الجزء الثاني عشر - ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، قاضيها أحد مشايخ العلماء المالكية، وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة، منها ‏(‏الشفا‏)‏، و‏(‏شرح مسلم‏)‏، و‏(‏مشارق الأنوار‏)‏ وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان إماماً في علوم كثيرة، كالفقه واللغة والحديث والأدب، وأيام الناس، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، ومات يوم الجمعة في جمادى الآخرة، وقيل‏:‏ في رمضان من هذه السنة، بمدينة سبتة‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الملك نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، فقتل منهم خلقاً، وكان فيمن قتل البرنس صاحب إنطاكية، وفتح شيئاً كثيرا من قلاعهم، ولله الحمد‏.‏

وكان قد استنجد بمعين الدين بن أتابك دمشق، فأرسل إليه بفريق من جيشه صحبة الأمير مجاهد الدين بن مروان بن ماس، نائب صرخد فأبلوا بلاء حسناً، وقد قال الشعراء في هذه الغزوة أشعاراً كثيرة، منهم ابن القيسراني وغيره، وقد سردها أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏‏.‏ ‏

وفي يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر استوزر للخلافة أبو المظفر يحيى بن هبيرة، ولقب عون الدين، وخلع عليه‏.‏

وفي رجب قصد الملك شاه بن محمود بغداد، ومعه خلق من الأمراء، ومعه علي بن دبيس وجماعة من التركمان وغيرهم، وطلبوا من الخليفة أن يخطب له فامتنع من ذلك، وتكررت المكاتبات، وأرسل الخليفة إلى السلطان مسعود يستحثه في القدوم، فتمادى عليه وضاق النطاق، واتسع الخرق على الراقع، وكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يتوعده إن لم يسرع إلى الخليفة، فما جاء إلا في أواخر السنة، فانقشعت تلك الشرور كلها، وتبدلت سروراً أجمعها‏.‏

وفي هذه السنة زلزلت الأرض زلزالاً شديداً، وتموجت الأرض عشر مرات، وتقطع جبل بحلوان، وانهدم الرباط النهر جوري، وهلك خلق كثير بالبرسام، لا يتكلم المرضى به حتى يموتوا‏.‏

وفيها‏:‏ مات سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل، وملك بعده أخوه قطب الدين مودود بن زنكي، وتزوج بامرأة أخيه التي لم يدخل بها، الخاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، فولدت له أولاداً كلهم ملكوا الموصل، وكانت هذه المرأة تضع خمارها بين خمسة عشر ملكاً‏.‏

وفيها‏:‏ سار نور الدين إلى سنجار ففتحها، فجهز إليه أخوه قطب الدين مودود جيشاً ليرده عنها، ثم اصطلحا فعوضه منها الرحبة وحمص، واستمرت سنجار لقطب الدين، وعاد نور الدين إلى بلده‏.‏

ثم غزا فيها الفرنج فقتل منهم خلقاً وأسر البرنس صاحب إنطاكية، فمدحه الشعراء منهم الفتح القيسراني بقصيدة يقول في أولها‏:‏

هذي العزائم لا ما تنعق القضب * وذي المكارم لا ما قالت الكتب

وهذه الهمم اللاتي متى خطبت * تعثرت خلفها الأشعار والخطب

صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها * براحة للمساعي دونها تعب

ما زال جدك يبني كل شاهقة * حتى بنى قبة أوتادها الشهب

وفيها‏:‏ فتح نور الدين حصن فاميا وهو قريب من حماه‏.‏

وفيها‏:‏ مات صاحب مصر الحافظ لدين الله عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر، فقام بالأمر من بعده ولده الظافر إسماعيل، وقد كان أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش قد استحوذ على الحافظ وخطب له بمصر ثلاثاً، ثم آخر الأمر أذن بحي على خير العمل، والحافظ هذا هو الذي وضع طبل القولنج الذي إذا ضربه من به القولنج يخرج من القولنج والريح الذي به‏.‏

وخرج بالحجاج الأمير قطز الخادم، فمرض بالكوفة فرجع واستخلف على الحجاج مولاه قيماز، وحين وصوله إلى بغداد توفي بعد أيام، فطمعت العرب في الحجاج فوقفوا لهم في الطريق وهم راجعون، فضعف قيماز عن مقاومتهم فأخذ لنفسه أماناً وهرب وأسلم إليهم الحجيج، فقتلوا أكثرهم وأخذوا أموال الناس، وقل من سلم فيمن نجا، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ مات معين الدين بن أتابك العساكر بدمشق، وكان أحد مماليك طغتكين، وهو والد الست خاتون زوجة نور الدين، وهو واقف المدرسة المعينية، داخل باب الفرج، وقبره في قبة قتلى الشامية البرانية، بمحلة العونية، عند دار البطيخ‏.‏

ولما مات معين الدين قويت شوكة الوزير الرئيس مؤيد الدولة على ابن الصوفي وأخيه زين الدولة حيدرة، ووقعت بينهما وبين الملك مجير الدين أرتق وحشة، اقتضت أنهما جنداً من العامة والغوغاء ما يقاومه فاقتتلوا، فقتل خلق من الفريقين، ثم وقع الصلح بعد ذلك‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن نظام الملك

أبو الحسن علي بن نصر الوزير للمسترشد، والسلطان محمود، وقد سمع الحديث، وكان من خيار الوزراء‏.‏

 أحمد بن محمد

ابن الحسين الأرجاني، قاضي تستر، روى الحديث وكان له شعر رائق يتضمن معاني حسنة، فمن ذلك قوله‏:‏

ولما بلوت الناس أطلب عندهم * أخا ثقة عند اعتراض الشدائد

تطعمت في حالي رخاء وشدة * وناديت في الأحياء‏:‏ هل من مساعد ‏؟‏

فلم أرَ فيما ساءني غير شامت * ولم أرَ فيما سرني غير حاسد

فطلقت ود العالمين جميعهم * ورحت فلا ألوي على غير واحد

تمتعتما يا ناظري بنظرة * وأوردتما قلبي أمر الموارد

أعيني كفا عن فؤادي فإنه * من البغي سعي اثنين في قتل واحد

والقاضي عياض بن موسى السبتي صاحب التصانيف المفيدة، ومن شعره قوله‏:‏

الله يعلم أني منذ لم أركم * كطائر خانه ريش الجناحين

ولو قدرت ركبت الريح نحوكم * فإن بعدكم عني جنى حيني

وقد ترجمه ابن خلكان ترجمة حسنة‏.‏

 عيسى بن هبة الله

ابن عيسى، أبو عبد الله النقاش، سمع الحديث، مولده سنة سبع وخمسين وأربعمائة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان ظريفاً خفيف الروح، له نوادر حسنة رأى الناس، وعاشر الأكياس، وكان يحضر مجلسي ويكاتبني وأكاتبه، كتبت إليه مرة فعظمته في الكتاب فكتب إلي‏:‏

قد زدتني في الخطاب حتى * خشيت نقصاً من الزياده

وله‏:‏

إذا وجد الشيخ في نفسه * نشاطاً فذلك موت خفي

ألست ترى أن ضوء السرا * ج له لهب قبل أن ينطفي

 غازي بن أقنسقر

الملك سيف الدين صاحب الموصل، وهو أخو نور الدين محمود، صاحب حلب ثم دمشق فيما بعد، وقد كان سيف الدين هذا من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، وأجودهم سريرة، وأصبحهم صورة، شجاعاً كريماً، يذبح كل يوم لجيشه مائة من الغنم، ولمماليكه ثلاثين رأساً، وفي يوم العيد ألف رأس سوى البقر والدجاج، وهو أول من حمل على رأسه سنجق من ملوك الأطراف، وأمر الجند أن لا يركبوا إلا بسيف ودبوس، وبنى مدرسة بالموصل ورباطاً للصوفية، وامتدحه الحيص بيص، فأعطاه ألف دينار عيناً وخلعة‏.‏

ولما توفي بالحمى في جمادى الآخرة دفن في مدرسته المذكورة، وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة ملكه بعد أبيه ثلاث سنين وخمسين يوماً، رحمه الله‏.‏

 قطز الخادم

أمير الحاج مدة عشرين سنة وأكثر، سمع الحديث وقرأ على ابن الزاغوني، وكان يحب العلم والصدقة، وكان الحاج معه في غاية الدعة والراحة والأمن، وذلك لشجاعته ووجاهته عند الخلفاء والملوك، توفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من ذي القعدة ودفن بالرصافة‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ فتح نور الدين محمود حصن فامية، وهو من أحصن القلاع، قيل‏:‏ فتحه في التي قبلها‏.‏

وفيها‏:‏ قصد دمشق ليأخذها فلم يتفق له ذلك، فخلع على ملكها مجير الدين أرتق، وعلى وزيره ابن الصوفي، وتقررت الخطبة له بها بعد الخليفة والسلطان، وكذلك السكة‏.‏

وفيها‏:‏ فتح نور الدين حصن إعزاز وأسر ابن ملكها ابن جوسلين، ففرح المسلمون بذلك، ثم أسر بعده والده جوسلين الفرنجي، فتزايدت الفرحة بذلك، وفتح بلاداً كثيرة من بلاده‏.‏

وفي المحرم منها حضر يوسف الدمشقي تدريس النظامية، وخلع عليه، ولما لم يكن ذلك بإذن الخليفة بل بمرسوم السلطان وابن النظام، منع من ذلك فلزم بيته ولم يعد إلى المدرسة بالكلية، وتولاها الشيخ أبو النجيب بإذن الخليفة ومرسوم السلطان‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ في هذه السنة وقع مطر باليمن كله دم، حتى صبغ ثياب الناس‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسن بن ذي النون

ابن أبي القاسم، بن أبي الحسن، أبو المفاخر النيسابوري، قدم بغداد فوعظ بها، وجعل ينال من الأشاعرة فأحبته الحنابلة، ثم اختبروه فإذا هو معتزلي ففتر سوقه، وجرت بسببه فتنة ببغداد، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئاً من شعره، من بذلك‏:‏

مات الكرام ومروا وانقضوا ومضوا * ومات من بعدهم تلك الكرامات

وخلفوني في قوم ذوي سفه * لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا

 عبد الملك بن عبد الوهاب

الحنبلي القاضي بهاء الدين، كان يعرف مذهب أبي حنيفة وأحمد، ويناظر عنهما، ودفن مع أبيه وجده بقبور الشهداء‏.‏ ‏

 عبد الملك بن أبي نصر بن عمر

أبو المعالي الجبلي، كان فقيهاً صالحاً متعبداً فقيراً، ليس له بيت يسكنه، وإنما يبيت في المساجد المهجورة، وقد خرج مع الحجيج فأقام بمكة يعبد ربه ويفيد العلم، فكان أهلها يثنون عليه خيراً‏.‏

 الفقيه أبو بكر بن العربي

المالكي، شارح الترمذي، كان فقيهاً عالماً وزاهداً عابداً، وسمع الحديث بعد اشتغاله في الفقه، وصحب الغزالي وأخذ عنه، وكان يتهمه برأي الفلاسفة، ويقول‏:‏ دخل في أجوافهم فلم يخرج منها، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ أغار جيش السلطان على بلاد الإسماعيلية، فقتلوا خلقاً ورجعوا سالمين‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر نور الدين دمشق شهوراً، ثم ترحل عنها إلى حلب، وكان الصلح على يدي البرهان البلخي‏.‏

وفيها‏:‏ اقتتل الفرنج وجيش نور الدين فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما وقع هذا الأمر شق ذلك على نور الدين وترك الترفه وهجر اللذة حتى يأخذ بالثار، ثم إن أمراء التركمان ومعهم جماعة من أعوانهم ترصدوا الملك جوسليق الإفرنجي، فلم يزالوا به حتى أسروه في بعض متصيداته فأرسل نور الدين فكبس التركمان وأخذ منهم جوسليق أسيراً، وكان من أعيان الكفرة، وأعظم الفجرة، فأوقفه بين يديه في أذل حال، ثم سجنه‏.‏

ثم سار نور الدين إلى بلاده فأخذها كلها بما فيها‏.‏

وفي ذي الحجة جلس ابن العبادي في جامع المنصور وتكلم، وعنده جماعة من الأعيان، فكادت الحنابلة يثيرون فتنة ذلك اليوم، ولكن لطف الله وسلم‏.‏

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 برهان الدين أبو الحسن بن علي البلخي

شيخ الحنفية بدمشق، درس بالبلخية ثم بالخاتونية البرانية، وكان عالماً عاملاً، ورعاً زاهداً، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ توفي السلطان مسعود وقام بالأمر من بعده أخوه ملكشاه بن محمود، ثم جاء السلطان محمد وأخذ الملك واستقر له، قتل الأمير خاص بك، وأخذ أمواله وألقاه للكلاب، وبلغ الخليفة أن واسط قد تخبطت أيضاً، فركب إليها في الجيش في أبهة عظيمة، وأصلح شأنها، وكر على الكوفة والحلة، ثم عاد إلى بغداد فزينت له البلد‏.‏

وفيها‏:‏ ملك عبد المؤمن صاحب المغرب بجاية وهي بلاد بني حماد، فكان آخر ملوكهم يحيى بن عبد العزيز بن حماد، ثم جهز عبد المؤمن جيشاً إلى صنهاجة فحاصرها، وأخذ أموالها‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج، فكسرهم وقتل منهم خلقاً، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ اقتتل السلطان سنجر وملك الغور علاء الدين الحسين ابن الحسين أول ملوكهم، فكسره سنجر وأسره، فلما أحضره بين يديه قال له‏:‏ ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني ‏؟‏

فأخرج قيداً من فضة وقال‏:‏ كنت أقيدك بهذا‏.‏

فعفى عنه وأطلقه إلى بلاده، فسار إلى غزنة فانتزعها من يد صاحبها بهرام شاه السبكتكيني، واستخلف عليها أخاه سيف الدين فغدر به أهل البلد وسلموه إلى بهرام شاه فصلبه، ومات بهرام شاه قريباً فسار إليه علاء الدين فهرب خسرو بن بهرام شاه عنها، فدخلها علاء الدين فنهبها ثلاثة أيام، وقتل من أهلها بشراً كثيراً، وسخر أهلها فحملوا تراباً في مخالي إلى محلة هنالك بعيدة عن البلد، فعمر من ذلك التراب قلعة معروفة إلى الآن‏.‏

وبذلك انقضت دولة بني سبكتكين عن بلاد غزنة وغيرها، وقد كان ابتداء أمرهم في سنة ست وستين وثلاثمائة إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وكانوا من خيار الملوك، وأكثرهم جهاداً في الكفرة، وأكثرهم أموالاً ونساء وعدداً وعُدداً، وقد كسروا الأصنام وأبادوا الكفار، وجمعوا من الأموال ما لم يجمع غيرهم من الملوك، مع أن بلادهم كانت من أطيب البلاد وأكثرهم ريفاً ومياهاً ففني جميعه وزال عنهم، ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ثم ملك الغور والهند وخراسان، واتسعت ممالكهم وعظم سلطان علاء الدين بعد الأسر‏.‏

وحكى ابن الجوزي‏:‏ أن في هذه السنة باض ديك بيضة واحدة، ثم باض بازي بيضتين، وباضت نعامة من غير ذكر، وهذا شيء عجيب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/287‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 المظفر بن أردشير

أبو منصور العبادي، الواعظ، سمع الحديث ودخل إلى بغداد فأملى ووعظ، وكان الناس يكتبون ما يعظ به، فاجتمع له من ذلك مجلدات‏.‏

، قال ابن الجوزي‏:‏ لا تكاد تجد في المجلد خمس كلمات جيدة، وتكلم فيه وأطال الحط عليه، واستحسن من كلامه قوله وقد سقط مطر وهو يعظ الناس، وقد ذهب الناس إلى تحت الجدران فقال‏:‏ لا تفروا من رشاش ماء رحمة قطر من سحاب نعمة، ولكن فروا من رشاش نار اقتدح من زناد الغضب‏.‏

توفي وقد جاوز الخمسين بقليل‏.‏

 مسعود السلطان

صاحب العراق وغيرها، حصل له من التمكن والسعادة شيء كثير لم يحصل لغيره، وجرت له خطوب طويلة كما تقدم بعض ذلك، وقد أسر في بعض حروبه الخليفة المسترشد كما تقدم، توفي يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة منها‏.‏

 يعقوب الخطاط الكاتب

توفي بالنظامية، فجاء ديوان الحشر ليأخذوا ميراثه فمنعهم الفقهاء، فجرت فتنة عظيمة آل الحال إلى عزل المدرس الشيخ أبي النجيب وضربه في الديوان تعزيراً‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ وقع الحرب بين السلطان سنجر وبين الأتراك، فقتل الأتراك من جيشه خلقاً كثيراً بحيث صارت القتلى مثل التلول العظيمة، وأسروا السلطان سنجر وقتلوا من كان معه من الأمراء صبراً، ولما أحضروه قاموا بين يديه وقبلوا الأرض له، وقالوا‏:‏ نحن عبيدك‏.‏

وكانوا عدة من الأمراء الكبار من مماليكهم، فأقام عندهم شهرين ثم أخذوه وساروا به فدخلوا مرو، وهي كرسي مملكة خراسان، فسأله بعضهم أن يجعلها له إقطاعاً، فقال سنجر هذا‏:‏ لا يمكن، هذه كرسي المملكة‏.‏ ‏‏

فضحكوا منه وضرطوا به، فنزل عن سرير المملكة ودخل خانقاه، وصار فقيراً من جملة أهلها، وتاب عن الملك واستحوذ أولئك الأتراك على البلاد فنهبوها وتركوها قاعاً صفصفاً، وأفسدوا في الأرض فساداً عريضاً، وأقاموا سليمان شاه ملكاً، فلم تطل أيامه حتى عزلوه، وولوا ابن أخت سنجر الخاقان محمود بن كوخان، وتفرقت الأمور واستحوذ كل إنسان منهم على ناحية من تلك المماليك، وصارت الدولة دولاً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين عبد المؤمن وبين العرب ببلاد المغرب‏.‏

وفيها‏:‏ أخذت الفرنج مدينة عسقلان من ساحل غزة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الخليفة إلى واسط في جحفل فأصلح شأنها وعاد إلى بغداد‏.‏

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني‏.‏

وفيها كانت وفاة الشاعرين القرينين الشهيرين في الزمان الأخير‏:‏

بـ الفرزدق وجرير

وهما أبو الحسن أحمد بن منير الجوني بحلب، وأبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير القيسراني الحلبي بدمشق، وعلي بن السلار الملقب بالعادل وزير الظافر صاحب مصر، وهو باني المدرسة بالإسكندرية للشافعية للحافظ أبي طاهر السلفي، وقد كان العادل هذا ضد اسمه، كان ظلوماً غشوماً حطوماً، وقد ترجمه ابن خلكان‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

