الجزء الثاني عشر - ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

استهلت والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج، ولكن دهمه أمر شغله عنه، وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في أسطول لم يسمع بمثله، وكثرة مراكب وآلات من الحرب والحصار والمقاتلة، من جملة ذلك مائتي شيني في كل منها مائة وخمسون مقاتلاً، وأربعمائة قطعة أخرى‏.‏ ‏

وكان قدومهم من صقلية إلى ظاهر إسكندرية قبل رأس السنة بأربعة أيام، فنصبوا المنجنيقات والدبابات حول البلد، وبرز إليهم أهلها فقاتلوهم دونها قتالاً شديداً أياماً، وقتل من كلا الفريقين خلق كثير، ثم اتفق أهل البلد على حريق المنجانيق والدبابات ففعلوا ذلك، فأضعف ذلك قلوب الفرنج‏.‏

ثم كبسهم المسلمون فقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم ما أرادوا، فانهزم الفرنج في كل وجه، ولم يكن لهم ملجأ إلا البحر أو القتل أو الأسر، واستحوذ المسلمون على أموالهم وعلى خيولهم وخيامهم، وبالجملة قتلوا خلقاً من الرجال وركب من بقي منهم في أسطول إلى بلادهم خائبين‏.‏

ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضاً أن رجلاً يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادي وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له‏:‏ أسوان، وجعل يجمع عليه الناس، فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان والرعيان، وكان يزعم إليهم أنه سيعيد الدولة الفاطمية، ويدحض الأتابكة التركية، فالتف عليه خلق كثير، ثم قصدوا قوص وأعمالها، وقتل طائفة من أمرائها ورجالها، فجرد إليه صلاح الدين طائفة من الجيش وأمر عليهم أخاه الملك العادل أبا بكر الكردي، فلما التقيا هزمه أبو بكر وأسر أهله وقتله‏.‏

 فصل ‏(‏بروز السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف‏)‏‏.‏

فلما تمهدت البلاد ولم يبق بها رأس من الدولة العبيدية، برز السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في الجيوش التركية قاصداً البلاد الشامية، وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي وأخيف سكانها وتضعضعت أركانها، واختلف حكامها، وفسد نقضها وإبرامها، وقصده جمع شملها والإحسان إلى أهلها، وأمن سهلها وجبلها، ونصرة الإسلام ودفع الطغام وإظهار القرآن وإخفاء سائر الأديان، وتكسير الصلبان في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان‏.‏

فنزل البركة في مستهل صفر وأقام بها حتى اجتمع عليه العسكر واستناب على مصر أخاه أبا بكر، ثم سار إلى بلبيس في الثالث عشر من ربيع الأول، فدخل مدينة دمشق في يوم الاثنين سلخ ربيع الأول، ولم ينتطح فيها عنزان، ولا اختلف عليه سيفان، وذلك أن نائبها شمس الدين بن مقدم كان قد كتب إليه أولاً فأغلظ له في الكتاب، فلما رأى أمره متوجهاً جعل يكاتبه ويستحثه على القدوم إلى دمشق، ويعده بتسليم البلد، فلما رأى الجد لم يمكنه المخالفة، فسلم البلد إليه بلا مدافعة‏.‏ ‏

فنزل السلطان أولاً في دار والده دار العقيلي التي بناها الملك الظاهر بيبرس مدرسة، وجاء أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان، وكان نائب القلعة إذ ذاك الطواشي ريحان، فكاتبه وأجزل نواله حتى سلمها إليه، ثم نزل إليه فأكرمه واحترمه، ثم أظهر السلطان أنه أحق الناس بتربية ولد نور الدين، لما لنور الدين عليهم من الإحسان المتين، وذكر أنه خطب لنور الدين بالديار المصرية، ثم إن السلطان عامل الناس بالإحسان وأمر بإبطال ما أحدث بعد نور الدين من المكوس والضرائب، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولله عاقبة الأمور‏.‏

 فصل

فلما استقرت له دمشق بحذافيرها نهض إلى حلب مسرعاً لما فيها من التخبيط والتخليط، واستناب على دمشق أخاه طغتكين بن أيوب الملقب بسيف الإسلام، فلما اجتاز حمص أخذ ربضها ولم يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماة فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين، فأجابه إلى ذلك‏.‏

فسار إليهم فحذّرهم بأس صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطا الجواب على السلطان، فكتب إليهم كتاباً بليغاً يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف، وعدم الائتلاف، فردوا عليه أسوأ جواب، فأرسل إليهم يذكرهم أيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد لهم بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن، ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق، فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين، وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين‏.‏

فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل، وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمساً، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر بن أبي المكارم حمزة بن زاهر الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله‏.‏

فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل، وعجز أهل البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر، فأرسلوا أولاً إلى شيبان صاحب الحسبة فأرسل نفراً من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه فلم يظفر منه بشيء، بل قتلوا بعض الأمراء، ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم، فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر، وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار وألف أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين بل قصد لحمص ليأخذها فركب إليه السلطان الناصر، وقد أرسل السلطان إلى بلده طرابلس سرية فقتلوا وأسروا وغنموا‏.‏

فلما اقترب الناصر منه نكص على عقبيه راجعاً إلى بلده، ورأى أنه قد أجابهم إلى ما أرادوا منه، فلما فصل الناصر إلى حمص لم يكن قد أخذ قلعتها فتصدى لأخذها، فنصب عليها المنجنيقات فأخذها قسراً، وملكها قهراً، ثم كر راجعاً إلى حلب فأناله الله في هذه الكرة ما طلب‏.‏

فلما نزل بها كتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتاباً بليغاً فصيحاً فائقاً رائقاً، على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه‏:‏ فإذا قضى التسليم حق اللقا، فاستدعى الإخلاص جهد الدعا، فليَعُد وليُعِد حوادث ما كان حديثاً يفترى، وجواري أمور إن قال فيها كثيراً فأكثر منه ما قد جرى، ويشرح صدر منها لعله يشرح منها صدراً، وليوضح الأحوال المستبشرة فإن الله لا يعبد سراً‏.‏

ومن العجائب أن تسير غرائب * في الأرض لم يعلم بها المأمول

كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى * والماء فوق ظهورها محمول

فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير، ونلتقي السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير، ولابد تسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي يُرد به المغصوب ونظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذ بحظ القلوب، وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوح بمباشرتنا أنفسنا، ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا، نحن ووالدنا وعمنا، فأي مدينة فتحت أو أي معقل للعدو أو عسكر أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه‏؟‏ فما يجهل أحد صنعنا، ولا يجحد عدونا أن يصطلي الجمرة ونملك الكرة، ونقدم الجماعة ونرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها‏.‏

ثم ذكر ما صنعوا بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع، وما بسط من العدل ونشر من الفضل، وما أقامه من الخطب العباسية ببلاد مصر واليمن والنوبة وإفريقية، وغير ذلك بكلام بسيط حسن‏.‏

فلما وصلهم الكتاب أساؤوا الجواب، وقد كانوا كاتبوا صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي نور الدين محمود بن زنكي، فبعث إليهم أخاه عز الدين في عساكره، وأقبل إليهم في دساكره، وانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا حماه في غيبة الناصر واشتغاله بقلعة حمص وعمارتها، فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش، فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة، فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه، وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه، حتى قال لهم في جملة ما قال‏:‏ أنا اقنع بدمشق وحدها وأقيم بها الخطبة للملك الصالح إسماعيل، وأترك ما عداها من أرض الشام‏.‏

فامتنع من المصالحة الخادم سعد الدولة كمشتكين، إلا أن يجعل لهم الرحبة التي هي بيد ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين، فقال‏:‏ ليس لي ذلك، ولا أقدر عليه‏.‏

فأبوا الصلح وأقدموا على القتال، فجعل جيشه كردوساً واحداً، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من رمضان عند قرون حماه، وصبر صبراً عظيماً، وجاء في أثناء الحال ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخ شاه في طائفة من الجيش، وقد ترجح دسته عليهم، وخلص رعبه إليهم، فولوا هنالك هاربين، وتولوا منهزمين، فأسر من أسر من رؤسهم، ونادى أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح‏.‏

ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى حلب، وقد انعكس عليهم الحال وآلوا إلى شر مآل فبالأمس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة، وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع، على أن المعرة وكفر طاب وماردين له زيادة على ما بيده من أراضي حماه وحمص، فقبل ذلك وكف عنهم وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح، وأن يدعو له على سائر منابر بلاده، وشفع في بني الداية أخوه مجد الدين، على أن يخرجوا، ففعل ذلك ثم رجع مؤيداً منصوراً‏.‏

فلما كان بحماه وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالخلع السنية والتشريفات العباسية والأعلام السود، والتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام، وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأعوانه، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

واستناب على حماه ابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود، ثم سار إلى حمص فأطلقها إلى ابن عمه ناصر الدين، كما كانت من قبله لأبيه شيركوه أسد الدين، ثم بعلبك على البقاع إلى دمشق في ذي القعدة‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر رجل من قرية مشغرا من معاملة دمشق وكان مغربياً فادعى النبوة، وأظهر شيئاً من المخاريق والمحاييل والشعبذة والأبواب النارنجية، فافتتن به طوائف من الهمج والعوام، فتطلبه السلطان فهرب إلى معاملة حلب، فألف عليه كل مقطوع الذنب، وأضل خلقاً من الفلاحين، وتزوج امرأة أحبها، وكانت من أهل تلك البطائح فعلمها أن ادعت النبوة، فأشبها قصة مسيلمة وسجاح‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ هرب وزير الخليفة ونهبت داره‏.‏

وفيها‏:‏ درس أبو الفرج بن الجوزي بمدرسة أنشئت للحنابلة فحضر عنده قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني والفقهاء والكبراء، وكان يوماً مشهوداً، وخلعت عليه خلعة سنية‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 روح بن أحمد

أبو طالب الحدثني قاضي القضاة ببغداد في بعض الأحيان، وكان ابنه في أرض الحجاز، فلما بلغه موت أبيه مرض بعده فمات بعد أيام، وكان ينبذ بالرفض‏.‏

 شملة التركماني

كان قد تغلب على بلاد فارس، واستحدث قلاعاً وتغلب على السلجوقية، وانتظم له الدست نحواً من عشرين سنة، ثم حاربه بعض التركمان فقتلوه‏.‏

قيماز بن عبد الله

قطب الدين المستنجدي، وزر للخليفة المستضيء، وكان مقدماً على العساكر كلها، ثم خرج على الخليفة وقصد أن ينهب دار الخلافة، فصعد الخليفة فوق سطح في داره وأمر العامة بنهب دار قيماز، فنهبت وكان ذلك بإفتاء الفقهاء، فهرب فهلك هو ومن معه في المهامه والقفار‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة

فيها‏:‏ طلب الفرنج من السلطان صلاح الدين وهو مقيم بمرج الصفر أن يهادنهم فأجابهم إلى ذلك، لأن الشام كان مجدباً، وأرسل جيشه صحبة القاضي الفاضل إلى الديار المصرية ليستغلوا المغل ثم يقبلوا، وعزم هو على المقام بالشام، واعتمد على كاتبه العماد عوضاً عن القاضي، ولم يكن أحد أعز عليه منه‏:‏ ‏

وما عن رضى كانت سليمى بديلة * ولكنها للضرورات أحكام

وكانت إقامة السلطان بالشام وإرسال الجيش صحبة القاضي الفاضل غاية الحزم والتدبير ليحفظ ما استجد من الممالك خوفاً عليه مما هنالك، فلما أرسل الجيوش إلى مصر وبقي هو في طائفة يسيرة والله قد تكفل له بالنصر، كتب صاحب الموصل سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين إلى جماعة الحلبيين يلومهم على ما وقع بينهم وبين الناصر من المصالحة، وقد كان إذ ذاك مشغولاً بمحاربة أخيه ومحاصرته، وهو عماد الدين زنكي بسنجار، وليست هذه بفعلة صالحة، وما كان سبب قتاله لأخيه إلا لكونه أبى طاعة الملك الناصر، فاصطلح مع أخيه حين عرف قوة الناصر وناصريه، ثم حرض الحلبيين على نقض العهود ونبذها إليه، فأرسلوا إليه بالعهود التي عاهدوه عليها ودعوه إليها، فاستعان عليهم بالله وأرسل إلى الجيوش المصرية ليقدموا عليه‏.‏

فأقبل صاحب الموصل بعساكره ودساكره، واجتمع بابن عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وسار في عشرين ألف مقاتل على الخيول المضمرة الجرد الأبابيل، وسار نحوهم الناصر وهو كالهزبر الكاسر، وإنما معه ألف فارس من الحماة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ولكن الجيوش المصرية قد خرجوا إليه قاصدين، وله ناصرين في جحافل كالجبال‏.‏

فاجتمع الفريقان وتداعوا إلى النزال، وذلك في يوم الخميس العاشر من شوال فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى حمل الملك الناصر بنفسه الكريمة، وكانت بإذن الله الهزيمة، فقتلوا خلقاً من الحلبيين والمواصلة، وأخذوا مضارب الملك سيف الدين غازي وحواصله، وأسروا جماعة من رؤسهم فأطلقهم الناصر بعد ما أفاض الخلع على أبدانهم ورؤسهم، وقد كانوا استعانوا بجماعة من الفرنج في حال القتال، وهذا ليس من أفعال الأبطال، وقد وجد السلطان في مخيم السلطان غازي سبتاً من الأقفاص التي فيها الطيور المطربة، وذلك في مجلس شرابه المسكر، وكيف من هذا حاله ومسلكه ينتصر ‏؟‏

فأمر السلطان بردها عليه وتسييرها إليه، وقال للرسول‏:‏ قل له بعد وصولك إليه وسلامك عليه‏:‏ اشتغالك بهذه الطيور أحب إليك مما وقعت فيه من المحذور‏.‏

وغنم منهم شيئاً كثيراً ففرقه على أصحابه غيباً وحضوراً، وأنعم بخيمة سيف الدين غازي على ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن نجم الدين، ورد ما كان في وطاقه من الجواري والمغنيات، وقد كان معه أكثر من مائة مغنية، ورد آلات اللهو واللعب إلى حلب، وقال‏:‏ قولوا لهم هذه أحب إليكم من الركوع والسجود‏.‏

ووجد عسكر المواصلة كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والملاهي، وهذه سبيل كل فاسق ساه لاهي‏.‏ ‏

 

 فصل

فلما رجعت الجيوش إلى حلب وقد انقلبوا شر منقلب، وندموا على ما نقضوا من الإيمان، وشقهم العصا على السلطان، حصنوا البلد، خوفاً من الأسد، وأسرع صاحب الموصل فوصلها، وما صدق حتى دخلها، فلما فرغ الناصر مما غنم أسرع المسير إلى حلب وهو في غاية القوة، فوجدهم قد حصنوها‏.‏

فقال‏:‏ المصلحة أن نبادر إلى فتح الحصون التي حول البلد، ثم نعود إليهم فلا يمتنع علينا منهم أحد‏.‏

فشرع يفتحها حصناً حصناً، ويهدم أركان دولتهم ركناً ركناً، ففتح مراغة ومنبج ثم سار إلى إعزاز فأرسل الحلبيون إلى سنان فأرسل جماعة لقتل السلطان، فدخل جماعة منهم في جيشه في زي الجند فقاتلوا أشد القتال، حتى اختلطوا بهم فوجدوا ذات يوم فرصة والسلطان ظاهر للناس فحمل عليه واحد منهم فضربه بسكين على رأسه فإذا هو محترس منهم باللأمة، فسلمه الله، غير أن السكين مرت على خده فجرحته جرحاً هيناً، ثم أخذ الفداوي رأس السلطان فوضعه إلى الأرض ليذبحه، ومن حوله قد أخذتهم دهشة، ثم ثاب إليهم عقلهم فبادروا إلى الفداوي فقتلوه وقطعوه، ثم هجم عليه آخر في الساعة الراهنة فقتل، ثم هجم آخر على بعض الأمراء فقتل أيضاً، ثم هرب الرابع فأدرك فقتل، وبطل القتال ذلك اليوم‏.‏

ثم صمم السلطان على البلد ففتحها وأقطعها ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وقد اشتد حنقه على أهل حلب، لما أرسلوا إليه من الفداوية وإقدامهم على ذلك منه، فجاء فنزل تجاه البلد على جبل جوشن، وضربت خيمته على رأس الباروقية، وذلك في خامس عشر ذي الحجة، وجبى الأموال وأخذ الخراج من القرى، ومنع أن يدخل البلد شيء أو يخرج منه أحد، واستمر محاصراً لها حتى انسلخت السنة‏.‏

وفي ذي الحجة من هذه السنة عاد نور الدولة أخو السلطان من بلاد اليمن إلى أخيه شوقاً إليه، وقد حصل أموالاً جزيلة، ففرح به السلطان، فلما اجتمعا قال السلطان البر التقي‏:‏ ‏{‏أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏، وقد استناب على بلاد اليمن من ذوي قرابته، فلما استقر عند أخيه استنابه على دمشق وأعمالها، وقيل‏:‏ إن قدومه كان قبل وقعة المواصلة، وكان من أكبر أسباب الفتح والنصر، لشجاعته وفروسيته‏.‏

وفيها‏:‏ أنقذ تقي الدين عمر بن أخي الناصر مملوكه بهاء الدين قراقوش في جيشه إلى بلاد المغرب، ففتح بلاداً كثيرة، وغنم أموالاً جزيلة، ثم عاد إلى مصر‏.‏

وفيها‏:‏ قدم إلى دمشق أبو الفتوح الواعظ عبد السلام بن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي الأصل، البغدادي المنشأ، ذكره العماد في ‏(‏الخريدة‏)‏‏.‏ ‏

قال‏:‏ وكان صاحبي، وجلس للوعظ وحضر عنده السلطان صلاح الدين، وأورد له مقطعات أشعار، فمن ذلك ما كان يقول‏:‏

يا مالكاً مهجتي يا منتهى أملي * يا حاضراً شاهداً في القلب والفكر

خلقتني من تراب أنت خالقه * حتى إذا صرت تمثالاً من الصور

أجريت في قالبي رحاً منورة * تمر فيه كجري الماء في الشجر

جمعتني من صفا روح منورة * وهيكل صغته من معدن كدر

إن غبت فيك فيا فخري ويا شرفي * وإن حضرت فيا سمعي ويا بصري

أو احتجبت فسرى فيك في وله * وإن خطرت فقلبي منك في خطر

تبدو فتمحو رسومي ثم تثبتها * وإن تغيب عني عشت بالأثر

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحافظ أبو القاسم ابن عساكر

علي بن الحسن بن هبة الله

ابن عساكر أبو القاسم الدمشقي، أحد أكابر حفاظ الحديث، ومن عني به سماعاً وجمعاً وتصنيفاً واطلاعاً وحفظاً لأسانيده ومتونه، وإتقاناً لأساليبه وفنونه، صنف ‏(‏تاريخ الشام‏)‏ في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلدة، وقد ندر على من تقدمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله، وحكم بأنه فريد دهره، في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ، هذا مع ماله في علوم الحديث من الكتب المفيدة، وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائق الحميدة، فله ‏(‏أطراف الكتب الستة‏)‏، و‏(‏الشيوخ النبل‏)‏، و‏(‏تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري‏)‏، وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار، والأجزاء والأسفار‏.‏

و قد أكثر في طلب الحديث من الترحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الحفاظ نسخاً واستنساخاً، ومقابلة وتصحيح الألفاظ، وكان من أكابر سروات الدماشقة، ورياسته فيهم عالية باسقة، من ذوي الأقدار والهيئات، والأموال الجزيلة، والصلاة والهبات‏.‏

كانت وفاته في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته، ودفن بمقابر باب الصغير، رحمه الله تعالى‏.‏

وكان الذي صلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله أشعار كثيرة منها‏:‏

أيا نفس ويحك جاء المشيب * فماذا التصابي وماذا الغزل

تولى شبابي كأن لم يكن * وجاء المشيب كأن لم يزل

كأني بنفسي على غرة * وخطب المنون بها قد نزل

فيا ليت شعري ممن أكون * وما قدر الله لي في الأزل

قال‏:‏ وقد التزم فيها بما لم يلزم وهو الزاي مع اللام‏.‏

قال‏:‏ وكان أخوه صائن الدين هبة الله بن الحسن محدثاً فقيهاً، اشتغل ببغداد على أسعد الميهني، ثم قدم دمشق فدرس بالغزالية، وتوفي بها عن ثلاث وستين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والناصر محاصر حلب، فسألوه وتوسلوا إليه أن يصالحهم فصالحهم على أن تكون حلب وأعمالها للملك الصالح فقط، فكتبوا بذلك الكتاب، فلما كان المساء بعث السلطان الصالح إسماعيل يطلب منه زيادة قلعة إعزاز، وأرسل بأخت له صغيرة وهي الخاتون بنت نور الدين ليكون ذلك أدعى له بقبول السؤال، وأنجع في حصول النوال‏.‏

فحين رآها السلطان قام قائماً، وقبّل الأرض وأجابها إلى سؤالها، وأطلق لها من الجواهر والتحف شيئاً كثيراً، ثم ترحل عن حلب فقصد الفداوية الذين اعتدوا عليه فحاصر حصنهم مصبات فقتل وسبى وحرق وأخذ أبقارهم وخرب ديارهم، ثم شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تتش صاحب حماه، لأنهم جيرانه، فقبل شفاعته، وأحضر إليه نائب بعلبك الأمير شمس الدين محمد بن الملك مقدم، الذي كان نائب دمشق، جماعة من أسارى الفرنج الذين عاثوا في البقاع في غيبته، فجدد ذلك له الغزو في الفرنج، فصالح الفداوية الإسماعيلية أصحاب سنان، ثم كر راجعاً إلى دمشق فتلقاه أخوه شمس الدولة توران شاه، فلقبه الملك المعظم، وعزم الناصر على دخول مصر‏.‏

وكان القاضي كمال الدين محمد الشهرزوري قد توفي في السادس من المحرم من هذه السنة، وقد كان من خيار القضاة وأخص الناس بنور الدين الشهيد، فوض إليه نظر الجامع ودار الضرب وعمارة الأسوار والنظر في المصالح العامة‏.‏

ولما حضرته الوفاة أوصى بالقضاء لابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري، ومع أنه كان يجد عليه، لما كان بينه وبينه حين كان صلاح الدين سجنه بدمشق، وكان يعاكسه ويخالفه، ومع هذا أمضى وصيته لابن أخيه، فجلس في مجلس القضاء على عادة عمه وقاعدته، وبقي في نفس السلطان من تولية شرف الدين أبي سعيد عبد الله بن أبي عصرون الحلبي، وكان قد هاجر إلى السلطان إلى دمشق فوعده أن يوليه قضاءها، وأسر بذلك إلى القاضي الفاضل، فأشار الفاضل على الضياء أن يستعفي من القضاء فاستعفى فأعفي، وترك له وكالة بيت المال‏.‏ ‏

