الجزء الثاني عشر - ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة

ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في ربيع الأول منها وقعت صاعقة بمحلة النوبة من الجانب الغربي، على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما، وصعد الناس فأطفأوا النار، ونزلوا بالسعف وهو يشتعل ناراً‏.‏

قال‏:‏ وورد كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب كتابه إليه في شأن الحنابلة، ثم سرده ابن الجوزي ومضمونه‏:‏ أنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها، والغالب على تلك الناحية هو مذهب الإمام أحمد، ومحله معروف عند الأئمة والناس، وقدره معلوم في السنة‏.‏

في كلام طويل‏.‏

قال‏:‏ وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية، وحمى لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلاً، وجرح آخرون، ثم سكنت الفتنة‏.‏

قال‏:‏ وفى تاسع عشر شوال ولد للخليفة المقتدي ولده المستظهر أبو العباس أحمد، وزينت البلاد وجلس الوزير للهناء، ثم في يوم الأحد السادس والعشرين من شوال ولد له ولد آخر وهو أبو محمد هارون‏.‏ ‏

قال‏:‏ ولي تاج الدولة أرسلان الشام وحاصر حلب‏.‏

وحج بالناس جنفل مقطع الكوفة، وذكر ابن الجوزي‏:‏ أن الوزير ابن جهير كان قد عمل منبراً هائلاً لتقام عليه الخطبة بمكة، فحين وصل إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكسر ذلك المنبر وأحرق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب

ابن أحمد أبو بكر اليربوعي المقري آخر من حدث عن أبي الحسين بن سمعون، وقد كان ثقة متعبداً حسن الطريقة، كتب عند الخطيب وقال‏:‏ كان صدوقاً‏.‏

توفي في هذه السنة عن سبع وثمانين سنة‏.‏

 أحمد بن محمد

ابن أحمد بن عبد الله أبو الحسن ابن النقور البزاز، أحد المسندين المعمرين تفرد بنسخ كثيرة عن ابن حبان عن البغوي عن أشياخه، كنسخة هدبة وكامل بن طلحة وعمرو بن زرارة وأبي السكن البكري، وكان متكثراً متبحراً وكان يأخذ على إسماع حديث طالوت بن عبادة ديناراً، وقد أفتاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجواز أخذ الأجرة على إسماع الحديث، لاشتغاله به عن الكسب‏.‏

توفي عن تسع وثمانين سنة‏.‏

 أحمد بن عبد الملك

ابن علي بن أحمد، أبو صالح المؤذن النيسابوري الحافظ، كتب الكثير وجمع وصنف، كتب عن ألف شيخ، وكان يعظ ويؤذن، مات وقد جاوز الثمانين‏.‏

عبد الله بن الحسن بن علي

أبو القاسم بن أبي محمد الحلالي، آخر من حدث عن أبي حفص الكتاني، وقد سمع الكثير، روى عنه الخطيب ووثقه، توفي عن خمس وثمانين سنة ودفن بباب حرب‏.‏

 عبد الرحمن بن منده

ابن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم، أبو القاسم بن أبي عبد الله الإمام، سمع أباه وابن مردويه وخلقاً في أقاليم شتى، سافر إليها وجمع شيئاً كثيراً، وكان ذا وقار وسمت حسن، واتباع للسنة وفهم جيد، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان مسعد ابن محمد الريحاني يقول‏:‏ حفظ الله الإسلام به، وبعبد الله الأنصاري الهروي‏.‏

توفي ابن منده هذا بأصبهان عن سبع وثمانين سنة، وحضر جنازته خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل‏.‏

 عبد الملك بن محمد

ابن عبد العزيز بن محمد بن المظفر بن علي أبو القاسم الهمداني، أحد الحفاظ الفقهاء الأولياء، كان يلقب ببجير، وقد سمع الكثير، وكان يكثر للطلبة ويقرأ لهم، توفي بالري في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب إبراهيم الخواص‏.‏

 الشريف أبو جعفر الحنبلي

عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي بن أبي موسى الحنبلي العباسي، كان أحد الفقهاء العلماء العباد الزهاد المشهورين بالديانة والفضل والعبادة والقيام في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، واشتغل على القاضي أبي يعلى بن الفراء، وزكاه شيخه عند ابن الدامغاني فقبله، ثم ترك الشهادة بعد ذلك‏.‏

وكان مشهوراً بالصلاح والديانة، وحين احتضر الخليفة القائم بأمر الله أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر هذا، وأوصى له بشيء كثير، ومال جزيل، فلم يقبل من ذلك شيئاً‏.‏

وحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية بسبب ابن القشيري اعتقل هو في دار الخلافة مكرماً معظماً، يدخل عليه الفقهاء وغيرهم، ويقبلون يده ورأسه، ولم يزل هناك حتى اشتكى فأذن له في المسير إلى أهله فتوفى عندهم ليلة الخميس النصف في صفر منها، ودفن إلى جانب الإمام أحمد، فاتخذت العامة قبره سوقاً كل ليلة أربعاء، يترددون إليه ويقرؤون الختمات عنده حتى جاء الشتاء، وكان جملة ما قرئ عليه وأهدي له عشرة آلاف ختمة، والله أعلم‏.‏

 محمد بن محمد بن عبد الله

أبو الحسن البيضاوي، أحد الفقهاء الشافعيين، بربع الكرخ ودفن عند والده‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ملك السلطان الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي دمشق، وقتل ملكها إقسيس، وذلك أن إقسيس بعث إليه يستنجده على المصريين، فلما وصل إليه لم يركب لتلقيه، فأمر بقتله فقتل لساعته، ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالاً، وستين حبة لؤلؤ كل حبة منها أزيد من مثقال، وعشرة آلاف دينار ومائتي سرج ذهب وغير ذلك‏.‏

وقد كان إقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، كان يلقب بالمعظم، وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين، وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الإسلام بالشام المحروس، فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الوزير ابن جهير بإشارة نظام الملك، بسبب ممالأته على الشافعية، ثم كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته فأعيد ولده وأطلق هو‏.‏

وفيها‏:‏ قدم سعد الدولة جوهراً أميراً إلى بغداد، وضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات، وأساء الأدب على الخليفة، وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس، فكوتب السلطان بأمره فجاء الكتاب من السلطان بالإنكار عليه‏.‏

وحج بالناس مقطع الكوفة جنفل التركي، أثابه الله‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 سعد بن علي

ابن محمد بن علي بن الحسين أبو القاسم الزنجاني، رحل إلا الآفاق، وسمع الكثير، وكان إماماً حافظاً متعبداً، ثم انقطع في آخر عمره بمكة، وكان الناس يتبركون به‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود‏.‏

 سليم بن الجوزي

نسبة إلى قرية من قرى دجيل، كان عابداً زاهداً يقال‏:‏ إنه مكث مدة يتقوت كل يوم بزبيبة، وقد سمع الحديث وقرئ عليه رحمه الله‏.‏ ‏

 عبد الله بن شمعون

أبو أحمد الفقيه المالكي القيرواني، توفي ببغداد ودفن بباب حرب، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ملك محمود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة قلاعاً كثيرة حصينة من بلاد الهند، ثم عاد إلى بلاده سالماً غانماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الأمير أبو جعفر بن المقتدي بالله، وزينت له بغداد، وفيها ملك صاحب الموصل الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي بعد وفاة أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ ملك منصور بن مروان بلاد بكر بعد أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ أمر السلطان بتغريق ابن علان اليهودي ضامن البصرة، وأخذ من ذخائره أربعمائة ألف دينار، فضمن خمارتكين البصرة بمائة ألف دينار ومائة فرس في كل سنة‏.‏

وفيها‏:‏ فتح عبيد الله بن نظام الملك تكريت‏.‏

وحج بالناس جنفل التركي، وقطعت خطبة المصريين بمكة وخطب للمقتدي وللسلطان ملكشاه السلجوقي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الملك بن الحسن بن أحمد بن حيرون

أبو نصر، سمع الكثير وكان زاهداً عابداً، يسرد الصوم، ويختم في كل ليلة ختمة رحمه الله‏.‏

 محمد بن محمد بن أحمد

ابن الحسين بن عبد العزيز بن مهران العكبري، سمع هلال الحفار، وابن زرقويه والحمامي وغيرهم، وكان فاضلاً جيد الشعر، فمن شعره قوله‏:‏

أطيل فكري في أي ناس * مضوا قدماً وفيمن خلفونا

هم الأحياء بعد الموت ذكراً * ونحن من الخمول الميتونا

توفي في رمضان منها وله سبعون سنة‏.‏ ‏

 هياج بن عبد الله

الخطيب الشامي، سمع الحديث وكان أوحد زمانه زهداً وفقهاً واجتهاداً في العبادة، أقام بمكة مدة يفتي أهلها ويعتمر في كل يوم ثلاث مرات على قدميه، ولم يلبس نعلاً منذ أقام بمكة، وكان يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة ماشياً، وكذلك كان يزور قبر ابن عباس بالطائف، وكان لا يدخر شيئاً، ولا يلبس إلا قميصاً واحداً، ضربه بعض أمراء مكة في بعض فتن الروافض فاشتكى أياماً ومات، وقد نيّف على الثمانين رحمه الله، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض بلاد خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ أذن للوعاظ في الجلوس للوعظ، وكانوا قد منعوا في فتنة ابن القشيري‏.‏

وفيها‏:‏ قبض على جماعة من الفتيان كانوا قد جعلوا عليهم رئيساً يقال له‏:‏ عبد القادر الهاشمي، وقد كاتبوه من الأقطار، وكان الساعي له رجلاً يقال له‏:‏ ابن رسول، وكانوا يجتمعون عند جامع براثا، فخيف من أمرهم أن يكونوا ممالئين للمصريين، فأمر بالقبض عليهم‏.‏

وحج بالناس جنفل‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن عمر

ابن محمد بن إسماعيل، أبو عبد الله بن الأخضر المحدث، سمع علي بن شاذان، وكان على مذهب الظاهرية، وكان كثير التلاوة حسن السيرة، متقللاً من الدنيا قنوعاً، رحمه الله‏.‏

 الصليحي

المتغلب على اليمن، أبو الحسن علي بن محمد بن علي الملقب بالصليحي، كان أبوه قاضياً باليمن، وكان سنياً، ونشأ هذا فتعلم العلم وبرع في أشياء كثيرة من العلوم، وكان شيعياً على مذهب القرامطة، ثم كان يدل بالحجيج مدة خمس عشرة سنة، وكان اشتهر أمره بين الناس أنه سيملك اليمن، فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاح صاحب تهامة، واستحوذ على بلاد اليمن بكمالها في أقصر مدة، واستوثق له الملك بها سنة خمس وخمسين، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فلما كان في هذا العام خرج إلى الحج في ألفي فارس، فاعترضه سعيد بن نجاح بالموسم، في نفر يسير، فقاتلهم فقتل هو وأخوه واستحوذ سعيد بن نجاح على مملكته وحواصله‏.‏ ‏

ومن شعر الصليحي هذا قوله‏:‏

أنكحت بيض الهند سمر رماحهم * فرؤوسهم عرض النثار نثار

وكذا العلا لا يستباح نكاحها * إلا بحيث تطلّق الأعمار

 محمد بن الحسين

ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشِّبْلِيِّ، أبو علي الشاعر البغدادي، أسند الحديث، وله الشعر الرائق فمنه قوله‏:‏

لا تظهرن لعاذل أو عاذر * حاليك في السراء والضراء

فلرحمة المتوجعين مرارة * في القلب مثل شماتة الأعداء

وله أيضاً‏:‏

يفني البخيل يجمع المال مدته * وللحوادث والوراث ما يدع

كدودة القز ما تبنيه يخنقها * وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

 يوسف بن الحسن

ابن محمد بن الحسن، أبو القاسم العسكري، من أهل خراسان من مدينة زنجان، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وكان من أكبر تلاميذه، وكان عابداً ورعاً خاشعاً، كثير البكاء عند الذكر، مقبلاً على العبادة، مات وقد قارب الثمانين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ولي أبو كامل منصور بن نور الدولة دُبيس ما كان يليه أبوه من الأعمال، وخلع عليه السلطان والخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ ملك شرف الدولة مسلم بن قريش حران، وصالح صاحب الرهاء‏.‏

وفيها‏:‏ فتح تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق مدينة انطرطوس‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة ابن جهير إلى السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك، بشرط أن لا يكون له زوجة ولا سرية سواها، وأن يكون سبعة أيام عندها، فوقع الشرط على ذلك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 داود بن السلطان بن ملك شاه

فوجد عليه أبوه وجداً كثيراً، بحيث إنه كاد أو همّ أن يقتل نفسه، فمنعه الأمراء من ذلك، وانتقل عن ذلك البلد وأمر النساء بالنوح عليه‏.‏

ولما وصل الخبر لبغداد جلس وزير الخليفة للعزاء‏.‏

 القاضي أبو الوليد الباجي

سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي الأندلسي الباجي الفقيه المالكي، أحد الحفاظ المكثيرين في الفقه والحديث، سمع الحديث ورحل فيه إلى بلاد المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فسمع هناك الكثير، واجتمع بأئمة ذلك الوقت، كالقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، وجاور بمكة ثلاث سنين مع الشيخ أبي ذر الهروي، وأقام ببغداد ثلاث سنين، وبالموصل سنة عند أبي جعفر السمناني قاضيها، فأخذ عنه الفقه والأصول، وسمع الخطيب البغدادي وسمع منه الخطيب أيضاً، وروى عنه هذين البيتين الحسنين‏:‏

إذا كنت أعلم علماً يقيناً * بأن جميع حياتي كساعة

فلم لا أكون كضيف بها * وأجعلها في صلاح وطاعة

ثم عاد إلى بلده بعد ثلاث عشرة سنة، وتولى القضاء هناك، ويقال‏:‏ إنه تولى قضاء حلب أيضاً، قاله ابن خلكان‏.‏

قال‏:‏ وله مصنفات عديدة منها ‏(‏المنتقى في شرح الموطأ‏)‏، و‏(‏إحكام الفصول في أحكام الأصول‏)‏، و‏(‏الجرح والتعديل‏)‏، وغير ذلك، وكان مولده سنة ثلاث وأربعمائة، وتوفي ليلة الخميس بين العشاءين التاسع والعشرين من رجب من هذه السنة، رحمه الله‏.‏

 أبو الأغر دبيس بن علي بن مَزيَد

الملقب نور الدولة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة‏:‏ مكث منها أميراً نيفاً وستين سنة‏.‏

وقام بالأمر من بعده ولده أبو كامل، ولقب بهاء الدولة‏.‏ ‏

 عبد الله بن أحمد بن رضوان

أبو القاسم البغدادي، كان من الرؤساء، ومرض بالشقيقة ثلاث سنين، فمكث في بيت مظلم لا يرى ضوءاً ولا يسمع صوتاً‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ قدم مؤيد الملك فنزل في مدرسة أبيه، وضربت الطبول على بابه في أوقات الصلوات الثلاث‏.‏

وفيها‏:‏ نفِّذ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رسولاً إلى السلطان ملكشاه والوزير نظام الملك، وكان أبو إسحاق كلما مر على بلدة خرج أهلها يتلقونه بأولادهم ونسائهم، يتبركون به ويتمسحون بركابه، وربما أخذوا من تراب حافر بغلته‏.‏

ولما وصل إلى ساوة خرج إليه أهلها، وما مر بسوق منها إلا نثروا عليه من لطيف ما عندهم، حتى اجتاز بسوق الأساكفة، فلم يكن عندهم إلا مداساة الصغار فنثروها عليه، فجعل يتعجب من ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ جددت الخطبة لبنت السلطان ملكشاه من جهة الخليفة، فطلبت أمها أربعمائة ألف دينار، ثم اتفق الحال على خمسين ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ حارب السلطان أخاه تتش، فأسره ثم أطلقه، واستقرت يده على دمشق وأعمالها‏.‏

وحج بالناس جنفل‏.‏

 و توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عبد الوهاب بن محمد

ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، أبو عمر الحافظ من بيت الحديث، رحل إلى الآفاق، وسمع الكثير، وتوفي بأصبهان‏.‏

 ابن ماكولا

الأمير أبو نصر على بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف التميمي، الأمير سعد الملك، أبو نصر بن ماكولا، أحد أئمة الحديث وسادات الأمراء، رحل وطاف وسمع الكثير، وصنف ‏(‏الإكمال في المشتبه من أسماء الرجال‏)‏، وهو كتاب جليل لم يسبق إليه، ولا يلحق فيه، إلا ما استدرك عليه ابن نقطة في كتاب سماه ‏(‏الاستدراك‏)‏‏.‏ ‏

قتله مماليكه في كرمان في هذه السنة، وكان مولده في سنة عشرين وأربعمائة، وعاش خمساً وخمسين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ إنه قتل في سنة تسع وسبعين، وقيل‏:‏ في سنة سبع وثمانين‏.‏

قال‏:‏ وقد كان أبوه وزير القائم بأمر الله، وعمه عبد الله بن الحسين ولي قضاء بغداد‏.‏

قال‏:‏ ولم أدر لم سمي الأمير إلا أن يكون منسوباً إلى جده الأمير أبي دلف، وأصله من جرباذقان، وولد في عكبرا في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة‏.‏

قال‏:‏ وقد كان الخطيب البغدادي صنف كتاب ‏(‏المؤتنف‏)‏ جمع فيه بين كتابي الدارقطني وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف، فجاء ابن ماكولا وزاد على الخطيب وسماه كتاب ‏(‏الإكمال‏)‏، وهو في غاية الإفادة ورفع الالتباس والضبط‏.‏

ولم يوضع مثله، ولا يحتاج هذا الأمير بعده إلى فضلية أخرى، ففيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وتحريره وإتقانه‏.‏

ومن الشعر المنسوب إليه قوله‏:‏

قوّضْ خيامك عن أرض تهان بها * وجانب الذل إن الذل يجتنب

وارحل إذا كان في الأوطان منقصة * فالمندل الرطب في أوطانه حطب

ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخلافة فسار بأهله وأولاده إلى السلطان، وقصدوا نظام الملك وزير السلطان، فعقد لولده فخر الدولة على بلاد ديار بكر، فسار إليها بالخلع والكوسات والعساكر، وأمر أن ينتزعها من ابن مروان، وأن يخطب لنفسه وأن يذكر اسمه على السكة، فما زال حتى انتزعها من أيديهم، وباد ملكهم على يديه كما سيأتي بيانه‏.‏

وسد وزارة الخلافة أبو الفتح مظفر ابن رئيس الرؤساء، ثم عزل في شعبان واستوزر أبو شجاع محمد بن الحسين، ولقب ظهير الدين‏.‏

وفي جمادى الآخرة ولى مؤيد الملك أبا سعيد عبد الرحمن ابن المأمون، المتولي تدريس النظامية بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي‏.‏

وفيها‏:‏ عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش، فجاء فحاصرها ففتحها وهدم سورها وصلب قاضيها ابن حلبة وابنيه على السور‏.‏

وفي شوال منها قتل أبو المحاسن بن أبي الرضا، وذلك لأنه وشى إلى السلطان في نظام الملك، وقال له‏:‏ سلمهم إليّ حتى أستخلص لك منهم ألف ألف دينار‏.‏

فعمل نظام الملك سماطاً هائلاً، واستحضر غلمانه وكانوا ألوفاً من الأتراك، وشرع يقول للسلطان‏:‏ هذا كله من أموالك، وما وقفته من المدارس والربط، وكله شكره لك في الدنيا وأجره لك في الآخرة، وأموالي وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية‏.‏