فيها‏:‏ ركب الخليفة المقتفي في جيش كثيف إلى تكريت فحاصر قلعتها، ولقي هناك جمعاً من الأتراك والتركمان، فأظفره الله بهم، ثم عاد إلى بغداد‏.‏

ملك السلطان نور الدين الشهيد بدمشق

وجاءت الأخبار بأن مصر قد قتل خليفتها الظافر، ولم يبق منهم إلا صبي صغير ابن خمس شهور، قد ولوه عليهم ولقبوه الفائز، فكتب الخليفة عهداً إلى نور الدين محمود بن زنكي بالولاية على بلاد الشام والديار المصرية، وأرسله إليها‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ هاجت ريح شديدة بعد العشاء فيها نار فخاف الناس أن تكون الساعة، وزلزلت الأرض وتغير ماء دجلة إلى الحمرة، وظهر بأرض واسط بالأرض دم لا يعرف ما سببه، وجاءت الأخبار عن الملك سنجر أنه في أسر الترك، وهو في غاية الذل والإهانة وأنه يبكي على نفسه كل وقت‏.‏

وفيها‏:‏ انتزع نور الدين محمود دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق، وذلك لسوء سيرته وضعف دولته، ومحاصرة العامة له في القلعة، مع وزيره مؤيد الدولة علي بن الصوفي، وتغلب الخادم عطاء على المملكة مع ظلمه وغشمه، وكان الناس يدعون ليلاً ونهاراً أن يبدلهم بالملك نور الدين‏.‏

واتفق مع ذلك أن الفرنج أخذوا عسقلان فحزن نور الدين على ذلك، ولا يمكنه الوصول إليهم، لأن دمشق بينه وبينهم، ويخشى أن يحاصروا دمشق فيشق على أهلها، ويخاف أن يرسل مجير الدين إلى الفرنج فيخذلونه كما جرى غير مرة، وذلك أن الفرنج لا يريدون أن يملك نور الدين دمشق فيقوى بها عليهم ولا يطيقونه، فأرسل بين يديه الأمير أسد الدين شيركوه في ألف فارس في صفة طلب الصلح، فلم يلتفت إليه مجير الدين ولا عده شيئاً، ولا خرج إليه أحد من أعيان أهل البلد، فكتب إلى نور الدين بذلك‏.‏

فركب الملك نور الدين في جيشه فنزل عيون الفاسريا من أرض دمشق، ثم انتقل إلى قريب من الباب الشرقي، ففتحها قهراً ودخل من الباب الشرقي بعد حصار عشرة أيام، وكان دخوله في يوم الأحد عاشر صفر من هذه السنة، وتحصن مجير الدين في القلعة فأنزله منها وعوضه مدينة حمص ودخل نور الدين إلى القلعة واستقرت يده على دمشق، ولله الحمد‏.‏

ونادى في البلد بالأمان والبشارة بالخير، ثم وضع عنهم المكوس وقرئت عليهم التواقيع على المنابر، ففرح الناس بذلك وأكثروا الدعاء له، وكتب ملوك الفرنج إليه يهنونه بدمشق ويتقربون إليه ويخضعون له‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الرئيس مؤيد الدولة

علي بن الصوفي وزير دمشق لمجير الدين، وقد ثار على الملك غير مرة، واستفحل أمره، ثم يقع الصلح بينهما كما تقدم‏.‏

عطاء الخادم

أحد أمراء دمشق، وقد تغلب على الأمور بأمر مجير الدين، وكان ينوب على بعلبك في بعض الأحيان، وقد كان ظالماً غاشماً وهو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج باب شرقي، والله أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة هجرية

فيها‏:‏ خرج الخليفة في تجمل إلى دموقا فحاصرها فخرج إليه أهلها أن يرحل عنهم فإن أهلها قد هلكوا من الجيشين، فأجابهم ورحل عنهم، وعاد إلى بغداد بعد شهرين ونصف، ثم خرج نحو الحلة والكوفة والجيش بين يديه، وقال له سليمان شاه‏:‏ أنا ولي عهد سنجر، فإن قررتني في ذلك وإلا فأنا كأحد الأمراء‏.‏

فوعده خيراً، وكان يحمل الغاشية بين يدي الخليفة على كاهله، فمهد الأمور ووطدها، وسلم على مشهد على إشارة بأصبعه، وكأنه خاف عليه غائلة الروافض أو أن يعتقد في نفسه من القبر شيئاً أو غير ذلك، والله أعلم‏.‏

 فتح بعلبك بيد نور الدين الشهيد

وفيها‏:‏ افتتح نور الدين بعلبك عوداً على بدء وذلك أن نجم الدين أيوب كان نائباً بها على البلد والقلعة فسلمها إلى رجل يقال له‏:‏ الضحاك البقاعي، فاستحوذ عليها وكاتب نجم الدين لنور الدين، ولم يزل نور الدين يتلطف حتى أخذ القلعة أيضاً واستدعى بنجم الدين أيوب إليه إلى دمشق فأقطعه إقطاعاً حسناً، وأكرمه من أجل أخيه أسد الدين، فإنه كانت له اليد الطولى في فتح دمشق، وجعل الأمير شمس الدولة بوران شاه بن نجم الدين شحنة دمشق ثم من بعده جعل أخاه صلاح الدين يوسف هو الشحنة، وجعله من خواصه لا يفارقه حضراً ولا سفراً، لأنه كان حسن الشكل حسن اللعب بالكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة لتدمين الخيل وتعليمها الكر والفر، وفي شحنة صلاح الدين يوسف يقول عرقلة‏:‏ وهو حسان بن نمير الكلبي الشاعر‏:‏

رويدكم يا لصوص الشام * فإني لكم ناصح في مقالي

فإياكم وسمي النبي يوسف * رب الحجا والكمال

فذاك مقطّع أيدي النساء * وهذا مقطّع أيدي الرجال

وقد ملك أخاه بوران شاه بلاد اليمن فيما بعد ذلك، وكان يلقب شمس الدولة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن ناصر

ابن محمد بن علي الحافظ، أبو الفضل البغدادي‏.‏ ‏

ولد ليلة النصف من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وسمع الكثير، وتفرد بمشايخ، وكان حافظاً ضابطاً مكثراً من السنة كثير الذكر سريع الدمعة‏.‏

وقد تخرج به جماعة منهم أبو الفرج بن الجوزي، سمع بقراءته مسند أحمد وغيره من الكتب الكبار، وكان يثني عليه كثيراً، وقد رد على أبي سعد السمعاني في قوله‏:‏ محمد بن ناصر يحب أن يقع في الناس‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ والكلام في الناس بالجرح والتعديل ليس من هذا القبيل وإنما ابن السمعاني يحب أن يتعصب على أصحاب الإمام أحمد، نعوذ بالله من سوء القصد والتعصب‏.‏

توفي محمد بن ناصر ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شعبان منها، عن ثلاث وثمانين سنة، وصلّي عليه مرات، ودفن بباب حرب‏.‏

 مجلي بن جميع أبو المعالي

المخزومي الأرسوفي ثم المصري قاضيها، الفقيه الشافعي، مصنف ‏(‏الذخائر‏)‏ وفيها غرائب كثيرة وهي من الكتب المفيدة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

في المحرم دخل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه إلى بغداد وعلى رأسه الشمسية، فتلقاه الوزير ابن هبيرة وأدخله على الخليفة، فقبل الأرض وحلفه على الطاعة وصفاء النية والمناصحة والمودة، وخلع عليه خلع الملوك، وتقرر أن للخليفة العراق ولسليمان شاه ما يفتحه من خراسان، ثم خطب له ببغداد بعد الملك سنجر، ثم خرج منها في ربيع الأول فاقتتل هو والسلطان محمد بن محمود بن ملكشاه، فهزمه محمد وهزم عسكره، فذهب مهزوماً فتلقاه نائب قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فأسره وحبسه بقلعة الموصل، وأكرمه مدة حبسه وخدمه، وهذا من أغرب الاتفاقات‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت الفرنج المهدية من بلاد المغرب بعد حصار شديد‏.‏

وفيها‏:‏ فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل حارم واقتلعها من أيدي الفرنج، وكانت من أحصن القلاع وأمنع البقاع، وذلك بعد قتال عظيم ووقعة هائلة كانت من أكبر الفتوحات، وامتدحه الشعراء عند ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ هرب الملك سنجر من الأسر وعاد إلى ملكه بمرو، وكان له في يد أعدائه نحو من خمس سنين‏.‏

وفيها‏:‏ ولى عبد المؤمن ملك الغرب أولاده على بلاده، استناب كل واحد منهم على بلد كبير وإقليم متسع‏.‏ ‏

 حصار بغداد

وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه أرسل إلى المقتفي يطلب منه أن يخطب له في بغداد، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من همذان إلى بغداد ليحاصرها فانجفل الناس وحصن الخليفة البلد، وجاء السلطان محمد فحصر بغداد، ووقف تجاه التاج من دار الخلافة في جحفل عظيم، ورموا نحوه النشاب، وقاتلت العامة مع الخليفة قتالاً شديداً بالنفط وغيره، واستمر القتال مدة، فبينما هم كذلك إذ جاءه الخبر أن أخاه قد خلفه في همذان، فانشمر عن بغداد إليها في ربيع الأول من سنة اثنتين وخمسين، وتفرقت عنه العساكر الذين كانوا معه في البلاد، وأصاب الناس بعد ذلك القتال مرض شديد، وموت ذريع، واحترقت محال كثيرة من بغداد، واستمر ذلك فيها مدة شهرين‏.‏

وفيها‏:‏ أطلق أبو الوليد البدر بن الوزير بن هبيرة من قلعة تكريت، وكان معتقلاً فيها من مدة ثلاث سنين، فتلقاه الناس إلى أثناء الطريق، وامتدحه الشعراء، وكان من جملتهم الأبله الشاعر، أنشد الوزير قصيدة يقول في أولها‏:‏

بأي لسان للوشاة ألام * وقد علموا أني سهرت وناموا ‏؟‏

إلى أن قال‏:‏

ويستكثرون الوصل لي ليلة * وقد مر عام بالصدود وعام

فطرب الوزير عند ذلك، وخلع عليه ثيابه وأطلق له خمسين ديناراً‏.‏

وحج بالناس قيماز‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 علي بن الحسين

أبو الحسن الغزنوي الواعظ، كان له قبول كثير من العامة، وبنت له الخاتون زوجة المستظهر رباطاً بباب الأزج، ووقفت عليه أوقافاً كثيرة، وحصل له جاه عريض وزاره السلطان، وكان حسن الإيراد مليح الوعظ، يحضر مجلسه خلق كثير وجم غفير من أصناف الناس‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي أشياء من وعظه، قال‏:‏ وسمعته يوماً يقول‏:‏ حزمة حزن خير من أعدال أعمال‏.‏

ثم أنشد‏:‏

كم حسرة لي في الحشا * من ولد إذا نشا

أملت فيه رشده * فما يشاء كما نشا

قال‏:‏ وسمعته يوماً ينشد‏:‏

يحسدني قومي على صنعتي * لأنني في صنعتي فارس

سهرت في ليلي واستنعسوا * وهل يستوي الساهر والناعس ‏؟‏

قال‏:‏ وكان يقول‏:‏ تولون اليهود والنصارى فيسبون نبيكم في يوم عيدكم، ثم يصبحون يجلسون إلى جانبكم ‏؟‏

ثم يقول‏:‏ ألا هل بلغتُ ‏؟‏

قال‏:‏ وكان يتشيع، ثم سعى في منعه من الوعظ ثم أذن له، ولكن ظهر للناس أمر العبادي، وكان كثير من الناس يميلون إليه، وقد كان السلطان يعظمه ويحضر مجلسه، فلما مات السلطان مسعود ولي الغزنوي بعده، وأهين إهانة بالغة، فمرض ومات في هذه السنة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وبلغني أنه كان يعرق في نزعه ثم يفيق وهو يقول‏:‏ رضىً وتسليم، ولما مات دفن في رباطه الذي كان فيه‏.‏

 

 محمود بن إسماعيل بن قادوس

أبو الفتح الدمياطي، كاتب الإنشا بالديار المصرية، وهو شيخ القاضي الفاضل، كان يسميه ذا البلاغتين، وذكره العماد الكاتب في الجريدة‏.‏

ومن شعره فيمن يكرر التكبير ويوسوس في نية الصلاة في أولها‏:‏

وفاتر النية عنينها * مع كثرة الرعدة والهمزة

يكبر التسعين في مرة * كأنه يصلي على حمزة

 الشيخ أبو البيان

بنا بن محمد المعروف بابن الحوراني، الفقيه الزاهد العابد الفاضل الخاشع، قرأ القرآن وكتاب ‏(‏التنبيه‏)‏ على مذهب الشافعي، وكان حسن المعرفة باللغة، كثير المطالعة، وله كلام يؤثر عنه، ورأيت له كتاباً بخطه فيه النظائم التي يقولها أصحابه وأتباعه بلهجة غريبة، وقد كان من نشأته إلى أن توفي على طريقة صالحة، وقد زاره الملك نور الدين محمود في رباطه داخل درب الحجر، ووقف عليه شيئاً، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بمقابر الباب الصغير، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً، وقد ذكرته في ‏(‏طبقات الشافعية‏)‏، رحمه الله‏.‏

 عبد الغافر بن إسماعيل

ابن عبد القادر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن سعيد، الفارسي الحافظ، تفقه بإمام الحرمين وسمع الكثير على جده لأمه أبي القاسم القشيري، ورحل إلى البلاد وأسمع، وصنف ‏(‏المفهم‏)‏ في غريب مسلم وغيره، وولي خطابة نيسابور، وكان فاضلاً ديناً حافظاً‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وخمسمائة

استهلت هذه السنة ومحمد شاه بن محمود محاصر بغداد والعامة والجند من جهة الخليفة المقتفي يقاتلون أشد القتال، والجمعة لا تقام لعذر القتال، والفتنة منتشرة، ثم يسر الله بذهاب السلطان، كما تقدم في السنة التي قبلها، وقد بسط ذلك ابن الجوزي في هذه السنة فطول‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالشام، هلك بسببها خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وتهدم أكثر حلب وحماه وشيزر وحمص وكفر طاب وحصن الأكراد واللاذقية والمعرة وفامية وإنطاكية وطرابلس‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وأما شيزر فلم يسلم منها إلا امرأة وخادم لها، وهلك الباقون، وأما كفر طاب فلم يسلم من أهلها أحد، وأما فامية فساحت قلعتها، وتل حران انقسم نصفين فأبدى نواويس وبيوتاً كثيرة في وسطه‏.‏

قال‏:‏ وهلك من مدائن الفرنج شيء كثير، وتهدم أسوار أكثر مدن الشام، حتى أن مكتباً من مدينة حماه انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم، فلم يأت أحد يسأل عن أحد منهم، وقد ذكر هذا الفصل الشيخ أبو شامة في كتاب ‏(‏الروضتين‏)‏ مستقصى، وذكر ما قاله الشعراء من القصائد في ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان محمود بن محمد بعد خاله سنجر جميع بلاده‏.‏

وفيها‏:‏ فتح السلطان محمود بن زنكي حصن شيزر بعد حصار، وأخذ مدينة بعلبك، وكان بها الضحاك البقاعي، وقد قيل‏:‏ إن ذلك كان في سنة خمسين كما تقدم فالله أعلم، وقد تقدم ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه ثم عوفي ففرح المسلمون فرحاً شديداً، واستولى أخوه قطب الدين مودود صاحب الموصل على جزيرة ابن عمر‏.‏

وفيها‏:‏ عمل الخليفة باباً للكعبة مصفحاً بالذهب، وأخذ بابها الأول فجعله لنفسه تابوتاً‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الإسماعيلية على حجاج خراسان فلم يبقوا منهم أحداً، لا زاهداً ولا عالماً‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد بخراسان حتى أكلوا الحشرات، وذبح إنسان منهم رجلاً علوياً فطبخه وباعه في السوق، فحين ظهر عليه قتل‏.‏

وذكر أبو شامة‏:‏ أن فتح بانياس كان في هذه السنة على يد نور الدين بنفسه، وقد كان معين الدين سلمها إلى الفرنج حين حاصروا دمشق، فعوضهم بها، وقيل‏:‏ ملكها وغنم شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الشيخ أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي، فسمعوا عليه البخاري في دار الوزير ببغداد‏.‏

وحج بالناس قيماز‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

ابن عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، أبو الليث النسفي من أهل سمرقند، سمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان حسن السمت، قدم بغداد فوعظ الناس، ثم عاد إلى بلده فقتله قطاع الطريق، رحمه الله تعالى‏.‏

 أحمد بن بختيار

ابن علي بن محمد، أبو العباس المارداني الواسطي قاضيها، سمع الحديث وكانت له معرفة تامة في الأدب واللغة، وصنف كتباً في التاريخ وغير ذلك، وكان ثقة صدوقاً توفي ببغداد وصلي عليه بالنظامية‏.‏

 السلطان سنجر

ابن الملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أبو الحارث واسمه أحمد، ولقب بسنجر، مولده في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وأقام في الملك نيفاً وستين سنة، من ذلك استقلالاً إحدى وأربعين سنة، وقد أسره الغز نحواً من خمس سنين، ثم هرب منهم وعاد إلى ملكه بمرو، ثم توفي في ربيع الأول من هذه السنة ودفن في قبة بناها سماها دار الآخرة، رحمه الله‏.‏

 محمد بن عبد اللطيف

ابن محمد بن ثابت، أبو بكر الخجندي الفقيه الشافعي، ولي تدريس النظامية ببغداد، وكان يناظر حسناً ويعظ الناس وحوله السيوف مسللة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ولم يكن ماهراً في الوعظ، وكانت حاله أشبه بالوزراء من العلماء، وتقدم عند السلاطين حتى كانوا يصدرون عن رأيه، توفي بأصبهان فجأة فيها‏.‏

 محمد بن المبارك

ابن محمد بن الخل أبو الحسن بن أبي البقاء، سمع الحديث وتفقه على الشاشي، ودرس وأفتى، وتوفي في محرم هذه السنة، وتوفي أخوه الشيخ أبوالحسين بن الخل الشاعر في ذي القعدة منها‏.‏

 يحيى بن عيسى

ابن إدريس أبو البركات الأنباري الواعظ، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه ووعظ الناس على طريقة الصالحين، وكان يبكي من أول صعوده إلى حين نزوله، وكان زاهداً عابداً ورعاً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ورزق أولاداً صالحين سماهم بأسماء الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحفظهم القرآن كلهم بنفسه، وختم خلقاً كثيراً، وكان هو وزوجته يصومان الدهر، ويقومان الليل، ولا يفطران إلا بعد العشاء، وكانت له كرامات ومنامات صالحة، ولما مات قالت زوجته‏:‏ اللهم لا تحيني بعده‏.‏

