفرقنا * واليوم نحن ولا يرجى تلاقينا

وهي طويلة وفيها صنعة قوية مهيجة على البكاء لكل من قرأها أو سمعها، لأنه ما من أحد إلا فارق خلاً أو حبيباً أو نسيباً، وله أيضاً‏:‏

بيني وبينك ما لو شئت لم يصعِ * سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع

يا بائعاً حظه مني ولو بذلت * لي الحياة بحظي منه لم أبع

يكفيك أنك لو حملت قلبي ما * لا تستطيع قلوب الناس يستطيع

تهْ احتمل واستطل أصبر وعزهن * وول أقبل وقل أسمع ومر أطع

توفي في رجب منها واستمر ولده أبو بكر وزيراً للمعتمد بن عباد، حتى أخذ ابن ياسين قرطبة من يده في سنة أربع وثمانين، فقتل يومئذ‏.‏

قاله ابن خلكان‏.‏

 كريمة بنت أحمد

ابن محمد بن أبي حاتم المروزية، كانت عالمة صالحة، سمعت ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ على الكشميهني، وقرأ عليها الأئمة كالخطيب وأبي المظفر السمعاني وغيرهما‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة

فيها‏:‏ قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المواجرات وهن البغايا، وكتبوا إلى السلطان في ذلك فجاءت كتبه في الإنكار‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الأرض ست مرات‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد، وموتان ذريع في الحيوانات، بحيث إن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن، وجاء سيل عظيم وبرد كبار أتلف شيئاً كثيراً من الزروع والثمار بخراسان‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الأمير عدة الدين ولد الخليفة بابنة السلطان ألب أرسلان سفرى خاتون، وذلك بنيسابور، وكان وكيل السلطان نظام الملك، ووكيل الزوج عميد الدولة بن جهير، وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 زكريا بن محمد بن حيده

أبو منصور النيسابوري، كان يزعم أنه من سلالة عثمان بن عفان، وروى الحديث عن أبي بكر بن المذهب، وكان ثقة‏.‏

توفي في المحرم منها وقد قارب الثمانين‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسن الهاشمي، خطيب جامع المنصور، كان ممن يلبس القلانس الطوال، حدث عن ابن رزقويه وغيره، روى عنه الخطيب، وكان ثقة عدلاً شهد عند ابن الدامغاني وابن ماكولا فقبلاه، توفي عن ثمانين سنة، ودفن بقرب قبر بشر الحافي‏.‏

 محمد بن أحمد بن شاره

ابن جعفر أبو عبد الله الأصفهاني، ولي القضاء بدجيل، وكان شافعياً، روى الحديث عن أبي عمرو بن مهدي، توفي ببغداد، ونقل إلى دجيل من عمل واسط، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة

في يوم الخميس حادي عشر المحرم حضر إلى الديوان أبو الوفا علي بن محمد بن عقيل العقيلي الحنبلي، وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمن توبته من الاعتزال، وأنه رجع عن اعتقاد كون الحلاج من أهل الحق والخير، وأنه قد رجع عن الجزء الذي عمله في ذلك، وأن الحلاج قد قتل بإجماع علماء أهل عصره على زندقته، وأنهم كانوا مصيبين في قتله وما رموه به، وهو مخطئ، وأشد عليه جماعة من الكتاب، ورجع من الديوان إلى دار الشريف أبي جعفر فسلم عليه وصالحه واعتذر إليه، فعظمه‏.‏

وفاة السلطان ألب أرسلان وملك ولده ملكشاه

كان السلطان قد سار في أول هذه السنة يريد أن يغزو بلاد ما وراء النهر، فاتفق في بعض المنازل أنه غضب على رجل يقال له‏:‏ يوسف الخوارزمي، فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه، ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها‏.‏

فقال للسلطان‏:‏ يا مخنث، ومثلي يقتل هكذا‏؟‏

فاحتد السلطان من ذلك وأمر بإرساله، وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه، وأقبل يوسف نحو السلطان فنهض السلطان عن السرير خوفاً منه، فنزل عنه فعثر فوقع فأدركه يوسف فضربه بخنجر كان معه في خاصرته فقتله، وأدرك الجيش يوسف فقتلوه، وقد جرح السلطان جرحاً منكراً فتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة، ويقال‏:‏ إن أهل بخارى لما اجتاز بهم نهب عسكره أشياء كثيرة لهم، فدعوا عليه فهلك‏.‏ ‏

