الجزء الثاني عشر - ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

فيها‏:‏ بعث السلطان غياث الدين جيشاً كثيفاً، صحبة الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز، وأحمديل صاحب مراغة، والأمير إيلغازي صاحب ماردين، وعلى الجميع الأمير مودود صاحب الموصل، لقتال الفرنج بالشام، فانتزعوا من أيدي الفرنج حصوناً كثيرة، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ولله الحمد‏.‏

ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئاً فأعطاه، فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات من ساعته، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل‏:‏ إنه كان يريد قتل الخليفة‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات، ومات له ولد وهكذا الدنيا فرضي بوفاته، وجلس الوزير للهناء والعزاء‏.‏

وفي رمضان عزل الوزير أحمد بن النظام، وكانت مدة وزارته أربع سنين وإحدى عشر شهراً‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الفرنج مدينة صور، وكانت بأيدي المصريين، عليها عز الملك الأعز من جهتهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، ومنعها منعاً جيداً، حتى فني ما عنده من النشاب والعدد، فأمده طغتكين صاحب دمشق، وأرسل إليه العدد والآلات فقوي جأشه وترحلت عنه الفرنج في شوال منها‏.‏

وحج بالناس أمير الجيوش قطز الخادم، وكانت سنة مخصبة مرخصة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو حامد الغزالي

محمد بن محمد بن محمد

أبو حامد الغزالي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وتفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة، فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وساد في شبيبته حتى أنه درّس بالنظامية ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وله أربع وثلاثون سنة، فحضر عنده رؤس العلماء، وكان ممن حضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل، وهما من رؤس الحنابلة، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكتبوا كلامه في مصنفاتهم‏.‏

ثم إنه خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يرتزق من النسخ، ورحل إلى الشام فأقام بها بدمشق وبيت المقدس مدة، وصنف في هذه المدة كتابه ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏، وهو كتاب عجيب، ويشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة وغرائب ومنكرات وموضوعات، كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمراً من غيره، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي، ثم ابن الصلاح، في ذلك تشنيعاً كثيراً، وأراد المازري أن يحرق كتابه ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏، وكذلك غيره من المغاربة، وقالوا‏:‏ هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

كما قد حكيت ذلك في ترجمته في ‏(‏الطبقات‏)‏، وقد زيف ابن شكر مواضع ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏، وبيّن زيفها في مصنف مفيد، وقد كان الغزالي يقول‏:‏ أنا مزجي البضاعة في الحديث‏.‏

ويقال‏:‏ إنه مال في آخر عمره إلى سماع الحديث والتحفظ للصحيحين، وقد صنف ابن الجوزي كتاباً على الأحياء وسماه ‏(‏علوم الأحيا بأغاليط الإحيا‏)‏‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ثم ألزمه بعض الوزراء بالخروج إلى نيسابور فدرس بنظاميتها، ثم عاد إلى بلده طوس فأقام بها، وابتنى رباطاً واتخذ داراً حسنة، وغرس فيها بستاناً أنيقاً، وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الأحاديث الصحاح، وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس رحمه الله تعالى، وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ عليك بالإخلاص، ولم يزل يكررها حتى مات، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسمائة

في جمادى الآخرة منها جلس ابن الطبري مدرساً بالنظامية وعزل عنها الشاشي‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود إلى بغداد، فوعظ الناس، وكان له القبول التام، وكان شافعياً تفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة، وكانت له أحوال صالحة، جاراه رجل مرة يقال له‏:‏ ابن السقافي، مسألة فقال له‏:‏ اسكت فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام‏.‏

فاتفق بعد حين أنه خرج ابن السقا إلى بلاد الروم في حاجة، فتنصر هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقام إليه مرة وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي فقالا له‏:‏ إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فاسكت‏.‏

فقال‏:‏ لا متعتما بشبابكما‏.‏

فماتا شابين، ولم يبلغا سن الكهولة‏.‏

وحج بالناس فيها أمير الجيوش بطز الخادم، ونالهم عطش‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 صاعد بن منصور

ابن إسماعيل بن صاعد، أبو العلاء الخطيب النيسابوري، سمع الحديث الكثير، وولي الخطابة بعد أبيه والتدريس والتذكير، وكان أبو المعالي الجويني يثني عليه، وقد ولي قضاء خوارزم‏.‏

 محمد بن موسى بن عبد الله

أبو عبد الله البلاساغوني التركي الحنفي، ويعرف باللامشي، أورد عنه الحافظ ابن عساكر حديثاً وذكر أنه ولي قضاء بيت المقدس، فشكوا منه فعزل عنها، ثم ولي قضاء دمشق، وكان غالياً في مذهب أبي حنيفة، وهو الذي رتب الإقامة مثنى، قال‏:‏ إلى أن أزال الله ذلك بدولة الملك صلاح الدين‏.‏

قال‏:‏ وكان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع، فامتنع أهل دمشق من ذلك، وامتنعوا من الصلاة خلفه، وصلوا بأجمعهم في دار الخيل، وهي التي قبل الجامع مكان المدرسة الأمينية، وما يجاورها وحدها الطرقات الأربعة، وكان يقول‏:‏ لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية‏.‏

وكان مبغضاً لأصحاب مالك أيضاً‏.‏

قال‏:‏ ولم تكن سيرته في القضاء محمودة‏.‏

وكانت وفاته يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة منها‏.‏

قال‏:‏ وقد شهدت جنازته وأنا صغير في الجامع‏.‏

المعمر بن المعمر

أبو سعد بن أبي عمار الواعظ، كان فصيحاً بليغاً ماجناً ظريفاً ذكياً، له كلمات في الوعظ حسنة ورسائل مسموعة مستحسنة، توفي في ربيع الأول منها، ودفن بباب حرب‏.‏

 أبو علي المعري

كان عابداً زاهداً، يتقوت بأدنى شيء، ثم عنّ له أن يشتغل بعلم الكيمياء، فأخذ إلى دار الخلافة فلم يظهر له خبر بعد ذلك‏.‏

نزهة

أم ولد الخليفة المستظهر بالله، كانت سوداء محتشمة كريمة النفس، توفيت يوم الجمعة ثاني عشر شوال منها‏.‏

 أبو سعد السمعاني

مصنف ‏(‏الأنساب‏)‏ وغيره، وهو تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن أبي المظفر المنصور عبد الجبار السمعاني، المروزي، الفقيه الشافعي، الحافظ المحدث، قوام الدين أحد الأئمة المصنفين، رحل وسمع الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ، وصنف ‏(‏التفسير‏)‏ و‏(‏التاريخ‏)‏ و‏(‏الأنساب‏)‏ و‏(‏الذيل‏)‏ على تاريخ الخطيب البغدادي‏.‏

وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة جداً، منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها إسناداً ومتناً، وهو مفيد جداً، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، كان فيها ملك دمشق الأتابك طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين، وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا منهم أموالاً جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها، ولله الحمد والمنة، ثم رجعوا إلى دمشق فذكر ابن الساعي في ‏(‏تاريخه‏)‏ مقتل الملك مودود صاحب الموصل في هذه السنة، قال‏:‏ صلى هو والملك طغتكين يوم الجمعة بالجامع، ثم خرجا إلى الصحن ويد كل واحد منهما في يد الآخر فطفر باطني على مودود فقتله، رحمه الله‏.‏

فيقال‏:‏ إن طغتكين هو الذي مالأ عليه، فالله أعلم‏.‏

وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين وفيه‏:‏ أن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها‏.‏

وفيها‏:‏ ملك حلب ألب أرسلان بن رضوان بن تتش بعد أبيه، وقام بأمر سلطنته لؤلؤ الخادم، فلم يبق معه سوى الرسم‏.‏

وفيها‏:‏ فتح المارستان الذي أنشأه كمشتكين الخادم ببغداد‏.‏

وحج بالناس زنكي بن برشق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي

سمع الكثير وتنقل في البلاد، ودرس بمدينة خوارزم، وكان فاضلاً من أهل الحديث، مرضي الطريقة، وكانت وفاته ببلده بيهق في هذه السنة‏.‏

 شجاع بن أبي شجاع

فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، سمع الكثير، وكان فاضلاً في هذا الشأن، وشرع في تتميم تاريخ الخطيب ثم غسله، وكان يكثر من الاستغفار والتوبة لأنه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات، توفي في هذا العام عن سبع وسبعين سنة‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن أحمد بن إسحاق بن الحسين بن منصور بن معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عنبسة بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، الأموي أبو المظفر بن أبي العباس الأبيوردي الشاعر‏.‏ ‏

كان عالماً باللغة والأنساب، سمع الكثير وصنف ‏(‏تاريخ أبي ورد‏)‏، و‏(‏أنساب العرب‏)‏، وله كتاب في المؤتلف والمختلف، وغير ذلك، وكان ينسب إلى الكبر والتيه الزائد، حتى كان يدعو في صلاته‏:‏ اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

وكتب مرة إلى الخليفة الخادم المعاوي، فكشط الخليفة الميم فبقت العاوي، ومن شعره قوله‏:‏

تنكر لي دهري ولم يدر أنني * أعز وأحداث الزمان تهون

وظل يريني الدهر كيف اغتراره * وبت أريه الصبر كيف يكون

 محمد بن طاهر

ابن علي بن أحمد، أبو الفضل المقدسي الحافظ، ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وأول سماعه سنة ستين، وسافر في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة، وسمع كثيراً، وكان له معرفة جيدة بهذه الصناعة، وصنف كتباً مفيدة، غير أنه صنف كتاباً في إباحة السماع، وفي التصوف، وساق فيه أحاديث منكرة جداً، وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد أثنى على حفظه غير واحد من الأئمة‏.‏

وذكر ابن الجوزي في كتابه هذا الذي سماه ‏(‏صفة التصوف‏)‏ وقال عنه‏:‏ يضحك منه من رآه‏.‏

قال‏:‏ وكان داودي المذهب، فمن أثنى عليه أثنى لأجل حفظه للحديث، وإلا فما يجرح به أولى‏.‏

قال‏:‏ وذكره أبو سعد السمعاني وانتصر له بغير حجة، بعد أن قال‏:‏ سألت عنه شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي فأكثر الثناء عليه، وكان سيء الرأي فيه‏.‏

قال‏:‏ وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول محمد‏:‏ بن طاهر لا يحتج به، صنف في جواز النظر إلى المرد، وكان يذهب مذهب الإباحية، ثم أورد له من شعره قوله في هذه الأبيات‏:‏

دع التصوف والزهد الذي اشتغلت * به خوارج أقوام من الناس

وعج على دير داريا فإن به الرهـ * ـبان ما بين قسيس وشماس

واشرب معتقة من كف كافرة * تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس

ثم استمع رنة الأوتار من رشأ * مهفهف طرفه أمضى من الماس

غنى بشعر امرئ في الناس مشتهر * مدون عندهم في صدر قرطاس

لولا نسيم بدا منكم يروحني * لكنت محترقاً من حر أنفاسي

ثم قال السمعاني‏:‏ لعله قد تاب من هذا كله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا غير مرضي أن يذكر جرح الأئمة له ثم يعتذر عن ذلك باحتمال توبته‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي‏:‏ أنه لما احتضر جعل يردد هذا البيت‏:‏

وما كنتم تعرفون الجفا * فممن نرى قد تعلمتم

ثم كانت وفاته بالجانب الغربي من بغداد في ربيع الأول منها‏.‏

 أبو بكر الشاشي

صاحب ‏(‏المستظهري‏)‏، محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، أحد أئمة الشافعة في زمانه، ولد في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وسمع الحديث على أبي يعلى بن الفراء، وأبي بكر الخطيب، وأبي إسحاق الشيرازي، وتفقه عليه وعلى غيره، وقرأ ‏(‏الشامل‏)‏ على مصنفه ابن الصباغ، واختصره في كتابه الذي جمعه للمستظهر بالله، وسماه ‏(‏حلية العلماء بمعرفة مذاهب الفقهاء‏)‏، ويعرف ‏(‏بالمستظهري‏)‏، وقد درّس بالنظامية ببغداد ثم عزل عنها وكان ينشد‏:‏

تعلم يا فتى والعود غض * وطينك لين والطبع قابل

فحسبك يا فتى شرفاً وفخراً * سكوت الحاضرين وأنت قائل

توفي سحر يوم السبت السادس عشر من شوال منها، ودفن إلى جانب أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز‏.‏

 المؤتمن بن أحمد

ابن علي بن الحسين بن عبيد الله، أبو نصر الساجي المقدسي، سمع الحديث الكثير، وخرج وكان صحيح النقل، حسن الخط، مشكور السيرة لطيفاً، اشتغل في الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مدة، ورحل إلى أصبهان وغيرها، وهو معدود من جملة الحفاظ، لا سيما للمتون، وقد تكلم فيه ابن طاهر‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهو أحق منه بذلك، وأين الثريا من الثرى ‏؟‏

توفي المؤتمن يوم السبت ثاني عشر صفر منها، ودفن بباب حرب، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة

فيها‏:‏ وقع حريق عظيم ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة هائلة بأرض الجزيرة، هدمت منها ثلاثة عشر برجاً، ومن الرها بيوتاً كثيرة، وبعض دور خراسان، ودوراً كثيرة في بلاد شتى، فهلك من أهلها نحو من مائة ألف، وخسف بنصف قلعة حران وسلم نصفها، وخسف بمدينة سميساط، وهلك تحت الردم خلق كثير‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب حلب تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان بن تتش، قتله غلمانه، وقام من بعده أخوه السلطان شاه بن رضوان‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان سنجر بن ملكشاه بلاد غزنة، وخطب له بها بعد مقاتلة عظيمة، وأخذ منها أموالاً كثيرة لم يرى مثلها، من ذلك خمس تيجان قيمة كل تاج منها ألف ألف دينار، وسبعة عشر سريراً من ذهب وفضة، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة، فأقام بها أربعين يوماً، وقرر في ملكها بهرام شاه، رجل من بيت سبكتكين، ولم يخطب بها لأحد من السلجوقية غير سنجر هذا، وإنما كان لها ملوك سادة أهل جهاد وسنة، لا يجسر أحد من الملوك عليهم، ولا يطيق أحد مقاومتهم، وهم بنو سبكتكين‏.‏

وفيها‏:‏ ولى السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وسميساط، ونهب ماردين وأسر ابن ملكها إياز إيلغازي، فأرسل السلطان محمد إليه من يتهدده ففر منه إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفقا على عصيان السلطان محمد، فجرت بينهما وبين نائب حمص قرجان بن قراجة حروب كثيرة، ثم اصطلحوا‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت زوجة مرعش الإفرنجية بعد وفاة زوجها لعنهما الله‏.‏

وحج بالناس فيها أمير الجيوش أبو الخير يمن الخادم، وشكر الناس حجهم معه‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة

فيها‏:‏ جهز السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه صاحب العراق جيشاً كثيفاً مع الأمير برشق بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى آقسنقر البرشقي ليقاتلهما، لأجل عصيانهما عليه، وقطع خطبته، وإذا فرغ منهما عمد لقتال الفرنج‏.‏

فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيزا إلى الفرنج، وجاء الأمير برشق إلى كفرطاب ففتحها عنوة، وأخذ ما كان فيها من النساء والذرية، وجاء صاحب إنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل، فكبس المسلمين فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأخذ أموالاً جزيلة، وهرب برشق في طائفة قليلة، وتمزق الجيش الذي كان معه شذر مذر، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏

وفي ذي القعدة منها قدم السلطان محمد إلى بغداد، وجاء إلى طغتكين صاحب دمشق معتذراً إليه، فخلع عليه، ورضي عنه ورده إلى عمله‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن محمد

ابن أحمد بن علي أبو عثمان الأصبهاني أحد الرحالين في طلب الحديث، وقد وعظ في جامع المنصور ثلاثين مجلساً، واستملى عليه محمد بن ناصر، وتوفي بأصبهان‏.‏

 منجب بن عبد الله المستظهري

أبو الحسن الخادم، كان كثير العبادة، وقد أثنى عليه محمد بن ناصر، قال‏:‏ وقف على أصحاب الحديث وقفاً‏.‏

 عبد الله بن المبارك

ابن موسى، أبو البركات السقطي، سمع الكثير ورحل فيه، وكان فاضلاً عارفاً باللغة، ودفن بباب حرب‏.‏

 يحيى بن تميم بن المعز بن باديس

صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك، عارفاً حسن السيرة، محباً للفقراء والعلماء، وله عليهم أرزاق، مات وله اثنتان وخمسون سنة، وترك ثلاثين ولداً، وقام بالأمر من بعده ولده علي‏.‏

 ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة

فيها‏:‏ وقع حريق ببغداد احترقت فيه دور كثيرة، منها دار نور الهدى الزينبي، ورباط نهر زور، ودار كتب النظامية، وسلمت الكتب لأن الفقهاء نقلوها‏.‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب مراغة في مجلس السلطان محمد، قتله الباطنية‏.‏

وفي يوم عاشوراء وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة بمشهد علي بن موسى الرضا بمدينة طوس، فقتل فيها خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ سار السلطان إلى فارس بعد موت نائبها خوفاً عليها من صاحب كرمان‏.‏ ‏

وحج بالناس بطز الخادم، وكانت سنة مخصبة آمنة، ولله الحمد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عقيل بن الإمام أبي الوفا

علي بن عقيل الحنبلي، كان شاباً قد برع وحفظ القرآن وكتب وفهم المعاني جيداً، ولما توفي صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد، فقرأ قارئ في العزاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 78‏]‏، فبكى ابن عقيل بكاء شديداً‏.‏

 علي بن أحمد بن محمد

ابن الرزاز، آخر من حدث عن ابن مخلد بجزء الحسن بن عرفة، وتفرد بأشياء غيره، توفي فيها عن سبع وتسعين سنة‏.‏

 محمد بن منصور

ابن محمد بن عبد الجبار، أبو بكر السمعاني، سمع الكثير وحدث ووعظ بالنظامية ببغداد، وأملى بمرو مائة وأربعين مجلساً، وكانت له معرفة تامة بالحديث، وكان أديباً شاعراً فاضلاً، له قبول عظيم في القلوب، توفي بمرو عن ثلاث وأربعين سنة‏.‏

