الجزء الثالث عشر - ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

بسم الله الرحمن الرحيم

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى‏.‏

استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعاً إلى بلاد أذربيجان، بلاد العجم، فإنه ليس دونها أحد يمانع عنها‏.‏

فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادي عشر صفر خرج السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الإسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا‏.‏

ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة، وطاب له الحديث، وطال مجلسهم عنده‏.‏

ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الأطباء في اليوم الرابع، ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، ثم قوي اليبس فأحضر الأمراء الأكابر فبويع لولده الأفضل نور الدين علي‏.‏

وكان نائباً على دمشق، وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد، وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل وابن شداد وقاضي البلد بن الزكي‏.‏

ثم اشتد به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ وهو كذلك صحيح‏.‏

فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 129‏]‏

تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله، وأكرم مثواه، وجعل جنات الفردوس مأواه‏.‏

وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، لأنه ولد بتكريت في شهور سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله، فقد كان ردءاً للإسلام وحرزاً وكهفاً من كيد الكفرة اللئام، وذلك بتوفيق الله له‏.‏

وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وقد غلقت الأسواق واحتفظ على الحواصل، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي‏.‏

وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، هذا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر‏.‏

وأمّ الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم، لوصيته بذلك قديماً، فلم يكمل بناؤها، وذلك حين قدم ولده العزيز وكان محاصراً لأخيه الأفضل كما سيأتي بيانه في سنة تسعين وخمسمائة‏.‏

ثم اشترى له الأفضل داراً شمالي الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربة، هطلت سحائب الرحمة عليها، ووصلت ألطاف الرأفة إليها‏.‏

وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الأفضل، ودخل في لحده ولده الأفضل فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطان الشام‏.‏

ويقال‏:‏ إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله‏.‏

ثم عمل عزاؤه بالجامع الأموي ثلاثة أيام، يحضره الخاص والعام، والرعية والحكام، وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، منها قوله‏:‏

شمل الهدى والملك عمّ شتاته * والدهر ساء وأقلعت حسناته

أين الذي مذ لم يزل مخشيّة * مرجوةً رهباته وهباته‏؟‏

أين الذي كانت له طاعاتنا * مبذولةً ولربه طاعاته

بالله أين الناصر الملك الذي * لله خالصةً صفتْ نياته‏؟‏

أين الذي ما زال سلطاناً لنا * يرجى نداه وتتقى سطواته‏؟‏

أين الذي شرف الزمان بفضله * وسمت على الفضلاء تشريفاته‏؟‏

أين الذي عنت الفرنج لبأسه * ذلاً، ومنها أدركت ثاراته‏؟‏

أغلال أعناق العدا أسيافه * أطواق أجياد الورى مناته

من للعلى من للذرى من للهدى * يحميه‏؟‏ من للبأس من للنائل‏؟‏

طلب البقاء لملكه في آجلٍ * إذ لم يثق ببقاء ملكٍ عاجل

بحرٌ أعاد البر بحراً بره * وبسيفه فتحت بلاد الساحل

من كان أهل الحق في أيامه * وبعزه يردون أهل الباطل

وفتوحه والقدس من أبكارها * أبقت له فضلاً بغير مساجل

ما كنت استسقي لقبرك وابلاً * ورأيت جودك مخجلاً للوابل

فسقاك رضوان الإله لأنني * لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل

 تركته وشيء من ترجمته

قال العماد وغيره‏:‏ لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد - أي دينار واحد - صورياً وستة وثلاثين درهماً‏.‏

وقال غيره‏:‏ سبعة وأربعين درهماً، ولم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً، ولا شيئاً من أنواع الأملاك‏.‏

هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكراً وابنة واحدة، وتوفي له في حياته غيرهم، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكراً أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر‏.‏

ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضاً في جمادى الأولى سنة سبع وستين‏.‏

ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين، وهو شقيق الأفضل‏.‏

ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين‏.‏

ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين‏.‏

ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق العزيز‏.‏

ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين، وهو شقيق العزيز أيضاً‏.‏

ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر‏.‏

ثم أبو الفضل قطب الدين موسى، وهو شقيق الأفضل، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضاً، ثم لقب بالمظفر أيضاً‏.‏

ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين‏.‏

ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين، وهو شقيق الذي قبله‏.‏

ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة‏.‏

ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق للمعز‏.‏

ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملك شاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم‏.‏

ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه، ولد بحران بعد وفاة السلطان‏.‏ ‏

ثم عماد الدين شادي لأم ولد، ونصير الدين مروان لأم ولد أيضاً‏.‏

وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب رحمهم الله تعالى‏.‏

وإنما لم يخلف أموالاً ولا أملاكاً لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللاً في ملبسه، ومأكله ومركبه‏.‏

وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصره الإسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلاً ونهاراً، وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل، والفوائد الفرائد، في اللغة والأدب وأيام الناس‏.‏

حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها، وكان مواظباً على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال‏:‏ إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه‏.‏

وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده‏.‏

وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثاً، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب‏.‏

وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين‏.‏

كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئاً من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره‏.‏

ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمداً، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان من أشجع الناس وأقواهم بدناً وقلباً، مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام، ولا سيما في حصار عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل، ويقال‏:‏ ستمائة ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل‏.‏

ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم، ولم يزل بجيشه مقيماً به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه، ودخلوا عليه في الصلح، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده، لا على ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين‏.‏

فإنه ما انقضت تلك لسنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به الكافرون، وكان سخياً جبياً ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة على الخيرات والطاعات، فرحمه الله وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفاً صالحاً من سيرته وأيامه، وعدله في سريرته وعلانيته، وأحكامه‏.‏

 فصل

وكان قد قسم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، وهو أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات‏.‏

وحماه ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب‏.‏

واليمن بمعاقله ومخالفيه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر‏.‏

ثم شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك، حتى آل الأمر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفاً من الكتب الحسنة المثمنة، وفي المحرم منها جرت ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام أبيها فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات ليلة أن يأتيها فجاء إليها مختفياً فتركته في بعض الدار‏.‏

فلما جاء أبوها في أثناء الليل أمرته فنزل فقتله، وأمرته بقتل أمها وهي حبلى، وأعطته الجارية حلياً بقيمة ألفي دينار، فأصبح أمره عند الشرطة فمسك وقتل قبحه الله، وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبراً، وكان شاباً وضيء الوجه رحمه الله‏.‏

وفيها‏:‏ درّس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي التويابي وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل بها دعوة حافلة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب

ابن شاذي، وقد تقدمت وفاته مبسوطة‏.‏

 الأمير بكتمر صاحب خلاط

قتل في هذه السنة، وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأحسنهم سيرة رحمه الله‏.‏

 الأتابك عز الدين مسعود

ابن مودود بن زنكي، صاحب الموصل نحواً من ثلاث عشرة سنة، من خيار الملوك، كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل أثابه الله‏.‏

 جعفر بن محمد بن فطيرا

أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق، كان ينسب إلى التشيع، وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم، جاءه رجل ذات يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين علياً في المنام‏.‏

فقال لي‏:‏ اذهب إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشرة دنانير‏.‏

فقال له ابن فطيرا‏:‏ متى رأيته‏؟‏

قال‏:‏ أول الليل‏.‏

فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال لي‏:‏ إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئاً فلا تعطه، فأدبر الرجل مولياً فاستدعاه ووهبه شيئاً‏.‏

ومن شعره فيما أورده ابن الساعي وقد تقدم ذلك لغيره‏:‏

ولما سبرت الناس أطلب منهم * أخا ثقةٍ عند اعتراض الشدائد

وفكرت في يومي سروري وشدتي * وناديت في الأحياء هل من مساعد‏؟‏

فلم أر فيما ساءني غير شامتٍ * ولم أر فما سرني غير حاسد

 يحيى بن سعيد بن غازي

أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات، كان شاعراً أديباً فاضلاً بليغاً، له اليد الطولى في اللغة والنظم،

 

ومن شعره قوله‏:‏

غناء خودٍ ينساب لطفاً * بلا عناءٍ في كل أذن

ما رده قط باب سمعٍ * ولا أتى زائراً بإذن

 السيدة زبيدة

بنت الإمام المقتفي لأمر الله، أخت المستنجد وعمة المستضيء، كانت قد عمرت طويلاً ولها صدقات كثيرة دارة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار، فتوفي قبل أن يدخل بها، وقد كانت كارهة لذلك، فحصل مقصودها وطلبتها‏.‏

 الشيخة الصالحة فاطمة خاتون

بنت محمد بن الحسن العميد، كانت عابدة زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، كان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش مطر وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده، بل اشتغلت بذكر الله عز وجل والعبادة، رحمها الله‏.‏

وفيها‏:‏ أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب منه أن يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر، ولو بلغ ذلك عشر مجلدات، وهي هذه الأبيات‏:‏

أيها الشامت المعير بالدهـ * ـر أأنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الـ * أيام، بل أنت جاهلٌ مغرور