فعند ذلك أمر السلطان بقتل أبي المحاسن، وقد كان حضياً عنده، وخصيصاً به وجيهاً لديه، وعزل أباه عن كتابة الطغراء وولاها مؤيد الملك‏.‏

وحج بالناس الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ أبو إسحاق الشيرازي

إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي، وهي قرية من قرى فارس، وقيل‏:‏ هي مدينة خوارزم، شيخ الشافعية، ومدرس النظامية ببغداد، ولد سنة ثلاث وقيل‏:‏ ست وتسعين وثلاثمائة، وتفقه بفارس على أبي عبد الله البيضاوي، ثم قدم بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة، فتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وسمع الحديث من ابن شاذان والبرقاني، وكان زاهداً عابداً ورعاً، كبير القدر معظماً محترماً، إماماً في الفقه والأصول والحديث، وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة كـ‏(‏المهذب‏)‏ في المذهب، و‏(‏التنبيه‏)‏، و‏(‏النكت في الخلاف‏)‏، و‏(‏اللمع‏)‏ في أصول الفقه، و‏(‏التبصرة‏)‏، و‏(‏طبقات الشافعية‏)‏ وغير ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرت ترجمته مستقصاة مطولة في أول شرح التنبيه، توفي ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة في دار أبي المظفر ابن رئيس الرؤساء، وغسله أبو الوفا بن عقيل الحنبلي، وصلى عليه بباب الفردوس من دار الخلافة، وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر الله، وتقدم للصلاة عليه أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان يومئذ لابساً ثياب الوزارة، ثم صلّي عليه مرة ثانية يجامع القصر، ودفن بباب إبرز في تربة مجاورة للناحية، رحمه الله تعالى‏.‏

وقد امتدحه الشعراء في حياته وبعد وفاته، وله شعر رائق، فمما أنشده ابن خلكان من شعره قوله‏:‏

سألت الناس عن خل وفيّ * فقالوا ما إلى هذا سبيل

تمسك إن ظفرت بذيل حر * فإن الحر في الدنيا قليل

قال ابن خلكان‏:‏ ولما توفي عمل الفقهاء عزاءه بالنظامية، وعين مؤيد الملك أبا سعد المتولي مكانه، فلما بلغ الخبر إلى نظام الملك كتب يقول‏:‏ كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله‏.‏

وأمر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصباغ في مكانه‏.‏

 طاهر بن الحسين

ابن أحمد بن عبد الله القواس، قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وأفتى ودرس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للمناظرة والفتوى، وكان ورعاً زاهداً ملازماً لمسجده خمسين سنة، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن قريباً من الإمام أحمد، رحمه الله وإيانا‏.‏ ‏

 محمد بن أحمد بن إسماعيل

أبو طاهر الأنباري الخطيب، ويعرف بابن أبي الصقر، طاف البلاد وسمع الكثير، وكان ثقة صالحاً فاضلاً عابداً، وقد سمع منه الخطيب البغدادي، وروى عنه مصنفاته، توفي بالأنبار في جمادى الآخرة عن نحو من مائة سنة، رحمه الله‏.‏

 محمد بن أحمد بن الحسين بن جرادة

أحد الرؤساء ببغداد، وهو من ذوي الثروة والمروءة، كان يحرز ماله بثلاثمائة ألف دينار، وكان أصله من عكبرا فسكن بغداد، وكانت له بها دار عظيمة تشتمل على ثلاثين مسكناً مستقلاً، وفيها حمام وبستان، ولها بابان، على كل باب مسجد، إذا أذن المؤذن في إحداهما لا يسمع الآخر من اتساعها‏.‏

وقد كانت زوجة الخليفة القائم حين وقعت فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمائة، نزلت عنده في جواره، فبعث إلى الأمير قريش بن بدران أمير العرب بعشرة آلاف دينار، ليحمي له داره، وهو الذي بنى المسجد المعروف به ببغداد، وقد ختم فيه القرآن ألوف من الناس، وكان لا يفارق زي التجار‏.‏

وكانت وفاته في عاشر ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في التربة المجاورة لتربة القزويني، رحمه الله وإيانا آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ كان الحرب بين فخر الدولة بن جهير وزير الخليفة وبين ابن مروان صاحب ديار بكر، فاستولى ابن جهير على ملك العرب وسبى حريمهم، وأخذ البلاد ومعه سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، فافتدى خلقاً من العرب، فشكره الناس على ذلك وامتدحه الشعراء‏.‏

وفيها‏:‏ بعث السلطان عميد الدولة بن جهير في عسكر كثيف ومعه قسيم الدولة اقسنقر جد بني أتابك ملوك الشام والموصل، فسارا إلى الموصل فملكوها‏.‏

وفي شعبان منها ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية، فأراد شرف الدولة مسلم بن قريش أن يستنقذها منه، فهزمه سليمان وقتله، وكان مسلم هذا من خيار الملوك سيرة، له في كل قرية والٍ وقاضٍ وصاحب خبر، وكان يملك من السندية إلى منبج‏.‏ ‏‏

وولى بعده أخوه إبراهيم بن قريش، وكان مسجوناً من سنين فأطلق وملك‏.‏

وفيها‏:‏ ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في العشرين من رجب بسنجار‏.‏

وفيها‏:‏ عصى تكش أخو السلطان فأخذه السلطان فسمله وسجنه‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة الأمير خمارتكين الحسناني، وذلك لشكوى الناس من شدة سير جنفل بهم، وأخذ المكوسات منهم، سافر مرة من الكوفة إلى مكة في سبعة عشر يوماً‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن دوبست

أبو سعد النيسابوري، شيخ الصوفية، له رباط بمدينة نيسابور، يدخل من بابه الجمل براكبه، وحج مرات على التجريد على البحرين، حين انقطعت طريق مكة، وكان يأخذ جماعة من الفقراء، ويتوصل من قبائل العرب حتى يأتي مكة، توفي في هذه السنة وقد جاوز التسعين، رحمه الله وإيانا، وأوصى أن يخلفه ولده إسماعيل فأجلس في مشيخة الرباط‏.‏

 ابن الصباغ

صاحب ‏(‏الشامل‏)‏، عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، الإمام أبو نصر بن الصباغ، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببغداد على أبي الطيب الطبري حتى فاق الشافعية بالعراق، وصنف المصنفات المفيدة، منها ‏(‏الشامل‏)‏ في المذهب، وهو أول من درس بالنظامية، توفي في هذه السنة ودفن بداره في الكرخ، ثم نقل إلى باب حرب، رحمه الله‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان فقيه العراقين، وكان يضاهي أبا إسحاق، وكان ابن الصباغ أعلم منه بالمذهب، وإليه الرحلة فيه، وقد صنف ‏(‏الشامل‏)‏ في الفقه و‏(‏العمدة‏)‏ في أصول الفقه، وتولى تدريس النظامية أولاً، ثم عزل بعد عشرين يوماً بالشيخ أبي إسحاق، فلما مات الشيخ أبو إسحاق تولاها أبو سعد المتولي، ثم عزل ابن الصباغ بابن المتولي، وكان ثقة حجة صالحاً، ولد سنة أربعمائة، أضر في آخر عمره، رحمه الله وإيانا‏.‏

 مسعود بن ناصر

ابن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل، أبو سعد السجري الحافظ، رحل في الحديث وسمع الكثير، وجمع الكتب النفيسة، وكان صحيح الخط، صحيح النقل، حافظاً ضابطاً، رحمه الله وإيانا‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة

في المحرم منها زلزلت أرجان فهلك خلق كثير من الروم ومواشيهم‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت الأمراض بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وأعقب ذلك موت الفجأة، ثم ماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم، حتى عزت الألبان واللحمان، ومع هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرافضة والسنة فقتل خلق كثير فيها‏.‏

وفي ربيع الأول هاجت ريح سوداء وسفّت رملاً، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ ولد للخلفية ولده أبو عبد الله الحسين، وزينت بغداد وضربت الطبول والبوقات، وكثرت الصدقات‏.‏

وفيها‏:‏ استولى فخر الدولة بن جهير على بلاد كثيرة، منها آمد وميا فارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقضت بنو مروان على يده في هذه السنة‏.‏

وفي ثاني عشر رمضان منها ولي أبو بكر محمد بن مظفر الشامي قضاء القضاة ببغداد، بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني، وخلع عليه في الديوان‏.‏

وحج بالناس جنفل، وزار النبي صلى الله عليه وسلم ذاهباً وآيباً‏.‏

قال‏:‏ أظن أنها آخر حجتي‏.‏

وكان كذلك‏.‏

وفيها‏:‏ خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل محلة، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد، أثابه الله ورحمه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسن

ابن محمد بن إبراهيم بن أبي أيوب، أبو بكر الفوركي، سبط الأستاذ أبي بكر بن فورك، استوطن بغداد، وكان متكلماً يعظ الناس في النظامية، فوقعت بسببه فتنة بين أهل المذاهب‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان مؤثراً للدنيا لا يتحاشى من لبس الحرير، وكان يأخذ مكس الفحم، ويوقع العداوة بين الحنابلة والأشاعرة، مات وقد ناف على الستين سنة، ودفن إلى جانب قبر الأشعري بمشرعة الزوايا‏.‏

 الحسن بن علي

أبو عبد الله المردوسي، كان رئيس أهل زمانه وأكملهم مروءة، كان خدم في أيام بني بويه، وتأخر لهذا الحين، وكانت الملوك تعظمه وتكاتبه بعبده وخادمه، وكان كثير الصدقة والصّلات والبر، وبلغ من العمر خمساً وتسعين سنة، وأعد لنفسه قبراً وكفناً قبل موته بخمس سنين‏.‏

 أبو سعد المتولي

عبد الرحمن بن المأمون بن علي أبو سعد المتولي، مصنف ‏(‏التتمة‏)‏، ومدرس النظامية بعد أبي إسحاق الشيرازي، وكان فصيحاً بليغاً، ماهراً بعلوم كثيرة، كانت وفاته في شوال من هذه السنة وله ستة وخمسون سنة، رحمه الله وإيانا، وصلى عليه القاضي أبو بكر الشاشي‏.‏

 إمام الحرمين

عبد الملك بن الشيخ أبي محمد

عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، أبو المعالي الجويني، وجوين من قرى نيسابور، الملقب بإمام الحرمين، لمجاورته بمكة أربع سنين، كان مولده في تسع عشرة وأربعمائة، سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني، ودرس بعده في حلقته، وتفقه على القاضي حسين، ودخل بغداد وتفقه بها، وروى الحديث وخرج إلى مكة فجاور فيها أربع سنين، ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ، وصنف ‏(‏نهاية المطلب في دراية المذهب‏)‏، و‏(‏البرهان‏)‏ في أصول الفقه، وغير ذلك في علوم شتى‏.‏

واشتغل عليه الطلبة ورحلوا إليه من الأقطار، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، وقد استقصيت ترجمته في ‏(‏الطبقات‏)‏، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وخمسين سنة، ودفن بداره ثم نقل إلى جانب والده‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كانت أمه جارية اشتراها والده من كسب يده من النسخ، وأمرها أن لا تدع أحداً يرضعه غيرها، فاتفق أن امرأة دخلت عليها فأرضعته مرة، فأخذه الشيخ أبو محمد فنكسه ووضع يده على بطنه ووضع أصبعه في حلقه ولم يزل به حتى قاء ما في بطنه من لبن تلك المرأة‏.‏

قال‏:‏ وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة، فيقول‏:‏ هذا من آثار تلك الرضعة‏.‏

قال‏:‏ ولما عاد من الحجاز إلى بلده نيسابور سلم إليه المحراب والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة، وبقي ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، وصنف في كل فن، وله ‏(‏النهاية‏)‏ التي ما صنف في الإسلام مثلها‏.‏

قال الحافظ أبو جعفر‏:‏ سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين‏:‏ يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الأئمة‏.‏

ومن تصانيفه ‏(‏الشامل‏)‏ في أصول الدين، و‏(‏البرهان‏)‏ في أصول الفقه، و‏(‏تلخيص التقريب‏)‏، و‏(‏الإرشاد‏)‏، و‏(‏العقيدة النظامية‏)‏، و‏(‏غياث الأمم‏)‏، وغير ذلك مما سماه ولم يتمه‏.‏

وصلى عليه ولده أبو القاسم وغلقت الأسواق وكسر تلاميذه أقلامهم - وكانوا أربعمائة - ومحابرهم، ومكثوا كذلك سنة، وقد رثي بمراثٍ كثيرة فمن ذلك قول بعضهم‏:‏‏

قلوب العالمين على المقالي * وأيام الورى شبه الليالي

أيثمر غصن أهل العلم يوماً * وقد مات الإمام أبو المعالي

 محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد

أبو علي بن الوليد، شيخ المعتزلة، كان مدرساً لهم فأنكر أهل السنة عليه، فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفي في ذي الحجة منها، ودفن في مقبرة الشونيزي، وهذا هو الذي تناظر هو والشيخ أبو يوسف القزويني المعتزلي المفسر في إباحة الولدان في الجنة، وأنه يباح لأهل الجنة وطء الولدان في أدبارهم، كما حكى ذلك ابن عقيل عنهما، وكان حاضرهما، فمال هذا إلى إباحة ذلك، لأنه مأمون المفسدة هنالك‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ إن هذا لا يكون لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن أين لك أن يكون لهم أدبار‏؟‏ وهذا العضو - وهو الدبر - إنما خلق في الدنيا لحاجة العباد إليه، لأنه مخرج للأذى عنهم، وليس في الجنة شيء من ذلك، وإنما فضلات أكلهم عرق يفيض من جلودهم، فإذا هم ضمر فلا يحتاجون إلى أن يكون لهم أدبار، ولا يكون لهذه المسألة صورة بالكلية‏.‏

وقد روى هذا الرجل حديثاً واحداً عن شيخه أبي الحسين البصري بسنده المتقدم، من طريق شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا لم تستح فاصنع ما شئت‏)‏‏)‏

وقد رواه القعنبي عن شعبة، ولم يرو عنه سواه، فقيل‏:‏ إنه لما رحل إليه دخل عليه وهو يبول في البالوعة فسأله أن يحدثه فامتنع فروى له هذا الحديث كالواعظ له به، والتزم أن لا يحدثه بغيره‏.‏

وقيل‏:‏ لأن شعبة مر على القعنبي قبل أن يشتغل بعلم الحديث - وكان إذ ذاك يعاني الشراب - فسأله أن يحدثه فامتنع، فسلّ سكيناً وقال‏:‏ إن لم تحدثني وإلا قتلتك‏.‏

فروى له هذا الحديث، فتاب وأناب، ولزم مالكاً، ثم فاته السماع من شعبة فلم يتفق له عنه غير هذا الحديث، فالله أعلم‏.‏

 أبو عبد الله الدامغاني القاضي

محمد بن علي بن الحسين بن عبد الملك بن عبد الوهاب بن حمويه الدامغاني، قاضي القضاة ببغداد، مولده في سنة ثمان عشرة وأربعمائة، فتفقه بها على أبي عبد الله الصيمري، وأبي الحسن القدوري، وسمع الحديث منهما ومن ابن النقور والخطيب وغيرهم‏.‏

وبرع في الفقه، وكان له عقل وافر، وتواضع زائد، وانتهت إليه رياسة الفقهاء، وكان فصيحاً كثير العبادة، وقد كان فقيراً في ابتداء طلبه، عليه أطمار رثة، ثم صارت إليه الرياسة والقضاء بعد ابن ماكولا، في سنة تسع وأربعين، وكان القائم بأمر الله يكرمه، والسلطان طغرلبك يعظمه، وباشر الحكم ثلاثين سنة في أحسن سيرة، وغاية الأمانة والديانة، مرض أياماً يسيرة ثم توفي في الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة، وقد ناهز الثمانين، ودفن بداره بدرب العلابين، ثم نقل إلى مشهد أبي حنيفة، رحمه الله‏.‏

 محمد بن علي بن المطلب

أبو سعد الأديب، كان قد قرأ النحو والأدب واللغة والسير وأخبار الناس، ثم أقلع عن ذلك كله، وأقبل على كثرة الصلاة والصدقة والصوم، إلى أن توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة، رحمه الله‏.‏

 محمد بن طاهر العباسي

ويعرف بابن الرجيحي، تفقه على ابن الصباغ، وناب في الحكم، وكان محمود الطريقة، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله‏.‏

 منصور بن دبيس

ابن علي بن مزيد، أبو كامل الأمير بعد سيف الدولة، كان كثير الصلاة والصدقة، توفي في رجب من هذه السنة، وقد كان له شعر وأدب، وفيه فضل، فمن شعره قوله‏:‏

فإن أنا لم أحمل عظيماً ولم أقد * لهاماً ولم أصبر على كل معظم

ولم أحجز الجاني وأمنع جوره * غداة أنادي للفخار وأنتمي

فلا نهضتْ لي همة عربية * إلى المجد ترقى بي ذرى كل محرم

 هبة الله بن أحمد بن السيبي

قاضي الحريم بنهر معلى، ومؤدب الخليفة المقتدي بأمر الله، سمع الحديث، وتوفي في محرم في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وله شعر جيد، فمنه قوله‏:‏

رجوت الثمانين من خالقي * لما جاء فيها عن المصطفى

فبلغنيها فشكراً له * وزاد ثلاثاً بها إذ وفا

وإني لمنتظر وعده * لينجزه لي، فعل أهل الوفا

 ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة

وفيها‏:‏ كانت الوقعة بين تتش صاحب دمشق وبين سليمان بن قتلمش صاحب حلب وأنطاكية وتلك الناحية، فانهزم أصحاب سليمان وقتل هو نفسه بخنجر كانت معه، فسار السلطان ملكشاه من أصبهان إلى حلب فملكها، وملك ما بين ذلك من البلاد التي مر بها، مثل حران والرها وقلعة جَعْبَر، وكان جعبر شيخاً كبيراً قد عمي، وله ولدان، وكان قطاع الطريق يلجأون إليها فيتحصنون بها، فراسل السلطان سابق بن جعبر في تسليمها، فامتنع عليه فنصب عليها المناجيق والعرادات ففتحها، وأمر بقتل سابق، فقالت زوجته‏:‏ لا تقتله حتى تقتلني معه‏.‏

فألقاه من رأسها فتكسر، ثم أمر بتوسيطهم بعد ذلك فألقت المرأة نفسها وراءه فسلمت، فلامها بعض الناس فقالت‏:‏ كرهت أن يصل إلي التركي فيبقى ذلك عاراً عليّ‏.‏

فاستحسن منها ذلك، واستناب السلطان على حلب قسيم الدولة أقسنقر التركي وهو جد نور الدين الشهيد، واستناب على الرحبة وحران والرقة وسروج والخابور محمد بن شرف الدولة مسلم وزوجه بأخته زليخا خاتون، وعزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها إلى العميد أبي علي البلخي، وخلع على سيف الدولة صدقة بن دبيس الأسدي، وأقره على عمل أبيه، ودخل بغداد في ذي القعدة من هذه السنة، وهي أول دخلة دخلها، فزار المشاهد والقبور ودخل على الخليفة فقبل يده ووضعها على عينيه، وخلع عليه الخليفة خلعاً سنية، وفوض إليه أمور الناس، واستعرض الخليفة أمراءه ونظام الملك واقف بين يديه، يعرفه بالأمراء واحداً بعد واحد، باسمه وكم جيشه وأقطاعه، ثم أفاض عليه الخليفة خلعاً سنية، وخرج من بين يديه فنزل بمدرسة النظامية، ولم يكن رآها قبل ذلك، فاستحسنها إلا أنه استصغرها، واستحسن أهلها ومن بها وحمد الله وسأل الله أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، ونزل بخزانة كتبها وأملى جزأ من مسموعاته، فسمعه المحدثون منه، وورد الشيخ أبو القاسم علي بن الحسين الحسني الدبوسي إلى بغداد في تجمل عظيم، فرتبه مدرساً بالنظامية بعد أبي سعد المتولي‏.‏ ‏