فماتت بعده بخمسة عشر يوماً، وكانت من الصالحات، رحمهما الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

فيها‏:‏ كثر فساد التركمان من أصحاب ابن برجم الإيواني، فجهز إليهم الخليفة منكورس المسترشدي في جيش كثيف، فالتقوا معهم فهزمهم أقبح هزيمة، وجاؤوا بالأسارى والرؤوس إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين السلطان محمود وبين الغز، فكسروه ونهبوا البلاد، وأقاموا بمرو ثم طلبوه إليهم فخاف على نفسه فأرسل ولده بين يديه فأكرموه، ثم قدم السلطان عليهم فاجتمعوا عليه وعظموه‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة كبيرة بمرو بين فقيه الشافعية المؤيد بن الحسين، وبين نقيب العلويين بها أبي القاسم زيد بن الحسن، فقتل منهم خلق كثير، وأحرقت المدارس والمساجد والأسواق، وانهزم المؤيد الشافعي إلى بعض القلاع‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله‏.‏

وفيها‏:‏ خرج المقتفي نحو الأنبار متصيداً وعبر الفرات وزار الحسين ومضى إلى واسط وعاد إلى بغداد، ولم يكن معه الوزير‏.‏

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني‏.‏

وفيها‏:‏ كسر جيش مصر الفرنج بأرض عسقلان كسروهم كسرة فجيعة صحبة الملك صالح أبو الغارات، فارس الدين طلائع بن رزيك، وامتدحه الشعراء‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الملك نور الدين من حلب إلى دمشق وقد شفي من المرض ففرح به المسلمون، وخرج إلى قتال الفرنج، فانهزم جيشه وبقي هو في شرذمة قليلة من أصحابه في نحر العدو، فرموهم بالسهام الكثيرة، ثم خاف الفرنج أن يكون وقوفه في هذه الشرذمة القليلة خديعة لمجيء كمين إليهم، ففروا منهزمين، ولله الحمد‏.‏ ‏‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الأول بن عيسى

ابن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق، أبو الوقت السجزي الصوفي الهروي، راوي البخاري ومسند الدارمي، والمنتخب من مسند عبد بن حميد، قدم بغداد فسمع عليه الناس هذه الكتب، وكان من خيار المشايخ وأحسنهم سمتاً وأصبرهم على قراءة الحديث‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ أخبرني أبو عبد الله محمد بن الحسين التكريتي الصوفي قال‏:‏ أسندته إليّ فمات، وكان آخر ما تكلم به أن قال‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

 نصر بن منصور

ابن الحسين بن أحمد بن عبد الخالق العطار، أبو القاسم الحراني كان كثير المال، يعمل من صدقاته المعروف الكثير من أنواع القربات الحسنة، ويكثر تلاوة القرآن، ويحافظ على الصلوات في الجماعة، ورُؤيت له منامات صالحة، وقارب الثمانين، رحمه الله‏.‏

 يحيى بن سلامة

ابن الحسين أبو الفضل الشافعي، الحصكفي نسبة إلى حصن كيف، كان إماماً في علوم كثيرة من الفقه والآداب، ناظماً ناثراً، غير أنه كان ينسب إلى الغلو في التشيع، وقد أورد له ابن الجوزي قطعة من نظمه، فمن ذلك قوله في جملة قصيدة له‏:‏

تقاسموا يوم الوداع كبدي * فليس لي منذ تولوا كبد

على الجفون رحلوا في الحشاء * نزلوا وماء عيني وردوا

وأدمعي مسفوحة وكبدي * مقروحة وعلتي ما قد بدوا

وصبوتي دائمة ومقلتي * دامية ونومها مشرد

تيّمني منهم غزال أغيد * يا حبذا ذاك الغزال الأغيد

حسامه مجرد وصرحه * ممرد وخده مورّد

وصدغه فوق احمرار خده * مبلبل معقرب مجعد

كأنما نكهته وريقه * مسك وخمر والثنايا بَرَد

يقعده عند القيام ردفه * وفي الحشا منه المقيم المقعد

له قوام كقضيب بانة * يهتز قصداً ليس فيه أود

وهي طويلة جداً، ثم خرج من هذا التغزل إلى مدح أهل البيت والأئمة الاثني عشر، رحمهم الله‏:‏

وسائلي عن حب أهل البيت * هل أقر إعلاناً به أم أجحد

هيهات ممزوج بلحمي ودمي * حبهم هو الهدى والرشد

حيدرة والحسنان بعده * ثم علي وابنه محمد

وجعفر الصادق وابن جعفر * موسى ويتلوه علي السيد

أعني الرضى ثم ابنه محمد * ثم علي وابنه المسدد

والحسن الثاني ويتلو تلوه * محمد بن الحسن المفتقد

فإنهم أئمتي وسادتي * وإن لحاني معشر وفندوا

أئمة أكرم بهم أئمة * أسماؤهم مسرودة تطرد

هم حجج الله على عباده * وهم إليه منهج ومقصد

قوم لهم فضل ومجد باذخ * يعرفه المشرك والموحد

قوم لهم في كل أرض مشهد * لا بل لهم في كل قلب مشهد

قوم مني والمعشران لهم * والمروتان لهم والمسجد

قوم لهم مكة والأبطح والخـ * ـيف وجمع والبقيع الغرقد

ثم ذكر بلطف مقتل الحسين بألطف عبارة إلى أن قال‏:‏

يا أهل بيت المصطفى يا * عدتي ومن على حبهم أعتمد

أنتم إلى الله غداً وسيلتي * وكيف أخشى وبكم أعتضد

وليكم في الخلد حي خالد * والضد في نار لظى مخلد

ولست أهواكم ببغض غيركم * إني إذاً أشقى بكم لا أسعد

فلا يظن رافضي أنني * وافقته أو خارجي مفسد

محمد والخلفاء بعده * أفضل خلق الله فيما أجد

هم أسسوا قواعد الدين لنا * وهم بنوا أركانه وشيدوا

ومن يخن أحمد في أصحابه * فخصمه يوم المعاد أحمد

هذا اعتقادي فالزموه تفلحوا * هذا طريقي فاسلكوه تهتدوا

والشافعي مذهبي مذهبه * لأنه في قوله مؤيد

اتبعته في الأصل والفرع معاً * فليتبعني الطالب المرشد

إني بإذن الله ناج سابق * إذا ونى الظالم ثم المفسد

ومن شعره أيضاً‏:

إذا قل مالي لم تجدني جازعاً * كثير الأسى معرى بعض الأنامل

ولا بطراً إن جدد الله نعمة * ولو أن ما أوتي جميع الناس لي

 ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة

مرض الخليفة المقتفي مرضاً شديداً، ثم عوفي فزينت بغداد أياماً، وتصدق بصدقات كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ استعاد عبد المؤمن مدينة المهدية من أيدي الفرنج، وقد كانوا أخذوها من المسلمين في سنة ثلاث وأربعين‏.‏

وفيها‏:‏ قاتل عبد المؤمن خلقاً كثيراً من الغرب حتى صارت عظام القتلى هناك كالتل العظيم‏.‏

وفي صفر منها سقط برد بالعراق كبار، زنة البردة قريب من خمسة أرطال، ومنها ما هو تسعة أرطال بالبغدادي، فهلك بذلك شيء كثير من الغلات، وخرج الخليفة إلى واسط فاجتاز بسوقها ورأى جامعها، وسقط عن فرسه فشج جبينه، ثم عوفي‏.‏

وفي ربيع الآخر زادت دجلة زيادة عظيمة، فغرق بسبب ذلك محال كثيرة من بغداد، حتى صار أكثر الدور بها تلولاً، وغرقت تربة أحمد، وخسفت هناك القبور، وطفت الموتى على وجه الماء‏.‏

قاله ابن الجوزي‏:‏ وفي هذه السنة كثر المرض والموت‏.‏

وفيها‏:‏ أقبل ملك الروم في جحافل كثيرة قاصداً بلاد الشام فرده الله خائباً خاسئاً، وذلك لضيق حالهم من الميرة، وأسر المسلمون ابن أخته، ولله الحمد‏.‏

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن معالي

ابن بركة الحربي، تفقه بأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي، وبرع وناظر ودرس وأفتى، ثم صار بعد ذلك شافعياً، ثم عاد حنبلياً، ووعظ ببغداد وتوفي في هذه السنة، وذلك أنه دخلت به راحلته في مكان ضيق فدخل قربوس سرجه في صدره فمات‏.‏

السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه

لما رجع من محاصرة بغداد إلى همذان أصابه مرض السل فلم ينجح منه، بل توفي في ذي الحجة منها، وقبل وفاته بأيام أمر أن يعرض عليه جميع ما يملكه ويقدر عليه، وهو جالس في المنظرة، فركب الجيش بكماله وأحضرت أمواله كلها، ومماليكه حتى جواريه وحظاياه، فجعل يبكي ويقول‏:‏ هذه العساكر لا يدفعون عني مثقال ذرة من أمر ربي، ولا يزيدون في عمري لحظة‏.‏

ثم ندم وتأسف على ما كان منه إلى الخليفة المقتفي، وأهل بغداد وحصارهم وأذيتهم، ثم قال‏:‏ وهذه الخزائن والأموال والجواهر لو قبلهم ملك الموت مني فداء لجدت بذلك جميعه له، وهذه الحظايا والجواري الحسان والمماليك لو قبلهم فداء مني لكنت بذلك سمحاً له‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28-29‏]‏ ثم فرق شيئاً كثيراً من ذلك من تلك الحواصل والأموال، وتوفي عن ولد صغير، واجتمعت العساكر والأمراء على عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه، وكان مسجوناً بالموصل فأفرج عنه وانعقدت له السلطنة، وخطب له على منابر تلك البلاد سوى بغداد والعراق، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة الخليفة المقتفي بأمر الله‏.‏

أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله

مرض بالتراقي وقيل‏:‏ بدمل خرج بحلقه، فمات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول منها عن ست وستين سنة إلا ثمانية وعشرين يوماً، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب، وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة وعشرين يوماً، وكان شهماً شجاعاً مقداماً، يباشر الأمور بنفسه، ويشاهد الحروب ويبذل الأموال الكثيرة لأصحاب الأخبار، وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن السلطان، من أول أيام الديلم إلى أيامه، وتمكن في الخلافة وحكم على العسكر والأمراء‏.‏

وقد وافق أباه في أشياء‏:‏ من ذلك مرضه بالتراقي، وموته في ربيع الأول، وتقدم موت السلطان محمد شاه قبله بثلاثة أشهر، وكذلك أبوه المستظهر مات قبله السلطان محمود بثلاثة أشهر وبعد غرق بغداد بسنة مات أبوه، وكذلك هذا‏.‏

قال عفيف الناسخ‏:‏ رأيت في المنام قائلاً يقول‏:‏ إذا اجتمعت ثلاث خاآت مات المقتفي يعني‏:‏ خمساً وخمسين وخمسمائة‏.‏ ‏

خلافة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي

لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع بالخلافة في صبيحة يوم الأحد ثاني ربيع الأول من هذه السنة، بايعه أشراف بني العباس، ثم الوزير والقضاة والعلماء والأمراء وعمره يومئذ خمس وأربعون سنة، وكان رجلاً صالحاً، وكان ولي عهد أبيه من مدة متطاولة، ثم عمل عزاء أبيه، ولما ذكر اسمه يوم الجمعة في الخطبة نثرت الدراهم والدنانير على الناس، وفرح المسلمون به بعد أبيه، وأقر الوزير ابن هبيرة على منصبه ووعده بذلك إلى الممات، وعزل قاضي القضاة ابن الدامغاني وولى مكانه أبا جعفر بن عبد الواحد، وكان شيخاً كبيراً، له سماع بالحديث، وباشر الحكم بالكوفة، ثم توفي في ذي الحجة منها‏.‏

وفي شوال من هذه السنة اتفق الأتراك بباب همذان على سليمان شاه، وخطبوا لأرسلان شاه بن طغرل‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 الفائز خليفة مصر الفاطمي

وهو أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، توفي في صفر منها وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، ومدة ولايته من ذلك ست سنين وشهران، وكان مدبر دولته أبو الغارات، ثم قام بعده العاضد آخر خلفائهم، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان يومئذ قد ناهز الاحتلام، فقام بتدبير مملكته الملك الصالح طلائع بن رزيك الوزير، أخذ له البيعة وزوجه بابنته، وجهزها بجهاز عظيم يعجز عنه الوصف، وقد عمرت بعد زوجها العاضد ورأت زوال دولة الفاطميين على يد الملك صلاح الدين بن يوسف، في سنة أربع وستين كما سيأتي‏.‏

وفيها كانت وفاة السلطان الكبير صاحب غزنة

 خسروشاه بن ملكشاه

ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين، من بيت ملك ورياسة باذخة، يرثونها كابراً عن كابر، وكان من سادات الملوك وأحسنهم سيرة، يحب العلم وأهله، توفي في رجب منها، وقام بعده ولده ملكشاه، فسار إليه علاء الدين الحسين بن الغور فحاصر غزنة فلم يقدر عليها ورجع خائباً‏.‏

وفيها مات‏:‏

 ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه

السلجوقي بأصبهان مسموماً، فيقال‏:‏ إن الوزير عون الدين بن هبيرة دس إليه من سقاه إياه، والله أعلم‏.‏

وفيها مات‏:‏ أمير الحاج

 قيماز بن عبد الله الأرجواني

سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة بميدان الخليفة، فسال دماغه من أذنه فمات من ساعته، وقد كان من خيار الأمراء، فتأسف الناس عليه، وحضر جنازته خلق كثير، مات في شعبان منها، فحج بالناس فيها الأمير برغش مقطع الكوفة‏.‏ ‏

وحج الأمير الكبير شيركوه بن شاذي، مقدم عساكر الملك نور الدين، وتصدق بأموال كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ استعفى القاضي زكي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى أبو الحسن القرشي من القضاء بدمشق، فأعفاه نور الدين، وولى مكانه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، وكان من خيار القضاة وأكثرهم صدقة، وله صدقات جارية بعده، وكان عالماً وإليه ينسب الشباك الكمالي الذي يجلس فيه الحكام بعد صلاة الجمعة من المشهد الغربي بالجامع الأموي، والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير مجاهد الدين

نزار بن مامين الكردي، أحد مقدمي جيش الشام، قبل نور الدين وبعده، وقد ناب في مدينة صرخد، وكان شهماً شجاعاً كثير البر والصدقات، وهو واقف المدرسة المجاهدية بالقرب من الغورية جوار الخيميين، وله أيضاً المدرسة المجاهدية داخل باب الفراديس البراني، وبها قبره‏.‏

وله السبع المجاهدي داخل باب الزيادة من الجامع بمقصورة الخضر، توفي بداره في صفر منها، فحمل إلى الجامع وصلي عليه ثم أعيد إلى مدرسته ودفن بها داخل باب الفراديس، وتأسف الناس عليه‏.‏

 الشيخ عدي بن مسافر

ابن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاري، شيخ الطائفة العدوية، أصله من البقاع غربي دمشق، من قرية بيت نار، ثم دخل إلى بغداد فاجتمع فيها بالشيخ عبد القادر والشيخ حماد الدباس، والشيخ عقيل المنبجي، وأبي الوفا الحلواني، وأبي النجيب السهروردي وغيرهم، ثم انفرد عن الناس وتخلى بجبل هكار وبنى له هناك زاوية واعتقده أهل تلك الناحية اعتقاداً بليغاً، حتى إن منهم من يغلو غلواً كثيراً منكراً ومنهم من يجعله إلهاً أو شريكاً، وهذا اعتقاد فاحش يؤدي إلى الخروج من الدين جملة‏.‏

مات في هذه السنة بزاويته وله سبعون سنة، رحمه الله‏.‏ ‏

 عبد الواحد بن أحمد

ابن محمد بن حمزة، أبو جعفر الثقفي، قاضي قضاة بغداد، وليها بعد أبي الحسن الدامغاني في أول هذه السنة، وكان قاضياً بالكوفة قبل ذلك، توفي في ذي الحجة منها وقد ناهز الثمانين، وولي بعده ابنه جعفر‏.‏

والفائز صاحب مصر، وقيماز تقدما في الحوادث‏.‏

 محمد بن يحيى

ابن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي، ولد بمدينة زبيد باليمن سنة ثمانين تقريباً، وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة، فوعظ وكانت له معرفة بالنحو والأدب، وكان صبوراً على الفقر لا يشكو حاله إلى أحد، وكانت له أحوال صالحة رحمه الله، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

فيها‏:‏ قتل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه، وكان عنده استهزاء وقلة مبالاة بالدين، مدمن شرب الخمر في رمضان، فثار عليه مدبر مملكته يزديار الخادم فقتله، وبايع بعده السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الملك الصالح فارس الدين أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني، وزير العاضد صاحب مصر، ووالد زوجته، وكان قد حجر على العاضد لصغره واستحوذ على الأمور والحاشية، ووزر بعده ولده رزيك، ولقب بالعادل‏.‏

وقد كان أبوه الصالح كريماً أديباً، يحب أهل العلم ويحسن إليهم، كان من خيار الملوك والوزراء، وقد امتدحه غير واحد من الشعراء‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان أولاً متولياً بمنية بني الخصيب، ثم آل به الحال إلى أن صار وزير العاضد والفائز قبله، ثم قام في الوزارة بعده ولده العادل رزيك بن طلائع، فلم يزل فيها حتى انتزعها منه شاور كما سيأتي‏.‏

قال‏:‏ والصالح هذا هو باني الجامع عند باب زويلة ظاهر القاهرة‏.‏

قال‏:‏ ومن العجائب أنه ولي الوزارة في تاسع عشر شهر، ونقل من دار الوزارة إلى القرافة في تاسع عشر شهر، وزالت دولتهم في تاسع عشر شهر آخر‏.‏

قال‏:‏ ومن شعره ما رواه عنه زين الدين علي بن نجا الحنبلي‏:‏

مشيبك قد محى صنع الشباب * وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقظى * وما ناب النوائب عنك ناب

وكيف نفاد عمرك وهو كنز * وقد أنفقت منه بلا حساب

وله‏:‏

كم ذا يرينا الدهر من أحداثه * عبراً وفينا الصد والإعراض

ننسى الممات وليس يجري ذكره * فينا فتذكرنا به الأمراض

ومن شعره أيضاً قوله‏:‏

أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر * ويخدمنا في ملكنا العز والنصر

علمنا بأن المال تفنى ألوفه * ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر

خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا * سحاب لديه البرق والرعد والقطر