ولما توفي جلس ولده ملكشاه على سرير الملك وقام الأمراء بين يديه، فقال له الوزير نظام الملك‏:‏ تكلم أيها السلطان‏.‏

فقال‏:‏ الأكبر منكم أبي والأوسط أخي والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه‏.‏

فأمسكوا فأعاد القول فأجابوه بالسمع والطاعة‏.‏

وقام بأعباء أمره الوزير نظام الملك، فزاد في أرزاق الجند سبعمائة ألف دينار، وسار إلى مرو فدفنوا بها السلطان، ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء، وغلقت الأسواق وأظهر الخليفة الجزع، وخلعت ابنة السلطان زوجة الخليفة ثيابها، وجلست على التراب، وجاءت كتب ملكشاه إلى الخليفة يتأسف فيها على والده، ويسأل أن تقام له الخطبة بالعراق وغيرها‏.‏

ففعل الخليفة ذلك، وخلع ملكشاه على الوزير نظام الملك خلعاً سنية، وأعطاه تحفاً كثيرة، من جملتها عشرون ألف دينار، ولقبه أتابك الجيوش، ومعناه الأمير الكبير الوالد، فسار سيرة حسنة، ولما بلغ قاورت موت أخيه ألب أرسلان، ركب في جيوش كثيرة قاصداً قتال ابن أخيه ملكشاه، فالتقيا فاقتتلا، فانهزم أصحاب قاورت وأسر هو، فأنبه ابن أخيه ثم اعتقله ثم أرسل إليه من قتله‏.‏

وفيها‏:‏ جرت فتنة عظيمة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلايين، فاقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واحترق جانب كبير من الكرخ، فانتقم المتولي لأهل الكرخ من أهل باب البصرة، فأخذ منهم أموالاً كثيرة جناية لهم على ما صنعوا‏.‏

وفيها‏:‏ أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس‏.‏

وفيها‏:‏ ملك صاحب سمرقند وهو محمد التكين مدينة ترمذ‏.‏

وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي‏.‏

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 السلطان ألب أرسلان

الملقب بسلطان العالم، ابن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق التركي، صاحب الممالك المتسعة، ملك بعد عمه طغرلبك سبع سنين وستة أشهر وأياماً، وكان عادلاً يسير في الناس سيرة حسنة، كريماً رحيماً، شفوقاً على الرعية، رفيقاً على الفقراء، باراً بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم به عليه، كثير الصدقات، يتفقد الفقراء في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، بل كان يقنع من الرعية بالخراج في قسطين رفقاً بهم‏.‏

كتب إليه بعض السعاة في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه فاستدعاه فقال له‏:‏ خذ إن كان هذا صحيحاً فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر له زلته‏.‏

وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا، بلغه أن غلاماً من غلمانه، أخذ إزاراً لبعض أصحابه فصلبه فارتدع سائر المماليك به خوفاً من سطوته، وترك من الأولاد ملكشاه وإياز ونكشر وبوري برس وأرسلان وأرغو وسارة وعائشة وبنتاً أخرى، توفي في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة، ودفن عند والده بالري، رحمه الله‏.‏

 أبو القاسم القشيري

صاحب ‏(‏الرسالة‏)‏، عبد الكريم بن هوازن بن عبد المطلب بن طلحة، أبو القاسم القشيري، وأمه من بني سليم، توفي أبوه وهو طفل، فقرأ الأدب والعربية، وصحب الشيخ أبا علي الدقاق، وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطوسي، وأخذ الكلام عن أبي بكر بن فورك، وصنف الكثير‏.‏

وله التفسير والرسالة التي ترجم فيها جماعة من المشايخ الصالحين، وحج صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البيهقي، وكان يعظ الناس، توفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق، ولم يدخل أحد من أهله بيت كتبه إلا بعد سنين، احتراماً له، وكان له فرس يركبها قد أهديت له، فلما توفي لم تأكل علفاً حتى نفقت بعده بيسير فماتت، ذكره ابن الجوزي‏.‏

وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيراً، وذكر شيئاً من شعره من ذلك قوله‏:‏

سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم * وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك

أقمنا زماناً والعيون قريرة * وأصبحت يوماً والجفون سوافك

وقوله‏:‏

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا *وشهدت حين فراقنا التوديعا

أيقنت أن من الدموع محدثاً * وعلمت أن من الحديث دموعا

وقوله‏:‏

ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة * فإني من ليلى لها غير ذائق