وفي ربيع الآخر فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها‏.‏

وفي هذه السنة كانت زلازل هائلة بالعراق والجزيرة والشام، فهدمت شيئاً كثيراً من العمران، وخرج أكثر الناس إلى الصحراء ثم عادوا‏.‏

وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناني، وقطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة، وقلعت الصفائح التي على باب الكعبة التي عليها ذكر الخليفة المصري، وجدد غيرها عليها، وكتب عليها اسم المقتدي‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وظهر رجل بين السندية وواسط يقطع الطريق، وهو مقطوع اليد اليسرى، يفتح القفل في أسرع مدة، ويغوص دجلة في غوصتين، ويقفز القفزة خمسة وعشرين ذراعاً، ويتسلق الحيطان الملس، ولا يقدر عليه أحد، وخرج من العراق سالماً‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ توفي فقير في جامع المنصور فوجد في مرقعته ستمائة دينار مغربية، أي‏:‏ صحاحاً كباراً، من أحسن الذهب‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ عمل سيف الدولة صدقة سماطاً للسلطان جلال الدولة أبي الفتح ملكشاه؛ اشتمل على ألف رأس من الغنم، ومائة جمل وغيرها، ودخله عشرون ألف منٍّ من السكر، وجعل عليه من أصناف الطيور والوحوش، ثم أردفه من السكر شيء كثير، فتناول السلطان بيده منه شيئاً يسيراً، ثم أشار فانتهب عن آخره، ثم انتقل من ذلك المكان إلى سرادق عظيم لم ير مثله من الحرير، وفيه خمسمائة قطعة من الفضة، وألوان من تماثيل الند والمسك والعنبر وغير ذلك، فمد فيه سماطاً خاصاً فأكل السلطان حينئذ، وحمل إليه عشرين ألف دينار، وقدم إليه ذلك السرادق بما فيه بكماله وانصرف، والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير جعبر بن سابق القشيري

الملقب بسابق الدين، كان قد تملك قلعة جعبر مدة طويلة فنسبت إليه، وإنما كان يقال لها قبل ذلك‏:‏ الدوشرية، نسبة إلى غلام النعمان بن المنذر، ثم إن هذا الأمير كبر وعمي، وكان له ولدان يقطعان الطريق، فاجتاز به السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي وهو ذاهب إلى حلب فأخذ القلعة وقتله كما تقدم‏.‏ ‏

الأمير جنفل قتلغ

أمير الحاج، كان مقطعاً للكوفة وله وقعات مع العرب أعربت عن شجاعته، وأرعبت قلوبهم وشتتهم في بلاد شذر مذر، وقد كان حسن السيرة محافظاً على الصلوات، كثير التلاوة، وله آثار حسنة بطريق مكة، في إصلاح المصانع والأماكن التي تحتاج إليها الحجاج وغيرهم‏.‏ وله مدرسة على الحنفية بمشهد يونس بالكوفة، وبنى مسجداً بالجانب الغربي من بغداد على دجلة، بمشرعة الكرخ‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها، رحمه الله‏.‏

ولما بلغ نظام الملك وفاته، قال‏:‏ مات ألف رجل، والله أعلم‏.‏

 علي بن فضال المشاجعي

أبو علي النحوي المغربي، له المصنفات الدالة على علمه وغزارة فهمه، وأسند الحديث‏.‏

توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب إبرز‏.‏

 

 

 علي بن أحمد التستري

كان مقدم أهل البصرة في المال والجاه، وله مراكب تعمل في البحر، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفرد برواية سنن أبي داود، توفي في رجب منها‏.‏

 يحيى بن إسماعيل الحسيني

كان فقيهاً على مذهب زيد بن علي بن الحسين، وعنده معرفة بالأصول والحديث‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة

في المحرم منها نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي، غالبها أواني الذهب والفضة، وعلى أربع وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من الفضة، فيها أنواع الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرساً عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر، ومهد عظيم مجلل بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب مرصع بالجوهر‏.‏

وبعث الخليفة لتلقيهم الوزير أبا شجاع، وبين يديه نحو من ثلاثمائة موكبية غير المشاعل لخدمة الست خاتون امرأة السلطان تركان خاتون، حماة الخليفة، وسألها أن تحمل الوديعة الشريفة إلى دار الخليفة، فأجابت إلى ذلك‏.‏

‏فحضر الوزير نظام الملك وأعيان الأمراء وبين أيديهم من الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت نساء الأمراء كل واحدة منهن في جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان زوجة الخليفة بعد الجميع، في محفة مجللة، وعليها من الذهب والجواهر ما لا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية، بالمراكب المزينة العجيبة مما يبهرن الأبصار، فدخلت دار الخلافة على هذه الصفة وقد زين الحريم الطاهر وأشعلت فيه الشموع، وكانت ليلة مشهودة للخليفة، هائلة جداً‏.‏

فلما كان من الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان ومد سماطاً لم ير مثله، عم الحاضرين والغائبين، وخلع على الخاتون زوجة السلطان أم العروس، وكان أيضاً يوماً مشهوداً، وكان السلطان متغيباً في الصيد، ثم قدم بعد أيام، وكان الدخول بها في أول السنة، ولدت من الخليفة في ذي القعدة ولداً ذكراً زينت له بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولد للسلطان ملكشاه ولد سماه محموداً، وهو الذي ملك بعده‏.‏

وفيها‏:‏ جعل السلطان ولده أبا شجاع أحمد ولي العهد من بعده، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وخطب له بذلك على المنابر، ونثر الذهب على الخطباء عند ذكر اسمه‏.‏

وفيها‏:‏ شرع في بناء التاجية في باب إبرز وعملت بستان وغرست النخيل والفواكه هنالك، وعمل سور بأمر السلطان، والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إسماعيل ابن إبراهيم

ابن موسى بن سعيد، أبو القاسم النيسابوري، رحل في الحديث إلى الآفاق حتى جاوز ما وراء النهر، وكان له حظ وافر في الأدب، ومعرفة العربية‏.‏

توفي بنيسابور في جمادى الأولى منها‏.‏

 طاهر بن الحسين البندنيجي

أبو الوفا الشاعر، له قصيدتان في مدح نظام الملك إحداهما معجمة والأخرى غير منقوطة، أولها‏:‏

لاموا ولو علموا ما اللوم ما لاموا * ورد لومهم هم وآلام

توفي ببلده في رمضان عن نيف وسبعين سنة‏.‏ ‏

محمد بن أمير المؤمنين المقتدي

عرض له جدري فمات فيها وله تسع سنين، فحزن عليه والده والناس، وجلسوا للعزاء، فأرسل إليهم يقول‏:‏ إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، حين توفي ابنه إبراهيم، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏

ثم عزم على الناس فانصرفوا‏.‏

 محمد بن محمد بن زيد

ابن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الحسيني، الملقب بالمرتضى ذي الشرفين، ولد سنة خمس وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير، وقرأ بنفسه على الشيوخ، وصحب الحافظ أبا بكر الخطيب، فصارت له معرفة جيدة بالحديث، وسمع عليه الخطيب شيئاً من مروياته، ثم انتقل إلى سمرقند وأملى الحديث بأصهبان وغيرها، وكان يرجع إلى عقل كامل، وفضل ومروءة‏.‏

وكانت له أموال جزيلة، وأملاك متسعة، ونعمة وافرة، يقال‏:‏ إنه ملك أربعين قرية، وكان كثير الصدقة والبر والصلة للعلماء والفقراء، وبلغت زكاة ماله الصامت عشرة آلاف دينار غير العشور، وكان له بستان ليس لملك مثله، فطلبه منه ملك ما وراء النهر، واسمه الخضر بن إبراهيم، عارية ليتنزه فيه، فأبى عليه، وقال‏:‏ أعيره إياه ليشرب فيه الخمر بعد ما كان مأوى أهل العلم والحديث والدين ‏؟‏

فأعرض عنه السلطان وحقد عليه، ثم استدعاه إليه ليستشيره في بعض الأمور على العادة، فلما حصل عنده قبض عليه وسجنه في قلعته، واستحوذ على جميع أملاكه وحواصله وأمواله، وكان يقول‏:‏ ما تحققت صحة نسبي إلا في هذه المصادرة‏:‏ فإني ربيت في النعيم، فكنت أقول‏:‏ إن مثلي لا بد أن يبتلى‏.‏

ثم منعوه الطعام والشراب حتى مات، رحمه الله‏.‏

 محمد بن هلال بن الحسن

أبو الحسن الصابي، الملقب بغرس النعمة، سمع أباه وابن شاذان، وكانت له صدقة كثيرة، ومعروف، وقد ذيل على تاريخ أبيه الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيله على تاريخ ابن جرير الطبري، وقد أنشأ داراً ببغداد، ووقف فيها أربعة آلاف مجلد، في فنون من العلوم، وترك حين مات سبعين ألف دينار، ودفن بمشهد علي‏.‏

 هبة الله بن علي

ابن محمد بن أحمد بن المجلي أبو نصر، جمع خطباً ووعظاً، وسمع الحديث على مشايخ عديدة، وتوفي شاباً قبل أوان الرواية‏.‏

 أبو بكر بن عمر أمير الملثمين

كان في أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعض غزواته في حلقه فقتلته في هذه السنة‏.‏

 

 فاطمة بنت علي

المؤدبة الكاتبة، وتعرف ببنت الأقرع، سمعت الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، وكانت تكتب المنسوب على طريقة ابن البواب، ويكتب الناس عليها، وبخطها كانت الهدنة من الديوان إلى ملك الروم، وكتبت مرة إلى عميد الملك الكندري رقعة فأعطاها ألف دينار‏.‏

توفيت في المحرم من هذه السنة ببغداد، ودفنت بباب إبرز‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ببغداد، وجرت خطوب كثيرة‏.‏

وفي ربيع الأول أخرجت الأتراك من حريم الخلافة، فكان في ذلك قوة للخلافة‏.‏

وفيها‏:‏ ملك مسعود بن الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد غزنة بعد أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ فتح ملكشاه مدينة سمرقند‏.‏

وحج بالناس الأمير خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن السلطان ملكشاه

وكان ولي عهد أبيه، توفي وعمره إحدى عشرة سنة، فمكث الناس في العزاء سبعة أيام لم يركب أحد فرساً، والنساء ينحن عليه في الأسواق، وسود أهل البلاد التي لأبيه أبوابهم‏.‏ ‏

 عبد الله بن محمد

ابن علي بن محمد، أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، روى الحديث وصنف، وكان كثير السهر بالليل، وكانت وفاته بهراة في ذي الحجة عن ست وثمانين سنة‏.‏

وحج بالناس فيها الوزير أبو أحمد، واستناب ولده أبا منصور ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة

في المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التاجية بباب إبرز، التي أنشأها الصاحب تاج الدين أبو الغنائم على الشافعية‏.‏

وفيها‏:‏ كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة، ورفعوا المصاحف، وجرت حروب طويلة، وقتل فيها خلق كثير، نقل ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏ من خط ابن عقيل‏:‏ أنه قتل في هذه السنة قريب من مائتي رجل، قال‏:‏ وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ، وإنما حكيت هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله، ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم، لله ولرسوله وشريعته‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر وطائفة كبيرة من تلك الناحية، بعد حروب عظيمة ووقعات هائلة‏.‏

وفيها‏:‏ استولى جيش المصريين على عدة بلاد من بلاد الشام‏.‏

وفيها‏:‏ عمرت منارة جامع حلب‏.‏

وفيها‏:‏ أرسلت الخاتون بنت السلطان امرأة الخليفة تشكو إلى أبيها إعراض الخليفة عنها فبعث إليها أبوها الطواشي صواب والأمير مران ليرجعها إليه، فأجاب الخليفة إلى ذلك، وبعث معها بالنقيب وجماعة من أعيان الأمراء، وخرج ابن الخليفة أبو الفضل والوزير فشيعاها إلى النهروان وذلك في ربيع الأول، فلما وصلت إلى عند أبيها، توفيت في شوال من هذه السنة بأصبهان، فعمل عزاها ببغداد سبعة أيام، وأرسل الخليفة إلى السلطان أميرين لتعزيته فيها‏.‏

وحج بالناس خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الصمد بن أحمد بن علي

المعروف بطاهر النيسابوري الحافظ، رحل وسمع الكثير، وخرج وعاجله الموت في هذه السنة بهمذان وهو شاب‏.‏

 علي بن أبي يعلى

أبو القاسم الدبوسي، مدرس النظامية بعد المتولي، سمع شيئاً من الحديث، وكان فقيهاً ماهراً، وجدلياً باهراً‏.‏

 عاصم بن الحسن

ابن محمد بن علي بن عاصم بن مهران، أبو الحسين العاصمي، من أهل الكرخ، سكن باب الشعير، ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وكان من أهل الفضل والأدب، وسمع الحديث من الخطيب وغيره، وكان ثقة حافظاً، ومن شعره قوله‏:‏

لهفي على قوم بكاظمة * ودعتهم والركب معترض

لم تترك العبرات مذ بعدوا * لي مقلة ترنو وتغتمض

رحلوا فدمعي واكف هطل * جار وقلبي حشوه مرض

وتعوضوا لا ذقت فقدهم * عني ومالي عنهم عوض

أقرضتهم قلبي على ثقة * منهم فماردوا الذي اقترضوا

 محمد بن أحمد بن حامد

ابن عبيد، أبو جعفر البخاري المتكلم المعتزلي، أقام ببغداد وتعرف بقاضي حلب، وكان حنفي المذهب في الفروع، معتزلياً في الأصول، مات ببغداد في هذه السنة، ودفن بباب حرب‏.‏

 محمد بن أحمد بن عبد الله

ابن محمد بن إسماعيل الأصبهاني، المعروف بمسلرفة، أحد الحفاظ الجوالين الرحالين، سمع الكثير وجمع الكتب، وأقام بهراة، وكان صالحاً كثير العبادة، توفي بنيسابور في ذي الحجة من هذه السنة، والله أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

في المحرم منها ورد إلى الفقيه أبي عبد الله الطبري منشور نظام الملك بتدريس النظامية، فدرس بها، ثم قدم الفقيه أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي في ربيع الآخر منها بمنشور بتدريسها فاتفق الحال على أن يدرس هذا يوماً وهذا يوماً‏.‏

وفي جمادى الأولى دهم أهل البصرة رجل يقال له‏:‏ بليا، كان ينظر في النجوم، فاستغوى خلقاً من أهلها وزعم أنه المهدي، وأحرق من البصرة شيئاً كثيراً، من ذلك دار كتب وقفت على المسلمين لم ير في الإسلام مثلها، وأتلف شيئاً كثيراً من الدواليب والمصانع وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ خلع على أبي القاسم طراد الزينبي بنقابة العباسيين بعد أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ استفتى على معلمي الصبيان أن يمنعوا من المساجد صيانة لها، فأفتوا بمنعهم، ولم يستثن منه سوى رجل كان فقيهاً شافعياً يدري كيف تصان المساجد، واستدل المفتي بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وحج بالناس خمارتكين على العادة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الوزير أبو نصر بن جهير

ابن محمد بن محمد بن جهير عميد الدولة، أحد مشاهير الوزراء، وزر للقائم، ثم لولده المقتدي، ثم عزل ملكشاه السلطان وولي ولده فخر الدولة ديار بكر وغيرها، مات بالموصول وهي بلده التي ولد بها‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل صاحب اليمن الصليحي، وقد تقدم ذكره‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة

في المحرم منها كتب المنجم الذي أحرق البصرة إلى أهل واسط يدعوهم إلى طاعته، ويذكر في كتابه‏:‏ أنه المهدي صاحب الزمان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهدي الخلق إلى الحق، فإن أطعتم أمنتم من العذاب، وإن عدلتم خسف بكم، فآمنوا بالله وبالإمام المهدي‏.‏

وفيها‏:‏ ألزم أهل الذمة بلبس الغيار وبشد الزنار، وكذاك نساؤهم في الحمامات وغيرها‏.‏ ‏

وفي جمادى الأولى قدم الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أصبهان إلى بغداد على تدريس النطامية، ولقبه نظام الملك زين الدين شرف الأئمة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان كلامه مقبولاً، وذكاؤه شديداً‏.‏

وفي رمضان منها عزل الوزير أبو شجاع عن وزارة الخلافة فأنشد عند عزله‏:‏

تولاها وليس له عدو * وفارقها وليس له صديق

ثم جاءه كتاب نظام الملك بأن يخرج من بغداد، فخرج منها إلى عدة أماكن، فلم تطب له، فعزم على الحج، ثم طابت نفس النظام عليه فبعث إليه يسأله أن يكون عديله في ذلك، وناب ابن الموصلايا في الوزارة، وقد كان أسلم قبل هذه المباشرة في أول هذه السنة‏.‏

وفي رمضان منها دخل السلطان ملكشاه بغداد ومعه الوزير نظام الملك، وقد خرج لتلقيه قاضي القضاة أبو بكر الشاشي، وابن الموصلايا المسلماني، وجاءت ملوك الأطراف إليه للسلام عليه، منهم أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وإتابكه قسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب‏.‏

وفي ذي القعدة خرج السلطان ملكشاه وابنه وابن ابنته من الخليفة في خلق كثير من الكوفة‏.‏

وفيها‏:‏ استوزر أبو منصور بن جهير وهي النوبة الثانية لوزارته للمقتدي، وخلع عليه، وركب إليه نظام الملك فهنأه في داره بباب العامة‏.‏

وفي ذي الحجة عمل السلطان الميلاد في دجلة، وأشعلت نيران عظيمة، وأوقدت شموع كثيرة، وجمعت المطربات في السمريات، وكانت ليلة مشهودة عجيبة جداً، وقد نظم فيها الشعراء الشعر، فلما أصبح النهار من هذه الليلة جيء بالخبيث المنجم الذي حرق البصرة وادعى أنه المهدي محمولاً على جمل ببغداد، وجعل يسب الناس والناس يلعنوه، وعلى رأسه طرطورة بودع، والدرة تأخذه من كل جانب، فطافوا به بغداد ثم صلب بعد ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أمر السلطان ملكشاه جلال الدولة بعمارة جامعه المنسوب إليه بظاهر السور‏.‏

وفي هذه السنة ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بعد صاحب بلاد المغرب كثيراً من بلاد الأندلس، وأسر صاحبها المعتمد بن عباد وسجنه وأهله، وقد كان المعتمد هذا موصوفاً بالكرم والأدب والحلم، حسن السيرة والعشرة والإحسان إلى الرعية، والرفق بهم، فحزن الناس عليه، وقال في مصابه الشعراء فأكثروا‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت الفرج مدينة صقلية من بلاد المغرب، ومات ملكهم فقام ولده مقامه فسار في الناس سيرة ملوك المسلمين، حتى كأنه منهم، لما ظهر منه من الإحسان إلى المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلازل كثيرة بالشام وغيرها، فهدمت بنياناً كثيراً، من جملة ذلك تسعون برجاً من سور إنطاكية، وهلك تحت الهدم خلق كثير‏.‏ ‏