من رأيت المنون خلدت أم من * ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسر الملوك أبو * ساسان أم أين قبله سابور‏؟‏

وبنوا الأصفر الملوك ملوك الر * وم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ * دجلة تجبى إليه والخابور

شاده مرمراً وجلله كلساً * فللطير في ذراه وكور

لم تهبه ريب المنون فزا * ل الملك عنه فبابه مهجور

وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوماً وللهندي تكفير

سره حاله وكثرة ما * يملك والبحر معرضاً والسدير

فارعوى قلبه وقال وما * غبطة حي إلى الممات يصير

ثم بعد النعيم والملك والنهي والـ * أمر وارتهم هناك قبور

ثم أضحوا كأنهم أورق جفـ * ـت فألوت بها الصبا والدبور

غير أن الأيام تختص بالمرء * وفيها لعمري العظات والتفكير

 

ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة

لما استقر الملك الأفضل بن صلاح الدين مكان أبيه بدمشق، بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر، من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات‏.‏

ومنها صليب الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين، وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلاً مرصعاً بالجواهر النفيسة، وأربع جواري من بنات ملوك الفرنج، وأنشأ له العماد الكاتب كتاباً حافلاً يذكر فيه التعزية بأبيه، والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده، فأجيب إلى ذلك‏.‏

ولما كان شهر جمادى الأولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى، وحاصر البلد، فمانعه أخوه ودافعه عنها، فقطع الأنهار ونهبت الثمار، وأشتد الحال، ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما‏.‏

ورد الأمر للألفة بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضاً، وعلى أن يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وأن يكون لعمهما العادل أقطاعه الأول ببلاد مصر مضافاً إلى ما بيده من الشام، والجزيرة، كحران، والرها، وجعبر وما جاور ذلك‏.‏

فاتفقوا على ذلك، وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج الصفر، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كر راجعاً إلى مصر لطول شوقه إلى أهله وأولاده، وكان الأفضل بعد موت أبيه قد أساء التدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الأجانب وأقبل على شرب المسكر واللهو واللعب‏.‏

واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري، وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك، فتلف وأتلفه، وأضل وأضله، وزالت النعمة عنهما كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند، أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل، ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير مثله، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً لم ير مثله‏.‏

فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له الملاحون، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى، فحمل من خزانته ذهباً وغيره على ألف وأربعمائة جمل، ثم عاد إلى بلاده سالماً منصوراً‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان خوارزم شاه تكش - ويقال له ابن الأصباعي - بلاد الري وغيرها، واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شأنه، ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏ ‏

فقتل السلطان طغرلبك، وأرسل رأسه إلى الخليفة، فعلق على باب النوبة عدة أيام، وأرسل الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه، وملك همدان وغيرها من البلاد المتسعة‏.‏

وفيها‏:‏ نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه، ونفاه إلى واسط، فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاماً، وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقي لنفسه الماء، وكان شيخاً كبيراً قد بلغ ثمانين سنة، وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمة‏.‏

قال‏:‏ ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف، إلى أن فرج الله كما سيأتي إن شاء الله‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن إسماعيل بن يوسف

أبو الخير القزويني الشافعي المفسر، قدم بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قوم الأشعري في الأصول، وجلس في يوم عاشوراء فقيل له‏:‏ العن يزيد بن معاوية‏.‏

فقال‏:‏ ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين‏.‏

 ابن الشاطبي ناظم الشاطبية

أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنف ‏(‏الشاطبية‏)‏ في القراءات السبع، فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة‏.‏

وبلده شاطبة - قرية شرقي الأندلس -كان فقيراً، وقد أريد أن يلي خطابة بلده فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك، خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الإسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة‏.‏

وسمع على السلفي وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاته بها في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية، وكان ديناً خاشعاً ناسكاً كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان يتمثل كثيراً بهذه الأبيات، وهي لغز في النعش، وهي لغيره‏:‏

أتعرف شيئاً في السماء يطير * إذا سار هاج الناس حيث يسير

فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً * وكل أمير يعتليه أسير

يحث على التقوى ويكره قربه * وتنفر منه النفس وهو نذير

ولم يستزر عن رغبة في زيارة * ولكن على رغم المزور يزور

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة الزلاقة ببلاد الأندلس شمالي قرطبة، بمرج الحديد، كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الإسلام وخذل فيها عبدة الصلبان‏.‏

وذلك أن القيش ملك الفرنج ببلاد الأندلس، ومقر ملكه بمدينة طليطلة، كتب إلى الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله، في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد‏.‏

فكتب السلطان يعقوب بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه‏:‏ ‏{‏ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ثم نهض من فوره في جنوده وعساكره، حتى قطع الزقاق إلى الأندلس، فالتقوا في المحل المذكور، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفاً، ثم كانت أخيراً على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة، وشر هزيمة وأشنعها‏.‏

فقتل منهم مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفاً، وأسر منهم ثلاثة عشر ألفاً، وغنم المسلمون منهم شيئاً كثيراً، من ذلك مائة ألف خيمة وثلاثة وأربعون خيمة، ومن الخيل ستة وأربعون ألف فرس؛

ومن البغال مائة ألف بغل، ومن الحمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفاً، ومن العدد شيء كثير، وملك عليهم من حصونهم شيئاً كثيراً، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم لم يفتحها فانفصل عنها راجعاً إلى بلاده‏.‏

ولما حصل للقيش ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حماراً وحلف لا يركب فرساً ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امرأة حتى تنصره النصرانية‏.‏

ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالاً عظيماً لم يسمع بمثله، فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الأولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم أو أكثر، واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم، ولله الحمد والمنة‏.‏

حتى قيل إنه بيع الأسير بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، والخيمة بدرهم، والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي، فاستغنى المجاهدون إلى الأبد، ثم طلبت الفرنج من السلطان الأمان فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلاً يقال له علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم، ظهر ببلاد إفريقية فأحدث أموراً فظيعة في غيبة السلطان، واشتغاله بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين‏.‏

فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الأرض فساداً، وقتل خلقاً كثيراً، وتملك بلاداً‏.‏

وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الري وأصبهان وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد، وقوي جانب الخلافة على الملوك والممالك‏.‏

وفيها‏:‏ خرج العزيز من مصر قاصداً دمشق ليأخذها من يد أخيه الأفضل، وكان الأفضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب، وأقبل على الصيام والصلاة، وشرع بكتابة مصحف بيده، وحسنت طريقته، غير أن وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته، ويكدر عليه صفوته‏.‏

فلما بلغ الأفضل إقبال أخيه نحوه سار سريعاً إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الأفضل أيضاً إلى أخيه الظاهر بحلب، فسارا جميعاً نحو دمشق‏.‏

فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كر راجعاً سريعاً إلى مصر، وركب وراءه العادل والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للأفضل، ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الأفضل يثبطه‏.‏

وأقاما على بلبيس أياماً حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن يرجع القدس ومعاملتها للأفضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم، فأقام العادل بها طمعاً فيها ورجع العادل إلى دمشق بعدما خرج العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 علي بن حسان بن سافر

أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديباً شاعراً‏.‏ من شعره قوله‏:‏

نفى رقادي ومضى * برق بسلع ومضا

لاح كما سلت يد الـ * أسود عضباً أبيضا

كأنه الأشهب في * النقع إذا ما ركضا

يبدو كما تختلف الر * يح على جمر الغضا

فتحسب الريح أبـ *ـدا نظراً و غمضا

أو شعلة النار علا * لهيبها وانخفضا

آهٍ له من بارقٍ * ضاء على ذات الأضا

أذكرني عهداً مضى * على الغوير وانقضى

فقال لي قلبي أتو * صي حاجة وأعرضا

يطلب من أمرضه * فديت ذاك الممرضا

يا غرض القلب لقد * غادرت قلبي غرضا

لأسهمٍ كأنما * يرسلها صرف القضا

فبت لا أرتاب في * أنَّ رقادي قد قضى

حتى قفا الـليل وكاد * الـليل أن ينقرضا

وأقبل الصبح لأطـ * ـراف الدجا مبيضا

وسل في الشرق على الغـ * ـرب ضياء وانقضى

 ثم دخلت سنة ثنتين و تسعين وخمسمائة

في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه العادل في عساكر، ودخلا دمشق قهراً، وأخرجا منها الأفضل ووزيره الذي أساء تدبيره، وصلى العزيز عند تربة والده صلاح، وخطب له بدمشق، ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار العدل للحكم والفصل، وكل هذا وأخوه الأفضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه وكانت داراً للأمير عز الدين شامة‏.‏

ثم استناب على دمشق عمه الملك العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنتين تاسع شوال، والسكة والخطبة بدمشق له، وصولح الأفضل على صرخد، وهرب وزيره ابن الأثير الجزري إلى جزيرته، وقد أتلف نفسه ومُلكه، وملكه بجريرته، وانتقل الأفضل إلى صرخد بأهله وأولاده، وأخيه قطب الدين‏.‏

وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر، حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار‏.‏

وفيها‏:‏ ولى قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد بن زيادة كتاب ‏(‏الإنشاء‏)‏ ببغداد، وكان بليغاً، وليس هو كالفاضل‏.‏

وفيها‏:‏ درّس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية، وكان فاضلاً مناظراً‏.‏

 وفيها‏:‏ قتل رئيس الشافعية بأصبهان

 محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخُجندي قتله ملك الدين سنقر الطويل، وكان ذلك سبب زوال ملك أصبهان عن الديوان‏.‏

وفيها مات الوزير وزير الخلافة‏:‏

 مؤيد الدين أبو الفضل

محمد بن علي بن القصاب، وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد‏.‏

فتقدم ابنه وساد أهل زمانه‏.‏

توفي بهمدان وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها، إلى ديوان الخلافة، وكان ناهضاً ذا همة وله صرامة وشعر جيد‏.‏

 الفخر محمود بن علي

التوقاني الشافعي، عائداً من الحج‏.‏ والشاعر‏:‏

 أبو الغنائم محمد بن علي

ابن المعلم الهرثي من قرى واسط، عن إحدى وتسعين سنة، وكان شاعراً فصيحاً، وكان ابن الجوزي في مجالسه يستشهد بشيء من لطائف أشعاره، وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الفقيه أبو الحسن علي بن سعيد

ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد، كان حنبلياً ثم اشتغل شافعياً على أبي القاسم بن فضلان، وهو الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية، ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الإمامية فالله أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الشيخ أبو شجاع

محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي الحاسب المؤرخ البغدادي، قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن فقال‏:‏

يا زيد زادك ربي من مواهبه * نعماً يقصر عن إدراكها الأمل

لا بدل الله حالاً قد حباك بها * ما دار بين النحاة الحال والبدل

النحو أنت أحق العالمين به * أليس باسمك فيه يضرب المثل

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

فيها‏:‏ ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والأرض عجاجاً‏.‏

حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ‏

ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار‏.‏

وفر الناس نساء ورجالاً وأطفالاً، ونفروا من دورهم خفافاً وثقالاً، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي‏.‏

ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود‏.‏

فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غرة‏.‏

ووردت الأخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والأشجار في القفار، وأتلفت خلقاً كثيراً من السفار، ومنهم من فّر فلا ينفعه الفرار‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفاً والعلم مجوفاً، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عياناً، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهاناً، إلا أهل بلدنا فما قص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات‏.‏

والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور‏.‏

وفيها‏:‏ كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب‏.‏

هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات‏.‏

وكتب أيضاً أدام الله ذلك الاسم تاجاً على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله‏:‏

ألم تر أن المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمداً ليسلم سائره

ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفراً فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعاً، ودفع عنه ضرراً، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سبباً إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها‏.‏

فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏ ‏

وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد كانوا كتبوا إلى ملك الألمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعاً، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة‏:‏

سلم الحصن ما عليك ملامة * ما يلام الذي يروم السلامة

فتعطى الحصون من غير حربٍ * سنةٌ سنها ببيروت شامة

ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعٍ، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل، ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقاً من مقاتلتهم، ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية‏.‏

 

 

 وفيها توفي ملك اليمن‏:‏

 سيف الإسلام طغتكين

أخو السلطان صلاح الدين، وكان قد جمع أموالاً جزيلة جداً، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك، وقام في الملك بعده ولده إسماعيل، وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أن ادّعى أنه قرشي أموي، وتلقب بالهادي‏.‏

فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفت إليه، بل تمادى وأساء التدبير إلى الأمراء والرعية، فقتل وتولى بعده مملوك من مماليك أبيه‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الأمير الكبير أبو الهيجاء السمين الكردي

كان من أكابر أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائباً على عكا، وخرج منها قبل أخذ الإفرنج، ثم دخلها بعد المشطوب، فأخذت منه، واستنابه صلاح الدين على القدس‏.‏

ثم لما أخذها العزيز عزل عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراماً زائداً، وأرسله الخليفة مقدماً على العساكر إلى همدان، فمات هناك‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 قاضي بغداد أبو طالب علي بن علي بن هبة الله بن محمد

البخاري، سمع الحديث على أبي الوقت وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن فضلان، وتولى نيابة الحكم ببغداد، ثم استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء ثم أعيد ومات وهو حاكم، نسأل الله العافية، وكان فاضلاً بارعاً من بيت فقه وعدالة وله شعر‏:‏

تنحّ عن القبيح ولا ترده * ومن أوليته حسناً فزده

كفا بك من عدوك كل كيدٍ * إذا كاد العدو ولم تكده

وفيها توفي‏:‏

 السيد الشريف نقيب الطالبيين ببغداد

أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن يزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن الأقساسي، الكوفي مولداً ومنشأ‏.‏

كان شاعراً مطبقاً، امتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروءة، قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضيء وابنه الناصر، فولاه النقابة كان شيخاً مهيباً، جاوز الثمانين، وقد أورد له ابن الساعي قصائد كثيرة منها‏:‏

اصبر على كيد الزما * ن فما يدوم على طريقة

سبق القضاء فكن به * راضٍ ولا تطلب حقيقة

كم قد تغلب مرةً * وأراك من سعةٍ وضيقة

ما زال في أولاده * يجري على هذي الطريقة

وفيها توفيت‏:‏

 الست عذراء بنت شاهنشاه

ابن أيوب، ودفنت بمدرستها داخل باب النصر، والست خاتون والدة الملك العادل، ودفنت بدراها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع تسعين وخمسمائة

فيها‏:‏ جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تبنين، فاستدعى العادل بني أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر، والأفضل من صرخند‏.‏

فأقلعت الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الألمان فطلبوا من العادل الهدنة والأمان، فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها، وقد عظم المعظم عيسى بن العادل في هذه المرة، واستنابه أبوه على دمشق، وسار إلى ملكه بالجزيرة، فأحسن فيهم السيرة‏.‏

وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار وغيرها من المدائن الكبار، وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي الأتابكي، كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلاً وسيرة، وأجودهم طوية وسريرة، غير أنه كان يبخل، وكان شديد المحبة للعلماء، ولا سيما الحنفية‏.‏

وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار، وشرط لهم طعاماً يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم، وهذا نظر حسن، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير، لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته، فعدى على أولاده ابن عمه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل، فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم، واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين محمد‏.‏

ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان، فاستولى على ريفها ومعاملتها، وأعجزته قلعتها، فطاف عليها ومشى، وما ظن أحد أنه تملكها، لأن ذلك لم يكن مثبوتاً ولا مقداراً‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم، وأرسل الخليفة إليهم أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق، فإنه كان يروم أن يخطب له ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة، وقد كانت امتنعت عليه دهراً ونصرهم الخطا، فقهرهم جميعاً وأخذها عنوة، وعفا عن أهلها وصفح‏.‏

وقد كانوا ألبسوا كلباً أعور قباء وسموه خوارزم شاه، ورموه في المنجيق إلى الخوارزمية، وقالوا هذا مالكم، وكان خوارزم شاه أعور، فلما قدر عليهم عفا عنهم، جزاه الله خيراً‏.‏ ‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 العوام بن زيادة

كاتب الإنشاء بباب الخلافة، وهو أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة، انتهت إليه رياسة الرسائل والإنشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق‏.‏

وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي، أخذه عن ابن فضلان، وله معرفة جيدة بالأصلين الحساب واللغة، وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكوراً في جميعها، ومن مستجاد شعره قوله‏:‏

لا تحقرن عدواً تزدريه فكم * قد أتعس الدهر جد الجد باللعب

فهذه الشمس يعروها الكسوف لها * على جلالتها بالرأس والذنب

وله‏:‏

باضطراب الزمان ترتفع الأنـ * ـذال فيه حتى يعم البلاء

وكذا الماء راكدٌ فإذا * حرك ثارت من قعره الأقذاء

وله أيضاً‏:‏

قد سلوت الدنيا ولم يسلها * من علقت في آماله والأراجي

فإذا ما صرفت وجهي عنها * قذفتني في بحرها العجاج

يستضيئون بي وأهلك وحدي * فكأني ذبالة في سراج

توفي في ذي الحجة وله ثنتان وسبعون سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند موسى بن جعفر‏.‏

 القاضي أبو الحسن علي بن رجاء بن زهير

ابن علي البطائحي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد الله بن النبيه الفرضي، ثم ولي قضاء العراق مدة‏.‏

وكان أديباً، وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضاً للحريري في بيتيه اللذين زعم أنهما لا يعزوان ثالثاً لهما، وهما قوله‏:‏