وولى السلطان ابن أبي عصرون على أن يستنيب القاضي محيي الدين أبي المعالي محمد بن زكي الدين، ففعل ذلك، ثم بعد ذلك استقل بالحكم محيي الدين أبو حامد بن أبي عصرون عوضاً عن أبيه شرف الدين، بسبب ضعف بصره‏.‏

وفي صفر منها وقف السلطان الناصر قرية حزم على الزاوية الغزالية، ومن يشتغل بها بالعلوم الشرعية، وما يحتاج إليه الفقيه، وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري مدرسها‏.‏

وفي هذا الشهر تزوج السلطان الملك الناصر بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر، وكانت زوجة نور الدين محمود، وكانت مقيمة بالقلعة، وولي تزويجها منه أخوها الأمير سعد الدين بن أنر، وحضر القاضي ابن عصرون العقد ومن معه من العدول، وبات الناصر عندها تلك الليلة والتي بعدها، ثم سافر إلى مصر بعد يومين، ركب يوم الجمعة قبل الصلاة فنزل مرج الصفر، ثم سافر فعشا قريباً من الصفين، ثم سار فدخل مصر يوم السبت سادس عشر ربيع الأول من هذه السنة، وتلقاه أخوه ونائبه عليها الملك العادل سيف الدين أبو بكر إلى عند بحر القلزم، ومعه من الهدايا شيء كثير من المآكل المتنوعة وغيرها‏.‏

وكان في صحبة السلطان العماد الكاتب، ولم يكن ورد الديار المصرية قبل ذلك، فجعل يذكر محاسنها وما اختصت به من بين البلدان، وذكر الأهرام وشبههما بأنواع من التشبيهات، وبالغ في ذلك حسب ما ذكر في ‏(‏الروضتين‏)‏‏.‏

وفي شعبان منها ركب الناصر إلى الإسكندرية فأسمع ولديه الفاضل علي والعزيز عثمان على الحافظ السلفي، وتردد بهما إليه ثلاثة أيام الخميس والجمعة والسبت رابع رمضان، وعزم الناصر على تمام الصيام بها، وقد كمل عمارة السور على البلد، وأمر بتجديد الأسطول وإصلاح مراكبه وسفنه وشحنه بالمقاتلة وأمرهم بغزو جزائر البحر، وأقطعهم الإقطاعات الجزيلة على ذلك، وأرصد للأسطول من بيت المال ما يكفيه لجميع شؤونه‏.‏

ثم عاد إلى القاهرة في أثناء رمضان فأكمل صومه‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الناصر ببناء مدرسة للشافعية على قبر الشافعي، وجعل الشيخ نجم الدين الخبوشاني مدرسها وناظرها‏.‏

وفيها‏:‏ أمر ببناء المارستان بالقاهرة ووقف عليه وقوفاً كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ بنى الأمير مجاهد الدين قيماز نائب قلعة الموصل جامعاً حسناً ورباطاً ومدرسة ومارستاناً متجاورات بظاهر الموصل، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمس وتسعين وخمسمائة رحمه الله‏.‏

وله عدة مدارس وخوانقات وجوامع غير ما ذكرنا، وكان ديناً خيراً فاضلاً حنفي المذهب، يذاكر في الأدب والأشعار والفقه، كثير الصيام وقيام الليل‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الخليفة بإخراج المجذومين من بغداد لناحية منها ليتميزوا عن أهل العافية، نسأل الله العافية‏.‏

وذكر ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏ عن امرأة قالت‏:‏ كنت أمشي في الطريق وكأن رجلاً يعارضني كلما مررت به، فقلت له‏:‏ إنه لا سبيل إلى هذا الذي ترومه مني إلا بكتاب وشهود‏.‏

فتزوجني عند الحاكم، فمكثت معه مدة ثم اعتراه انتفاخ ببطنه فكنا نظن أنه استسقاء فنداويه لذلك، فلما كان بعد مدة ولد ولداً كما تلد النساء، وإذا هو خنثى مشكل، وهذا من أغرب الأشياء‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 علي بن عساكر

ابن المرحب بن العوام أبو الحسن البطائحي المقري، اللغوي، سمع الحديث وأسمعه، وكان حسن المعرفة بالنحو واللغة، ووقف كتبه بمسجد ابن جرارة ببغداد، توفي في شعبان وقد نيف على الثمانين‏.‏

 محمد بن عبد الله

ابن القاسم أبو الفضل، قاضي القضاة بدمشق، كمال الدين الشهرزوري، الموصلي، وله بها مدرسة على الشافعية، وأخرى بنصيبين، وكان فاضلاً ديناً أميناً ثقة، ولي القضاء بدمشق لنور الدين الشهيد محمود بن زنكي، واستوزره أيضاً فيما حكاه ابن الساعي‏.‏

قال‏:‏ وكان يبعثه في الرسائل، كتب مرة على قصة إلى الخليفة المقتفي‏:‏ محمد بن عبد الله الرسول‏.‏

فكتب الخليفة تحت ذلك ‏(‏ص‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد فوض إليه نور الدين نظر الجامع ودار الضرب والأسوار، وعمر له المارستان والمدارس وغير ذلك، وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة بدمشق‏.‏

 الخطيب شمس الدين

ابن الوزير أبو الضياء خطيب الديار المصرية، وابن وزيرها، كان أول من خطب بديار مصر للخليفة المستضيء بأمر الله العباسي، بأمر الملك صلاح الدين، ثم حظي عنده حتى جعله سفيراً بينه وبين الملوك والخلفاء، وكان رئيساً مطاعاً كريماً ممدحاً، يقرأ عليه الشعراء والأدباء‏.‏

ثم جعل الناصر مكانه الشهرزوري المتقدم بمرسوم السلطان، وصارت وظيفة مقررة‏.

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

فيها‏:‏ أمر الملك الناصر ببناء قلعة الجبل وإحاطة السور على القاهرة ومصر، فعمر قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها، وولى عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة الرملة على المسلمين، وفي جمادى الأولى منها سار السلطان الناصر صلاح الدين من مصر قاصداً غزو الفرنج، فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وغنم، ثم تشاغل جيشه بالغنائم وتفرقوا في القرى والمحال، وبقي هو في طائفة من الجيش منفرداً، فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة فما سلم إلا بعد جهد جهيد، ثم تراجع الجيش إليه واجتمعوا عليه بعد أيام، ووقعت الأراجيف في الناس بسبب ذلك، وما صدق أهل مصر حتى نظروا إليه وصار الأمر كما قيل‏:‏ رضيت من الغنيمة بالإياب *

ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحاً بسلامة السلطان، ولم تجر هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين، وذلك يوم حطين، وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتاً عظيماً، وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر بن أخي السلطان ولده شاهنشاه، فبقي عندهم سبع سنين، وقتل ابنه الآخر، وكان شاباً قد طرّ شاربه، فحزن على المقتول والمفقود، وصبر تأسياً بأيوب، وناح كما ناح داود، وأسر الفقيهان الأخوان ضياء الدين عيسى وظهير الدين فافتداهما السلطان بعد سنتين بتسعين ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ تخبطت دولة حلب وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين، وألزمه بتسليم قلعة حارم، وكانت له، فأبى من ذلك فعلقه منكوساً ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته‏.‏

وفيها‏:‏ جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يروم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه ببلدانهم‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه أنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه، فإذا انصرف عنهم عادت الهدنة كما كانت‏.‏

فقصد هذا الملك وجملة الفرنج مدينة حماه وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض، ونائب دمشق ومن معه من الأمراء مشغولون ببلدانهم، فكادوا يأخذون البلد ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام، فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب، وقد دفع إليهم من الأموال والأسرى ما طلبوه منه‏.‏

وتوفي صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان الناصر، وتوفي قبله ولده تتش بثلاثة أيام، ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من مصر قاصداً بلاد الشام، فدخل دمشق في رابع عشر شوال، وصحبته العماد الكاتب، وتأخر القاضي الفاضل بمصر لأجل الحج‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ جاء كتاب القاضي الفاضل الناصر يهنئه بوجود مولود وهو أبو سليمان داود، وبه كمل له اثني عشر ذكراً، وقد ولد له بعده عدة أولاد ذكور، فإنه توفي عن سبعة عشر ذكراً وابنة صغيرة اسمها مؤنسة، التي تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد، بسبب أن مؤذناً أذن عند كنيسة فنال منه بعض اليهود بكلام أغلظ له فيه، فشتمه المسلم فاقتتلا، فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان، فتفاقم الحال، وكثرت العوام، وأكثروا الضجيج‏.‏

فلما حان وقت الجمعة منعت العامة الخطباء في بعض الجوامع، وخرجوا من فورهم فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود، وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها، ولم يتمكن الشرط من ردهم، فأمر الخليفة بصلب بعض العامة، فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا، فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة، فسكن الناس‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الوزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصداً الحج، وخرج الناس في خدمته ليودعوه فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص، فتقدم أحدهم ليناوله قصة فاعتنقه وضربه بالسكين ضربات، وهجم الثاني وكذلك الثالث عليه فهبروه وجرحوا جماعة حوله، وقتل الثلاثة من فورهم، ورجع الوزير إلى منزله محمولاً فمات من يومه‏.‏

وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما، فسلط الله عليه من قتله، وكما تدين تدان، جزاء وفاقاً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 صدقة بن الحسين

أبو الفرج الحداد، قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه وأفتى، وقال الشعر وقال في الكلام، وله تاريخ ذيل على شيخه ابن الزاغوني، وفيه غرائب وعجائب‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ كان شيخاً عالماً فاضلاً، وكان فقيراً يأكل من أجرة النسخ، وكان يأوي إلى مسجد ببغداد عند البدرية يؤم فيه، وكان يعتب على الزمان وبنيه، ورأيت ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏ يذمه ويرميه بالعظائم، وأورد له من أشعاره ما فيه مشابهة لابن الراوندي في الزندقة، فالله أعلم‏.‏

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وسبعين سنة، ودفن بباب حرب، ورؤيت له منامات غير صالحة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏‏

 محمد بن أسعد بن محمد

أبو منصور العطار، المعروف بحفدة، سمع الكثير وتفقه وناظر وأفتى ودرس وقدم بغداد فمات بها‏.‏

محمود بن تتش شهاب الدين الحارمي

خال السلطان صلاح الدين، كان من خيار الأمراء وشجعانهم، أقطعه ابن أخته حماه، وقد حاصره الفرنج وهو مريض فأخذوا حماه وقتلوا بعض أهلها، ثم تناخى أهلها فردوهم خائبين‏.‏

 فاطمة بنت نصر العطار

كانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، كانت من العابدات المتورعات المخدرات، يقال‏:‏ إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة

فيها‏:‏ ورد كتاب من القاضي الفاضل من مصر إلى الناصر وهو بالشام يهنيه بسلامة أولاده الملوك الاثني عشر، يقول‏:‏ وهم بحمد الله بهجة الحياة وزينتها، وريحانة القلوب والأرواح وزهرتها، إن فؤاداً وسع فراقهم لواسع، وإن قلباً قنع بأخبارهم لقانع، وإن طرفاً نام عن البعد عنهم لهاجع، وإن ملكاً ملك صبره عنهم لحازم، وإن نعمة الله بهم لنعمة بها العيش ناعم، أما يشتاق جيد المولى أن تطوق بدررهم‏؟‏ أما تظمأ عينه أن تروى بنظرهم‏؟‏ أما يحن قلبه للقيهم‏؟‏ أما يلتقط هذا الطائر بفتيلهم‏؟‏ وللمولى أبقاه الله أن يقول‏:‏

وما مثل هذا الشوق يحمل بعضه * ولكن قلبي في الهوى يتقلّب

وفيها‏:‏ أسقط صلاح الدين المكوس والضرائب عن الحجاج بمكة، وقد كان يؤخذ من حجاج الغرب شيء كثير، ومن عجز عن أدائه حبس فربما فاته الوقوف بعرفة، وعوض أمير مكة بمال أقطعه إياه بمصر، وأن يحمل إليه في كل سنة ثمانية آلاف أردب إلى مكة، ليكون عوناً له ولأتباعه، ورفقاً بالمجاورين، وقررت للمجاورين أيضاً غلات تحمل إليهم، رحمه الله‏.‏

وفيها‏:‏ عصى الأمير شمس الدين بن مقدم ببعلبك، ولم يجيء إلى خدمة السلطان، وهو نازل على حمص، وذلك أنه بلغه أن أخا السلطان توران شاه طلب بعلبك منه قأطلقها له، فامتنع ابن المقدم من الخروج منها حتى جاء السلطان بنفسه فحصره فيها من غير قتال، ثم عوض ابن المقدم عنه بتعويض كثير خير مما كان بيده، فخرج منها وتسلّمها وسلّمها توران شاه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وكان في هذه السنة غلاء شديد بسبب قلة المطر، عم العراق والشام وديار مصر، واستمر إلى سنة خمس وسبعين، فجاء المطر ورخصت الأسعار ثم عقب ذلك وباء شديد، وعم البلاد مرض آخر وهو السرسام، فما ارتفع إلا في سنة ست وسبعين، فمات بسبب ذلك خلق كثير، وأمم لا يعلم عددهم إلا الله‏.‏

وفي رمضان منها وصلت خلع الخليفة إلى الملك صلاح الدين وهو بدمشق، وزيد في ألقابه معز أمير المؤمنين، وخلع على أخيه توران شاه بمصطفى أمير المؤمنين‏.‏

وفيها‏:‏ جهز الناصر ابن أخيه فروخ شاه بن شاهنشاه بين يديه لقتال الفرنج الذين عاثوا في نواحي دمشق، فنهبوا ما حولها، وأمره أن يداريهم حتى يتوسطوا البلاد ولا يقاتلهم حتى يقدم عليه، فلما رأوه عاجلوه بالقتال فكسرهم وقتل من ملوكهم صاحب الناصرة الهنفري، وكان من أكابر ملوكهم وشجعانهم، لا ينهنه اللقاء، فكبته الله في هذه الغزوة، ثم ركب الناصر في إثر ابن أخيه فما وصل إلى الكسوة حتى تلقته الرؤوس على الرماح، والغنائم والأسارى‏.‏

وفيها‏:‏ بنت الفرنج قلعة عند بيت الأحزان للداوية فجعلوها مرصد لحرب المسلمين، وقطع طريقهم، ونقضت ملوكهم العهود التي كانت بينهم وبين صلاح الدين، وأغاروا على نواحي البلدان من كل جانب، ليشغلوا المسلمين عنهم، وتفرقت جيوشهم فلا تجتمع في بقعة واحدة، فرتب السلطان ابن أخيه عمر على حماه ومعه ابن مقدم وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنواحي البقاع وغيرها، وبثغر حمص ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه‏.‏ ‏

وبعث إلى أخيه الملك أبي بكر العادل نائبه بمصر أن يبعث إليه ألفاً وخمسمائة فارس يستعين بهم على قتال الفرنج، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بتخريب هذا الحصن الذي بنوه للداوية فامتنعوا إلا أن يبذل لهم ما غرموه عليه، فبذل لهم ستين ألف دينار فلم يقبلوا، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار، فقال له ابن أخيه تقي الدين عمر‏:‏ ابذل هذا إلى أجناد المسلمين وسر إلى هذا الحصن فخربه‏.‏

فأخذ بقوله في ذلك وخربه في السنة الآتية كما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الخليفة المستضيء بكتابة لوح على قبر الإمام أحمد بن حنبل، فيه آية الكرسي، وبعدها‏:‏ هذا قبر تاج السنة وحبر الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد، وذكروا تاريخ وفاته، رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ احتيط ببغداد على شاعر ينشد للروافض أشعاراً في ثلب الصحابة وسبهم، وتهجين من يحبهم، فعقد له مجلس بأمر الخليفة ثم استنطق فإذا هو رافضي خبيث داعية إليه، فأفتى الفقهاء بقطع لسانه ويديه، ففعل به ذلك‏.‏

ثم اختطفته العامة فما زالوا يرمونه بالآجر حتى ألقى نفسه في دجلة فاستخرجوه منها فقتلوه حتى مات، فأخذوا شريطاً وربطوه في رجله وجروه على وجهه حتى طافوا به البلد وجميع الأسواق، ثم ألقوه في بعض الأتونة مع الآجر والكلس، وعجز الشرط عن تخليصه منهم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أسعد بن بلدرك الجبريلي

سمع الحديث، وكان شيخاً ظريف المذاكرة جيد المبادرة، توفي عن مائة سنة وأربع سنين‏.‏

الحيص بيص

سعد بن محمد بن سعد، الملقب شهاب الدين، أبو الفوارس المعروف بحيص بيص، له ديوان شعر مشهور، توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلّي عليه بالنظامية، ودفن بباب التبن، ولم يعقب، ولم يكن له في المراسلات بديل، كان يتقعر فيها ويتفاصح جداً، فلا تواتيه إلا وهي معجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسئل أبوه عن ذلك فقال‏:‏ ما سمعته إلا منه‏.‏

فقال بعض الشعراء يهجوه فيما ادعاه من ذلك‏:‏ ‏

كم تبادي وكم تطيل طرطو * رك وما فيك شعرة من تميم

فكل الضـب وأرقرط الحنظل إليا * يس واشرب إن شئت بول الظليم

فليس ذا وجه من يضيف ولا يقـ * ـري ولا يدفع الأذى عن حريم

ومن شعر الحيص بيص الجيد‏:‏

سلامة المرء ساعة عجب * وكل شيءٍ لحتفه سبب

يفر والحادثات تطلبه * يفر منها ونحوها الهرب

وكيف يبقى على تقلبه * مسلماً من حياته العطب

ومن شعره أيضاً‏:‏

لا تلبس الدهر على غرة * فما لموت الحي من بد

ولا يخادعك طول البقا * فتحسب التطويل من خلد

يقرب ما كان آخراً * ما أقرب المهد من اللحد

ويقرب من هذا ما ذكره صاحب ‏(‏العقد‏)‏ أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي في عقده‏:‏

ألا إنما الدنيا غضارة أيكةٍ * إذا اخضر منها جانب جف جانب

وما الدهر والآمال إلا فجائع * عليها وما اللذات إلا مصائب

فلا تكتحل عيناك منها بعبرةٍ * على ذاهب منها فإنك ذاهب

وقد ذكر أبو سعد السمعاني حيص بيص هذا في ذيله وأثنى عليه، وسمع عليه ديوانه ورسائله‏.‏

وأثنى على رسائله القاضي ابن خلكان، وقال‏:‏ كان فيه تيه وتعاظم، ولا يتكلم إلا معرباً، وكان فقيهاً شافعي المذهب، واشتغل بالخلاف وعلم النظر، ثم تشاغل عن ذلك كله بالشعر، وكان من أخبر الناس بأشعار العرب، واختلاف لغاتهم‏.‏

قال‏:‏ وإنما قيل له الحيص بيص، لأنه رأى الناس في حركة واختلاط، فقال‏:‏ ما للناس في حيص بيص، أي‏:‏ في شر وهرج‏.‏

فغلب عليه هذه الكلمة، وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي طبيب العرب، ولم يترك عقباً‏.‏

كانت له حوالة بالحلة فذهب يتقاضاها فتوفي ببغداد في هذه السنة‏.‏

 محمد بن نسيم

أبو عبد الله الخياط، عتيق الرئيس أبي الفضل بن عبسون، سمع الحديث وقارب الثمانين، سقط من درجة فمات‏.‏

قال‏:‏ أنشدني مولى الدين، يعني‏:‏ ابن علام الحكيم بن عبسون‏:‏

للقارئ المحزون أجدر بالتقى * من راهب في ديره متقوس

ومراقب الأفلاك كانت نفسه * بعبادة الرحمن أحرى الأنفس

والماسح الأرضين وهي فسيحة * أولى بمسح في أكف اللمس

أولى بخشية ربه من جاهلٍ * بمثلثٍ ومربعٍ ومخمس

 

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة

وفيها‏:‏ كانت وقعة مرج عيون، استهلت هذه السنة والسلطان صلاح الدين الناصر نازل بجيشه على تل القاضي ببانياس، ثم قصده الفرنج بجمعهم فنهض إليهم فما هو إلا أن التقى الفريقان واصطدم الجندان، فأنزل الله نصره وأعز جنده، فولت ألوية الصلبان ذاهبة وخيل الله لركابهم راكبة، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من ملوكهم جماعة، وأنابوا إلى السمع والطاعة، منهم مقدم الداوية ومقدم الابسباتارية وصاحب الرملة وصاحب طبرية وقسطلان يافا وآخرون من ملوكهم، وخلق من شجعانهم وأبطالهم، ومن فرسان القدس جماعة كثيرون تقريباً من ثلاثمائة أسير من أشرافهم، فصاروا يهانون في القيود‏.‏

قال العماد‏:‏ فاستعرضهم السلطان في الليل حتى أضاء الفجر، وصلى يومئذ الصبح بوضوء العشاء، وكان جالساً ليلتئذ في نحو العشرين والفرنج كثير، فسلمه الله منهم، ثم أرسلهم إلى دمشق ليعتقلوا بقلعتها، فافتدى ابن البارزاني صاحب الرملة نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، وإطلاق ألف أسير من بلاده، فأجيب إلى ذلك، وافتدى جماعة منهم أنفسهم بأموال جزيلة، ومنهم من مات في السجن‏.‏

واتفق أنه في اليوم الذي ظفر فيه السلطان بالفرنج بمرج عيون، ظهر أسطول المسلمين على بطشه للفرنج في البحر وأخرى معها فغنموا منها ألف رأس من السبي، وعاد إلى الساحل مؤيداً منصوراً، وقد امتدح الشعراء السلطان في هذه الغزوة بمدائح كثيرة، وكتب بذلك إلى بغداد فدقت البشائر بها فرحاً وسروراً‏.‏

وكان الملك المظفر تقي الدين عمر غائباً عن هذه الوقعة مشتغلاً بما هو أعظم منها، وذلك أن ملك الروم فرارسلان بعث يطلب حصن رعنان، وزعم أن نور الدين اغتصبه منه، وأن ولده قد عصي، فلم يجبه إلى ذلك السلطان، فبعث صاحب الروم عشرين ألف مقاتل يحاصرونه، فأرسل السلطان تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس منهم سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، فالتقوا معهم فهزموهم بإذن الله‏.‏ ‏

واستقرت يد صلاح الدين على حصن رعنان، وقد كان مما عوض به ابن المقدم عن بعلبك، وكان تقي الدين عمر يفتخر بهذه الوقعة ويرى أنه قد هزم عشرين ألفاً، وقيل‏:‏ ثلاثين ألفاً بثمانمائة، وكان السبب في ذلك أنه بيّتهم وأغار عليهم، فما لبثوا بل فروا منهزمين عن آخرهم، فأكثر فيهم القتل واستحوذ على جميع ما تركوه في خيامهم، ويقال‏:‏ إنه كسرهم يوم كسر السلطان الفرنج بمرج عيون، والله أعلم‏.‏