وأكثر شيء نلته من وصالها * أماني لم تصدق كخطفة بارق

 ابن صربعر

الشاعر اسمه علي بن الحسين بن علي بن الفضل، أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر، وكان نظام الملك يقول له‏:‏ أنت صردر لا صربعر‏.‏

وقد هجاه بعضهم فقال‏:‏

لئن لقب الناس قدماً أباك * وسموه من شحه صربعرا

فإنك تنثر ما صره * عقوقاً له وتسميه شعرا

قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا ظالم فاحش فإن شعره في غاية الحسن، ثم أورد له أبياتاً حساناً فمن ذلك‏:‏

أيه أحاديث نعمان وساكنه * أن الحديث عن الأحباب أسمار

أفتش الريح عنكم كلما نفحت * من نحو أرضكم مسكاً ومعطار

قال‏:‏ وقد حفظ القرآن وسمع الحديث من ابن شيران وغيره، وحدث كثيراً، وركب يوماً دابة هو ووالدته فسقطا بالشونيزية عنها في بئر فماتا فدفنا ببرر، وذلك في صفر من هذه السنة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ قرأت بخط ابن عقيل صربعر جارنا بالرصافة، وكان ينبذ بالإلحاد، وقد أورد له ابن خلكان شيئاً من أشعاره، وأثنى عليه في فنه، والله أعلم بحاله‏.‏

 محمد بن علي

ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسين، ويعرف بابن العريف، ولد سنة سبعين وثلاثمائة، وسمع الدارقطني، وهو آخر من حدث عنه في الدنيا، وابن شاهين وتفرد عنه، وسمع خلقاً آخرين، وكان ثقة ديناً كثير الصلاة والصيام، وكان يقال له‏:‏ راهب بني هاشم، وكان غزير العلم والعقل، كثير التلاوة، رقيق القلب غزير الدمعة، وقد رحل إليه الطلبة من الآفاق، ثم ثقل سمعه، وكان يقرأ على الناس، وذهبت إحدى عينيه، وخطب وله ست عشرة سنة، وشهد عند الحكام سنة ست وأربعمائة، وولي الحكم سنة تسع وأربعمائة، وأقام خطيباً بجامع المنصور وجامع الرصافة ستاً وسبعين سنة، وحكم ستاً وخمسين سنة، وتوفي في سلخ ذي القعدة من هذه السنة وقد جاوز تسعين سنة، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً، ورئيت له منامات صالحة حسنة، رحمه الله وسامحه ورحمنا وسامحنا، إنه قريب مجيب، رحيم ودود‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة

في صفر منها جلس الخليفة جلوساً عاماً وعلى رأسه حفيده الأمير عدة الدين، أبو القاسم عبد الله ابن المهتدي بالله، وعمره يومئذ ثماني عشرة سنة، وهو في غاية الحسن، وحضر الأمراء والكبراء فعقد الخليفة بيده لواء السلطان ملكشاه، كثر الزحام يومها، وهنأ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة‏.‏

 غرق بغداد

في جمادى الآخرة نزل مطر عظيم وسيل قوي كثير، وسالت دجلة وزادت حتى غرقت جانباً كبيراً من بغداد، حتى خلص ذلك إلى دار الخلافة، فخرج الجواري حاسرات عن وجوههن، حتى صرن إلى الجانب الغربي، وهرب الخليفة من مجلسه، فلم يجد طريقاً يسلكه فحمله بعض الخدم إلى التاج، وكان ذلك يوماً عظيماً، وأمراً هائلاً، وهلك للناس أموال كثيرة جداً‏.‏

ومات تحت الردم خلق كثير من أهل بغداد والغرباء، وجاء على وجه السيل من الأخشاب والأحطاب والوحوش والحيات شيء كثير جداً، وسقطت دور كثيرة في الجانبين، وغرقت قبور كثيرة، من ذلك قبر الخيزران، ومقبرة أحمد بن حنبل‏.‏

ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي وأتلف السيل في الموصل شيئاً كثيراً، وصدم سور سنجار فهدمه‏:‏ وأخذ بابه من موضعه إلى مسيرة أربعة فراسخ‏.‏

وفي ذي الحجة منها جاءت ريح شديدة في أرض البصرة فانجعف منها نحو من عشرة آلاف نخلة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسن السمناني