 محمد بن أحمد بن طاهر

ابن أحمد بن منصور الخازن، فقيه الإمامية ومفتيهم بالكرخ، وقد سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان، توفي في رمضان منها‏.‏

 محمد بن علي بن محمد

أبو بكر النسوي، الفقيه الشافعي، سمع الحديث، وكانت إليه تزكية الشهود ببغداد، وكان فاضلاً أديباً ورعاً‏.‏

 محفوظ بن أحمد

ابن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني، أحد أئمة الحنابلة ومصنفيهم، سمع الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوني، ودرس وأفتى وناظر وصنف في الأصول والفروع، وله شعر حسن، وجمع قصيدة يذكر فيها اعتقاده ومذهبه يقول فيها‏:‏

دع عنك تذكار الخليط المتحد * والشوق نحو الآنسات الخرد

والنوح في تذكار سعدى إنما * تذكار سعدى شغل من لم يسعد

واسمع معاني إن أردت تخلصاً * يوم الحساب وخذ بقولي تهتدي

وذكر تمامها وهي طويلة، كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، وصلي عليه بجامع القصر، وجامع المنصور، ودفن بالقرب من الإمام أحمد‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة

في رابع صفر منها انكسف القمر كسوفاً كلياً، وفي تلك الليلة هجم الفرنج على ربض حماه فقتلوا خلقاً كثيراً، ورجعوا إلى بلادهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ببغداد سقط منها دور كثيرة بالجانب الغربي، وغلت الغلات بها جداً‏.‏

وفيها‏:‏ قتل لؤلؤ الخادم الذي كان استحوذ على مملكة حلب بعد موت أستاذه رضوان بن تتش، قتله جماعة من الأتراك، وكان قد خرج من حلب متوجهاً إلى جعبر، فنادى جماعة من مماليكه وغيرهم‏:‏ أرنب، أرنب‏.‏

فرموه بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنباً فقتلوه‏.‏

وفيها‏:‏ كان وفاة غياث الدين السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة، والأقاليم الواسعة‏.‏

كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلاً رحيماً، سهل الأخلاق، محمود العشرة، ولما حضرته الوفاة استدعى ولده محموداً وضمه إليه وبكى كل منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة، وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة، فجلس وعليه التاج والسواران وحكم، ولما توفي أبوه صرف الخزائن إلى العساكر، وكان فيها إحدى عشر ألف ألف دينار، واستقر الملك له، وخطب له ببغداد وغيرها من البلاد، ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب حلب بدمشق‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 القاضي المرتضى

أبو محمد عبد الله بن القاسم بن ا المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري، والد القاضي جمال الدين عبد الله الشهرزوري، قاضي دمشق في أيام نور الدين، اشتغل ببغداد وتفقه بها، وكان شافعي المذهب، بارعاً ديناً، حسن النظم، وله قصيدة في علم التصوف، وكان يتكلم على القلوب، أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها وأولها‏:‏

لمعت نارهم وقد عسعس الليـ * ـل وملّ الحادي وحار الدليل

فتأملتها وفكري من البيـ * ـن عليل ولحظ عيني كليل

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى * وغرامي ذاك الغرام الدخيل

وله‏:‏

يا ليل ما جئتكم زائراً * إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا ثنيت العزم عن بابكم * إلا تعثرت بأذيالي

وله‏:‏

يا قلب إلى متى لا يفيد النصح * دع مزحك كم جنى عليك المزح

ما جارحة منك غذاها جرح * ما تشعر بالخمار حتى تصحو

توفي في هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وزعم عماد الدين في ‏(‏الخريدة‏)‏‏:‏ أنه توفي بعد العشرين وخمسمائة، فالله أعلم‏.‏

 محمد بن سعد

ابن نبهان، أبو علي الكاتب، سمع الحديث وروى وعمر مائة سنة وتغير قبل موته، وله شعر حسن، فمنه قوله في قصيدة له‏:‏ ‏

لي رزق قدره الله * نعم ورزق أتوقاه

حتى إذا استوفيت منه * الذي قدر لي لا أتعداه

قال كرام كنت أغشاهم * في مجلس كنت أغشاه

صار ابن نبهان إلى ربه * يرحمنا الله وإياه

 أمير الحاج

يمن بن عبد الله أبو الخير المستظهري، كان جواداً كريماً ممدحاً ذا رأي وفطنة ثاقبة، وقد سمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن طلحة النعالي بإفادة أبي نصر الأصبهاني، وكان يؤم به في الصلوات، ولما قدم رسولاً إلى أصبهان حدث بها‏.‏

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بأصبهان‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

فيها‏:‏ خطب للسلطان محمد بن ملكشاه بأمر الخليفة المستظهر بالله‏.‏

وفيها‏:‏ سأل دبيس بن صدقة الأسدي من السلطان محمود أن يرده إلى الحلة وغيرها، مما كان أبوه يتولاه من الأعمال، فأجابه إلى ذلك، فعظم وارتفع شأنه‏.‏

 وفاة الخليفة المستظهر بالله

هو أبو العباس أحمد بن المقتدي، كان خيراً فاضلاً ذكياً بارعاً، كتب الخط المنسوب، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راغباً في البر والخير، مسارعاً إلى ذلك، لا يرد سائلاً، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيداً، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شعر حسن قد ذكرناه أولاً عند ذكر خلافته‏.‏

وقد ولي غسله ابن عقيل وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل وكبر أربعاً، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن العجب أنه لما مات السلطان ألب أرسلان مات بعده الخليفة القائم، ثم لما مات السلطان ملكشاة مات بعده المقتدي، ثم لما مات السلطان محمد مات بعده المستظهر هذا، في سادس عشر ربيع الآخر، وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وثلاثة أشهر وإحدى عشر يوماً‏.‏ ‏

 خلافة المسترشد أمير المؤمنين

أبو منصور الفضل بن المستظهر‏:‏ لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع له بالخلافة، وخطب له على المنابر، وقد كان ولي العهد من بعده مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني، ولما استقرت البيعة له هرب أخوه أبو الحسن في سفينة ومعه ثلاثة نفر، وقصد دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بالحلة، فأكرمه وأحسن إليه، فقلق أخوه الخليفة المسترشد من ذلك، فراسل دبيساً في ذلك مع نقيب النقباء الزينبي، فهرب أخو الخليفة من دبيس فأرسل إليه جيشاً فألجأوه إلى البرية، فلحقه عطش شديد، فلقيه بدويان فسقياه ماء وحملاه إلى بغداد، فأحضره أخوه إليه فاعتنقا وتباكيا، وأنزله الخليفة داراً كان يسكنها قبل الخلافة، وأحسن إليه، وطيب نفسه، وكانت مدة غيبته عن بغداد إحدى عشر شهراً، واستقرت الخلافة بلا منازعة للمسترشد‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد ببغداد وانقطع الغيث وعدمت الأقوات، وتفاقم أمر العيارين ببغداد، ونهبوا الدور نهاراً جهاراً، ولم يستطع الشرط دفع ذلك‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة الخادم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الخليفة المستظهر

كما تقدم‏.‏

ثم توفيت بعده جدته أم أبيه المقتدي‏.‏

 أرجوان الأرمنية

وتدعى قرة العين، كان لها بر كثير ومعروف، وقد حجت ثلاث حجات، وأدركت خلافة ابنها المقتدي، وخلافة ابنه المستظهر، وخلافة ابنه المسترشد، ورأت للمسترشد ولداً‏.‏ ‏

 بكر بن محمد بن علي

ابن الفضل أبو الفضل الأنصاري، روى الحديث، وكان يضرب به المثل في مذهب أبي حنيفة، وتفقه على عبد العزيز بن محمد الحلواني، وكان يذكر الدروس من أي موضع سئل من غير مطالعة ولا مراجعة، وربما كان في ابتداء طلبه يكرر المسألة أربعمائة مرة، توفي في شعبان منها‏.‏

 الحسين بن محمد بن عبد الوهاب

الزينبي، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقه على أبي عبد الله الدامغاني، فبرع وأفتى ودرس بمشهد أبي حنيفة، ونظر في أوقافها، وانتهت إليه رياسة مذهب أبي حنيفة، ولقب نور الهدى، وسار في الرسلية إلى الملوك، وولي نقابة الطالبيين والعباسيين، ثم استعفى بعد شهور فتولاها أخوه طراد‏.‏

توفي يوم الاثنين الحادي عشر من صفر، وله من العمر ثنتان وتسعون سنة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي، وحضرت جنازته الأعيان والعلماء، ودفن عند قبر أبي حنيفة داخل القبة‏.‏

 يوسف بن أحمد أبو طاهر

ويعرف بابن الجزري، صاحب المخزن في أيام المستظهر، وكان لا يوفي المسترشد حقه من التعظيم وهو ولي العهد، فلما صارت إليه الخلافة صادره بمائة ألف دينار، ثم استقر غلاماً له فأومأ إلى بيت فوجد فيه أربعمائة ألف دينار، فأخذها الخليفة ثم كانت وفاته بعد هذا بقليل بهذا العام‏.‏

 أبو الفضل بن الخازن

كان أديباً لطيفاً شاعراً فاضلاً، فمن شعره قوله‏:‏

وافيت منزله فلم أر صاحباً * إلا تلقاني بوجه ضاحك

والبشر في وجه الغلام نتيجة * لمقدمات ضياء وجه المالك

ودخلت جنته وزرت جحيمه * فشكرت رضواناً ورأفة مالك

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت الحروب الشديدة بين السلطان محمود بن محمد وبين عمه السلطان سنجر بن ملكشاه، وكان النصر فيها لسنجر، فخطب له ببغداد في سادس عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وقطعت خطبة ابن أخيه في سائر أعماله‏.‏

وفيها‏:‏ سارت الفرنج إلى مدينة حلب ففتحوها عنوة وملكوها، وقتلوا من أهلها خلقاً، فسار إليهم صاحب ماردين إيلغازي بن أرتق في جيش كثيف، فهزمهم ولحقهم إلى جبل قد تحصنوا به، فقتل منهم هنالك مقتلة عظيمة، ولله الحمد‏.‏

ولم يفلت منهم إلا اليسير، وأسر من مقدميهم نيفاً وتسعين رجلاً، وقتل فيمن قتل سيرجال صاحب إنطاكية، وحمل رأسه إلى بغداد، فقال بعض الشعراء في ذلك وقد بالغ مبالغة فاحشة‏:‏

قل ما تشاء فقولك المقبول * وعليك بعد الخالق التعويل

واستبشر القرآن حين نصرته * وبكى لفقد رجاله الإنجيل

وفيها‏:‏ قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وكان ظالماً غاشماً سيء السيرة، قتله السلطان محمود بن محمد صبراً بين يديه لأمور، منها‏:‏ أنه تزوج سرية أبيه قبل انقضاء عدتها، ونعم ما فعل وقد أراح الله المسلمين منه ما كان أظلمه وأغشمه‏.‏

وفيها‏:‏ تولى قضاء قضاة بغداد الأكمل أبو القاسم بن علي بن أبي طالب بن محمد الزينبي، وخلع عليه بعد موت أبي الحسن الدامغاني‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقبر ولديه إسحاق ويعقوب، وشاهد ذلك الناس، ولم تبلَ أجسادهم، وعندهم قناديل من ذهب وفضة، ذكر ذلك ابن الخازن في ‏(‏تاريخه‏)‏، وأطال نقله من ‏(‏المنتظم‏)‏ لابن الجوزي، والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 ابن عقيل

علي بن عقيل بن محمد، أبو الوفا شيخ الحنابلة ببغداد، وصاحب ‏(‏الفنون‏)‏ وغيرها من التصانيف المفيدة، ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقرأ القرآن على ابن سبطا، وسمع الحديث الكثير، وتفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء، وقرأ الأدب على ابن برهان، والفرائض على عبد الملك الهمداني، والوعظ على أبي طاهر بن العلاف، صاحب ابن سمعون، والأصول على أبي الوليد المعتزلي، وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب، فربما لامه بعض أصحابه فلا يلوي عليهم، فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة، مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال، وقد وعظ في بعض الأحيان فوقعت فتنة فترك ذلك، وقد متعه الله بجميع حواسه إلى حين موته‏.‏

توفي بكرة الجمعة ثاني جمادى الأولى من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وكانت جنازته حافلة جداً، ودفن قريباً من قبر الإمام أحمد، إلى جانب الخادم مخلص، رحمه الله‏.‏

 أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني

قاضي القضاة ابن قاضي القضاة، ولد في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد وله من العمر ست وعشرون سنة، ولا يعرف حاكم قضى لأربعة من الخلفاء غيره إلا شريح، ثم ذكر إمامته وديانته وصيانته مما يدل على نخوته، وتفوقه وقوته، تولى الحكم أربعاً وعشرين سنة وستة أشهر، وقبره عند مشهد أبي حنيفة‏.‏

 المبارك بن علي

ابن الحسين أبو سعد المخرمي، سمع الحديث وتفقه على مذهب أحمد، وناظر وأفتى ودرس، وجمع كتباً كثيرة لم يسبق إلى مثلها، وناب في القضاء وكان حسن السيرة جميل الطريق، سديد الأقضية، وقد بنى مدرسة بباب الأزج وهي المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلي الحنبلي، ثم عزل عن القضاء وصودر بأموال جزيلة، وذلك في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند قبر أحمد‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة

في النصف من ربيع الأول منها كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة أسداباذ، فانهزم عسكر مسعود وأسر وزيره الأستاذ أبو إسماعيل وجماعة من أمرائه، فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل، فقتل وله نيف وستون سنة، وله تصانيف في صناعة الكيمياء‏.‏

ثم أرسل إلى أخيه مسعود الأمان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا‏.‏

وفيها‏:‏ نهب دبيس صاحب الحلة البلاد، وركب بنفسه إلى بغداد، ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة، وأظهر ما في نفسه من الضغائن، وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد، وتهدد المسترشد، فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود، فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته، ثم إنه نهب جسر السلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها، فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة، ثم عاد إلى الحلة وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر إليهما مما كان منه، فلم يقبلا منه، وجهز إليه السلطان جيشاً فحاصروه وضيقوا عليه قريباً من سنة، وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين الكُرج والمسلمين بالقرب من تفليس، ومع الكرج كفار الفقجاق فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً، وغنموا أموالاً جزيلة، وأسروا نحواً من أربعة آلاف أسير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ونهب الكُرج تلك النواحي وفعلوا أشياء منكرة، وحاصروا تفليس مدة ثم ملكوها عنوة، بعد ما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون منهم الأمان، وقتلوا عامة أهلها، وسبوا الذرية واستحوذوا على الأموال، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وفيها‏:‏ أغار جوسكين الفرنجي على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وأخذ أموالهم، وهذا هو صاحب الرها‏.‏

وفيها‏:‏ تمردت العيارون ببغداد وأخذوا الدور جهاراً ليلاً ونهاراً، فحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

وفيها‏:‏ كان ابتداء ملك محمد بن تومرت ببلاد المغرب، كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب فسكن النظامية ببغداد، واشتغل بالعلم فحصل منه جانباً جيداً من الفروع والأصول، على الغزالي وغيره، وكان يظهر التعبد والورع، وربما كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه، ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظامية أظهر الإنكار عليه جداً، وكذلك على غيره، ثم إنه حج وعاد إلى بلاده، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ويشغلهم في الفقه، فطار ذكره في الناس، واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية، فعظمه وأكرمه، وسأله الدعاء، فاشتهر أيضاً بذلك، وبعد صيته، وليس معه إلا ركوة وعصا، ولا يسكن إلا المساجد‏.‏

ثم جعل ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ومعه تلميذه عبد المؤمن بن علي، وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه، فرأى في مراكش من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها، من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن، فأخذ في إنكار ذلك حتى أنه اجتازت به في بعض الأيام أخت أمير المسلمين يوسف ملك مراكش وما حولها، ومعها نساء مثلها راكبات حاسرات عن وجوههن، فشرع هو وأصحابه في الإنكار عليهن، وجعلوا يضربون وجوه الدواب فسقطت أخت الملك عن دابتها، فأحضره الملك وأحضر الفقهاء فظهر عليهم بالحجة، وأخذ يعظ الملك في خاصة نفسه، حتى أبكاه ومع هذا نفاه الملك عن بلده فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله، فاتبعه على ذلك خلق كثير‏.‏

فجهز إليه الملك جيشاً كثيفاً فهزمهم ابن تومرت، فعظم شأنه وارتفع أمره، وقويت شوكته، وتسمى بالمهدي، وسمى جيشه جيش الموحدين وألف كتاباً في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة، ثم كانت له وقعات مع جيوش صاحب مراكش، فقتل منهم في بعض الأيام نحواً من سبعين ألفاً، وذلك بإشارة أبي عبد الله التومرتي، وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن والموطأ، وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه، فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالاً، فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شهدوا له بذلك، فأمر حينئذ بطم البئر عليهم فماتوا عن آخرهم، ولهذا يقال‏:‏ من أعان ظالماً سلط عليه‏.‏

ثم جهز ابن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي جيشاً عليهم أبو عبد الله التومرتي، وعبد المؤمن، لمحاصرة مراكش، فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان في جملة من قتل أبو عبد الله التومرتي هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه، ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه، فقالوا إن الملائكة رفعته‏.‏

وقد كان عبد المؤمن دفنه والناس في المعركة، وقتل ممن معه من أصحاب المهدي خلق كثير، وقد كان حين جهز الجيش مريضاً مدنفاً، فلما جاءه الخبر ازداد مرضاً إلى مرضه، وساءه قتل أبي عبد الله التومرتي، وجعل الأمر من بعده لعبد المؤمن بن علي ولقبه أمير المؤمنين‏.‏

وقد كان شاباً حسناً حازماً عاقلاً، ثم مات ابن تومرت وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة، ومدة ملكه عشر سنين، وحين صار إلى عبد المؤمن بن علي الملك أحسن إلى الرعايا، وظهرت له سيرة جيدة فأحبه الناس، واتسعت ممالكه، وكثرت جيوشه ورعيته، ونصب العداوة إلى تاشفين صاحب مراكش، ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين، فمات تاشفين فقام ولده من بعده، فمات في سنة تسع وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان‏.‏ ‏