ذكر تخريب حصن الأحزان  وهو قريب من صفد‏

ثم ركب السلطان إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في العام الماضي وحفروا فيه بئراً وجعلوه لهم عيناً، وسلموه إلى الدواية، فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته، وألقى فيه النيران وخربه إلى الأساس، وغنم جميع ما فيه، فكان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ومن المأكل شيء كثير، وأخذ منه سبعمائة أسير فقتل بعضاً وأرسل إلى دمشق الباقي، ثم عاد إلى دمشق مؤيداً منصوراً، غير أنه مات من أمرائه عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار، وكانت أربعة عشر يوماً، ثم إن الناس زاروا مشهد يعقوب على عادتهم، وقد امتدحه الشعراء فقال بعضهم‏:‏

بحمدك أعطاف القنا قد تعطفت * وطرف الأعادي دون مجدك يطرف

شهاب هدى في ظلمة الليل ثاقب * وسيف إذا ما هزه الله مرهف

وقفت على حصن المحاض وإنه * لموقف حق لا يوازيه موقف

فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه * رجال كآساد الثرى وهي ترجف

وجرد سلهوب ودرع مضاعف * وأبيضٌ هندي ولدنٌ مهفهف

وما رجعت أعلامك البيض ساعة * إلا غدت أكبادها السود ترجف

كنائس أغياد صليب وبيعة * وشاد به دين حنيف ومصحف

صليب وعباد الصليب ومنزل * لنوالٍ قد غادرته وهو صفصف

أتسكن أوطان النبيين عصبة * تمين لدى أيمانها وهي تحلف

نصحتكم والنصح في الدين واجب * ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف

وقال آخر‏:‏

هلاك الفرنج أتى عاجلاً * وقد آن تكسير صلبانها

ولو لم يكن قد دنا حتفها * لما عمّرت بيت أحزانها

من كتاب كتبه القاضي الفاضل إلى بغداد في خراب هذا الحصن‏.‏

وقد قيس عرض حائطه فزاد على عشرة أذرع وقطعت له عظام الحجارة كل فص منها سبعة أذرع، إلى ما فوقها وما دونها، وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر، لا يستقر الحجر في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها، وفيما بين الحائطين حشو من الحجارة الضخمة الصم، أتوا بها من رؤوس الجبال الشم، وقد جعلت شعبيته بالكلس الذي إذا أحاطت بالحجر مازجه بمثل جسمه، ولا يستطيع الحديد أن يتعرض إلى هدمه‏.‏

وفيها‏:‏ أقطع صلاح الدين ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بعلبك‏.‏

وأغار فيها على صفت وأعمالها، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها، وكان فروخ شاه من الصناديد الأبطال‏.‏

وفيها‏:‏ حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر فقاسى في الطريق أهوالاً، ولقي ترحاً وتعباً وكلالاً، وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام، وكان ذلك العام في حقه أسهل من هذا العام‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى، ومات خلق كثير فيها من الورى، وسقط من رؤوس الجبال صخور كبار، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار، مع بعد ما بين الجبال من الأقطار‏.‏

وفيها‏:‏ أصاب الناس غلاء شديد وفناء شريد وجهد جهيد، فمات خلق كثير بهذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 وفاة المستضيء بأمر الله وشيء من ترجمته

كان ابتداء مرضه أواخر شوال فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها، ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دوراً كثيرة، وأموالاً جزيلة، فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء، وهو الخليفة الناصر لدين الله، وكان يوماً مشهوداً نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين، ومن حضر ذلك، عند ذكر اسمه على المنبر‏.‏

وكان مرضه بالحمى ابتدأ فيها يوم عيد الفطر، ولم يزل الأمر بتزايد به حتى استكمل في مرضه شهراً، ومات سلخ شوال، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً، وغسل وصلي عليه من الغد‏.‏

ودفن بدار النصر التي بناها، وذلك عن وصيته التي أوصاها، وترك ولدين أحدهما ولي عهده وهو عدة الدنيا والدين، أبو العباس أحمد الناصر لدين الله، والآخر أبو منصور هاشم وقد وزر له جماعة من الرؤساء، وكان من خيار الخلفاء آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مزيلاً عن الناس المكوسات والضرائب، مبطلاً للبدع والمعائب، وكان حليماً وقوراً كريماً، وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر‏.‏ ‏

 

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن علي

أبو إسحاق الفقيه الشافعي، المعروف بابن الفراء الأموي ثم البغدادي، كان فاضلاً مناظراً فصيحاً بليغاً شاعراً، توفي عن أربع وسبعين سنة، وصلى عليه أبو الحسن القزويني مدرس النظامية‏.‏

 إسماعيل بن موهوب

ابن محمد بن أحمد الخضر أبو محمد الجواليقي، حجة الإسلام، أحد أئمة اللغة في زمانه والمشار إليه من بين أقرانه بحسن الدين وقوة اليقين، وعلم اللغة والنحو، وصدق اللهجة وخلوص النية، وحسن السيرة في مرباه ومنشاه ومنتهاه، سمع الحديث وسمع الأثر واتبع سبيله ومرماه، رحمه الله تعالى‏.‏

 المبارك بن علي بن الحسن

أبو محمد ابن الطباخ البغدادي، نزيل مكة ومجاورها، وحافظ الحديث بها والمشار إليه بالعلم فيها‏.‏

كان يوم جنازته يوماً مشهوداً‏.‏

 خلافة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء

لما توفي أبوه في سلخ شوال من سنة خمس وسبعين وخمسمائة، بايعه الأمراء والوزراء والكبراء والخاصة والعامة، وكان قد خطب له على المنابر في حياة أبيه قبل موته بيسير، فقيل‏:‏ إنه إنما عهد له قبل موته بيوم، وقيل‏:‏ بأسبوع، ولكن قدر الله أنه لم يختلف عليه اثنان بعد وفاة أبيه، ولقب بالناصر، ولم يل الخلافة من بني العباس قبله أطول مدة منه، فإنه مكث خليفة إلى سنة وفاته في ثلاث وعشرين وستمائة، وكان ذكياً شجاعاً مهيباً كما سيأتي ذكر سيرته عند وفاته‏.‏ ‏

وفي سابع ذي القعدة من هذه السنة عزل صاحب المخزن ظهير الدين أبو بكر بن العطار، وأهين غاية الإهانة، هو وأصحابه وقتل خلق منهم، وشهر في البلد، وتمكن أمر الخليفة الناصر وعظمت هيبته في البلاد، وقام قائم الخلافة في جميع الأمور‏.‏

ولما حضر عيد الأضحى أقيم على ما جرت به العادة، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة

فيها‏:‏ هادن السلطان صلاح الدين الفرنج وسار إلى بلاد الروم فأصلح بين ملوكها، من بني أرتق وكرّ على بلاد الأرمن فأقام عليها وفتح بعض حصونها، وأخذ منها غنائم كثيرة جداً، من أواني الفضة والذهب، لأن ملكها كان قد غدر بقوم من التركمان، فرده إلى بلاده ثم صالحه على مال يحمله إليه وأسارى يطلقهم من أسره، وآخرين يستنقذهم من أيدي الفرنج، ثم عاد مؤيداً منصوراً فدخل حماه في أواخر جمادى الآخرة، وامتدحه الشعراء على ذلك، ومات صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود، وكان شاباً حسناً مليح الشكل تام القامة، مدور اللحية، مكث في الملك عشر سنين، ومات عن ثلاثين سنة‏.‏

وكان عفيفاً في نفسه، مهيباً وقوراً، لا يلتفت إذا ركب وإذا جلس، وكان غيوراً لا يدع أحداً من الخدم الكبار يدخل على النساء، وكان لا يقدم على سفك الدماء، وكان ينسب إلى شيء من البخل، سامحه الله‏.‏

توفي في ثالث صفر، وكان قد عزم على أن يجعل الملك من بعده لولده عز الدين سنجرشاه، فلم يوافقه الأمراء خوفاً من صلاح الدين لصغر سنه، فاتفقوا كلهم على أخيه فأجلس مكانه في المملكة، وكان يقال له‏:‏ عز الدين مسعود، وجعل مجاهد الدين قايماز نائبه ومدبر مملكته‏.‏

وجاءت رسل الخليفة يلتمسون من صلاح الدين أن يبقي سروج والرها والرقة، وحران والخابور ونصيبين في يده كما كانت في يد أخيه، فامتنع السلطان من ذلك، وقال‏:‏ هذه البلاد هي حفظ ثغور المسلمين، وإنما تركتها في يده ليساعدنا على غزو الفرنج، فلم يفعل ذلك‏.‏

وكتب إلى الخليفة يعرفه أن المصلحة في ترك ذلك عوناً للمسلمين‏.‏

 وفاة السلطان توران شاه

فيها‏:‏ توفي السلطان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخي الملك صلاح الدين، وهو الذي افتتح بلاد اليمن عن أمر أخيه، فمكث فيها حيناً واقتنى منها أموالاً جزيلة، ثم استناب فيها، وأقبل إلى الشام شوقاً إلى أخيه، وقد كتب إليه في أثناء الطريق شعراً عمله له بعض الشعراء، يقال له‏:‏ ابن المنجم، وكانوا قد وصلوا إلى سما‏:‏ ‏

هل لأخي بل مالكي علم بالذي * إليه وإن طال التردد راجع

وإني بيوم واحد من لقائه * عليّ وإن عظم الموت بايع

ولم يبق إلا دون عشرين ليلةٍ * ويحيى اللقا أبصارنا والمسامع

إلى ملك تعنو الملوك إذا بدا * وتخشع إعظاماً له وهو خاشع

كتبت وأشواقي إليك ببعضها * تعلمت النوح الحمام السواجع

وما الملك إلا راحة أنت زندها * تضم على الدنيا ونحن الأصابع

وكان قدومه على أخيه سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فشهد معه مواقف مشهودة محمودة، واستنابه على دمشق مدة، ثم سار إلى مصر فاستنابه على الإسكندرية فلم توافقه، وكانت تعتريه القوالنج فمات في هذه السنة، ودفن بقصر الإمارة فيها‏.‏

ثم نقلته أخته ست الشام بنت أيوب فدفنته بتربتها التي بالشامية البرانية، فقبره القبلي، والوسطاني قبر زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، صاحب حماه والرحبة، والموخر قبرها، والتربة الحسامية منسوبة إلى ولدها حسام الدين عمر بن لاشين، وهي إلى جانب المدرسة من غربها‏.‏

وقد كان توران شاه هذا كريماً شجاعاً عظيم الهيبة كبير النفس، واسع النفقة والعطاء، قال فيه ابن سعدان الحلبي‏:‏

هو الملك إن تسمع بكسرى وقيصر * فإنهما في الجود والباس عبداه

وما حاتم ممن يقاس بمثله * فخذ ما رأيناه ودع ما رويناه

ولذ بعلاه مستجيراً فإنه * يجيرك من جور الزمان وعدواه

ولا تحمل للسحائب منه إذا * هطلت جوداً سحائب كفاه

فترسل كفاه بما اشتق منهما * فلليمن يمناه ولليسر يسراه

ولما بلغ موته أخاه صلاح الدين بن أيوب وهو مخيم بظاهر حمص، حزن عليه حزناً شديداً، وجعل ينشد باب المراثي من الحماسة وكانت محفوظة‏.‏

وفي رجب منها قدمت رسل الخليفة الناصر وخلع وهدايا إلى الناصر صلاح الدين، فلبس خلعة الخليفة بدمشق، وزينت له البلد، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي رجب أيضاً منها سار السلطان إلى مصر لينظر في أحوالها ويصوم بها رمضان، ومن عزمه أن يحج عامه ذلك، واستناب على الشام ابن أخيه عز الدين فروخ شاه، وكان عزيز المثل غزير الفضل‏.‏

فكتب القاضي الفاضل عن الملك العادل أبي بكر إلى أهل اليمن والبقيع ومكة يعلمهم بعزم السلطان الناصر على الحج، ومعه صدر الدين أبو القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ ببغداد، الذي قدم من جهة الخليفة في الرسالة، وجاء بالخلع ليكون في خدمته إلى الديار المصرية، وفي صحبته إلى الحجاز، فدخل السلطان مصر وتلقاه الجيش، وأما شيخ الشيوخ فإنه لم يقم بها إلا قليلاً حتى توجه إلى الحجاز في البحر، فأدرك الصيام في المسجد الحرام‏.‏

وفيها‏:‏ سار قراقوش التقوى إلى المغرب فحاصر بها فاس وقلاعاً كثيرة حولها، واستحوذ على أكثرها، واتفق له أنه أسر من بعض الحصون غلاماً أسود فأراد قتله، فقال له أهل الحصن‏:‏ لا تقتله وخذ لك ديته عشرة آلاف دينار‏.‏

فأبى فأوصله إلى مائة ألف، فأبى إلا قتله فقتله، فلما قتله نزل صاحب الحصن وهو شيخ كبير ومعه مفاتيح ذلك الحصن، فقال له‏:‏ خذ هذه فإني شيخ كبير، وإنما كنت أحفظه من أجل هذا الصبي الذي قتلته، ولي أولاد أخ أكره أن يملكوه بعدي‏.‏

فأقره فيه وأخذ منه أموالاً كثيرة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحافظ أبو طاهر السلفي

أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الحافظ الكبير المعمر، أبو طاهر السلفي الأصبهاني، وإنما قيل له‏:‏ السلفي، لجده إبراهيم سلفة، لأنه كان مشقوق إحدى الشفتين، وكان له ثلاث شفاه فسمته الأعاجم لذلك‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان يلقب بصدر الدين، وكان شافعي المذهب، ورد بغداد واشتغل بها على الكيا الهراسي، وأخذ اللغة عن الخطيب أبي زكريا‏.‏

يحيى بن علي التبريزي سمع الحديث الكثير، ورحل في طلبه إلى الآفاق ثم نزل ثغر الإسكندرية في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الخليفة الظافر مدرسة، وفوضها إليه، فهي معروفة به إلى الآن‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جداً، وكان مولده فيما ذكر المصريون سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة‏.‏

ونقل الحافظ عبد الغني عنه أنه قال‏:‏ أذكر مقتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ببغداد، وأنا ابن عشر تقريباً‏.‏

ونقل أبو القاسم الصفراوي أنه قال‏:‏ مولدي بالتخمين لا باليقين سنة ثمان وسبعين، فيكون مبلغ عمره ثمانياً وتسعين سنة، لأنه توفي ليلة الجمعة خامس ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بثغر الإسكندرية والله أعلم، ودفن بوعلة، وفيها جماعة من الصالحين‏.‏

وقد رجح ابن خلكان قول الصفراوي، قال‏:‏ ولم يبلغنا من ثلاثمائة أن أحداً جاوز المائة إلا القاضي أبا الطيب الطبري، وقد ترجمه ابن عساكر في ‏(‏تاريخه‏)‏ ترجمة حسنة، وإن كان قد مات قبله بخمس سنين، فذكر رحلته في طلب الحديث ودورانه في الأقاليم، وأنه كان يتصوف أولاً ثم أقام بثغر الإسكندرية وتزوج بامرأة ذات يسار، فحسنت حاله، وبنت عليه مدرسة هناك، وذكر طرفاً من أشعاره منها قوله‏:‏

أتأمن إلمام المنية بغتتةً * وأمن الفتى جهلٌ وقد خبر الدهرا

وليس يحابي الدهر في دورانه * أراذل أهليه ولا السادة الزهرا

وكيف وقد مات النبي وصحبه * وأزواجه طراً وفاطمة الزهرا

وله أيضاً‏:‏

يا قاصداً علم الحديث لدينه * إذ ضل عن طرق الهداية وهمه

إن العلوم كما علمت كثيرة * وأجلها فقه الحديث وعلمه

من كان طالبه وفيه تيقظ * فأتم سهمٍ في المعالي سهمه

لولا الحديث وأهله لم يستقم * دين النبي وشذ عنا حكمه

وإذا استراب بقولنا متحذلقٌ * ما كل فهم في البسيطة فهمه

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة

استهلت وصلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الحديث، وجاءه كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخ شاه يخبره فيه بما منّ الله به على الناس من ولادة النساء بالتوأم جبراً لما كان أصابهم من الوباء بالعام الماضي والفناء، وبأن الشام مخصبة بإذن الله لما كان أصابهم من الغلاء‏.‏

وفي شوال توجه الملك صلاح الدين إلى الإسكندرية لينظر من أمر به من تحصين سورها وعمارة أبراجها وقصورها، وسمع بها ‏(‏موطأ مالك‏)‏ على الشيخ أبي طاهر بن عوف، عن الطرطوشي، وسمع معه العماد الكاتب، وأرسل القاضي الفاضل رسالة إلى السلطان يهنئه بهذا السماع‏.‏

وفاة الملك الصالح بن نور الدين الشهيد صاحب حلب وماجرى بعده من الأمور

كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة بقلعة حلب، ودفن بها، وكان سبب وفاته فيما قيل‏:‏ أن الأمير علم الدين سليمان بن حيدر سقاه سماً في عنقود عنب في الصيد، وقيل‏:‏ بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات وهو شاب حسن الصورة، بهي المنظر، ولم يبلغ عشرين سنة‏.‏

وكان من أعف الملوك ومن أشبه أباه فما ظلم، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر فاستفتى الفقهاء في شربها تداوياً فأفتوه بذلك، فقال‏:‏ أيزيد شربها في أجلي أو ينقص منه تركها شيئاً ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فوالله لا أشربها وألقى الله وقد شربت ما حرمه عليّ‏.‏

ولما يئس من نفسه استدعا الأمراء فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، لقوة سلطانه وتمكنه، ليمنعها من صلاح الدين، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وهو زوج أخته وتربية والده، فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين فلما مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين، صاحب الموصل، فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة عظيمة، وكان يوماً مشهوداً، وذلك في العشرين من شعبان، فتسلم خزائنها وحواصلها، وما فيها من السلاح‏.‏

وكان تقي الدين عمه في مدينة منبج فهرب إلى حماه فوجد أهلها قد نادوا بشعار صاحب الموصل وأطمع الحلبيون مسعوداً بأخذ دمشق لغيبة صلاح الدين عنها، وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الأتابكي نور الدين، فقال لهم‏:‏ بيننا وبين صلاح الدين أيمان وعهود، وأنا لا أغدر به‏.‏

فأقام بحلب شهوراً وتزوج بأم الملك الصالح في شوال، ثم سار إلى الرقة فنزلها وجاءه رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب إلى سنجار، وألح عليه في ذلك، وتمنع أخوه ثم فعل على كرهٍ منه، فسلم إليه حلب وتسلم عز الدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج وغير ذلك من البلاد‏.‏

ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره فسار حتى أتى الفرات فعبرها، وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل، وتقهقر صاحب الموصل عن لقائه، واستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكمالها، وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق له ذلك، ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عماد الدين زنكي لضعفه عن ممانعتها، ولقلة ما ترك فيها عز الدين من الأسلحة وذلك في السنة الآتية‏.‏

وفيها‏:‏ عزم البرنس صاحب الكرك على قصد تيماء من أرض الحجاز، ليتوصل منها إلى المدينة النبوية، فجهز له صلاح الدين سرية من دمشق تكون حاجزة بينه وبين الحجاز، فصده ذلك عن قصده‏.‏

وفيها‏:‏ ولي السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب نيابة اليمن، وأرسله إليها، وذلك لاختلاف نوابها واضطراب أصحابها، بعد وفاة المعظم أخي السلطان، فسار إليها طغتكين فوصلها في سنة ثمان وسبعين، فسار فيها أحسن سيرة، واحتاط على أموال حطان بن منقذ صاحب زبيد، وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر‏.‏ ‏

وأما نائب عدن فخر الدين عثمان الزنجبيلي فإنه خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين فسكن الشام، وله أوقاف مشهورة باليمن ومكة، وإليه تنسب المدرسة الزنجبيلة، خارج باب توما، تجاه دار المطعم، وكان قد حصل من اليمن أموالاً عظيمة جداً‏.‏

وفيها‏:‏ غدرت الفرنج ونقضت عهودها، وقطعوا السبل على المسلمين براً وبحراً وسراً وجهراً، فأمكن الله من لطيشة عظيمة فيها نحو من ألفين وخمسمائة من مقاتلتهم المعدودين، ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة‏.‏

وفيها‏:‏ سار قراقوش إلى بلاد إفريقية ففتح بلاداً كثيرة، وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن صاحب المغرب، واستفحل أمره هناك، وقراقوش مملوك تقي الدين عمر بن أخي السلطان صلاح الدين، ثم عاد إلى مصر فأمره صلاح الدين أن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله بعد أن أناله الله بلوغ مناه، ففتح عليه بيت المقدس وما حوله، ولما خيم بارزاً، من مصر وأولاده حوله جعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم فأنشد بعضهم في ذلك‏:‏

تمتع من شميم عرار نجد * فما بعد العشية من عرار

وكان الأمر كما قال، لم يعد إلى مصر بعد هذا العام، بل كان مقامه بالشام‏.‏

وفيها‏:‏ ولد للسلطان ولدان أحدهما المعظم توران شاه، والملك المحسن أحمد، وكان بين ولادتهما سبعة أيام، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوماً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ كمال الدين أبو البركات

عبد الرحمن بن محمد بن أبي السعادات، عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الأنباري النحوي الفقيه العابد الزاهد، كان خشن العيش، ولا يقبل من أحد شيئاً، ولا من الخليفة، وكان يحضر نوبة الصوفية بدار الخلافة، ولا يقبل من جوائز الخليفة ولا فلسا، وكان مثابراً على الاشتغال، وله تصانيف مفيدة، توفي في شعبان من هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ له كتاب ‏(‏أسرار العربية‏)‏ مفيد جداً، و‏(‏طبقات النحاة‏)‏ مفيد جداً، وكتاب ‏(‏الميزان في النحو‏)‏ أيضاً، والله سبحانه أعلم‏.‏

 

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

في خامس محرمها كان بروز السلطان من مصر قاصداً دمشق لأجل الغزو والإحسان إلى الرعايا، وكان ذلك آخر عهده بمصر، وأغار بطريقه على بعض نواحي بلاد الإفرنج، وقد جعل أخاه تاج الملوك بوري بن أيوب على الميمنة، فالتقوا على الأرزق بعد سبعة أيام‏.‏ ‏

وقد أغار عز الدين فروخ شاه على بلاد طبرية، وافتتح حصوناً جيدة، وأسر منهم خلقاً واغتنم عشرين ألف رأس من الأنعام، ودخل الناصر دمشق سابع صفر، ثم خرج منها في العشر الأول من ربيع الأول، فاقتتل مع الفرنج في نواحي طبرية وبيسان تحت حصن كوكب، فقتل خلق من الفريقين، وكانت النصرة للمسلمين على الفرنج‏.‏