الحنفي الأشعري، قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا من الغريب، تزوج قاضي القضاة ابن الدامغاني ابنته، وولاه نيابة القضاة، وكان ثقة نبيلاً من ذوي الهيئات، جاوز الثمانين‏.‏

 عبد العزيز بن أحمد بن علي

ابن سليمان، أبو محمد الكتاني الحافظ الدمشقي، سمع الكثير، وكان يملي من حفظه، وكتب عنه الخطيب حديثاً واحداً، وكان معظماً ببلده، ثقة نبيلاً جليلاً‏.‏ ‏

الماوردية

ذكر ابن الجوزي أنها كانت عجوزاً صالحة من أهل البصرة تعظ النساء بها، وكانت تكتب وتقرأ، ومكثت خمسين سنة من عمرها لا تفطر نهاراً ولا تنام ليلاً، وتقتات بخبز الباقلا، وتأكل من التين اليابس لا الرطب، وشيئاً يسيراً من العنب والزيت، وربما أكلت من اللحم اليسير، وحين توفيت تبع أهل البلد جنازتها ودفنت في مقابر الصالحين‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة

في صفر منها مرض الخليفة القائم بأمر الله مرضاً شديداً، انتفخ منه حلقه، وامتنع من الفصد، فلم يزل الوزير فخر الدولة عليه حتى افتصد وانصلح الحال، وكان الناس قد انزعجوا ففرحوا بعافيته‏.‏

وجاء في هذا الشهر سيل عظيم قاسى الناس منه شدة عظيمة، ولم تكن أكثر أبنية بغداد تكاملت من الغرق الأول، فخرج الناس إلى الصحراء فجلسوا على رؤوس التلول تحت المطر‏.‏

ووقع وباء عظيم بالرحبة، فمات من أهلها قريب من عشرة آلاف، وكذلك وقع بواسط والبصرة وخوزستان وأرض خراسان وغيرها، والله أعلم‏.‏

 موت الخليفة القائم بأمر الله

لما افتصد في يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من بواسير كانت تعتاده من عام الغرق، ثم نام بعد ذلك فانفجر فصاده، فاستيقظ وقد سقطت قوته، وحصل الإياس منه فاستدعى بحفيده، وولي عهده عدة الدين أبي القاسم عبد الله بن محمد بن القائم، وأحضر إليه القضاة والفقهاء وأشهدهم عليه ثانياً بولاية العهد له من بعده، فشهدوا ثم كانت وفاته ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سنة، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وكانت مدة خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً، ولم يبلغ أحد من العباسيين قبل هذه المدة، وقد جاوزت خلافة أبيه قبله أربعين سنة، فكان مجموع أيامهما خمساً وثمانين سنة وأشهراً، وذلك مقاوم لدولة بني أمية جميعها‏.‏

وقد كان القائم بأمر الله جميلاً مليحاً، حسن الوجه، أبيض مشرباً بحمرة، فصيحاً ورعاً زاهداً، أديباً كاتباً بليغاً، شاعراً، كما تقدم ذكر شيء من شعره، وهو بحديثة عانة سنة خمسين، وكان عادلاً كثير الإحسان إلى الناس، رحمه الله‏.‏

وغسله الشريف، أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي عن وصية الخليفة بذلك، فلما غسله عرض عليه ما هنالك من الأثاث والأموال، فلم يقبل منه شيئاً، وصلى على الخليفة في صبيحة يوم الخميس المذكور، ودفن عند أجداده، ثم نقل إلى الرصافة، فقبره يزار إلى الآن وغلقت الأسواق لموته، وعلقت المسوح، وناحت عليه نساء الهاشميين وغيرهم، وجلس الوزير ابن جهير وابنه للعزاء على الأرض، وخرق الناس ثيابهم، وكان يوماً عصيباً، واستمر الحال كذلك ثلاثة أيام، وقد كان من خيار بني العباس ديناً واعتقاداً ودولة، وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره ومفارقته أهله وأولاده ووطنه، فأقام بحديثة عانة سنة كاملة، ثم أعاد الله تعالى نعمته وخلافته‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم * إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

وقد تقدم له في ذلك سلف صالح كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ‏} ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏ وقد ذكرنا ملخص ما ذكره المفسرون في سورة ص وبسطنا الكلام عليه في هذه القصة العباسية، والفتنة البساسيرية في سنة خمسين، وإحدى وخمسين وأربعمائة‏.‏