وحج بالناس خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الرحمن بن أحمد

أبو طاهر، ولد بأصبهان، وتفقه بسمر قند، وهو الذي كان سبب فتحها على يد السلطان ملكشاه، وكان من رؤساء الشافعية، وقد سمع الحديث الكثير‏.‏

قال عبد الوهاب بن منده‏:‏ لم نر فقيهاً في وقتنا أنصف منه، ولا أعلم‏.‏

وكان فصيح اللهجة كثير المروءة غزير النعمة، توفي ببغداد، ومشى الوزراء والكبراء في جنازته، غير أن النظام ركب واعتذر بكبر سنه، ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وجاء السلطان إلى التربة‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ جلست بكرة العزاء إلى جانب نظام الملك والملوك قيام بين يديه، اجترأت على ذلك بالعلم‏.‏

حكاه ابن الجوزي‏.‏

 محمد بن أحمد بن علي

أبو نصر المروزي، كان إماماً في القراءات، وله فيها المصنفات، وسافر في ذلك كثيراً، واتفق له أنه غرق في البحر في بعض أسفاره، فبينما الموج يرفعه ويضعه إذ نظر إلى الشمس قد زالت، فنوى الوضوء وانغمس في الماء ثم صعد فإذا خشبة فركبها وصلى عليها، ورزقه الله السلامة ببركة امتثاله للأمر، واجتهاده على العمل، وعاش بعد ذلك دهراً، وتوفي في هذه السنة، وله نيف وتسعون سنة‏.‏

 محمد بن عبد الله بن الحسن

أبو بكر الناصح الفقيه الحنفي المناظر المتكلم المعتزلي، ولي القضاء بنيسابور، ثم عزل لجنونه وكلامه وأخذه الرشا، وولي قضاء الري، وقد سمع الحديث، وكان من أكابر العلماء، توفي في رجب منها‏.‏

 

أرتق بن ألب التركماني

جد الملوك الأرتقية الذين هم ملوك ماردين، كان شهماً شجاعاً عالي الهمة، تغلب على بلاد كثيرة، وقد ترجمه ابن خلكان وأرخ وفاته بهذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ أمر السلطان ملكشاه ببناء سور سوق المدينة المعروفة بطغرلبك، إلى جانب دار الملك، وجدد خاناتها وأسواقها ودورها، وأمر بتجديد الجامع الذي تم على يد هارون الخادم، في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ووقف على نصب قبلته بنفسه، ومنجمه إبراهيم حاضر، ونقلت أخشاب جامع سامرا‏.‏ ‏

وشرع نظام الملك في بناء دار له هائلة، وكذلك تاج الملوك أبو الغنائم، شرع في بناء دار هائلة أيضاً، واستوطنوا بغداد‏.‏

وفي جمادى الأولى وقع حريق عظيم ببغداد في أماكن شتى، فما طفئ حتى هلك للناس شيء كثير، فما عمروا بقدر ما حرق وما غرموا‏.‏

وفي ربيع الأول خرج السلطان إلى أصبهان، وفي صحبته ولد الخليفة أبو الفضل جعفر، ثم عاد إلى بغداد في رمضان، فبينما هو في الطريق يوم عاشوراء عدا صبي من الديلم على الوزير نظام الملك، بعد أن أفطر، فضربه بسكين فقضى عليه بعد ساعة، وأخذ الصبي الديلمي فقتل، وقد كان من كبار الوزراء وخيار الأمراء، وسنذكر شيئاً من سيرته عند ذكر ترجمته‏.‏

وقدم السلطان بغداد في رمضان بنية غير صالحة، فلقاه الله في نفسه ما تمناه لأعدائه، وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد وجاء الناس للسلام عليه، والتهنئة بقدومه، وأرسل إليه الخليفة يهنئه، فأرسل إلى الخليفة يقول له‏:‏ لابد أن تنزل لي عن بغداد، وتتحول إلى أي البلاد شئت‏.‏

فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهراً، فرد عليه‏:‏ ولا ساعة واحدة‏.‏

فأرسل إليه يتوسل في إنظاره عشرة أيام، فأجاب إلى ذلك بعد تمنع شديد، فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد فأصابته حمى شديدة، فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام، ولله الحمد والمنة‏.‏

فاستحوذت زوجته زبيدة خاتون على الجيش، وضبطت الأموال والأحوال جيداً، وأرسلت إلى الخليفة تسأل منه أن يكون ولدها محمود ملكاً بعد أبيه، وأن يخطب له على المنابر، فأجابها إلى ذلك، وأرسل إليه بالخلع، وبعث يعزيها ويهنئها مع وزيره عميد الدولة بن جهير‏.‏

وكان عمر الملك محمود هذا يومئذ خمس سنين، ثم أخذته والدته في الجيوش وسارت به نحو أصبهان ليتوطد له الملك، فدخلوها وتم لهم مرادهم، وخطب لهذا الغلام في البلدان حتى في الحرمين، واستوزر له تاج الملك أبا الغنائم المرزبان بن خسرو، وأرسلت أمه إلى الخليفة تسأله أن تكون ولايات العمال إليه، فامتنع الخليفة ووافقه الغزالي على ذلك، وأفتى العلماء بجواز ذلك، منهم‏:‏ المتطبب بن محمد الحنفي، فلم يعمل إلا بقول الغزالي، وانحاز أكثر جيش السلطان إلى ابنه الآخر بركيارق، فبايعوه وخطبوا له بالري، وانفردت الخاتون وولدها ومعهم شرذمة قليلة من الجيش والخاصكية، فأنفقت فيهم ثلاثين ألف ألف دينار لقتال بركيارق بن ملكشاه، فالتقوا في ذي الحجة فكانت الخاتون هي المنهزمة ومعها ولدها‏.‏

وفي صحيح البخاري‏:‏ ‏(‏‏(‏لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي ذي القعدة اعترضت بنو خفاجة للحجيج فقاتلهم من في الحجيج من الجند مع الأمير خمارتكين، فهزموهم، ونهبت أموال الأعراب، ولله الحمد والمنة‏.‏

وفيها‏:‏ جاء برد شديد عظيم بالبصرة، وزن الواحدة منها خمسة أرطال إلى ثلاثة عشر رطلاً، فأتلفت شيئاً كثيراً من النخيل والأشجار، وجاء ريح عاصف قاصف فألقى عشرات الألوف من النخيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏} ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وفيها‏:‏ ملك تاج الدولة تتش صاحب دمشق مدينة حمص، وقلعة عرقة، وقلعة فامية، ومعه قسيم الدولة أقسنقر، وكان السلطان قد جهز سرية إلى اليمن صحبة سعد كوهرائين الدولة وأمير آخر من التركمان، فدخلاها وأساءا فيها السيرة فتوفي سعد كوهرائين يوم دخوله إليها في مدينة عدن، ولله الحمد والمنة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 جعفر بن يحيى بن عبد الله

أبو الفضل التميمي، المعروف بالحكاك المكي، رحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق وأصبهان وغير ذلك من البلاد، وسمع الكثير وخرج الأجزاء، وكان حافظاً متقناً، ضابطاً أديباً، ثقة صدوقاً، وكان يراسل صاحب مكة، وكان من ذوي الهيئات والمروءات، قارب الثمانين، رحمه الله‏.‏

 نظام الملك الوزير

الحسن بن علي بن إسحاق أبو علي، وزر للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه تسعاً وعشرين سنة، كان من خيار الوزراء‏.‏

ولد بطوس سنة ثمان وأربعمائة، وكان أبوه من أصحاب محمود بن سبكتكين، وكان من الدهاقين، فأشغل ولده هذا، فقرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة‏.‏ ‏‏

وأشغله بالعلم والقراءات والتفقه على مذهب الشافعي، وسماع الحديث واللغة والنحو، وكان عالي الهمة، فحصل من ذلك طرفاً صالحاً، ثم ترقى في المراتب حتى وزر للسلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ثم من بعد لملكشاه تسعاً وعشرين سنة، لم ينكب في شيء منها، وبنى المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وغيرهما، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم غالب نهاره، فقيل له‏:‏ إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح‏.‏

فقال‏:‏ هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك‏.‏

وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما معه في المقعد، فإذا دخل أبو علي الفارمدي قام وأجلسه مكانه، وجلس بين يديه، فعوتب في ذلك فقال‏:‏ إنهما إذا دخلا علي قال‏:‏ أنت وأنت، يطروني ويعظموني، ويقولوا فيّ ما ليس فيّ، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل عليّ أبو علي الفارندي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر فأرجع عن كثير من الذي أنا فيه‏.‏

وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها، لا يشغله بعد الأذان شغل عنها وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله الأوقاف الدارة، والصدقات البارة‏.‏

وكان يعظم الصوفية تعظيماً زائداً، فعوتب في ذلك، فقال‏:‏ بينما أنا أخدم بعض الملوك جاءني يوماً إنسان فقال لي‏:‏ إلى متى أنت تخدم من تأكله الكلاب غداً‏؟‏ اخدم من تنفعك خدمته، ولا تخدم من تأكله الكلاب غداً‏.‏

فلم أفهم ما يقول، فاتفق أن ذلك الأمير سكر تلك الليلة فخرج في أثناء الليل وهو ثمل، وكانت له كلاب تفترس الغرباء بالليل، فلم تعرفه فمزقته، فأصبح وقد أكلته الكلاب‏.‏

قال‏:‏ فأنا أطلب مثل ذلك الشيخ‏.‏

وقد سمع الحديث في أماكن شتى ببغداد وغيرها، وكان يقول‏:‏ إني لأعلم بأني لست أهلاً للرواية، ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ رأيت ليلة في المنام إبليس فقلت له‏:‏ ويحك خلقك الله وأمرك بالسجود له مشافهة فأبيت، وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات، وأنشأ يقول‏:‏

من لم يكن للوصال أهلاً * فكل إحسانه ذنوب

وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه وقال له‏:‏ يا حسن، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك‏.‏

وقد ملك ألوفاً من الترك، وكان له بنون كثيرة، وزر منهم خمسة، وزر ابنه أحمد للسلطان محمد بن ملك شاه، ولأمير المؤمنين المسترشد بالله‏.‏ ‏‏

وخرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصداً بغداد في مستهل رمضان من هذه السنة، فلما كان اليوم العاشر اجتاز في بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند، وهو يسايره في محفة، فقال‏:‏ قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن يكون عندهم‏.‏

فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبي في هيئة مستغيث به ومعه قصة، فلما انتهى إليه ضربه بسكين في فؤاده وهرب، وعثر بطُنُب الخيمة فأُخذ فقتل، ومكث الوزير ساعة، وجاءه السلطان يعوده فمات وهو عنده، وقد اتهم السلطان في أمره أنه هو الذي مالأ عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يوماً، وكان في ذلك عبرة لأولي الألباب‏.‏

وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضاً من بغداد، فما تم له ما عزم عليه، ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام، ورثاه الشعراء بقصائد منهم مقاتل بن عطية فقال‏:‏

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة * يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزت فلم تعرف الأيام قيمتها * فردها غيرة منه إلى الصدف

وأثنى عليه غير واحد حتى ابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما، رحمه الله‏.‏

 عبد الباقي بن محمد بن الحسين

ابن داود بن ياقيا، أبو القاسم الشاعر، من أهل الحريم الظاهري، ولد سنة عشر وأربعمائة، وكان ماهراً، وقد رماه بعضهم باعتقاد الأوائل، وأنكر أن يكون في السماء نهر من ماء أو نهر من لبن، أو نهر من خمر، أو نهر من عسل، يعني‏:‏ في الجنة، وما سقط من ذلك قطرة إلى الأرض إلا هذا الذي هو يخرب البيوت ويهدم الحيطان والسقوف، وهذا الكلام كفر من قائله، نقله عنه ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏.‏

وحكى بعضهم أنه وجد في كفنه مكتوباً حين مات هذين البيتين‏:‏

نزلت بجار لا يخيب ضيفه * أرجّي نجاتي من عذاب جهنم

وإني على خوفي من الله واثق * بأنعامه والله أكرم منعم

 مالك بن أحمد بن علي

ابن إبراهيم، أبو عبد الله البانياسي الشامي، وقد كان له اسم آخر سمته به أمه علي أبو الحسن، فغلب عليه ما سماه به أبوه، وما كناه به‏.‏ ‏

سمع الحديث على مشايخ كثيرة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن الصلت، هلك في حريق سوق الريحانيين، وله ثمانون سنة، كان ثقة عند المحدثين‏.‏

 

 السلطان ملكشاه

جلال الدين والدولة، أبو الفتح ملكشاه، ابن أبي شجاع ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ابن سلجوق تقاق التركي، ملك بعد أبيه وامتدت مملكته من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وراسله الملوك من سائر الأقاليم حتى ملك الروم والخزر واللان‏.‏

وكانت دولته صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، وكان مع عظمته يقف للمسكين والضعيف، والمرأة فيقضي حوائجهم، وقد عمر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط المكوس والضرائب، وحفر الأنهار الكبار، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق، وبنى الجامع الذي يقال له‏:‏ جامع السلطان ببغداد، وبنى منارة القرون من صيوده بالكوفة، ومثلها فيما وراء النهر، وضبط ما صاده بنفسه في صيوده فكان ذلك نحواً من عشرة آلاف صيد، فتصدق بعشرة آلاف درهم، وقال‏:‏ إني خائف من الله تعالى أن أكون أزهقت نفس حيوان لغير مأكلة‏.‏

وقد كانت له أفعال حسنة، وسيرة صالحة، من ذلك أن فلاحاً أنهى إليه أن غلماناً له أخذوا له حمل بطيخ، ففتشوا فإذا في خيمة الحاجب بطيخ، فحملوه إليه، ثم استدعى بالحاجب فقال‏:‏ من أين لك هذا البطيخ ‏؟‏

قال‏:‏ جاء به الغلمان‏.‏

فقال‏:‏ أحضرهم‏.‏

فذهب وأمرهم بالهرب فأحضره وسلمه للفلاح، وقال‏:‏ خذ بيده فإنه مملوكي ومملوك أبي، وإياك أن تفارقه، ثم رد على الفلاح الحمل البطيخ‏.‏

فخرج الفلاح يحمله وبيده الحاجب فاستنقذ الحاجب نفسه من الفلاح بثلاثمائة دينار‏.‏

ولما توجه لقتال أخيه تتش اجتاز بطوس فدخلها لزيارة قبر علي بن موسى الرضى، ومعه نظام الملك، فلما خرجا قال للنظام‏:‏ بم دعوت الله ‏؟‏

قال‏:‏ دعوت الله أن يظفرك على أخيك‏.‏

قال‏:‏ لكني قلت اللهم إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفره بي، وإن كنت أنا أصلح لهم فظفرني به‏.‏

وقد سار بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية، فما عرف أن أحداً من جيشه ظلم أحداً من الرعية، وكانوا مئين ألوف‏.‏

واستعدى إليه مرة تركماني، أن رجلاً افتض بكارة ابنته وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال له‏:‏ يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكنته من نفسها، فإن كنت لابد فاعلاً فاقتلها معه‏.‏

فسكت الرجل، فقال له الملك‏:‏ أو تفعل خيراً من ذلك‏؟‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ فإن بكارتها قد ذهبت، فزوجها من ذلك الرجل، وأنا أمهرها من بيت المال كفايتهما‏.‏

ففعل‏.‏

وحكى له بعض الوعاظ أن كسرى اجتاز يوماً في بعض أسفاره بقرية وكان منفرداً من جيشه، فوقف على باب دار فاستسقى فأخرجت إليه جارية إناء فيه ماء قصب السكر بالثلج، فشرب منه فأعجبه فقال‏:‏ كيف تصنعون هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ إنه سهل علينا اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى، فذهبت لتأتيه بها فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم، ويعوضهم عنه غيره، فأبطأت عليه، ثم خرجت وليس معها شيء، فقال‏:‏ مالك ‏؟‏‏

فقالت‏:‏ كأن نية سلطاننا تغيرت علينا، فتعسر عليّ اعتصاره - وهي لا تعرف أنه السلطان -‏.‏

فقال‏:‏ اذهبي فإنك الآن تقدرين عليه، وغير نيته إلى غيرها‏.‏

فذهبت وجاءته بشربة أخرى سريعاً فشربها وانصرف‏.‏

فقال له السلطان‏:‏ هذه تصلح لي ولكن قص على الرعية أيضاً حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببستان وقد أصابته صفراء في رأسه وعطش، فطلب من ناطوره عنقوداً من حصرم، فقال له الناطور‏:‏ إن السلطان لم يأخذ حقه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك‏.‏

واستعداه رجلان من الفلاحين على الأمير خمارتكين أنه أخذ منهما مالاً جزيلاً وكسر ثنيتهما، وقالا‏:‏ سمعنا بعدلك في العالم، فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة‏.‏

وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه، وقال لهما‏:‏ خذا بكمي واسحباني إلى دار نظام الملك، فهابا ذلك، فعزم عليهما أن يفعلا، ففعلا ما أمرهما به، فلما بلغ النظام مجيء السلطان إليه، خرج مسرعاً فقال له الملك‏:‏ إني إنما قلدتك الأمر لتنصف المظلوم ممن ظلمه، فكتب من فوره فعزل خمارتكين وحل أقطاعه، وأن يرد إليهما أموالهما، وأن يقلعا ثنيتيه إن قامت عليه البيّنة، وأمر لها الملك من عنده بمائة دينار‏.‏

وأسقط مرة بعض المكوس، فقال له رجل من المستوفين‏:‏ يا سلطان العالم، إن هذا الذي أسقطته يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر‏.‏

فقال‏:‏ ويحك إن المال مال الله، والعباد عباد الله، والبلاد بلاده، وإنما أردت أن يبقى هذا لي عند الله، ومن نازعني في هذا ضربت عنقه‏.‏

وغنته امرأة حسناء فطرب وتاقت نفسه إليها، فهم بها فقالت‏:‏ أيها الملك إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار، وبين الحلال والحرام كلمة واحدة‏.‏

فاستدعى القاضي فزوجه بها‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي‏:‏ عن ابن عقيل أن السلطان ملك شاه كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته لبعض الباطنية ثم تنصل من ذلك وراجع الحق‏.‏

وذكر ابن عقيل أنه كتب له شيئاً في إثبات الصانع، وقد ذكرنا أنه لما رجع آخر مرة إلى بغداد فعزم على الخليفة أن يخرج منها، فاستنظره عشرة أيام فمرض السلطان ومات قبل انقضاء العشرة أيام، وكانت وفاته في ليلة الجمعة النصف من شوال عن سبع وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وكان مدة ملكه من ذلك تسع عشرة سنة وأشهراً، ودفن بالشونيزي، ولم يصلّ عليه أحد لكتمان الأمر، وكان مرضه بالحمى، وقيل‏:‏ إنه سم، والله أعلم‏.‏

 باني التاجية ببغداد

المرزبان بن خسرو، تاج الملك الوزير، أبو الغنائم باني التاجية، وكان مدرسها أبو بكر الشاشي وبنى تربة الشيخ أبي إسحاق، وقد كان السلطان ملكشاه أراد أن يستوزره بعد نظام الملك فمات سريعاً، فاستوزر لولده محمود، فلما قهره أخوه بركيارق قتله غلمان النظام وقطعوه إرباً إرباً في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