ثم رجع إلى دمشق مؤيداً منصوراً، ثم ركب قاصداً حلب وبلاد الشرق ليأخذها، وذلك أن المواصلة والحلبيين كاتبوا الفرنج على حرب المسلمين، فغارت الفرنج على بعض أطراف البلاد ليشغلوا الناصر عنهم بنفسه، فجاء إلى حلب فحاصرها ثلاثاً، ثم رأى العدول عنها إلى غيرها أولى، فسار حتى بلغ الفرات، واستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصيبين، وخضعت له الملوك، ثم عاد إلى حلب فتسلمها من صاحبها عماد الدين زنكي، فاستوثقت له الممالك شرقاً وغرباً، وتمكن حينئذ من قتال الفرنج‏.‏

 فصل

ولما عجز إبرنس الكرك عن إيصال الأذى إلى المسلمين في البر، عمل مراكب في بحر القلزم ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، فوصلت أذيتهم إلى عيذاب، وخاف أهل المدينة النبوية من شرهم، فأمر الملك العادل الأمير حسام الدين لؤلؤ صاحب الأسطول أن يعمل مراكبه في بحر القلزم ليحارب أصحاب الإبرنس، ففعل ذلك فظفر بهم في كل موطن، فقتلوا منهم وحرقوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة، ومواقف هائلة، وأمن البر والبحر بإذن الله تعالى، وأرسل الناصر إلى أخيه العادل ليشكر ذلك عن مساعيه، وأرسل إلى ديوان الخليفة يعرفهم بذلك‏.‏

 فصل في وفاة المنصور عز الدين

فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك ونائب دمشق لعمه الناصر، وهو والد الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك بعد أبيه، وإليه تنسب المدرسة الفروخ شاهية بالشرق الشمالي بدمشق، وإلى جانبها التربة الأمجدية لولده، وهما وقف على الحنفية والشافعية‏.‏

وقد كان فروخ شاه شجاعاً شهماً عاقلاً ذكياً كريماً ممدحاً، امتدحه الشعراء لفضله وجوده، وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي، عرفه من مجلس القاضي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسن إليه، وله وللعماد الكاتب فيه مدائح، وكان ابنه الأمجد شاعراً جيداً، ولاه عم أبيه صلاح الدين بعلبك بعد أبيه، واستمر فيها مدة طويلة‏.‏

ومن محاسن فروخ شاه صحبته لتاج الدين الكندي وله شعر رائق‏:‏

أنا في أسر السقام * و هو في هذا المقام

رشأ يرشق عينا * فؤادي بسهام

كلما أرشفني فا * ه على حرّ الأوام

ذقت منه الشـ * ـهد المصفى في المدام

وقد دخل يوماً الحمام فرأى رجلاً كان يعرفه من أصحاب الأموال، و قد نزل به الحال حتى إنه كان يستتر ببعض ثيابه لئلا تبدو عورته، فرق له وأمر غلامه أن ينقل بقجة وبساطاً إلى موضع الرجل، وأمره فأحضر ألف دينار وبغلة وتوقيعاً له في كل شهر بعشرين ألف دينار، فدخل الرجل الحمام فقيراً وخرج منه غنياً، فرحمة الله على الأجواد الجياد‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ أبو العباس

أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن الرفاعي، شيخ الطائفة الأحمدية الرفاعية البطائحية، لسكناه أم عبيدة من قرى البطائح، وهي بين البصرة وواسط، كان أصله من العرب فسكن هذه البلاد، والتف عليه خلق كثير‏.‏

يقال‏:‏ إنه حفظ ‏(‏التنبيه في الفقه‏)‏ على مذهب الشافعي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات، وهي حية، والدخول في النار في التنانير وهي تضطرم، ويلعبون بها وهي تشتعل، ويقال‏:‏ إنهم في بلادهم يركبون الأسود‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه قال‏:‏ وليس للشيخ أحمد عقب، وإنما النسل لأخيه وذريته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد‏.‏

وقال ومن شعره على ما قيل‏:‏

إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم * أنوح كما ناح الحمام المطوق

وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى * وتحتي بحار بالأسى تتدفق

سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها * تفك الأسارى دونه وهو موثق

فلا هو مقتول ففي القتل راحة * ولا هو ممنون عليه فيطلق

ومن شعره قوله‏:‏

أغار عليها من أبيها وأمها * ومن كل من يدنو إليها وينظر

وأحسد للمرآة أيضاً بكفها * إذا نظرت مثل الذي أنا أنظر

قال‏:‏ ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏ ‏

 خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال

أبو القاسم القرطبي الحافظ المحدث المؤرخ، صاحب التصانيف، له كتاب ‏(‏الصلة‏)‏ جعله ذيلاً على تاريخ أبي الوليد بن الفرضي، وله كتاب ‏(‏المستغيثين بالله‏)‏، وله مجلدة في تعيين الأسماء المبهمة على طريق الخطيب، وله أسماء من روى ‏(‏الموطأ‏)‏ على حروف المعجم، بلغوا ثلاثة وسبعين رجلاً، مات في رمضان عن أربع وثمانين سنة‏.‏

 العلامة قطب الدين أبو المعالي

مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، تفقه على محمد بن يحيى صاحب الغزالي، قدم دمشق ودرس بالغزالية والمجاهدية، وبحلب بمدرسة نور الدين وأسد الدين، ثم بهمذان، ثم رجع إلى دمشق ودرّس بالغزالية، وانتهت إليه رياسة المذهب، ومات بها في سلخ رمضان يوم العيد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، عن ثلاث وتسعين سنة، وعنه أخذ الفخر ابن عساكر وغيره، وهو الذي صلى على الحافظ ابن عساكر، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

في رابع عشر محرمها تسلم السلطان الناصر مدينة آمد صلحاً بعد حصار طويل، من يد صاحبها ابن بيسان، بعد حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله مدة ثلاثة أيام، ولما تسلم البلد وجد فيه شيئاً كثيراً من الحواصل وآلات الحرب، حتى إنه وجد برجاً مملوءاً بنصول النشاب، وبرجاً آخر فيه مائة ألف شمعة، وأشياء يطول شرحها، ووجد فيها خزانة كتب ألف ألف مجلد، وأربعين ألف مجلد، فوهبها كلها للقاضي الفاضل، فانتخب منها حمل سبعين حمارة‏.‏

ثم وهب السلطان البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان - وكان قد وعده بها - فقيل له‏:‏ إن الحواصل لم تدخل في الهبة‏.‏

فقال‏:‏ لا أبخل بها عليه‏.‏

وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار، فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع‏.‏

ومن أحسن ذلك قول بعضهم‏:‏ ‏

قل للملوك تنحوا عن ممالككم * فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

ثم سار السلطان في بقية المحرم إلى حلب فحاصرها وقاتله أهلها قتالاً شديداً، فجرح أخو السلطان تاج الملوك بوري بن أيوب جرحاً بليغاً، فمات منه بعد أيام، وكان أصغر أولاد أيوب، لم يبلغ عشرين سنة، وقيل‏:‏ إنه جاوزها بثنتين، وكان ذكياً فهماً، له ديوان شعر لطيف، فحزن عليه أخوه صلاح الدين حزناً شديداً، ودفنه بحلب، ثم نقله إلى دمشق‏.‏

ثم اتفق الحال بين الناصر وبين صاحب حلب عماد الدين زنكي بن آقنسقر على عوض أطلقه له الناصر، بأن يرد عليه سنجار ويسلمه حلب، فخرج عماد الدين من القلعة إلى خدمة الناصر وعزّاه في أخيه ونزل عنده في المخيم، ونقل أثقاله إلى سنجار، وزاده السلطان الخابور والرقة ونصيبين وسروج، واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة لأجل الغزاة في الفرنج، ثم سار وودعه السلطان ومكث السلطان في المخيم يرى حلب أياماً غير مكترث بحلب ولا وقعت منه موقعاً‏.‏

ثم صعد إلى قلعتها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر، وعمل له الأمير طهمان وليمة عظيمة، فتلا هذه الآية وهو داخل في بابها‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ولما دخل دار الملك تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ولما دخل مقام إبراهيم صلى فيه ركعتين وأطال السجود به والدعاء والتضرع إلى الله، ثم شرع في عمل وليمة، وضربت البشائر وخلع على الأمراء، وأحسن إلى الرؤساء والفقراء، ووضعت الحرب أوزارها، وقد امتحده الشعراء بمدائح حسان‏.‏

ثم إن القلعة وقعت منه بموقع عظيم، ثم قال‏:‏ ما سررت بفتح قلعة أعظم سروراً من فتح مدينة حلب، وأسقطت عنها وعن سائر بلاد الجزيرة المكوس والضرائب، وكذلك عن بلاد الشام ومصر‏.‏

وقد عاث الفرنج في غيبته في الأرض فساداً، فأرسل إلى العساكر فاجتمعوا إليه، وكان قد بشر بفتح بيت المقدس حين فتح حلب، وذلك أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي رأى في تفسير أبي الحكم العربي عند قوله‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 1-3‏]‏، البشارة بفتح بيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، واستدل على ذلك بأشياء، فكتب ذلك في ورقة وأعطاها للفقيه عيسى الهكاري، ليبشر بها السلطان، فلم يتجاسر على ذلك خوفاً من عدم المطابقة، فأعلم بذلك القاضي محي الدين بن الزكي، فنظم معناها في قصيدة يقول فيها‏:‏

وفتحكم حلب الشهباء في صفر * قضى لكم بافتتاح القدس في رجب

وقدمها إلى السلطان فتاقت نفسه إلى ذلك، فلما افتتحها كما سيأتي، أمر ابن الزكي فخطب يومئذ وكان يوم الجمعة، ثم، بلغه بعد ذلك أن ابن جهبل هو الذي قال ذلك أولاً، فأمره فدرس على نفس الصخرة درساً عظيماً، فأجزل له العطاء، وأحسن عليه الثناء‏.‏

 فصل

ثم رحل من حلب في أواخر ربيع الآخر واستخلف على حلب ولده الظاهر غازي، وولي قضاءها لابن الزكي، فاستناب له فيها نائباً، وسار مع السلطان فدخلوا دمشق في ثالث جمادى الأولى، وكان ذلك يوماً مشهوداً، ثم برز منها خارجاً إلى قتال الفرنج في أول جمادى الآخرة قاصداً نحو بيت المقدس، فانتهى إلى بيسان فنهبها، ونزل على عين جالوت، وأرسل بين يديه سرية هائلة فيها بردويل وطائفة من النورية‏.‏

وجاء مملوك عمه أسد الدين فوجدوا جيش الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة، فالتقوا معهم فقتلوا من الفرنج خلقاً وأسروا مائة أسير، ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد، ثم عاد في آخر ذلك اليوم، وبلغ السلطان أن الفرنج قد اجتمعوا لقتاله، فقصدهم وتصدى لهم لعلهم يصافونه، فالتقى معهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وجرح مثلهم فرجعوا ناكصين على أعقابهم خائفين منه غاية المخافة، ولا زال جيشه خلفهم يقتل ويأسر حتى غزوا في بلادهم فرجعوا عنهم‏.‏

وكتب القاضي الفاضل إلى الخليفة يعلمه بما منّ الله عليه وعلى المسلمين من نصرة الدين، وكان لا يفعل شيئاً ولا يريد أن يفعله إلا أطلع عليه الخليفة أدباً واحتراماً وطاعة واحتشاماً‏.‏

 فصل ‏(‏محاصرة السلطان للكرك‏)‏‏.‏

وفي رجب سار السلطان إلى الكرك فحاصرها، وفي صحبته تقي الدين عمر ابن أخيه، وقد كتب لأخيه العادل ليحضر عنده ليوليه حلب وأعمالها وفق ما كان طلب، واستمر الحصار على الكرك مدة شهر رجب، ولم يظفر منها بطلب، وبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا كلهم ليمنعوا منه الكرك، فكر راجعاً إلى دمشق - وذلك من أكبر همته - وأرسل ابن أخيه تقي الدين إلى مصر نائباً، وفي صحبته القاضي الفاضل‏.‏

وبعث أخاه على مملكة حلب وأعمالها، واستقدم ولده الظاهر إليه، وكذلك نوابه ومن يعز عليه، وإنما أعطى أخاه حلب ليكون قريباً منه، فإنه كان لا يقطع أمراً دونه، واقترض السلطان من أخيه العادل مائة ألف دينار، وتألم الظاهر بن الناصر على مفارقة حلب، وكانت إقامته بها ستة أشهر، ولكن لا يقدر أن يظهر ما في نفسه لوالده، لكن ظهر ذلك عل صفحات وجهه ولفظات لسانه‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ أرسل الناصر إلى العساكر الحلبية والجزيرية والمصرية والشامية أن يقدموا عليه لقتال الفرنج، فقدم عليه تقي الدين عمر من مصر ومعه الفاضل، ومن حلب العادل، وقدمت ملوك الجزيرة وسنجار وغيرها‏.‏

فأخذ الجميع وسار نحو الكرك فأحرقوا بها في رابع عشر جمادى الأولى، وركب عليها المنجنيقات، وكانت تسعة، وأخذ في حصارها، وذلك أنه رأى أن فتحها أنفع للمسلمين من غيرها، فإن أهلها يقطعون الطريق على الحجاج، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الفرنج قد اجتمعوا له كلهم فارسهم وراجلهم، ليمنعوا منه الكرك، فانشمر عنها وقصدهم فنزل على حسان تجاههم، ثم صار إلى ماعر، فانهزمت الفرنج قاصدين الكرك‏.‏

فأرسل وراءهم من قتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر السلطان بالإغارة على السواحل لخلوها من المقاتلة، فنهبت نابلس وما حولها من القرى والرساتيق، ثم عاد السلطان إلى دمشق فأذن للعساكر في الانصراف إلى بلادهم، وأمر ابن أخيه عمر الملك المظفر أن يعود إلى مصر، وأقام هو بدمشق ليؤدي فرض الصيام، وليجل الخيل ويحد الحسام، وقدم على السلطان خلع الخليفة فلبسها، وألبس أخاه العادل، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم خلع خلعته على ناصر الدين بن قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا وآمد التي أطلقها له السلطان‏.‏

وفيها‏:‏ مات صاحب المغرب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وقام في الملك بعده ولده يعقوب‏.‏

وفي أواخرها بلغ صلاح الدين أن صاحب الموصل نازل أربل فبعث صاحبها يستصرخ به، فركب من فوره إليه، فسار إلى بعلبك ثم إلى حماة، فأقام بها أياماً ينتظر وصول العماد إليه، وذلك لأنه حصل له ضعف فأقام ببعلبك، وقد أرسل إليه الفاضل من دمشق طبيباً، يقال له‏:‏ أسعد بن المطران، فعالجه مداواة من طب لمن حب‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

استهلت والسلطان مخيم بظاهر حماة، ثم سار إلى حلب، ثم خرج منها في صفر قاصداً الموصل فجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين، وهو أخو زين الدين صاحب إربل، ثم رضي عنه وأعاده إلى مملكته حتى يتبين خبث طويته، ثم سار إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية، وجاء إلى خدمته عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان‏.‏

وسار السلطان فنزل على الإسماعيليات قريباً من الموصل، وجاءه صاحب إربل نور الدين الذي خضعت له ملوك تلك الناحية، ثم أرسل صلاح الدين ضياء الدين الشهرزوري إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل، وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام‏.‏

فحاصرها مدة ثم رحل عنها ولم يفتحها، وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة، وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر، وجرت أمور استقصاها ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏، وصاحب ‏(‏الروضتين‏)‏، ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة، على أن يكونوا من جنده إذا ندبهم لقتال الفرنج، وعلى أن يخطب له وتضرب له السكة، ففعلوا ذلك في تلك البلاد كلها‏.‏

وانقطعت خطبة السلاجقة والأزيقية بتلك البلاد كلها، ثم اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضاً شديداً، فكان يتجلد ولا يظهر شيئاً من الألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه العادل من حلب بالأطباء والأدوية، فوجده في غاية الضعف، وأشار عليه بأن يوصي‏.‏

فقال‏:‏ ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً- يعني‏:‏ أخاه العادل وتقي الدين عمر صاحب حماه وهو إذ ذاك نائب مصر، وهو بها مقيم، وابنيه العزيز عثمان والأفضل علياً-‏.‏

ثم نذر لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك مسلماً، وليجعل أكبر همه فتح بيت المقدس، ولو صرف في سبيل الله جميع ما يملكه من الأموال والذخائر، وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده، لأنه نقض العهد وتنقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول‏:‏ أين محمدكم‏؟‏ دعوه ينصركم‏.‏

وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل، وهو أرشده إليه وحثه عليه، حتى عقده مع الله عز وجل، فعند ذلك شفاه الله وعافاه من ذلك المرض الذي كان فيه، كفارة لذنوبه، وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية، فدقت البشائر وزينت البلاد‏.‏

وكتب الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر عمر‏:‏ أن العافية الناصرية قد استقامت واستفاضت أخبارها، وطلعت بعد الظلمة أنوارها، وظهرت بعد الاختفاء آثارها، وولت العلة ولله الحمد والمنة، وطفئت نارها، وانجلى غبارها، وخمد شرارها، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها وشنارها، وعظمية كفى الله الإسلام عارها، وتوبة امتحن الله بها نفوسنا، فرأى أقل ما عندها صبرنا، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب، ولا تتوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب‏:‏

نعيٌ زاد فيه الدهر ميماً * فأصبح بعد بؤساه نعيما

وما صدق النذير به لأني * رأيت الشمس تطلع والنجوما

وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر غضة جديدة، والعزمة ماضية حديدة، والنشاط إلى الجهاد، والتوبة لرب العباد، والجنة مبسوطة البساط، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط، وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج بسم الخياط‏.‏

ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب، ثم ركب فدخل دمشق، وقد تكاملت عافيته، وقد كان يوماً مشهوداً‏.

 وفيها توفي من الأعيان

الفقيه مهذب الدين‏:‏

 عبد الله بن أسعد الموصلي

مدرس حمص، وكان بارعاً في فنون، ولا سيما في الشعر والأدب، وقد أثنى عليه العماد، والشيخ شهاب الدين أبو شامة‏.‏

 الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه

صاحب حمص والرحبة، وهو ابن عم صلاح الدين، وزوج أخته ست الشام بنت أيوب، توفي بحمص فنقلته زوجته إلى تربتها بالشامية البرانية، وقبره الأوسط بينها وبين أخيها المعظم توران شاه صاحب اليمن، وقد خلف من الأموال والذخائر شيئاً كثيراً، ينيف على ألف ألف دينار‏.‏

توفي يوم عرفة فجأة، فولي بعده مملكة حمص ولده أسد الدين شيركوه بأمر صلاح الدين‏.‏

المحمودي بن محمد بن علي بن إسماعيل

ابن عبد الرحيم الشيخ جمال الدين أبو الثناء محمودي بن الصابوني، كان أحد الأئمة المشهورين، وإنما يقال له‏:‏ المحمودي، لصحبة جده السلطان محمود بن زنكي، فأكرمه ثم سار إلى مصر فنزلها، وكان صلاح الدين يكرمه، وأوقف عليه وعلى ذريته أرضاً، فهي لهم إلى الآن‏.‏

 الأمير سعد الدين مسعود

ابن معين الدين، كان من كبار الأمراء أيام نور الدين وصلاح الدين، وهو أخو الست خاتون وحين تزوجها صلاح الدين زوجه بأخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، التي تنسب إليها المدرسة الصاحبية بسفح قيسون على الحنابلة، وقد تأخرت مدتها فتوفيت في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكانت آخر من بقي من أولاد أيوب لصلبه، وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة من جرح أصابه وهو في حصار ميافارقين‏.‏http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=251&CID=207 - TOP#TOP

 الست خاتون عصمت الدين

بنت معين الدين، نائب دمشق، وأتابك عساكرها قبل نور الدين كما تقدم، وقد كانت زوجة نور الدين ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة‏.‏

وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكبرهن صدقة، وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب، وخانقات خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلي على بانياس، ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قريباً من قباب السركسية، وإلى جنبها دار الحديث الأشرفية والأتابكية، ولها أوقاف كثيرة غير ذلك‏.‏

وأما الخاتونية البرانية التي على القنوات بمحلة صنعاء الشام، ويعرف ذلك المكان التي هي فيه بتل الثعالب، فهي من إنشاء الست زمرد خاتون بنت جاولي، وهي أخت الملك دقماق لأمه، وكانت زوجة زنكي والد نور الدين محمود، صاحب حلب، وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدمت وفاتها‏.‏

 الحافظ الكبير أبو موسى المديني

محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوي المديني، أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، رحمه الله‏.‏

 السهيلي أبو القاسم

وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح - هو الداخل إلى الأندلس - الخثعمي السهيلي‏.‏

حكى القاضي ابن خلكان‏:‏ أنه أملى عليه نسبه كذلك، قال‏:‏ والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة اسمها سُهيل، لأنه لا يرى سهيل النجم في شيء من تلك البلاد إلا منها من رأس جبل شاهق عندها، وهي من قرى المغرب‏.‏

ولد السهيلي سنة ثمان وخمسمائة، وقرأ القراءات واشتغل وحصل حتى برع وساد أهل زمانه بقوة القريحة وجودة الذهن وحسن التصنيف، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته، وكان ضريراً مع ذلك‏.‏

له ‏(‏الروض الأنف‏)‏ يذكر فيه نكتاً حسنة على السيرة لم يسبق إلى شيء منها أو إلى أكثرها، وله كتاب ‏(‏الإعلام فيما أبهم في القران من الأسماء الأعلام‏)‏، وكتاب ‏(‏نتائج الفكر‏)‏، ومسألة في الفرائض بديعة، ومسألة في سركون الدجال أعور، وأشياء فريدة كثيرة بديعة مفيدة، وله أشعار حسنة‏.‏

وكان عفيفاً فقيراً، وقد حصل له مال كثير في آخر عمره من صاحب مراكش‏.‏

مات يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان من هذه السنة، وله قصيدة كان يدعو الله بها ويرتجي الإجابة فيها وهي‏:‏

يا من يرى ما في الضمير ويسمع * أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها * يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن * امنن فإن الخير عندك أجمع

مالي سوى فقري إليك وسيلةٌ * فبالافتقار إليك فقري أدفع

مالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ * فلئن رددت فأي باب أقرع‏؟‏

ومن الذي أرجو وأهتف باسمه * إن كان فضلك عن فقيرك يمنع‏؟‏

حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً * الفضل أجزل والمواهب أوسع

 ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

في الثاني ربيع الأول منها كان دخول الناصر دمشق بعد عافيته، وزار القاضي الفاضل، واستشاره، وكان لا يقطع أمراً دونه، وقرر في نيابة دمشق ولده الأفضل علي، ونزل أبو بكر العادل عن حلب لصهره زوج ابنته الملك الظاهر غازي بن الناصر‏.‏