 خلافة المقتدي بأمر الله

وهو أبو القاسم عدة الدين عبد الله بن الأمير، ذخيرة الدين أبي القاسم محمد بن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر العباسي، وأمه أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، وقد أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده المستظهر والمسترشد‏.‏

وقد كان أبوه توفي وهو حمل، فحين ولد ذكراً فرح به جده والمسلمون فرحاً شديداً، إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري، لأن من عداهم كانوا يتبذلون في الأسواق، ويختلطون مع العوام، وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس، ونشأ هذا في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، ويدربه على أحسن السجايا، ولله الحمد‏.‏

وقد كان المقتدي حين ولي الخلافة عمره عشرين سنة، وهو في غاية الجمال خَلقاً وخُلُقاً، وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، وجلس في دار الشجرة، بقميص أبيض، وعمامة بيضاء لطيفة، وطرحة قصب أدريه، وجاء الوزراء والأمراء والأشراف ووجوه الناس فبايعوه، فكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي، وأنشد قول الشاعر‏:‏

إذا سيد منا مضى قام سيد *

ثم ارتج عليه فلم يدر ما بعده، فقال الخليفة‏:‏

قؤول بما قال الكرام فعول *

وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ أبو نصر بن الصباغ، الشافعيان، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي، وبرز فصلى بالناس العصر ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نوح، فصلى عليه وحمل إلى المقبرة‏.‏ ‏

وقد كان المقتدي شهماً شجاعاً أيامه كلها مباركة، والرزق دار والخلافة معظمة جداً، وتصاغرت الملوك له، وتضاءلوا بين يديه، وخطب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد، واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع، ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدامغاني، ثم أبو بكر الشاشي، وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء، ولله الحمد‏.‏

وفي شعبان منها أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد، وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات، ودور الزواني والمغاني، وأسكنهن الجانب الغربي مع الذل والصغار، وخرب أبرجة الحمام ومنع اللعب بها، وأمر الناس باحتراز عوراتهم في الحمامات، ومنع أصحاب الحمامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة، وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب‏.‏

وفي شوال منها وقعت نار في أماكن متعددة في بغداد، حتى في دار الخلافة، فأحرقت شيئاً كثيراً من الدور والدكاكين، ووقع بواسط حريق في تسعة أماكن، واحترق فيها أربعة وثمانون داراً وستة خانات، وأشياء كثيرة غير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ عمل الرصد للسلطان ملكشاه اجتمع عليه جماعة من أعيان المنجمين، وأنفق عليه أموالاً كثيرة، وبقي دائراً حتى مات السلطان فبطل‏.‏

وفي ذي الحجة منها أعيدت الخطب للمصريين، وقطعت خطبة العباسيين، وذلك لما قوي أمر صاحب مصر بعد ما كان ضعيفاً بسبب غلاء بلده، فلما رخصت تراجع الناس إليها، وطاب العيش بها، وقد كانت الخطبة للعباسيين بمكة منذ أربعين سنة وخمسة أشهر، وستعود كما كانت على ما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدة الوباء وقلة ماء دجلة ونقصها‏.‏

وحج بالناس الشريف أبو طالب الحسيني بن محمد الزينبي، وأخذ البيعة للخليفة المقتدي بالحرمين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الخليفة القائم بأمر الله

عبد الله، وقد ذكرنا شيئاً من ترجمته عند وفاته‏.‏

 الداوودي

راوي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏، عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود، أبو الحسن، بن أبي طلحة الداوودي، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، سمع الكثير وتفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وأبي بكر القفال، وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبد الرحمن السلمي، وكتب الكثير ودرس وأفتى وصنف، ووعظ الناس‏.‏ ‏

وكانت له يد طولى في النظم والنثر، وكان مع ذلك كثير الذكر، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، دخل يوماً عليه الوزير نظام الملك فجلس بين يديه فقال له الشيخ‏:‏ إن الله قد سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم‏.‏

وكانت وفاته ببوشنج في هذه السنة وقد جاوز التسعين‏.‏

ومن شعره الجيد القوي قوله‏:‏

كان في الاجتماع بالناس نور * ذهب النور وادلهم الظلام

فسد الناس والزمان جميعاً * فعلى الناس والزمان السلام

 أبو الحسن علي بن الحسن

ابن علي بن أبي الطيب الباخَرْزيّ الشاعر المشهور، اشتغل أولاً على الشيخ أبي محمد الجويني ثم ترك ذلك وعمد إلى الكتابة والشعر، ففاق أقرانه، وله ديوان مشهور فمنه‏:‏