فتولى أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، فسار إليه عبد المؤمن فملك تلك النواحي، وفتح مدينة مراكش، وقتل هنالك أمماً لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، قتل ملكها إسحاق وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين، وكان إسحاق هذا آخر ملوك المرابطين، وكان ملكهم سبعين سنة‏.‏

والذين ملكوا منهم أربعة‏:‏ علي وولده يوسف، وولداه أبو سفيان وإسحاق ابنا علي المذكور، فاستوطن عبد المؤمن مدينة مراكش، واستقر ملكه بتلك الناحية، وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل، وهم من الشجعان الأبطال، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وقد رأيت لبعضهم في سيرة ابن تومرت هذا مجلداً في أحكامه وإمامته، وما كان في أيامه، وكيف تملك بلاد المغرب، وما كان يتعاطاه من الأشياء التي توهم أنها أحوال برة، وهي محالات لا تصدر إلا عن فجرة، وما قتل من الناس وأزهق من الأنفس‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عبد الوهاب بن السني

أبو البركات، أسند الحديث وكان يعلم أولاد الخليفة المستظهر، فلما صارت الخلافة إلى المسترشد ولاه المخزن، وكان كثير الأموال والصدقات، يتعاهد أهل العلم، وخلف مالاً كثيراً حزر بمائتي ألف دينار، أوصى منه بثلاثين ألف دينار لمكة والمدينة، توفي فيها عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر، وصلى عليه الوزير أبو علي بن صدقة، ودفن بباب حرب‏.‏

 عبد الرحيم بن عبد الكبير

ابن هوازن، أبو نصر القشيري، قرأ على أبيه وإمام الحرمين، وروى الحديث عن جماعة، وكان ذا ذكاء وفطنة، وله خاطر حاضر جريء، ولسان ماهر فصيح، وقد دخل بغداد فوعظ بها فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعية، فحبس بسببها الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، وأخرج ابن القشيري من بغداد لإطفاء الفتنة فعاد إلى بلده، توفي في هذه السنة‏.‏

 عبد العزيز بن علي

ابن حامد أبو حامد الدينوري، كان كثير المال والصدقات، ذا حشمة وثروة وجاهة عند الخليفة، وقد روى الحديث ووعظ، وكان مليح الإيراد حلو المنطق، توفي بالري، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس عشر وخمسمائة

فيها‏:‏ أقطع السلطان محمود الأمير إيلغازي مدينة ميا فارقين، فبقيت في يد أولاده إلى أن أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب، في سنة ثمانين وخمسمائة‏.‏

وفيها‏:‏ أقطع آقسنقر البرشقي مدينة الموصل لقتال الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر ملك بن بهرام وهو ابن أخي إيلغازي مدينة الرها فأسر ملكلها جوسكين الإفرنجي وجماعة من رؤس أصحابه وسجنهم بقلعة خرتبرت‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح سوداء فاستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقاً كثيراً من الناس والدواب‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالحجاز فتضعضع بسببها الركن اليماني، وتهدم بعضه، وتهدم شيء من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر رجل علوي بمكة كان قد اشتغل بالنظامية في الفقه وغيره، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاتبعه ناس كثير فنفاه صاحبها ابن أبي هاشم إلى البحرين‏.‏

وفيها‏:‏ احترقت دار السلطان بأصبهان، فلم يبق فيها شيء من الآثار والقماش والجواهر والذهب والفضة سوى الياقوت الأحمر، وقبل ذلك بأسبوع احترق جامع أصبهان، وكان جامعاً عظيماً، فيه من الأخشاب ما يساوي ألف دينار، ومن جملة ما احترق فيه خمسمائة مصحف، من جملتها مصحف بخط أبي بن كعب، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي شعبان منها جلس الخليفة المسترشد في دار الخلافة في أبهة الخلافة وجاء الأخوان السلطان محمود ومسعود فقبلا الأرض ووقفا بين يديه، فخلع على محمود سبع خلع وطوقاً وسوارين وتاجاً، وأجلس على كرسي ووعظه الخليفة، وتلا عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7-8‏]‏ وأمره بالإحسان إلى الرعايا، وعقد له لواءين بيده، وقلده الملك، وخرجا من بين يديه مطاعين معظمين، والجيش بين أيديهما في أبهة عظيمة جداً‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم‏.‏

 وممن توفي فيها‏:‏

 ابن القطاع اللغوي أبو القاسم علي بن جعفر بن محمد

ابن الحسين بن أحمد بن محمد بن زيادة الله بن محمد بن الأغلب السعدي الصقلي، ثم المصري اللغوي المصنف كتاب ‏(‏الأفعال‏)‏، الذي برز فيه على ابن القوطية، وله مصنفات كثيرة، قدم مصر في حدود سنة خمسمائة لما أشرفت الفرنج على أخذ صقلية، فأكرمه المصريون وبالغوا في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الدين، وله شعر جيد قوي، مات وقد جاوز الثمانين‏.‏ ‏

 أبو القاسم شاهنشاه

الأفضل بن أمير الجيوش بمصر، مدبر دولة الفاطميين، وإليه تنسب قيسيرية أمير الجيوش بمصر، والعامة تقول مرجوش، وأبوه باني الجامع الذي بثغر الإسكندرية بسوق العطارين، ومشهد الرأس بعسقلان أيضاً، وكان أبوه نائب المستنصر على مدينة صور، وقيل‏:‏ على عكا، ثم استدعاه إليه في فصل الشتاء فركب البحر فاستنابه على ديار مصر، فسدد الأمور بعد فسادها، ومات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقام في الوزارة ولده الأفضل هذا، وكان كأبيه في الشهامة والصرامة، ولما مات المستنصر أقام المستعلي واستمرت الأمور على يديه، وكان عادلاً حسن السيرة، موصوفاً بجودة السريرة، فالله أعلم، ضربه فداوى وهو راكب فقتله في رمضان من هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة‏.‏

وكانت إمارته من ذلك بعد أبيه ثمان وعشرين سنة، وكانت داره دار الوكالة اليوم بمصر، وقد وجد له أموال عديدة جداً تفوق العد والإحصاء، من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، والجواهر النفائس، فانتقل ذلك كله إلى الخليفة الفاطمي فجعل في خزانته، وذهب جامعه إلى سواء الحساب على الفتيل من ذلك والنقير والقطمير، واعتاض عنه الخليفة بأبي عبد الله البطائحي، ولقبه المأمون‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ترك الأفضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردباً، وسبعين ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهرة باثني عشر ألف دينار، ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلس فيها، على كل مسمار منديل مشدود بذهب، كل منديل على لون من الألوان من ملابسه، وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه‏.‏

قال‏:‏ وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحيي الإنسان من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إبر ذهب برسم النساء‏.‏

 عبد الرزاق بن عبد الله

ابن علي بن إسحاق الطوسي، ابن أخي نظام الملك، تفقه بإمام الحرمين، وأفتى ودرّس وناظر، ووزر للملك سنجر‏.‏ ‏

 خاتون السفريه

حظية السلطان ملكشاه، وهي أم السلطانين محمد وسنجر، كانت كثيرة الصدقة والإحسان إلى الناس، لها في كل سنة سبيل يخرج مع الحجاج‏.‏

وفيها دين وخير، ولم تزل تبحث حتى عرفت مكان أمها وأهلها، فبعثت الأموال الجزيلة حتى استحضرتهم، ولما قدمت عليها أمها كان لها عنها أربعين سنة لم ترها، فأحبت أن تستعلم فهمها فجلست بين جواريها، فلما سمعت أمها كلامها عرفتها فقامت إليها فاعتنقا وبكيا، ثم أسلمت أمها على يديها جزاها الله خيراً‏.‏

وقد تفردت بولادة ملكين من ملوك المسلمين، في دولة الأتراك والعجم، ولا يعرف لها نظير في ذلك إلا اليسير من ذلك وهي ولادة بنت العباس، ولدت لعبد الملك الوليد وسليمان، وشاهوند ولدت للوليد يزيد وإبراهيم، وقد وليا الخلافة أيضاً، والخيزران ولدت للمهدي الهادي والرشيد‏.‏

 الطغرائي

صاحب لامية العجم، الحسين بن علي بن عبد الصمد، مؤيد الدين الأصبهاني، العميد فخر الكتاب الليثي الشاعر، المعروف بالطغرائي، ولي الوزارة بأربل مدة، أورد له ابن خلكان قصيدته اللامية التي ألفها في سنة خمس وخمسمائة، في بغداد، يشرح فيها أحواله وأموره، وتعرف بلامية العجم أولها‏:‏

أصالة الرأي صانتني عن الخطل * وحلية الفضل زانتني لدى العطل

مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع * والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

فيم الإقامة بالزوراء‏؟‏ لا سكني * بها ولا ناقتي فيها ولا جملي

وقد سردها ابن خلكان بكمالها، وأورد له غير ذلك من الشعر، والله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة

في المحرم منها رجع السلطان طغرلبك إلى طاعة أخيه محمود، بعد ما كان قد خرج عنها وأخذ بلاد أذربيجان‏.‏

وفيها‏:‏ أقطع السلطان محمود مدينة واسط لآقسنقر مضافاً إلى الموصل، فسير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فأحسن السيرة بها وأبان عن حزم وكفاية‏.‏

وفي صفر منها قتل الوزير السلطان محمود أبو طالب السميرمي، قتله باطني، وكان قد برز للمسير إلى همذان، وكانت قد خرجت زوجته في مائة جارية بمراكب الذهب، فلما بلغهن قتله رجعن حافيات حاسرات عن وجوههن، قد هنّ بعد العز، واستوزر السلطان مكانه شمس الدين الملك عثمان بن نظام الملك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/236‏)‏

وفيها‏:‏ التقى آقسنقر ودبيس بن صدقة، فهزمه دبيس وقتل خلقاً من جيشه، فأوثق السلطان منصور بن صدقة أخا دبيس وولده، ورفعهما إلى القلعة، فعند ذلك آذى دبيس تلك الناحية ونهب البلاد، وجز شعره ولبس السواد، ونهبت أموال الخليفة أيضاً، فنودي في بغداد للخروج لقتاله، وبرز الخليفة في الجيش وعليه قباء أسود وطرحه، وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب، وفي وسطه منطقة حرير صيني، ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك، ونقيب النقباء علي بن طراد الزينبي، وشيخ الشيوخ صدر الدين بن إسماعيل، وتلقاه آقسنقر البرشقي ومعه الجيش فقبلوا الأرض ورتب البرشقي الجيش، ووقف القراء بين يدي الخليفة، وأقبل دبيس وبين يديه الإماء يضربن بالدفوف والمخانيث بالملاهي، والتقى الفريقان، وقد شهر الخليفة سيفه وكبر واقترب من المعركة، فحمل عنتر بن أبي العسكر على ميمنة الخليفة فكسرها وقتل أميرها ثم حمل مرة ثانية فكشفهم كالأولى فحمل عليه عماد الدين زنكي ابن آقسنقر فأسر عنتر وأسر معه بديل بن زائدة، ثم انهزم عسكر دبيس، وألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، فأمر الخليفة بضرب أعناق الأسارى صبراً بين يديه، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر‏.‏

وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها في يوم عاشوراء من السنة الآتية، وكانت غيبته عن بغداد ستة عشر يوماً، وأما دبيس فإنه نجا بنفسه وقصد غزية ثم إلى المنتفق فصحبهم إلى البصرة فدخلها ونهبها وقتل أميرها، ثم خاف من البرشقي فخرج منها وسار على البرية والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل أخي السلطان محمود‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان سهام الدين تمراش بن إيلغازي ابن أرتق قلعة ماردين بعد وفاة أبيه، وملك أخوه سليمان ميافارقين‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر معدن نحاس بديار بكر قريباً من قلعة ذي القرنين‏.‏

وفيها‏:‏ دخل جماعة من الوعاظ إلى بغداد فوعظوا بها، وحصل لهم قبول تام من العوام‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن أحمد

ابن عمر بن أبي الأشعث، أبو محمد السمرقندي، أخو أبي القاسم، وكان من حفاظ الحديث، وقد زعم أن عنده منه ما ليس عند أبي زرعة الرازي، وقد صحب الخطيب مدة وجمع وألّف وصنّف ورحل إلى الآفاق، توفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بها عن ثمانين سنة‏.‏ ‏

 علي بن أحمد السميرمي

نسبة إلى قرية بأصبهان، كان وزير السلطان محمود، وكان مجاهراً بالظلم والفسق، وأحدث على الناس مكوساً، وجددها بعدما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة، وكان يقول‏:‏ قد استحييت من كثرة ظلم من لا ناصر له، وكثرة ما أحدثت من السنن السيئة‏.‏

ولما عزم على الخروج إلى همذان أحضر المنجمين فضربوا له تخت رمل لساعة خروجه ليكون أسرع لعودته، فخرج في تلك الساعة وبين يديه السيوف المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئاً، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسرات عن وجوههن، قد أبدلهن الله الذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، والحزن بعد السرور والفرح، جزاء وفاقاً، وذلك يوم الثلاثاء سلخ صفر، وما أشبه حالهن بقول أبي العتاهية في الخيزران وجواريها حين مات المهدي‏:‏

رحن في الوشي عليهن المسوح * كل بطاح من الناس له يوم يطوح

لتموتن ولو عمّرت ما عمر نوح * فعلى نفسك نح إن كنت لابد تنوح

 

 الحريري صاحب المقامات

القاسم بن علي بن محمد بن محمد بن عثمان، فخر الدولة أبو محمد الحريري، مؤلف ‏(‏المقامات‏)‏، التي سارت بفصاحتها الركبان، وكاد يربو فيها على سحبان، ولم يسبق إلى مثلها ولا يلحق‏.‏

ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث واشتغل باللغة والنحو، وصنف في ذلك كله، وفاق أهل زمانه، وبرز على أقرانه، وأقام ببغداد وعمل صناعة الإنشاء مع الكتاب في باب الخليفة، ولم يكن ممن تنكر بديهته ولا تتعكر فكرته وقريحته‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ صنف وقرأ الأدب واللغة، وفاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة والفصاحة، وحسن العبارة، وصنف ‏(‏المقامات‏)‏ المعروفة التي من تأملها عرف ذكاء منشئها، وقدره وفصاحتها، وعلمه‏.‏

توفي في هذه السنة بالبصرة‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن أبا زيد والحارث بن همام المطهر لا وجود لهما، وإنما جعل هذه المقامات من باب الأمثال، ومنهم من يقول‏:‏ أبو زيد بن سلام السروجي كان له وجود، وكان فاضلاً، وله علم ومعرفة باللغة، فالله أعلم‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أن أبا زيد كان اسمه المطهر بن سلام، وكان بصرياً فاضلاً في النحو واللغة، وكان يشتغل عليه الحريري بالبصرة، وأما الحارث بن همام فإنه غني بنفسه، لما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏كلكم حارث وكلكم همام‏)‏‏)‏‏.‏

كذا قال ابن خلكان‏.‏

وإنما اللفظ المحفوظ‏:‏ ‏(‏‏(‏أصدق الأسماء حارث وهمام‏)‏‏)‏، لأن كل أحد إما حارث وهو الفاعل، أو همام من الهمة وهو العزم والخاطر‏.‏ ‏

وذكر أن أول مقامة عملها الثامنة والأربعون وهي الحرامية، وكان سببها‏:‏ أنه دخل عليهم في مسجد البصرة رجل ذو طمرين فصيح اللسان، فاستسموه، فقال‏:‏ أبو زيد السروجي‏.‏

فعمل فيه هذه المقامة، فأشار عليه وزير الخليفة المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو علي الحسن بن أبي المعز بن صدقة، أن يكمل عليها تمام خمسين مقامة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كذا رأيته في نسخة بخط المصنف، على حاشيتها، وهو أصح من قول من قال‏:‏ إنه الوزير شرف الدين أبو نصر أنوشروان بن محمد بن خالد بن محمد القاشاني، وهو وزير المسترشد أيضاً‏.‏

ويقال‏:‏ إن الحريري كان قد عملها أربعين مقامة، فلما قدم بغداد ولم يصدق في ذلك لعجز الناس عن مثلها، فامتحنه بعض الوزراء أن يعمل مقامة فأخذ الدواة والقرطاس وجلس ناحية فلم يتيسر له شيء، فلما عاد إلى بلده عمل عشرة أخرى فأتمها خمسين مقامة‏.‏

وقد قال فيه أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر، وكان من جملة المكذبين له فيها‏:‏

شيخ لنا من ربيعة الفرس * ينتف عثنونه من الهوس

أنطقه الله بالمشان كما * رماه وسط الديوان بالخرس

ومعنى قوله بالمشان‏:‏ هو مكان بالبصرة‏.‏

وكان الحريري صدر ديوان المشان‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان ذميم الخلق، فاتفق أن رجلاً رحل إليه فلما رآه ازدراه ففهم الحريري ذلك فأنشأ يقول‏:‏

ما أنت أول سار غرّه قمر * ورائداً أعجبته خضرة الدمن

فاختر لنفسك غيري إنني رجل * مثل المعيديّ فاسمع بي ولا ترني

ويقال‏:‏ إن المعيدي اسم حصان جواد كان في العرب ذميم الخلق، والله أعلم‏.‏

 البغوي المفسر

الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب ‏(‏التفسير‏)‏، و‏(‏شرح السنة‏)‏، و‏(‏التهذيب‏)‏ في الفقه، و‏(‏الجمع بين الصحيحين‏)‏، و‏(‏المصابيح في الصحاح والحسان‏)‏، وغير ذلك، اشتغل على القاضي حسين، وبرع في هذه العلوم، وكان علّامة زمانه فيها، وكان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً‏.‏

توفي في شوال منها وقيل‏:‏ في سنة عشر، فالله أعلم‏.‏

ودفن مع شيخه القاضي حسين بالطالقان، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة

في يوم عاشوراء منها عاد الخليفة من الحلة إلى بغداد مؤيداً منصوراً من قتال دبيس‏.‏

وفيها‏:‏ عزم الخليفة على طهور أولاد أخيه، وكانوا اثني عشر ذكراً، فزينت بغداد سبعة أيام بزينة لم ير مثلها‏.‏

وفي شعبان منها قدم أسعد المهيتي مدرّساً بالنظامية ببغداد، وناظراً عليها، وصرف الباقرجي عنها، ووقع بينه وبين الفقهاء فتنة بسبب أنه قطع منهم جماعة، واكتفى بمائتي طالب منهم، فلم يهن ذلك على كثير منهم‏.‏