وأرسل السلطان أخاه العادل صحبة ولده عماد الدين عثمان الملك العزيز على ملك مصر، ويكون الملك العادل أتابكه، وله إقطاع كبيرة جداً، وعزل عن نيابتها تقي الدين عمر، فعزم على الدخول إلى إفريقية، فلم يزل الناصر يتلطف به ويترفق له حتى أقبل بجنوده نحوه، فأكرمه واحترمه وأقطعه حماه وبلاداً كثيرة معها، وقد كانت له قبل ذلك، وزاد له على ذلك مدينة ميافارقين، وامتدحه العماد بقصيدة ذكرها في ‏(‏الروضتين‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ هادن قومس طرابلس السلطان وصالحه وصافاه، حتى كان يقاتل ملوك الفرنج أشد القتال وسبى منهم النساء والصبيان، وكاد أن يسلم ولكن صده السلطان فمات على الكفر والطغيان، وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر على الفرنج، وأشد ما دخل عليهم في دينهم‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ وأجمع المنجمون على خراب العالم في شعبان، لأن الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان، فيكون طوفان الريح في سائر البلدان، وذكر أن ناساً من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات في الجبال ومدّخلات وأسراب في الأرض خوفاً من ذلك‏.‏

قال‏:‏ فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها وأجمعوا عليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها‏.‏

وقد ذكر ذلك غير واحد من الناس في سائر أقطار الأرض، وقد نظم الشعراء في تكذيب المنجمين في هذه الواقعة وغريبها أشعاراً كثيرة حسنة منها‏:‏

مزق التقويم والزيج فقد بان الخطا * إنما التقويم والزيج هباء وهوا

قلت للسبعة إبرامٌ ومنعٌ وعطا * ومتى ينزلن في الميزان يستولي الهوا

ويثور الرمل حتى يمتلي منه الصفا * ويعم الأرض رجفٌ وخرابٌ وبلى

ويصير القاع كالقف وكالطود العدا * وحكمتم فأبى الحاكم إلا ما يشا

ما أتى الشرع ولا جاءت بهذا الأنبيا * فبقيتم ضحكةً يضحك منها العلما

حسبكم خزياً وعاراً ما يقول الشعرا * ما أطمعكم في الحكم إلا الأمرا

ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغاما أسا * فعلى اصطرلاب بطليموس والزيج العفا

وعليه الخزي ما جادت على الأرض السما

 من الأعيان‏:‏

 أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش

بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي ثم المصري، أحد أئمة اللغة والنحو في زمانه، وكان عليه تعرض الرسائل بعد ابن بابشاد، وكان كثير الاطلاع عالماً بهذا الشأن، ومطرحاً للتكليف في كلامه، لا يلتفت ولا يعرج على الإعراب فيه إذا خاطب الناس، وله التصانيف المفيدة، توفي وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين رحمه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة حطين التي كانت أمارة وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس، واستنقاذه من أيدي الكفرة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز، وذلك أول سنة الفرس، واتفق أن ذلك كان أول سنة الروم، و هو اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضاً، وهذا شيء يبعد وقوع مثله‏.‏

وبرز السلطان من دمشق يوم السبت مستهل محرم في جيشه، فسار إلى رأس الماء فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش، وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى، فخيم على قصر أبي سلام، ينتظر قدوم الحجاج، وفيهم أخته ست الشام وابنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين، ليسلموا من معرة برنس الكرك‏.‏

فلما جاز الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الكرك وقطع ما حوله من الأشجار، ورعى الزرع وأكلوا الثمار، وجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية، فنزلوا عند ابن السلطان على رأس الماء، وبعث الأفضل سرية نحو بلاد الفرنج فقتلت وغنمت وسلمت ورجعت، فبشر بمقدمات الفتح والنصر‏.‏

وجاء السلطان بجحافله فالتفت عليه جميع العساكر، فرتب الجيوش وسار قاصداً بلاد الساحل، وكان جملة من معه من المقاتلة اثني عشر ألفاً غير المتطوعة، فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم، وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك الفاجر، وجاؤوا بحدهم وحديدهم، واستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت، وضلال الناسوت، في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل‏.‏

يقال‏:‏ كانوا خمسين ألفاً، وقيل‏:‏ ثلاثاً وستين ألفاً، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين، فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك، فقال له‏:‏ لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم، وسترى غب ما أقول لك‏.‏

فتقدموا نحو المسلمين وأقبل السلطان ففتح طبرية وتقوى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وتحصنت منه القلعة فلم يعبأ بها، وحاز البحيرة في حوزته، ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة، حتى صاروا في عطش عظيم، فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها‏:‏ حطين، التي يقال‏:‏ إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام، وجاء العدو المخذول، وكان فيهم صاحب عكا وكفرنكا وصاحب الناصرة وصاحب صور، وغير ذلك من جميع ملوكهم‏.‏

فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوماً عسيراً على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر‏.‏

فطلعت الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيماً، وكان ذلك عليهم مشؤوماً، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط، فرموه فتأجج ناراً تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان‏.‏

ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز وجل، فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم‏.‏

وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس، فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذين يزعمون أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودمغ الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً‏.‏

فلما تمت هذه الوقعة، ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها، وجيء بالأسارى تتهادى بقيودهم، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية - والأسارى بين يديه - صبراً، ولم يترك أحداً منهم ممن كان يذكر الناس عنه شراً‏.‏

ثم جيء بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه، وأجلس أرياط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله، ثم جيء إلى السلطان بشراب من الجلاب مثلوجاً، فشرب ثم ناول الملك فشرب، ثم ناول أرياط صاحب الكرك فغضب السلطان، وقال له‏:‏ إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي‏.‏

ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة واستدعى بأرياط صاحب الكلرك، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع‏.‏

فقال له‏:‏ نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة‏.‏

وقال‏:‏ إن هذا تعرض لسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من الداوية والاسبتارية صبراً وأراح المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين، ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل، فيقال‏:‏ إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفاً، والأسارى كذلك كانوا ثلاثين ألفاً، وكان جملة جيشهم ثلاثة وستين ألفاً، وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى فماتوا ببلادهم‏.‏

وممن مات كذلك قومس طرابلس، فإنه انهزم جريحاً فمات بها بعد مرجعه، ثم أرسل السلطان برؤوس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من رؤوسهم، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها، فدخل بالصليب منكوساً وكان يوماً مشهوداً‏.‏

ثم سار السلطان إلى قلعة طبرية فأخذها، وقد كانت طبرية تقاسم بلاد حوران والبلقاء وما حولها من الجولان وتلك الأراضي كلها بالنصف، فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة‏.‏

ثم سار السلطان إلى حطين فزار قبر شعيب، ثم ارتفع منه إلى إقليم الأردن، فتسلم تلك البلاد كلها، وهي قرى كثيرة كبار وصغار، ثم سار إلى عكا فنزل عليه يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، فافتتحها صلحاً يوم الجمعة، وأخذ ما كان بها من حواصل الملوك وأموالهم وذخائرهم ومتاجر وغيرها‏.‏

واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فوجد فيها أربعة آلاف أسير، ففرج الله عنهم، وأمر بإقامة الجمعة بها، وكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج، نحواً من سبعين سنة‏.‏

ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بلداً بلداً، لخلوها من المقاتلة والملوك، ثم رجع سائراً نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله، واستناب على نابلس ابن أخيه حسام الدين عمر بن محمد بن لاشين، وهو الذي افتتحها‏.‏

وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلداً كباراً، كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة، وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن شيئاً كثيراً، وسبوا خلقاً‏.‏

ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتع في هذه الأماكن مدة شهور ليستريحوا وتحمو أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس، وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعاً، وجاؤوا إليه، ووصل أخاه العادل بعد وقعة حطين وفتح عكا، ففتح بنفسه حصوناً كثيرة، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جداً، فعند ذلك قصد السلطان القدس بمن معه كما سيأتي‏.‏

وقد امتدحه الشعراء بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا، وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق - وهو مقيم بها لمرض اعتراه -‏:‏ ليهن المولى أن الله أقام به الدين، وكتب المملوك هذه الخدمة والرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، وكلما ذكر المملوك أن البِيَع تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة، يقال فيه اليوم‏:‏ إنه الواحد، جدد لله شكراً تارة يفيض من لسانه، وتارة يفيض من جفنه سروراً بتوحيد الله، تعالى الملك الحق المبين‏.‏

وأن يقال‏:‏ محمد رسول الله الصادق الأمين، وجزى الله يوسف خيراً عن إخراجه من سجنه، والمماليك ينتظرون المولى وكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عزم على دخول حمام طبرية‏:‏

تلك المكارم لا قعبان من لبن * وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن

ثم قال‏:‏ وللألسنة بعد في هذا الفتح تسبيح طويل وقول جميل جليل‏.‏

 فتح بيت المقدس في هذه السنة

واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة‏.‏ ‏

لما افتتح السلطان تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل بيت غربي المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل، دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلاً يقال له‏:‏ بالبان بن بازران، ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان، من الداوية والاسبتارية أتباع الشيطان، وعبدة الصلبان‏.‏

فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال، والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالاً هائلاً، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان حنقاً وشدة التشمير، وكان ذلك يوماً عسيراً على الكافرين غير يسير‏.‏

فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب‏.‏

فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك وقال‏:‏ لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحداً من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين‏.‏

فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلاً عظيماً، وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الأمان لهم‏.‏

فقالوا‏:‏ إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا - وكانوا قريباً من أربعة آلاف - وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكناً في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعداداً منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير ‏؟‏‏

فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيراً للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور‏.‏

فكتب الصلح بذلك، وأن من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوماً فهو أسير، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب‏.‏

قال العماد‏:‏ وهي ليلة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهو أحد الأقوال في الإسراء، ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ خلافاً لمن زعم أنها أقيمت يومئذ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محي الدين بن محمد بن علي القرشي ابن الزكي كما سيأتي قريباً‏.‏

ولكن نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها‏.‏

وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها‏.‏

ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً مما يقتني ويدخر، وكان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً‏.‏

أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه

لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان‏.‏

فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط وعلقت القناديل وتُلي التنزيل، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت النفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وعُبد الله الأحد الصمد الذي ‏{‏يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏‏[‏الإخلاص‏:‏ 3-4‏]‏‏.‏

وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع‏.‏

ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات‏.‏

وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في ‏(‏الروضتين‏)‏ بطولها وكان أول ما قال‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال‏:‏ الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع‏.‏

أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره‏.‏

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى‏.‏

صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان‏.‏

ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسّره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، الذي من شأنه كذا وكذا، فذكر فضائله ومآثره، وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين‏.‏

لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم‏.‏

قلت‏:‏ ويقال‏:‏ إن أول من أسسه يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل المسجد الحرام بأربعين سنة، كما جاء في ‏(‏الصحيحين‏)‏ ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام، كما ثبت فيه الحديث بالمسند والسنن وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم‏.‏

وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه منه خلالاً ثلاثاً، حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه لا يأتي أحدٌ هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏.‏

ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين‏.‏

وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن بن علي نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس، واستمر القاضي ابن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات‏.‏

ثم قرر السلطان للقدس خطيباً مستقراً، وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد استعمله لبيت المقدس، وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه صلاح الدين بعد وفاته‏.‏

 نكتة غريبة

قال أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏‏:‏ وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الأول فقال‏:‏ وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي - يعني ابن برجان - في أول سورة الروم أخبار عن فتح بيت المقدس، وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة‏.‏

قال السخاوي‏:‏ ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1-4‏]‏ فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون، فذكر أنهم يَغلبون في سنة كذا وكذا، ويُغلبون في سنة كذا وكذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذه نجابة وافقت إصابة، إن صح، قال ذلك قبل وقوعه، وكان في كتابه قبل حدوثه‏.‏

قال‏:‏ وليس هذا من قبيل علم الحروف، ولا من باب الكرامات والمكاشفات، ولا ينال في حساب‏.‏

قال‏:‏ وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه‏.‏

قلت‏:‏ ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة‏.‏

ويقال‏:‏ إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، لأن مولده في سنة إحدى عشر وخمسمائة، فتهيأ لأسباب ذلك حتى إنه أعد منبراً عظيماً لبيت المقدس إذا فتحه والله أعلم‏.‏

وأما الصخرة المعظمة فإن السلطان أزال ما حولها من المنكرات والصور والصلبان، وطهرها بعد ما كانت جيفة، وأظهرها بعد ما كانت خفية مستورة غير مرئية، وأمر الفقيه عيسى الهكاري أن يعمل حولها شبابيك من حديد، ورتب لها إماماً راتباً، وقف عليه رزقاً جيداً‏.‏

وكذلك إمام الأقصى، عمل للشافعية مدرسة يقال لها‏:‏ الصلاحية والناصرية أيضاً، وكان موضعها كنيسة على قبر حنة أم مريم، ووقف على الصوفية رباطاً كان للتبرك إلى جنب القمامة، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجوامك، وأرصد الختم والربعات في أرجاء المسجد الأقصى والصخرة، ليقرأ فيها المقيمون والزائرون وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس وغيره من الخيرات إلى كل أحد‏.‏

وعزم السلطان على هدم القمامة وأن يجعلها دكاً لتنحسم مادة النصارى من بيت المقدس‏.‏

فقيل له‏:‏ إنهم لا يتركون الحج إلى هذه البقعة، ولو كانت قاعاً صفصفاً، وقد فتح هذه البلد قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة‏.‏

فأعرض عنها وتركها على حالتها تأسياً بعمر رضي الله عنه، ولم يترك من النصارى فيها سوى أربعة يخدمونها، وحال بين النصارى وبينها، وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة، وعفا آثارها، وهدم ما كان هناك من القباب‏.‏

وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم، وأحسن إليهم، وأطلق لهم إعطاءات سنية، وكساهم وانطلق كل منهم إلى وطنه، وعاد إلى أهله ومسكنه، فلله الحمد على نعمه ومننه‏.‏

 فصل

فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انفصل عنها في الخامس والعشرين من شعبان قاصداً مدينة صور بالساحل، وكان فتحها قد تأخر، وقد استحوذ عليها بعد وقعة حطين رجل من تجار الفرنج يقال له‏:‏ المركيس، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقاً من البحر إلى البحر‏.‏

فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا بالأسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بها براً وبحراً، فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شواني من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون واجمين حزناً وتأسفاً، وقد دخل عليهم فصل البرد وقلّت الأزواد، وكثرت الجراحات وكلَّ الأمراء من المحاصرات‏.‏

فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين، فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دمشق واجتاز في طريقه على عكا، وتفرقت العساكر إلى بلادها‏.‏

وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الأفضل برج الداوية، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفاً من عود الفرنج إليها، فكاد ولم يفعل وليته فعل، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي‏.‏

ووقف دار الاسبتارية بصفين على الفقهاء والفقراء، وجعل دار الأسقف مارستاناً ووقف على ذلك كله أوقافاً دارة، وولى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب‏.‏

ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيداً منصوراً، وأرسل إليه الملوك بالتهاني والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار، وكتب الخليفة إلى السلطان يعتب عليه في أشياء، منها أنه بعث إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شاباً بغدادياً كان وضيعاً عندهم، لا قدر له ولا قيمة، وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة‏.‏

فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع‏.‏

وقال‏:‏ الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء، ومع هذا فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب مع غناه عنه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وبين ملك الهند الكبير، فأقبلت الهنود في عدد كثير من الجنود، ومعهم أربعة عشر فيلاً، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، وقيل للملك‏:‏ انج بنفسك‏.‏

فما زاده ذلك إلا إقداماً، فحمل على الفيلة فجرح بعضها - وجرح الفيل لا يندمل - فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعاً، فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف عنه أصحابه فاقتتلوا عنده قتالاً شديداً‏.‏

وجرت حرب عظيمة لم يسمع بمثلها بموقف، فغلب المسلمون الهنود وخلصوا صاحبهم وحملوه على كواهلهم في محفة عشرين فرسخاً، وقد نزفه الدم‏.‏

فلما تراجع إليه جيشه أخذ في تأنيب الأمراء، وحلف ليأكلن كل أمير عليق فرسه، وما أدخلهم غزنة إلا مشاة‏.‏

وفيها‏:‏ ولدت امرأة من سواد بغداد بنتاً لها أسنان‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل بن الصاحب، وكان قد استحوذ على الأمور ولم يبق للخليفة معه كلمة تطاع، ومع هذا كان عفيفاً عن الأموال، جيد السيرة، فأخذ الخليفة منه شيئاً كثيراً من الحواصل والأموال‏.‏

وفيها‏:‏ استوزر الخليفة أبا المظفر جلال الدين، ومشى أهل الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة ابن الدامغاني، وقد كان ابن يونس هذا شاهداً عند القاضي، وكان يقول وهو يمشي في ركابه‏:‏ لعن الله طول العمر، فمات القاضي في آخر هذه السنة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ عبد المغيث بن زهير الحربي

كان من صلحاء الحنابلة، وكان يزار، وله مصنف في فضل يزيد بن معاوية، أتى فيه بالغرائب والعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي فأجاد وأصاب، ومن أحسن ما اتفق لعبد المغيث هذا أن بعض الخلفاء - وأظنه الناصر - جاءه زائراً مستخفياً، فعرفه الشيخ عبد المغيث ولم يعلمه بأنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا ‏؟‏

فقال‏:‏ لا أسوغ لعنه لأني لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى لعن خليفتنا‏.‏

فقال الخليفة‏:‏ ولِمَ ‏؟‏

قال‏:‏ لأنه يفعل أشياء منكرة كثيرة، منها كذا وكذا، ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به‏.‏

مات في المحرم من هذه السنة‏.‏

وفيها توفي الشيخ‏:‏

 علي بن خطاب بن خلف

العابد الناسك، أحد الزهاد، وذوي الكرامات، وكان مقامه بجزيرة ابن عمر‏.‏

قال ابن الأثير في ‏(‏الكامل‏)‏‏:‏ ولم أر مثله في حسن خلقه وسمته وكراماته وعبادته‏.‏ ‏

 الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن مقدم

أحد نواب صلاح الدين، ولما افتتح الناصر بيت المقدس أحرم جماعة في زمن الحج منه إلى المسجد الحرام، وكان ابن المقدم أمير الحاج في تلك السنة، فلما توقف بعرفة ضرب الدبادب ونشر الألوية، وأظهر عز السلطان صلاح الدين وعظمته، فغضب طاشتكين أمير الحاج من جهة الخليفة، فزجره عن ذلك فلم يسمع‏.‏

فاقتتلا فجرح ابن مقدم ومات في اليوم الثاني بمنى، ودفن هنالك، وجرت خطوب كثيرة، وليم طاشتكين على ما فعل، وخاف معرة ذلك من جهة صلاح الدين والخليفة، وعزله الخليفة عن منصبه‏.‏

 محمد بن عبيد الله

ابن عبد الله سبط بن التعاويذي الشاعر، ثم أضر في آخر عمره وجاز الستين، توفي في شوال‏.‏

 نصر بن فتيان بن مطر

الفقيه الحنبلي المعروف بابن المنى، كان زاهداً عابداً، مولده سنة إحدى وخمسمائة، وممن تفقه عليه من المشاهير الشيخ موفق الدين بن قدامة، والحافظ عبد الغني، ومحمد بن خلف بن راجح، والناصر عبد الرحمن بن المنجم بن عبد الوهاب، وعبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي وغيرهم، توفي خامس رمضان‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة‏:‏

 أبو الحسن الدامغاني

وقد حكم في أيام المقتفي ثم المستنجد ثم عزل وأعيد في أيام المستضيء، وحكم للناصر حتى توفي في هذه السنة‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة

في محرمها حاصر السلطان صلاح الدين حصن كوكب فرأه منيعاً صعباً، فوكّل به الأمير قايماز البجمي في خمسمائة فارس يضيقون عليهم المسالك، وكذلك وكّل لصفت وكانت للدواية خمسمائة فارس مع طغرلبك الجامدار يمنعون الميرة والتقاوى أن تصل إليهم‏.‏ ‏

وبعث إلى الكرك الشوبك يضيقون على أهلها ويحاصرونهم، ليفرغ من أموره لقتال هذه الأماكن‏.‏

ولما رجع السلطان من هذه الغزوة إلى دمشق وجد الصفي بن الفايض وكيل الخزانة قد بنى له داراً بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي، فغضب عليه وعزله وقال‏:‏ إنا لم نخلق للمقام بدمشق ولا بغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله عز وجل والجهاد في سبيله، وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له‏.‏

وجلس السلطان بدار العدل فحضرت عنده القضاة وأهل الفضل، وزار القاضي الفاضل في بستانه على الشرف في جوسق ابن الفراش، وحكى له ما جرى من الأمور، واستشاره فيما يفعل في المستقبل من المهمات والغزوات، ثم خرج من دمشق فسلك على بيوس وقصد البقاع‏.‏

وسار إلى حمص وحماه وجاءت الجيوش من الجزيرة وهو على العاصي، فسار إلى السواحل الشمالية ففتح أنطرطوس وغيرها من الحصون، وجبلة واللاذقية، وكانتا من أحصن المدن عمارة ورخاماً ومحالاً، وفتح صهيون وبكاس والشغر وهما قلعتان على العاصي حصينتان، فتحهما عنوة، وفتح حصن بدرية وهي قلعة عظيمة على جبل شاهق منيع، تحتها أودية عميقة يضرب بها المثل في سائر بلاد الفرنج والمسلمين‏.‏

فحاصرها أشد حصار وركب عليها المجانيق الكبار، وفرق الجيش ثلاث فرق، كل فريق يقاتل، فإذا كلوا وتعبوا خلفهم الفريق الآخر، حتى لا يزال القتال مستمراً ليلاً ونهاراً، فكان فتحها في نوبة السلطان أخذها عنوة في أيام معدودات، ونهب جميع ما فيها‏.‏

واستولى على حواصلها وأموالها، وقتل حماتها ورجالها، واستخدم نساءها وأطفالها، ثم عدل عنها ففتح حصن دربساك وحصن بغراس، كل ذلك يفتحه عنوة فيغنم ويسلم، ثم سمت به همته العالية إلى فتح أنطاكية، وذلك لأنه أخذ جميع ما حولها من القرى والمدن، واستظهر عليها بكثرة الجنود‏.‏

فراسله صاحب إنطاكية يطلب منه الهدنة على أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين، فأجابه إلى ذلك لعلمه بتضجر من معه من الجيش، فوقعت الهدنة على سبعة أشهر، ومقصود السلطان أن يستريح من تعبها، وأرسل السلطان من تسلم منه الأسارى وقد ذلت دولة النصارى‏.‏