وله أيضاً وهو مما نظمه قبل موته بثلاث ليال‏:‏

نحن في غفلة ونوم وللمو * ت عيون يقظانة لا تنام

قد رحلنا إلى الحمام سنيناً * ليت شعري متى يكون الحمام ‏؟‏

ثم قتله غلمان العاضد في النهار غيلة وله إحدى وستون سنة، وخلع على ولده العادل بالوزارة، ورثاه عمارة التميمي بقصائد حسان، ولما نقل إلى تربته بالقرافة سار العاضد معه حتى وصل إلى قبره فدفنه في التابوت‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ فعمل الفقيه عمارة في التابوت قصيدة فجار فيها في قوله‏:‏

وكأنه تابوت موسى أودعت * في جانبيه سكينة ووقار

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين بني خفاجة وأهل الكوفة، فقتلوا من أهل الكوفة خلقاً، منهم الأمير قيصر وجرحوا أمير الحاج برغش جراحات، فنهض إليهم وزير الخلافة عون الدين بن هبيرة، فتبعهم حتى أوغل خلفهم في البرية في جيش كثيف، فبعثوا يطلبون العفو‏.‏

وفيها‏:‏ ولي مكة الشريف عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، وقيل‏:‏ قاسم بن أبي فليتة بن قاسم بن أبي هاشم‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الخليفة بإزالة الدكاكين التي تضيق الطرقات، وأن لا يجلس أحد من الباعة في عرض الطريق، لئلا يضر ذلك بالمارة‏.‏

وفيها‏:‏ وقع رخص عظيم ببغداد جداً‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ فتحت المدرسة التي بناها ابن الشمحل في المأمونية، ودرس فيها أبو حكيم إبراهيم بن دينار النهرواني الحنبلي، وقد توفي من آخر هذه السنة، ودرس بعده فيها أبو الفرج بن الجوزي، وقد كان عنده معيداً، ونزل عن تدريس آخر بباب الأزج عند موته‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 حمزة بن علي بن طلحة

أبو الفتوح الحاجب، كان خصيصاً عند المسترشد والمقتفي، وقد بنى مدرسة إلى جانب داره، وحج فرجع متزهداً، ولزم بيته معظماً نحواً من عشرين سنة، وقد امتدحه الشعراء فقال فيه بعضهم‏:‏

يا عضد الإسلام يا من سمت * إلى العلا همته الفاخرة

كانت لك الدنيا فلم ترضها * ملكاً فأخلدت إلى الآخرة

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة

فيها‏:‏ دخلت الكرج بلاد المسلمين فقتلوا خلقاً من الرجال وأسروا من الذراري، فاجتمع ملوك تلك الناحية‏:‏ ايلدكز صاحب أذربيجان، وابن سكمان صاحب خلاط، وابن آقسنقر صاحب مراغة، وساروا إلى بلادهم في السنة الآتية فنهبوها، وأسروا ذراريهم، والتقوا معهم فكسروهم كسرة فظيعة منكرة، مكثوا يقتلون فيهم ويأسرون ثلاثة أيام‏.‏

وفي رجب أعيد يوسف الدمشقي إلى تدريس النظامية بعد عزل ابن نظام الملك بسبب أن امرأة ادعت أنه تزوجها فأنكر ثم اعترف، فعزل عن التدريس‏.‏

وفيها‏:‏ كملت المدرسة التي بناها الوزير ابن هبيرة بباب البصرة، ورتب فيها مدرساً وفقيهاً‏.‏

وحج بالناس أمير الكوفة برغش‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 شجاع شيخ الحنفية

ودفن عند المشهد، وكان شيخ الحنفية بمشهد أبي حنيفة، وكان جيد الكلام في النظر، أخذ عنه الحنفية‏.‏

 صدقة بن وزير الواعظ

دخل بغداد ووعظ بها وأظهر تقشفاً، وكان يميل إلى التشيع وعلم الكلام، ومع هذا كله راج عند العوام وبعض الأمراء، وحصل له فتوح كثير، ابتنى منه رباطاً ودفن فيه، سامحه الله تعالى‏.‏

 

 

 زمرد خاتون

بنت جاولي أخت الملك دقماق بن تتش لأمه، وهي بانية الخاتونية ظاهر دمشق عند قرية صنعاء بمكان يقال له‏:‏ تل الثعالب، غربي دمشق، على جانب الشرق القبلي بصنعاء الشام، وهي قرية معروفة قديماً، وأوقفتها على الشيخ برهان الدين علي بن محمد البلخي الحنفي المتقدم ذكره‏.‏

وكانت زوجة الملك بوري بن طغتكين، فولدت له ابنيه شمس الملوك إسماعيل المذكور، وقد ملك بعد أبيه وسار سيرته، ومالأ الفرنج على المسلمين وهم بتسليم البلد والأموال إليهم فقتلوه، وتملك أخوه وذلك بعد مراجعتها ومساعدتها، وقد كانت قرأت القرآن، وسمعت الحديث، وكانت حنفية المذهب تحب العلماء والصالحين، وقد تزوجها الأتابكي زنكي صاحب حلب طمعاً في أن يأخذ بسببها دمشق فلم يظفر بذلك، بل ذهبت إليه إلى حلب ثم عادت إلى دمشق بعد وفاته، وقد دخلت بغداد وسارت من هناك إلى الحجاز، وجاورت بمكة سنة، ثم جاءت فأقامت بالمدينة النبوية حتى ماتت بها ودفنت بالبقيع في هذه السنة، وقد كانت كثيرة البر والصدقات والصلاة والصوم‏.‏

قال السبط‏:‏ ولم تمت حتى قل ما بيدها، وكانت تغربل القمح والشعير وتتقوت بأجرته، وهذا من تمام الخير والسعادة وحسن الخاتمة، رحمها الله تعالى، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

فيها‏:‏ مات صاحب المغرب عبد المؤمن بن علي التومرتي، وخلفه في الملك من بعده ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صفة أنه مريض، فلما وصلها أظهر موته فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، ولقبوه أمير المؤمنين‏.‏

وقد كان عبد المؤمن هذا حازماً شجاعاً جواداً معظماً للشريعة، وكان من لا يحافظ على الصلوات في زمانه يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، ولكن كان سفاكاً للدماء حتى على الذنب الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء‏.‏

وفيها‏:‏ قتل سيف الدين محمد بن علاء الدين الغزي، قتله الغز، وكان عادلاً‏.‏

وفيها‏:‏ كبست الفرنج نور الدين وجيشه، فانهزم المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشبحة في رجله فنزل رجل كردي فقطعها، فسار نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج ذلك الكردي فقتلوه، رحمه الله، فأحسن نور الدين إلى ذريته، وكان لا ينسى ذلك له‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ أمر الخليفة بإجلاء بني أسد عن الحلة وقتل من تخلف منهم، وذلك لإفسادهم ومكاتبتهم السلطان محمد شاه، وتحريضهم له على حصار بغداد، فقتل من بني أسد أربعة آلاف، وخرج الباقون منها، وتسلم نواب الخليفة الحلة‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير‏.‏

 من الأعيان‏:‏

السلطان الكبير

 أبو محمد عبد المؤمن بن علي

القيسي الكوفي تلميذ ابن التومرت، كان أبوه يعمل في الطين فاعلاً، فحين وقع نظر ابن التومرت عليه أحبه وتفرس فيه أنه شجاع سعيد، فاستصحبه فعظم شأنه، والتفت عليه العساكر التي جمعها ابن التومرت من المصامدة وغيرهم، وحاربوا صاحب مراكش علي بن يوسف بن تاشفين، ملك الملثمين‏.‏

واستحوذ عبد المؤمن على وهران وتلمسان وفاس وسلا وسبتة، ثم حاصر مراكش أحد عشر شهراً فافتتحها في سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة، وتمهدت له الممالك هنالك، وصفا له الوقت وكان عاقلاً وقوراً شكلاً حسناً محباً للخير، توفي في هذه السنة ومكث في الملك ثلاثاً وثلاثين سنة، وكان يسمي نفسه أمير المؤمنين، رحمه الله‏.‏

 طلحة بن علي

ابن طراد، أبو أحمد الزينبي، نقيب النقباء، مات فجأة وولي النقابة بعده ولده أبو الحسن علي وكان أمرد فعزل وصودر في هذه السنة‏.‏

 محمد بن عبد الكريم

ابن إبراهيم، أبو عبد الله المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء ببغداد، كان شيخاً حسناً ظريفاً وانفرد بصناعة الإنشاء، وبعث رسولاً إلى الملك سنجر وغيره، وخدم الملوك والخلفاء، وقارب التسعين‏.‏

ومن شعره في محبي الدنيا والصور‏:‏

يا من هجرت ولا تبالي * هل ترجع دولة الوصال

هل أطمع يا عذاب قلبي * أن ينعم في هواك بالي

ما ضرك أن تعلليني * في الوصل بموعد المحال

أهواك وأنت حظ غيري * يا قاتلتي فما احتيالي

أيام عنائي قبل سود * ما أشبههن بالليالي

العذل فيك يعذلوني * عن حبك ما لهم ومالي

يا ملزمني السلو عنها * الصب أنا وأنت سالي

والقول بتركها صواب * ما أحسنه لو استوى لي

طلقت تجلدي ثلاثاً * والصبوة بعد في خيالي

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة

فيها‏:‏ قدم شاور بن مجير الدين أبو شجاع السعدي الملقب بأمير الجيوش، وهو إذ ذاك وزير الديار المصرية بعد آل رزيك، لما قتل الناصر رزيك بن طلائع، وقام في الوزارة بعده، واستفحل أمره فيها، ثار عليه أمير يقال له‏:‏ الضرغام بن سوار، وجمع له جموعاً كثيرة، واستظهر عليه وقتل ولديه طيباً وسليمان، وأسر الثالث وهو الكامل بن شاور فسجنه ولم يقتله، ليدٍ كانت لأبيه عنده، واستوزر ضرغام ولقب بالمنصور‏.‏

فخرج شاور من الديار المصرية هارباً من العاضد ومن ضرغام، ملتجئاً إلى نور الدين محمود، وهو نازل بجوسق الميدان الأخضر، فأحسن ضيافته وأنزله بالجوسق المذكور، وطلب شاور منه عسكراً ليكونوا معه ليفتح بهم الديار المصرية، وليكون لنور الدين ثلث مغلها، فأرسل معه جيشاً عليه أسد الدين شيركوه بن شادي، فلما دخلوا بلاد مصر خرج إليهم الجيش الذين بها فاقتتلوا أشد القتال، فهزمهم أسد الدين وقتل منهم خلقاً، وقتل ضرغام بن سوار وطيف برأسه في البلاد، واستقر أمر شاور في الوزارة، وتمهد حاله‏.‏

ثم اصطلح العاضد وشاور على أسد الدين، ورجع عما كان عاهد عليه نور الدين، وأمر أسد الدين بالرجوع فلم يقبل منه، وعاث في البلاد، وأخذ أموالاً كثيرة، وافتتح بلداناً كثيرة من الشرقية وغيرها، فاستغاث شاور عليهم بملك الفرنج الذي بعسقلان، واسمه مري، فأقبل في خلق كثير فتحول أسد الدين إلى بلبيس وقد حصنها وشحنها بالعدد والآلات وغير ذلك‏.‏

فحصروه فيها ثمانية أشهر، وامتنع أسد الدين وأصحابه أشد الامتناع، فبينما هم على ذلك إذ جاءت الأخبار بأن الملك نور الدين قد اغتنم غيبة الفرنج فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وفتح حارم وقتل من الفرنج بها خلقاً، وسار إلى بانياس فضعف صاحب عسقلان الفرنجي، وطلبوا من أسد الدين الصلح فأجابهم إلى ذلك، وقبض من شاور ستين ألف دينار، وخرج أسد الدين وجيشه فساروا إلى الشام في ذي الحجة‏.‏

 وقعة حارم

فتحت في رمضان من هذه السنة، وذلك أن نور الدين استغاث بعساكر المسلمين فجاؤوه من كل فج ليأخذ ثأره من الفرنج، فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب إنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسلين، وقتل منهم عشرة آلاف، وقيل‏:‏ عشرين ألفاً‏.‏

وفي ذي الحجة منها فتح نور الدين مدينة بانياس، وقيل‏:‏ إنه إنما فتحها في سنة ستين، فالله أعلم‏.‏

وكان معه أخوه نصر الدين أمير أميران، فأصابه سهم في إحدى عينيه فأذهبها، فقال له الملك نور الدين‏:‏ لو نظرت لما أعد الله لك من الأجر في الآخرة لأحببت أن تذهب الأخرى‏.‏

وقال لابن معين الدين‏:‏ إنه اليوم بردت جلدة والدك من نار جهنم، لأنه كان سلمها للفرنج، فصالحه عن دمشق‏.‏

وفي شهر ذي الحجة احترق قصر جيرون حريقاً عظيماً، فحضر في تلك الليلة الأمراء منهم أسد الدين شيركوه، بعد رجوعه من مصر، وسعى سعياً عظيماً في إطفاء هذه النار وصون حوزة الجامع منها‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 جمال الدين

وزير صاحب الموصل، قطب الدين مودود بن زنكي، كان كثير المعروف، واسمه محمد بن علي بن أبي منصور، أبو جعفر الأصبهاني، الملقب بالجمال، كان كثير الصدقة والبر، وقد أثر آثاراً حسنة بمكة والمدينة، من ذلك‏:‏ أنه ساق عيناً إلى عرفات، وعمل هناك مصانع، وبنى مسجد الخيف ودرجه، وعملها بالرخام، وبنى على المدينة النبوية سوراً، وبنى جسراً على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت، والحديد والرصاص، وبنى الربط الكثيرة‏.‏

وكان يتصدق في كل يوم في بابه بمائة دينار، ويفتدي من الأسارى في كل سنة بعشرة آلاف دينار، وكان لا تزال صدقاته وافدة إلى الفقهاء والفقراء، حيث كانوا من بغداد وغيرها من البلاد، وقد حبس في سنة ثمان وخمسين، فذكر ابن الساعي في تاريخه عن شخص كان معه في السجن‏:‏ أنه نزل إليه طائر أبيض قبل موته فلم يزل عنده وهو يذكر الله حتى توفي في شعبان من هذه السنة، ثم طار عنه ودفن في رباط بناه لنفسه بالموصل‏.‏

وقد كان بينه وبين أسد الدين شيركوه بن شادي مواخاة وعهد أيهما مات قبل الآخر أن يحمله إلى المدينة النبوية، فحمل إليها من الموصل على أعناق الرجال، فما مروا به على بلدة إلا صلوا عليه وترحموا عليه، وأثنوا خيراً، فصلوا عليه بالموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وفيد ومكة وطيف به حول الكعبة، ثم حمل إلى المدينة النبوية فدفن بها في رباط بناه شرقي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن الجوزي وابن الساعي‏:‏ ليس بينه وبين حرم النبي صلى الله عليه وسلم وقبره سوى خمسة عشر ذراعاً‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ ولما صلي عليه بالحلة صعد شاب نشزاً فأنشد‏:‏

سرى نعشه على الرقاب وطالما * سرى جوده فوق الركاب ونائلهُ

يمر على الوادي فتثني رماله * عليه وبالنادي فتثني أرامله

وممن توفي بعد الخمسين‏:‏

 ابن الخازن الكاتب

أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق أبو الفضل المعروف بابن الخازن الكاتب البغدادي الشاعر‏.‏

كان يكتب جيداً فائقاً، اعتنى بكتابة الختمات، وأكثر ابنه نصر الله من كتابة المقامات، وجمع لابنه ديوان شعر أورد منه ابن خلكان قطعة كبيرة‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة

في صفر منها وقعت بأصبهان فتنة عظيمة بين الفقهاء بسبب المذاهب دامت أياماً، وقتل فيها خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ كان حريق عظيم ببغداد فاحترقت محال كثيرة جداً‏.‏

وذكر ابن الجوزي‏:‏ أن في هذه السنة ولدت امرأة ببغداد أربع بنات في بطن واحد‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عمر بن بهليقا

الطحان الذي جدد جامع العقيبة ببغداد، واستأذن الخليفة في إقامة الجمعة فيه، فأذن له في ذلك، وكان قد اشترى ما حوله من القبور فأضاف ذلك إليه، ونبش الموتى منها، فقيض الله له من نبشه من قبره بعد دفنه، جزاء وفاقاً‏.‏

 محمد بن عبد الله بن العباس بن عبد الحميد

أبو عبد الله الحراني، كان آخر من بقي من الشهود المقبولين عند أبي الحسن الدامغاني، وقد سمع الحديث، وكان لطيفاً ظريفاً، جمع كتاباً سماه ‏(‏روضة الأدباء‏)‏ فيها نتف حسنة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ زرته يوماً فأطلت الجلوس عنده فقلت‏:‏ أقوم فقد ثقلت، فأنشدني‏:‏

لئن سمئت إبراماً وثقلاً * زيارات رفعت بهن قدري

فما أبرمت إلا حبل ودي * ولا ثقلت إلا ظهر شكري

 مرجان الخادم

كان يقرأ القراءات، وتفقه لمذهب الشافعي، وكان يتعصب على الحنابلة ويكرههم، ويعادي الوزير ابن هبيرة وابن الجوزي معاداة شديدة، ويقول لابن الجوزي‏:‏ مقصودي قلع مذهبكم، وقطع ذكركم‏.‏

ولما توفي ابن هبيرة في هذه السنة قوي على بن الجوزي وخافه ابن الجوزي، فلما توفي في هذه السنة فرح ابن الجوزي فرحاً شديداً، توفي في ذي القعدة منها‏.‏

 

 

 ابن التلميذ

الطبيب الحاذق الماهر، اسمه هبة الله بن صاعد، توفي عن خمس وتسعين سنة، وكان موسعاً عليه في الدنيا، وله عند الناس وجاهة كبيرة، وقد توفي قبحه الله على دينه، ودفن بالبيعة العتيقة، لا رحمه الله إن كان مات نصرانياً، فإنه كان يزعم أنه مسلم، ثم مات على دينه‏.‏

 الوزير ابن هبيرة

يحيى بن محمد بن هبيرة، أبو المظفر الوزير للخلافة عون الدين، مصنف كتاب ‏(‏الإفصاح‏)‏، وقد قرأ القرآن وسمع الحديث، وكانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة والعروض، وتفقه على مذهب الإمام أحمد، وصنف كتباً جيدة مفيدة من ذلك ‏(‏الإفصاح‏)‏ في مجلدات، شرح فيه الحديث، وتكلم على مذاهب العلماء، وكان على مذهب السلف في الاعتقاد‏.‏

وقد كان فقيراً لا مال له، ثم تعرض للخدمة إلى أن وزر للمقتفي ثم لابنه المستنجد، وكان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة، وأبعدهم عن الظلم، وكان لا يلبس الحرير، وكان المقتفي يقول‏:‏ ما وزر لبني العباس مثله‏.‏

وكذلك ابنه المستنجد، وكان المستنجد معجباً به‏.‏

قال مرجان الخادم‏:‏ سمعت أمير المؤمنين المستنجد ينشد لابن هبيرة وهو بين يديه من شعره‏:‏