وفيها‏:‏ سار السلطان محمود إلى بلاد الكرج وقد وقع بينهم وبين القفجاق خلف فقاتلهم فهزمهم، ثم عاد إلى همدان‏.‏

وفيها‏:‏ ملك طغتكين صاحب دمشق مدينة حماه بعد وفاة صاحبها قراجا، وقد كان ظالماً غاشماً‏.‏

وفيها‏:‏ عزل نقيب العلويين وهدمت داره، وهو علي بن أفلح، لأنه كان عيناً لدبيس، وأضيف إلى علي بن طراد نقابة العلويين مع نقابة العباسيين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

ابن علي بن صدقة، التغلبي، المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي، الكاتب، له ديوان شعر مشهور‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ خُتم به شعر الشعراء بدمشق، شعره جيد حسن، وكان مكثراً لحفظ الأشعار المتقدمة وأخبارهم، وأورد له ابن خلكان قطعة جيدة من شعره من قصيدته التي لو لم يكن له سواها لكفته وهي التي يقول فيها‏:‏

خذا من صبا نجد أماناً لقلبه * فقد كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه * متى هب كان الوجد أيسر خطبه

خليليّ، لو أحببتما لعلمتما * محل الهوى من مغرم القلب صبه

أتذكر والذكرى تشوق وذو الهوى * يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

غرام على يأس الهوى ورجائه * وشوق على بعد المزار وقربه

وفي الركب مطويَّ الضلوع على جوىً * متى يدعه داعي الغرام يلبه

إذا خطرت من جانب الرمل نفحة * تضمن منها داؤه دون صحبه

ومحتجب بين الأسنة معرض * وفي القلب من أعراضه مثل حجبه

أغار إذا آنست في الحي أنة * حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه

توفي في رمضان منها عن سبع وتسعين سنة بدمشق‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثمان عشر وخمسمائة

فيها‏:‏ ظهرت الباطنية بآمد فقاتلهم أهلها فقتلوا منهم سبعمائة‏.‏

وفيها‏:‏ ردت شحنكية بغداد إلى سعد الدولة يرنقش الزكوي وسلم إليه منصور بن صدقة أخو دبيس ليسلمه إلى دار الخلافة، وورد الخبر بأن دبيساً قد التجأ إلى طغرلبك وقد اتفقا على أخذ بغداد، فأخذ الناس بالتأهب إلى قتالهما، وأمر آقنسقر بالعود إلى الموصل، فاستناب على البصرة عماد الدين زنكي بن آقنسنقر‏.‏

وفي ربيع الأول دخل الملك حسام تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب حلب، وقد ملكها بعد ملكها بلك بن بهرام، وكان قد حاصر قلعة منبج فجاءه سهم في حلقه فمات، فاستناب تمرتاش بحلب، ثم عاد إلى ماردين فأخذت منه بعد ذلك، أخذها آقسنقر مضافة إلى الموصل‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة القاضي أبا سعد الهروي ليخطب له ابنة السلطان سنجر، وشرع الخليفة في بناء دار على حافة دجلة لأجل العروس‏.‏

وحج بالناس جمال الدولة إقبال المسترشدي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي بن برهان

أبو الفتح، ويعرف بابن الحمامي، تفقه على أبي الوفاء بن عقيل، وبرع في مذهب الإمام أحمد، ثم نقم عليه أصحابه أشياء، فحمله ذلك على الانتقال إلى مذهب الشافعي، فاشتغل على الغزالي والشاشي، وبرع وساد وشهد عند الزينبي فقبله، ودرّس في النظامية شهراً‏.‏

توفي في جمادى ودفن بباب إبرز‏.‏

 عبد الله بن محمد بن جعفر

أبو علي الدامغاني، سمع الحديث، وشهد عند أبيه، وناب في الكرخ عن أخيه، ثم ترك ذلك كله وولي حجابة باب النوبى، ثم عزل ثم أعيد، توفي في جمادى‏.‏

 أحمد بن محمد

ابن إبراهيم أبو الفضل الميداني، صاحب كتاب ‏(‏الأمثال‏)‏، ليس له مثله في بابه، له شعر جيد، توفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان، والله سبحانه أعلم‏.‏

 

 ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة

فيها‏:‏ قصد دبيس والسلطان طغرل بغداد ليأخذاها من يد الخليفة، فلما اقتربا منها برز إليهما الخليفة في جحفل عظيم، والناس مشاة بين يديه إلى أول منزلة، ثم ركب الناس بعد ذلك، فلما أمست الليلة التي يقتتلون في صبيحتها، ومن عزمهم أن ينهبوا بغداد، أرسل الله مطراً عظيماً، ومرض السلطان طغرل في تلك الليلة، فتفرقت تلك الجموع، ورجعوا على أعقابهم خائبين خائفين، والتجأ دبيس وطغرل إلى الملك سنجر وسألاه الأمان من الخليفة، والسلطان محمود، فحبس دبيساً في قلعة، ووشى واشٍ أن الخليفة يريد أن يستأثر بالملك، وقد خرج من بغداد إلى اللان لمحاربة الأعداء، فوقع في نفس سنجر من ذلك وأضمر سوء، مع أنه قد زوج ابنته من الخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ قتل القاضي أبو سعد بن نصر بن منصور الهروي بهمدان، قتلته الباطنية، وهو الذي أرسله الخليفة إلى سنجر ليخطب ابنته‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 آقسنقر البرشقي

صاحب حلب، قتلته الباطنية - وهم الفداوية - في مقصورة جامعها يوم الجمعة، وقد كان تركياً جيد السيرة، محافظاً على الصلوات في أوقاتها، كثير البر والصدقات إلى الفقراء، كثير الإحسان إلى الرعايا، وقام في الملك بعده ولده السلطان عز الدين مسعود، وأقره السلطان محمود على عمله‏.‏

 بلال بن عبد الرحمن

ابن شريح بن عمر بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سليمان بن بلال بن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رحل وجال في البلاد، وكان شيخاً جهوري الصوت، حسن القراءة، طيب النغمة، توفي في هذه السنة بسمرقند، رحمه الله‏.‏

 القاضي أبو سعد الهروي

أحمد بن نصر، أحد مشاهير الفقهاء، وسادة الكبراء، قتلته الباطنية بهمذان فيها‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة

فيها‏:‏ تراسل السلطان محمود والخليفة على السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميله إليه، ويحذره من الخليفة، وأنه لا تؤمن غائلته، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخذك، فأصغى إلى قول عمه ورجع عن عزمه‏.‏

وأقبل ليدخل بغداد عامه ذلك، فكتب إليه الخليفة ينهاه عن ذلك لقلة الأقوات بها، فلم يقبل منه، وأقبل إليه، فلما أزف قدومه خرج الخليفة من داره وتجهز إلى الجانب الغربي فشق عليه ذلك وعلى الناس‏.‏

ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناس بنفسه خطبة عظيمة بليغة فصيحة جداً، وكبر وراءه خطباء الجوامع، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وقد سردها ابن الجوزي بطولها ورواها عن من حضرها، مع قاضي القضاة الزينبي، وجماعة من العدول، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادق وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيق والنصر‏.‏

ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذى كثير في حريمهم، ثم إن السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمة قليلة من المقاتلة، ولكن العامة كلهم معه، وقتل من الأتراك خلقاً، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيش كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدة، فلما استشعر الخليفة ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلح بين السلطان والخليفة، وأخذ الملك يستبشر بذلك جداً، ويعتذر إلى الخليفة مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرض حصل له‏.‏

وفيها‏:‏ كان أول مجلس تكلم فيه ابن الجوزي على المنبر يعظ الناس، وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وحضره الشيخ أبو القاسم علي بن يعلى العلوي البلخي، وكان نسيباً، علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفاً، والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ اقتتل طغتكين صاحب دمشق وأعداؤه من الفرنج، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم منهم أموالاً جزيلة، ولله الحمد والمنة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن محمد

أبو الفتح الطوسي الغزالي أخو أبي حامد الغزالي، كان واعظاً مفوهاً، ذا حظ من الكلام والزهد وحسن التأني، وله نكت جيدة، ووعظ مرة في دار الملك محمود فأطلق له ألف دينار، وخرج فإذا على الباب فرس الوزير بسرجها الذهب، وسلاحها وما عليها من الحلي، فركبها، فبلغ ذلك الوزير، فقال‏:‏ دعوه ولا يرد عليّ الفرس‏.‏

فأخذها الغزالي‏.‏

وسمع مرة ناعورة تئن فألقى عليها رداءه فتمزق قطعاً قطعاً‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد كانت له نكت إلا أن الغالب على كلامه التخليط والأحاديث الموضوعة المصنوعة، والحكايات الفارغة، والمعاني الفاسدة‏.‏

ثم أورد ابن الجوزي أشياء منكرة من كلامه، فالله أعلم، من ذلك‏:‏ أنه كان كلما أشكل عليه شيء رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب، وكان يتعصب إلى بليس ويعتذر له، وتكلم فيه ابن الجوزي بكلام طويل كثير‏.‏

قال‏:‏ ونسب إلى محبة المردان والقول بالمشاهدة، فالله أعلم بصحة ذلك‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان واعظاً مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه ودرّس بالنظامية نيابة عن أخيه لما تزهد، واختصر ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏ في مجلد سماه ‏(‏لباب الإحيا‏)‏، وله‏:‏ ‏(‏الذخيرة في علم البصيرة‏)‏، وطاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه، وكان مائلاً إلى الانقطاع والعزلة، والله أعلم بحاله‏.‏

 أحمد بن علي

ابن محمد الوكيل، المعروف بابن برهان، أبو الفتح الفقيه الشافعي، تفقه على الغزالي وعلى الكيا الهراسي، وعلى الشاشي، وكان بارعاً في الأصول، وله كتاب ‏(‏الذخيرة‏)‏ في أصول الفقه، وكان يعرف فنوناً جيدة، بعينها‏.‏

وولي تدريس النظامية ببغداد دون شهر‏.‏

 بهرام بن بهرام

أبو شجاع البيع، سمع الحديث وبنى مدرسة لأصحاب أحمد بكلواذي، ووقف قطعة من أملاكه على الفقهاء بها‏.‏

 صاعد بن سيار

ابن محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو الأعلا الإسحاقي الهروي الحافظ، أحد المتقنين، سمع الحديث وتوفي بعتورج قرية على باب هراة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والخليفة والسلطان محمود متحاربان والخليفة في السرادق في الجانب الغربي، فلما كان يوم الأربعاء رابع المحرم توصل جماعة من جند السلطان إلى دار الخلافة فحصل فيها ألف مقاتل عليهم السلاح، فنهبوا الأموال، وخرج الجواري وهن حاسرات يستغثن حتى دخلن دار الخاتون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/244‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وأنا رأيتهن كذلك، فلما وقع ذلك ركب الخليفة في جيشه وجيء بالسفن وانقلبت بغداد بالصراخ حتى كأن الدنيا قد زلزلت، وثارت العامة مع جيش الخليفة فكسروا جيش السلطان، وقتلوا خلقاً من الأمراء، وأسروا آخرين ونهبوا دار السلطان ودار وزيره، ودار طبيبه أبي البركات، وأخذوا ما كان في داره من الودائع، ومرت خبطة عظيمة جداً، حتى أنهم نهبوا الصوفية، برباط نهر جور، وجرت أمور طويلة، ونالت العامة من السلطان، وجعلوا يقولون له‏:‏ يا باطني تترك الفرنج وتقاتل الخليفة‏.‏

ثم إن الخليفة انتقل إلى داره في سابع المحرم، فلما كان في يوم عاشوراء تماثل الحال وطلب السلطان من الخليفة الأمان والصلح، فلان الخليفة إلى ذلك، وتباشر الناس بالصلح، فأرسل إليه الخليفة نقيب النقباء وقاضي القضاة، وشيخ الشيوخ وبضعاً وثلاثين شاهداً، فاحتبسهم السلطان عنده ستة أيام فساء ذلك الناس، وخافوا من فتنة أخرى أشد من الأولى، وكان يرنقش الزكوي شحنة بغداد يغري السلطان بأهل بغداد لينهب أموالهم، فلم يقبل منه، ثم أدخل لأولئك الجماعة فأدخلوا عليه وقت المغرب فصلى بهم القاضي وقرأوا عليه كتاب الخليفة، فقام قائماً، وأجاب الخليفة إلى جميع ما اقترح عليه، ووقع الصلح والتحليف، ودخل جيش السلطان وهم في غاية الجهد من قلة الطعام عندهم في العسكر، وقالوا‏:‏ لو لم يصلح لمتنا جوعاً‏.‏

وظهر من السلطان حلم كثير عن العوام، وأمر الخليفة برد ما نهب من دور الجند، وأن من كتم شيئاً أبيح دمه‏.‏

وبعث الخليفة علي بن طراد الزينبي النقيب إلى السلطان سنجر ليبعد عن بابه دبيساً، وأرسل معه الخلع والإكرام، فأكرم سنجر رسول الخليفة، وأمر بضرب الطبول على بابه في ثلاثة أوقات، وظهر منه طاعة كثيرة، ثم مرض السلطان محمود ببغداد فأمره الطبيب بالانتقال عنها إلى همذان، فسار في ربيع الآخر فوضع شحنكية بغداد إلى عماد الدين زنكي، فلما وصل السلطان إلى همذان بعث على شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز، وجعل إليه الحلة وبعث عماد الدين زنكي إلى الموصل وأعمالها‏.‏

وفيها‏:‏ درس الحسن بن سليمان بالنظامية ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ورد أبو الفتوح الإسفرايني فوعظ ببغداد، فأورد أحاديث كثيرة منكرة جداً، فاستتيب منها وأمر بالانتقال منها إلى غيرها فشد معه جماعة من الأكابر وردوه إلى ما كان عليه، فوقع بسببه فتن كثيرة بين الناس، حتى رجمه بعض العامة بالأسواق، وذلك لأنه كان يطلق عبارات لا يحتاج إلى إيرادها، فنفرت منه قلوب العامة وأبغضوه، وجلس الشيخ عبد القادر الجيلي فتكلم على الناس فأعجبهم، وأحبوه وتركوا ذاك‏.‏

وفيها‏:‏ قتل السلطان سنجر من الباطنية اثنا عشر ألفاً‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن عبد الملك

ابن إبراهيم بن أحمد، أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي، صاحب ‏(‏التاريخ‏)‏ من بيت الحديث‏.‏

وذكر ابن الجوزي عن شيخه عبد الوهاب أنه طعن فيه‏.‏

توفي فجأة في شوال، ودفن إلى جانب ابن شريح‏.‏

فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلويه

سمعت الخطيب وابن المسلمة وغيرهما، وكانت واعظة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، وقد سمع عليها ابن الجوزي مسند الشافعي وغيره‏.‏

 أبو محمد عبد الله بن محمد

ابن السيد البطليوسي، ثم التنيسي صاحب المصنفات في اللغة وغيرها، جمع المثلث في مجلدين وزاد فيه على قطرب شيئاً كثيراً جداً، وله شرح ‏(‏سقط الزند‏)‏ لأبي العلاء، أحسن من شرح المصنف، وله شرح ‏(‏أدب الكاتب‏)‏ لابن قتيبة، ومن شعره الذي أورده له ابن خلكان‏:‏

أخو العلم حي خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى * يظن من الأحياء وهو عديم

 ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

في أولها قدم رسول سنجر إلى الخليفة يسأل منه أن يخطب له على منابر بغداد، وكان يخطب له في كل جمعة بجامع المنصور‏.‏

وفيها‏:‏ مات ابن صدقة وزير الخليفة، وجعل مكانه نقيب النقباء‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمع السلطان محمود بعمه سنجر واصطلحا بعد خشونة، وسلم سنجر دبيساً إلى السلطان محمود على أن يسترضي عنه الخليفة ويعزل زنكي عن الموصل، ويسلم ذلك إلى دبيس‏.‏

واشتهر في ربيع الأول ببغداد أن دبيساً أقبل إلى بغداد في جيش كثيف، فكتب الخليفة إلى السلطان محمود‏:‏ لئن لم تكف دبيساً عن القدوم إلى بغداد وإلا خرجنا إليه ونقضنا ما بيننا وبينك من العهود والصلح‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الأتابك زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وما حولها من البلاد‏.‏

وفيها‏:‏ ملك تاج الملوك بوري بن طغتكين مدينة دمشق بعد وفاة أبيه، وقد كان أبوه من مماليك ألب أرسلان، وكان عاقلاً حازماً عادلاً خيراً، كثير الجهاد في الفرنج، رحمه الله‏.‏

وفيها‏:‏ عمل ببغداد مصلى للعيد ظاهر باب الحلية، وحوط عليه، وجعل فيه قبلة‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم المتقدم ذكره‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسن بن علي بن صدقة

أبو علي وزير الخليفة المسترشد، توفي في رجب منها‏.‏

ومن شعره الذي أورد له ابن الجوزي وقد بالغ في مدح الخليفة فيه وأخطأ‏:‏

وجدت الورى كالماء طعماً ورقة * وأن أمير المؤمنين زلاله

وصورت معنى العقل شخصاً مصوراً * وأن أمير المؤمنين مثاله

فلولا مكان الشرع والدين والتقى * لقلت من الأعظام جل جلاله

 الحسين بن علي

ابن أبي القاسم اللامتني، من أهل سمرقند، روى الحديث وتفقه، وكان يضرب به المثل في المناظرة، وكان خيراً ديناً على طريقة السلف، مطرحاً للتكلف أماراً بالمعروف، قدم من عند الخاقان ملك ما وراء النهر في رسالة إلى دار الخلافة، فقيل له‏:‏ ألا تحج عامك هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ لا أجعل الحج تبعاً لرسالتهم‏.‏

فعاد إلى بلده فمات في رمضان من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة، رحمه الله‏.‏

طغتكين الأتابك

صاحب دمشق التركي، أحد غلمان تتش، كان من خيار الملوك وأعدلهم وأكثرهم جهاداً للفرنج، وقام من بعده ولده تاج الملوك بوري‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