وإني لأشكو لسع أصداغك التي * عقاربها في وجنتيك نجوم

وأبكي لدر الثغر منك ولي أب * فكيف نديم الضحك وهو يتيم

 ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ جاء جراد في شعبان بعدد الرمل والحصا، فأكل الغلات، وآذى الناس، وجاعوا فطحن الخروب بدقيق الدخن فأكلوه، ووقع الوباء، ثم منع الله الجراد من الفساد، وكان يمر ولا يضر، فرخصت الأسعار‏.‏

قال‏:‏ ووقع غلاء شديد بدمشق، واستمر ثلاث سنين‏.‏

وفيها‏:‏ ملك نصر ابن محمود بن صالح بن مرداس مدينة منبج، وأجلى عنها الروم، ولله الحمد والمنة، في ذي القعدة منها‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الإقسيس مدينة دمشق، وانهزم عنها المعلى بن حيدر نائب المستنصر العبيدي إلى مدينة بانياس، وخطب فيها للمقتدي، وقطعت خطبة المصريين عنها إلى الآن، ولله الحمد والمنة‏.‏

فاستدعى المستنصر نائبه فحبسه عنده إلى أن مات في السجن‏.‏

قلت‏:‏ الاقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، ويلقب بالملك المعظم، وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الأذان منها بحي على خير العمل، بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام مائة وست سنين، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي الله عنهم، فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين‏.‏ ‏

ونشر العدل وأظهر السنة، وهو أول من أسس القلعة بدمشق، ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدو، فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم، وكان موضعها بباب البلد يقال له‏:‏ باب الحديد، وهو تجاه دار رضوان منها، وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية، وإنما أكملها بعده الملك المظفر تتش بن ألب أرسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه‏.‏

وحج بالناس فيها مقطع الكوفة، وهو الأمير السكيني جنفل التركي، ويعرف بالطويل، وكان قد شرد خفاجة في البلاد وقهرهم، ولم يصحب معه سوى ستة عشر تركياً، فوصل إلى مكة سالماً، ولما نزل ببعض دورها كبسه بعض العبيد‏.‏

فقتل منهم مقتلة عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، ثم إنه بعد ذلك إنما كان ينزل بالزاهر‏.‏

قاله ابن الساعي في ‏(‏تاريخه‏)‏، وأعيدت الخطبة في هذه السنة للعباسيين في ذي الحجة منها، وقطعت خطبة المصريين ولله الحمد والمنة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن علي

ابن أحمد بن عيسى بن موسى، أبو تمام ابن أبي القاسم ابن القاضي أبي علي الهاشمي، نقيب الهاشميين، وهو ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي، روى الحديث وسمع منه أبو بكر بن عبد الباقي، ودفن بباب حرب‏.‏

 محمد بن القاسم

ابن حبيب بن عبدوس، أبو بكر الصفار من أهل نيسابور؛ سمع الحاكم وأبا عبد الرحمن السلمي وخلقاً، وتفقه على الشيخ أبي محمد الجويني، وكان يخلفه في حلقته‏.‏

 محمد بن محمد بن عبد الله

أبو الحسين البيضاوي الشافعي، ختن أبي الطيب الطبري على ابنته، سمع الحديث وكان ثقة خيراً، توفي في شعبان منها، وتقدم للصلاة عليه الشيخ أبو نصر بن الصباغ، وحضر جنازته أبو عبد الله الدامغاني مأموماً، ودفن بداره في قطيعة الكرخ‏.‏

 محمد بن نصر بن صالح

ابن أمير حلب، وكان قد ملكها في سنة تسع وخمسين، وكان من أحسن الناس شكلاً وفعلاً‏.‏

 مسعود بن المحسن

ابن الحسن بن عبد الرزاق بن جعفر البياضي الشاعر، ومن شعره‏:‏

ليس لي صاحب معين سوى اللـ * ـيل إذا طال بالصدود عليا

أنا أشكو بعد الحبيب إليه * وهو يشكو بعد الصباح إلينا

وله أيضاً‏:‏

يا من لبست لهجره طول الضنا * حتى خفيت إذاً عن العواد

وأنست بالسهر الطويل فأنسيت * أجفان عيني كيف كان رقادي

إن كان يوسف بالجمال مقطع الـ * ـأيدي فأنت مفتت الأكباد

 الواحدي المفسر

علي بن حسن بن أحمد بن علي بن بويه الواحدي، قال ابن خلكان‏:‏ ولا أدري هذه النسبة إلى ماذا، وهو صاحب التفاسير الثلاثة‏:‏ ‏(‏البسيط‏)‏، و‏(‏الوسيط‏)‏، و‏(‏الوجيز‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ومنه أخذ الغزالي أسماء كتبه‏.‏