سمْ ممة يحُمد آثارها * واشكر لمن أعطا ولو سمسمة

والمكر مهما اسطعت لا تأته * لتقتني السؤدد والمكرمة

فقال ابن النبيه‏:‏

ما الأمة الوكساء بين الورى * أحسن من حر أتى ملامه

فمه إذا استجديت عن قول لا * فالحر لا يملأ منها فمه

 الأمير عز الدين جرديك

كان من أكابر الأمراء في أيام نور الدين، وكان ممن شرك في قتل شاور، وحظي عند صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات الكبار فيسدها بنفسه وشجاعته‏.‏

ولما ولي الأفضل عزله عن القدس فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة‏.‏

 

 

 

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر

وذلك أنه خرج إلى الصيد، فكانت ليلة الأحد العشرين من المحرم، ساق خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره‏.‏

ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال‏:‏ إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد‏.‏

وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعاً، وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام‏.‏

وقيل‏:‏ إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعاً، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب‏:‏

أدام الله سلطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الإسلام بنصره، وفدت الأنفس نفسه الكريمة، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه الله حياة طيبة هو والإسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالاً ولا أعدمه نفساً ولا ولداً، ولا قصر له ذيلاً ولا يداً، ولا أسخن له عيناً ولا كبداً، ولا كدر له خاطراً ولا مورداً‏.‏

ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة المكروه أليمة، وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن‏.‏

وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والأسى عليه في كل يوم جديد‏.‏

ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمداً، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعاً‏.‏

فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الأمراء الناصرية، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر، لكن استفاد الأفضل في سفرته هذه أن أخذ جيشاً كثيفاً من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه‏.‏

وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر وجيش حماه، فكثر جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها، وقد استناب على ما ردين ولده محمداً الكامل‏.‏

ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الأمراء وكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور قبل ذلك‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 السلطان أبو محمد يعقوب بن يوسف

ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس بمدينته، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية، وقد كان ديناً حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهرياً حزمياً ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله‏.‏

وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الأهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب‏.‏

وفيها‏:‏ ادّعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديماً، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقاً من الشافعية، وحضر ابن القدوة وكان شيخاً معظماً في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم‏.‏

فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته‏:‏

أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبّس به الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله، ولأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله، على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل‏.‏

قال‏:‏ فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان‏.‏

وفيها‏:‏ رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي، فكثر الجمع جداً وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة‏:‏

لا تعطش الروض الذي بنيته * بصوب إنعامك قد روضا

لا تبر عوداً أنت قد رشته * حاشى لباني المجد أن ينقضا

إن كان لي ذنبٌ قد جنيته * فاستأنف العفو وهب لي الرضا

قد كنت أرجوك لنيل المنى * فاليوم لا أطلب إلا الرضا

 

ومما أنشده يومئذ‏:‏

شقينا بالنوى زمناً فلما * تلاقينا كأنا ما شقينا

سخطنا عندما جنت الليالي * وما زالت بنا حتى رضينا

ومن لم يحيى بعد الموت يوماً * فإنا بعد ما متنا حيينا

وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهروزري فولاه قضاء قضاة بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوماً شيئاً من العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والأمير صارم الدين برغش‏.‏

فعقد له مجلساً فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق‏؟‏

قال‏:‏ نعم

فغضب الأمير وأمر بنفيه من البلد؛ فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الأسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن‏.‏

وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه‏.‏

من الأعيان‏:‏

 الأمير مجاهد الدين قيماز الرومي

نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلاً ذكياً فقيهاً حنيفاً، وقيل شافعياً، يحفظ شيئاً كثيراً من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الأثير‏:‏ وقد كان من محاسن الدنيا‏.‏ ‏

 أبو الحسن محمد بن جعفر

ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن النجاري، كان شافعياً تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا، وآل به الأمر إلى ما آل‏.‏

ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزوراً عليه‏.‏ فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات‏.‏

 الشيخ جمال الدين أبو القاسم

يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولاً على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية‏.‏

ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعاد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والأصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدّرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه، وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخاً حسناً لطيفاً ظريفاً، ومن شعره‏:‏

وإذا أردت منازل الأشراف * فعليك بالإسعاف والإنصاف

وإذا بغا باغٍ عليك فخله * والدهر فهو له مكاف كاف

ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والملك الأفضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل، وقد قطع عنها الأنهار والميرة، فلا خبز ولا ماء إلا قليلاً، وقد تطاول الحال، وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقاً لئلا يصل إليهم جيش دمشق، وجاء فصل الشتاء وكثرت الأمطار والأوحال‏.‏

فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل علي أبيه بخلق من التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرها وحران، فعند ذلك انصرف العساكر المصرية، وتفرقوا أيادي سبا، فرجع الظاهر إلى حلب والأسد إلى حمص، والأفضل إلى مصر، وسلم العادل من كيد الأعادي، بعد ما كان قد عزم على تسليم البلد‏.‏

وسارت الأمراء الناصرية خلف الأفضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة، وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم، فنهض إليهم سريعاً فدخل الأفضل مصر وتحصن بقلعة الجبل، وقد اعتراه الضعف والفشل‏.‏

ونزل العادل على البركة وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الأفضل خاضعاً ذليلاً، فأقطعه بلاداً من الجزيرة، ونفاه من الشام لسوء السيرة، ودخل العادل القلعة وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي‏.‏

وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور، والعادل مستقل بالأمور، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه‏.‏

وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز، وكان ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته لا تصح لأنه متولي عليه، فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم‏.‏

وقال فيما قال‏:‏ قد سمعتم ما أفتى به العلماء، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الأطفال الصغار، وإنما يحفظها الملوك الكبار، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه‏.‏

ثم من بعده لولده الكامل، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما، وضربت السكة باسمهما، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل، ومصر باسم الكامل‏.‏

وفي شوال رجع إلى دمشق الأمير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن جلدك، وهو أخو الملك العادل لأمه، وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس، وبها قبره، فأقام بها محترماً معظماً إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

وفيها وفي التي بعدها‏:‏ كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغني والفقير، وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات، وأما بلاد العراق فإنه كان مرخصاً‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به‏.‏

 

 

وممن توفي بها من الأعيان‏:‏

 السلطان علاء الدين خوارزم شاه

تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين، وهو صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الأقاليم المتسعة، وهو الذي قطع دولة السلاجقة‏.‏

كان عادلاً حسن السيرة له معرفة جيدة بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الأصول، وبنى للحنفية مدرسة عظيمة، ودفن بتربة بناها بخوارزم، وقام في الملك من بعده ولده علاء الدين محمد، وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين‏.‏

وفيها‏:‏ قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور‏:‏

 نظام الدين مسعود بن علي

وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل، وبنى بمرو جامعاً عظيماً للشافعية، فحسدتهم الحنابلة وشيخهم بها يقال له شيخ الإسلام، فيقال إنهم أحرقوه وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل، فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الشيخ المسند المعمر رحلة الوقت‏:‏

 أبو الفرج بن عبد المنعم بن عبد الوهاب

ابن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني الأصل البغدادي المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، وكان من أعيان التجار وذوي الثروة‏.‏

 الفقيه مجد الدين

أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل، مدرّس القدس أول من درّس بالصلاحية، وهو والد الفقهاء بني جميل الدين، كانوا بالمدرسة الجاروخية، ثم صاروا إلى العمادية والدماعية في أيامنا هذه، ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم‏.‏

 الأمير صارم الدين قايماز

ابن عبد الله النجي، كان من أكابر الدولة الصلاحية، كان عند صلاح الدين بمنزلة الأستاذ، وهو الذي تسلم القصر حين مات العاضد‏.‏

فحصل له أموال جزيلة جداً، وكان كثير الصدقات والأوقاف، تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عيناً، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة‏.‏

وقد كانت دار الحديث الأشرفية داراً لهذا الأمير، وله بها حمام، فاشترى ذلك الملك الأشرف فيما بعد وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناه مسكناً للشيخ المدّرس بها‏.‏

ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهماً بمال جزيل، فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك، وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقرياه، سامحه الله‏.‏

 

 

الأمير لؤلؤ

أحد الحجاب بالديار المصرية، كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الأسطول في البحر، فكم من شجاع قد أسر، وكم من مركب قد كسر، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات، كثير النفقات في كل يوم، وقع غلاء بمصر فتصدق باثني عشر ألف رغيف، لاثني عشر ألف نفس‏.‏

 الشيخ شهاب الدين الطوسي

أحد مشايخ الشافعية بديار مصر، شيخ المدرسة المنسوبة إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب، التي يقال لها منازل العز، وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، توفي في هذه السنة، فازدحم الناس على جنازته، وتأسفوا عليه‏.‏

 الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي

شيخ الشافعية بحلب، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وتتلمذ للرازي، ورحل إلى مصر وعرض عليه أن يدرّس بتربة الشافعي فلم يقبل، فرجع إلى حلب فأقام بها إلى أن مات‏.‏

 الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر

رئيس الحنفية بدمشق، قال أبو شامة‏:‏ ويعرف بابن العقادة‏.‏

 الشاعر أبو الحسن

علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي، قدم دمشق في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان، وقد تصدى لمدح الملك الأمجد صاحب بعلبك وله‏:‏