ثم سار فسأله ولده الظاهر أن يجتاز بحلب فأجابه إلى ذلك، فنزل بقلعتها ثلاثة أيام، ثم استقدمه ابن أخيه تقي الدين إليه حماه فنزل عنده ليلة واحدة، وأقطعه جبلة واللاذقية، ثم سار فنزل بقلعة بعلبك، ودخل حمامها‏.‏

ثم عاد إلى دمشق في أوائل رمضان، وكان يوماً مشهوداً، وجاءته البشائر بفتح الكرك وإنقاذه من أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تلك الناحية، وسهل حزنها على السالكين من التجار والغزاة والحجاج ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ‏

 فصل في فتح صفد وحصن كوكب

لم يقم السلطان بدمشق إلا أياماً حتى خرج قاصداً صفد فنازلها في العشر الأوسط من رمضان، وحاصرها بالمجانيق، وكان البرد شديداً يصبح الماء فيه جليداً، فما زال حتى فتحها صلحاً في ثامن شوال، ثم سار إلى صور فألقت إليه بقيادها، وتبرأت من أنصارها وأجنادها وقوادها، وتحققت لما فتحت صفد أنها مقرونة معها في أصفادها‏.‏

ثم سار منها إلى حصن كوكب - وهي معقل الاسبتارية كما أن صفد كانت معقل الداوية - وكانوا أبغض أجناس الفرنج إلى السلطان، لا يكاد يترك منهم أحداً إلا قتله إذا وقع في المأسورين، فحاصر قلعة كوكب حتى أخذها، وقتل من بها وأراح المارة من شر ساكنيها، وتمهدت تلك السواحل واستقر بها منازل قاطنيها‏.‏

هذا والسماء تصب، والرياح تهب، والسيول تعب، والأرجل في الأوحال تخب، وهو في كل ذلك صابر مصابر، وكان القاضي الفاضل معه في هذه الغزوة، وكتب القاضي الفاضل إلى أخي السلطان صاحب اليمن يستدعيه إلى الشام لنصرة الإسلام، وأنه قد عزم على حصار إنطاكية، ويكون تقي الدين عمر محاصراً طرابلس إذا انسلخ هذا العام‏.‏

ثم عزم القاضي الفاضل على الدخول إلى مصر، فودعه السلطان فدخل القدس فصلى به الجمعة وعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار ومعه أخوه السلطان العادل إلى عسقلان، ثم أقطع أخاه الكرك عوضاً عن عسقلان، وأمره بالانصراف ليكون عوناً لابنه العزيز على حوادث مصر، وعاد السلطان فأقام بمدينة عكا حتى انسلخت هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ خرجت طائفة بمصر من الرافضة ليعيدوا دولة الفاطميين، واغتنموا غيبة العادل عن مصر، واستخفوا أمر العزيز عثمان بن صلاح الدين، فبعثوا اثني عشر رجلاً ينادون في الليل‏:‏ يا آل علي، يا آل علي، بنياتهم على أن العامة تجيبهم فلم يجبهم أحد، ولا التفت إليهم‏.‏

فلما رأوا ذلك انهزموا فأدركوا وأخذوا وقيدوا وحبسوا، ولما بلغ أمرهم السلطان صلاح الدين ساءه ذلك واهتم له، وكان القاضي الفاضل عنده بعد لم يفارقه، فقال له‏:‏ أيها الملك ينبغي أن تفرح ولا تحزن، حيث لم يصغ إلى هؤلاء الجهلة أحد من رعيتك، ولو أنك بعثت جواسيس من قبلك يختبرون الناس لسرك ما بلغك عنهم‏.‏

فسرى عنه ما كان يجد، ورجع إلى قوله وأرسله إلى مصر ليكون له عيناً وعوناً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأمير الكبير سلالة الملوك والسلاطين

الشيزري مؤيد الدولة أبو الحارث وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ أحد الشعراء المشهورين، المشكورين‏.‏ ‏

بلغ من العمر ستاً وتسعين سنة، وكان عمره تاريخاً مستقلاً وحده، وكانت داره بدمشق، مكان العزيزية، وكانت معقلاً للفضلاء، ومنزلاً للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولدية علم غزير، وعنده جود وفضل كثير، وكان من أولاد ملوك شيزر‏.‏

ثم أقام بمصر مدة في أيام الفاطميين، ثم عاد إلى الشام فقدم على الملك صلاح الدين في سنة سبعين وأنشده‏:‏

حمدت على طول عمري المشيبا * وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا

لأني حييت إلى أن لقيت * بعد العدو صديقاً حبيبا

وله في سنٍ قلعها وفقد نفعها‏:‏

وصاحب لا أملَّ الدهر صحبته * يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا * لناظريّ افترقنا فرقة الأبد

وله ديوان شعر كبير، وكان صلاح الدين يفضله على سائر الدواوين، وقد كان مولده في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان في شبيبته شهماً شجاعاً، قتل الأسد وحده مواجهةً، ثم عمر إلى أن توفي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان، ودفن شرقي جبل قاسيون‏.‏

قال‏:‏ وزرت قبره وأنشدت له‏:‏

لا تستعر جلداً على هجرانهم * فقواك تضعف عن صدودٍ دائم

واعلم بأنك إن رجعت إليهم * طوعاً وإلا عدت عدوة نادم

وله أيضاً‏:‏

وأعجب لضعف يدي عن حملها قلماً * من بعد حطم القنا في لبَّة الأسد

وقل لمن يتمنى طول مدته * هذي عواقب طول العمر والمدد

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها توفي شيخه‏.‏

 أبو محمد عبد الله بن علي

ابن عبد الله بن سويد التكريتي، كان عالماً بالحديث وله تصانيف حسنة‏.‏

 الحازمي الحافظ

قال أبو شامة‏:‏ وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الهمداني ببغداد، صاحب التصانيف على صغر سنه، منها ‏(‏العجالة في النسب‏)‏، و‏(‏الناسخ والمنسوخ‏)‏ وغيرها، ومولده سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ قدم من جهة الخليفة رسل إلى السلطان يعلمونه بولاية العهد لأبي نصر الملقب بالظاهر بن الخليفة الناصر، فأمر السلطان خطيب دمشق أبا القاسم عبد الملك بن زيد الدولعي أن يذكره على المنبر، ثم جهز السلطان مع الرسل تحفاً كثيرة، وهدايا سنية، وأرسل بأسارى من الفرنج على هيئتهم في حال حربهم، وأرسل بصليب الصلبوت فدفن تحت عتبة باب النوى، من دار الخليفة، فكان بالأقدام يداس، بعدما كان يعظم ويباس‏.‏

والصحيح أن هذا الصليب كان منصوباً على الصخرة وكان من نحاس مطلياً بالذهب، فحطه الله إلى أسفل العتب‏.‏

 قصة عكا وما كان من أمرها

لما كان شهر رجب اجتمع من كان بصور من الفرنج وساروا إلى مدينة عكا، فأحاطوا بها يحاصرونها فتحصن من فيها من المسلمين، وأعدوا للحصار ما يحتاجون إليه، وبلغ السلطان خبرهم فسار إليهم من دمشق مسرعاً، فوجدهم قد أحاطوا بها إحاطة الخاتم بالخنصر، فلم يزل يدافعهم عنها ويمانعهم منها، حتى جعل طريقاً إلى باب القلعة يصل إليه كل من أراده، من جندي وسوقي، وامرأة وصبي‏.‏

ثم أدخل إليها ما أراد من الآلات والأمتعة، ودخل هو بنفسه فعلا على سورها ونظر إلى الفرنج وجيشهم وكثرة عددهم وعددهم، والميرة تفد إليهم في البحر في كل وقت، وكل ما لهم في ازدياد، وفي كل حين تصل إليهم الأمداد‏.‏

ثم عاد إلى مخيمه والجنود تفد إليه، وتقدم عليه من كل جهة ومكان، منهم رجال وفرسان، فلما كان في العشر الأخير من شعبان برزت الفرنج من مراكبها إلى مواكبها، في نحو من ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، فبرز إليهم السلطان فيمن معه من الشجعان فاقتتلوا بمرج عكا قتالاً عظيماً، وهزم جماعة من المسلمين في أول النهار‏.‏

ثم كانت الدائرة على الفرنج فكانت القتلى بينهم أزيد من سبعة آلاف قتيل، ولما تناهت هذه الوقعة تحول السلطان عن مكانه الأول إلى موضع بعيد من رائحة القتلى، خوفاً من الوخم والأذى، وليستريح الخيالة والخيل، ولم يعلم أن ذلك كان من أكبر مصالح العدو المخذول، فإنهم اغتنموا هذه الفرصة فحفروا حول مخيمهم خندقاً من البحر محدقاً بجيشهم، واتخذوا من ترابه سوراً شاهقاً، وجعلوا له أبواباً يخرجون منها إذا أرادوا وتمكنوا في منزلهم ذلك الذي اختاروا وارتادوا‏.‏

وتفارط الأمر على المسلمين، وقوي الخطب وصار الداء عضالاً، وازداد الحال وبالاً، اختباراً من الله وامتحاناً، وكان رأي السلطان أن يناجزوا بعد الكرة سريعاً، ولا يتركوا حتى يطيب البحر فتأتيهم الأمداد من كل صوب‏.‏

فتعذر عليه الأمر بإملال الجيش والضجر، وكل منهم لأمر الفرنج قد احتقر، ولم يدر ما قد حتم في القدر، فأرسل السلطان إلى جميع الملوك يستنفر ويستنصر، وكتب إلى الخليفة بالبث، وبث الكتب بالتحضيض والحث السريع، فجاءته الأمداد جماعات وآحاداً‏.‏

وأرسل إلى مصر يطلب أخاه العادل ويستعجل الأسطول، فقدم عليه فوصل إليه خمسون قطعة في البحر مع الأمير حسام الدين لؤلؤ، وقدم العادل في عسكر المصريين، فلما وصل، الأسطول حادت مراكب الفرنج عنه يمنة ويسرة، وخافوا منه، واتصل بالبلد الميرة والعدد والعدد، وانشرحت الصدور بذلك، وانسلخت هذه السنة والحال ما حال بل هو على ما هو عليه، ولا ملجأ من الله إلا إليه‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 القاضي شرف الدين أبو سعد

عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون أحد أئمة الشافعية، له كتاب ‏(‏الانتصاف‏)‏، وقد ولي قضاء القضاة بدمشق، ثم أضر قبل موته بعشر سنين، فجعل ولده نجم الدين مكانه بطيب قلبه وقد بلغ من العمر ثلاثاً وتسعين سنة ونصفاً، ودفن بالمدرسة العصرونية، التي أنشأها عند سويقة باب البريد، قبالة داره، بينهما عرض الطريق، وكان من الصالحين والعلماء العاملين‏.‏

وقد ذكره ابن خلكان فقال‏:‏ كان أصله من حديثة عانة الموصل، ورحل في طلب العلم إلى بلدان شتى، وأخذ عن أسعد الميهني وأبي علي الفارقي وجماعة، وولي قضاء سنجار وحران، وباشر في أيام نور الدين تدريس الغزالية، ثم انتقل إلى حلب فبنى له نور الدين بحلب مدرسة وبحمص أخرى‏.‏

ثم قدم دمشق في أيام صلاح الدين، فولي قضاءها في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة إلى أن توفي في هذه السنة، وقد جمع جزءاً في قضاء الأعمى، وأنه جائز، وهو خلاف المذهب، وقد حكاه صاحب ‏(‏البيان‏)‏ وجهاً لبعض الأصحاب‏.‏

قال‏:‏ ولم أره في غيره، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم، وقد صنف كتباً كثيرة، منها ‏(‏صفوة المذهب في نهاية المطلب‏)‏ في سبع مجلدات، و‏(‏الانتصاف‏)‏ في أربعة، و‏(‏الخلاف‏)‏ في أربعة، و‏(‏الذريعة في معرفة الشريعة‏)‏، و‏(‏المرشد‏)‏ وغير ذلك، وكتاباً سماه ‏(‏مأخذ النظر‏)‏ ومختصراً في الفرائض‏.‏

وقد ذكره ابن عساكر في ‏(‏تاريخه‏)‏ والعماد فأثنى عليه، وكذلك القاضي الفاضل‏.‏ ‏

وأورد له العماد أشعاراً كثيرة وابن خلكان منها‏:‏

أؤمل أن أحيا وفي كل ساعةٍ * تمر بي الموتى يهز نعوشها

وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي * بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها

 أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان

أبو العباس المعروف بابن أفضل الزمان، قال ابن الأثير‏:‏ كان عالماً متبحراً في علوم كثيرة من الفقه، والأصول والحساب والفرائض والنجوم والهيئة والمنطق وغير ذلك، وقد جاور بمكة وأقام بها إلى أن مات بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقاً‏.‏

الفقيه الأمير ضياء الدين عيسى الهكاري

كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، دخل معه إلى مصر، وحظي عنده، ثم كان ملازماً للسلطان صلاح الدين حتى مات في ركابه بمنزلة الخروبة قريباً من عكا، فنقل إلى القدس فدفن به، كان ممن تفقه على الشيخ أبي القاسم بن البرزي الجزري، وكان من الفضلاء والأمراء الكبار‏.‏

 المبارك بن المبارك الكرخي

مدرّس النظامية، تفقه بابن الخل وحظي بمكانة عند الخليفة والعامة، وكان يضرب بحسن خطه المثل‏.‏

ذكرته في ‏(‏الطبقات‏)‏‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

استهلت والسلطان محاصر لحصن عكا، وأمداد الفرنج تفد إليهم من البحر في كل وقت، حتى أن نساء الفرنج ليخرجن بنية القتال، ومنهن من تأتي بنية راحة الغرباء لينكحوها في الغربة، فيجدون راحة وخدمة وقضاء وطر، قدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة من أحسن النساء وأجملهن بهذه النية، فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب والغربة، حتى أن كثيراً من فسقة المسلمين تحيزوا إليهم من أجل هذه النسوة، واشتهر الخبر بذلك‏.‏

وشاع بين المسلمين والفرنج بأن ملك الألمان قد أقبل بثلاثمائة ألف مقاتل، من ناحية القسطنطينية، يريد أخذ الشام وقتل أهله، انتصاراً لبيت المقدس فعند ذلك حمل السلطان والمسلمون هماً عظيماً، وخافوا غاية الخوف، مع ما هم فيه من الشغل والحصار الهائل، وقويت قلوب الفرنج بذلك، واشتدوا للحصار والقتال‏.‏

ولكن لطف الله وأهلك عامة جنده في الطرقات بالبرد والجوع والضلال في المهالك، على ما سيأتي بيانه‏.‏

وكان سبب قتال الفرنج وخروجهم من بلادهم ونفيرهم ما ذكره ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏:‏ أن جماعة من الرهبان والقسيسين الذين كانوا ببيت المقدس وغيره، ركبوا من صور في أربعة مراكب، وخرجوا يطوفون ببلدان النصارى البحرية، وما هو قاطع البحر من الناحية الأخرى، يحرضون الفرنج ويحثونهم على الانتصار لبيت المقدس، ويذكرون لهم ما جرى على أهل القدس، وأهل السواحل من القتل والسبي وخراب الديار‏.‏

وقد صوروا صورة المسيح وصورة عربي آخر يضربه ويؤذيه، فإذا سألوهم من هذا الذي يضرب المسيح ‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا نبي العرب يضربه وقد جرحه ومات‏.‏

فينزعجون لذلك ويحمون ويبكون ويحزنون فعند ذلك خرجوا من بلادهم لنصرة دينهم ونبيهم، وموضع حجهم على الصعب والذلول، حتى النساء المخدرات والزواني والزانيات الذين هم عند أهليهم من أعز الثمرات‏.‏

وفي نصف ربيع الأول تسلم السلطان شعيف أربون بالأمان، وكان صاحبه مأسوراً في الذل والهوان، وكان من أدهى الفرنج وأخبرهم بأيام الناس، وربما قرأ في كتب الحديث وتفسير القرآن، وكان مع هذا غليظ الجلد قاسي القلب، كافر النفس‏.‏

ولما انفصل فصل الشتاء وأقبل الربيع جاءت ملوك الإسلام من بلدانها بخيولها وشجعانها، ورجالها وفرسانها، وأرسل الخليفة إلى الملك صلاح الدين أحمالاً من النفط والرماح، ونفاطة ونقابين، كل منهم متقن في صنعته غاية الإتقان، ومرسوماً بعشرين ألف دينار‏.‏

وانفتح البحر وتواترت مراكب الفرنج من كل جزيرة، لأجل نصرة أصحابهم، يمدونهم بالقوة والميرة، وعملت الفرنجة ثلاثة أبرجة من خشب وحديد، عليها جلود مسقاة بالخل، لئلا يعمل فيها النفط، يسع البرج منها خمسمائة مقاتل، وهي أعلا من أبرجة البلد، وهي مركبة على عجل بحيث يديرونها كيف شاؤوا، وعلى ظهر كل منها منجنيق كبير‏.‏

فلما رأى المسلمون ذلك أهمهم أمرها وخافوا على البلد ومن فيه من المسلمين أن يؤخذوا، وحصل لهم ضيق منها، فأعمل السلطان فكره بإحراقها، وأحضر النفاطين ووعدهم بالأموال الجزيلة إن هم أحرقوها، فانتدب لذلك شاب نحاس من دمشق يعرف بعلي بن عريف النحاسين، والتزم بإحراقها‏.‏

فأخذ النفط الأبيض وخلطه بأدوية يعرفها، وغلى ذلك في ثلاثة قدور من نحاس حتى صار ناراً تأجج، ورمى كل برج منها بقدر من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا، فاحترقت الأبرجة الثلاثة حتى صارت ناراً بإذن الله، لها ألسنة في الجو متصاعدة، واحترق من كان فيها‏.‏

فصرخ المسلمون صرخة واحدة بالتهليل، واحترق في كل برج منها سبعون كفوراً، وكان يوماً على الكافرين عسيراً، وذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وكان الفرنج قد تعبوا في عملها سبعة أشهر، فاحترقت في يوم واحد {‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً‏} ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ثم أمر السلطان لذلك الشاب النحاس بعطية سنية وأموال كثيرة، فامتنع أن يقبل شيئاً من ذلك، وقال‏:‏ إنما عملت ذلك ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده سبحانه، فلا أريد منكم جزاءاً ولا شكوراً‏.‏ ‏

وأقبل الأسطول المصري وفيه الميرة الكثيرة لأهل البلد، فعبي الفرنج أسطولهم ليقاتلوا أسطول المسلمين، نهض السلطان بجيشه ليشغلهم عنهم، وقاتلهم أهل البلد أيضاً‏.‏

واقتتل الأسطولان في البحر، وكان يوماً عسيراً، وحرباً في البر والبحر، فظفرت الفرنج بشبيني واحد من الأسطول الذي للمسلمين، وسلم الله الباقي، فوصل إلى البلد بما فيه من الميرة، وكانت حاجتهم قد اشتدت إليها جداً، بل إلى بعضها‏.‏

وأما ملك الألمان المتقدم ذكره، فإنه أقبل في عدد وعدد كثير جداً، قريب من ثلاثمائة ألف مقاتل، من نيته خراب البلد وقتل أهلها من المسلمين، والانتصار لبيت المقدس وأن يأخذ البلاد إقليماً بعد إقليم، حتى مكة والمدينة، فما نال من ذلك شيئاً بعون الله وقوته، بل أهلكهم الله عز وجل في كل مكان وزمان‏.‏

فكانوا يتخطفون كما يتخطف الحيوان، حتى اجتاز ملكهم بنهر شديد الجرية، فدعته نفسه أن يسبح فيه، فلما صار فيه حمله الماء إلى شجرة، فشجت رأسه، وأخمدت أنفاسه، وأراح الله منه العباد والبلاد‏.‏

فأقيم ولده الأصغر في الملك، وقد تمزق شملهم، وقلت منهم العدة، ثم أقبلوا لا يجتازون ببلد إلا قتلوا فيه، فما وصلوا إلى أصحابهم الذين على عكا إلا في ألف فارس، فلم يرفعوا بهم رأساً ولا لهم قدراً ولا قيمة بينهم، ولا عند أحد من أهل ملتهم ولا غيرهم‏.‏

وهكذا شأن من أراد إطفاء نور الله، وإذلال دين الإسلام‏.‏

وزعم العماد في سياقه أن الألمان وصلوا في خمسة آلاف، وأن ملوك الإفرنج كلهم كرهوا قدومهم عليهم، لما يخافون من سطوة ملكهم، وزوال دولتهم بدولته، ولم يفرح به إلا المركيس صاحب صور، الذي أنشأ هذه الفتنة وأثار هذه المحنة، فإنه تقوى به وبكيده، فإنه كان خبيراً بالحروب‏.‏

وقد قدم بأشياء كثيرة من آلات الحرب لم تخطر لأحد ببال‏.‏ نصب دبابات أمثال الجبال، تسير بعجل ولها زلوم من حديد، تنطح السور فتخرقه، وتثلم جوانبه، فمنَّ الله العظيم بإحراقها، وأراح الله المسلمين منها، ونهض صاحب الألمان بالعسكر الفرنجي، فصادم به جيش المسلمين، فجاءت جيوش المسلمين برمتها إليه، فقتلوا من الكفرة خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً‏.‏ ‏

وهجموا مرة على مخيم السلطان بغتة، فنهبوا بعض الأمتعة، فنهض الملك العادل أبو بكر - وكان رأس الميمنة - فركب في أصحابه، وأمهل الفرنج حتى توغلوا بين الخيام، ثم حمل عليهم بالرماح والحسام، فهربوا بين يديه فما زال يقتل منهم جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، حتى كسوا وجه الأرض منهم حللاً أزهى من الرياض الباسمة، وأحب إلى النفوس من الخدود الناعمة‏.‏

وأقل ما قيل‏:‏ إنه قتل منهم خمسة آلاف، وزعم العماد أنه قتل منهم فيما بين الظهر إلى العصر عشرة آلاف، والله أعلم‏.‏

هذا وطرف الميسرة لم يشعر بما جرى ولا درى، بل نائمون وقت القائلة في خيامهم، وكان الذين ساقوا وراءهم أقل من ألف، وإنما قتل من المسلمين عشرة أو دونهم، وهذه نعمة عظيمة‏.‏

وقد أوهن هذا جيش الفرنج وأضعفهم، وكادوا يطلبون الصلح وينصرفون عن البلد، فاتفق قدوم مدد عظيم إليهم من البحر مع ملك يقال له‏:‏ كيد هرى، ومعه أموال كثيرة، فأنفق فيهم، وغرم عليهم، وأمرهم أن يبرزوا معه لقتال المسلمين، ونصب على عكا منجنيقين، غرم على كل واحد منهما ألفاً وخمسمائة دينار، فأحرقهما المسلمون من داخل البلد‏.‏

وجاءت كتب صاحب الروم من القسطنطنية يعتذر لصلاح الدين من جهة ملك الألمان، وأنه لم يتجاوز بلده باختياره، وأنه تجاوزه لكثرة جنوده، ولكن ليبشر السلطان بأن الله سيهلكهم في كل مكان وكذلك وقع‏.‏