قال‏:‏ وله ‏(‏أسباب النزول‏)‏، و‏(‏التحبير‏)‏ في شرح الأسماء الحسنى، وقد شرح ديوان المتنبي، وليس في شروحه مع كثرتها مثله‏.‏

قال‏:‏ وقد رزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم، وقد أخذ التفسير عن الثعالبي، وقد مرض مدة، ثم كانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة منها‏.‏

 ناصر بن محمد

ابن علي أبو منصور التركي الصافري، وهو والد الحافظ محمد بن ناصر، قرأ القرآن، وسمع الكثير، وهو الذي تولى قراءة التاريخ على الخطيب بجامع المنصور، وكان ظريفاً صبيحاً، مات شاباً دون الثلاثين سنة في ذي القعدة منها، وقد رثاه بعضهم بقصيدة طويلة أوردها كلها في ‏(‏المنتظم‏)‏ ابن الجوزي‏.‏ ‏

 يوسف بن محمد بن الحسن

أبو القاسم الهمداني، سمع وجمع وصنف وانتشرت عنه الرواية، توفي في هذه سنة وقد قارب التسعين‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة

فيها‏:‏ كان ابتداء عمارة قلعة دمشق، وذلك أن الملك المعظم أتسز بن أوف الخوارزمي لما انتزع دمشق من أيدي العبيديين في السنة الماضية، شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة، وكان في مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد باب، يعرف بباب الحديد، وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم، داخل البركة البرانية منها، وقد ارتفع بعض أبرجتها فلم يتكامل حتى انتزع ملك البلد منه الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأكملها وأحسن عمارتها، وابتنى بها دار رضوان للملك‏.‏

واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فلما كان الملك صلاح الدين بن يوسف بن أيوب جدد فيها شيئاً، وابتنى له نائبه ابن مقدم فيها داراً هائلة للمملكة، ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين، اقتسم هو وأولاده أبرجتها، فبنى كل ملك منهم برجاً منها جدده وعلاه وأطده وأكده‏.‏

ثم جدد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربي القبلى، ثم ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور، نائبه الشجاعي، الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها‏.‏

وفي المحرم منها مرض الخليفة مرضاً شديداً فأرجف الناس به، فركب حتى رآه الناس جهرة فسكنوا‏.‏

وفي جمادى الآخرة منها زادت دجلة زيادة كثيرة، إحدى عشرين ذراعاً ونصفاً، فنقل الناس أموالهم وخيف على دار الخلافة، فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلاً إلى الترب بالرصافة‏.‏

وفي شوال منها وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية، وذلك أن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة، وهو في مسجده فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وجرح آخرون، وثارت الفتنة‏.‏

وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة ينكر ما وقع، ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شيء من ذلك‏.‏

وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضباً مما وقع من الشر، فأرسل إليه الخليفة يسكنه، ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي، وأبى نصر بن القشيري، عند الوزير، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال، وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال‏:‏ أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، ما أقول فيها خلافاً للأشعرية‏.‏

ثم قبّل رأس أبي جعفر، فقال له أبو جعفر‏:‏ صدقت، إلا أنك لما كنت فقيراً لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزك - يعني نظام الملك - وشبعت، أبديت ما كان مختفياً في نفسك‏.‏

وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رأس الشريف أبي جعفر أيضاً وتلطف به، فالتفت إليه مغضباً وقال‏:‏ أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغبير، فمن زاحمك منا على باطلك ‏؟‏

ثم قال‏:‏ أيها الوزير أنى تصلح بيننا‏؟‏ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون‏؟‏ وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس على رؤوس الأشهاد على مذهب أهل السنة والجماعة والسلف، ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون‏.‏

وقرىء على الناس في الدواوين كلها، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصاً الشريف أبا جعفر، ثم استدعى الخليفة أبا جعفر إلى دار الخلافة للسلام عليه، والتبرك بدعائه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي ذي القعدة منها كثرت الأمراض في الناس ببغداد وواسط والسواد، وورد الخبر بأن الشام كذلك‏.‏