وما الناس إلا كامل الحظ ناقصٌ * وآخر منهم ناقص الحظ كامل

وإني لمثر من خيار أعفة * وإن لم يكن عندي من المال كامل

وفيها‏:‏ توفي القاضي الفاضل، الإمام العلامة شيخ الفصحاء والبلغاء‏:‏

أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف

أبي المجد علي بن الحسن بن البيساني المولى الأجل القاضي الفاضل، كان أبوه قاضياً بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة الإنشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، ولم يكن له في زمانه نظير، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل‏.‏ ‏

ولما استقر الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه، وكان أعز عليه من أهله وأولاده، وتساعدا حتى فتح الأقاليم والبلاد، هذا بحسامه وسنانه، وهذا بقلمه ولسانه وبيانه‏.‏

وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة، وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر القلب والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية، وأوقاف على تخليص الأسارى من يدي النصارى‏.‏

وقد اقتنى من الكتب نحواً من مائة ألف كتاب، وهذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولد في سنة ثنتين وخمسمائة، توفي يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة يوم الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل، وتأسف عليه‏.‏

ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر، فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله أن لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما من المنافسة، فمات ولم ينله أحد بضيم ولا أذى، ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه، وقد رثاه الشعراء بأشعار حسنة، منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك‏:‏

عبد الرحيم على البرية رحمةٌ * أمنت بصحبتها حلول عقابها

يا سائلي عنه وعن أسبابه * نال السماء فسله عن أسبابها

وأتته خاطبةً إليه وزارة * ولطال ما أعيت على خطابها

وأتت سعادته إلى أبوابه * لا كالذي يسعى إلى أبوابها

تعنوا الملوك لوجهه بوجوهها * لا بل تساق لبابه برقابها

شغل الملوك بما يزول ونفسه * مشغولة بالذكر في محرابها

في الصوم والصلوات أتعب نفسه * وضمان راحته على إتعابها

وتعجل الإقلاع عن لذاته * ثقةً بحسن مآلها ومآبها

فلتفخر الدنيا بسائس ملكها * منه ودارس علمها وكتابها

صوّامها قوّامها علاّمها * عمّالها بذّالها وهابها

والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة، وإنما له ما بين البيت والبيتين في أثناء رسائله وغيرها شيء كثير جداً، فمن ذلك قوله‏:‏

سبقتم بإسداء الجميل تكرماً * وما مثلكم فيمن يحدث أو يحكى

وكان ظني أن أسابقكم به * ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا

وله‏:‏

ولي صاحب ما خفت من جور حادثٍ * من الدهر إلا كان لي من ورائه

إذا عضني صرف الزمان فإنني * براياته أسطو عليه ورائه

وله في بدو أمره‏:‏

أرى الكتاب كلهم جميعاً * بأرزاقٍ تعمهم سنينا

ومالي بينهم رزقٌ كأني * خلقت من الكرام الكاتبينا

وله في النحلة والزلقطة‏:‏

ومغردين تجاوباً في مجلسٍ * منعاهما لأذاهما الأقوامُ

هذا يجود بعكس ما يأتي به * هذا فيحمد ذا وذاك يلامُ

 

وله‏:‏

بتنا على حالٍ تسرُّ الهوى * لكنه لا يمكن الشرح

بوابنا الليل، وقلنا له‏:‏ * إن غبت عنّا هجم الصبح

وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زراً من ذهب مغلف بعنبر أسود، فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشأ يقول‏:‏

أهدت لك العنبر في وسطه * زرٌّ من التبر رقيق اللحام

فالزر في العنبر معناهما * زر هكذا مختفياً في الظلام

قال ابن خلكان‏:‏ وقد اختلف في لقبه فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين، وحكي عن عمارة اليمني‏:‏ أنه كان يذكر جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الإسكندرية، وقد كان معدوداً في حسناته‏.‏

وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا، وفي هذه زيادة كثيرة والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

فيها اشتد الغلاء بأرض مصر جداً، فهلك خلق كثير جداَ من الفقراء والأغنياء، ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل‏:‏ أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحواً من مائتي ألف، وعشرين ألف ميت، وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر‏.‏

وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير يشوي الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس جداً حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله‏.‏

وكان الرجل يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئاً، ثم يذبحه ويأكله‏.‏ ‏

وكان أحدهم يذبح امرأته ويأكلها وشاع هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى، بل يعذر بعضهم بعضاً، ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الأطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فكانوا يذبحون ويؤكلون، كان الرجل يستدعى الطبيب ثم يذبحه ويأكله، وقد استدعى رجل طبيباً حاذقاً وكان الرجل موسراً من أهل المال، فذهب الطبيب معه على وجلٍ وخوفٍ، فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيل منه، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه حتى دخل داره، فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضاً فخرج صاحبه فقال له‏:‏ ومع هذا البطء جئت لنا بصيد، فلما سمعها الطبيب هرب فخرجا خلفه سراعاً فما خلص إلا بعد جهد وشر‏.‏

وفيها‏:‏ وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية، فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس الله وعذابه وغضبه وعقابه‏.‏

أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم‏.‏

واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جداً، وهي أن رجلاً يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد اليمن، وجمع نحواً من اثني عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعاً كثيراً‏.‏

وخافه ملك اليمن إسماعيل بن طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا الرجل، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته، واختلاف أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم أحد سوى طائفة من الخيالة والرجالة، فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل منهم ستة آلاف، واستقر في ملكه آمناً‏.‏

وفيها‏:‏ تكاتب الأخوان الأفضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل، وتكون للأفضل، ثم يسيرا إلى مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة المنصور، ونكثا المواثيق، فإذا أخذا مصر كانت للأفضل وتصير دمشق مضافة إلى الظاهر مع حلب‏.‏

فلما بلغ العادل ما تمالآ عليه أرسل جيشاً مدداً لابنه المعظم عيسى إلى دمشق، فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه إليها، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك، فنزلا على مسجد القدم واشتد الحصار للبلد، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان القدم، ولم يبق إلا فتح البلد، لولا هجوم الليل‏.‏

ثم إن الظاهر بدا له في كون دمشق للأفضل فرأى أن تكون له أولاً، ثم إذا فتحت مصر تسلمها الأفضل، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الأفضل، فاختلفا وتفرقت كلمتهما، وتنازعا الملك بدمشق، فتفرقت الأمراء عنهما، وكوتب العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئاً من بلاد الجزيرة، وبعض معاملة المعرة‏.‏

وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين، وسار كل منهما إلى ما تسلم من البلاد التي أقطعها وجرت خطوب يطول شرحها، وقد كان الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الأتابكي أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما العادل‏.‏

فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة، فقصدت العساكر حران، وبها الفائز بن العادل، فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة، وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانت عليه‏.‏

وفيها‏:‏ ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك خوارزم شاه من البلدان والحواصل والأموال، وجرت لهم خطوب طويلة جداً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس‏.‏

ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة، ومات بها وبقراها ثلاثون ألفاً تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، وأربع عشرة شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري‏.‏

وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقه بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب ‏(‏مرآة الزمان‏)‏‏:‏

إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلاً تحتها، وقيل إن أحداً لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 عبد الرحمن بن علي

ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي - نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق‏.‏

الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي، أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحواً من ثلاثمائة مصنف‏.‏

وكتب بيده نحواً من مائتي مجلدة، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة‏.‏

هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها، وحصر أفرادها‏.‏

منها‏:‏ كتابه في التفسير المشهور ‏(‏بزاد المسير‏)‏، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله ‏(‏جامع المسانيد‏)‏ استوعب به غالب ‏(‏مسند أحمد‏)‏ و ‏(‏صحيحي البخاري ومسلم‏)‏ و‏(‏جامع الترمذي‏)‏، وله كتاب ‏(‏المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم‏)‏ في عشرين مجلداً‏.‏

قد أوردنا في كتابنا هذا كثيراً منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخاً وما أحقه بقول الشاعر‏:‏

ما زلت تدأب في التاريخ مجتهداً * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله مقامات وخطب، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك‏.‏

ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين، وكان أهله تجاراً في النحاس، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها‏.‏

وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي، وكان وهو صبي ديناً مجموعاً على نفسه لا يخالط أحداً ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان‏.‏

وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظماً ونثراً، وبالجملة كان أستاذاً فرداً في الوعظ وغيره‏.‏

وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله‏:‏

ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا * وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباته * جري السعيد مدى ما أملا

أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي * أعيا سواي توصلاً وتغلغلا

لو كان هذا العلم شخصاً ناطقاً * وسألته هل زار مثلي‏؟‏ قال‏:‏ لا

ومن شعره وقيل هو لغيره‏:‏

إذا قنعت بميسورٍ من القوت * بقيت في الناس حراً غير ممقوت

ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي * فلست آسي على درٍ وياقوت

وله من النظم والنثر شيء كثيراً جداً، وله كتاب سماه ‏(‏لقط الجمان في كان وكان‏)‏، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين‏)‏‏)‏ إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل لهم حثوا المطي‏.‏