في المحرم منها دخل السلطان محمود إلى بغداد، واجتهد في إرضاء الخليفة عن دبيس، وأن يسلم إليه بلاد الموصل، فامتنع الخليفة من ذلك وأبى أشد الإباء، هذا وقد تأخر دبيس عن الدخول إلى بغداد، ثم دخلها وركب بين الناس فلعنوه وشتموه في وجهه، وقدم عماد الدين زنكي فبذل للسلطان في كل سنة مائة ألف دينار، وهدايا وتحفاً، والتزم للخليفة بمثلها على أن لا يولي دبيساً شيئاً وعلى أن يستمر زنكي على عمله بالموصل، فأقره على ذلك وخلع عليه، ورجع إلى عمله فملك حلب وحماه، وأسر صاحبها سونج بن تاج الملوك، فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار‏.‏

وفي يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر خلع السلطان على نقيب النقباء استقلالاً، ولا يعرف أحد من العباسيين باشر الوزارة غيره‏.‏

وفي رمضان منها جاء دبيس في جيش إلى الحلة فملكها ودخلها في أصحابه، وكانوا ثلاثمائة فارس، ثم إنه شرع في جمع الأموال وأخذ الغلات من القرى حتى حصل نحواً من خمسمائة ألف دينار، واستخدم قريباً من عشرة آلاف مقاتل، وتفاقم الحال بأمره، وبعث إلى الخليفة يسترضيه فلم يرض عليه، وعرض عليه أموالاً فلم يقبلها، وبعث إليه السلطان جيشاً فانهزم إلى البرية ثم أغار على البصرة فأخذ منها حواصل السلطان والخليفة، ثم دخل البرية فانقطع خبره‏.‏

وفي هذه السنة قتل صاحب دمشق من الباطنية ستة آلاف، وعلق رؤس كبارهم على باب القلعة، وأراح الله الشام منهم‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الفرنج مدينة دمشق فخرج إليهم أهلها، فقاتلوهم قتالاً شديداً، وبعث أهل دمشق عبد الله الواعظ ومعه جماعة من التجار يستغيثون بالخليفة، وهموا بكسر منبر الجامع، حتى وعدهم بأنه سيكتب إلى السلطان ليبعث لهم جيشاً يقاتلون الفرنج، فسكنت الأمور، فلم يبعث لهم جيشاً حتى نصرهم الله من عنده، فإن المسلمين هزموهم وقتلوا منهم عشرة آلاف، ولم يفلت منهم سوى أربعين نفساً، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقتل بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية‏.‏

وفيها‏:‏ تخبط الناس في الحج حتى ضاق الوقت بسبب فتنة دبيس، حتى حج بهم برنقش الزكوي، وكان اسمه بغاجق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أسعد بن أبي نصر

الميهني أبو الفتح، أحد أئمة الشافعية في زمانه، تفقه على أبي المظفر السمعاني، وساد أهل زمانه وبرع وتفرد من بين أقرانه، وولي تدريس النظامية ببغداد، وحصل له وجاهة عند الخاص والعام وعلق عنه تعليقة في الخلاف‏.‏

ثم عزل عن النظامية فسار إلى همذان فمات بها في هذه السنة، رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالعراق تهدم بسببها دور كثيرة ببغداد‏.‏

ووقع بأرض الموصل مطر عظيم فسقط بعضه ناراً تأجج فأحرقت دوراً كثيرة، وخلقاً من ذلك المطر، وتهارب الناس‏.‏

وفيها‏:‏ وجد ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان، فخاف الناس منها خوفاً شديداً‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند وكان بها محمد بن خاقان‏.‏

وفيها‏:‏ ملك عماد الدين زنكي بلاداً كثيرة من الجزيرة وهما مع الفرنج، وجرت معهم حروب طويلة، نصر عليهم في تلك المواقف كلها، ولله الحمد‏.‏

وقتل خلقاً من جيش الروم حين قدموا الشام، ومدحه الشعراء على ذلك‏.‏

قتل خليفة مصر

وفي ثاني ذي القعدة قتل الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بن المستعلي صاحب مصر، قتله الباطنية وله من العمر أربع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، وكان هو العاشر من ولد عبيد الله المهدي؛ ولما قتل تغلب على الديار المصرية غلام من غلمانه أرمني فاستحوذ على الأمور ثلاثة أيام حتى حضر أبو علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، فأقام الخليفة الحافظ أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر؛ وله من العمر ثمان وخمسون سنة، ولما أقامه استحوذ على الأمور دونه وحصره في مجلسه، لا يدع أحداً يدخل إليه إلا من يريد هو، ونقل الأموال من القصر إلى داره، ولم يبق للحافظ سوى الاسم فقط‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد

أبو إسحاق الكلبي من أهل غزة، جاوز الثمانين، وله شعر جيد في الأتراك، فمنه‏:‏ ‏

في فتية من جيوش الترك ما تركت * للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة * حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وله‏:‏

ليت الذي بالعشق دونك خصني * يا ظالمي قسم المحبة بيننا

ألقى الهزبر فلا أخاف وثوبه * ويرو عني نظر الغزال إذا دنا

وله‏:‏

إنما هذه الحياة متاع * والسفيه الغوي من يصطفيها

ما مضى فات والمؤمل غيب * ولك الساعة التي أنت فيها

وله أيضاً‏:‏

قالوا‏:‏ هجرت الشعر قلت‏:‏ ضرورة * باب الدواعي والبواعث مغلق

خلت الديار فلا كريم يرتجى * منه النوال ولا مليح يعشق

ومن العجائب أنه لا يشترى * ويخان فيه مع الكساد ويسرق

كانت وفاته في هذه السنة ببلاد بلخ ودفن بها‏.‏

ومما أنشده ابن خلكان له‏:‏

إشارة منك تكفينا وأحسن ما * رد السلام غداة البين بالعنم

حتى إذا طاح عنها المرط من دهش * وانحل بالضم سلك العقد في الظلم

تبسمت فأضاء الليل فالتقطت * حبات منتثر في ضوء منتظم

 الحسين بن محمد

ابن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبد الله بن سليمان ابن وهب الدباس أبو عبد الله الشاعر المعروف بالبارع، قرأ القراءات وسمع الحديث، وكان عارفاً بالنحو واللغة والأدب، وله شعر حسن، توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين‏.‏

 محمد بن سعدون بن مرجا

أبو عامر العبدري القرشي الحافظ، أصله من بيروقة من بلاد المغرب وبغداد، وسمع بها على طراد الزينبي والحميدي وغير واحد، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، وكان يذهب في الفروع مذهب الظاهرية، توفي في ربيع الآخر في بغداد‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة

فيها‏:‏ ضل دبيس عن الطريق في البرية فأسره بعض أمراء الأعراب بأرض الشام، وحمله إلى ملك دمشق بوري بن طغتكين، فباعه من زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل بخمسين ألف دينار، فلما حصل في يده لم يشك أنه سيهلكه، لما بينهما من العداوة، فأكرمه زنكي وأعطاه أموالاً جزيلة وقدمه واحترمه، ثم جاءت رسل الخليفة في طلبه فبعثه معهم، فلما وصل إلى الموصل حبس قلعتها‏.‏

وفيها‏:‏ وقع بين الأخوين محمود ومسعود، فتواجها للقتال ثم اصطلحا‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة الملك محمود بن ملكشاه فأقيم في الملك مكانه ابنه داود، وجعل له إتابك وزير أبيه وخطب له بأكثر البلاد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن عبد القاهر الصوفي

سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان شيخاً لطيفاً، عليه نور العبادة والتعلم‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ أنشدني‏:‏

على كل حال فاجعل الحزم عدة * تقدمها بين النوائب والدهر

فإن نلت خيراً نلته بعزيمة * وإن قصرت عنك الأمور فعن عذر

قال‏:‏ وأنشدني أيضاً‏:‏

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا * وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا عدتي في كل نائبة * ومن عليه لكشف الضر أعتمد

وقد مددت يدي والضر مشتمل * إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة * فبحر جودك يروي كل من يرد

 الحسن بن سليمان

ابن عبد الله بن عبد الغني أبو علي الفقيه، مدرس النظامية، وقد وعظ بجامع القصر، وكان يقول‏:‏ ما في الفقه منتهى، ولا في الوعظ مبتدى‏.‏

توفي فيها، وغسله القاضي أبو العباس بن الرطبي، ودفن عند أبي إسحاق‏.‏

 حماد بن مسلم

الرحبي الدباس، كان يذكر له أحوال ومكاشفات واطلاع على مغيبات، وغير ذلك من المقامات، ورأيت ابن الجوزي يتكلم فيه ويقول‏:‏ كان عرياً من العلوم الشرعية، وإنما كان ينفق على الجهال‏.‏

وذكر عن ابن عقيل أنه كان ينفر منه، وكان حماد الدباس يقول‏:‏ ابن عقيل عدوي‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان الناس ينذرون له فيقبل ذلك، ثم ترك ذلك وصار يأخذ من المنامات وينفق على أصحابه‏.‏

توفي في رمضان ودفن بالشونيزية‏.‏

 علي بن المستظهر بالله

أخو الخليفة المسترشد، توفي في رجب منها وله من العمر إحدى وعشرون سنة، فترك ضرب الطبول وجلس الناس للعزاء أياماً‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن أبي الفضل الماهاني، أحد أئمة الشافعية، تفقه بإمام الحرمين وغيره، ورحل في طلب الحديث، ودرس وأفتى وناظر‏.‏

توفي فيها وقد جاوز التسعين، ودفن بقرية ماهان من بلاد مرو‏.‏

 محمود السلطان بن السلطان ملكشاه

كان من خيار الملوك، فيه حلم وأناة وصلابة، وجلسوا للعزاء به ثلاثة أيام، سامحه الله‏.‏

 هبة الله بن محمد

ابن عبد الواحد بن العباس بن الحصين، أبو القاسم الشيباني، راوي المسند عن علي بن المهذب، عن أبي بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، وقد سمع قديماً لأنه ولد سنة ثنتين وثلاثين وأربعمائة، وباكر به أبوه فأسمعه، ومعه أخوه عبد الواحد، على جماعة من علية المشايخ، وقد روى عنه ابن الجوزي وغير واحد، وكان ثقة ثبتاً صحيح السماع، توفي بين الظهر والعصر يوم الأربعاء منها، وله ثلاث وتسعون سنة، رحمه الله، والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة

فيها‏:‏ قدم مسعود بن محمد بن ملكشاه بغداد وقدمها قراجاً الساقي، وسلجوق شاه بن محمد، وكل منهما يطلب الملك لنفسه، وقدم عماد الدين زنكي لينضم إليهما فتلقاه الساقي فهزمه فهرب منه إلى تكريت، فخدمه نائب قلعتها نجم الدين أيوب والد الملك صلاح الدين يوسف، فاتح بيت المقدس كما سيأتي إن شاء الله، حتى عاد إلى بلاده، وكان هذا هو السبب في مصير نجم الدين أيوب إليه، وهو بحلب، فخدم عنده ثم كان من الأمور ما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم إن الملكين مسعود وسلجوق شاه اجتمعا فاصطلحا وركبا إلى الملك سنجر فاقتتلا معه، وكان جيشه مائة وستين ألفاً وكان جيشهما قريباً من ثلاثين ألفاً، وكان جملة من قتل بينهما أربعين ألفاً، وأسر جيش سنجر قراجاً الساقي فقتله صبراً بين يديه، ثم أجلس طغرل بن محمد على سرير الملك، وخطب له على المنابر، ورجع سنجر إلى بلاده، وكتب طغرل إلى دبيس وزنكي ليذهبا إلى بغداد ليأخذاها، فأقبلا في جيش كثيف فبرز إليهما الخليفة فهزمها، وقتل خلقاً من أصحابهما، وأزاح الله شرهما عنه، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ الفاطمي، فنقل الحافظ الأموال التي كان أخذها إلى داره واستوزر بعده أبا الفتح، يانس الحافظي، ولقبه أمير الجيوش، ثم احتال فقتله واستوزر ولده حسناً، وخطب له بولاية العهد‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المسترشد وزيره علي بن طراد الزينبي واستوزر أنوشروان بن خالد بعد تمنع‏.‏

وفيها‏:‏ ملك دمشق شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين بعد وفاة أبيه، واستوزر يوسف بن فيروز، وكان خيراً، ملك بلاداً كثيرة، وأطاعه إخوته‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عبيد الله

ابن محمد بن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن حمدان بن عمر بن عيسى بن إبراهيم بن غثنة بن يزيد السلمي، ويعرف بابن كادش العكبري، أبو العز البغدادي، سمع الحديث الكثير، وكان يفهمه ويرويه، وهو آخر من روى عن الماوردي، وقد أثنى عليه غير واحد، منهم أبو محمد بن الخشاب، وكان محمد بن ناصر يتهمه ويرميه بأنه اعترف بوضع حديث، فالله أعلم‏.‏

وقال عبد الوهاب الأنماطي‏:‏ كان مخلطاً‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها‏.‏

 محمد بن محمد بن الحسين

ابن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، سمع أباه وغيره وتفقه وناظر وأفتى ودرّس، وكان له بيت فيه مال فعدي عليه من الليل فقتل وأخذ ماله، ثم أظهر الله عز وجل على قاتله فقتلوه‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة

في صفر منها دخل السلطان مسعود إلى بغداد فخطب له بها وخلع عليه الخليفة وولاه السلطنة، ونثر الدنانير والدراهم على الناس، وخلع على السلطان داود بن محمود‏.‏

وفيها‏:‏ جمع دبيس جمعاً كثيراً بواسط، فأرسل إليه السلطان جيشاً فكسروه، وفرقوا شمله‏.‏

ثم إن الخليفة عزم على الخروج إلى الموصل ليأخذها من زنكي فعرض عليه زنكي من الأموال والتحف شيئاً كثيراً ليرجع عنه فلم يقبل، ثم بلغه أن السلطان مسعود قد اصطلح مع دبيس وخلع عليه، فكر راجعاً سريعاً إلى بغداد سالماً معظماً‏.‏

وفيها‏:‏ مات ابن الزاغوني أحد أئمة الحنابلة، فطلب حلقته ابن الجوزي، وكان شاباً، فحصلت لغيره، ولكن أذن له الوزير أنوشروان في الوعظ، فتكلم في هذه السنة على الناس في أماكن متعددة من بغداد، وكثرت مجالسه وازدحم عليه الناس‏.‏

وفيها‏:‏ ملك شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق مدينة حماة، وكانت بيد زنكي‏.‏

وفي ذي الحجة نهب التركمان مدينة طرابلس وخرج إليهم القومص لعنه الله الفرنجي فهزموه وقتلوا خلقاً من أصحابه، وحاصروه فيها مدة طويلة، حتى طال الحصار، فانصرفوا‏.‏

وفيها‏:‏ تولي قاسم بن أبي فليتة مكة بعد أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ قتل شمس الملوك أخاه سونج‏.‏

وفيها‏:‏ اشترى الباطنية قلعة حصن القدموس بالشام فسكنوها وحاربوا من جاورهم من المسلمين والفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ اقتتلت الفرنج فيما بينهم قتالاً شديداً فمحق الله بسبب ذلك خلقاً كثيراً، وغزاهم فيها عماد الدين زنكي فقتل منهم ألف قتيل، وغنم أموالا جزيلة، ويقال لها‏:‏ غزوة أسوار‏.‏

وحج بالناس فيها قطز الخادم وكذا في التي بعدها وقبلها‏.‏

 وتوفي فيها من الأعيان‏:‏

 أحمد بن سلامة

ابن عبد الله بن مخلد بن إبراهيم، أبو العباس بن الرطبي، تفقه على أبي إسحاق وابن الصباغ ببغداد، وبأصبهان على محمد بن ثابت الخجندي، ثم تولى الحكم ببغداد بالحريم والحسبة ببغداد، وكان يؤدب أولاد الخليفة، توفي في رجب منها ودفن عند أبي إسحاق‏.‏

 أسعد بن أبي نصر بن أبي الفضل

أبو الفضل الميهني مجد الدين أحد أئمة الشافعية، وصاحب ‏(‏الخلاف والمطروقة‏)‏، وقد درس بالنظامية في سنة سبع عشرة وخمسمائة إلى سنة ثلاث وعشرين فعزل عنها، واستمر أصحابه هنالك وقد تقدم في سنة سبع عشرة أنه وليها، وأنه توفي في سنة ثلاث وعشرين‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ توفي سنة سبع وعشرين

 ابن الزاغوني الحنبلي

علي بن عبد الله بن نصر بن السري الزاغوني، الإمام المشهور، قرأ القراءات وسمع الحديث، واشتغل بالفقه والنحو واللغة، وله المصنفات الكثيرة في الأصول والفروع، وله يد في الوعظ، واجتمع الناس في جنازته، وكانت حافلة جداً‏.‏

 الحسن بن محمد

ابن إبراهيم البورباري، من قراء أصبهان، سمع الحديث ورحل وخرج، وله تاريخ، وكان يكتب حسناً ويقرأ فصيحاً، توفي بأصبهان في هذه السنة‏.‏

 علي بن يعلى

ابن عوض، أبو القاسم العلوي الهروي، سمع مسند أحمد من أبي الحصين، والترمذي من أبي عامر الأزدي، وكان يعظ الناس بنيسابور، ثم قدم بغداد فوعظ بها، فحصل له القبول التام، وجمع أموالاً وكتباً‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهو أول من سلكني في الوعظ، وتكلمت بين يديه وأنا صغير، وتكلمت عند انصرافه‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن يحيى أبو عبد الله العثماني الديباجي، وكان ببغداد يعرف بالمقدسي، كان أشعري الاعتقاد ووعظ الناس ببغداد‏.‏ ‏

قال ابن الجوزي‏:‏ سمعته ينشد في مجلسه قوله‏:‏

دع دموعي يحق لي أن أنوحا * لم تدع لي الذنوب قلباً صحيحاً

أخلقت مهجتي أكف المعاصي * ونعاني المشيب نعياً فصيحاً

كلما قلت قد برا جرح قلبي * عاد قلبي من الذنوب جريحاً

إنما الفوز والنعيم لعبد * جاء في الحشر آمناً مستريحاً

 محمد بن محمد

ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن خلف بن حازم بن أبي يعلى بن الفراء، الفقيه ابن الفقيه، ولد سنة سبع وخمسين وأربعمائة، سمع الحديث وكان من الفقهاء الزاهدين الأخيار، توفي في صفر منها‏.‏