 

 هبة الله بن عبد الوارث

ابن علي بن أحمد نوري، أبو القاسم الشيرازي، أحد الرحالين الجوالين في الآفاق، كان حافظاً ثقة ديناً ورعاً، حسن الاعتقاد والسيرة، له تاريخ حسن، ورحل إليه الطلبة من بغداد وغيرها، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ قدم إلى بغداد رجل يقال له‏:‏ أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي، مرجعه من الحج، فنزل النظامية فوعظ الناس وحضر مجلسه الغزالي مدرّس المكان، فازدحم الناس في مجلسه، وكثروا في المجالس بعد ذلك، وترك كثير من الناس معايشهم، وكان يحضر مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، وتاب كثير من الناس ولزموا المساجد، وأريقت الخمور وكسرت الملاهي، وكان الرجل في نفسه صالحاً، له عبادات، وفيه زهد وافر، وله أحوال صالحة، وكان الناس يزدحمون على فضل وضوئه، وربما أخذوا من البركة التي يتوضأ منها ماء للبركة‏.‏

ونقل ابن الجوزي‏:‏ أنه اشتهى مرة على بعض أصحابه توتاً شامياً وثلجاً فطاف البلد بكماله فلم يجده، فرجع فوجد الشيخ في خلوته، فسأل‏:‏ هل جاء اليوم إلى الشيخ أحد ‏؟‏

فقيل له‏:‏ جاءت امرأة فقالت‏:‏ إني غزلت بيدي غزلاً وبعته وأنا أحب أن أشتري للشيخ طرفة‏.‏

فامتنع من ذلك فبكت فرحمها، وقال‏:‏ اذهبي فاشتري‏.‏

فقالت‏:‏ ماذا تشتهي‏؟‏

فقال‏:‏ ما شئت‏.‏

فذهبت فأتته بتوت شامي وثلج فأكله‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ دخلت عليه وهو يشرب مرقاً فقلت في نفسي‏:‏ ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ القرآن، فناولني فضله فقال‏:‏ اشربها على تلك النية‏.‏

قال‏:‏ فرزقني الله حفظ القرآن‏.‏

وكانت له عبادات ومجاهدات، ثم اتفق أنه تكلم في بيع القراضة بالصحيح فمنع من الجلوس وأخرج من البلد‏.‏

وفيها‏:‏ خطب تتش بن ألب أرسلان لنفسه بالسلطنة، وطلب من الخليفة أن يخطب له بالعراق فحصل التوقف عن ذلك بسبب ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، فسار إلى الرحبة وفي صحبته وطاعته أقسنقر صاحب حلب، وبوران صاحب الرها، ففتح الرحبة، ثم سار إلى الموصل فأخذها من يد صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وهزم جيوشه من بني عقيل، وقتل خلقاً من الأمراء صبراً، وكذلك أخذ ديار بكر واستوزر الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكذلك أخذ همدان وخلاط، وفتح أذربيجان واستفحل أمره‏.‏ ‏

ثم فارقه الأميران اقسنقر وبوران، فسارا إلى الملك بركيارق وبقي تتش وحده، فطمع فيه أخوه بركيارق، فرجع تتش فلحقه قسيم الدولة اقسنقر وبوران بباب حلب فكسرهما، وأسر بوران واقسنقر فصلبهما، وبعث برأس بوران فطيف به حران والرها وملكها من بعده‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الفتنة بين الروافض والسنة، وانتشرت بينهم شرور كثيرة‏.‏

وفي ثاني شعبان ولد للخليفة ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد المستظهر، ففرح الخليفة به‏.‏

وفي ذي القعدة دخل السلطان بركيارق بغداد، وخرج إليه الوزير أبو منصور بن جهير وهنأه عن الخليفة بالقدوم‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ المستنصر العبيدي مدينة صور من أرض الشام‏.‏

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 جعفر بن المقتدي بالله

من الخاتون بنت السلطان ملكشاه، في جمادى الأولى وجلس الوزير للعزاء والدولة ثلاثة أيام‏.‏

سليمان بن إبراهيم

ابن محمد بن سليمان، أبو مسعود الأصبهاني، سمع الكثير وصنف وخرج على الصحيحين، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، سمع ابن مردويه وأبا نعيم والبرقاني، وكتب عن الخطيب وغيره‏.‏

توفي في ذي العقدة عن تسع وثمانين سنة‏.‏

 عبد الواحد بن أحمد بن المحسن

الدشكري، أبو سعد الفقيه الشافعي، صحب أبا إسحاق الشيرازي، وروى الحديث، وكان مؤلفاً لأهل العلم، وكان يقول‏:‏ ما مشى قدمي هاتين في لذة قط‏.‏

توفي في رجب منها ودفن بباب حرب‏.‏

 علي بن أحمد بن يوسف

أبو الحسن الهكاري، قدم بغداد ونزل برباط الدوري، وكانت له أربطة قد أنشأها، سمع الحديث، وروى عنه غير واحد من الحفاظ، وكان يقول‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام في الروضة فقلت‏:‏ يا رسول الله أوصني‏.‏

فقال‏:‏ عليك باعتقاد أحمد بن حنبل، ومذهب الشافعي، وإياك ومجالسة أهل البدع‏.‏

توفي في المحرم منها‏.‏

علي بن محمد بن محمد

أبو الحسن الخطيب الأنباري، ويعرف بابن الأخضر، سمع أبا محمد الرضى، وهو آخر من حدث عنه، توفي في شوال منها عن خمس وتسعين سنة‏.‏

أبو نصر علي بن هبة الله، ابن ماكولا

ولد سنة ثنتين وأربعمائة، وسمع الكثير وكان من الحفاظ، وله كتاب ‏(‏الإكمال‏)‏ في المؤتلف والمختلف، جمع بين كتاب عبد الغني وكتاب الدارقطني وغيرهما، وزاد عليهما أشياء كثيرة، بهمة حسنة مفيدة نافعة، وكان نحوياً مبرزاً، فصيح العبارة حسن الشعر‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وسمعت شيخنا عبد الوهاب يطعن في دينه ويقول‏:‏ المعلم يحتاج إلى دين‏.‏

وقتل في خوزستان في هذه السنة أو التي بعدها، وقد جاوز الثمانين، كذا ذكره ابن الجوزي‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة الخليفة المقتدي وخلافة ولده المستظهر بالله‏.‏

صفة موته

لما قدم السلطان بركيارق بغداد، سأل من الخليفة أن يكتب له بالسلطنة كتاباً فيه العهد إليه فكتب ذلك، وهيئت الخلع وعرضت على الخليفة، وكان الكتاب يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، ثم قدم إليه الطعام فتناول منه على العادة وهو في غاية الصحة، ثم غسل يده وجلس ينظر في العهد بعدما وقع عليه، وعنده قهرمانة تسمى شمس النهار، قالت‏:‏ فنظر إليّ وقال‏:‏ من هؤلاء الأشخاص الذين قد دخلوا علينا بغير إذن‏؟‏

قالت‏:‏ فالتفت فلم أر أحداً، ورأيته قد تغيرت حالته واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قواه، وسقط إلى الأرض‏.‏ ‏

قالت‏:‏ فظننت أنه غشي عليه، فحللت أزرار ثيابه فإذا هو لا يجيب داعياً، فأغلقت عليه الباب وخرجت فأعلمت ولي العهد بذلك، وجاء الأمراء ورؤس الدولة يعزونه بأبيه، ويهنئونه بالخلافة، فبايعوه‏.‏

 شيء من ترجمة المقتدي بأمر الله

هو أمير المؤمنين المقتدي بالله أبو عبد الله بن الذخيرة، الأمير ولي العهد أبي العباس أحمد، ابن أمير المؤمنين القائم بأمر الله، بن القادر بالله العباسي، أمه أم ولد اسمها أرجوان أرمنية، أدركت خلافة ولدها وخلافة ولده المستظهر وولد المسترشد أيضاً، وكان المقتدي أبيض حلو الشمائل، عمرت في أيامه محال كثيرة من بغداد، ونفى عن بغداد المغنيات وأرباب الملاهي والمعاصي، وكان غيوراً على حريم الناس، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، حسن السيرة، رحمه الله‏.‏

توفي يوم الجمعة رابع عشر المحرم من هذه السنة، وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وثمان شهور وتسعة أيام، خلافته من ذلك تسع عشرة سنة وثمان شهور إلا يومين، وأخفي موته ثلاثة أيام حتى توطدت البيعة لابنه المستظهر، ثم صلي عليه ودفن في تربتهم، والله أعلم‏.‏

 خلافة المستظهر بأمر الله أبي العباس

لما توفي أبوه يوم الجمعة أحضروه وله من العمر ست عشرة سنة وشهران، فبويع بالخلافة، وأول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير، ثم أخذ البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن ملكشاه ثم من بقية الأمراء والرؤساء، وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام، ثم أظهر التابوت يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم، وصلى عليه ولده الخليفة، وحضر الناس، ولم يحضر السلطان، وحضر أكثر أمرائه، وحضر الغزالي والشاشي وابن عقيل، وبايعوه يوم ذلك‏.‏

وقد كان المستظهر كريم الأخلاق حافظاً للقرآن فصيحاً بليغاً شاعراً مطيقاً، ومن لطيف شعره قوله‏:‏

أذاب حر الجوى في القلب ما جمدا * يوماً مددت على رسم الوداع يدا

فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد * أرى طرائق من يهوى الهوى قددا

قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به * من بعد ما قد وفى دهرا بما وعدا

إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي * من بعد هذا فلا عاينته أبدا

وفوض المستظهر أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة بن جهير، فدبرها أحسن تدبير، ومهد الأمور أتم تمهيد، وساس الرعايا، وكان من خيار الوزراء‏.‏

وفي ثالث عشر شعبان عزل الخليفة أبا بكر الشاشي عن القضاء، وفوضه إلى أبي الحسن بن الدامغاني‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بين السنة والروافض فأحرقت محال كثيرة، وقتل ناس كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولم يحج أحد لاختلاف السلاطين‏.‏

وكانت الخطبة للسلطان بركيارق ركن الدولة يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، وهو اليوم الذي توفي فيه الخليفة المقتدي بعد ما علم على توقيعه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 اقسنقر الأتابك

الملقب قسيم الدولة السلجوقي، ويعرف بالحاجب، صاحب حلب وديار بكر والجزيرة‏.‏

وهو جد الملك نور الدين الشهيد بن زنكي بن اقسنقر، كان أولاً من أخص أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، ثم ترقت منزلته عنده حتى أعطاه حلب وأعمالها بإشارة الوزير نظام الملك، وكان من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة، وكانت الرعية معه في أمن ورخص وعدل، ثم كان موته على يد السلطان تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وذلك أنه استعان به وبصاحب حران والرها على قتال ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ففرا عنه وتركاه، فهرب إلى دمشق، فلما تمكن ورجعا قاتلهما بباب حلب فقتلهما، وأخذ بلادهما إلا حلب، فإنها استقرت لولد اقسنقر زنكي فيما بعد، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة كما سيأتي بيانه‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه كان مملوكاً للسلطان ملكشاه، هو وبوزان صاحب الرها، فلما ملك تتش حلب استنابه بها فعصى عليه فقصده، وكان قد ملك دمشق أيضاً فقاتله فقتله في هذه السنة في جمادى الأولى منها، فلما قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي، وهو أبو نور الدين، فقبره بحلب أدخله ولده إليها من فوق الصور، فدفنه بها‏.‏

 أمير الجيوش بدر الجمالي

صاحب جيوش مصر ومدبر الممالك الفاطمية، كان عاقلاً كريماً محباً للعلماء، ولهم عليه رسوم دارة، تمكن في أيام المستنصر تمكناً عظيماً، ودارت أزمة الأمور على آرائه، وفتح بلاداً كثيرة، وامتدت أيامه وبعد صيته وامتدحته الشعراء‏.‏

ثم كانت وفاته في ذي القعدة منها، وقام بالأمر من بعده ولده الأفضل‏.‏

 الخليفة المقتدي

وقد تقدم شيء من ترجمته‏.‏ ‏

 الخليفة المستنصر الفاطمي

أبو تميم معد بن أبي الحسن علي بن الحاكم، استمرت أيامه ستين سنة، ولم يتفق هذا لخليفة قبله ولا بعده، وكان قد عهد بالأمر إلى ولده نزار، فخلعه الأفضل بن بدر الجمالي بعد موت أبيه‏.‏

وأمر الناس فبايعوا أحمد بن المستنصر أخاه؛ ولقبه بالمستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية فجمع الناس عليه فبايعوه، وتولى أمره قاضي الإسكندرية‏:‏ جلال الدولة بن عمار، فقصده الأفضل فحاصره وقاتلهم نزار وهزمهم الأفضل، وأسر القاضي ونزار، فقتل القاضي وحبس نزار بين حيطين حتى مات، واستقر المستعلي في الخلافة، وعمره إحدى وعشرين سنة‏.‏

 

 محمد بن أبي هاشم

أمير مكة، كانت وفاته فيها عن نيف وتسعين سنة‏.‏

 محمود بن السلطان ملكشاه

كانت أمه قد عقدت له الملك، وأنفقت بسببه الأموال، فقاتله بركيارق فكسره، ولزم بلده أصبهان، فمات بها في هذه السنة، وحمل إلى بغداد فدفن بها بالتربة النظامية‏.‏

كان من أحسن الناس وجهاً وأظرفهم شكلاً، توفي في شوال منها، وماتت أمه الخاتون تركيان شاه في رمضان، فانحل نظامه، وكانت قد جمعت عليه العساكر، وأسندت أزمة أمور المملكة إليه، وملكت عشرة آلاف مملوك تركي، وأنفقت في ذلك قريباً من ثلاثة آلاف ألف دينار، فانحل النظام ولم تحصل على طائل، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ قدم يوسف بن أبق التركماني من جهة تتش صاحب دمشق إلى بغداد لأجل إقامة الدعوة له ببغداد، وكان تتش قد توجه لقتال ابن أخيه بناحية الري، فلما دخل رسوله بغداد هابوه وخافوه واستدعاه الخليفة فقربه وقبل الأرض بين يدي الخليفة، وتأهب أهل بغداد له، وخافوا أن ينهبهم، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه رسول ابن أخيه فأخبره أن تتش قتل في أول من قتل في الوقعة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر من هذه السنة، فاستفحل أمر بركيارق واستقل بالأمور‏.‏ ‏

وكان دقاق بن تتش مع أبيه حين قتل، فسار إلى دمشق فملكها، وكان نائب أبيه عليها الأمير ساوتكين، واستوزر أبا القاسم الخوارزمي، وملك عبد الله بن تتش مدينة حلب، ودبر أمر مملكته جناح الدولة بن اتكين، ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماه، وإليه تنسب بنو رضوان بها‏.‏

وفي يوم الجمعة التاسع عشر من ربيع الأول منها خطب لولي العهد أبي المنصور الفضل بن المستظهر، ولقب بذخيرة الدين‏.‏

وفي ربيع الآخر خرج الوزير ابن جهير فاختط سوراً على الحريم، وأذن للعوام في العمل والتفرج فأظهروا منكرات كثيرة، وسخافات عقول ضعيفة، وعملوا أشياء منكرة، فبعث إليه ابن عقيل رقعة فيها كلام غليظ، وإنكار بغيض‏.‏

وفي رمضان خرج السلطان بركيارق فعدا عليه فداوى، فلم يتمكن منه، فمسك فعوقب فأقر على آخرين فلم يقرا فقتل الثلاثة، وجاء الطواشي من جهة الخليفة مهنئاً به بالسلامة‏.‏

وفي ذي القعدة منها خرج أبو حامد الغزالي من بغداد متوجهاً إلى بيت المقدس تاركاً لتدريس النظامية، زاهداً في الدنيا، لابساً خشن الثياب بعد ناعمها، وناب عنه أخوه في التدريس، ثم حج في السنة التالية ثم رجع إلى بلده، وقد صنف كتاب ‏(‏الإحياء‏)‏ في هذه المدة، وكان يجتمع إليه الخلق الكثير كل يوم في الرباط فيسمعونه‏.‏

وفي يوم عرفة خلع على القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن هبة الله بن البستي، ولقب بشرف القضاة، ورد إلى ولاية القضاء بالحريم وغيره‏.‏

وفيها‏:‏ اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنة مع بقية المحال، وتزاوروا وتواصلوا وتواكلوا، وكان هذا من العجائب‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أحمد بن خاقان صاحب سمرقند، وسببه أنه شهد عليه بالزندقة فخنق وولي مكانه ابن عمه مسعود‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الأتراك إفريقية وغدروا بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبضوا عليه، وملكوا بلاده وقتلوا خلقاً، بعدما جرت بينه وبينهم حروب شديدة، وكان مقدمهم رجل يقال له‏:‏ شاه ملك، وكان من أولاد بعض أمراء المشرق، فقدم مصر وخدم بها ثم هرب إلى المغرب، ومعه جماعة ففعل ما ذكر‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:

 الحسن بن أحمد بن خيرون

أبو الفضل المعروف بابن الباقلاني، سمع الكثير، وكتب عنه الخطيب، وكانت له معرفة جيدة، وهو من الثقات، وقبله الدامغاني، ثم صار أميناً له، ثم ولي إشراف خزانة الغلات‏.‏

توفي في رجب عن ثنتين وثمانين سنة‏.‏ ‏

 تتش أبو المظفر

تاج الدولة بن ألب أرسلان، صاحب دمشق وغيرها من البلاد، وقد تزوج امرأة علي ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ولكن قدر الله وماتت، وقد قال المتنبي‏:‏

ولله سر في علاك وإنما * كلام العدى ضرب من الهذيان

قال ابن خلكان‏:‏ كان صاحب البلاد الشرقية فاستنجده أتسز في محاربة أمير الجيوش من جهة صاحب مصر، فلما قدم دمشق لنجدته وخرج إليه أتسز، أمر بمسكه وقتله، واستحوذ هو على دمشق وأعمالها في سنة إحدى وسبعين، ثم حارب أتسز فقتله، ثم تحارب هو وأخوه بركيارق ببلاد الري، فكسره أخوه وقتل هو في المعركة، وتملك ابنه رضوان حلب، وإليه تنسب بنو رضوان بها، وكان ملكه عليها إلى سنة سبع وخمسين وخمسمائة، سمته أمه في عنقود عنب، فقام بعده ولده تاج الملك بوري أربع سنين، ثم ابنه الآخر شمس الملك إسماعيل ثلاث سنين، ثم قتلته أمه أيضاً، وهي زمرد خاتون بنت جاولي، وأجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، فمكث أربع سنين، ثم ملك أخوه محمد بن بوري طغركين سنة، ثم تملك مجير الدين أبق من سنة أربع وثلاثين إلى أن انتزع الملك منه نور الدين محمود زنكي كما سيأتي‏.‏

وكان إتابك العساكر بدمشق أيام أتق معين الدين، الذي تنسب إليه المعينية بالغور، والمدرسة المعينية بدمشق‏.‏

 رزق الله بن عبد الوهاب

ابن عبد العزيز أبو محمد التميمي أحد أئمة القراء والفقهاء على مذهب أحمد، وأئمة الحديث، وكان له مجلس للوعظ، وحلقة للفتوى بجامع المنصور، ثم بجامع القصر، وكان حسن الشكل محبباً إلى العامة له شعر حسن، وكان كثير العبادة، فصيح العبارة، حسن المناظرة، وقد روى عن آبائه حديثاً مسلسلاً عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل‏.‏

وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة، يفد في مهام الرسائل إلى السلطان‏.‏

توفي يوم الثلاثاء النصف من جمادى الأولى من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بداره بباب المراتب بإذن الخليفة، وصلى عليه ابنه أبو الفضل‏.‏

 أبو سيف القزويني

عبد السلام بن محمد بن سيف بن بندار الشيخ، شيخ المعتزلة، قرأ على عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ورحل إلى مصر، وأقام بها أربعين سنة، وحصل كتباً كثيرة، وصنف تفسيراً في سبعمائة مجلد‏.‏ ‏

قال ابن الجوزي‏:‏ جمع فيه العجب، وتكلم على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ في مجلد كامل‏.‏

وقال ابن عقيل‏:‏ كان طويل اللسان بالعلم تارة، وبالشعر أخرى، وقد سمع الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، ومات ببغداد عن ست وتسعين سنة‏.‏

وما تزوج إلا في آخر عمره‏.‏

 أبو شجاع الوزير

محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم، أبو شجاع، الملقب ظهير الدين، الروذراوري الأصل الأهوازي المولد، كان من خيار الوزراء كثير الصدقة والإحسان إلى العلماء والفقهاء، وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره، وصنف كتباً، منها كتابه الذي ذيله على تجارب الأمم‏.‏

ووزر للخليفة المقتدي وكان يملك ستمائة ألف دينار، فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات، ووقف الوقوف الحسنة، وبنى المشاهد، وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام‏.‏

قال له رجل‏:‏ إلى جانبنا أرملة لها أربعة أولاد وهم عراة وجياع‏.‏

فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاماً، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد، وقال‏:‏ والله لا ألبسها حتى ترجع إلي بخبرهم‏.‏

فذهب الرجل مسرعاً بما أرسله على يديه إليهم، ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير، فسر بذلك ولبس ثيابه‏.‏

وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها، فأرسلها كلها إلى المساجد، وكانت كثيرة جداً، فأطعمها الفقراء والعميان، وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصتهم وعامتهم، ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة ثم مرض، فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبوية فقال‏:‏ يا رسول الله قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وأرجو شفاعتك يوم القيامة‏.‏

ثم مات من يومه ذلك، رحمه الله تعالى، ودفن في البقيع‏.‏ ‏

 القاضي أبو بكر الشاشي

محمد بن المظفر بن بكران الحموي أبو بكر الشاشي، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببلده، ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقدم بغداد فتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله، ولازم مسجده خمساً وخمسين سنة، يقرئ الناس ويفقههم، ولما مات الدامغاني أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفهم، لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صاحب هدية، ولم يغير ملبسه ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجراً ولم يستنب أحداً، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقاً، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقروا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدل على هذا‏.‏

وقد صنف كتاباً في ذلك، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين يقال له‏:‏ المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني، فلم يقبله، لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب، فقال له المدعي‏:‏ إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب‏.‏

فقال القاضي الشاشي‏:‏ والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما‏.‏

وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال‏:‏ لأي شيء ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت‏؟‏

فقال له‏:‏ لا أقبل لك شهادة، فإني رأيتك تغتسل في الحمام عرياناً غير مستور العورة، فلا أقبلك‏.‏

توفي يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالقرب من ابن شريح‏.‏

 أبو عبد الله الحميدي

محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد، الأندلسي من جزيرة يقال لها‏:‏ برقة قريبة من الأندلس، قدم بغداد فسمع بها الحديث، وكان حافظاً مكثراً أديباً ماهراً عفيفاً نزهاً، وهو صاحب ‏(‏الجمع بين الصحيحين‏)‏، وله غير ذلك من المصنفات، وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة، وقد جاوز التسعين، وقبره قريب من قبر بشر الحافي ببغداد‏.‏

 هبة الله بن الشيخ أبي الوفا بن عقيل

كان قد حفظ القرآن وتفقه وظهر منه نجابة، ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالاً جزيلة فلم يفد شيئاً، فقال له ابنه ذات يوم‏:‏ يا أبت إنك قد أكثرت الأدوية والأدعية، ولله فيّ اختيار فدعني واختيار الله فيّ‏.‏

قال أبوه‏:‏ فعلمت أنه لم يوفق لهذا الكلام إلا وقد اختير للحظوة، والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة

قال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ في هذه السنة حكم جهلة المنجمين أنه سيكون في هذه السنة طوفان قريب من طوفان نوح، وشاع الكلام بذلك بين العوام وخافوا، فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عشبون المنجم فسأله عن هذا الكلام فقال‏:‏ إن طوفان نوح كان في زمن اجتمع في بحر الحوت الطوالع السبعة، والآن فقد اجتمع فيه ستة ولم يجتمع معها زحل، فلا بد من وقوع طوفان في بعض البلاد، والأقرب أنها بغداد‏.‏

فتقدم الخليفة إلى وزيره بإصلاح المسيلات والمواضع التي يخشى انفجار الماء منها، وجعل الناس ينتظرون، فجاء الخبر بأن الحجاج حصلوا بوادي المناقب بعد نخلة فأتاهم سيل عظيم، فما نجا منهم إلا من تعلق برؤس الجبال، وأخذ الماء الجمال والرجال والرحال، فخلع الخليفة على ذلك المنجم وأجرى له جارية‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الأمير قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقتل شرف الدولة محمد بن مسلم بن قريش، وغرقه بعد حصار تسعة أشهر‏.‏

وفيها‏:‏ ملك تميم بن المعز المغربي مدينة قابس وأخرج منها أخاه عمر، فقال خطيب سوسة في ذلك أبياتاً‏:‏

ضحك الزمان وكان يلقى عابساً * لما فتحت بحد سيفك قابسا

وأتيتها بكراً وما أمهرتها * إلا قناً وصوارماً وفوراسا

الله يعلم ما جنيت ثمارها * إلا وكان أبوك قبلاً غارسا

من كان في زرق الأسنة خاطباً * كانت له قلل البلاد عرائسا

وفي صفر منها درس الشيخ أبو عبد الله الطبري بالنظامية، ولاه إياها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت خفاجة على بلاد سيف الدولة صدقة بن مزيد بن منصور بن دبيس وقصدوا مشهد الحسين بالحائر، وتظاهروا فيه بالمنكرات والفساد، فكبسهم فيه الأمير صدقة المذكور، فقتل منهم خلقاً كثيراً عند الضريح‏.‏

ومن العجائب أن أحدهم ألقى نفسه وفرسه من فوق السور فسلم وسلمت فرسه‏.‏

وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناني‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله

أخو أبي حكيم الخيري، وخير‏:‏ إحدى بلاد فارس، سمع الحديث وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكانت له معرفة بالفرائض والأدب واللغة، وله مصنفات، وكان مرضى الطريقة، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، فبينما هو ذات يوم يكتب وضع القلم من يده واستند وقال‏:‏ والله لئن كان هذا موتاً إنه لطيب‏.‏

ثم مات‏.‏

 عبد المحسن بن أحمد الشنجي

التاجر، ويعرف بابن شهداء مكة، بغدادي، سمع الحديث الكثير، ورحل وأكثر عن الخطيب وهو بصور، وهو الذي حمله إلى العراق، فلهذا أهدى إليه الخطيب ‏(‏تاريخ بغداد‏)‏ بخطه، وقد روى عنه في مصنفاته، وكان يسميه عبد الله، وكان ثقة‏.‏

 عبد الملك بن إبراهيم

ابن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمداني، تفقه على الماوردي، وكانت له يد طولى في العلوم الشريعة والحساب وغير ذلك، وكان يحفظ ‏(‏غريب الحديث‏)‏ لأبي عبيد، و‏(‏المجمل‏)‏ لابن فارس، وكان عفيفاً زاهداً، طلبه المقتدي ليوليه قاضي القضاة فأبى أشد الإباء، واعتذر له بالعجز وعلو السن، وكان ظريفاً لطيفاً، كان يقول‏:‏ كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده ثم يقول‏:‏ نويت أن أضرب ولدي تأديباً كما أمر الله‏.‏

ثم يضربني‏.‏

قال‏:‏ وإلى أن ينوي ويتمم النية كنت أهرب‏.‏

توفي في رجب منها ودفن عند قبر ابن شريح‏.‏

 محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن منصور

أبو بكر الدقاق، ويعرف بابن الخاضبة، كان معروفاً بالإفادة وجودة القراءة وحسن الخط وصحة النقل، جمع بين علم القراءات والحديث، وأكثر عن الخطيب وأصحاب المخلص‏.‏

قال‏:‏ لما غرقت بغداد غرقت داري وكتبي فلم يبق لي شيء، فاحتجت إلى النسخ، فكتبت ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ في تلك السنة سبع مرات، فنمت فرأيت ذات ليلة كأن القيامة قد قامت وقائل يقول‏:‏ أين ابن الخاضبة‏؟‏ ‏

فجئت فأدخلت الجنة فلما دخلتها استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت‏:‏ استرحت من النسخ، ثم استيقظت والقلم في يدي، والنسخ بين يدي‏.‏

 

 أبو المظفر السمعاني

منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد، أبو المظفر السمعاني، الحافظ، من أهل مرو، تفقه أولاً على أبيه في مذهب أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن أبي إسحاق وابن الصباغ، وكانت له يد طولى في فنون كثيرة، وصنف ‏(‏التفسير‏)‏، وكتاب ‏(‏الانتصار‏)‏ في الحديث، و‏(‏البرهان والقواطع‏)‏ في أصول الفقه، و‏(‏الاصطلام‏)‏ وغير ذلك، ووعظ في مدينة نيسابور، وكان يقول‏:‏ ما حفظت شيئاً فنسيته‏.‏

وسئل عن أخبار الصفات فقال‏:‏ عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب‏.‏

وسئل عن الاستواء فقال‏:‏

جئتماني لتعلما سر سعدى * تجداني بسر سعدى شحيحا

إن سعدى لمنية المتمني * جمعت عفة ووجهاً صبيحا

توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن في مقبرة مرو، رحمه الله تعالى وإيانا آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة

فيها‏:‏ كان ابتداء ملك الخوارزمية، وذلك أن السلطان بركيارق ملك فيها بلاد خراسان بعد مقتل عمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان وسلمها إلى أخيه المعروف بالملك سنجر، وجعل إتابكه الأمير قماج، ووزيره أبو الفتح علي بن الحسين الطغرائي، واستعمل على خراسان الأمير حبشي بن البرشاق، فولى مدينة خوارزم شاباً يقال له‏:‏ محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه من أمراء السلاجقة، ونشأ هو في أدب وفضيلة وحسن سيرة، ولما ولي مدينة خوارزم لقب خوارزم شاه، وكان أول ملوكهم، فأحسن السيرة وعامل الناس بالجميل، وكذلك ولده من بعده أتسز جرى على سيرة أبيه وأظهر العدل، فحظي عند السلطان سنجر وأحبه الناس، وارتفعت منزلته‏.‏

وفيها‏:‏ خطب الملك رضوان بن تاج الملك تتش للخليفة الفاطمي المستعلي‏.‏

وفي شوال قتل رجل باطني عند باب النوبى كان قد شهد عليه عدلان أحدهما ابن عقيل‏:‏ أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول‏:‏ أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله‏؟‏ ‏‏

فقال ابن عقيل‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ الآية وما بعدها ‏[‏غافر‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وفي رمضان منها قتل برسق أحد أكابر الأمراء، وكان أول من تولى شحنة بغداد‏.‏

وحج بالناس فيها خمارتكين الحسناني‏.‏

وفي يوم عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر بن بويه لأمور ثبتت عليه عند القاضي فأريق دمه ونقضت داره، وعمل مكانها مسجدان للحنفية والشافعية، وقد كان السلطان ملكشاه قد أقطعه المدائن ودير عاقول وغيرهما‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسن

ابن علي بن زكريا بن دينار، أبو يعلى العبدي البصري، ويعرف بابن الصواف، ولد سنة أربعمائة، وسمع الحديث، وكان زاهداً متصوفاً، وفقيهاً مدرساً، ذا سمت ووقار، وسكينة ودين، وكان علامة في عشرة علوم، توفي في رمضان منها عن تسعين سنة، رحمه الله‏.‏

 

 المعمر بن محمد

ابن المعمر بن أحمد بن محمد، أبو الغنائم الحسيني، سمع الحديث، وكان حسن الصورة كريم الأخلاق كثير التعبد، لا يعرف أنه آذى مسلماً ولا شتم صاحباً‏.‏

توفي عن نيف وستين سنة، وكان نقيباً ثنتين وثلاثين سنة، وكان من سادات قريش، وتولى بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولقب بالرضى ذي الفخرين، ورثاه الشعراء بأبيات ذكرها ابن الجوزي‏.‏

 يحيى بن أحمد بن محمد البستي

سمع الحديث ورحل فيه، وكان ثقة صالحاً صدوقاً أديباً، عمّر مائة سنة وثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهو مع ذلك صحيح الحواس، يقرأ عليه القرآن والحديث، رحمه الله وإيانا آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

في جمادى الأولى منها ملك الإفرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة بعض المستحفظين على بعض الأبراج، وهرب صاحبها باغيسيان في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندماً شديداً على ما فعل، بحيث إنه غشي عليه وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه وتركوه، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج، ولما بلغ الخبر إلى الأمير كربوقا صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة، واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض إنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأخذوا منهم أموالاً جزيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

ولما بلغ هذا الأمر الفظيع إلى الملك بركيارق شق عليه ذلك وكتب إلى الأمراء ببغداد أن يتجهزوا هم والوزير ابن جهير، لقتال الفرنج، فبرز بعض الجيش إلى ظاهر البلد بالجانب الغربي ثم انفسخت هذه العزيمة لأنهم بلغهم أن الفرنج في ألف ألف مقاتل، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وحج بالناس فيها خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 طراد بن محمد بن علي

ابن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عباس، أبو الفوارس بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن أبي تمام، من ولد زيد ابن بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي أم ولده عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن عبد الله بن عباس، سمع الحديث الكثير، والكتب الكبار، وتفرد بالرواية عن جماعة، ورحل إليه من الآفاق وأملى الحديث في بلدان شتى، وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات وحضر أبو عبد الله الدامغاني مجلسه، وباشر نقابة الطالبيين مدة طويلة، وتوفي عن نيف وتسعين سنة، ودفن في مقابر الشهداء، رحمه الله‏.‏

 المظفر أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء أبو القاسم

أبن المسلمة، كانت داره مجمعاً لأهل العلم والدين والأدب، وبها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق في تربته‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ أخذت الفرنج بيت المقدس‏.‏

لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً‏.‏ ‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلاً من فضة، زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي شعراً‏:‏

مزجنا دمانا بالدموع السواجم * فلم يبق منا عرضة للمراجم

وشر سلاح المرء دمع يريقه * إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فأيهاً بني الإسلام إن وراءكم * وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

وكيف تنام العين ملء جفونها * على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم * ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم * تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

ومنها قوله‏:‏

وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة * تظل لها الولدان شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها * ليسلم يقرع بعدها سن نادم

سللن بأيدي المشركين قواضباً * ستغمد منهم في الكلى والجماجم

يكاد لهن المستجير بطيبة * ينادي بأعلا الصوت يا آل هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا * رماحهم والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفاً من الردى * ولا يحسبون العار ضربة لازم

أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى * ويغضي على ذل كماة الأعاجم

فليتهموا إذ لم يذودوا حمية * عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى * فهلا أتوه رغبة في المغانم

وفيها‏:‏ كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملكشاه، وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمه، واستحفل إلى أن خطب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ سار إلى الري فوجد زبيدة خاتون أم أخيه بركيارق فأمر بخنقها، وكان عمرها إذ ذاك ثنتين وأربعين سنة، في ذي الحجة منها وكانت له مع بركيارق خمس وقعات هائلة‏.‏

وفيها‏:‏ غلت الأسعار جداً ببغداد، حتى مات كثير من الناس جوعاً، وأصابهم وباء شديد حتى عجزوا عن دفن الموتى من كثرتهم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 السلطان إبراهيم بن السلطان محمود

ابن مسعود بن السلطان محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة وأطراف الهند، وعدا ذلك، كانت له حرمه وأبهة عظيمة، وهيبة وافرة جداً‏.‏

حكى الكيا الهراسي‏:‏ حين بعثه السلطان بركيارق في رسالته إليه عما شاهده عنده من أمور السلطنة في ملبسه ومجلسه، وما رأى عنده من الأموال والسعادة الدنيوية، قال‏:‏ رأيت شيئاً عجيباً، وقد وقد وعظه بحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا‏)‏‏)‏ فبكى‏.‏

قال‏:‏ وكان لا يبني لنفسه منزلاً إلا بنى قبله مسجداً أو مدرسة أو رباطاً‏.‏

توفي في رجب منها وقد جاوز التسعين، وكانت مدة ملكه منها ثنتين وأربعين سنة‏.‏

 عبد الباقي بن يوسف

ابن علي بن صالح، أبو تراب البراعي، ولد سنة إحدى وأربعمائة وتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع الحديث عليه وعلى غيره، ثم أقام بنيسابور‏.‏ ‏

وكان يحفظ شيئاً كثيراً من الحكايات والملح، وكان صبوراً متقللاً من الدنيا، على طريقة السلف، جاءه منشور بقضاء همدان فقال‏:‏ أنا منتظر منشور من الله عز وجل، على يدي ملك الموت بالقدوم عليه، والله لجلوس ساعة في هذه المسلة على راحة القلب أحب إليّ من ملك العراقين، وتعليم مسألة لطالب أحب إليّ مما على الأرض من شيء، والله لا أفلح قلب يعلق بالدنيا وأهلها، وإنما العلم دليل، فمن لم يدله علمه على الزهد في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم، ولو علم ما علم، فإنما ذلك ظاهر من العلم، والعلم النافع وراء ذلك، والله لو قطعت يدي ورجلي وقلعت عيني أحب إليّ من ولاية فيها انقطاع عن الله والدار الآخرة، وما هو سبب فوز المتقين وسعادة المؤمنين‏.‏

توفي رحمه الله في ذي القعدة من هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، رحمه الله آمين‏.‏

 أبو القاسم ابن إمام الحرمين

قتله بعض الباطنية بنيسابور رحمه الله ورحم أباه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

في صفر منها دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، ونزل بدار الملك، وأعيدت له الخطبة، وقطعت خطبة أخيه محمد، وبعث إليه الخليفة هدية هائلة، وفرح به العوام والنساء، ولكنه في ضيق من أمر أخيه محمد، لإقبال الدولة عليه واجتماعهم إليه، وقلة ما معه من أموال، ومطالبة الجند له بأرزاقهم، فعزم على مصادرة الوزير ابن جهير، فالتجأ إلى الخليفة فمنعه من ذلك‏.‏

ثم اتفق الحال على المصالحة عنه بمائة ألف وستين ألف دينار، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكان قريب من همدان، فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسه في خمسين فارساً، وقتل في هذه الوقعة سعد الدولة جوهر آيين الخادم، وكان قديم الهجرة في الدولة، وقد ولى شحنة بغداد‏.‏

وكان حليماً حسن السيرة، لم يتعمد ظلم أحد، ولم ير خادم ما رأى، من الحشمة والحرمة وكثرة الخدم، وقد كان يكثر الصلاة بالليل، ولا يجلس إلا على وضوء، ولم يمرض مدة حياته ولم يصدع قط‏.‏