وأرسل إلى السلطان يخبره بأنه يقيم للمسلمين عنده جمعة وخطباً، فأرسل السلطان مع رسله خطيباً ومنبراً، وكان يوم دخولهم إليه يوماً مشهوداً، ومشهداً محموداً، فأقيمت الخطبة بالقسطنطنية، ودعا للخليفة العباسي، واجتمع فيها من هناك من المسلمين من التجار والمسلمين الأسرى، والمسافرين إليها، والحمد لله رب العالمين‏.‏

 فصل

وكتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين، وهو الأمير بهاء الدين قراقوش، في العشر الأول من شعبان إلى السلطان‏:‏ إنه لم يبق عندهم في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان‏.‏

فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، خوفاً من إشاعة ذلك، فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين، وتضعف القلوب، وكان قد كتب إلى أمير الأسطول بالديار المصرية أن يقدم بالميرة إلى عكا، فتأخر سيره‏.‏

ثم وصلت ثلاث بطش ليلة النصف، فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء، وهي صحبة الحاجب لؤلؤ، فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول الفرنج ليحول بينها وبين البلد، ويتلف ما فيها‏.‏

فاقتتلوا في البحر قتالاً شديداً، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز وجل في سلامتها، والفرنج أيضاً تصرخ براً وبحراً، وقد ارتفع الضجيج، فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش، فسارت فأحرقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء، ودخلت البلد سالمة، ففرح بها أهل البلد والجيش فرحاً شديداً‏.‏

وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت، فيها أربعمائة غرارة، وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شيء كثير، وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة‏.‏

وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم، وشدوا الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شيئاً من الخنازير، وقدموا بها على مراكب الفرنج، فاعتقدوا أنهم منهم، وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد القوس‏.‏

فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد، فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها، ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء، فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة‏.‏ فعبرت الميناء فامتلأ الثغر بها خيراً، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية‏.‏

وكانت البلد يكتنفها برجان، يقال لأحدهما‏:‏ برج الديان، فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة، لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا‏.‏

فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل الله عليها شواظاً من نار فأحرقها وأغرقها، وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطاً كثيراً وحطباً جزلاً، وأخرى خلفها فيها حطب محض‏.‏

فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب، فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين، واحترقت الأخرى، وكان في بطشة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو، قد أحكموه فيها‏.‏

فلما أرسلوا النفط على برج الديان، انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى، وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت، وتعدى الحريق إلى الأخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فاشبهوا من سلف من أهل الكتاب من الكافرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

 فصل ‏(‏اشتداد حصار الفرنج للمدينة‏)‏‏.‏

وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وتمكنوا من حريق الكيس والأسوار، وسرى حريقه إلى السقوف، وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء، ثم اجتذبه المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل، فحصل عندهم وألقوا عليه الماء البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي، ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي الثامن والعشرين من رمضان توفي الملك زين الدين صاحب أربل في حصار عكا مع السلطان، فتأسف الناس عليه لشبابه وغربته وجودته، وعزي أخاه مظفر الدين فيه‏.‏

وقام بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور، وحران، والرها، وسميساط، وغيرها، وتحمل مع ذلك خمسين ألف دينار نقداً، فأجيب إلى ذلك، وكتب له تقليداً، وعقد له لواء، وأضيف ما تركه إلى الملك المظفر تقي الدين ابن أخي السلطان صلاح الدين‏.‏

 فصل ‏(‏إدارة الممالك من قبل القاضي الفاضل‏)‏

وكان القاضي الفاضل بمصر يدير الممالك بها، ويجهز إلى السلطان ما يحتاج إليه من الأموال، وعمل الأسطول والكتب السلطانية، فمنها كتاب يذكر فيه أن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة الذنوب، وارتكاب المحارم بين الناس، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية‏.‏

وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الاستعاذة منه، وفيه أنه قد بلغه أن بيت المقدس قد ظهر فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده ما لا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة‏.‏

ومنها كتاب يقول فيه‏:‏ إنما أتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله، ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل ولا فلان‏.‏

فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها، وإنما النصر من عنده الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به، واللطف منه، ونستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق‏.‏

ومن كتاب آخر يتألم فيه لما عند السلطان من الضعف في جسمه، بسبب ما حمل على قلبه مما هو فيه من الشدائد، أثابه الله بقوله‏:‏ وما في نفس الملوك شائنة إلا بقية هذا الضعف الذي في جسم مولانا، فإنه بقلوبنا، ونفديه بأسماعنا وأبصارنا، ثم قال‏:‏

بنا معشر الخدام ما بك من أذى * وإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي

وقد أورد الشيخ شهاب الدين صاحب ‏(‏الروضتين‏)‏ ها هنا كتباً عدة من الفاضل إلى السلطان، فيها فصاحة وبلاغة ومواعظ وتحضيض على الجهاد، فرحمه الله من إنسان ما أفصحه، ومن وزير ما كان أنصحه، ومن عقل ما كان أرجحه‏.‏ ‏

 فصل ‏(‏كتابة الفاضل كتابا إلى ملك الغرب‏)‏‏.‏

وكتب الفاضل كتاباً على لسان السلطان إلى ملك المغرب أمير المسلمين، وسلطان جيش الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، يستنجده في إرسال مراكب في البحر تكون عوناً للمسلمين على المراكب الفرنجية في عبارة طويلة فصيحة بليغة مليحة، حكاها أبو شامة بطولها‏.‏

وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والألطاف، صحبة الأمير الكبير شمس الدين أبي الحزم عبد الرحمن بن منقذ، وسار في البحر في ثامن ذي القعدة، فدخل على سلطان المغرب في العشرين من ذي الحجة، فأقام عنده إلى عاشوراء من المحرم من سنة ثمان وثمانين، ولم يفد هذا الإرسال شيئاً، لأنه تغضب إذ لم يلقب بأمير المؤمنين‏.‏

وكانت إشارة الفاضل إلى عدم الإرسال إليه، ولكن وقع ما وقع بمشيئة الله‏.‏

 فصل

وفيها‏:‏ حصل للناصر صلاح الدين سوء مزاج من كثرة ما يكابده من الأمور، فطمع العدو المخذول في حوزة الإسلام، فتجرد جماعة منهم للقتال، وثبت آخرون على الحصار‏.‏

فأقبلوا في عدد كثير وعدد فرتب السلطان الجيوش يمنة ويسرة، وقلباً وجناحين، فلما رأى العدو الجيش الكثيف فروا، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً‏.‏

 فصل

ولما دخل فصل الشتاء وانشمرت مراكب الفرنج عن البلد خوفاً من الهلاك، بسبب اغتلام البحر، سأل من بالبلد من المسلمين من السلطان أن يريحهم مما هم فيه من الحصر العظيم، والقتال ليلاً ونهاراً، وأن يرسل إلى البلد بدلهم‏.‏

فرق لهم السلطان، وعزم على ذلك، وكانوا قريباً من عشرين ألف مسلم ما بين أمير ومأمور، فجهز جيشاً آخر غيرهم، ولم يكن ذلك برأي جيد، ولكن ما قصد السلطان إلا خيراً، وأن هؤلاء يدخلون البلد بهمم حدة شديدة، ولهم عزم قوي، وهم في راحة بالنسبة إلى ما أولئك‏.‏

ولكن أولئك الذين كانوا بالبلد وخرجوا منه كانت لهم خبرة بالبلد وبالقتال، وكان لهم صبر وجلد، وقد تمونوا فيها مؤنة تكفيهم سنة، فانمحقت بسبب ذلك‏.‏

وقدم بطش من مصر فيه ميرة تكفي أهل البلد سنة كاملة، فقدر الله العظيم - وله الأمر من قبل ومن بعد - أنها لما توسطت البحر واقتربت من المينا، هاجت عليها ريح عظيمة فانقلبت تلك البطش، وتغلبت على عظمها، فاختبطت واضطربت وتصادمت فتكسرت وغرقت، وغرق ما كان فيها من الميرة والبحارة‏.‏

فدخل بسبب ذلك وهن عظيم على المسلمين، واشتد الأمر جداً، ومرض السلطان وازداد مرضاً إلى مرضه، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان ذلك عوناً للعدو والمخذول على أخذ البلد، ولا قوة إلا بالله، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وكان المقدم على الداخلين إلى عكا الأمير سيف الدين على بن أحمد بن المشطوب‏.‏

وفي اليوم السابع من ذي الحجة سقطت ثلمة عظيمة من سور عكا، فبادر الفرنج إليها فسبقهم المسلمون إلى سدها بصدورهم، وقاتلوا دونها بنحورهم، وما زالوا يمانعون عنها حتى بنوها أشد مما كانت، وأقوى وأحسن‏.‏

ووقع في هذه السنة وباء عظيم في المسلمين والكافرين، فكان السلطان يقول في ذلك‏:‏

اقتلوني ومالكاً * واقتلوا مالكاً معي

واتفق موت ابن ملك الألمان لعنه الله في ثاني ذي الحجة، وجماعة من كبراء الكندهرية، وسادات الفرنج لعنهم الله، فحزن الفرنج على ابن ملك الألمان، وأوقدوا ناراً عظيمة في كل خيمة، وصار كل يوم يهلك من الفرنج المائة والمائتان‏.‏

واستأمن السلطان جماعة منهم من شدة ما هم فيه من الجوع والضيق والحصر، وأسلم خلق كثير منهم‏.‏

وفيها‏:‏ قدم القاضي الفاضل من مصر على السلطان، وكان قد طال شوق كل منهما إلى صاحبه، فأفضى كل منهما إلى صاحبه ما كان يسره ويكتمه من الآراء التي فيها مصالح المسلمين‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 ملك الألمان

وقد تقدم أنه قدم في ثلاثمائة ألف مقاتل؛ فهلكوا في الطرقات، فلم يصل إلى الفرنج إلا في خمسة آلاف، وقيل‏:‏ في ألفي مقاتل‏.‏

وكان قد عزم على دمار الإسلام، واستنقاذ البلاد بكمالها من أيدي المسلمين، انتصاراً في زعمه إلى بيت المقدس، فأهلكه الله بالغرق، كما أهلك فرعون‏.‏

ثم ملك بعده ولده الأصغر، فأقبل بمن بقي معه من الجيش إلى الفرنج، وهم في حصار عكا، ثم مات في هذه السنة، فلله الحمد والمنة‏.‏

 محمد بن محمد بن عبد الله

أبو حامد قاضي القضاة بالموصل، كمال الدين الشهرزوري الشافعي، أثنى عليه العماد وأنشد له من شعره قوله‏:‏

قامت بإثبات الصفات أدلةٌ * قصمت ظهور أئمة التعطيل

وطلائع التنزيه لما أقبلت * هزمت ذوي التشبيه والتمثيل

فالحق ما صرنا إليه جميعنا * بأدلة الأخبار والتنزيل

من لم يكن بالشرع مقتدياً فقد * ألقاه فرط الجهل في التضليل

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ قدم ملك الفرنسيس وملك إنكلترا وغيرهما من ملوك البحر الفرنج، على أصحابهم الفرنج إلى عكا، وتمالؤا على أخذ عكا في هذه السنة كما سيأتي تفصيله‏.‏

وقد استهلت هذه السنة والحصار الشديد على عكا من الجانبين، وقد استكمل دخول العدو إلى البلد والملك العادل مخيم إلى جانب البحر، ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم‏.‏

وفي ليلة مستهل ربيع الأول منها خرج المسلمون من عكا فهجموا على مخيم الفرنج فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وسبوا وغنموا شيئاً كثيراً، سبوا اثني عشر امرأة وانكسر مركب عظيم للفرنج، فغرق ما فيه منهم، وأسر باقيهم، وأغار صاحب حمص أسد الدين بن شيركوه على سرح الفرنج بأراضي طرابلس فاستاق منهم شيئاً كثيراً من الخيول والأبقار والأغنام، وظفر الترك بخلق كثير من الفرنج فقتلوهم، ولم يقتل من المسلمين سوى طواش صغير عثر به فرسه‏.‏

وفي ثاني عشر ربيع الأول وصل إلى الفرنج ملك الفرنسيين في قريب من ستين بطش ملعونة مشحونة بعبدة الصليب، فحين وصل إليهم وقدم عليهم لم يبق لأحد من ملوكهم معه كلام ولا حكم، لعظمته عندهم، وقدم معه باز عظيم أبيض وهو الأشهب هائل فطار من يده فوقع على سور عكا فأخذه أهلها، وبعثوه إلى السلطان صلاح الدين، فبذل الفرنجي فيه ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك‏.‏

وقدم بعده كيد فرير وهو من أكابر ملوكهم أيضاً، ووصلت سفن ملك الإنكليز، ولم يجيء ملكهم لاشتغاله بجزيرة قبرص وأخذها من يد صاحبها، وتواصلت ملوك الإسلام أيضاً من بلدانها في أول فصل الربيع، لخدمة الملك الناصر‏.‏

قال العماد‏:‏ وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، حتى أنهم كانوا يسرقون الرجال، فاتفق أن بعضهم أخذ صبياً رضيعاً من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجداً شديداً، واشتكت إلى ملوكهم فقالوا لها‏:‏ إن سلطان المسلمين رحيم القلب، وقد أذنا لك أن تذهبي إليه فتشكي أمرك إليه‏.‏

قال العماد‏:‏ فجاءت إلى السلطان فأنهت إليه حالها، فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه‏.‏

ثم أمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري، ولم يزل واقفاً حتى جيء بالغلام فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكي من شدة فرحها وشوقها إليه، ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة، رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

 فصل في كيفية أخذ العدو عكا من يدي السلطان

لما كان شهر جمادى الأولى اشتد حصار الفرنج لعنهم الله لمدينة عكا، وتمالؤا عليها من كل فج عميق، وقدم عليهم ملك الإنكليز في جم غفير وجمع كثير، في خمسة وعشرين قطعة مشحونة بالمقاتلة‏.‏

وابتلى أهل الثغر منهم ببلاء لا يشبه ما قبله، فعند ذلك حركت الكؤسات في البلد، وكانت علامة ما بينهم وبين السلطان، فحرك السلطان كؤساته فاقترب من البلد وتحول إلى قريب منه، ليشغلهم عن البلد، وقد أحاطوا به من كل جانب، ونصبوا عليه سبعة منجانيق، وهي تضرب في البلد ليلاً ونهاراً، ولا سيما على برج عين البقر حتى أثرت به أثراً بيناً‏.‏

وشرعوا في ردم الخندق بما أمكنهم من دواب ميتة، ومن قتل منهم، ومن مات أيضاً ردموا به، وكان أهل البلد يلقون ما ألقوه فيه إلى البحر‏.‏

وتلقى ملك الإنكليز بطشة عظيمة للمسلمين قد أقبلت من بيروت مشحونة بالأمتعة والأسلحة فأخذها، وكان واقفاً في البحر في أربعين مركباً لا يترك شيئاً يصل إلى البلد بالكلية، وكان بالبطشة ستمائة من المقاتلين الصناديد الأبطال، فهلكوا عن آخرهم، رحمهم الله‏.‏ ‏

فإنه لما أحيط بهم وتحققوا إما الغرق أو القتل، خرقوا جوانبها كلها فغرقت، ولم يقدر الفرنج على أخذ شيء منها لا من الميرة ولا من الأسلحة، وحزن المسلمون على هذا المصاب حزناً عظيماً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن جبر الله سبحانه هذا البلاء بأن أحرق المسلمون في هذا اليوم دبابة كانت أربع طبقات، الأولى من الخشب، والثانية من رصاص، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، وهي مشرفة على السور والمقاتلة فيها‏.‏

وقد قلق أهل البلد منها بحيث حدثتهم أنفسهم من خوفهم من شرها بأن يطلبوا الأمان من الفرنج، ويسلموا البلد، ففرج الله عن المسلمين، وأمكنهم من حريقها، اتفق لهم ذلك في هذا اليوم الذي غرقت فيه البطشة المذكورة‏.‏

فأرسل أهل البلد يشكون إلى السلطان شدة الحصار وقوته عليهم، منذ قام ملك الإنكليز لعنه الله، ومع هذا قد مرض هو وجرح ملك الإفرنسيين أيضاً، ولا يزيدهم ذلك إلا شدة وغلظة، وعتواً وبغياً‏.‏

وفارقهم المركيس وسار إلى بلده صور خوفاً منهم أن يخرجوا ملكها من يده‏.‏

وبعث ملك الإنكليز إلى السلطان صلاح الدين يذكر له أن عنده جوارح قد جاء بها من البحر، وهو على نية إرسالها إليه، ولكنها قد ضعفت، وهو يطلب دجاجاً وطيراً لتقوى به، فعرف أنه إنما يطلب ذلك لنفسه يلطفها به، فأرسل إليه شيئاً كثيراً من ذلك كرماً، ثم أرسل يطلب منه فاكهة وثلجاً، فأرسل إليه أيضاً فلم يفد معه الإحسان، بل لما عوفي عاد إلى شر مما كان‏.‏

واشتد الحصار ليلاً ونهاراً، فأرسل أهل البلد يقولون للسلطان‏:‏ إما أن تعملوا معنا شيئاً غداً وإلا طلبنا من الفرنج الصلح والأمان‏.‏

فشق ذلك على السلطان، وذلك لأنه كان قد بعث إليها أسلحة الشام والديار المصرية وسائر السواحل، وما كان غنمه من وقعة حطين ومن القدس، فهي مشحونة بذلك، فعند ذلك عزم السلطان على الهجوم على العدو، فلما أصبح ركب في جيشه فرأى الفرنج قد ركبوا من وراء خندقهم، والرجالة منهم قد ضربوا سوراً حول الفرسان، وهم قطعة من حديد صماء لا ينفذ فيهم شيء، فأحجم عنهم لما يعلم من نكول جيشه عما يريده، وتحدوه عليه شجاعته، رحمه الله‏.‏

هذا وقد اشتد الحصار على البلد ودخلت الرجالة منهم إلى الخندق وعلقوا بدنة في السور وحشوها وأحرقوها، فسقطت ودخلت الفرنج إلى البلد، فمانعهم المسلمون وقاتلوهم أشد القتال، وقتلوا من رؤسهم ستة أنفس، فاشتد حنق الفرنج على المسلمين جداً بسبب ذلك‏.‏

وجاء الليل فحال بين الفريقين، فلما أصبح الصباح خرج أمير المسلمين بالبلد أحمد بن المشطوب فاجتمع بملك الإفرنسيين وطلب منهم الأمان على أنفسهم، ويتسلمون منه البلد، فلم يجبهم إلى ذلك، وقال له‏:‏ بعد ما سقط السور جئت تطلب الأمان ‏؟‏

فأغلظ له ابن المشطوب في الكلام ورجع إلى البلد في حالة الله بها عليم، فلما أخبر أهل البلد بما وقع خافوا خوفاً شديداً، وأرسلوا إلى السلطان يعلمونه بما وقع‏.‏

فأرسل إليهم أن يسرعوا الخروج من البلد في البحر ولا يتأخروا عن هذه الليلة ولا يبقى بها مسلم، فتشاغل كثير ممن كان بها لجمع الأمتعة والأسلحة، وتأخروا عن الخروج تلك الليلة فما أصبح الخبر إلا عند الفرنج من مملوكين صغيرين سمعا بما رسم به السلطان، فهربا إلى قومهما فأخبروهم بذلك، فاحتفظوا على البحر احتفاظاً عظيماً، فلم يتمكن أحد من أهل البلد أن يتحرك بحركة، ولا خرج منها شيء بالكلية‏.‏

وهذان المملوكان كانا أسيرين، قد أسرهما السلطان من أولاد الفرنج، وعزم السلطان على كبس العدو في هذه الليلة، فلم يوافقه الجيش على ذلك، وقالوا‏:‏ لا نخاطر بعسكر المسلمين‏.‏

فلما أصبح بعث إلى ملوك الفرنج يطلب منهم الأمان لأهل البلد على أن يطلق عدتهم من الأسرى الذين تحت يده من الفرنج، ويزيدهم صليب الصلبوت، فأبوا إلا أن يطلق لهم كل أسير تحت يده، ويطلق لهم جميع البلاد الساحلية التي أخذت منهم، وبيت المقدس، فأبى ذلك‏.‏

وترددت المراسلات في ذلك، والحصار يتزايد على أسوار البلد‏.‏

وقد تهدمت منه ثلم كثيرة، وأعاد المسلمون كثيراً منها، وسدوا ثغر تلك الأماكن بنحورهم رحمهم الله، وصبروا صبراً عظيماً، وصابروا العدو، ثم كان آخر الأمر وصولهم إلى درجة الشهادة، وقد كتبوا إلى السلطان في آخر أمرهم يقولون له‏:‏ يا مولانا لا تخضع لهؤلاء الملاعين، الذين قد أبوا عليك الإجابة إلى ما دعوتهم فينا، فإنا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا، وبالله المستعان‏.‏

فلما كان وقت الظهر في اليوم السابع من جمادى الآخرة من هذه السنة، ما شعر الناس إلا وأعلام الكفار قد ارتفعت، وصلبانهم ونارهم على أسوار البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، فعظمت عند ذلك المصيبة على المسلمين، واشتد حزن الموحدين، وانحصر كلام الناس في إنا لله وإنا إليه راجعون، وغشي الناس بهتة عظيمة، وحيرة شديدة، ووقع في عسكر السلطان الصياح والعويل‏.‏

ودخل المركيس لعنه الله وقد عاد إليهم من صور بهدايا فأهداها إلى الملوك، فدخل في هذا اليوم عكا بأربعة أعلام الملوك فنصبها في البلد، واحداً على المأذنة يوم الجمعة، وآخر على القلعة، وآخر على برج الداوية، وآخر على برج القتال، عوضاً عن أعلام السلطان‏.‏

وتحيز المسلمون الذين بها إلى ناحية من البلد معتقلين، محتاط بهم مضيق عليهم، وقد أسروا النساء والأبناء، وغنمت أموالهم، وقيدت الأبطال وأهين الرجال، والحرب سجال، والحمد لله على كل حال‏.‏ ‏

فعند ذلك أمر السلطان الناس بالتأخر عن هذه المنزلة، وثبت هو مكانه لينظر ماذا يصنعون وما عليه يعولون، والفرنج في البلد مشغولون مدهوشون، ثم سار السلطان إلى العسكر وعنده من الهم ما لا يعلمه إلا الله‏.‏

وجاءت الملوك الإسلامية، والأمراء وكبراء الدولة يعزونه فيما وقع، ويسلونه على ذلك، ثم راسل ملوك الفرنج في خلاص من بأيديهم من الأسارى، فطلبوا منه عدتهم من أسراهم ومائة ألف دينار، وصليب الصلبوت إن كان باقياً، فأرسل فأحضر المال والصليب، ولم يتهيأ له من الأسارى إلا ستمائة أسير‏.‏