 أبو محمد عبد الجبار

ابن أبي بكر محمد بن حمديس الأزدي الصقلي الشاعر المشهور، أنشد له ابن خلكان أشعاراً رائقة فمنها قوله‏:‏

قم هاتها من كف ذات الوشاح * فقد نعى الليل بشير الصباح

باكر إلى اللذات واركب لها * سوابق اللهو ذوات المراح

من قبل أن نرشف شمس الضحا * ريق الغوادي من ثغور الأقاح

ومن جملة معانيه النادرة‏:‏

زادت على كحل الجفون تكحلاً *وتسم نصل السهم وهو قتولُ

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

فيها‏:‏ اصطلح الخليفة وزنكي‏.‏

وفيها‏:‏ فتح زنكي قلاعاً كثيرة، وقتل خلقاً من الفرنج‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ فتح شمس الملوك الشقيف تيروت، ونهب بلاد الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ قدم سلجوق شاه بغداد فنزل بدار المملكة وأكرمه الخليفة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار، ثم قدم السلطان مسعود وأكثر أصحابه ركاب على الجمال لقلة الخيل‏.‏

وفيها‏:‏ تولى إمرة بني عقيل أولاد سليمان بن مهارش العقيلي، إكراماً لجدهم‏.‏

وفيها‏:‏ أعيد ابن طراد إلى الوزارة‏.‏

وفيها‏:‏ خلع على إقبال المسترشدي خلع الملوك، ولقب ملك العرب سيف الدولة، ثم ركب في الخلع وحضر الديوان‏.‏

وفيها‏:‏ قوي أمر الملك طغرل وضعف أمر الملك مسعود‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي بن إبراهيم

أبو الوفا الفيروزأبادي، أحد مشايخ الصوفية، يسكن رباط الزوزني، وكان كلامه يستحلى، وكان يحفظ من أخبار الصوفية وسيرهم وأشعارهم شيئاً كثيراً‏.‏

 أبو علي الفارقي

الحسن بن إبراهيم بن مرهون أبو علي الفارقي، ولد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني صاحب المحاملي، ثم على الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ، وسمع الحديث وكان يكرر على ‏(‏المهذب‏)‏ و‏(‏الشامل‏)‏‏.‏

ثم ولي القضاء بواسط، وكان حسن السيرة جيد السريرة، ممتعاً بعقله وحواسه، إلى أن توفي في محرم هذه السنة عن ست وسبعين سنة‏.‏

 عبد الله بن محمد

ابن أحمد بن الحسن، أبو محمد بن أبي بكر الشاشي، سمع الحديث وتفقه على أبيه، وناظر وأفتى وكان فاضلاً واعظاً فصيحاً مفوهاً، شكره ابن الجوزي في وعظه وحسن نظمه ونثره، ولفظه، توفي في المحرم وقد قارب الخمسين، ودفن عند أبيه‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن علي بن أبي بكر العطان، ويعرف بابن الحلاج البغدادي، سمع الحديث وقرأ القراءات، وكان خيراً زاهداً عابداً، يتبرك بدعائه ويزار‏.‏

 محمد بن عبد الواحد الشافعي

أبو رشيد، من أهل آمل طبرستان، ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وحج وأقام بمكة، وسمع من الحديث شيئاً يسيراً، وكان زاهداً منقطعاً عن الناس مشتغلاً بنفسه، ركب مرة مع تجار في البحر، فأوفوا على جزيرة‏.‏

فقال‏:‏ دعوني في هذه أعبد الله تعالى‏.‏

فمانعوه، فأبى إلاّ المقام بها، فتركوه وساروا فردتهم الريح إليه، فقالوا‏:‏ إنه لا يمكن المسير إلا بك، وإذا أردت المقام بها فارجع إليها‏.‏

فسار معهم ثم رجع إليها فأقام بها مدة ثم ترحل عنها ثم رجع إلى بلده آمل فمات بها، رحمه الله‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان يقتات في تلك الجزيرة بأشياء موجودة فيها، وكان بها ثعبان يبتلع الإنسان، وبها عين ماء يشرب منها ويتوضأ منها، وقبره مشهور بآمل يزار‏.‏

أم خليفة

المسترشد توفيت ليلة الاثنين بعد العتمة تاسع عشر شوال منها، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة المسترشد وولاية الراشد، وكان سبب ذلك أنه‏:‏ كان بين السلطان مسعود وبين الخليفة واقع كبير، اقتضى الحال أن الخليفة أراد قطع الخطبة له من بغداد فاتفق موت أخيه طغرل بن محمد بن ملكشاه، فسار إلى البلاد فملكها، وقوي جأشه، ثم شرع يجمع العساكر ليأخذ بغداد من الخليفة، فلما علم الخليفة بذلك انزعج واستعد لذلك، وقفز جماعة من رؤس الأمراء إلى الخليفة خوفاً على أنفسهم من سطوة الملك محمود، وركب الخليفة من بغداد في جحافل كثيرة، فيهم القضاة ورؤس الدولة من جميع الأصناف، فمشوا بين يديه أول منزلة حتى وصل إلى السرادق، وبعث بين يديه مقدمة وأرسل الملك مسعود مقدمة عليهم دبيس بن صدقة بن منصور، فجرت خطوب كثيرة، وحاصل الأمر أن الجيشين التقيا في عاشر رمضان يوم الاثنين فاقتتلوا قتالاً شديداً، ولم يقتل من الصفين سوى خمسة أنفس‏.‏ ‏

ثم حمل الخليفة على جيش مسعود فهزمهم، ثم تراجعوا فحملوا على جيش الخليفة فهزموهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وأسروا الخليفة، ثم نهبت أموالهم وحواصلهم، من جملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار، وغير ذلك من الأثاث والخلع والآنية والقماش، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وطار الخبر في الأقاليم بذلك، وحين بلغ الخبر إلى بغداد انزعج الناس لذلك، وزلزلوا زلزالاً شديداً، صورة ومعنى، وجاءت العامة إلى المنابر فكسروها وامتنعوا من حضور الجماعات، وخرج النساء في البلد حاسرات ينحن على الخليفة، وما جرى عليه من الأسر، وتأسى بأهل بغداد في ذلك خلق كثير من أهل البلاد، وتمت فتنة كبيرة وانتشرت في الأقاليم، واستمر الحال على ذلك شهر ذي القعدة والشناعة في الأقاليم منتشرة، فكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يحذره غب ذلك عاقبة ما وقع فيه من الأمر العظيم، ويأمره أن يعيد الخليفة إلى مكانه ودار خلافته‏.‏

فامتثل الملك مسعود ذلك وضرب للخليفة سرادق عظيم، ونصب له فيه قبة عظيمة وتحتها سرير هائل، وألبس السواد على عادته وأركبه بعض ما كان يركبه من مراكبه، وأمسك لجام الفرس ومشى في خدمته، والجيش كلهم مشاة حتى أجلس الخليفة على سريره، ووقف الملك مسعود فقبل الأرض بين يديه وخلع الخليفة عليه، وجيء بدبيس مكتوفاً وعن يمينه أميران، وعن يساره أميران، وسيف مسلول ونسعة بيضاء، فطرح بين يدي الخليفة ماذا يرسم تطبيباً لقلبه، فأقبل السلطان فشفع في دبيس وهو ملقى يقول‏:‏ العفو يا أمير المؤمنين، أنا أخطأت والعفو عند المقدرة‏.‏

فأمر الخليفة بإطلاقه وهو يقول‏:‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏.‏

فنهض قائماً والتمس أن يقبل يد الخليفة فأذن له فقبلها، وأمرها على وجهه وصدره، وسأل العفو عنه وعما كان منه‏.‏

واستقر الأمر على ذلك، وطار هذا الخبر في الآفاق وفرح الناس بذلك، فلما كان مستهل ذي الحجة جاءت الرسل من جهة الملك سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الإحسان إلى الخليفة، وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه، وأرسل مع الرسل جيشاً ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد، فصحب الجيش عشرة من الباطنية، فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعاً، ولم يلحق الناس منه إلا الرسوم، وقتلوا معه أصحابه منهم عبيد الله بن سكينة، ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله، وقيل‏:‏ إنهم كانوا مجهزين لقتله، فالله أعلم‏.‏

وطار هذا الخبر في الآفاق فاشتد حزن الناس على الخليفة المسترشد، وخرجت النساء في بغداد حاسرات عن وجوههن ينحن في الطرقات، قتل على باب مراغة في يوم الخميس سابع عشر ذي الحجة وحملت أعضاؤه إلى بغداد، وعمل عزاؤه ثلاثة أيام بعد ما بويع لولده الراشد‏.‏ ‏

وقد كان المسترشد شجاعاً مقداماً بعيد الهمة فصيحاً بليغاً، عذب الكلام حسن الإيراد، مليح الخط، كثير العبادة محبباً إلى العامة والخاصة، وهو آخر خليفة رُئي خطيباً، قتل وعمره خمس وأربعون سنة، وثلاثة أشهر، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً، وكانت أمه أم ولد من الأتراك، رحمه الله‏.‏

 خلافة الراشد بالله

أبي جعفر منصور بن المسترشد، كان أبوه قد أخذ له العهد ثم أراد أن يخلعه فلم يقدر على ذلك لأنه لم يغدر، فلما قتل أبوه بباب مراغة في يوم الخميس السابع عشر من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة، بايعه الناس والأعيان، وخطب له على المنابر ببغداد، وكان إذ ذاك كبيراً له أولاد، وكان أبيض جسيماً حسن اللون، فلما كان يوم عرفة من هذه السنة جيء بالمسترشد وصلى عليه ببيت التوبة، وكثر الزحام، وخرج الناس لصلاة العيد من الغد وهم في حزن شديد على المسترشد، وقد ظهر الرفض قليلاً في أول أيام الراشد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسين

ابن عمرو، أبو المظفر بن أبي بكر الشاشي، تفقه بأبيه واخترمته المنية بعد أخيه ولم يبلغ سن الرواية‏.‏

 إسماعيل بن عبد الله

ابن علي أبو القاسم الحاكم، تفقه بإمام الحرمين، وكان رفيق الغزالي يحترمه ويكرمه، وكان فقيهاً بارعاً، وعابداً ورعاً، توفي بطوس ودفن إلى جانب الغزالي‏.‏

دبيس بن صدقة

ابن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد، أبو الأعز الأسدي الأمير من بيت الأمرة وسادة الأعراب، كان شجاعاً بطلاً، فعل الأفاعيل وتمرق في البلاد من خوفه من الخليفة، فلما قتل الخليفة عاش بعده أربعة وثلاثين يوماً، ثم اتهم عند السلطان بأنه قد كاتب زنكي ينهاه عن القدوم إلى السلطان، ويحذره منه، ويأمره أن ينجو بنفسه، فبعث إليه السلطان غلاماً أرمنياً فوجده منكساً رأسه يفكر في خيمته، فما كلمه حتى شهر سيفه فضربه به فأبان رأسه عن جثته، ويقال‏:‏ بل استدعاه السلطان فقتله صبراً بين يديه، فالله أعلم‏.‏

طغرل السلطان بن السلطان محمد بن ملكشاه

توفي بهمذان يوم الأربعاء ثالث المحرم منها‏.‏

 

علي بن محمد النروجاني

كان عابداً زاهداً، حكى ابن الجوزي عنه أنه كان يقول‏:‏ بأن القدرة تتعلق بالمستحيلات، ثم أنكر ذلك وعذره لعدم تعقله لما يقول ولجهله‏.‏

 الفضل أبو منصور

أمير المؤمنين المسترشد، تقدم شيء من ترجمته، والله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ وقع بين الخليفة الراشد وبين السلطان مسعود بسبب أنه أرسل إلى الخليفة يطلب منه ما كان كتبه له والده المسترشد حين أسره، التزم له بأربعمائة ألف دينار فامتنع من ذلك، وقال‏:‏ ليس بيننا وبينكم إلا السيف‏.‏

فوقع بينهما الخلف، فاستجاش السلطان بالعساكر، واستنهض الخليفة الأمراء، وأرسل إلى عماد الدين زنكي فجاء والتف على الخليفة خلائق، وجاء في غضون ذلك السلطان داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فخطب له الخليفة ببغداد، وخلع عليه وبايعه على الملك، فتأكدت الوحشة بين السلطان والخليفة جداً‏.‏

وبرز الخليفة إلى ظاهر بغداد ومشى الجيش بين يديه، كما كانوا يعاملون أباه، وذلك يوم الأربعاء سلخ شعبان، وخرج السلطان داود من جانب آخر، فلما بلغهم كثرة جيوش السلطان محمود حسن عماد الدين زنكي للخليفة أن يذهب معه إلى الموصل، واتفق دخول مسعود إلى بغداد، في غيبتهم يوم الاثنين رابع شوال، فاستحوذ على دار الخلافة بما فيها جميعه‏.‏

ثم استخلص من نساء الخليفة وحظاياه الحلي والمصاغ والثياب التي للزينة، وغير ذلك، وجمع القضاة والفقهاء، وأبرز لهم خط الراشد أنه متى خرج من بغداد لقتال السلطان فقد خلع نفسه من الخلافة، فأفتى من أفتى من الفقهاء بخلعه، فخلع في يوم الاثنين سادس عشر شهر ذي القعدة بحكم الحاكم وفتيا الفقهاء، وكانت خلافته إحدى عشر شهراً وإحدى عشر يوماً، واستدعى السلطان بعمه المقتفي بن المستظهر فبويع بالخلافة عوضاً عن ابن أخيه الراشد بالله‏.‏

 خلافة المقتفي لأمر الله

أبي عبد الله بن المستظهر، وأمه صفراء تسمى نسيماً، ويقال لها‏:‏ ست السادة، وله من العمر يومئذ أربعون سنة، بويع بالخلافة بعد خلع الراشد بيومين، وخطب له على المنابر يوم الجمعة لعشرين من ذي القعدة، ولقب بالمقتفي لأنه يقال‏:‏ إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المنام وهو يقول له‏:‏ سيصل هذا الأمر إليك فاقتف بي‏.‏

فصار إليه بعد ستة أيام فلقب بذلك‏.‏

فائدة حسنة ينبغي التنبه لها

ولي المقتفي والمسترشد الخلافة وكانا أخوين، وكذلك السفاح والمنصور، وكذلك الهادي والرشيد، ابنا المهدي، وكذلك الواثق والمتوكل ابنا المعتصم أخوان، وأما ثلاثة إخوة فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد، والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد، والراضي والمقتفي والمطيع بنو المقتدر، وأما أربعة إخوة فلم يكن إلا في بني أمية وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان، ولما استقر المقتفي بالخلافة استمر الراشد ذاهباً إلى الموصل صحبة صاحبها عماد الدين زنكي، فدخلها في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏ ‏

 

 

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن حمويه

ابن محمد بن حمويه، أبو عبد الله الجويني، روى الحديث وكان صدوقاً مشهوراً بالعلم والزهد، وله كرامات، دخل إلى بغداد فلما ودعهم بالخروج منها أنشدهم‏:‏

لئن كان لي من بعد عود إليكم * نصيب لبانات الفؤاد إليكم

وإن تكن الأخرى وفي الغيب غيره * قضاه وإلا فالسلام عليكم

 محمد بن عبد الله

ابن أحمد بن حبيب، أبو بكر العامري، المعروف بابن الخباز، سمع الحديث وكان يعظ الناس على طريق التصوف، وكان ابن الجوزي فيمن تأدب به، وقد أثنى عليه وأنشد عنه من شعره‏:‏

كيف احتيالي وهذا في الهوى حالي * والشوق أملك لي من عذل عذالي

وكيف أشكو وفي حبي له شغل * يحول بين مهماتي وأشغالي

وكانت له معرفة بالفقه والحديث، وقد شرح كتاب ‏(‏الشهاب‏)‏، وقد ابتنى رباطاً، وكان عنده فيه جماعة من المتعبدين والزهاد، ولما احتضر أوصاهم بتقوى الله عز وجل والإخلاص لله والدين، فلما فرغ شرع في النزع وعرق جبينه فمد يده وقال بيتا لغيره‏:‏

ها قد بسطت يدي إليك فردها * بالفضل لا بشماتة الأعداء

ثم قال‏:‏ أرى المشايخ بين أيديهم الأطباق وهم ينتظرونني‏.‏

ثم مات، وذلك ليلة الأربعاء نصف رمضان، ودفن برباطه ثم غرق رباطه وقبره في سنة أربعين وخمسمائة‏.‏

 محمد بن الفضل

ابن أحمد بن محمد بن أبي العباس أبو عبد الله الصاعدي الفراوي، كان أبوه من ثغر فراوه، وسكن نيسابور، فولد له بها محمد هذا، وقد سمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ بالآفاق‏.‏ ‏

وتفقه وأفتى وناظر ووعظ وكان ظريفاً حسن الوجه جميل المعاشرة كثير التبسم، وأملى أكثر من ألف مجلس، ورحل إليه الطلبة من الآفاق حتى يقال‏:‏ للفراوي ألف راوي، وقيل‏:‏ إن ذلك كان مكتوباً في خاتمه‏.‏

وقد أسمع صحيح مسلم قريباً من عشرين مرة، توفي في شوال منها عن تسعين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ كثر موت الفجأة بأصبهان فمات ألوف من الناس، وأغلقت دور كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الخليفة بالخاتون فاطمة بنت محمد بن ملكشاه على صداق مائة ألف دينار، فحضر أخوها السلطان مسعود العقد وجماعة من أعيان الدولة والوزراء والأمراء، ونثر على الناس أنواع النثار‏.‏

وفيها‏:‏ صام أهل بغداد رمضان ثلاثين يوماً ولم يروا الهلال ليلة إحدى وثلاثين، مع كون السماء كانت مصحية‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا شيء لم يقع مثله‏.‏

وفيها‏:‏ هرب وزير صاحب مصر وهو تاج الدولة بهرام النصراني، وقد كان تمكن في البلاد وأساء السيرة، فتطلبه الخليفة الحافظ حتى أخذه فسجنه ثم أطلقه فترهب وترك العمل، فاستوزر بعده رضوان بن الريحيني ولقبه الملك الأفضل، ولم يلقب وزير قبله بهذا، ثم وقع بينه وبين الخليفة الحافظ، فلم يزل به الخليفة حتى قتله واستقل بتدبير أموره وحده‏.‏