صفت نعمتان خصتاك وعمتا * فذكرهما حتى القيامة يذكر

وجودك والدنيا إليك فقيرة * وجودك والمعروف في الناس ينكر

فلوا رام يا يحيى مكانك جعفر * ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر

ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا * المظفر إلا كنت أنت المظفر

وقد كان يبالغ في إقامة الدولة العباسية، وحسم مادة الملوك السلجوقية عنهم بكل ممكن، حتى استقرت الخلافة في العراق كله؛ ليس للملوك معهم حكم بالكلية ولله الحمد‏.‏

وكان يعقد في داره للعلماء مجلساً للمناظرة يبحثون فيه ويناظرون عنده، يستفيد منهم ويستفيدون منه، فاتفق يوماً أنه كلم رجلاً من الفقهاء كلمة فيها بشاعة قال له‏:‏ يا حمار، ثم ندم فقال‏:‏ أريد أن تقول لي كما قلت لك‏.‏

فامتنع ذلك الرجل، فصالحه على مائتي دينار‏.‏

مات فجأة، ويقال‏:‏ إنه سمه طبيب فسم ذلك الطبيب بعد ستة أشهر، وكان الطبيب يقول‏:‏ سممته فسممت‏.‏

مات يوم الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، عن إحدى وستين سنة، وغسله ابن الجوزي، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير جداً، وغلقت الأسواق، وتباكى الناس عليه، ودفن بالمدرسة التي أنشأها بباب البصرة رحمه الله‏.‏

وقد رثاه الشعراء بمراثٍ كثيرة

ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة من الشام وقتل عنده خلق كثير من الفرنج، وغنم أموالاً جزيلة‏.‏

وفيها‏:‏ هرب عز الدين بن الوزير ابن هبيرة من السجن، ومعه مملوك تركي، فنودي عليه في البلد من رده فله مائة دينار، ومن وجد عنده هدمت داره وصلب على بابها، وذبحت أولاده بين يديه، فدلهم رجل من الأعراب عليه فأخذ من بستان فضرب ضرباً شديداً وأعيد إلى السجن وضيق عليه‏.‏

وفيها‏:‏ أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا يتمكنون منها في هذه الأعصار المتقدمة، خوفاً من ابن هبيرة، ووقع بين العوام كلام فيما يتعلق بخلق القرآن‏.‏

وحج بالناس برغش‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسن بن العباس

ابن أبي الطيب بن رستم أبو عبد الله الأصبهاني، كان من كبار الصالحين البكائين، قال‏:‏ حضرت يوماً مجلس ما شاده وهو يتكلم على الناس فرأيت رب العزة في هذه الليلة وهو يقول لي‏:‏ وقفت على مبتدع وسمعت كلامه‏؟‏ لأحرمنك النظر في الدنيا‏.‏

فأصبح لا يبصر وعيناه مفتوحتان كأنه بصير‏.‏

 عبد العزيز بن الحسن

ابن الحباب الأغلبي السعدي القاضي، أبو المعالي البصري، المعروف بابن الجليس، لأنه كان يجالس صاحب مصر، وقد ذكره العماد في الخريدة، وقال‏:‏ كان له فضل مشهور وشعر مأثور فمن ذلك قوله‏:‏

ومن عجب أن السيوف لديهم * تحيض دماء والسيوف ذكور

وأعجب من ذا أنها في أكفهم * تأجج ناراً والأكف بحور

 الشيخ عبد القادر الجيلي

ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي، ولد سنة سبعين وأربعمائة، ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنى مدرسة ففوضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلم على الناس بها، ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعاً كثيراً‏.‏

وكان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنف كتاب ‏(‏الغنية‏)‏ و‏(‏فتوح الغيب‏)‏ وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ أقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصرفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين في العود إليها، وكان كثير الحنق على الوزير شاور، فأذن له فسار إليها في ربيع الآخر ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد وقع في النفوس أنه سيملك الديار المصرية، وفي ذلك يقول عرقلة المسمى بحسان الشاعر‏:‏

أقول والأتراك قد أزمعت * مصر إلى حرب الأعاريب

رب كما ملكها يوسف الصـ* ـدّيق من أولاد يعقوب فملكها في عصرنا يوسف الصـ* ـادق من أولاد أيوب

من لم يزل ضرّاب هام العدا * حقاً وضراب العراقيب

ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤوا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم، وإنما معه ألفا فارس، فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين، لكثيرة الفرنج، إلا أميراً واحداً يقال له‏:‏ شرف الدين برغش، فإنه قال‏:‏ من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم إلى العدو‏.‏

وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا هم وإياهم قتالاً عظيماً، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا منهم خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولله الحمد‏.‏

 فتح الإسكندرية على يدي أسد الدين شيركوه

ثم أشار أسد الدين بالمسير إلى الإسكندرية فملكها وجبى أموالها، واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف وعاد إلى الصعيد فملكه، وجمع منه أموالاً جزيلة جداً، ثم إن الفرنج والمصريين اجتمعوا على حصار الإسكندرية ثلاثة أشهر لينتزعوها من يد صلاح الدين، وذلك في غيبة عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الأقوات وضاق عليهم الحال جداً، فسار إليهم أسد الدين فصالحه شاور الوزير عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك، وخرج صلاح الدين منها وسلمها إلى المصريين، وعاد إلى الشام في منتصف شوال‏.‏

وقرر شاور للفرنج على مصر في كل سنة مائة ألف دينار، وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة، وعادوا إلى بلادهم بعد أن كان الملك نور الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم حصوناً كثيرة، وقتل منهم خلقاً من الرجال، وأسر جماً غفيراً من النساء والأطفال، وغنم شيئاً كثيراً من الأمتعة والأموال، ولله الحمد‏.‏

وكان معه أخوه قطب الدين مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها‏.‏

وفيها‏:‏ في شعبان منها كان قدوم العماد الكاتب من بغداد إلى دمشق، وهو أبو حامد محمد بن محمد الأصبهاني، صاحب ‏(‏الفتح القدسي‏)‏، و‏(‏البرق الشامي‏)‏، و‏(‏الخريدة‏)‏، وغير ذلك من المصنفات‏.‏

فأنزله قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية داخل باب الفرج، فنسبت إليه لسكناه بها، فيقال لها‏:‏ العمادية، ثم ولي تدريسها في سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه ابن عبد، و أول من جاء للسلام عليه نجم الدين أيوب كانت له وبه معرفة من تكريت، فامتدحه العماد بقصيدة ذكرها أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بمصر فبشره فيها بولاية صلاح الدين الديار المصرية حيث يقول‏:‏

ويستقر بمصر يوسف، وبه * تقر بعد التنائي عين يعقوب

ويتلقى يوسف فيها بإخوته * والله يجمعهم من غير تثريب

ثم تولى عماد الدين كتابة الإنشاء للملك نور الدين محمود‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 برغش أمير الحاج سنين متعددة

كان مقدماً على العساكر، خرج من بغداد لقتال شملة التركماني فسقط عن فرسه فمات‏.‏

 أبو المعالي الكاتب

محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، صاحب ‏(‏التذكرة الحمدونية‏)‏، وقد ولي ديوان الزمام مدة، توفي في ذي القعدة ودفن بمقابر قريش‏.‏

 الرشيد الصدفي

كان يجلس بين يدي العبادي على الكرسي، كانت له شيبة وسمت ووقار، وكان يدمن حضور السماعات، ويرقص، فاتفق أنه مات وهو يرقص في بعض السماعات‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة

في صفر منها وصل شرف الدين أبو جعفر ابن البلدي من واسط إلى بغداد، فخرج الجيش لتلقيه والنقيبان والقاضي، ومشى الناس بين يديه إلى الديوان فجلس في دست الوزارة، وقرئ عهده ولقب بالوزير شرف الدين جلال الإسلام معز دولة سيد الوزراء صدر الشرق والغرب‏.‏

وفيها‏:‏ أفسدت خفاجة في البلاد ونهبوا القرى، فخرج إليهم جيش من بغداد فهربوا في البراري فانحسر الجيش عنهم خوفاً من العطش، فكروا على الجيش فقتلوا منهم خلقاً وأسروا آخرين، وكان قد أسر الجيش منهم خلقاً فصلبوا على الأسوار‏.‏

وفي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود بن زنكي إلى بغداد تريد الحج من هناك، وهي الست عصمت الدين خاتون بنت معين الدين، ومعها الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الإمامات وأكرمت غاية الإكرام‏.‏

وفيها‏:‏ مات قاضي قضاة بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثاً وعشرين يوماً، حتى ألزموا روح بن الحدثني قاضي القضاة في رابع رجب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 جعفر بن عبد الواحد

أبو البركات الثقفي، قاضي قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وسبب وفاته أنه طلب منه مال وكلمه الوزير ابن البلدي كلاماً خشناً فخاف فرمي الدم ومات‏.‏

 أبو سعد السمعاني

عبد الكريم بن محمد بن منصور، أبو سعد السمعاني، رحل إلى بغداد فسمع بها وذيّل على تاريخها للخطيب البغدادي، وقد ناقشه ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏، وذكر عنه أنه كان يتعصب على أهل مذهبه، ويطعن في جماعة منهم، وأنه يترجم بعبارة عامية، مثل قوله عن بعض الشيخات‏:‏ إنها كانت عفيفة‏.‏

وعن الشاعر المشهور بحيص بيص إنه كانت له أخت يقال لها‏:‏ دخل خرج، وغير ذلك‏.‏

 عبد القاهر بن محمد

ابن عبد الله أبو النجيب السهروردي، كان يذكر أنه من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سمع الحديث وتفقه وأفتى ودرس بالنظامية وابتنى لنفسه مدرسة ورباطاً، وكان مع ذلك متصوفاً يعظ الناس، ودفن بمدرسته‏.‏ ‏

 محمد بن عبد الحميد

ابن أبي الحسين أبو الفتح الرازي، المعروف بالعلاء العالم، وهو من أهل سمرقند، وكان من الفحول في المناظرة، وله طريقة في الخلاف والجدل، يقال لها‏:‏ التعليقة العالمية‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد قدم بغداد وحضر مجلسي‏.‏

وقال أبو سعد السمعاني‏:‏ كان يدمن شرب الخمر‏.‏

قال‏:‏ وكان يقول ليس في الدنيا أطيب من كتاب المناظرة وباطية من خمر أشرب منها‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ثم بلغني عنه أنه أقلع عن شرب الخمر والمناظرة وأقبل على النسك والخير‏.‏

 يوسف بن عبد الله

ابن بندار الدمشقي مدرس النظامية ببغداد، تفقه على أسعد الميهني، وبرع في المناظرة، وكان يتعصب للأشعرية، وقد بعث رسولاً في هذه السنة إلى شملة التركماني فمات في تلك البلاد‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ كان فتح مصر على يدي الأمير أسد الدين شيركوه‏.‏

وفيها‏:‏ طغت الفرنج بالديار المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجاً أفواجاً، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمون، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع الفرنج بذلك جاؤوا إليها من كل فج وناحية صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقاً وأسروا آخرين، ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلاً ومعقلاً لهم‏.‏

ثم ساروا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا البلد وذهب للناس أموال كثيرة جداً وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوماً، فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه يقول‏:‏ أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج‏.‏

والتزم له بثلث خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيماً بها عندهم، والتزم له بإقطاعات زائدة على الثلث، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر، فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الفرنج يقول‏:‏ قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد، وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار‏.‏

فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفاً من عساكر نور الدين، وطمعاً في العودة إليها مرة ثانية ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏

ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله، وضيق على الناس مع ما نالهم من الضيق والحريق والخوف، فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم‏.‏

وذلك أن نور الدين استدعى الأمير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى وسلم الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئاً من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، و يقال‏:‏ إن هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وأنعم عليه بمائتي ألف دينار وأضاف إليه من الأمراء الأعيان، كل منهم يبتغي بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله، وكان من جملة الأمراء ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يكن منشرحاً لخروجه هذا بل كان كارهاً

له، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏ وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، وجعل أسد الدين مقدماً على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام نور الدين بدمشق‏.‏

ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة، وكان وصوله إليها في سابع ربيع الآخر، فدخل الأمير أسد الدين على العاضد في ذلك اليوم فخلع عليه خلعة سنية فلبسها وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد، وفرح المسلمون بقدومه، وأجريت عليهم الجرايات، وحملت إليهم التحف والكرامات، وخرج وجوه الناس إلى المخيم خدمة لأسد الدين‏.‏

وكان فيمن جاء إليه المخيم الخليفة العاضد متنكراً، فأسر إليه أموراً مهمة منها قتل الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الأمير أسد الدين، ولكن شرع يماطل بما كان التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أسد الدين، ويركب معه، وعزم على عمل ضيافة له فنهاه أصحابه عن الحضور خوفاً عليه من غائلته، وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الأمير أسد الدين من ذلك‏.‏

فلما كان في بعض الأيام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب لزيارة قبر الشافعي، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين وانهزم أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه، فأرسل العاضد إلى الأمير أسد الدين يطلب منه رأسه، فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر ربيع الآخر، ففرح المسلمون بذلك‏.‏

وأمر أسد الدين بنهب دار شاور فنهبت، ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة، ولقبه الملك المنصور، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك‏.‏

ولما بلغ نور الدين خبر فتح مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة، غير أنه لم ينشرح لكون أسد الدين صار وزيراً للعاضد، وكذلك لما انتهت الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين، فشرع نور الدين في إعمال الحيلة في إزالة ذلك فلم يتمكن، ولا قدر عليه، ولا سيما أنه بلغه أن صلاح الدين استحوذ على خزائن العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/319‏)‏

وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتباً فأرسلوا إليه القاضي الفاضل رجاء أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون، وبعث أسد الدين العمال في الأعمال وأقطع الإقطاعات، وولى الولايات، وفرح بنفسه أياماً معدودات، فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، فلما توفي أسد الدين رحمه الله، أشار الأمراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد عمه، فولاه العاضد الوزارة وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه الملك الناصر‏.‏

 صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين

مما ذكره أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏ عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب، وثوب ديبقي بطراز ذهب، وجبة بطراز ذهب، وطيلسان بطراز مذهبة، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار، وسيف محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب، وسرفسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قصبة ذهب فيها تندة بيضاء بأعلام بيض، ومع الخلعة عدة بقج، وخيل وأشياء أخر، ومنشور الوزارة ملفوف بثوب أطلس أبيض، وذلك في يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وسار الجيش بكماله في خدمته، لم يتخلف عنه سوى عين الدولة الياروقي، وقال‏:‏ لا أخدم يوسف بعد نور الدين‏.‏

ثم سار بجيشه إلى الشام فلامه نور الدين على ذلك، وأقام الملك صلاح الدين بمصر بصفة نائب للملك نور الدين، يخطب له على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه بالأمير الإسفهسلار صلاح الدين ويتواضع له صلاح الدين في الكتب والعلامة، لكن قد التفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد، وارتفع قدر صلاح الدين بين العباد بتلك البلاد، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه واحترموه وخدموه‏.‏

وكتب إليه نور الدين يعنفه على قبول الوزارة بدون مرسومه، وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية، فلم يلتفت صلاح الدين إلى ذلك وجعل نور الدين يقول في غضون ذلك‏:‏ ملك ابن أيوب‏.‏

وأرسل صلاح الدين إلى نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته، فأرسلهم إليه وشرط عليهم السمع والطاعة له، فاستقر أمره بمصر وتوطأت دولته بذلك، وكمل أمره وتمكن سلطانه وقويت أركانه‏.‏

وقد قال بعض الشعراء في قتل صلاح الدين لشاور الوزير‏:‏

هيا لمصر حور يوسف ملكها * بأمر من الرحمن كان موقوتا

وما كان فيها قتل يوسف شاورا * يماثل إلا قتل داود جالوتا

قال أبو شامة‏:‏ وقتل العاضد في هذه السنة أولاد شاور وهم شجاع الملقب بالكامل، والطاري الملقب بالمعظم، وأخوهما الآخر الملقب بفارس المسلمين، وطيف برؤوسهم ببلاد مصر‏.‏

 ذكر قتل الطواشي

مؤتمن الخلافة وأصحابه على يدي صلاح الدين، وذلك أنه كتب من دار الخلافة بمصر إلى الفرنج ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية، وكان الذي يفد بالكتاب إليهم الطواشي مؤتمن الخلافة، مقدم العساكر بالقصر، وكان حبشياً وأرسل الكتاب مع إنسان أمن إليه فصادفه في بعض الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى الملك صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب ففهم صلاح الدين الحال فكتمه‏.‏

واستشعر الطواشي مؤتمن الدولة أن صلاح الدين قد اطلع على الأمر فلازم القصر مدة طويلة خوفاً على نفسه، ثم عنّ له في بعض الأيام أن خرج إلى الصيد، فأرسل صلاح الدين إليه من قبض عليه وقتله وحمل رأسه إليه، ثم عزل جميع الخدام الذين يلون خدمة القصر، واستناب على القصر عوضهم بهاء الدين قراقوش، وأمره أن يطالعه بجميع الأمور، صغارها وكبارها‏.‏

 وقعة السودان

وذلك أنه لما قتل الطواشي مؤتمن الخلافة الحبشي، وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك، واجتمعوا قريباً من خمسين ألفاً، فاقتتلوا هم وجيش صلاح الدين بين القصرين، فقتل خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قذف الجيش الشامي من القصر بحجارة، وجاءهم منه سهام فقيل‏:‏ كان ذلك بأمر العاضد، وقيل‏:‏ لم يكن بأمره‏.‏

ثم إن أخا الناصر نورشاه شمس الدولة - وكان حاضراً للحرب قد بعثه نور الدين لأخيه ليشد أزره - أمر بإحراق منظرة العاضد، ففتح الباب ونودي‏:‏ إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين أظهركم ومن بلادكم‏.‏

فقوي الشاميون وضعف جأش السودان جداً، وأرسل السلطان إلى محلة السودان المعروفة بالمنصورة، التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة فأحرقها، فولوا عند ذلك مدبرين، وركبهم السيف فقتل منهم خلقاً كثيراً، ثم طلبوا الأمان فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج لهم شمس الدولة نورشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم أيضاً، ولم يبق منهم إلا القليل، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح نور الدين قلعة جعبر وانتزعها من يد صاحبها شهاب الدين مالك بن علي العقيلي، وكانت في أيديهم من أيام السلطان ملكشاه‏.‏

وفيها‏:‏ احترق جامع حلب فجدده نور الدين‏.‏

وفيها‏:‏ مات ماروق الذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 سعد الله بن نصر بن سعيد الدجاجي