وقال له رجل أيما أفضل‏؟‏ أجلس أسبح أو أستغفر‏؟‏

فقال‏:‏ الثوب الوسخ أحوج إلى البخور‏.‏

وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال‏:‏

هذا طين سطحه في كانون‏.‏

والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال‏:‏

يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول‏:‏

إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين‏.‏

وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمناً ولا سميناً حتى يخصب الناس‏.‏

قال‏:‏ فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقاً من الفقراء‏.‏

ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيراً جداً، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد‏.‏

وكان يوماً مشهوداً، حتى قيل‏:‏ إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات‏:‏

يا كثير العفو يا من * كثرت ذنبي لديه

جاءك المذنب يرجو الصـ * ـفح عن جرم يديه

أنا ضيفٌ وجزاء الـ * ـضيف إحسان إليه

وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة‏:‏ عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شاباً في حياة والده في سنة أربع وخمسين، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقاً لوالده إلباً عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن‏.‏

ثم محيي الدين يوسف، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام‏.‏ ‏

وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق، وما أوقف عليها، ثم حصل له من سائر الملوك أموالاً جزيلة، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان‏.‏

وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي صاحب ‏(‏مرآة الزمان‏)‏، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه‏.‏

 العماد الكاتب الأصبهاني

محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها -، المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني، صاحب المصنفات والرسائل، وهو قرين القاضي الفاضل، واشتهر في زمنه، ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل، ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة‏.‏

وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرّس النظامية، وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين محمود بن زنكي، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية، نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها، وتدريسه بها، لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود‏.‏

ولم يكن هو أول من درّس بها، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد، كما تقدم في ترجمة نور الدين، ثم صار العماد كاتباً في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني عليه ويشكره‏.‏

قالوا‏:‏ وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة، وقريحته في غاية الجودة والحدة، وقد قال القاضي الفاضل لأصحابه يوماً‏:‏ قولوا فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي‏.‏

وقال‏:‏ هو كالزناد ظاهره بارد وداخله نار، وله من المصنفات الجريدة ‏(‏جريدة النصر في شعراء العصر‏)‏ و‏(‏الفتح القدسي‏)‏، و‏(‏البرق الشامي‏)‏، وغير ذلك من المصنفات المسجعة، والعبارات المتنوعة والقصائد المطولة‏.‏

توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

 الأمير بهاء الدين قراقوش

الفحل الخصي، أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهماً شجاعاً فاتكاً‏.‏

تسلم القصر لما مات العاضد وعمر سور القاهرة محيطاً على مصر أيضاً، وانتهى إلى المقسم وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية، وبنى قلعة الجبل، وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار وهو بها‏.‏

فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من خرج، ثم دخلها ابن المشطوب‏.‏

وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار، وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحاً شديداً، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقد نسب إليه أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم جزءاً لطيفاً سماه كتاب ‏(‏الفاشوش في أحكام قراقوش‏)‏، فذكر أشياء كثيرة جداً، وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد على من بهذه المثابة والله أعلم‏.‏

 مكلبة بن عبد الله المستنجدي

كان تركياً عابداً زاهداً، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة‏:‏

يا رجال الليل جدوا * رب صوت لا يرد

ما يقوم الليل إلا * من له عزمٌ و جد

فبكى مكلبة وقال للمؤذن‏:‏ يا مؤذن زدني، فقال‏:‏

قد مضى الليل وولى * وحبيبي قد تخلا

فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى نعشه رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع

المركلسي ببغداد، ويعرف بابن نقطة، كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا، ويسحر الناس في ليالي رمضان، وكان مطبوعاً ظريفاً خليعاً، وكان أخوه الشيخ عبد الغني الزاهد من أكابر الصالحين، له زاوية ببغداد يزار فيها‏.‏

وكان له أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئاً يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئاً لعشائهم، وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء سوى هاون، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال‏:‏ خذ هذا وكل به ثلاثين يوماً، ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عز وجل‏.

هذا الرجل من خيار الصالحين، والمقصود أنه قال لأخيه أبي منصور‏:‏ ويحك أنت تدور في الأسواق وتنشد الأشعار وأخوك من قد عرفت‏؟‏

فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة‏:‏

قد خاب من شبه الجزعة إلى درةٍ * وقاس قحبةً إلى مستحييةٍ حره

أنا مغني وأخي زاهد إلى مرةٍ * في الدر ببرى ذي حلوة وذي مره

وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلي حاضر فأنشأ يقول كان وكان، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر، يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد، فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمّته أبو منصور هذا من الطريق، فأرسل إليه مائة دينار، ورسم بحمايته من الروافض، إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله‏.‏

وفيها توفي مسند الشام‏:‏

 أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر

الخشوعي، شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الأحفاد بالأجداد‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

فيها‏:‏ شرع الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قاسيون، في بناء المسجد الجامع بالسفح، فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي، حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده، وما كان معه من المال‏.‏

فأرسل الملك المظفر كوكري بن زين الدين صاحب إربل مالاً جزيلاً ليتمه به، فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى، فلم يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين، فصنع له بئر وبغل يدور، ووقف عليه وقفاً لذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد المشرق بسطها ابن الأثير واختصرها ابن كثير‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ درس بالنظامية مجد الدين يحيى بن الربيع وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلي، وحضر عنده العلماء والأعيان‏.‏

وفيها‏:‏ تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه أيضاً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 القاضي ابن الزكي

محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي، محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضياً أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه، وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على القرشي‏.‏

قال الشيخ أبو شامة‏:‏ ولو كان أموياً عثمانياً كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر، إذ كان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، فلو كان ذلك صحيحاً لما خفي على ابن عساكر، اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وناب عنه في الحكم، وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم‏.‏

ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضاً، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضماناً، وقد كان ابن الزكي ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، ويمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية‏.‏

وكان يحفظ العقيدة المسماة ‏(‏بالمصباح‏)‏ للغزالي، ويحفظها أولاده أيضاً، وكان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة، تجاه تربة صلاح الدين، ووقع بينه وبين الإسماعيلية فأرادوا قتله فاتخذ له باباً من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة‏.‏

ثم إنه خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون ويقال إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة لغيرهما‏.‏

 الخطيب الدولعي

ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الثعلبي الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل، يقال لها الدولعية، ولد بها في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروخي والنسائي على أبي الحسن علي بن أحمد البردي، ثم قدم دمشق فولى بها الخطابة وتدريس الغزالية‏.‏

وكان زاهداً متورعاً حسن الطريقة مهيباً في الحق، توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً‏.‏

وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعاً وثلاثين سنة، وقيل ولده جمال الدين محمد‏.‏

وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكي فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين بالأمير علم الدين أخي العادل، فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة‏.‏

 

الشيخ علي بن علي بن عليش

اليمني العابد الزاهد، كان مقيماً شرقي الكلاسة، وكانت له أحوال وكرامات، نقلها الشيخ علم الدين السخاوي عنه، ساقها أبو شامة عنه‏.‏

 الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله

ابن حماد الحراني، التاجر، ولد سنة إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من البلاد، وتوفي في ذي الحجة، ومن شعره قوله‏:‏

تنقُّل المرء في الآفاق يكسبه * محاسناً لم يكن منها ببلدته

أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه * حسن التنقّل حسناً فوق زينته

 الست الجليلة ينفشا بنت عبد الله

عتيقة المستضيء، كانت من أكبر حظاياه، ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبراً وإحساناً إلى العلماء والفقراء، لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي صدقات وبر‏.‏

ابن المحتسب الشاعر أبو السكر

محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم معه، فلما ولي قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية، وكان يقول الشعر، وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك، وتقذراً لها‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة

قال سبط ابن الجوزي في مرآته‏:‏ في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء وماجت شرقاً وغرباً، وتطايرت كالجراد المنتشر يميناً وشمالاً، قال‏:‏ ولم ير مثل هذا إلا في عام المبعث، وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين‏.‏

وفيها‏:‏ شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية المجاور لباب النصر‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل وبنيه‏.‏

وفيها بعث العادل ولده موسى الأشرف لمحاصرة ماردين، وساعده جيش سنجار والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر، على أن يحمل صاحب ماردين في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وأن تكون السكة والخطبة للعادل، وأنه متى طلبه بجيشه يحضر إليه‏.‏

وفيها‏:‏ كمل بناء رباط الموريانية، ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد الشهرزوري، ومعه جماعة من الصوفية، ورتب لهم من المعلوم والجراية ما ينبغي لمثلهم‏.‏ وفيها‏:‏ احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وإخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من آفائهم بمصر‏.‏