وفيها‏:‏ ملك عماد الدين زنكي عدة بلدان‏.‏

وفيها‏:‏ طلع بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، ثم ظهر بعده سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، ثم جاءت ريح عاصف ألقت أشجاراً كثيرة، ثم وقع مطر شديد، وسقط برد كبار‏.‏

وفيها‏:‏ قصد ملك الروم بلاد الشام فأخذ بلاداً كثيرة من أيدي الفرنج، وأطاعه ابن اليون ملك الأرمن‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن ثابت

ابن الحسن أبو سعد الخجندي، تفقه على والده الإمام أبي بكر الخجندي الأصبهاني، وولي تدريس النظامية ببغداد مراراً، ويعزل عنها، وقد سمع الحديث ووعظ، وتوفي في شعبان منها، وقد قارب التسعين‏.‏

 هبة الله بن أحمد

ابن عمر الحريري، يعرف بابن الطير، سمع الكثير وهو آخر من روى عن أبي الحسن ابن زوج الحرة، وقد حدث عنه الخطيب، وكان ثبتاً كثير السماع، كثير الذكر والتلاوة، ممتعاً بحواسه وقواه، إلى أن توفي في جمادى الأولى عن ست وتسعين سنة‏.‏ ‏‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ قتل الخليفة الراشد المخلوع وذلك أنه اجتمع معه الملك داود وجماعة من كبار الأمراء، فقصدوا قتال مسعود بأرض مراغة فهزمهم وبدد شملهم، وقتل منهم خلقاً صبراً، منهم صدقة بن دبيس، وولى أخاه محمداً مكانه على الحلة، وهرب الخليفة الراشد المخلوع، فدخل أصبهان فقتله رجل ممن كان يخدمه من الخراسانية، وكان قد برأ من وجع أصابه، فقتلوه في الخامس والعشرين من رمضان، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان‏.‏

وقد كان حسن اللون مليح الوجه شديد القوة مهيباً، أمه أم ولد‏.‏

وفيها‏:‏ كسى الكعبة رجل من التجار يقال له‏:‏ راست الفارسي، بثمانية عشر ألف دينار، وذلك لأنه لم تأتها كسوة في هذا العام لأجل اختلاف الملوك‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ببلاد الشام والجزيرة والعراق، فانهدم شيء كثير من البيوت، ومات تحت الهدم خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ الملك عماد الدين زنكي مدينة حمص في المحرم، وتزوج في رمضان بالست زمرد خاتون، أم صاحب دمشق، وهي التي تنسب إليها الخاتونية البرانية‏.‏

وفيها‏:‏ ملك صاحب الروم مدينة بزاعة، وهي على ستة فراسخ من حلب، فجاء أهلها الذين نجوا من القتل والسبي يستغيثون بالمسلمين ببغداد، فمنعت الخطبة ببغداد، وجرت فتن طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج السلطان مسعود بسفرى بنت دبيس بن صدقة وزينت بغداد لذلك سبعة أيام‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ فحصل بسبب ذلك فساد عريض طويل منتشر، ثم تزوج ابنة عمه فزينت بغداد ثلاثة أيام أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد للسلطان الناصر صلاح يوسف بن أيوب ابن شاري بقلعة تكريت‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

أبو بكر بن أبي الفتح الدينوري الحنبلي، سمع الحديث وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وأفتى ودرس وناظر، كان أسعد الميهني يقول عنه‏:‏ ما اعترض أبو بكر الدينوري على دليل أحد إلا ثلمه، وقد تخرج به ابن الجوزي وأنشد‏:‏

تمنيت أن يمسي فقيهاً مناظراً * بغير عياء والجنون فنون

وليس اكتساب المال دون مشقة * تلقيتها، فالعلم كيف يكون‏؟‏

 عبد المنعم بن عبد الكريم

ابن هوازن، أبو المظفر القشيري، آخر من بقي منهم، سمع أباه وأبا بكر البيهقي وغيرهما، وسمع منه عبد الوهاب الأنماطي، وأجاز ابن الجوزي، وقارب التسعين‏.‏

 محمد بن عبد الملك

ابن محمد بن عمر، أبو الحسن الكرخي، سمع الكثير في بلاد شتى، وكان فقيهاً مفتياً، تفقه بأبي إسحاق وغيره من الشافعية، وكان شاعراً فصيحاً، وله مصنفات كثيرة منها ‏(‏الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول‏)‏، يذكر فيه مذاهب السلف في باب الاعتقاد، ويحكي فيه أشياء غريبة حسنة، وله تفسير وكتاب في الفقه، وكان لا يقنت في الفجر، ويقول‏:‏ لم يصح ذلك في حديث، وقد كان إمامنا الشافعي يقول‏:‏ إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط‏.‏

وقد كان حسن الصورة جميل المعاشرة، ومن شعره قوله‏:‏

تناءت داره عني ولكن * خيال جماله في القلب ساكن

إذا امتلأ الفؤاد به فماذا * يضر إذا خلت منه الأماكن

توفي وقد قارب التسعين‏.‏

 الخليفة الراشد

منصور بن المسترشد، قتل بأصبهان بعد مرض أصابه، فقيل‏:‏ إنه سم، وقيل‏:‏ قتلته الباطنية، وقيل‏:‏ قتله الفراشون الذين كانوا يلون أمره فالله أعلم‏.‏

وقد حكى ابن الجوزي عن أبي بكر الصولي أنه قال‏:‏ الناس يقولون كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لابد أن يخلع‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ فتأملت ذلك فرأيته عجباً قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن فخلعه معاوية ثم يزيد ومعاوية بن يزيد ومروان وعبد الملك، ثم عبد الله بن الزبير فخلع وقتل، ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ثم الوليد بن يزيد فخلع وقتل، ولم ينتظم لبني أمية بعده أمر حتى قام السفاح العباسي ثم أخوه المنصور ثم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم الأمين فخلع وقتل، ثم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر ثم المستعين فخلع ثم قتل، ثم المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ثم المقتدر فخلع ثم أعيد فقتل، ثم القاهر والراضي والمتقي والمكتفي والمطيع ثم الطائع فخلع، ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد ثم الراشد فخلع وقتل‏.‏ ‏

 أنوشروان بن خالد

ابن محمد القاشاني القيني، من قرية قين من قاشان، الوزير أبو نصر، وزر للسلطان محمود وللخليفة المسترشد، وكان عاقلاً مهيباً عظيم الخلقة، وهو الذي ألزم أبا محمد الحريري بتكميل المقامات، وكان سبب ذلك أن أبا محمد كان جالساً في مسجد بني حرام في محلة من محال البصرة، فدخل عليه شيخ ذو طمرين فقالوا‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ أنا رجل من سروج، يقال لي‏:‏ أبو زيد‏.‏

فعمل الحريري المقامة الحرامية واشتهرت في الناس، فلما طالعها الوزير أنوشروان أعجب بها وكلف أبا محمد الحريري أن يزيد عليها غيرها فزاد عليها غيرها إلى تمام خمسين مقامة، فهي هذه المشهورة المتداولة بين الناس، وقد كان الوزير أنوشروان كريماً، وقد مدحه الحريري صاحب ‏(‏المقامات‏)‏‏:‏

ألا ليت شعري والتمني لعله * وإن كان فيه راحة لأخي الكرب

أتدرون أني مذ تناءت دياركم * وشط اقترابي من جنابكم الرحب

أكابد شوقاً ما أزال أداره * يقلبني في الليل جنباً على جنب

وأذكر أيام التلاقي فأنثني * لتذكارها بادي الأسى طائر اللب

ولي حنة في كل وقت إليكم * ولا حنة الصادي إلى البارد العذب

فو الله لو أني كتمت هواكم * لما كان مكتوماً بشرق ولا غرب

ومما شجا قلبي المعنىّ وشفّه * رضاكم بإهمال الإجابة عن كتبي

وقد كنت لا أخشى مع الذنب جفوة * فقد صرت أخشاها ومالي من ذنب

ولما سرى الوفد العراقي نحوكم * وأعوزني المسرى إليكم مع الركب

جعلت كتابي نائباً عن ضرورتي * ومن لم يجد ماء تيمم بالترب

ويعضد أيضاً بضعة من جوارحي * تنبيكم عن سر حالي وتستنبي

ولست أرى أذكاركم بعد خيركم * بمكرمة، حسبي اعتذاركم حسبي

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بمدينة جبرت فمات بسببها مائتا ألف وثلاثون ألفاً، وصار مكانها ماء أسود عشرة فراسخ في مثلها، وزلزل أهل حلب في ليلة واحدة ثمانين مرة‏.‏

وفيها‏:‏ وضع السلطان محمود مكوساً كثيرة عن الناس، وكثرت الأدعية له‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فهزمه سنجر وقتل ولده في المعركة، فحزن عليه والده حزناً شديداً‏.‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب دمشق شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغتكين، قتله ثلاثة من خواصه ليلاً وهربوا من القلعة، فأدرك اثنان فصلبا وأفلت واحد‏.‏

وفيها‏:‏ عزل اليهود والنصارى عن المباشرات ثم أعيدوا قبل شهر‏.‏

وحج بالناس فيها قطز الخادم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 زاهر بن طاهر

ابن محمد، أبو القاسم بن أبي عبد الرحمن بن أبي بكر السحامي المحدث المكثر، الرحال الجوال، سمع الكثير وأملى بجامع نيسابور ألف مجلس، وتكلم فيه أبو سعد السمعاني، وقال‏:‏ إنه كان يخل بالصلوات‏.‏

وقد رد ابن الجوزي على السمعاني بعذر المرض ويقال‏:‏ إنه كان به مرض يكثر بسببه جمع الصلوات فالله أعلم‏.‏

بلغ خمساً وثمانين سنة توفي بنيسابور في ربيع الآخر، ودفن بمقبرته‏.‏

 يحيى بن يحيى بن علي

ابن أفلح، أبو القاسم الكاتب، وقد خلع عليه المسترشد ولقبه جمال الملك، وأعطاه أربعة دور، وكانت له دار إلى جانبهن فهدمهن كلهن واتخذ مكانهن داراً هائلة، طولها ستون ذراعاً في عرض أربعين ذراعاً، وأطلق له الخليفة أخشابها وآجرها وطرازاتها، وكتب عليها أشعاراً حسنة من نظمه ونظم غيره، فمن ذلك ما هو على باب دارها‏:‏

إن أعجب الراؤن من ظاهري * فباطني لو علموا أعجب

شد باني من كفه مزنة * يخجل منها العارض الصيب

ورنحت روضة أخلاقه * في ديار نورها مذهب

صدر كسيّ صدري من نوره * شمساً على الأيام لا تغرب

وعلى الطرز مكتوب‏:‏

ومن المروءة للفتى * ما عاش دار فاخره

فاقنع من الدنيا بها * واعمل لدار الآخره

هاتيك وافيت بما * وعدت وهاتي باتره

وفي موضع آخر مكتوب

وناد كأن جنان الخـ * ـلد أعارته من حسنها رونقا

وأعطته من حادثات الزما * ن أن لا يلم به موبقا

فأضحى ينبئه على كل ما * بنى مغرباً كان أو مشرقا

تظل الوفود به عكفاً * ويمسي الضيوف به طرّقا

بقيت له يا جمال الملو * ك وذا الفضل مهما أردت البقا

وسالمه فيك ريب الزما * ن ووقيت فيه الذي يتقى

فما والله صدقت هذه الأماني، بل عما قريب اتهمه الخليفة بأنه يكاتب دبيساً فأمر بخراب داره تلك فلم يبق فيها جدار، بل صارت خربة بعد ما كانت قرة العيون من أحسن المقام والقرار، وهذه حكمة الله من تقلب الليل والنهار، وما تجري بمشيئة الأقدار، وهي حكمته في كل دار بنيت بالأشر والبطر، وفي كل لباس لبس على التيه والكبر والأشر‏.‏

وقد أورد له ابن الجوزي أشعاراً حسنة من نظمه، وكلمات من نثره فمن ذلك قوله‏:‏

دع الهوى لا ناس يعرفون به * قد مارسوا الحب حتى أصعبه

أدخلت نفسك فيما لست تجربه * والشيء صعب على من لا يجربه

أمن اصطبار وإن لم تستطع خلداً * فرب مدرك أمر عز مطلبه

أحن الضلوع على قلب يخيرني * في كل يوم يعييني تقلبه

تأرج الريح من نجد يهيجه * ولامع البرق من نغمات يطربه

وقوله‏:‏

هذه الخيف وهاتيك مني * فترفق أيها الحادي بنا

واحبس الركب علينا ساعة * نندب الدار ونبكي الدنا

فلذا الموقف أعددت البكا * ولذا اليوم الدموع تقتني

زماننا كان وكنا جيرة * فأعاد الله ذاك الزمنا

بيننا يوم ائتلاف نلتقي * كان من غير تراضي بيننا

 ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ حاصر زنكي دمشق فحصنها الأتابك معين الدين بن مملوك طغتكين، فاتفق موت ملكها جمال الدين محمود بن بوري بن طغتكين، فأرسل معين الدين إلى أخيه مجير الدين أتق، وهو ببعلبك فملكه دمشق، فذهب زنكي إلى بعلبك فأخذها واستناب عليها نجم الدين أيوب صلاح الدين‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الخليفة على الخاتون فاطمة بنت السلطان مسعود، أغلقت بغداد أياماً‏.‏

وفيها‏:‏ نودي للصلاة على رجل صالح فاجتمع الناس بمدرسة الشيخ عبد القادر فاتفق أن الرجل عطس فأفاق، وحضرت جنازة رجل آخر غيره فصلى عليه ذلك الجمع الكثير‏.‏

وفيها‏:‏ نقصت المياه من سائر الدنيا‏.‏

وفيها‏:‏ ولد صاحب حماه تقي الدين عمر شاهنشاه بن أيوب بن شاري‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن جعفر

ابن الفرج أبو العباس الحربي، أحد العباد الزهاد، سمع الحديث وكانت له أحوال صالحة، حتى كان يقال‏:‏ إنه كان يُرى في بعض السنين بعرفات، ولم يحج في تلك السنة‏.‏

 عبد السلام بن الفضل

أبو القاسم الجيلي، سمع الحديث وتفقه على الكيا الهراسي، وبرع في الأصول والفروع، وغير ذلك، وولي قضاء البصرة وكان من خيار القضاة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ وصلت البردة والقضيب إلى بغداد، وكانا مع المسترشد حين هرب سنة تسع وعشرين وخمسمائة فحفظهما السلطان سنجر عنده حتى ردهما في هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ كملت المدرسة الكمالية المنسوبة إلى كمال الدين، أبي الفتوح حمزة بن طلحة، صاحب المخزن، ودرس فيها الشيخ أبو الحسن الحلي، وحضر عنده الأعيان‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن محمد

ابن علي، أبو القاسم الطلحي الأصبهاني، سمع الكثير، ورحل وكتب وأملى بأصبهان، قريباً من ثلاثة آلاف مجلس، وكان إماماً في الحديث والفقه والتفسير واللغة، حافظاً متقناً، توفي ليلة عيد الأضحى وقد قارب الثمانين، ولما أراد الغاسل تنحية الخرقة عن فرجه ردها بيده، وقيل‏:‏ إنه وضع يده على فرجه‏.‏

 محمد بن عبد الباقي

ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت بن وهب بن مسجعة بن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، سمع الحديث وتفرد عن جماعة من المشايخ، وأملى الحديث في جامع القصر، وكان مشاركاً في علوم كثيرة، وقد أسر في صغره في أيدي الروم فأرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلم منهم خط الروم، وكان يقول‏:‏ من خدم المحابر خدمته المنابر‏.‏

ومن شعره الذي أورده له ابن الجوزي عنه وسمعه منه قوله‏:‏

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة * سن ومال إن سئلت، ومذهب

فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة * بمكفر وبحاسد ومكذب

وقوله‏:‏

لي مدة لا بد أبلغها * فإذا انقضت مت

لو عاندتني الأسد ضارية * ما ضرني ما لم يجي الوقت

قال ابن الجوزي‏:‏ بلغ من العمر ثلاثاً وتسعين سنة، لم تتغير حواسه ولا عقله، توفي ثاني رجب منها، وحضر جنازته الأعيان وغيرهم، ودفن قريباً من قبر بشر‏.‏

 يوسف بن أيوب

ابن الحسن بن زهرة، أبو يعقوب الهمذاني، تفقه بالشيخ أبي إسحاق، وبرع في الفقه والمناظرة، ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة، وصحب الصالحين وأقام بالجبال، ثم عاد إلى بغداد فوعظ بها، وحصل له قبول‏.‏

توفي في ربيع الأول ببعض قرى هراة‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فاستحوذ خوارزم على مرو بعد هزيمة سنجر ففتك بها، وأساء التدبير بالنسبة إلى الفقهاء الحنفية الذين بها، وكان جيش خوارزم ثلاثمائة ألف مقاتل‏.‏

وفيها‏:‏ تحمل عمل دمشق النهروز، وخلع نهروز شحنة بغداد على حباب صباغ الحرير الرومي، وركب هو والسلطان مسعود في سفينة في ذلك النهر، وفرح السلطان بذلك، وكان قد صرف السلطان على ذلك النهر سبعين ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ حج كمال الدين طلحة صاحب المخزن، وعاد فتزهد وترك العمل ولزم داره‏.‏

وفيها‏:‏ عقدت الجمعة بمسجد العباسيين بإذن الخليفة‏.‏

وحج بالناس قطز‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن أحمد بن عمر

ابن أبي الأشعث، أبو القاسم بن أبي بكر السمرقندي الدمشقي ثم البغدادي، سمع الكثير وتفرد بمشايخ، وكان سماعه صحيحاً، وأملى بجامع المنصور مجالس كثيرة نحو ثلاثمائة مجلس، توفي وقد جاوز الثمانين‏.‏

 يحيى بن علي

ابن محمد بن علي، أبو محمد بن الطراح المدبر، ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان شيخاً حسناً مهيباً كثير العبادة، توفي في رمضان منها‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ ملك عماد الدين زنكي الحديثة، ونقل آل مهارش منها إلى الموصل، ورتب فيها نواباً من جهته‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ تجهز السلطان مسعود ليأخذ الموصل والشام من زنكي، فصالحه على مائة ألف دينار، فدفع إليه منها عشرين ألف دينار، وأطلق له الباقي، وسبب ذلك أن ابنه سيف الدين غازي كان لا يزال في خدمة السلطان مسعود‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ ملك زنكي بعض بلاد بكر‏.‏