أبو الحسن الواعظ الحنبلي، ولد سنة ثمانين وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان لطيف الوعظ، وقد أثنى عليه ابن الجوزي في ذلك، وذكر أنه سئل مرة عن أحاديث الصفات فنهى عن التعرض لذلك وأنشد‏:‏

أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضى * وأنت الذي صيرت طاعته فرضا

فلا تهجري من لا تطيقين هجره * وإن هم بالهجران خديك والأرضا

وذكر ابن الجوزي عنه أنه قال‏:‏ خفت مرة من الخليفة فهتف بي هاتف في المنام وقال لي‏:‏ اكتب‏:‏

ادفع بصبرك حادث الأيام * وترج لطف الواحد العلام

لا تيأسن وإن تضايق كربها * ورماك ريب صروفها بسهام

فله تعالى بين ذلك فرجة * تخفى على الأفهام والأوهام

كم من نجا من بين أطراف القنا * وفريسة سلمت من الضرغام

توفي في شعبان منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن عند رباط الزوري، ثم نقل إلى مقبرة الإمام أحمد‏.‏

 شاور بن مجير الدين

أبو شجاع السعدي، الملقب أمير الجيوش، وزير الديار المصرية أيام العاضد، وهو الذي انتزع الوزارة من يدي رزيك، وهو أول من استكتب القاضي الفاضل، استدعى به من إسكندرية من باب السدرة فحظي عنده وانحصر منه الكتاب بالقصر، لما رأوا من فضله وفضيلته‏.‏ ‏

وقد امتدحه الشعراء منهم عمارة اليمني حيث يقول‏:‏

ضجر الحديد من الحديد وشاور * من نصر دين محمد لم يضجر

حلف الزمان ليأتين بمثله * حنثت بيمينك يا زمان فكفر

ولم يزل أمره قائماً إلى أن ثار عليه الأمير ضرغام بن سوار فالتجأ إلى نور الدين فأرسل معه الأمير أسد الدين شيركوه، فنصروه على عدوه، فنكث عهده فلم يزل أسد الدين حنقاً عليه حتى قتله في هذه السنة، على يدي ابن أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الأمير جردنك في السابع عشر من ربيع الآخر، واستوزر بعده أسد الدين، فلم تطل مدته بعده إلا شهرين وخمسة أيام‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ هو أبو شجاع شاور بن مجير الدين بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بن أبي ذؤيب عبد الله وهو والد حليمة السعدية، كذا قال، وفيما قال نظر لقصر هذا النسب لبعد المدة، والله أعلم‏.‏

 شيركوه بن شادي

أسد الدين الكردي الزرزاري وهم أشرف شعوب الأكراد، وهو من قرية يقال لها‏:‏ درين من أعمال أذربيجان، خدم هو وأخوه نجم الدين أيوب - وكان الأكبر - الأمير مجاهد الدين نهروز الخادم شحنة العراق، فاستناب نجم الدين أيوب على قلعة تكريت، فاتفق أن دخلها عماد الدين زنكي هارباً من قراجا الساقي، فأحسنا إليه وخدماه‏.‏

ثم اتفق أنه قتل رجلاً من العامة فأخرجهما نهروز من القلعة، فصارا إلى زنكي بحلب فأحسن إليهما، ثم حظيا عند ولده نور الدين محمود، فاستناب أيوب على بعلبك، وأقره ولده نور الدين، وصار أسد الدين عند نور الدين أكبر أمرائه، وأخصهم عنده، وأقطعه الرحبة وحمص مع ماله عنده من الإقطاعات، وذلك لشهامته وشجاعته وصرامته وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات ووقعات معتبرات، ولا سيما يوم فتح دمشق، وأعجب من ذلك ما فعله بديار مصر، بل الله بالرحمة ثراه وجعل الجنة مأواه، وكانت وفاته يوم السبت فجأة بخانوق حصل له، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، رحمه الله‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وإليه تنسب الخانقاة الأسدية بالشرق القبلي‏.‏

ثم آل الأمر من بعده إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف، ثم استوسق له الملك والممالك هنالك‏.‏ ‏‏

 محمد بن عبد الله بن عبد الواحد

ابن سليمان المعروف بابن البطي، سمع الحديث الكثير، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين‏.‏

محمد الفارقي

أبو عبد الله الواعظ، يقال‏:‏ إنه كان يحفظ ‏(‏نهج البلاغة‏)‏ ويعبر ألفاظه، وكان فصيحاً بليغاً يكتب كلامه ويروي عنه كتاب يعرف بـ‏(‏الحكم الفارقية‏)‏‏.‏

 المعمر بن عبد الواحد

ابن رجار أبو أحمد الأصبهاني، أحد الحفاظ الوعاظ، روى عن أصحاب أبي نعيم، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، توفي وهو ذاهب إلى الحج بالبادية، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

في صفر منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوماً، بحيث ضيقوا على أهلها، وقتلوا أمماً كثيرة، جاؤوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية وخوفاً من استيلاء المسلمين على القدس، فكتب صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده عليهم، ويطلب منه أن يرسل إليه بأمداد من الجيوش، فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء، وإن قعد عن الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلاً لهم يتقوون بها على أخذ مصر‏.‏

فأرسل إليه نور الدين ببعوث كثيرة، يتبع بعضها بعضاً‏.‏

ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة، فجلس خلال ديارهم، وغنم من أموالهم وقتل وسبى شيئاً كثيراً، وكان من جملة من أرسله إلى صلاح الدين أبوه الأمير نجم الدين أيوب، في جيش من تلك الجيوش، ومعه بقية أولاده، فتلقاه الجيش من مصر، وخرج العاضد لتلقيه إكراماً لولده، وأقطعه إسكندرية ودمياط وكذلك لبقية أولاده‏.‏

وقد أمد العاضد صلاح الدين في هذه الكائنة بألف ألف دينار حتى انفصلت الفرنج عن دمياط، وأجلت الفرنج عند مياط لأنه بلغهم أن نور الدين قد غزا بلادهم، وقتل خلقاً من رجالهم، وسبى كثيراً من نسائهم وأطفالهم، وغنم من أموالهم، فجزاه الله عن المسلمين خيراً‏.‏ ‏

ثم سار نور الدين في جمادى الآخرة إلى الكرخ ليحاصرها - وكانت من أمنع البلاد - وكاد أن يفتحها ولكن بلغه أن مقدمين من الفرنج قد أقبلا نحو دمشق، فخاف أن يلتف عليهما الفرنج فترك الحصار وأقبل نحو دمشق فحصنها، ولما انجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين فرحاً شديداً، وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيداً، وقد كان الملك نور الدين شديد الاهتمام قوي الاغتمام بذلك، حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءاً في ذلك فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يبتسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال‏:‏ إني لأستحي من الله أن يراني مبتسماً والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط‏.‏

وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ سلم على نور الدين وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله بأي علامة ‏؟‏

فقال‏:‏ بعلامة ما سجد يوم تل حارم وقال في سجوده‏:‏ اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب ‏؟‏‏.‏

فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأخبره بالعلامة، فلما جاء إلى عند ذكر من هو محمود الكلب انقبض من قول ذلك، فقال له نور الدين‏:‏ قل ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال ذلك‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

وبكى نور الدين تصديقاً وفرحاً بذلك، ثم كشفوا فإذا الأمر كما أخبر في المنام‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ وفي هذه السنة عمر الملك نور الدين جامع داريا، وعمر مشهد أبي سليمان الداراني بها، وشتى بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر الكرك أربعة أيام، وفارقه من هناك نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، متوجهاً إلى ابنه بمصر، وقد وصاه نور الدين أن يأمر ابنه صلاح الدين أن يخطب بمصر للخليفة المستنجد بالله العباسي، وذلك أن الخليفة بعث يعاتبه في ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الفرنج من السواحل ليمنعوا الكرك مع ثبيب بن الرقيق وابن القنقري، وكانا أشجع فرسان الفرنج، فقصدهما نور الدين ليقابلهما، فحادا عن طريقه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وعمت أكثر الأرض، وتهدمت أسوار كثيرة بالشام، وسقطت دور كثيرة على أهلها، ولا سيما بدمشق وحمص وحماه وحلب وبعلبك، سقطت أسوارها وأكثر قلعتها، فجدد نور الدين عمارة أكثر ما وقع بهذه الأماكن‏.‏

و فيها توفي‏:‏ ‏

 الملك قطب الدين مودود بن زنكي

أخو نور الدين محمود صاحب الموصل، وله من العمر أربعون سنة، ومدة ملكه منها إحدى وعشرون سنة، وكان من خيار الملوك محبباً إلى الرعية، عطوفاً عليهم، محسناً إليهم، حسن الشكل‏.‏

وتملك من بعده ولده سيف الدين غازي من الست خاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق أصحاب ماردين، وكان مدبر مملكته والمتحكم فيها فخر الدين عبد المسيح، وكان ظالماً غاشماً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين ملوك الغرب بجزيرة الأندلس، وكذلك كانت حروب كثيرة بين ملوك الشرق أيضاً‏.‏

وحج بالناس فيها وفيما قبلها الأمير برغش الكبير، ولم أر أحداً من أكابر الأعيان توفي فيها‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة المستنجد وخلافة ابنه المستضيء، وذلك أن المستنجد كان قد مرض في أول هذه السنة، ثم عوفي فيما يبدو للناس فعمل ضيافة عظيمة بسبب ذلك، وفرح الناس بذلك، ثم أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، ويقال‏:‏ إن ذلك كان بإشارة بعض الدولة على الطبيب، استعجالاً لموته‏.‏

توفي يوم السبت بعد الظهر ثاني ربيع الآخر عن ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وشهراً، وكان من خيار الخلفاء وأعدلهم وأرفقهم بالرعايا، ومنع عنهم المكوس والضرائب، ولم يترك بالعراق مكساً، وقد شفع إليه بعض أصحابه في رجل شرير، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له الخليفة‏:‏ أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وائتني بمثله لأريح المسلمين من شره‏.‏

وكان المستنجد أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثين من العباسيين وذلك في الجمل لام باء، ولهذا قال فيه بعض الأدباء‏:‏

أصبحت لب بني العباس جملتها * إذا عددت حساب الجمل الخلفا

وكان أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر، وقد رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له‏:‏ قل اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، دعاء القنوت بتمامه‏.‏

وصلي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة، رحمه الله تعالى‏.‏

 خلافة المستضيء

وهو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي، وأمه أرمنية تدعى عصمت، وكان مولده في شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة‏.‏

بويع بالخلافة يوم مات أبوه بكرة الأحد تاسع ربيع الآخر، وبايعه الناس ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي غير هذا، ووافقه في الكنية أيضاً، وخلع يومئذ على الناس أكثر من ألف خلعة، وكان يوماً مشهوداً، وولي قضاء قضاة بغداد الروح بن الحدثني يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الأستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه الدبابات ثلاثة أوقات الفجر والمغرب والعشاء، وأمر سبعة عشر أميراً من المماليك وأذن للوعاظ فتكلموا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجاجه، ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل، قال العماد الكاتب‏:‏

قد أضاء الزمان بالمستضيء * وارث البرد وابن عم النبي

جاء بالحق والشريعة والعد * ل فيا مرحباً بهذا المحيي

فهنيئاً لأهل بغداد فازوا * بعد بؤس بكل عيش هني

ومضى إن كان في الزمن المظـ * ـلم بالعود في الزمان المضي

وفيها‏:‏ سار الملك نور الدين إلى الرقة فأخذها، وكذا نصيبين والخابور وسنجار، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه مودود بن عماد الدين، ثم سار إلى الموصل فأقام بها أربعة وعشرين يوماً، وأقرها على ابن أخيه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، مع الجزيرة، وزوجه ابنته الأخرى، وأمر بعمارة جامعها وتوسعته، ووقف على تأسيسه بنفسه، وجعل له خطيباً ودرساً للفقه، وولي التدريس للفيقه أبي بكر البرقاني، تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكتب له منشوراً بذلك، ووقف على الجامع قرية من قرى الموصل، وذلك كله بإشارة الشيخ صالح العابد عمر الملا، وقد كانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة في شهر المولد، يحضر فيه عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك‏.‏

وقد كان الملك نور الدين صاحبه، وكان يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وهو الذي أشار عليه في مدة مقامه في الموصل بجميع ما فعله من الخيرات، فلهذا حصل بقدومه لأهل الموصل كل مسرة، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عبد المسيح وسماه عبد الله وأخذه معه إلى دمشق فأقطعه إقطاعاً حسناً، وقد كان عبد المسيح هذا نصرانياً، فأظهر الإسلام وكان يقال‏:‏ إن له كنيسة في جوف داره، وكان سيء السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة‏.‏

ولما دخل نور الدين الموصل كان الذي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وحين دخل نور الدين الموصل خرج إليه ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إلى البلد في أبهة عظيمة، ولم يدخل نور الدين الموصل حتى قوي الشتاء فأقام بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بها رأى رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول له‏:‏ طابت لك بلدك وتركت الجهاد وقتال أعداء الله‏؟‏

فنهض من فوره إلى السفر، وما أصبح إلا سائراً إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أبي عصرون، وكان معه على سنجار ونصيبين والخابور، فاستناب فيها ابن أبي عصرون نواباً وأصحاباً‏.‏

وفيها‏:‏ عزل صلاح الدين قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة، وولى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية، واشترى ابن أخيه تقي الدين عمر داراً تعرف بمنازل العز، وجعلها مدرسة للشافعية ووقف عليها الروضة وغيرها‏.‏

وعمر صلاح الدين أسوار البلد، وكذلك أسوار إسكندرية، وأحسن إلى الرعايا إحساناً كثيراً، وركب فأغار على بلاد الفرنج بنواحي عسقلان وغزة وضرب قلعة كانت لهم على أيلة وقتل خلقاً كثيراً من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون من الشام، واجتمع شمله بهم بعد فرقة طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها، وشرع في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 طاهر بن محمد بن طاهر

أبو زرعة المقدسي، الأصل الرازي، المولد الهمداني الدار، ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وأسمعه والده الحافظ محمد بن طاهر الكثير، ومما كان يرويه مسند الشافعي، توفي بهمدان يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر، وقد قارب التسعين‏.‏

 يوسف القاضي

أبو الحجاج بن الخلال صاحب ‏(‏ديوان الإنشاء‏)‏ بمصر، وهو شيخ القاضي الفاضل في هذا الفن، اشتغل عليه فيه فبرع حتى قدر أنه صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان القاضي الفاضل يقوم به وبأهله حتى مات، ثم كان بعد موته كثير الإحسان إلى أهله، رحمهم الله‏.‏

 يوسف بن الخليفة

المستنجد بالله بن المقتفي بن المستظهر، تقدم ذكر وفاته وترجمته، وقد توفي بعده عمه أبو نصر بن المستظهر بأشهر، ولم يبق بعده أحد من ولد المستظهر، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة منها‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

فيها كانت وفاة‏:‏

 العاضد صاحب مصر‏.‏

في أول جمعة منها، فأمر صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يوماً مشهوداً، ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك، مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي، فزينت بغداد وغلقت الأسواق، وعملت القباب، وفرح المسلمون فرحاً شديداً، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي، حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز الفاطمي، باني القاهرة، إلى هذا الآن، وذلك مائتا سنة وثمان سنين‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد ألفت في ذلك كتاباً سميته ‏(‏النصر على مصر‏)‏‏.‏

 موت العاضد آخر خلفاء العبيديين

والعاضد في اللغة‏:‏ القاطع، لا يعضد شجرها‏:‏ لا يقطع، وبه قطعت دولتهم، واسمه عبد الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور القاهري، أبي الغنائم بن المهدي أولهم‏.‏ ‏

كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة وكانت سيرته مذمومة، وكان شيعياً خبيثاً، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة، واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قبل وفاته، وكان المستنجد إذ ذاك مدنفاً مريضاً، فلما مات تولى بعده ولده، فكانت الخطبة بمصر له، ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم عاشوراء، فحضر الملك صلاح الدين جنازته وشهد عزاه، وبكى عليه وتأسف وظهر منه حزن كثير عليه، وقد كان مطيعاً له فيما يأمره به، وكان العاضد كريماً جواداً، سامحه الله‏.‏

ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم، وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات الهنية، والعيشة الرضية، عوضاً عما فاتهم من الخلافة، وكان صلاح يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدراً مقدوراً‏.‏

ومما نظمه العماد في ذلك‏:‏

توفي العاضد الدعيّ فما * يفتح ذو بدعة بمصر فما

وعصر فرعونها انقضى وغدا * يوسفها في الأمور محتكما

قد طفئت جمرة الغواة وقد * داخ من الشرك كل ما اضطرما

وصار شمل الصلاح ملتئماً * بها، وعقد السداد منتظما

لما غدا مشعراً شعار بني الـ * ـعباس حقاً والباطل اكتتما

وبات داعي التوحيد منتظراً * ومن دعاة الإشراك منتقماً

وظل أهل الضلال في ظلل * داجية من غبائة وعمى وارتكس الجاهلون في ظلم * لما أضاءت منابر العلما

وعاد بالمستضيء معتلياً * بناء حق بعد ما كان منهدماً

أعيدت الدولة التي اضطهدت * وانتصر الدين بعدما اهتضما

واهنز عطف الإسلام من جلل * وافتر ثغر الإسلام وابتسما

واستبشرت أوجه الهدى فرحاً * فليقرع الكفر سنه ندما

عاد حريم الأعداء منتهك الـ * ـحمى وفي الطغاة منقسما

قصور أهل القصور أخربها * عامر بيت من الكمال سما

أزعج بعد السكوت ساكنها * ومات ذلاً وأنفه رغما

‏ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضيء بالخطبة له بمصر وأعمالها‏:‏

ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت * إليك به خوض الركائب توجف

أخذت به مصراً وقد حال دونها * من الشرك يأس في لها الحق يقذف

فعادت بحمد الله باسم إمامنا * تتيه على كل البلاد وتشرف

ولا غرو إن ذلت ليوسف مصره * وكانت إلى عليائه تتشوف

فشابهه خلقاً وخلقاً وعفة * وكل عن الرحمن في الأرض يخلف

كشفت بها عن آل هاشم سبة * وعاراً أبى إلا بسيفك يكشف

وقد ذكر ذلك أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏، وهى أطول من هذه، وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن بركات الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد‏.‏

وهكذا ذكر ابن الجوزي‏:‏ أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه المستضيء، فجرى المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر‏.‏

قال ابن أبي طي في كتابه‏:‏ ولما تفرغ صلاح الدين من توطيد المملكة وإقامة الخطبة والتعزية، استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والأمتعة والآلات والملابس والمفارش شيئاً باهراً، وأمراً هائلاً، من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام، وحبل من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المانع، وطبل للقولنج إذا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عنه ما يجده من القولنج، فاتفق أن بعض أمراء الأكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه فضرب عليه فحبق - أي‏:‏ ضرط -، فألقاه من يده على الأرض فكسره، فبطل أمره‏.‏

وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه، وقسم بين الأمراء شيئاً كثيراً من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والأثاث والأمتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر البيع فيما بقي هنالك من الأثاث والأمتعة نحواً من عشر سنين‏.‏ ‏

وأرسل إلى الخليفة ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وكذلك إلى الملك نور الدين، أرسل إليه من ذلك جانباً كثيراً صالحاً، ولم يدخر لنفسه شيئاً مما حصل له من الأموال، بل كان يعطي ذلك من حوله من الأمراء وغيرهم، فكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش زنة الواحدة إحدى وثلاثون مثقالاً، والأخرى ثمانية عشر مثقالاً، والثالثة عشرة مثاقيل، وقيل‏:‏ أكثر مع لآلئ كثيرة، وستون ألف دينار، وعطر لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وفيل عظيم جداً، فأرسلت الحمارة إلى الخليفة في جملة هدايا‏.‏

قال ابن أبي طي‏:‏ ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الإسلام نظير، تشتمل على ألفي ألف مجلد، قال‏:‏ ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من ‏(‏تاريخ الطبري‏)‏، وكذا قال العماد الكاتب‏:‏ كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد‏.‏

وقال ابن الأثير‏:‏ كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، وقد تسلمها القاضي الفاضل، فأخذ منها شيئاً كثيراً مما اختاره وانتخبه‏.‏

قال‏:‏ وقسم القصر الشمالي بين الأمراء فسكنوه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج، يقال له‏:‏ اللؤلؤة، الذي فيه بستان الكافوري، وأسكن أكثر الأمراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين، ولا يلقى أحد من الأتراك أحداً من أولئك الذين كانوا بها من الأكابر إلا شلحوه ثيابه ونهبوا داره، حتى تمزق كثير منهم في البلاد، وتفرقوا شذرمذر وصاروا أيدي سبأ‏.‏

وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها‏.‏

وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حداداً اسمه عبيد، وكان يهودياً، فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه‏:‏ إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكاً مطاعاً، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض‏.‏

ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الظاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكاً، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة‏.‏ ‏

وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضاً، ولكن كانت مدتهم نيفاً وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي‏.‏

وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وإنطاكية وجميع ما وإلى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك‏.‏

وقتلوا من المسلمين خلقاً وأمماً لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة‏:‏

أصبح الملك بعد آل علي * مشرقاً بالملوك من آل شادي

وغدا الشرق يحسد الغر * ب للقوم فمصر تزهو على بغداد

ما حووها إلا بعزم وحزم * وصليل الفولاذ في الأكباد

لا كفرعون والعزيز ومن * كان بها كالخطيب والأستاد

قال أبو شامة‏:‏ يعني بالأستاد‏:‏ كأنه نور الدين الأخشيدي، وقوله‏:‏ آل علي يعني‏:‏ الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كان ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيداً، وكان يهودياً حداداً بسلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم‏.‏

قال‏:‏ وقد استقصيت الكلام في ‏(‏مختصر تاريخ دمشق‏)‏ في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في ‏(‏الروضتين‏)‏ في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم، وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم‏.‏ ‏

قال أبو شامة‏:‏ وقد أفردت كتاباً سميته ‏(‏كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد‏)‏، وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتباً كثيرة، من أجل ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي سماه ‏(‏كشف الأسرار وهتك الأستار‏)‏، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر‏:‏

أبدتم من بلى دولة الكفر من * بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل

زنادقة، شيعية، باطنية * مجوس وما في الصالحين لهم أصل

يسرون كفراً، يظهرون تشيعاً * ليستروا سابور عمهم الجهل

وفيها‏:‏ أسقط الملك صلاح الدين عن أهل مصر المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر‏.‏

وفيها‏:‏ حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدين، وذلك أن نور الدين غزا في هذه السنة بلاد الفرنج في السواحل فأحل بهم بأساً شديداً، وقرر في أنفسهم منه نقمة ووعيداً، ثم عزم على محاصرة الكرك، وكتب إلى صلاح الدين يلتقيه بالعساكر المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صلاح الدين وخاف أن يكون لهذا الأمر غائلة يزول بها ما حصل له من التمكن من بلاد مصر، ولكنه مع ذلك ركب في جيشه من مصر لأجل امتثال المرسوم، فسار أياماً، ثم كر راجعاً معتلاً بقلة الظهر، والخوف على اختلال الأمور إذا بعد عن مصر واشتغل عنها، وأرسل يعتذر إلى نور الدين‏.‏

فوقع في نفسه منه، واشتد غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غيره، ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه، وذكر ذلك بحضرة الأمراء والكبراء، فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر، وقال‏:‏ والله لو قصدنا نور الدين لنقاتلنه‏.‏

فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وأسكته ثم قال لابنه‏:‏ اسمع ما أقول لك والله ما ههنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا -يعني‏:‏ شهاب الدين الحارمي - ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الأرض بين يديه، وكذلك بقية الأمراء والجيش، ولو كتب إلي أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت‏.‏

ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب، فلما خلى بابنه قال له‏:‏ أما لك عقل‏؟‏ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء، فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه، فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، ولكن ابعث إليه وترفق له وتواضع عنده، وقل له‏:‏ وأي حاجة إلى مجيء مولانا السلطان إلى قتالي‏؟‏ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجيء معه إلى بين يديك‏.‏

فبعث إليه بذلك فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام، لان قلبه له، وانصرفت همته عنه، واشتغل بغيره، وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ اتخذ نور الدين الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته واتساعها، فإنه ملك من حد النوبة إلى همذان لا يتخللها إلا بلاد الفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته، ولذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي تحمل الرسائل إلى الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب ذلك العماد الكاتب، وأطرب وأعجب وأغرب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن أحمد

ابن أحمد بن أحمد أبو محمد بن الخشاب، قرأ القرآن وسمع الحديث، واشتغل بالنحو حتى ساد أهل زمانه فيهما، وشرح ‏(‏الجمل‏)‏ لعبد القاهر الجرجاني، وكان رجلاً صالحاً متطوعاً، وهذا نادر في النحاة، توفي في شعبان من هذه السنة ودفن قريباً من الإمام أحمد، ورئي في المنام، فقيل له‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي وأدخلني الجنة إلا أنه أعرض عني وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان مطرحاً للكلفة في مأكله وملبسه، وكان لا يبالي بمن شرق أو غرب‏.‏

محمد بن محمد بن محمد

أبو المظفر الدوي، تفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وناظر ووعظ ببغداد، وكان يظهر مذهب الأشعري، ويتكلم في الحنابلة، مات في رمضان منها‏.‏

 

 ناصر بن الجوني الصوفي

كان يمشي في طلب الحديث حافياً، توفي ببغداد‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها توفي‏.‏

 نصر الله بن عبد الله أبو الفتوح

الإسكندري المعروف بابن قلاقس الشاعر بعيذاب، توفي عن خمس وأربعين سنة‏.‏

والشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي، نزيل الموصل المقري النحوي، قال‏:‏ وفيها ولد العزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين عمر‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ أرسل نور الدين إلى صلاح الدين - وكان الرسول الموفق خالد بن القيسراني - ليقيم حساب الديار المصرية، وذلك لأن نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إليه من خزائن العاضد، ومقصوده أن يقرر على الديار المصرية خراجاً منها في كل عام‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها وخرب أماكن كثيرة من معاملاتها، ولكن لم يظفر بها عامه ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمعت الفرنج بالشام لقصد زرع، فوصلوا إلى سمسكين فبرز إليهم نور الدين فهربوا منه إلى الغور، ثم إلى السواد، ثم إلى الشلالة، فبعث سرية إلى طبرية فعاثوا هنالك وسبوا وقتلوا وغنموا وعادوا سالمين، ورجع الفرنج خائبين‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة نور شاه إلى بلاد النوبة فافتتحها، واستحوذ على معقلها وهو حصن يقال له‏:‏ إبريم، ولما رآها بلدة قليلة الجدوى لا يفي خراجها بكلفتها، استخلف على الحصن المذكور رجلاً من الأكراد يقال له‏:‏ إبراهيم، فجعله مقدماً مقرراً بحصن إبريم، وانضاف إليه جماعة من الأكراد البطالين، فكثرت أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك، وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة الأمير نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين، سقط عن فرسه فمات، وسنأتي على ترجمته في الوفيات‏.‏

وفيها‏:‏ سار الملك نور الدين إلى بلاد عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وأصلح ما وجده فيها من الخلل‏.‏

ثم سار فافتح مرعش وبهسا، وعمل في كل منهما بالحسنى‏.‏

قال العماد‏:‏ وفيها‏:‏ وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الجاروق، ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية، فأدركه الأجل قبل ذلك‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب‏.‏

وفيها‏:‏ رجع شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد وقد أدى الرسالة بالخطبة العباسية بالديار المصرية، ومعه توقيع من الخلافة بإقطاع درب هارون وصريفين لنور الدين، وقد كانتا قديماً لأبيه عماد الدين زنكي، فأراد نور الدين أن ينشئ ببغداد مدرسة على حافة الدجلة، ويجعل هذين المكانين وقفاً عليها فعاقه القدر عن ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه، استقصاها ابن الأثير وابن الساعي‏.‏

وفيها‏:‏ هزم ملك الأرمن مليح بن ليون عساكر الروم، وغنم منهم شيئاً كثيراً، وبعث إلى نور الدين بأموال كثيرة، وثلاثين رأساً من رؤوس كبارهم، فأرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضيء‏.‏

وفيها‏:‏ بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى بلاد إفريقية، فملكوا طائفة كثيرة منها، من ذلك مدينة طرابلس الغرب وعدة مدن معها‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إيلدكز التركي الأتابكي

صاحب أذربيجان وغيرها، كان مملوكاً للكمال السميرمي وزير السلطان محمود، ثم علا أمره وتمكن وملك بلاد أذربيجان وبلاد الجبل وغيرها، وكان عادلاً منصفاً شجاعاً محسناً إلى الرعية، توفي بهمدان‏.‏

 الأمير نجم الدين أبو الشكر أيوب بن شادي

ابن مروان، زاد بعضهم بعد مروان بن يعقوب، والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد شادي أحد في نسبهم، وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهذا ليس بصحيح، والذي نسب إليه ادعاء هذا هو أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شادي ويعرف بابن سيف الإسلام، وقد ملك اليمن بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعى الخلافة وتلقب بالإمام الهادي بنور الله، ولهجوا بذلك، وقال هو في ذلك‏:‏

وأنا الهادي الخليفة والذي * أدوس رقاب الغلب بالضمر الجرد

ولا بد من بغداد أطوي ربوعها * وأنشرها نشر الشماس على البرد

وأنصب أعلامي على شرفاتها * وأحيي بها ما كان أسه جدي

ويخطب لي فيها على كل منبر * وأظهر أمر الله في الغور والنجد

وما ادعاه ليس بصحيح، ولا أصل له يعتمد عليه، ولا مستند يستند إليه، والمقصود أن الأمير نجم الدين كان أسن من أخيه أسد الدين شيركوه، ولد بأرض الموصل، كان الأمير نجم الدين شجاعاً، خدم الملك محمد بن ملكشاه فرأى فيه شهامة وأمانة، فولاه قلعة تكريت، فحكم فيها فعدل، وكان من أكرم الناس، ثم أقطعها الملك مسعود لمجاهد الدين نهروز شحنة العراق، فاستمر فيها، فاجتاز به في بعض الأحيان الملك عماد الدين زنكي منهزماً من قراجا الساقي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة، وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خمسة عشر يوماً، ثم ارتحل إلى بلده الموصل‏.‏

ثم اتفق أن نجم الدين أيوب عاقب رجلاً نصرانياً فقتله، وقيل‏:‏ إنما قتله أخوه أسد الدين شيركوه، وهذا بخلاف الذي ذكره ابن خلكان، فإنه قال‏:‏ رجعت جارية من بعض الخدم فذكرت له أنه تعرض لها اسفهسلار الذي بباب القلعة، فخرج إليه أسد الدين فطعنه بحربة فقتله، فحبسه أخوه نجم الدين وكتب إلى مجاهد الدين نهروز يخبره بصورة الحال، فكتب إليه يقول‏:‏ إن أباكما كانت له علي خدمة، وكان قد استنابه في هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين أيوب، وإني أكره أن أسوءكما، ولكن انتقلا منها‏.‏

فأخرجهما نهروز من قلعته‏.‏

وفي ليلة خروجه منها ولد له الملك الناصر صلاح الدين يوسف‏.‏

قال‏:‏ فتشاءمت به لفقدي بلدي ووطني‏.‏

فقال له بعض الناس‏:‏ قد نرى ما أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون هذا المولود ملكاً عظيماً له صيت‏؟‏

فكان كما قال، فاتصلا بخدمة الملك عماد الدين زنكي أبي نور الدين، ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده، وارتفعت منزلتهما وعظما، فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبك، وكان أسد الدين من أكبر أمرائه، ولما تسلم بعلبك أقام مدة طويلة، وولد له فيها أكثر أولاده، ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية‏.‏

ثم إنه في ذي الحجة سقط عن فرسه فمات بعد ثمانية أيام في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابنه صلاح الدين محاصر الكرك غائباً عنه، فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره، وأرسل يتحرق ويتحزن، وأنشد‏:‏

وتخطفه يد الردى في غيبتي * هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع ‏؟‏

وقد كان نجم الدين أيوب كثير الصلاة والصدقة والصيام، كريم النفس جواداً ممدحاً، قال ابن خلكان‏:‏ وله خانقاه بالديار المصرية، ومسجد وقناة خارج باب النصر من القاهرة، وقفها في سنة ست وستين‏.‏

قلت‏:‏ وله بدمشق خانقاه أيضاً، تعرف بالنجمية، وقد استنابه ابنه على الديار المصرية حين خرج إلى الكرك، وحكمه في الخزائن، وكان من أكرم الناس، وقد امتدحه الشعراء كالعماد وغيره، ورثوه بمراث كثيرة، وقد ذكر ذلك مستقصى الشيخ أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏، ودفن مع أخيه أسد الدين بدار الإمارة، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين، فدفنا بتربة الوزير جمال الدين الموصلي، الذي كان مواخياً لأسد الدين شيركوه، وهو الجمال المتقدم ذكره الذي ليس بين تربته ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مقدار سبعة عشر ذراعاً، فدفنا عنده‏.‏ ‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي هذه السنة توفي ملك الرافضة والنحاة‏.‏

 الحسن بن صافي بن بزدن التركي

كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضياً خبيثاً متعصباً للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنة‏.‏

وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك، وذكر ابن الساعي في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ أنه كان في صغره شاباً حسناً مليحاً معشوقاً للأكابر من الناس‏.‏

قال‏:‏ ولشيخنا أبي اليمن الكندي فيه، وقد رمدت عينه‏:‏

بكل صباح لي وكل عشية * وقوف على أبوابكم وسلام

وقد قيل لي يشكو سقاماً بعينه * فها نحن منها نشتكي ونضام

 ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة

قال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ إنه سقط عندهم ببغداد برد كبار كالنارنج، ومنه ما وزنه سبعة أرطال، ثم أعقب ذلك سيل عظيم، وزيادة عظيمة في دجلة، لم يعهد مثلها أصلاً، فخرب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع، حتى القبور، وخرج الناس إلى الصحراء، وكثر الضجيج والابتهال إلى الله حتى فرج الله عز وجل، وتناقصت زيادة الماء بحمد الله ومنه‏.‏

قال‏:‏ وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وانهدم بالماء نحو من ألفي دار، واستهدم بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الردم خلق كثير، وكذلك الفرات زادت زيادة عظيمة، فهلك بسببها شيء كثير من القرى، وغلت الأسعار بالعراق في هذه السنة في الزروع والثمار، ووقع الموت في الغنم، وأصيب كثير ممن أكل منها بالعراق وغيرها‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وفي شوال منها توالت الأمطار بديار بكر والموصل أربعين يوماً وليلة، لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين، ثم تستتر بالغيوم، فتهدمت بيوت كثيرة ومساكن على أهلها، وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة، وغرق كثير من مساكن بغداد والموصل، ثم تناقص الماء بإذن الله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي رجب وصل ابن الشهرزوري من عند نور الدين ومعه ثياب مصرية، وحمارة ملونة جلدها مخطط مثل الثوب العتابي‏.‏

وفيها‏:‏ عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أبو الخير القزويني‏.‏ ‏

قال‏:‏ وفي جمادى الآخرة اعتقل المجير الفقيه ونسب إلى الزندقة والانحلال وترك الصلاة والصوم، فغضب له ناس وزكوه وأخرج، وذكر أنه وعظ بالحديثة فاجتمع عنده قريباً من ثلاثين ألفاً‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وفيها سقط أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء من قبة شاهقة إلى الأرض فسلم، ولكن نبت يده اليمنى وساعده اليسرى، وانسلخ شيء من أنفه، وكان معه خادم أسود يقال له‏:‏ نجاح، فلما رأى سيده قد سقط ألقى هو نفسه أيضاً خلفه، وقال‏:‏ لا حاجة لي في الحياة بعده، فسلم أيضاً، فلما صارت الخلافة إلى أبي العباس الناصر - وهو هذا الذي قد سقط - لم ينسها لنجاح هذا، فحكمه في الدولة وأحسن إليه، وقد كانا صغيرين لما سقطا‏.‏

وفيها‏:‏ سار الملك نور الدين نحو بلاد الروم وفي خدمته الجيش وملك الأرمن وصاحب ملطية، وخلق من الملوك والأمراء، وافتتح عدة من حصونهم، وحاصر قلعة الروم فصالحه صاحبها بخمسين ألف دينار جزية، ثم عاد إلى حلب وقد وجد النجاح في كل ما طلب، ثم أتى دمشق مسروراً محبوراً‏.‏

وفيها‏:‏ كان فتح بلاد اليمن للملك صلاح الدين، وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بلغه أن بها رجلاً يقال له‏:‏ عبد النبي بن مهدي، وقد تغلب عليها ودعا إلى نفسه وتسمى بالإمام، وزعم أنه سيملك الأرض كلها‏.‏