وفيها‏:‏ استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها، وهي من بلاد أذربيجان، لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله، فتحكمت الكفرة في رقاب المسلمين بسببه، وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 الملك غياث الدين الغوري أخو شهاب الدين

فقام بالملك بعده ولده محمود، وتلقب بلقب أبيه، وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأمير علم الدين أبو منصور

سليمان بن شيروه بن جندر أخو الملك العادل لأبيه، في تاسع عشر من المحرم، ودفن بداره التي خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس، ووقف عليها الحمام بكمالها تقبل الله منه‏.‏

 القاضي الضياء الشهرزوري

أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي، قاضي قضاة بغداد، وهو ابن أخي قاضي قضاة دمشق كمال الدين الشهرزوري، أيام نور الدين‏.‏ ولما توفي سنة ست وسبعين في أيام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا بالقضاء فوليه، ثم عزل عنه بابن أبي عصرون، وعوض بالسفارة إلى الملوك، ثم تولى قضاء بلدة الموصل، ثم استدعى إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة أشهر، ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده، فاستشفع في زوجته ست الملوك على أم الخليفة، وكان لها مكانة عندها، فأجيب إلى ذلك فصار إلى قضاء حماه لمحبته إياها، وكان يعاب عليه ذلك، وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة، توفي في حماه في نصف رجب منها‏.‏

 عبد الله بن علي بن نصر بن حمزة

أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية، أحد الفضلاء المشهورين‏.‏ سمع الحديث وجمعه، وكان طبيباً منجماً يعرف علوم الأوائل وأيام الناس، وصنف ديوان الإسلام في تاريخ دار السلام، ورتبه على ثلاثمائة وستين كتاباً إلا أنه لم يشتهر، وجمع سيرة ابن هبيرة، وقد كان يزعم أنه من سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك‏.‏ وأنشد بعضهم‏:‏

دع الأنساب لا تعرض لتيم * فإن الهجن من ولد الصميم

لقد أصبحت من تيم دعياً * كدعوى حيص بيص إلى تميم

 ابن النجا الواعظ

علي بن إبراهيم بن نجا زين الدين أبو الحسن الدمشقي، الواعظ الحنبلي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق، ثم عاد إليها رسولاً من جهة نور الدين في سنة أربع وستين، وحدث بها، ثم كانت له حظوة عند صلاح الدين، وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا، وكانت له مكانة بمصر، وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من الجمعة، وكان وقتاً مشهوداً، وكان يعيش عيشاً أطيب من عيش الملوك في الأطعمة والملابس، وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء، كل واحدة بألف دينار، فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيراً لم يخلف كفناً، وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن زريك‏:‏

مشيبك قد قضى شرخ الشباب * وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقظى * وما ناب النوائب عنك ناب

فكيف بقاء عمرك وهو كنز * وقد أنفقت منه بلا حساب‏؟‏

 الشيخ أبو البركات ‏(‏محمد بن أحمد بن سعيد التكريتي‏)‏ يعرف بالمؤيد، كان أديباً شاعراً‏.‏ ومما نظمه في الوجيه النحوي حين كان حنبلياً فانتقل حنفياً، ثم صار شافعياً، نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال‏:‏

ألا مبلغا عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت قول الشافعي ديانة * ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل‏؟‏

 الست الجيلية زمرد خاتون

أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضيئ، كانت صالحة عابدة كثيرة البر والإحسان والصلات والأوقاف، وقد بنت لها تربة إلى جانب قبر معروف، وكانت جنازتها مشهورة جداً، واستمر العزاء بسببها شهراً، عاشت في خلافة ولدها أربعاً وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الأوامر‏.‏

وفيها‏:‏ كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ترجم نفسه عند ذكر مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة، فينقل إلى سنة وفاته، وذكر بدو أمره واشتغاله ومصنفاته وشيئاً كثيراً من شعاره، وما رئي له من المنامات المبشرة‏.‏

وفيها‏:‏ كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار، عليه من الله ما يستحقه، وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها - يعني التتار ومن معهم من أمراء الترك - ممن يبتغي حكم الجاهلية - وهو والد تولى، وجد هولاكو بن تولى - الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 سنة ستمائة من الهجرة

في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقاً منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسراً، وأباحوها ثلاثة أيام قتلاً وأسراً، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الأيام الثلاثة إلا قتيلاً أو فقيراً أو مكبولاً أو أسيراً، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شيء من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين‏.‏ وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلي والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخاً أعمى يقاد فرسه، ومركيس الإفرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عدداً وعدداً‏.‏ فخرجت القرعة له ثلاث مرات فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى، ولم يزل مالكاً لتلك الناحية حتى توفي‏.‏

ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الإسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئاً من البلاد فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها‏.‏

وفيها‏:‏ تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الأشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الأشرف أخت نور الدين، وهي الأتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الأتابكية التي بالسفح، وبها تربتها‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد‏.‏ قاله ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها‏.‏

وفي جمادى الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر‏.‏

وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفاً لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضاً أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الأقوات بها فسلمها إليه قسراً، على أن يعطيه بعض البلاد‏.‏

فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدراً وخديعة ومكراً فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات ‏{‏فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ‏} ‏[‏الدخان‏:‏ 29‏]‏

وقام بالملك من بعده ولده أفلح أرسلان، وكان صغيراً فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسروا‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ قتل خلق كثير من الباطنية بواسط‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي‏:‏

أعاذلتي أقصري * كفى بمشيبي عذل

شباب كأن لم يكن * وشيب كأن لم يزل

وبثي ليال الوصا * ل أواخرها والأول

وصفرة لون المحبـ * ـب عند استماع الغزل

لئن عاد عتبي لكم * حلالي العيش واتصل

فلست أبالي بما نالني * ولست أبالي بأهل ومل

قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشياً عليه، فحركوه فإذا هو ميت‏.‏ قال‏:‏ وكان رجلاً صالحاً، وقال ابن الساعي كان شيخاً صالحاً صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو القاسم بهاء الدين

الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر، كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتباً عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الأموي، ودار الحديث النورية‏.‏

مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة‏.‏

 الحافظ عبد الغني المقدسي

ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر،

وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولاً، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحداً ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما‏.‏

ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح ابن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر وإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة‏.‏

قلت‏:‏ وهو عندي بخط أبي نعيم‏.‏ فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعاً، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفياً في إزار‏.‏ ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضاً خائفاً يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جداً، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يوماً عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلساً في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين‏.‏

وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة ا لحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة‏:‏ كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد‏.‏

فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضاً، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله‏.‏

قال السبط‏:‏ كان عبد الغني ورعاً زاهداً عابداً، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الإمام أحمد، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريماً جواداً لا يدخر شيئاً، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ‏.‏

قلت‏:‏ وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحواً من ألف موضع، وذلك الإمام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله فرحمهما الله، ‏

فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظاً وإتقاناً وسماعاً وإسماعاً وسرداً للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالاً طائلاً‏.‏

قال ابن الأثير وفيها توفي‏:‏

 أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي

صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الأصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لأبي سعد الهروي، كان زاهداً عابداً، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة‏.‏

 البناني الشاعر

أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني، مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال‏:‏

ظلماً ترى مغرماً في الحب تزجره * وغيره بالهوى أمسيت تنكره

يا عاذل الصب لو عانيت قاتله * لو جنة وعذار كنت تعذره

أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني * إذا تصدى لقتلي كيف أسحره

يستمتع الليل في نوم وأسهره * إلى الصباح وينساني وأذكره

 أبو سعيد الحسن بن خلد

ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم‏:‏ الأوائل وأتقنه وكانت له يد طولى في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله‏:‏

أتاني كتاب أنشأته أنامل * حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر

فوا عجباً أني التوت فوق طرسه * وما عودت بالقبض أنمله العشر

وله أيضا‏:‏

لقد أثرت صدغاه في لون خده * ولاحا كفئ من وراء جاج

ترى عسكراً للروم في الريح مذ بدت * كطائفة تسعى ليوم هياج

أم الصبح بالليل البهيم موشح * حكى آبنوسا في صحيفة عاج

لقد غار صدغاه على ورد خده * فسيجه من شعره بسياج

الطاووسي صاحب الطريقة‏.‏

 العراقي محمد بن العراقي

ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي كان بارعاً في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك ثلاث تعاليق قال ابن خلكان‏:‏ أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستمائة

فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبعة عشر سنة، وولى العهد ولده الآخر علياً، فمات علي عن قريب فعاد الأمر إلى الظاهر، فبويع له بالخلافة بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح، فاحترق من ذلك شيء كثير من السلاح والمتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار؛ وشاع خبر هذا الحريق في الناس، فأرسلت الملوك من سائر الأقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضاً عن ذلك وفوقه من ذلك شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقاً، وأسروا آخرين‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الحرب بين أمير مكة قتادة الحسيني، وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني، وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالماً، فيها فركب إليه سالم بعد ما صلى عندا لحجرة فاستنصر الله عليه، ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها، ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فأفسدهم عليه فكر سالم راجعاً إلى المدينة سالماً‏.‏