ولما جرى ما جرى في هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركيارق، ثم تراجع إليه جيشه وانضاف إليه الأمير داود في عشرين ألفاً، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضاً وهرب في شرذمة قليلة، وأسر الأمير داود فقتله الأمير برغش أحد أمراء سنجر، فضعف بركيارق وتفرقت عنه رجاله، وقطعت خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت خطبة السلطان محمد‏.‏

وفي رمضان منها قبض على الوزير عميد الدولة بن جهير، وعلى أخويه زعيم الرؤساء أبي القاسم، وأبي البركات الملقب بالكافي، وأخذت منهم أموال كثيرة وحبس بدار الخلافة حتى مات في شوال منها‏.‏

وفي ليلة السابع والعشرين منه قتل الأمير بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان، ضربه باطني بسكين في خاصرته وقد كان يتحرز منهم كثيراً، وكان يدرع تحت ثيابه سوى هذه الليلة، ومات من أولاده في هذه الليلة جماعة خرج من داره خمس جنائز من صبيحتها‏.‏

وفيها‏:‏ أقبل ملك الفرنج في ثلاثمائة ألف مقاتل فالتقى معه ستكين بن انشمند طايلو، إتابك دمشق الذي يقال له‏:‏ أمين الدولة، واقف الأمينية بدمشق وببصرى، لا التي ببعلبك، فهزم الأفرنج وقتل منهم خلقاً كثيراً، بحيث لم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف، وأكثرهم جرحى - يعني الثلاثة آلاف - وذلك في ذي القعدة منها، ولحقهم إلى ملطية فملكها وأسر ملكها ولله الحمد‏.‏

وحج بالناس الأمير التونتاش التركي، وكان شافعي المذهب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الرزاق الغزنوي الصوفي

شيخ رباط عتّاب‏:‏ حج مرات على التجريد، مات وله نحو مائة سنة، ولم يترك كفناً، وقد قالت له امرأته لما احتضر‏:‏ سنفتضح اليوم‏.‏

قال‏:‏ لم ‏؟‏

قالت له‏:‏ لأنه لا يوجد لك كفن‏.‏

فقال لها‏:‏ لو تركت كفناً لافتضحت‏.‏

وعكسه أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان، كان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفاً، ويظهر الزهد، وحين توفي وجد له أربعة آلاف دينار مدفونة، فتعجب الناس من حاليهما، فرحم الله الأول، وسامح الثاني‏.‏

 الوزير عميد الدولة بن جهير

محمد بن أبي نصر بن محمد بن جهير الوزير، أبو منصور، كان أحد رؤساء الوزراء، خدم ثلاثة من الخلفاء، وزر لاثنين منهم، وكان حليماً قليل العجلة، غير أنه كان يتكلم فيه بسبب الكبر، وقد ولي الوزارة مرات، يعزل ثم يعاد، ثم كان آخرها هذه المرة حبس بدار الخلافة فلم يخرج من السجن إلا ميتاً، في شوال منها‏.‏ ‏‏

 ابن جَزْلة الطبيب

يحيى بن عيسى بن جزلة صاحب المنهاج في الطب، كان نصرانياً ثم كان يتردد إلى الشيخ أبي علي بن الوليد المغربي، يشتغل عليه في المنطق، وكان أبو علي يدعوه إلى الإسلام ويوضح له الدلالات حتى أسلم وحسن إسلامه، واستخلفه الدامغاني في كتب السجلات، ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر، وربما ركب لهم الأدوية من ماله تبرعاً، وقد أوصى بكتبه أن تكون وقفا بمشهد أبي حنيفة، رحمه الله وإيانا آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقاً كثيراً، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم‏:‏ إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاعٍ كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة ثلاث وثمانين، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها‏.‏

ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبياً جاهلاً، لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال، أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله‏.‏

ثم يقول له‏:‏ فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب‏.‏

ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا الجهال، حتى التف عليه بشرٌ كثير، وجمٌ غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك‏.‏

وبعث إليه بفتاوى العلماء فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب‏:‏ إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه، فاشرأبت وجوه الحاضرين‏.‏

ثم قال لشباب منهم‏:‏ اقتل نفسك فأخرج سكينا فضرب بها غلصمته فسقط ميتاً‏.‏

وقال لآخر منهم‏:‏ ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع‏.‏

ثم قال لرسول السلطان‏:‏ هذا الجواب‏.‏

فمنها امتنع السلطان من مراسلته، هكذا ذكره ابن الجوزي‏.‏

وسيأتي ما جرى للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس، وما جرى له مع سنان صاحب الإيوان مثل هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي شهر رمضان‏:‏ أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر، وأن لا يبيض، وأن يصلى فيه التراويح، وأن يجهر بالبسملة، وأن يمنع النساء من الخروج ليلاً للفرجة‏.‏

وفي أول هذه السنة‏:‏ دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، فخطب له بها، ثم لحقه أخواه محمد وسنجر فدخلاها وهو مريض فعبرا في الجانب الغربي فقطعت خطبته وخطب لهما بها‏.‏

وهرب بركيارق إلى واسط، ونهب جيشه ما اجتازوا به من البلاد والأراضي، فنهاه بعض العلماء عن ذلك، ووعظه فلم يفد شيئاً‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ملكت الفرنج قلاعاً كثيرةً منها‏:‏ قيسارية، وسروج، وسار ملك الفرنج كندر - وهو الذي أخذ بيت المقدس - إلى عكا فحاصرها، فجاءه سهم في عنقه فمات من فوره لعنه الله‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

ابن عبد الواحد بن الصباح، أبو منصور، سمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، ثم على ابن عمه أبي نصر بن الصباح، وكان فقيهاً فاضلاً كثير الصلاة، يصوم الدهر، وقد ولي القضاء بربع الكرخ والحسبة بالجانب الغربي‏.‏

 عبد الله بن الحسن

ابن أبي منصور أبو محمد الطبسي، رحل إلى الآفاق وجمع وصنف، وكان أحد الحفاظ المكثرين ثقةً صدوقاً عالماً بالحديث، ورعاً حسن الخلق‏.‏

 عبد الرحمن بن أحمد

ابن محمد أبو محمد الرزاز السرخسي، نزل مرو وسمع الحديث وأملى ورحل إليه العلماء، وكان حافظاً لمذهب الشافعي، متديناً ورعاً، رحمه الله‏.‏

 عزيز بن عبد الملك

منصور أبو المعالي الجيلي القاضي الملقب‏:‏ سيدله، كان شافعياً في الفروع، أشعرياً في الأصول، وكان حاكماً بباب الأزج، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير‏.‏

سمع رجلاً ينادي على حمار له ضائع فقال‏:‏ يدخل الأزج ويأخذ بيد من شاء‏.‏

وقال يوماً للنقيب طراد الزينبي‏:‏ لو حلف إنسان أنه لا يرى إنسانا فرأى أهل باب الأزج لم يحنث‏.‏

فقال له الشريف‏:‏ من عاشر قوماً أربعين يوماً فهو منهم‏.‏ ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيراً‏.‏ ‏

 محمد بن أحمد

ابن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق، أبو الفضائل الربعي الموصلي، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع من القاضي أبي الطيب الطبري، وكان ثقة صالحاً، كتب الكثير‏.‏

 محمد بن الحسن

أبو عبد الله المرادي، نزل أوان وكان مقرئاً فقيهاً صالحاً، له كرامات ومكاشفات، أخذ عن القاضي أبي يعلي بن الفراء الحديث وغيره‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ بلغني أن ابنا له صغيراً طلب منه غزالاً وألح عليه، فقال له‏:‏ يا بني غداً يأتيك غزال، فلما كان الغد أتت غزال فصارت تنطح الباب بقرنيها حتى فتحته‏.‏

فقال له أبوه‏:‏ يا بني أتتك الغزال‏.‏

 محمد بن علي بن عبيد الله

ابن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان، أبو نصر الموصل القاضي، قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين، وحدث عن عمه بالأربعين الودعانية، وقد سرقها عمه أبو الفتح بن ودعان من زيد بن رفاعة الهاشمي، فركب لها أسانيد إلى من بعد زيد بن رفاعة، وهي موضوعة كلها، وإن كان في بعضها معاني صحيحة، والله أعلم‏.‏

 محمد بن منصور

أبو سعد المستوفي شرف الملك الخوارزمي، جليل القدر، وكان متعصباً لأصحاب أبي حنيفة، ووقف لهم مدرسة بمرو، ووقف فيها كتباً كثيرة، وبنى مدرسة ببغداد عند باب الطاق، وبنى القبة على قبر أبي حنيفة، وبنى أربطة في المفاوز، وعمل خيراً كثيراً، وكان من آكل الناس مأكلاً ومشرباً، وأحسنهم ملبساً، وأكثرهم مالاً، ثم نزل العمالة بعد هذا كله، وأقبل على العبادة والاشتغال بنفسه إلى أن مات‏.‏

 

 محمد بن منصور القسري

المعروف‏:‏ بعميد خراسان، قدم بغداد أيام طغرلبك، وحدث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن مسرور، وكان كثير الرغبة في الخير، وقف بمرو مدرسة على أبي بكر بن أبي المظفر السمعاني وورثته‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ فهم يتولونها إلى الآن، وبنى بنيسابور مدرسة، وفيها تربته‏.‏

وكانت وفاته في شوال من هذه السنة‏.‏

 نصر بن أحمد

ابن عبد الله بن البطران الخطابي البزار القارئ‏.‏

ولد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وسمع الكثير، وتفرد عن ابن زرقويه وغيره، وطال عمره، ورحل إليه من الآفاق، وكان صحيح السماع‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة

في ثالث المحرم منها، قبض على أبي الحسن علي بن محمد المعروف‏:‏ بالكيا الهراسي، وعزل عن تدريس النظامية، وذلك أنه رماه بعضهم عند السلطان بأنه باطني، فشهد له جماعة من العلماء - منهم ابن عقيل - ببراءته من ذلك، وجاءت الرسالة من دار الخلافة يوم الثلاثاء بخلاصة‏.‏

وفيها‏:‏ في يوم الثلاثاء الحادي عشر من المحرم جلس الخليفة المستظهر بدار الخلافة وعلى كتفيه البردة والقضيب بيده، وجاء الملكان الأخوان محمد وسنجر أبناء ملكشاه، فقبلا الأرض وخلع عليهما الخلع السلطانية، على محمد سيفاً وطوقاً وسوار لؤلؤ وأفراساً من مراكبه، وعلى سنجر دون ذلك، وولى السلطان محمد الملك، واستنابه في جميع ما يتعلق بأمر الخلافة، دون ما أغلق عليه الخليفة بابه، ثم خرج السلطان محمد في تاسع عشر الشهر فأرجف الناس، وخرج بركيارق فأقبل السلطان محمد فالتقوا وجرت حروب كثيرة، وانهزم محمد وجرى عليه مكروه شديد، كما سيأتي بيانه‏.‏

وفي رجب منها قبل القاضي أبو الحسن بن الدامغاني شهادة أبي الحسين وأبي حازم ابني القاضي أبي يعلي ابن الفراء‏.‏

وفيها‏:‏ قدم عيسى بن عبد الله القونوي فوعظ الناس وكان شافعياً أشعرياً، فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعرية ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم ببغداد‏.‏

وحج بالناس حميد العمري صاحب سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس، صاحب الحلة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو القاسم صاحب مصر

الخليفة الملقب بالمستعلي، في ذي الحجة منها، وقام بالأمر بعده ابنه علي وله تسع سنين، ولقب بالآمر بأحكام الله‏.‏ ‏

 محمد بن هبة الله

أبو نصر القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعي، أخذ عن الشيخ أبي إسحاق ثم جاور بمكة أربعين سنة، يفتي ويدرس ويروي الحديث ويحج، من شعره قوله‏:‏

عدمتك نفسي ما تملي بطالتي * وقد مر أصحابي وأهل مودتي

أعاهد ربي ثم أنقض عهده * وأترك عزمي حين تعرض شهوتي

وزادي قليل ما أراه مبلغي * أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي

 ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ حاصر السلطان بركيارق أخاه محمداً بأصبهان، فضاقت على أهلها الأرزاق، واشتد الغلاء عندهم جداً، وأخذ السلطان محمد أهلها بالمصادرة والحصار حولهم من خارج البلد، فاجتمع عليهم الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هارباً فأرسل أخوه في أثره مملوكه إياز، فلم يتمكن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالماً‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي صفر منها زيد في ألقاب قاضي القضاة أبي الحسن بن الدمغاني تاج الإسلام‏.‏

وفي ربيع الأول قطعت الخطبة للسلاطين ببغداد، واقتصر على ذكر الخليفة فيها، والدعاء له، ثم التقى الأخوان بركيارق ومحمد، فانهزم محمد أيضاً ثم اصطلحا‏.‏

وفيها‏:‏ ملك دقاق بن تتش صاحب دمشق مدينة الرحبة‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أبو المظفر الخجندي الواعظ بالري، وكان فقيهاً شافعياً مدرساً، قتله رافضي علوي في الفتنة، وكان عالماً فاضلاً، كان نظام الملك يزوره ويعظمه‏.‏

وحج بالناس خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي

ابن عبد الله بن سوار، أبو طاهر المقري، صاحب المصنفات في علوم القرآن، كان ثقة ثبتاً مأموناً عالماً بهذا الشأن، قد جاوز الثمانين‏.‏

 أبو المعالي

أحد الصلحاء الزهاد، ذوي الكرامات والمكاشفات، وكان كثير العبادة متقللاً من الدنيا، لا يلبس صيفاً ولا شتاء إلا قميصاً واحداً، فإذا اشتد البرد وضع على كتفه مئزراً، وذكر أنه أصابته فاقة شديدة في رمضان، فعزم على الذهاب إلى بعض الأصحاب ليستقرض منه شيئاً، قال‏:‏ فبينما أنا أريده إذا بطائر قد سقط على كتفي، وقال‏:‏ يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمض إليه نحن نأتيك به‏.‏

قال‏:‏ فبكر إلى الرجل‏.‏

رواه ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏ من طرق عدة، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن قريباً من قبر أحمد‏.‏

 السيدة بنت القائم بأمر الله

أمير المؤمنين التي تزوجها طغرلبك، دفنت بالرصافة، وكانت كثيرة الصدقة، وجلس لعزائها في بيت النوبة الوزير، والله أعلم‏.‏

 

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ قصد الفرنج لعنهم الله الشام فقاتلهم المسلمون فقتلوا من الفرج اثني عشر ألفاً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وقد أسر في هذه الوقعة بردويل صاحب الرها‏.‏

وفيها‏:‏ سقطت منارة واسط وقد كانت من أحسن المنائر، كان أهل البلد يفتخرون بها وبقبة الحجاج، فلما سقطت سمع لأهل البلد بكاء وعويل شديد، ومع هذا لم يهلك بسببها أحد، وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمائة في زمن المقتدر‏.‏

وفيها‏:‏ تأكد الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد، وبعث إليه بالخلع وإلى الأمير إياز‏.‏

وفيها‏:‏ أخذت مدينة عكا وغيرها من السواحل‏.‏

وفيها‏:‏ استولى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحلة على مدينة واسط‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الملك دقاق بن تتش صاحب دمشق، فأقام مملوكه طغتكين ولداً له صغيراً مكانه، وأخذ البيعة له، وصار هو أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطغرائي ونفاه إلى غزنة‏.‏

وفيها‏:‏ ولي أبو نصر نظام الحضريين ديوان الإنشاء‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الطبيب الماهر الحاذق أبو نعيم، وكانت له إصابات عجيبة‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أزردشير بن منصور

أبو الحسن العبادي الواعظ، تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها فأحبته العامة في سنة ست وثمانين، وقد كانت له أحوال جيدة فيما يظهر، والله أعلم‏.‏

 إسماعيل بن محمد

ابن أحمد بن عثمان، أبو الفرج القومساني، من أهل همدان، سمع من أبيه وجده، وكان حافظاً حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون، مأموناً‏.‏

 العلا بن أحمد بن وهب

ابن الموصلايا، سعد الدولة، كاتب الإنشاء ببغداد، وكان نصرانياً فأسلم في سنة أربع وثمانين فمكث في الرياسة مدة طويلة، نحواً من خمس وستين سنة، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة، وتوفي عن عمر طويل‏.‏

 محمد بن أحمد بن عمر

أبو عمر النهاوندي، قاضي البصرة مدة طويلة، وكان فقيهاً، سمع من أبي الحسن الماوردي وغيره، مولده في سنة سبع، وقيل‏:‏ تسع، وأربعمائة، والله أعلم‏.‏

 

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ توفي السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملكشاه، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب له ببغداد، ونثر عند ذكره الدنانير والدراهم، وجعل أتابكه الأمير إياز ولقب جلال الدولة، ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وصالحوه، وكان الذي أخذ البيعة بالصلح الكيا الهراسي، وخطب له بالجانب الغربي، ولابن أخيه بالجانب الشرقي، ثم قتل الأمير إياز وحملت إليه الخلع والدولة والدست، وحضر الوزير سعد الدولة عند الكيا الهراسي، في درس النظامية، ليرغب الناس في العلم‏.‏

وفي ثامن رجب منها أزيل الغيار عن أهل الذمة الذين كانوا ألزموه في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولا يعرف ماسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة ما بين المصريين والفرنج، فقتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً، ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقاً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 السلطان بركيارق بن ملكشاه

ركن الدولة السلجوقي، جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة، خطب له ببغداد ست مرات، ثم تنقطع الخطبة له ثم تعاد، مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهور، ثم قام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتم له الأمر بسبب عمه محمد‏.‏

 عيسى بن عبد الله

القاسم أبو الوليد الغزنوي الأشعري، كان متعصباً للأشعري، خرج من بغداد قاصداً لبلده فتوفي بإسفرايين‏.‏

 محمد بن أحمد بن إبراهيم

ابن سلفة الأصبهاني، أبو أحمد، كان شيخاً عفيفاً ثقة، سمع الكثير، وهو والد الحافظ أبي طاهر السلفي الحافظ‏.‏

 أبو علي الخيالي‏:‏ الحسين بن محمد

ابن أحمد الغساني الأندلسي، مصنف ‏(‏تقييد المهمل على الألفاظ‏)‏، وهو كتاب مفيد كثير النفع وكان حسن الخط عالماً باللغة والشعر والأدب، وكان يسمع في جامع قرطبة، توفي ليلة الجمعة لثنتي عشرة خلت من شعبان، عن إحدى وسبعين سنة‏.‏

محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر

أبو الحسن الواسطي، سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الأدب وقال الشعر‏.‏

من ذلك قوله‏:‏

من قال لي جاه ولي حشمة * ولي قبول عند مولانا

ولم يعد ذاك بنفع على * صديقه لا كان ما كانا

 

 

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة

في المحرم منها ادعى رجل النبوة بنواحي نهاوند، وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء الأربعة فاتبعه على ضلالته خلق من الجهلة الرعاع، وباعوا أملاكهم ودفعوا أثمانها إليه، وكان كريماً يعطي من قصده ما عنده، ثم إنه قتل بتلك الناحية‏.‏

ورام رجل آخر من ولد ألب أرسلان بتلك الناحية الملك فلم يتم أمره، بل قبض عليه في أقل من شهرين، وكانوا يقولون‏:‏ ادعى رجل النبوة وآخر الملك، فما كان بأسرع من زوال دولتهما‏.‏

وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة، فأتلفت شيئاً كثيراً من الغلات، وغرقت دور كثيرة ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج، وعاد مؤيداً منصوراً إلى دمشق، وزينت البلد زينة عجيبة مليحة، سروراً بكسره الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ في رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين‏.‏

وفيها‏:‏ ورد إلى بغداد ملك من الملوك وصحبته رجل يقال له‏:‏ الفقيه، فوعظ الناس في جامع القصر‏.‏

وحج بالناس رجل من أقرباء الأمير سيف الدولة صدقة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو الفتح الحاكم

سمع الحديث من البيهقي وغيره، وعلق عن القاضي حسين طريقه وشكره في ذلك، وكان قد تفقه أولاً على الشيخ أبي علي السنجي، ثم تفقه وعلق عن إمام الحرمين في الأصول بحضرته، واستجاده وولي بلده مدة طويلة، وناظر، ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وتلاوة القرآن‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وبنى للصوفية رباطاً من ماله، ولزم التعبد إلى أن مات في مستهل المحرم من هذه السنة‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن علي بن عبد الرزاق، أبو منصور الحناط، أحد القراء والصلحاء، ختم ألوفاً من الناس، وسمع الحديث الكثير، وحين توفي اجتمع العالم في جنازته اجتماعاً لم يجتمع لغيره مثله، ولم يعهد له نظير في تلك الأزمان، وكان عمره يوم توفي سبعاً وتسعين سنة، رحمه الله‏.‏

وقد رثاه الشعراء، ورآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بتعليمي الصبيان الفاتحة‏.‏ ‏

 محمد بن عبيد الله بن الحسن

ابن الحسين، أبو الفرج البصري قاضيها، سمع أبا الطيب الطبري والماوردي وغيرهما، ورحل في طلب الحديث، وكان عابداً خاشعاً عند الذكر‏.‏

 مهارش بن مجلي

أمير العرب بحديثة عانة، وهو الذي أودع عنده القائم بأمر الله، حين كانت فتنة البساسيري، فأكرم الخليفة حين ورد عليه، ثم جازاه الخليفة الجزاء الأوفى، وكان الأمير مهارش هذا كثير الصدقة والصلاة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، رحمه الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة خمسمائة من الهجرة

قال أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم‏)‏‏)‏‏.‏

حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يوم‏.‏

قيل لسعد‏:‏ وكم نصف يوم ‏؟‏

قال‏:‏ خمسمائة سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا من دلائل النبوة‏.‏

وذكر هذه المدة لا ينفي زيادة عليها، كما هو الواقع، لأنه عليه السلام ذكر شيئاً من أشراط الساعة لا بد من وقوعها كما أخبر سواء بسواء‏.‏

وسيأتي ذكرها فيما بعد زماننا، وبالله المستعان‏.‏

ومما وقع في هذه السنة من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعاً كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل خلقاً منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان، في رأس جبل منيع هناك، وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده فهرب منه كلب فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل من رسل الروم، فقال الرومي‏:‏ لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتخذنا عليه قلعة‏.‏ ‏

فحدا هذا الكلام السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعة أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له‏:‏ أحمد بن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبناً وقطع رأسه، وطاف به في الأقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجراً حجراً، وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفسية، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة، يقولون‏:‏ كان دليلها كلباً، والمشير بها كافراً، والمتحصن بها زنديقاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عبادة، فقهرت عبادة خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها‏.‏

وفيها‏:‏ استحوذ سيف الدولة صدقة على مدينة تكريت بعد قتال كثير‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل السلطان محمد الأمير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إياها، فذهب فانتزعها من الأمير جكرمش بعد ما قاتله وهزم أصحابه وأسره، ثم قتله بعد ذلك؛ وقد كان جكرمش من خيار الأمراء سيرة وعدلاً وإحساناً، ثم أقبل قلج أرسلان بن قتلمش فحاصر الموصل فانتزعها من جاولي، فصار جاولي إلى الرحبة، فأخذها ثم أقبل إلى قتال قلج فكسره وألقى قلج نفسه في النهر الذي للخابور فهلك‏.‏

وفيها‏:‏ نشأت حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ولله الحمد، وقتل من الفريقين طائفة كبيرة، ثم كانت الهزيمة على الفرنج، ولله الحمد رب العالمين‏.‏

قتل فخر الملك أبو المظفر

وفي يوم عاشوراء منها قتل فخر الملك أبو المظفر بن نظام الملك، وكان أكبر أولاد أبيه، وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائماً، قتله باطني، وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين بن علي وهو يقول له‏:‏ عجل إلينا وأفطر عندنا الليلة‏.‏

فأصبح متعجباً، فنوى الصوم ذلك اليوم، وأشار إليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من المنزل، فما خرج إلا في آخر النهار فرأى شاباً يتظلم وفي يده رقعة فقال‏:‏ ما شأنك‏؟‏

فناوله الرقعة فبينما هو يقرؤها إذ ضربه بخنجر بيده فقتله، فأخذ الباطني فرفع إلى السلطان فقرره فأقر على جماعة من أصحاب الوزير أنهم أمروه بذلك، وكان كاذباً، فقتل وقتلوا أيضاً‏.‏

وفي رابع عشر صفر عزل الخليفة الوزير أبا القاسم علي بن جُهير وخرب داره التي كان قد بناها أبوه، من خراب بيوت الناس، فكان في ذلك عبرة وموعظة لذوي البصائر والنهى، واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن الدامغاني، ومعه آخر‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير تركمان واسمه أليرن، من جهة الأمير محمد بن ملكشاه‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن المظفر

أبو المظفر الخوافي الفقيه الشافعي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين، وكان أوجه تلامذته، وقد ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهوراً بحسن المناظرة وإفحام الخصوم، قال‏:‏ والخوافي بفتح الخاء والواو نسبة إلى خواف، ناحية من نواحي نيسابور‏.‏

 جعفر بن محمد‏.‏

ابن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، أبو محمد القاري البغدادي، ولد سنة ست عشرة وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الكثير من الأحاديث النبويات، من المشايخ والشيخات في بلدان متباينات، وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء مسموعاته، وكان صحيح الثبت، جيد الذهن، أديباً شاعراً، حسن النظم، نظم كتاباً في القراءات، وكتاب ‏(‏التنبيه والخرقى‏)‏ وغير ذلك، وله كتاب ‏(‏مصارع العشاق‏)‏ وغير ذلك، ومن شعره قوله‏:‏

قتل الذين بجهلهم * أضحوا يعيبون المحابر

والحاملين لها من الـ * ـأيدي بمجتمع الأساور

لولا المحابر والمقا * لم والصحائف والدفاتر

والحافظون شريعة الـ * ـمبعوث من خير العشائر

والناقلون حديثه عن * كابر ثبت وكابر

لرأيت من بشع الضلا * ل عساكراً تتلو عساكر

كل يقول بجهله * والله للمظلوم ناصر

سميتهم أهل الحديث * أولي النهى وأولي البصائر

هم حشو جنات النعيم * على الأسرة والمنابر

رفقاء أحمد كلهم * عن حوضه ريان صادر

وذكر له ابن خلكان أشعاراً رائقة منها قوله‏:‏

ومدّع شرخ الشباب وقد * عممه الشيب على وفرته

يخضب بالوشمة عثنونه * يكفيه أن يكذب في لحيته

 عبد الوهاب بن محمد

ابن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي الفارسي، سمع الحديث الكثير، وتفقه وولاه نظام الملك تدريس النظامية ببغداد، في سنة ثلاث وثمانين، فدرس بها مدة، وكان يملي الأحاديث، وكان كثير التصحيف، روى مرة حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ كتاب في غلس‏.‏

ثم أخذ يفسر ذلك بأنه أكثر لإضاءتها‏.‏

 محمد بن إبراهيم

ابن عبيد الأسدي الشاعر، لقي الخنيسي التهامي، وكان مغرماً بما يعارض شعره، وقد أقام باليمن وبالعراق ثم بالحجاز ثم بخراسان، ومن شعره‏:‏

قلت ثقلت إذ أتيت مراراً * قال ثقلت كاهلي بالأيادي

قلت طولت قال بل تطولت * قلت مزقت قال حبل ودادي

 يوسف بن علي

أبو القاسم الزنجاني الفقيه، كان من أهل الديانة، حكى عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب، قال‏:‏ كنا يوماً بجامع المنصور في حلقة فجاء شاب خراساني فذكر حديث أبي هريرة في المطر فقال الشاب‏:‏ غير مقبول‏.‏

فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حية فنهض الناس هاربين وتبعت الحية ذلك الشاب من بينهم، فقيل له‏:‏ تب تب‏.‏

فقال‏:‏ تبت‏.‏

فذهبت فلا ندري أين ذهبت‏.‏

رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي المعمر الأنصاري عن أبي القاسم هذا، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة من الهجرة

فيها‏:‏ جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وأكرمه وعظمه‏.‏

وفي ربيع الآخر منها دخل السلطان محمد إلى بغداد فتلقاه الوزير والأعيان، وأحسن إلى أهلها، ولم يتعرض أحد من جيشه إلى شيء‏.‏

وغضب السلطان على صدقة بن منصور الأسدي صاحب الحلة وتكريت بسبب أنه آوى رجلاً من أعدائه يقال له‏:‏ أبو دلف سرحان الديلمي، صاحب ساوة، وبعث إليه ليرسله إليه فلم يفعل، فأرسل إليه جيشاً فهزموا جيش صدقة‏.‏

وقد كان جيشه عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل، وقتل صدقة في المعركة، وأسر جماعة من رؤس أصحابه وأخذوا من زوجته خمسمائة ألف دينار، وجواهر نفيسة‏.‏ ‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس، وما في نفوسهم من الضمائر والنيات، وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها ليعلموا حالها فلم يعلموا‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام، حتى سألوها عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة، وعن أنواع الفصوص وصفات الأشخاص وما في داخل البنادق من المشمع والطين المختلف، والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء بسواء، حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فقالت‏:‏ يحمله إلى أهله وعياله‏.‏

وفيها‏:‏ قدم القاضي فخر الملك أبو عبيد علي صاحب طرابلس إلى بغداد يستنفر المسلمين على الفرنج، فأكرمه السلطان غياث الدين محمد إكراماً زائداً، وخلع عليه وبعث معه الجيوش الكثيرة لقتال الفرنج‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 تميم بن المعز بن باديس

صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك حلماً وكرماً، وإحساناً، ملك ستاً وأربعين سنة، وعمر تسعاً وتسعين سنة، وترك من البنين أنهد من مائة، ومن البنات ستين بنتاً، وملك من بعده ولده يحيى، ومن أحسن ما مدح به الأمير تميم قول الشاعر‏:‏

أصح وأعلى ما سمعناه في الندا * من الخبر المرويّ منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا * عن البحر عن كف الأمير تميم

 صدقة بن منصور

ابن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، الأمير سيف الدولة، صاحب الحلة وتكريت وواسط وغيرها، كان كريماً عفيفاً ذا ذمام، ملجأ لكل خائف يأمن في بلاده، وتحت جناحه، وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة، وقد اقتنى كتباً نفيسة جداً، وكان لا يتزوج على امرأة قط، ولا يتسرى على سرية حفظاً للذمام، ولئلا يكسر قلب أحد، وقد مدح بأوصاف جميلة كثيرة جداً‏.‏

قتل في بعض الحروب، قتله غلام اسمه برغش، وكان له من العمر تسع وخمسون سنة، رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وخمسمائة

في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد، على صداق مائة ألف دينار، ونثر الذهب، وكتب العقد بأصبهان‏.‏

وفيها‏:‏ كانت الحروب الكثيرة بين الأتابك طغتكين صاحب دمشق وبين الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ ملك سعيد بن حميد العمري الحلة السيفية‏.‏

وفيها‏:‏ زادت دجلة زيادة كثيرة فغرقت الغلات فغلت الأسعار بسبب ذلك غلاء شديداً‏.‏

وحج بالناس الأمير قيماز‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 الحسن العلوي

أبو هاشم ابن رئيس همدان، وكان ذا مال جزيل، صادره السلطان في بعض الأوقات بتسعمائة ألف دينار، فوزنها ولم يبع فيها عقاراً ولا غيره‏.‏

 الحسن بن علي

أبو الفوارس بن الخازن، الكاتب المشهور بالخط المنسوب‏.‏

توفي في ذي الحجة منها‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كتب بيده خمسمائة ختمة، مات فجأة‏.‏

 الروياني صاحب البحر

عبد الواحد بن إسماعيل، أبو المحاسن الروياني، من أهل طبرستان، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة، ورحل إلى الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر، وحصل علوماً جمة وسمع الحديث الكثير، وصنف كتباً في المذهب من ذلك ‏(‏البحر‏)‏ في الفروع، وهو حافل كامل شامل للغرائب وغيرها، وفي المثل‏:‏ ‏(‏حدث عن البحر ولا حرج‏)‏‏.‏

وكان يقول‏:‏ لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي‏.‏

قتل ظلماً يوم الجمعة، وهو يوم عاشوراء في الجامع بطبرستان، قتله رجل من أهلها، رحمه الله‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ أخذ الفقه عن ناصر المروزي وعلق عنه، وكان للروياني الجاه العظيم، والحرمة الوافرة، وقد صنف كتباً في الأصول والفروع، منها ‏(‏بحر المذهب‏)‏، وكتاب ‏(‏مناصيص الإمام الشافعي‏)‏، وكتاب ‏(‏الكافي‏)‏، و‏(‏حلية المؤمن‏)‏، وله كتب في الخلاف أيضاً‏.‏

 يحيى بن علي

ابن محمد بن الحسن بن بسطام، الشيباني التبريزي، أبو زكريا، أحد أئمة اللغة والنحو، قرأ على أبي العلاء وغيره، وتخرج به جماعة منهم منصور بن الجواليقي‏.‏

قال ابن ناصر‏:‏ وكان ثقة في النقل، وله المصنفات الكثيرة‏.‏

وقال ابن خيرون‏:‏ لم يكن مرضى الطريقة، توفي في جمادى الآخرة ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

فيها‏:‏ أخذت الفرنج مدينة طرابلس وقتلوا من فيها من الرجال، وسبوا الحريم والأطفال؛ وغنموا الأمتعة والأموال، ثم أخذوا مدينة جبلة بعدها بعشر ليال، فلا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال‏.‏

وقد هرب منهم فخر الملك بن عمار، فقصد صاحب دمشق طغتكين فأكرمه وأقطعه بلاداً كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ وثب بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك فجرحه ثم أُخذ الباطني فسُقي الخمر فأقر على جماعة من الباطنية فأُخذوا فقتلوا‏.‏

وحج بالناس الأمير قيماز‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي

ابن أحمد، أبو بكر العلوي، كان يعمل في تجصيص الحيطان، ولا ينقش صورة، ولا يأخذ من أحد شيئاً، وكانت له أملاك ينتفع منها ويتقوت، وقد سمع الحديث من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه بشيء من الفقه، وكان إذا حج يزور القبور بمكة، فإذا وصل إلى قبر الفضيل بن عياض يخط إلى جانبه خطاً بعصاه ويقول‏:‏ يا رب ههنا‏.‏

فقيل‏:‏ إنه حج في هذه السنة فوقف بعرفات محرماً فتوفي بها من آخر ذلك اليوم، فغسل وكفن وطيف به حول البيت ثم دفن إلى جانب الفضيل بن عياض في ذلك المكان الذي كان يخطه بعصاه، وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا للصلاة عليه صلاة الغائب، حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على ذلك الجمع، رحمه الله‏.‏

 عمر بن عبد الكريم

ابن سعدويه الفتيان الدهقاني، رحل في طلب الحديث، ودار الدنيا، وخرج وانتخب، وكان له فقه في هذا الشأن، وكان ثقة، وقد صحح عليه أبو حامد الغزالي كتاب ‏(‏الصحيحين‏)‏، كانت وفاته بسرخس في هذه السنة‏.‏ ‏

 محمد ويعرف بأخي حماد

وكان أحد الصلحاء الكبار، كان به مرض مزمن، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعوفي، فلزم مسجداً له أربعين سنة، لا يخرج إلا إلى الجمعة، وانقطع عن مخالطة الناس، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن في زاوية بالقرب من قبر أبي حنيفة، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

في أولها تجهز جماعة من البغاددة من الفقهاء وغيرهم، ومنهم ابن الذاغوني، للخروج إلى الشام لأجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الأول، وكذا غيرها من المدائن، ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حمل جهازها على مائة واثنين وستين جملاً، وسبعة وعشرين بغلاً، وزينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة‏.‏

وفيها‏:‏ درس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية، وحضر عنده الوزير والأعيان‏.‏

وحج بالناس قيماز، ولم يتمكن الخراسانيون من الحج من العطش وقلة الماء‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إدريس بن حمزة

أبو الحسن الشاشي الرملي العثماني، أحد فحول المناظرين عن مذهب الشافعي، تفقه أولاً على نصر بن إبراهيم، ثم ببغداد على أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان حتى وصل إلى ما وراء النهر، وأقام بسمرقند ودرّس بمدرستها إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏  

 علي بن محمد

ابن علي بن عماد الدين، أبو الحسن الطبري، ويعرف بالكيا الهراسي، أحد الفقهاء الكبار، من رؤس الشافعية، ولد سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل على إمام الحرمين، وكان هو والغزالي أكبر التلامذة، وقد ولي كل منهما تدريس النظامية ببغداد‏.‏ ‏

وقد كان أبو الحسن هذا فصيحاً جهوري الصوت جميلاً، وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقي النظامية بنيسابور سبع مرات، وكانت المراقي سبعين مرقاة، وقد سمع الحديث الكثير، وناظر وأفتى ودرّس، وكان من أكابر الفضلاء وسادات الفقهاء، وله كتاب يرد فيه على ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل في مجلد، وله غيره من المصنفات، وقد اتهم في وقت بأنه يمالئ الباطنية، فنزع منه التدريس ثم شهد جماعة من العلماء ببراءته من ذلك منهم ابن عقيل، فأعيد إليه‏.‏

توفي في يوم الخميس مستهل محرم من هذه السنة عن أربع وخمسين سنة، دفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه كان يحفظ الحديث ويناظر به، وهو القائل‏:‏ إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح‏.‏

وحكى السلفي عنه‏:‏ أنه استفتي في كتبة الحديث هل يدخلون في الوصية للفقهاء ‏؟‏

فأجاب‏:‏ نعم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من حفظ على أمتي أربعين حديثاً بعثه الله عالماً‏)‏‏)‏‏.‏

واستفتي في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعباً وفسقاً، وجوز شتمه، وأما الغزالي فإنه خالف في ذلك، ومنع من شتمه ولعنه، لأنه مسلم، ولم يثبت بأنه رضي بقتل الحسين، ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغاً للعنه، لأن القاتل لا يلعن لا سيما وباب التوبة مفتوح الذي يقبل التوبة عن عباده غفور رحيم‏.‏

قال الغزالي‏:‏ وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل نحن نترحم عليه في جملة المسلمين والمؤمنين، عموماً في الصلوات‏.‏

ذكره ابن خلكان مبسوطاً بلفظه في ترجمة الكيا هذا، قال‏:‏ والكيا كبير القدر مقدم معظم، والله أعلم‏.‏