وقد كان أخوه علي بن مهدي قد تغلب قبله عليها، وانتزعها من أيدي أهل زبيد، ومات سنة ستين فملكها بعد أخوه هذا، وكل منهما كان سيء السيرة والسريرة، فعزم صلاح الدين لكثرة جيشه وقوته على إرسال سرية إليه، وكان أخوه الأكبر شمس الدولة شجاعاً مهيباً بطلاً، وكان ممن يجالس عمارة اليمني الشاعر، وكان عمارة ينعت له بلاد اليمن وحسنها وكثرة خيرها، فحداه ذلك على أن خرج في تلك السرية في رجب من هذه السنة، فورد مكة فاعتمر بها ثم سار منها إلى زبيد، فخرج إليه عبد النبي فهزمه توران شاه، وأسره وأسر زوجته الحرة، وكانت ذات أموال جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة، وذخائر جليلة، ونهب الجيش زبيد، ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وأسره، وأخذ البلد بيسير من الحصار، ومنع الجيش من نهبها، وقال‏:‏ ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لعمارتها وملكها‏.‏

ثم سار في الناس سيرة حسنة عادلة فأحبوه، ثم تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف، واستوسق له ملك اليمن بحذافيره وألقى إليه أفلاذ كبده ومطاميره، وخطب للخليفة العباسي المستضيء، وقتل الدعي المسمى بعبد النبي، وصفت اليمن من أكدارها، وعادت إلى ما سبق من مضمارها، وكتب بذلك إلى أخيه الملك الناصر يخبره بما فتح الله عليه، وأحسن إليه، فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين، فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الموفق خالد بن القيسراني من الديار المصرية، وقد أقام بها الملك الناصر حساب الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رسم به الملك نور الدين كما تقدم، وقد كاد صلاح الدين لما جاءته الرسالة بذلك يظهر شق العصا، ويواجه بالمخالفة والإباء، لكنه عاد إلى طباعه الحسنة وأظهر الطاعة المستحسنة، وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب، فبادر إلى ذلك جماعة الدواوين والحساب والكتاب، وبعث مع ابن القيسراني بهدية سنية وتحف هائلة هنية، فمن ذلك‏:‏ خمس ختمات شريفات مغطات بخطوط مستويات، ومائة عقد من الجواهر النفيسات، خارجاً عن قطع البلخش واليواقيت، والفصوص والثياب الفاخرات، والأواني والأباريق والصحاف الذهبيات والفضيات، والخيول المسومات، والغلمان والجواري الحسان والحسنات، ومن الذهب عشرة صناديق مقفلات مختومات، مما لا يدرى كم فيها من مئين ألوف ومئات، من الذهب المصري المعد للنفقات‏.‏ ‏

فلما فصلت العير من الديار المصرية لم تصل إلى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الأرضين والسموات، فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه، ويقال‏:‏ إن منها ما عدي عليه وعلم بذلك حين وضعت بين يديه‏.‏

 مقتل عمارة بن أبي الحسن

ابن زيدان الحكمي من قحطان، أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الفقيه الشاعر الشافعي، وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاماً فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين، ووزيراً وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج، إذا قدموا لنصرة الفاطميين‏.‏

فخرج توران شاه ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالؤا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالاً جزيلة، وأفاض عليه حللاً جميلة‏.‏

ثم استدعاهم السلطان واحداً واحداً فقررهم فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم، ثم عند ذلك أمر بقتل رؤسهم وأعيانهم، دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب‏.‏

وكان عمارة معادياً للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال‏:‏ يا مولانا السلطان لا تسمع منه‏.‏

فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان‏:‏ إنه إنما كان يشفع فيك، فندم ندماً عظيماً‏.‏

ولما ذهب به ليصلب مر بدار الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد‏:‏

عبد الرحيم قد احتجب * إن الخلاص هو العجب

قال ابن أبي طي‏:‏ وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل القاضي، وهو أبا القاسم هبة الله ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب بفخر الأمناء، فكان أول من صلب فيما قاله العماد، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب، وله شعر رائق، فمن ذلك قوله في غلام رفاء‏:‏ ‏

يا رافيا خرق كل ثوب * وما رفا حبه اعتقادي

عسى بكف الوصال ترفو * ما مزق الهجر من فؤادي

وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدل عليها، فامتنع من ذلك فمات واندرست‏.‏

والعويرس ووهو ناظر الديوان، وتولى مع ذلك القضاء‏.‏

وشبريا وهو كاتب السر‏.‏

وعبد الصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، ومنجم نصراني، كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوم‏.‏

وعمارة اليمني الشاعر

وكان عمارة شاعراً مطيقاً بليغاً فصيحاً، لا يلحق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في ‏(‏طبقات الشافعية‏)‏ لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي، وله مصنف في الفرائض، وكتاب‏(‏الوزراء الفاطميين‏)‏، وكتاب جمع سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديباً فاضلاً فقيهاً، غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جداً، وأقل ما كان ينسب إلى الرفض، وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العماد في الخريدة‏:‏ أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها‏:‏

العلم مذ كان محتاج إلى العلم * وشفرة السيف تستغني عن القلم

وهي طويلة جداً، فيها كفر وزندقة كثيرة‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏

قد كان أول هذا الدين من رجل * سعى إلى أن دعوه سيد الأمم

قال العماد‏:‏ فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله، قال‏:‏ ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، والله أعلم‏.‏

وقد أورد ابن الساعي شيئاً من رقيق شعره، فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك‏:‏

إذا قابلت بشرى جبينه * فارقته والبشر فوق جبيني

وإذا لثمت يمينه وخرجت من * بابه لثم الملوك يميني

ومن ذلك قوله‏:‏

لي في هوى الرشا العذري إعذار * لم يبق لي مدا قسر الدمع إنكار

لي في القدود وفي لثم الخدو * د وفي ضم النهود لبانات وأوطار

هذا اختياري فوافق إن رضيت به * وإلا فدعني لما أهوى وأختار

ومما أنشده الكندي في عمارة اليمني حين صلب‏:‏

عمارة في الإسلام أبدى جناية * وبايع فيها بيعة وصليبا

وأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب الصليب صليبا

سيلقى غداً ما كان يسعى لنفسه * ويسقى صديداً في لظى وصليبا

قال الشيخ أبو شامة‏:‏ فالأول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع ودك العظام‏.‏

ولما صلب الملك الناصر هؤلاء يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة، كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وبهم من الخزي والنكال‏.‏

قال العماد‏:‏ فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين، رحمه الله تعالى‏.‏

وكذلك قتل صلاح الدين رجلاً من أهل الإسكندرية يقال له‏:‏ قديد القفاجي، كان قد افتتن به الناس، وجعلوا له جزءاً من أكسابهم، حتى النساء من أموالهن، فأحيط به فأراد القفاجي الخلاص ولات حين مناص، فقتل أسوة فيمن سلف، ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه‏:‏

أسفي على زمان الإمام العاضد * أسف العقيم على فراق الواحد

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت * يا بن النبي من ازدحام الوافد

وعلى انفرادك من عساكرك التي * كانوا كأمواج الخضم الراكد

قلدت مؤتمن أمرهم فكبا * وقصر عن صلاح الفاسد

فعسى الليالي أن ترد إليكم * ما عودتكم من جميل عوائد

وله من جملة قصيدة‏:‏ ‏

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة * لك الملامة إن قصرت في عذلي

بالله زر ساحة القصرين وابك معي * لا على صفين ولا الجمل

وقل لأهلها والله ما التحمت * فيكم قروحي ولا جرحى بمندمل

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة * في نسل ابني أمير المؤمنين علي

وقد أورد له الشيخ أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏ أشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين، وكذا ابن خلكان‏.‏

 ابن قسرول

صاحب كتاب ‏(‏مطالع الأنوار‏)‏، وضعه على كتاب ‏(‏مشارق الأنوار‏)‏ للقاضي عياض، وكان من علماء بلاده وفضلائهم المشهورين، مات فجأة بعد صلاة الجمعة سادس شوال منها عن أربع وستين سنة‏.‏

قاله ابن خلكان، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 فصل في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي، وذكر شيء من سيرته العادلة‏.‏

هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الأتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زنكي، الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الأتابك، الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة‏.‏

فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا، وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم، ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى عليها الرصافات ووسع الأسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد، وغير ذلك‏.‏ ‏

وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم، وأحاط السور على حارة اليهود، وكان خراباً، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية‏.‏

وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لأن شعار الرفض كان ظاهراً بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مراراً عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة‏.‏

وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستاناً لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضاً، ووقف وقفاً على من يعلم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف داره على جميع أبواب الخير، وعلى الأرامل والمحاويج‏.‏

وكان الجامع دائراً فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهزوري الموصلي، الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق، فأصلح أموره وفتح المشاهد الأربعة، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقاف التي لا يعرف واقفوها، ولا يعرف شروطهم فيها، وجعلها قلما واحداً، وسمى مال المصالح، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك‏.‏

وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محباً لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل‏:‏ إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتاً وقوراً‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئاً، ولو مات جوعاً، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال‏:‏ إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد‏.‏

وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وركب يوماً مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما، ثم ساق نور الدين فرسه سوقاً عنيفاً وظله يتبعه، فقال لصاحبه‏:‏ أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه ‏؟‏

شبهته بالدنيا تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها‏.‏

وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى‏:‏

مثل الرزق الذي تطلبه * مثل الظل يمشي معك

أنت لا تدركه مستعجلاً * فإذا وليت عنه تبعك

وكان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب‏:‏

جمع الشجاعة والخشوع لديه * ما أحسن الشجعان في المحراب

وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجراً جزيلاً، وجراية كثيرة‏:‏

فألبس الله هاتيك العظام وإن * بلين تحت الثرى عفواً وغفرانا

سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت * مثوى قبورهم روحاً وريحانا

وذكر ابن الأثير‏:‏ أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقاً يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشياً إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي‏:‏ أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم‏.‏

فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان‏:‏ إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهو أول من ابتنى داراً للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل‏:‏ أربع مرات، وقيل‏:‏ خمس‏.‏

ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم‏.‏ ‏

وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك‏.‏

فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحداً يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال‏:‏ الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم‏.‏

وأما شجاعته فيقال‏:‏ إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة، وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانة يعلو على رأسه، ولا يرى الجوكان في يده، لأن الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة، وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول‏:‏ قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية‏.‏

وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري‏:‏ بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين‏.‏

فقال له‏:‏ اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود‏؟‏ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو‏؟‏ ومن هو محمود ‏؟‏

قال‏:‏ فبكى من كان حاضراً، رحمه الله‏.‏

وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الإفرنج، فاستشار الأمراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال ‏؟‏

وكان قد بذل له في فداء نفسه مالاً كثيراً، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعاً فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه فلا يمنع من شرابه، ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه، رحمه الله‏.‏

قلت‏:‏ ويقول بعض الناس‏:‏ إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا، فالله أعلم‏.‏

وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والأبراج، ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين‏:‏ ويحك إن كان ما تقول حقاً فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقاً، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحداً غيره عندي بسوء لأوذينك‏.‏

فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك‏.‏ ‏

وقد ابتنى بدمشق داراً لاستماع الحديث وإسماعه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيباً وقوراً شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول‏:‏ هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا‏.‏

وقد سمع عليه جزء حديث وفيه ‏(‏‏(‏فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلداً السيف‏)‏‏)‏ فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحمه الله‏.‏

وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له‏:‏ هذا تأويل رؤياك‏.‏

وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم‏:‏ إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم‏.‏

وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده‏:‏ اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب‏.‏

وقيل‏:‏ إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة‏:‏ كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور ‏؟‏

ويقال‏:‏ إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئاً، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتاً تتضمن ما هو متلبس في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له‏:‏

مثل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور

إن قيل نور الدين رحت مسلماً * فاحذر بأن تبقى وما لك نور

أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور

عطلت كاسات المدام تعففاً * وعليك كاسات الحرام تدور

ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فرداً وجاءك منكر ونكير

ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فرداً ذليلاً والحساب عسير

وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور

وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور

ووددت أنك ما وليت ولاية * يوماً ولا قال الأنام أمير

وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير

وحشرت عرياناً حزيناً باكياً * قلقاً وما لك في الأنام مجير

أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور

أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبداً وأنت معذب مهجور

مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور

فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديداً، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد‏.‏

وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والأمراء بها أن لا يفصلوا بها أمراً حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شيء امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا‏:‏ إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له ‏؟‏

فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه‏:‏ إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم‏.‏

فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب، وجعل يقول‏:‏ انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد‏.‏

وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه‏.‏

فقال له السلطان‏:‏ أليس الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏‏.‏

فسكت الشيخ ولم يحر جواباً‏.‏

وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائراً مرات، ووقف عليه وقفاً‏.‏

وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال‏:‏ وكان نور الدين محافظاً على الصلوات في أوقاتها، في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها‏.‏

قال‏:‏ وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون‏:‏ إن القسيم ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا‏.‏

قال‏:‏ فهذا كلام الكفار في حقه‏.‏

وحكى الشيخ أبو شامة‏:‏ أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنيفة، والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة، ومسجد عطية، ومسجد ابن لبيد بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، ومسجد دار البطيخ المعلق، والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف‏.‏

ومناقبه ومآثره كثيرة جداً، وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها‏.‏

وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول ‏(‏الروضتين‏)‏ كثيراً من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات، ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها، واستنابة غيره فيها غير مرة، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وستين وخمسمائة - وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظاً لها من الفرنج في غيبته ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر، وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفاً شديداً‏.‏

فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي، وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الأحد، ورمى القبق في الميدان الأخضر الشمالي، والقدر يقول له‏:‏ هذا آخر أعيادك‏.‏

ومد في ذلك اليوم سماطاً حافلاً، وأمر بانتهابه، وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فحصل له غيظ من بعض الأمراء - ولم يكن ذلك من سجيته - فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه، واحتبس أسبوعاً عن الناس، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا يجود بموجوده، سروراً بذلك، فانعكست تلك الأفراح بالأتراح، ونسخ الجد ذلك المزاح، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏ ‏

فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه ويطيب ويتبرك به كل مار، فيقول‏:‏ قبر نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له‏:‏ القسيم ابن القسيم‏.‏

وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد‏:‏

عجبت من الموت لما أتى * إلى ملك في سجايا ملك

وكيف ثوى الفلك المستد * ير في الأرض وسط فلك

وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها، رحمه الله تعالى‏:‏

ومدرسة ستدرس كل شيء * وتبقى في حمى علم ونسك

تضوع ذكرها شرقاً وغرباً * بنور الدين محمود بن زنكي

يقول وقوله حق وصدق * بغير كناية وبغير شك

دمشق في المدائن بيت ملكي * وهذي في المدارس بنت ملكي

 صفة نور الدين رحمه الله تعالى

كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيباً متواضعاً عليه جلالة ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع‏.‏

 فصل

فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل، وكان صغيراً، وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن مقدم، فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئاً منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته - وكان محصوراً منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم، لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئاً من المناكر والفواحش، فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الأرض فساداً وتحقق قول الشاعر‏:‏

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سراً وقد أمكن الجهر

وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم، فهادنهم مدة، ودفع إليهم أموالاً جزيلة عجلها لهم، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه‏.‏

ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الأموال إلى الفرنج، وهم أقل وأذل، وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج، فردوا إليه كتاباً فيه غلظة، وكلام فيه بشاعة، فلم يلتفت إليهم ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، فلم يفعل لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين الذي كان قد جعله الملك نور الدين عيناً عليه، وحافظاً له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو‏.‏

فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سراً، فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله، ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده، وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم، والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان‏.‏

فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والأمراء من دمشق إلى حلب، وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين، وإخوته الثلاثة، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه، لأنه أحق الناس بذلك، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب‏.‏

فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء يلومهم على ما فعلوا على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب، ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الأمراء ورؤس الكبراء، ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم‏.‏

فكتبوا إليه يسيئون الأدب عليه، وكل ذلك يزيده حنقاً عليهم، ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الأمر الهائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية‏.‏

من الأعيان والمشاهير‏:‏

 الحسن بن الحسن

ابن أحمد بن محمد العطار، أبو العلاء الهمداني الحافظ، سمع الكثير ورحل إلى بلدان كثيرة، اجتمع بالمشايخ وقدم بغداد وحصل الكتب الكثيرة، واشتغل بعلم القراءات واللغة، حتى صار أوحد زمانه في علمي الكتاب والسنة، وصنف الكتب الكثيرة المفيدة، وكان على طريقة حسنة سخياً عابداً زاهداً صحيح الاعتقاد حسن السمت، له ببلده المكانة والقبول التام، وكانت وفاته ليلة الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين بأربعة أشهر وأيام‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد بلغني أنه رئي في المنام أنه في مدينة جميع جدرانها كتب وحوله كتب لا تعد ولا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها، فقيل له‏:‏ ما هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا فأعطاني‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الأهوازي

خازن كتب مشهد أبي حنيفة ببغداد، توفي فجأة في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

 محمود بن زنكي بن آقسنقر

السلطان الملك العادل نور الدين، صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهداً في الفرنج، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد، مؤثراً لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحداً في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل يصوم كثيراً، ويمنع نفسه عن الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان‏.‏ ‏

قال ابن الجوزي‏:‏ استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة، وقد كان يكاتبني وأكاتبه‏.‏

قال‏:‏ ولما حضرته الوفاة أخذ العهد على الأمراء من بعده لولده - يعني الصالح إسماعيل - وجدد العهد مع صاحب طرابلس أن لا يغير على الشام في المدة التي كان ماده فيها، وذلك أنه كان قد أسره في بعض غزواته وأسر معه جماعة من أهل دولته، فافتدى نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس، أي‏:‏ لبوس، وقنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وعاهده أن لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أكابر الفرنج وبطارقتهم، فإن نكث أراق دماءهم، وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله، فوافته المنية في شوال من هذه السنة، والأعمال بالنيات، فحصل له أجر ما نوى، وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهراً، وقد تقدم ذلك‏.‏

وهذا مقتضى ما ذكره ابن الجوزي ومعناه‏.‏

 الخضر بن نصر

علي بن نصر الأربلي الفقيه الشافعي، أول من درس بإربل في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكان فاضلاً ديناً، انتفع به الناس، وكان قد اشتغل على الكيا الهراسي وغيره ببغداد، وقدم دمشق فأرخه ابن عساكر في هذه السنة، وترجمه ابن خلكان في ‏(‏الوفيات‏)‏، وقال‏:‏ قبره يزار، وقد زرته غير مرة، ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبركون به‏.‏

وهذا الذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور‏.‏

وفيها‏:‏ هلك ملك الفرنج مرِّي لعنه الله، وأظنه ملك عسقلان ونحوها من البلاد، وقد كان قارب أن يملك الديار المصرية لولا فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين‏.‏