وفيها‏:‏ حصر الملك سنجر خوارزم شاه، ثم أخذ منه مالاً وأطلقه‏.‏

وفيها‏:‏ وجد رجل يفسق بصبي فألقي من رأس منارة‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي القعدة زلزلت الأرض‏.‏

وحج بالناس قطز‏.‏

 

 

 من الأعيان‏:‏

 عبد الوهاب بن المبارك

ابن أحمد، أبو البركات الأنماطي، الحافظ الكبير، كان ثقة ديناً ورعاً، طليق الوجه، سهل الأخلاق، توفي في المحرم عن ست وتسعين سنة‏.‏

 علي بن طراد

ابن محمد الزينبي، الوزير العباسي، أبو القاسم نقيب النقباء على الطائفتين، في أيام المستظهر، ووزر للمسترشد، وتوفي في رمضان عن ست وسبعين سنة‏.‏

 الزمخشري محمود

ابن عمر بن محمد بن عمر، أبو القاسم الزمخشري، صاحب ‏(‏الكشاف‏)‏ في التفسير، و‏(‏المفصل‏)‏ في النحو وغير ذلك من المصنفات المفيدة، وقد سمع الحديث وطاف البلاد، وجاور بمكة مدة، وكان يظهر مذهب الاعتزال ويصرح بذلك في تفسيره، ويناظر عليه، وكانت وفاته بخوارزم ليلة عرفة منها، عن ست وسبعين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

فيها‏:‏ أخذ العماد زنكي الرها وغيرها من حصون الجزيرة من أيدي الفرنج، وقتل منهم خلقاً كثيراً وسبى نساء كثيرة، وغنم أموالاً جزيلة، وأزال عن المسلمين كرباً شديداً‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم وتنافس هو وأمير مكة فنهب الحجيج وهم يطوفون‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن محمد بن منصور

ابن عمر أبو الوليد الكرخي، تفقه بأبي إسحاق وأبي سعد المتولي، حتى صار أوحد زمانه فقهاً وصلاحاً، مات في هذه السنة‏.‏

 سعد بن محمد

ابن عمر أبو منصور البزار، سمع الحديث وتفقه بالغزالي والشاشي والمتولي والكيا، وولي تدريس النظامية، وكان له سمت حسن، ووقار وسكون، وكان يوم جنازته مشهوداً، ودفن عند أبي إسحاق‏.‏

 عمر بن إبراهيم

ابن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي العلوي، أبو البركات الكوفي، ثم البغدادي، سمع الكثير وكتب كثيراً، وأقام بدمشق مدة، وكان له معرفة جيدة بالفقه والحديث والتفسير واللغة والأدب، وله تصانيف في النحو، وكان خشن العيش صابراً محتسباً‏.‏

توفي في شعبان من هذه السنة عن سبع وتسعين سنة، رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ حصر علي بن دبيس أخاه محمداً ولم يزل يحاصره حتى اقتلع من يده الحلة وملكها‏.‏

وفي رجب منها دخل السلطان مسعود بغداد خوفاً من اجتماع عباس صاحب الري، ومحمد شاه بن محمود، ثم خرج منها في رمضان‏.‏

وحج بالناس أرجوان مملوك أمير الجيوش بسبب ما كان وقع بين قطز وأمير مكة في السنة الماضية‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

ابن الحسين بن علي بن أحمد بن سليمان، أبو سعد الأصبهاني، ثم البغدادي، سمع الحديث وكان على طريقة السلف، حلو الشمائل، مطرح الكلفة، ربما خرج إلى السوق بقميص وقلنسوة، وحج أحد عشر حجة، وكان يملي الحديث ويكثر الصوم، توفي بنهاوند في ربيع الأول من هذه السنة وقد قارب الثمانين‏.‏

 علي بن أحمد

ابن الحسين بن أحمد أبو الحسن اليزدي، تفقه بأبي بكر الشاشي، وسمع الحديث وأسمعه، وكان له ولأخيه قميص واحد، إذا خرج هذا لبسه وجلس الآخر في البيت عرياناً وكذا الآخر‏.‏

 موهوب بن أحمد

ابن محمد بن الخضر، أبو منصور الجواليقي، شيخ اللغة في زمانه، باشر مشيخة اللغة بالنظامية بعد شيخه أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالمقتفي، وربما قرأ الخليفة عليه شيئاً من الكتب، وكان عاقلاً متواضعاً في ملبسه، طويل الصمت كثير الفكر، وكانت له حلقة بجامع القصر أيام الجمع، وكان فيه لكنة، وكان يجلس إلى جانبه المغربي معبر المنامات، وكان فاضلاً لكنه كان كثير النعاس في مجلسه، فقال فيهما بعض الأدباء‏:‏

بغداد عندي ذنبها لن يغفرا * وعيوبها مكشوفة لن تسترا

كون الجواليقي فيها مملياً * لغة وكون المغربي معبّرا

ما سور لُكْنته يقول فصاحة * وليوم يقظته يعبّر في الكرا

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

في ليلة مستهل ربيع الأول منها احترق القصر الذي بناه المسترشد، وكان في غاية الحسن، وكان الخليفة المقتفى قد انتقل بجواريه وحظاياه إليه ليقيم فيه ثلاثة أيام، فما هو إلا أن ناموا احترق عليهم القصر بسبب أن جارية أخذت في يدها شمعة فعلق لهبها ببعض الأخشاب فاحترق القصر وسلم الله الخليفة وأهله، فأصبح فتصدق بأشياء كثيرة وأطلق خلقاً من المحبسين‏.‏ ‏

وفي رجب منها وقع بين الخليفة والسلطان مسعود واقع فبعث الخليفة إلى الجوامع والمساجد فأغلقت ثلاثة أيام، حتى اصطلحا‏.‏

وفي يوم الجمعة نصف ذي القعدة جلس ابن العبادي الواعظ فتكلم السلطان مسعود حاضر، وكان قد وضع على الناس في البيع مكساً فاحشاً، فقال في جملة وعظه‏:‏ يا سلطان العالم، أنت تطلق في بعض الأحيان للمغني إذا طربت قريباً مما وضعت على المسلمين من هذا المكس، فهبني مغنياً وقد طربت فهب لي هذا المكس شكراً لنعم الله عليك‏.‏

فأشار السلطان بيده أن قد فعلت، فضج الناس بالدعاء له، وكتب بذلك سجلات، ونودي في البلد بإسقاط ذلك المكس، ففرح الناس بذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏

وفيها‏:‏ قل المطر جداً، وقلت مياه الأنهار، وانتشر جراد عظيم، وأصاب الناس داء في حلوقهم، فمات بذلك خلائق كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الملك عماد الدين زنكي بن قيم الدولة التركي صاحب الموصل، وحلب وغيرها من البلاد الشامية والجزيرة، وكان محاصراً قلعة جعبر، وفيها شهاب الدين سالم بن مالك العقيلي، فبرطل بعض مماليك زنكي حتى قتلوه في الليلة الخامسة من ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ كان سكراناً، فالله أعلم‏.‏

وقد كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة، وقام بالأمر من بعد بالموصل ولده سيف الدولة، وبحلب نور الدين محمود، فاستعاد نور الدين هذا مدينة الرها، وكان أبوه قد فتحها‏.‏

فلما مات عصوا فقهرهم نور الدين‏.‏

وفيها‏:‏ ملك عبد المؤمن صاحب المغرب وخادم ابن تومرت جزيرة الأندلس، بعد حروب طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت الفرنج مدينة طرابلس الغرب‏.‏

وفيها‏:‏ استعاد صاحب دمشق مدينة بعلبك‏.‏

وفيها‏:‏ جاء نجم الدين أيوب إلى صاحب دمشق فسلمه القلعة وأعطاه أمزبة عنده بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ قتل السلطان مسعود حاجبه عبد الرحمن بن طغرلبك وقتل عباساً صاحب الري، وألقى رأسه إلى أصحابه فانزعج الناس ونهبوا خيام عباس هذا، وقد كان عباس من الشجعان المشهورين، قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر، فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مأذنة من رؤسهم بمدينة الري‏.‏

وفيها‏:‏ مات نقيب النقباء ببغداد محمد بن طراد الزينبي، فتولى بعده علي بن طلحة الزينبي‏.‏

وفيها‏:‏ سقط جدار على ابنة الخليفة، وكانت قد بلغت مبالغ النساء، فماتت فحضر جنازتها الأعيان‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 زنكي بن آقسنقر

تقدم ذكر شيء من ترجمته وهو أبو نور الدين محمود الشهيد، وقد أطنب الشيخ أبو شامة في الروضتين في ترجمته، وما قيل فيه من نظم ونثر، رحمه الله‏.‏

 سعد الخير

محمد بن سهل بن سعد، أبو الحسن المغربي الأندلسي الأنصاري، رحل وحصل كتباً نفيسة، وروى عنه ابن الجوزي وغيره، وقد أوصى عند وفاته أن يصلي عليه الغزنوي، وأن يدفن عند قبر عبد الله بن الإمام أحمد، وحضر جنازته خلائق من الناس‏.‏

 

 

 شافع بن عبد الرشيد

ابن القاسم، أبو عبد الله الجيلي الشافعي، تفقه على الكيا وعلى الغزالي، وكان يسكن الكرخ، وله حلقة بجامع المنصور في الرواق‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكنت أحضر حلقته‏.‏

 عبد الله بن علي

ابن أحمد بن عبد الله، أبو محمد سبط أبي منصور الزاهد، قرأ القراءات وصنف فيها، وسمع الحديث الكثير، واقتنى الكتب الحسنة، وأمّ في مسجده نيفاً وخمسين سنة، وعلم خلقاً القرآن‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ما سمعت أحداً أحسن قراءة منه‏.‏

وحضر جنازته خلق كثير‏.‏

 عباس شحنة الري

توصل إلى أن ملكها ثم قتله مسعود، وقد كان كثير الصدقات والإحسان إلى الرعية، وقتل من الباطنية خلقاً حتى بنى من رؤسهم منارة بالري، وتأسف الناس عليه‏.‏

 محمد بن طراد

ابن محمد الزينبي أبو الحسن نقيب النقباء، وهو أخو علي بن طراد الوزير، سمع الكثير من أبيه ومن عمه أبي نصر وغيرهما، وقارب السبعين‏.‏ ‏

 وجيه بن طاهر

ابن محمد بن محمد، أبو بكر الشحامي، أخو زاهر، وقد سمع الكثير من الحديث، وكانت له معرفة به، وكان شيخاً حسن الوجه، سريع الدمعة، كثير الذكر، جمع السماع إلى العمل إلى صدق اللهجة، توفي ببغداد في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ ملكت الفرنج عدة حصون من جزيرة الأندلس‏.‏

وفيها‏:‏ ملك نور الدين بن محمود زنكي عدة حصون من يد الفرنج بالسواحل‏.‏

وفيها‏:‏ خطب للمستنجد بالله بولاية العهد من بعد أبيه المقتفي‏.‏

وفيها‏:‏ تولى عون بن يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر صدرية المخزن المعمورة‏.‏

وفيها‏:‏ اشتد الغلاء بإفريقية وهلك بسببه أكثر الناس حتى خلت المنازل، وأقفلت المعاقل‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج سيف الدين غازي بنت صاحب ماردين حسام الدين تمرتاش بن أرتق، بعد أن حاصره فصالحه على ذلك، فحملت إليه إلى الموصل بعد سنتين، وهو مريض قد أشرف على الموت، فلم يدخل بها حتى مات، فتولى بعده على الموصل أخوه قطب بن مودود فتزوجها‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي صفر رأى رجل في المنام قائلاً يقول له‏:‏ من زار أحمد بن حنبل غفر له‏.‏

قال‏:‏ فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وعقدت يومئذ ثم مجلساً فاجتمع فيه ألوف من الناس‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أسعد بن عبد الله

ابن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو منصور، سمع الحديث الكثير، وكان خيراً صالحاً ممتعاً بحواسه وقواه إلى حين الوفاة‏.‏

وقد جاوز المائة بنحو من سبع سنين‏.‏

 أبو محمد عبد الله بن محمد

ابن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي الأندلسي، الرباطي الحافظ، مصنف كتاب ‏(‏اقتياس الأنوار والتماس الأزهار‏)‏، في أنساب الصحابة، ورواة الآثار، وهو من أحسن التصانيف الكبار، قتل شهيداً صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى بالبرية‏.‏

 نصر الله بن محمد

ابن عبد القوي، أبو الفتح اللاذقي المصيصي الشافعي، تفقه بالشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي، بصور، وسمع بها منه ومن أبي بكر الخطيب، وسمع ببغداد والأنبار، وكان أحد مشايخ الشام، فقيهاً في الأصول والفروع، توفي فيها وقد جاوز التسعين بأربع سنين‏.‏

 هبة الله بن علي

ابن محمد بن حمزة أبو السعادات ابن الشجري النحوي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وسمع الحديث وانتهت إليه رياسة النحاة‏.‏

قال‏:‏ سمعت بيتاً في الذم أبلغ من قول مكوبه‏:‏

وما أنا إلا المسك قد ضاع عندكم * يضيع وعند الأكثرين يضوع

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ استغاث مجير الدين بن أتابك دمشق بالملك نور الدين صاحب حلب على الفرنج، فركب سريعاً فالتقى معهم بأرض بصرى فهزمهم، ورجع فنزل على الكسوة، وخرج ملك دمشق مجير الدين أرتق فخدمه واحترمه وشاهد الدماشقة حرمة نور الدين حتى تمنوه‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت الفرنج المهدية وهرب منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن بليكين بأهله، وخاف على أمواله فتمزقت في البلاد، وتمزق هو أيضاً في البلاد، وأكلتهم الأقطار، وكان آخر ملوك بني باديس، وكان ابتداء ملكهم في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فدخل الفرنج إليها وخزائنها مشحونة بالحواصل والأموال والعدد وغير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الفرنج وهم في سبعين ألف مقاتل، ومعهم ملك الألمان في خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، دمشق وعليها مجير الدين أرتق وأتابكه معين الدين، وهو مدبر المملكة، وذلك يوم السبت سادس ربيع الأول، فخرج إليهم أهلها في مائة ألف وثلاثين ألفاً، فاقتتلوا معهم قتالاً شديداً‏.‏

قتل من المسلمين في أول يوم نحو من مائتي رجل، ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون، واستمر الحرب مدة وأخرج مصحف عثمان إلى وسط صحن الجامع، واجتمع الناس حوله يدعون الله عز وجل والنساء، والأطفال مكشفي الرؤس يدعون ويتباكون، والرماد مفروش في البلد، فاستغاث أرتق بنور الدين محمود صاحب حلب وبأخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل، فقصداه سريعاً في نحو من سبعين ألفاً بمن انضاف إليهم من الملوك وغيرهم، فلما سمعت الفرنج بقدوم الجيش تحولوا عن البلد، فلحقهم الجيش فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، وقتلوا قسيساً معهم اسمه إلياس، وهو الذي أغراهم بدمشق، وذلك أنه افترى مناماً عن المسيح أنه وعده فتح دمشق، فقتل لعنه الله، وقد كادوا يأخذون البلد، ولكن الله سلم، وحماها بحوله وقوته‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، ومدينة دمشق لا سبيل للأعداء من الكفرة عليها، لأنها المحلة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أنها معقل الإسلام عند الملاحم والفتن، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وقد قتل الفرنج خلقاً كثيراً من أهل دمشق، وممن قتلوا الفقيه الكبير الملقب حجة الدين شيخ المالكية بها، أبو الحجاج يوسف بن درناس الفندلاوي، بأرض النيرب، ودفن بمقابر باب الصغير، وكان مجير الدين قد صالح الفرنج عن دمشق ببانياس، فرحلوا عنها وتسلموا بانياس‏.‏

وفيها‏:‏ وقع بين السلطان مسعود وأمرائه ففارقوه، وقصدوا بغداد فاقتتلوا مع العامة، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً من الصغار والكبار، ثم اجتمعوا قبال التاج وقبلوا الأرض واعتذروا إلى الخليفة مما وقع، وساروا نحو النهروان فتفرقوا في البلاد، ونهبوا أهلها، فغلت الأسعار بالعراق بسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ ولي قضاء القضاة ببغداد أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن الدامغاني، بعد وفاة الزينبي‏.‏

وفيها‏:‏ ملك سولي بن الحسين ملك الثغور مدينة غزنة، فذهب صاحبها بهرام شاه بن مسعود من أولاد سبكتكين إلى فرغانة فاستغاث بملكها، فجاء بجيوش عظيمة فاقتلع غزنة من سولي، وأخذه أسيراً فصلبه، وقد كان كريماً جواداً، كثير الصدقات‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن محمد

ابن نهار بن محرز الغنوي الرقي، سمع الحديث وتفقه بالشاشي والغزالي، وكتب شيئاً كثيراً من مصنفاته، وقرأها عليه، وصحبه كثيراً، وكان مهيباً كثير الصمت، توفي في ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين‏.‏

 شاهان شاه بن أيوب

ابن شادي، استشهد مع نور الدين، وهو والد الست عذار، واقفة العذارية، وتقي الدين عمر واقف التقوية‏.‏

 علي بن الحسين

ابن محمد بن علي الزينبي، أبو القاسم الأكمل بن أبي طالب نور الهدى بن أبي الحسن نظام الحضرتين ابن نقيب النقباء أبي القاسم بن القاضي أبي تمام العباسي، قاضي القضاة ببغداد وغيرها، سمع الحديث وكان فقيهاً رئيساً، وقوراً حسن الهيئة والسمت، قليل الكلام، سافر مع الخليفة الراشد إلى الموصل، وجرت له فصول ثم عاد إلى بغداد فمات بها في هذه السنة، وقد جاوز الستين، وكانت جنازته حافلة‏.‏

 أبو الحجاج يوسف بن درباس

الفندلاوي، شيخ المالكية بدمشق، قتل يوم السبت سادس ربيع الأول قريباً من الربوة في أرض النيرب، هو والشيخ عبد الرحمن الجلجولي، أحد الزهاد رحمهما الله تعالى، والله سبحانه أعلم‏.‏