وفي هذا الشهر أزيلت المنكرات والبغايا ببغداد، وهرب الفساق منها‏.‏

وفيها‏:‏ ملك حلب نصر بن محمود بن مرداس بعد وفاة أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الأمير على بن أبي منصور بن قرامز بن علاء الدولة بن كالويه الست أرسلان خاتون بنت داود عم السلطان ألب أرسلان، وكانت زوجة القائم بأمر الله‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر الاقسيس صاحب دمشق مصر وضيق على صاحبها المستنصر بالله، ثم كر راجعاً إلى دمشق‏.‏ وحج بالناس فيها الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 اسفهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي

الشاعر، لقي أبا عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة وغيرهما من الشعراء، وكان شيعياً فتاب، وقال في قصيدة له في ذلك قوله في اعتقاده‏:‏

وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما * كانت عليه مذاهب الأبرار

وأقول خير الناس بعد محمد * صديقه وأنيسه في الغار

ثم الثلاثة بعده خير الورى * أكرم بهم من سادة أطهار

هذا اعتقادي والذي أرجو به * فوزي وعتقي من عذاب النار

 طاهر بن أحمد بن بابشاذ

أبو الحسن البصري النحوي، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات من ساعته في رجب من هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان بمصر إمام عصره في النحو، وله المصنفات المفيدة من ذلك مقدمته وشرحها، وشرح الجمل للزجاجي‏.‏

قال‏:‏ وكانت وظيفته بمصر أنه لا تكتب الرسائل في ديوان الإنشاء إلا عرضت عليه فيصلح منها ما فيه خلل ثم تنفذ إلى الجهة التي عينت لها، وكان له على ذلك معلوم وراتب جيد‏.‏

قال‏:‏ فاتفق أنه كان يأكل يوماً مع بعض أصحابه طعاماً، فجاءه قط فرموا له شيئاً فأخذه وذهب سريعاً، ثم أقبل فرموا له شيئاً أيضاً فانطلق به سريعاً، ثم جاء فرموا له شيئاً أيضاً فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتتبعوه، فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك، فتعجبوا من ذلك، فقال الشيخ‏:‏ يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده‏.‏

ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه وأقبل على العبادة والاشتغال والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات كما ذكرنا‏.‏

وقد جمع تعليقه في النحو وكان قريباً من خمسة عشر مجلداً، فأصحابه كابن بري وغيره ينقلون منها وينتفعون بها، ويسمونها تعليق الغرفة‏.‏

 عبد الله بن محمد بن عبد الله

ابن عمر بن أحمد بن المجمع بن محمد بن يحيى بن معبد بن هزار مرد، أبو محمد الصريفيني، ويعرف بابن المعلم، أحد مشايخ الحديث المسندين المشهورين، تفرد فيه عن جماعة من المشايخ لطول عمره، وهو آخر من حدث بالجعديات عن ابن حبانة عن أبى القاسم البغوي عن على بن الجعد، وهو سماعنا، ورحل إليه الناس بسببه، وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم الخطيب، وكان ثقة محمود الطريقة، صافي الطوية، توفي بصريفين في جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة‏.‏

 

 حيان بن خلف

ابن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان أبو مروان القرطبي، مولى بني أمية، صاحب ‏(‏تاريخ المغرب‏)‏ في ستين مجلداً، أثنى عليه الحافظ، أبو علي الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته‏.‏

قال‏:‏ وسمعته يقول‏:‏ التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ توفي في ربيع الأول منها، ورآه بعضهم في المنام فسأله عن حاله فقال‏:‏ غفر لي، وأما التاريخ فندمت عليه، ولكن الله بلطفه أقالني وعفا عني‏.‏

 أبو نصر السجزي الوابلي

نسبة إلى قرية من قرى سجستان يقال لها‏:‏ وابل، سمع الكثير وصنف وخرج وأقام بالحرم، وله كتاب ‏(‏الإبانة‏)‏ في الأصول، وله في الفروع أيضاً‏.‏

ومن الناس من كان يفضله في الحفظ على الصوري‏.‏

 محمد بن علي بن الحسين

أبو عبد الله الأنماطي، المعروف بابن سكينة، ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وكان كثير السماع، ومات عن تسع وسبعين سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