فطلب الفرنج منه أن يريهم الصليب من بعيد، فلما رفع سجدوا له وألقوا أنفسهم إلى الأرض، وبعثوا يطلبون منه ما أحضره من المال والأسارى، فامتنع إلا أن يرسلوا إليه الأسارى أو يبعثوا له برهائن على ذلك، فقالوا‏:‏ لا ولكن أرسل لنا ذلك وارض بأمانتنا‏.‏

فعرف أنهم يريدون الغدر والمكر، فلم يرسل إليهم شيئاً من ذلك، وأمر برد الأسارى إلى أهليهم بدمشق، ورد الصليب إلى دمشق مهاناً، وأبرزت الفرنج خيامهم إلى ظاهر البلد وأحضروا ثلاثة آلاف من المسلمين فأوقفوهم بعد العصر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم في صعيد واحد، رحمهم الله وأكرم مثواهم‏.‏

ولم يستبقوا بأيديهم من المسلمين إلا أميراً أو صبياً، أو من يرونه في عملهم قوياً أو امرأة‏.‏

وجرى الذي كان وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏.‏

وكان مدة إقامة صلاح الدين على عكا صابراً مصابراً مرابطاً سبعة وثلاثين شهراً، وجملة من قتل من الفرنج خمسين ألفاً‏.‏

 فصل فيما حدث بعد أخذ الفرنج عكا

ساروا برمتهم قاصدين عسقلان، والسلطان بجيشه يسايرهم ويعارضهم منزلة منزلة، والمسلمون يتخطفونهم ويسلبونهم في كل مكان، وكل أسير أتي به إلى السلطان يأمر بقتله في مكانه‏.‏

وجرت خطوب بين الجيشين، ووقعات متعددات، ثم طلب ملك الإنكليز أن يجتمع بالملك العادل أخي السلطان يطلب منه الصلح والأمان، على أن يعاد لأهلها بلاد السواحل، فقال له العادل‏:‏ إن دون ذلك قتل كل فارس منكم وراجل‏.‏

فغضب اللعين ونهض من عنده غضبان، ثم اجتمعت الفرنج على حرب السلطان عند غابة أرسوف، فكانت النصرة للمسلمين، فقتل من الفرنج عند غابة أرسوف ألوف بعد ألوف، وقتل من المسلمين خلق كثير أيضاً‏.‏

وقد كان الجيش فرعن السلطان في أول الوقعة ولم يبق معه سوى سبعة عشر مقاتلاً، وهو ثابت صابر والكؤسات لا تفتر، والأعلام منشورة، ثم تراجع الناس فكانت النصرة للمسلمين، ثم تقدم السلطان بعساكره فنزل ظاهر عسقلان، فأشار ذوو الرأي على السلطان بتخريب عسقلان خشية أن يتملكها الكفار، ويجعلونها وسيلة إلى أخذ بيت المقدس، أو يجري عندها من الحرب والقتال نظير ما كان عند عكا، أوشد‏.‏

فبات السلطان ليلته مفكراً في ذلك، فلما أصبح وقد أوقع الله في قلبه أن خرابها هو المصلحة فذكر ذلك لمن حضره، وقال لهم‏:‏ والله لموت جميع أولادي أهون على من تخريب حجر واحد منها، ولكن إذا كان خرابها فيه مصلحة للمسلمين فلا بأس به‏.‏

ثم طلب الولاة وأمرهم بتخريب البلد سريعاً، قبل وصول العدو إليها، فشرع الناس في خرابه، وأهله ومن حضره يتباكون على حسنه وطيب مقيله، وكثرة زروعه وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره، وكثرة رخامه وحسن بنائه‏.‏

وألقيت النار في سقوفه وأتلف ما فيه من الغلات التي لا يمكن تحويلها، ولا نقلها، ولم يزل الخراب والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سلخ شعبان من هذه السنة‏.‏

ثم رحل السلطان منها في ثاني رمضان وقد تركها قاعاً صفصفاً ليس فيها معلمة لأحد، ثم اجتاز بالرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد، وزار بيت المقدس وعاد إلى المخيم سريعاً، وبعث ملك الإنكليز إلى السلطان‏:‏ إن الأمر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها‏:‏ رد الصليب وبلاد الساحل وبيت المقدس، لا نرجع عن هذه الثلاثة، ومنا عين تطرف‏.‏

فأرسل إليه السلطان أشد جواب، وأسد مقال، فعزمت الفرنج على قصد بيت المقدس، فتقدم السلطان بجيشه إلى القدس، وسكن في دار القساقس، قريباً من قمامة في ذي القعدة‏.‏

وشرع في تحصين البلد، وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه وأولاده، وعمل فيه الأمراء والقضاة والعلماء والصالحون، وكان وقتاً مشهوداً، واليزك حول البلد من ناحية الفرنج وفي كل وقت يستظهرون على الفرنج ويقتلون ويأسرون ويغنمون، ولله الحمد والمنة، وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ على ما ذكره العماد تولى القضاء محي الدين محمد بن الزكي بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ عدى أمير مكة داود بن عيسى بن فليتة بن هاشم بن محمد بن أبي هاشم الحسني، فأخذ أموال الكعبة حتى انتزع طوقاً من فضة كان على دائرة الحجر الأسود، كان قد لم شعثه حين ضربه ذلك القرمطي بالدبوس، فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج عزله، وولى أخاه بكيراً، ونقض القلعة التي كان بناها أخوه على أبي قبيس، وأقام داود بنخلة، حتى توفي بها سنة سبع وثمانين‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الملك المظفر

تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان عزيزاً على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماه ومدناً كثيرة حولها في بلاد الجزيرة، وكان مع عمه السلطان على عكا، ثم استأذنه أن يذهب ليشرف على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات‏.‏

فلما صار إليها اشتغل بها، وامتدت عينه إلى أخذ غيرها من أيدي الملوك المجاورين له، فقاتلهم فاتفق موته وهو كذلك، والسلطان عمه غضبان عليه بسبب اشتغاله بذلك عنه، وحملت جنازته حتى دفنت بحماه‏.‏

وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، وقد أقام بالملك بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد، فأقره صلاح الدين على ذلك بعد جهد جهيد، ووعد ووعيد، ولولا السلطان العادل أخو صلاح الدين تشفع فيه لما أقره في مكان أبيه، ولكن سلم الله، توفي يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة، وكان شجاعاً فاتكاً‏.‏

الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين

أمه ست الشام بنت أيوب، واقفة الشاميتين بدمشق، توفي ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان أيضاً، ففجع السلطان بابن أخيه وابن أخته في ليلة واحدة، وقد كانا من أكبر أعوانه، ودفن بالتربة الحسامية، وهي التي أنشأتها أمه بمحلة العونية، وهي الشامية البرانية‏.‏

الأمير علم الدين سليمان بن حيدر الحلبي

كان من أكابر الدولة الصلاحية، وفي خدمة السلطان حيث كان، وهو الذي أشار على السلطان بتخريب عسقلان، واتفق مرضه بالقدس فاستأذن في أن يمرض بدمشق، فأذن له، فسار منها فلما وصل إلى غباغب مات بها في أواخر ذي الحجة‏.‏

وفي رجب منها توفي الأمير الكبير نائب دمشق

 الصفي بن الفائض

وكان من أكبر أصحاب السلطان قبل الملك، ثم استنابه على دمشق حتى توفي بها في هذه السنة‏.‏

وفي ربيع الأول توفي

 الطبيب الماهر أسعد بن المطران

وقد شرف بالإسلام، وشكره على طبه الخاص والعام‏.‏

 الجيوشاتي الشيخ نجم الدين

الذي بنى تربة الشافعي بمصر بأمر السلطان صلاح الدين، ووقف عليها أوقافاً سنية، وولاه تدريسها ونظرها، وقد كان السلطان يحترمه ويكرمه، وقد ذكرته في ‏(‏طبقات الشافعية‏)‏، وما صنفه في المذهب من ‏(‏شرح الوسيط‏)‏ وغيره‏.‏

ولما توفي الجيوشاتي طلب التدريس جماعة فشفع الملك العادل عند أخيه في شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد بن حمويه، فولاه إياه، ثم عزله عنها بعد موت السلطان، واستمرت عليه أيدي بني السلطان واحداً بعد واحد، ثم عادت إليها الفقهاء

والمدرسون بعد ذلك‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة

استهلت و السلطان صلاح الدين مخيم بالقدس، و قد قسم السور بين أولاده و أمرائه، وهو يعمل فيه بنفسه، ويحمل الحجر بين القربوسيين و بينه، والناس يقتدون بهم، والفقهاء والقراء يعملون، والفرنج لعنهم الله حول البلد من ناحية عسقلان وما والاها، لا يتجاسرون أن يقربوا البلد من الحرس واليزك الذين حول القدس، إلا أنهم على نية محاصرة القدس مصممون، ولكيد الإسلام مجمعون، وهم والحرس تارة يغلبون وتارة يغلبون، وتارة ينهبون وتارة ينهبون‏.‏

وفي ربيع الآخر وصل إلى السلطان الأمير سيف الدين المشطوب من الأسر، وكان نائباً على عكا حين أخذت، فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار، فأعطاه السلطان شيئاً كثيراً منها، واستنابه على مدينة نابلس، فتوفي بها في شوال من هذه السنة‏.‏

وفي ربيع الآخر قتل المركيس صاحب صور لعنه الله، أرسل إليه ملك الإنكليز اثنين من الفداوية فقتلوه‏:‏ أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقُتلا أيضاً، فاستناب ملك الإنكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر، وهو ابن أخت ملك الإفرنسيين لأبيه، فهما خالاه‏.‏

ولما صار إلى صور بنى بزوجة المركيس بعد موته بليلة واحدة، وهي حبلى أيضاً، وذلك لشدة العداوة التي كانت بين الإنكليز وبينه، وقد كان السلطان صلاح الدين يبغضهما، ولكن المركيس كان قد صانعه بعض الشيء فلم يهن عليه قتله‏.‏

وفي تاسع جمادى الأولى استولى الفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها، وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وأسروا طائفة من الذرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب الإيمان، فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين، فراراً من القتال والنزال، وعاد السلطان إلى القدس‏.‏

{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ‏

ثم إن ملك الإنكليز لعنه الله-وهو أكبر ملوك الفرنج ذلك الحين- ظفر ببعض فلول المسلمين فكبسهم ليلاً فقتل منهم خلقاً كثيراً،وأسر منهم خمسمائة أسير،وغنم منهم شيئاً كثيراً من الأموال والجمال، والخيل والبغال، وكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير، فتقوى الفرنج بذلك، وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جداً، وخاف من غائلة ذلك‏.‏

واستخدم الإنكليز الجمالة على الجمال، والخربندية على البغال، و السياس على الخيل، وأقبل وقد قويت نفسه جداً، وصمم على محاصرة القدس، وأرسل إلى ملوك الفرنج الذين بالساحل، فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة، فتعبأ السلطان لهم وتهيأ، وأكمل السور وعمر الخنادق، ونصب المنجانيق، وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه،وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة‏:‏ أبا الهيجاء المبسمين، والمشطوب، والأسدية،فاستشارهم فيما قد دهمه من هذا الأمر الفظيع،الموجع المؤلم، فأفاضوا في ذلك،وأشاروا كل برأيه،وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة،كما كان الصحابة يفعلون،فأجابوا إلى ذلك‏.‏

هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر،فسكت القوم كأنما على رؤوسهم الطير،ثم قال‏:‏الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله‏:‏اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته،وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة،والله عز وجل سائلكم يوم القيامة عنهم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم،فإن وليتم والعياذ بالله طوى البلاد وأهلك العباد، وأخذ الأموال والأطفال والنساء، وعبد الصليب في المساجد، وعزل القرآن منها والصلاة،وكان ذلك كله في ذممكم، فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا كله،وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم عدوهم،وتنصروا ضعيفهم،فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام‏.‏

فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال‏:‏يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك،

وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا، وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك، والله ما يرجع أحد منا عن نصرك حتى يموت‏.‏

فقال الجماعة مثل ما قال، ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه،ومد لهم سماطاً حافلاً،وانصرفوا من بين يديه على ذلك‏.‏

ثم بلغه بعد ذلك أن بعض الأمراء قال‏:‏إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد مثل ما جرى على أهل عكا، ثم يأخذون بلاد الإسلام بلداً بلداً، و المصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد، فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم، وإن تكن الأخرى سلم العسكر ومضى بحاله، ويأخذون القدس ونحفظ بقية بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة‏.‏‏

وبعثوا إلى السلطان يقولون له‏:‏إن كنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصار الفرنج،فكن أنت معنا أو بعض أهلك،حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن الأكراد لا تطيع الترك،والترك لا تطيع الأكراد‏.‏

فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة، وبات ليلته أجمع مهموماً كئيباً يفكر فيما قالوا، ثم انجلى الأمر واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيماً عندهم نائباً عنه بالقدس،وكان ذلك نهار الجمعة،فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الأذانين،وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالاً عظيماً، وتضرع إلى ربه،وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة‏.‏

فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس الذين حول البلد بأن الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم،فقال ملك الإفرنسيين‏:‏ إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص بيت المقدس ورده إلينا،وقد بقي بيننا وبينه مرحلة‏.‏

فقال الإنكليز‏:‏ أن هذا البلد شق علينا حصاره،لأن المياه حوله قد عدمت،وإلى أن يأتينا الماء من المشقة البعيدة يعطل الحصار،ويتلف الجيش، ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا منهم عليهم ثلاثمائة منهم،فردوا أمرهم إلى اثني عشر منهم،فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم،فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل،فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين لعنهم الله أجمعين‏.‏

فساروا حتى نزلوا على الرملة، وقد طالت عليهم الغربة والزملة،وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة،وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس، وسار نحوهم خوفاً أن يسيروا إلى مصر،لكثرة ما معهم من الظهر والأموال، وكان الإنكليز يلهج بذلك كثيراً،فخذلهم الله عن ذلك،وترددت الرسل من الإنكليز إلى السلطان في طلب الأمان ووضع الحرب بينه وبينهم ثلاث سنين، وعلى أن يعيد لهم عسقلان ويهب له كنيسة بيت المقدس وهي القمامة،وأن يمكن النصارى من زيارتها وحجها بلا شيء‏.‏

فامتنع السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم قمامة،وفرض على الزوار مالاً يؤخذ من كل منهم،فامتنع الإنكليز إلا أن تعاد لهم عسقلان،ويعمر سورها كما كانت،فصمم السلطان على عدم الإجابة‏.‏

ثم ركب السلطان حتى وافى يافا فحاصرها حصاراً شديداً،فافتتحها وأخذوا الأمان لكبيرها وصغيرها،فبينما هم كذلك إذ أشرفت عليهم مراكب الإنكليز على وجه البحر،فقويت رؤوسهم واستعصت نفوسهم،فهجم اللعين فاستعاد البلد وقتل من تأخر بها من المسلمين صبراً بين يديه،وتقهقر السلطان عن منزلة الحصار إلى ما وراءها خوفاً على الجيش من معرة الفرنج‏.‏

فجعل ملك الإنكليز يتعجب من شدة سطوة السلطان،وكيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين،وغيره لا يمكنه فتحه في عامين،ولكن ما ظننت أنه مع شهامته وصرامته يتأخر من منزلته بمجرد قدومي،وأنا ومن معي لم نخرج من البحر إلا جرائد بلا سلاح،ثم ألح في طلب الصلح وأن تكون عسقلان داخلة في صلحهم،فامتنع السلطان‏.‏

ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الإنكليز وهو في سبعة عشر مقاتلاً،وحوله قليل من الرجالة فأكب بجيشه حوله وحصره حصراً لم يبق معه نجاة،لو صمم معه الجيش،ولكنهم نكلوا كلهم عن الحملة، فلا قوة إلا بالله،وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض،فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء‏.

هذا وملك الإنكليز قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله،وأهبة نزاله،واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة،يعني ميمنة المسلمين و ميسرتهم،فلم يتقدم إليه أحد من الفرسان،ولا نهره بطل من الشجعان،فعند ذلك كر السلطان راجعاً،وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولو أن له بهم قوة لما ترك أحداً منهم يتناول من بيت المال فلساً‏.‏

ثم حصل لملك الإنكليز بعد ذلك مرض شديد،فبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجاً فأمده بذلك من باب الكرم،

ثم عوفي لعنه الله وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده،وطاوع السلطان على ما يقول وترك طلب عسقلان،ورضي بما رسم به السلطان،وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عشر من شعبان،وأكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم،وحلف الأمراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم،واكتفى من السلطان بالقول المجرد كما جرت به عادة السلاطين،وفرح كل من الفريقين فرحاً شديداً، وأظهروا سروراً كثيراً، ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاث سنين وستة أشهر،وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية،وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية،وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة،وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة أمير لتخريب سور عسقلان وإخراج من بها من الفرنج‏.‏

وعاد السلطان إلى القدس فرتب أحواله ووطدها،وسدد أموره وأكدها،وزاد وقف المدرسة سوقاً بدكاكينها وأرضاً ببساتينها،وزاد وقف الصوفية،وعزم على الحج عامه ذلك،فكتب إلى الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك،ويتأهبوا له،فكتب إليه القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفاً على البلاد من استيلاء الفرنج عليها، ومن كثرة المظالم بها، وفساد الناس والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك عامك هذا،والعدو مخيم بعد بالشام،وأنت تعلم أنهم يهادنون ليتقووا ويكثروا،ثم يمكروا ويغدروا،فسمع السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر الممالك،واستمر مقيماً بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن،وكلما وفد أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الإكرام،تأليفاً لقلوبهم،ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكراً،ويحضر سماط السلطان فيمن حضر من جمهورهم،بحيث لا يرى‏.‏‏

والسلطان لا يعلم ذلك جملة ولا تفصيلا،ولهذا كان يعاملهم بالإكرام،ويريهم صفحاً جميلاً،وبراً جزيلاً‏.‏

فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصداً دمشق،واستناب على القدس عز الدين جورديك،وعلى قضائها بهاء الدين بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعي،فاجتاز على وادي الجيب وبات على بركة الداوية،ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها‏.‏

ثم ترحل عنها، فجعل يمر بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها،وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية فأكرمه وأحسن إليه،وأطلق له أموالاً جزيلة وخلعاً،وكان العماد الكاتب في صحبته،فأخبر عن منازله منزلة منزلة إلى أن قال‏:‏وعبر يوم الاثنين عين الحر إلى مرج بيوس،وقد زال البوس‏.‏

وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها،ونزل يوم الثلاثاء على العرادة،وجاءه هناك التحف والمتلقون على العادة، وأصبحنا يوم الأربعاء سادس عشر‏(‏1‏)‏ شوال بكرة بجنة دمشق داخلين،بسلام آمنين‏.‏

وكانت غبية السلطان عنها أربع سنين،فأخرجت دمشق أثقالها،وأبرزت نساءها وأطفالها ورجالها،وكان يوم الزينة، وخرج أكثر أهل المدينة، واجتمع أولاده الكبار والصغار، وقدم عليه رسل الملوك من سائر الأمصار، وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل،والعمل بالإحسان والفضل‏.‏

ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها‏:‏

وأبيها لولا تغزل عينها * لما قلت في التغزل شعرا

ولكانت مدائح الملك النا * صر وإلى ما فيه أعمل فكرا

ملكٌ طبق الممالك بالعد * ل مثلما أوسع البرية برّا

فيحل الأعياد صوماً وفطراً * ويلقى الهنا براً وبحرا

يأمر بالطاعات لله إن * أضحى مليك على المناهي مصراً

نلت ما تسعى من الدين والدنيا * فتيهاً على الملوك وفخراً

قد جمعت المجدين أصلاً وفرعاً * وملكت الدارين دنيا وأخرى

ومما وقع في هذه السنة من الحوادث غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها السبكتكيني وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة ثلاث وثمانين،فأظفره الله بهم هذه السنة، فكسرهم وقتل خلقاً منهم وأسر خلقاً‏.‏

وكان من جملة من أسره ملكهم الأعظم،وثمانية عشر فيلاً،من جملتها الذي كان جرحه،ثم أحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه،واستحوذ على حصنه وأخبر بما فيه من كل جليل وحقير،ثم قتله بعد ذلك،وعاد إلى غزنة مؤيداً منصوراً،مسروراً محبوراً‏.‏

وفيها‏:‏ اتهم أمير الحج ببغداد وهو طاشتكين، وقد كان على إمرة الحج من مدة عشرين سنة، وكان في غاية حسن السيرة، واتهم بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب في أخذ بغداد،فإنه ليس بينه وبينها أحد يمانعه عنها،وقد كان مكذوباً عليه،ومع هذا أهين وحبس وصودر‏.‏

 فصل

من الأعيان القاضي شمس الدين‏.‏

محمد بن محمد بن موسى

المعروف بابن الفراش،كان قاضي العساكر بدمشق،ويرسله السلطان إلى ملوك الآفاق،ومات بمليطة‏.‏

سيد الدين علي بن أحمد المشطوب

كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، حضر معه الوقعات الثلاث بمصر، ثم صار من كبراء أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائباً على عكا لما أخذوها الفرنج، فأسروه من جملة ما أسروا فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار، وجاء السلطان وهو بالقدس فأعطاه أكثرها، وولاه نابلس‏.‏

توفي يوم الأحد ثالث وعشرين شوال بالقدس ودفن بداره‏.‏

صاحب بلاد الروم عز الدين قلج أرسلان بن مسعود

ابن قلج أرسلان، وكان قد قسم جميع بلاده بين أولاده، طمعاً في طاعتهم له، فخالفوه وتجبروا وعتوا عليه، وخفضوا قدره وارتفعوا، ولم يزل كذلك حتى توفي في عامه هذا‏.‏

وفي ربيع الآخر توفي الشاعر أبو المرهف‏.‏ ‏

نصر بن منصور النميري

سمع الحديث واشتغل بالأدب، أصابه جدري وهو ابن أربع عشرة سنة فنقص بصره جداً، وكان لا يبصر الأشياء البعيدة، ويرى القريب منه، ولكن كان لا يحتاج إلى قائد، فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه فآيسته الأطباء من ذلك،فاشتغل بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين فأفلح،وله ديوان شعر كبير حسن،وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول‏:‏

أحب علياً والبتول وولدها * ولا أجحد الشيخين فضل التقدم

وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى * كما أتبرا من ولاء ابن ملجم

ويعجبني أهل الحديث لصدقهم * فلست إلى قوم سواهم بمنتمي

توفي ببغداد ودفن بمقابر الشهداء بباب حرب، رحمه الله تعالى‏.‏

بحمد الله تعالى قد تم الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية للعلامة ابن كثير ويليه الجزء الثالث عشر وأوله سنة تسع وثمانين وخمسمائة هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية‏.‏