وفيها‏:‏ ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن أخيه واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته، وكثرت عساكره وأطاعه الأمراء وأصحاب الأطراف، وخطب له الأفضل بن صلاح الدين بسميساط، وسار إلى خدمته‏.‏

واتفق في هذه السنة أن رجلاً ببغداد نزل إلى دجلة يسبح فيها وأعطى ثيابه لغلامه فغرق في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الأبيات‏:‏

يا أيها الناس كان لي أمل * قصر بي عن بلوغه الأجل

فليتق الله ربه رجل * أمكنه في حياته العمل

ما أنا وحدي بفناء بيت * يرى كل إلى مثله سينتقل

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو الحسن علي بن عنتر بن ثابت الحلي

المعروف بشميم، كان شيخاً أديباً لغوياً شاعراً جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام، وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لأبي نواس‏.‏ قال أبو شامة في الذيل‏:‏ كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة، وله حماسة ورسائل‏.‏ قال ابن الساعي‏:‏ قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب، حصل منه طرفاً صالحاً، ومن اللغة وأشعار العرب، ثم أقام بالموصل حتى توفي بها‏.‏ ومن شعره‏:‏

لا تسرحن الطرف في مقل المها * فمصارع الآجال في الآمال

كم نظرة أردت وما أخرت * وكم يد قبلت أوان قتال

سنحت وما سمحت بتسليمة * وأغلال التحية فعلة المحتال

وله في التجنيس‏:‏

ليت من طول بالشـ * ـأ م ثواه وثوابه

جعل العود إلى الزو *راء من بعض ثوابه

أترى يوطئني الده * ر ثرى مسك ترابه

وأراني نور عيني * موطئاً لي وثرى به

وله أيضا في الخمر وغيره‏:‏

 أبو نصر محمد بن سعد الله

ابن نصر بن سعيد الأرتاحي، كان سخياً بهياً واعظاً حنبلياً فاضلاً شاعراً مجيداً وله‏:‏

نفس الفتى إن أصلحت أحوالها * كان إلى نيل المنى أحوى لها

وإن تراها سددت أقوالها * كان على حمل العلى أوقى لها

فإن تبدت حال من لها لها * في قبره عند البلى لها لها

 أبو العباس أحمد بن مسعود

ابن محمد القرطبي الخزرجي، كان إماماً في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تصانيف حسان، وشعر رائق منه قوله‏:‏

وفي الوجنات ما في الروض لكن * لرونق زهرها معنى عجيب

وأعجب ما التعجب منه * أنى لتيار تحمله عصيب

 أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري

مولى صاحبها عمادا لدين زنكي بن مودود، وكان جندياً حسن الصورة مليح النظم كثير الأدب ومن شعره ما كتب به إلى الأشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف‏:‏

دموع المعالي والمكارم أذرفت * وربع العلى قاع لفقدك صفصف

غدا الجود والمعروف في اللحد ثاوياً * غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف

متى خطفت يد المنية روحه * وقد كان للأرواح بالبيض يخطف

سقته ليالي الدهر كأس حمامها * وكان بسقي الموت في الحرب يعرف

فوا حسرتا لو ينفع الموت حسرة * ووا أسفا لو كان يجدي التأسف

وكان على الأرزاء نفسي قوية * ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف

 أبو الفضل بن إلياس بن جامع الأربلي

تفقه بالنظامية وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله فضل ونظم، فمن شعره‏:‏

أممرض قلبي، ما لهجرك آخر ‏؟‏* ومسهر طرفي، هل خيالك زائر‏؟‏

ومستعذب التعذيب جوراً بصده * أما لك في شرع المحبة زاجر‏؟‏

هنيئاً لك القلب الذي قد وقفته * على ذكر أيامي وأنت مسافر

فلا فارق الحزن المبرح خاطري * لبعدك حتى يجمع الشمل قادر

فإن مت فالتسليم مني عليكم * يعاودكم ما كبر الله ذاكر

 أبو السعادات الحلي

التاجر البغدادي الرافضي، كان في كل جمعة يلبس لأمة الحرب ويقف خلف باب داره، ‏

والباب مجاف عليه، والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا -يعني محمد بن الحسن العسكري -ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي‏.‏

 أبو غالب بن كمنونة اليهودي

الكاتب، كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله بمطمورة واسط، ذكره ابن الساعي‏:‏ في تاريخه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة

فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئاً كثيراً لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء‏.‏

وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعاً إلى الله‏.‏

وحين قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الأثير وابن الساعي‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة‏.‏

وفيها‏:‏ سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذربيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلاً ونهاراً فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وكان كما يقال‏:‏ أغمد سيفه وسل أيره‏.‏

وفيها‏:‏ استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات‏.‏

وفيها‏:‏ أغار صاحب بلاد الأرمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب‏.‏

فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة كان قد بناها ودكها إلى الأرض‏.‏ ‏

وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة‏.‏

 

 

 

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 شرف الدين أبو الحسن

علي بن محمد بن علي جمال الإسلام الشهرزوري، بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرساً بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف‏.‏

 التقي عيسى بن يوسف

ابن أحمد العراقي الضرير، مدرس الأمينية أيضاً، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دارهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئاً، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شيء، فضاع المال واتهم عرضه‏.‏

فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقاً ببيته بالمئذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة‏:‏ وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه‏.‏

قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال‏.‏

أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي

كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالاً جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكاً وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم‏.‏

فمرض الموصي إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الأموال والأملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئاً مما ترك لهم‏.‏

 أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي

تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلاً، ثم دخل يوماً إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الإعادة والتدريس رحمه الله‏.‏ وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول توفيت‏:‏

 الخاتون

أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل، فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون‏.‏

 الأمير مجير الدين طاشتكين المستنجدي

أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخاً خيراً حسن السيرة كثير العبادة، غالياً في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه‏.‏

وذكر أبو شامة في الذيل‏:‏ أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستاً وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج‏.‏

وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعاً جواداً سمحاً قليل الكلام، يمضي عليه الأسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث‏:‏ أحمار أنت‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ وفيه يقول ابن التعاويذي‏:‏

وأمير على البلاد مولى * لا يجيب الشاكي بغير السكوت

وكلما زاد رفعة حطنا اللـ * ـه بتفيله إلى البهموت

وقد سرق فراشه حياجبه له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الأمير طاشتكين حين أخذها فقال‏:‏ لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضاً مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض المضحكين‏:‏ هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة وأستأجر أرضاً ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة

فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية، وملكهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني‏.‏

وفيها‏:‏ قبض الخليفة على عبد السلام بن عبدا لوهاب بن الشيخ عبد القادر الجبلاني، بسبب فسقه وفجوره، وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة، وعلوم الأوائل‏.‏

وأصبح يستعطي بين الناس، وهذا بخطيئة قيامه على أبي الفرج بن الجوزي، فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرقت بعض كتب ابن الجوزي، وختم على بقيتها، ونفي إلى واسط خمس سنين، والناس يقولون‏:‏ في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها‏.‏

والصوفية يقولون‏:‏ الطريق يأخذ‏.‏ والأطباء يقولون الطبيعة مكافئة‏.‏

وفيها‏:‏ نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسدا لدين شيركوه، وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمع شابان ببغداد على الخمر فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب، فأخذ فقتل فوجد مع رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه‏:‏

قدمت على الكريم بغير زاد * من الأعمال بالقلب السليم

وسوء الظن أن تعتد زادا * إذا كان القدوم على كريم

 وفيها توفى من الأعيان‏:‏

 الفقيه أبو منصور

عبد الرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي، الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال أخلاقه، ولي قضاء بلده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الأمير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة، ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة، ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا، وهذا مما نحن فيه من قوله‏:‏ كما تدين تدان‏.‏

 عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر

كان ثقة عابداً زاهداً ورعاً، لم يكن في أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خير منه، لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات، بل كان متقللاً من الدنيا مقبلاً على أمر الآخرة، وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا‏.‏

 أبو الحزم مكي بن زيان

ابن شبة بن صالح الماكسيني، من أعمال سنجار، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابن الخشاب وابن القصار، والكمال الأنباري، وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريراً، وكان يتعصب لأبي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى، ومن شعره‏:‏

إذا احتاج النوال إلى شفيع * فلا تقبله تصبح قرير عين

إذا عيف النوال لفرد من * فأولى أن يعاف لمنتين

ومن شعره أيضا‏:‏

نفسي فداء لأغيد غنج * قال لنا الحق حين ودعنا

من ود شيئاً من حبه طمعاً * في قتله للوداع ودعنا

 إقبال الخادم

جمال الدين أحد خدام صلاح الدين، واقف الإقباليتين الشافعية والحنفية، وكانتا دارين فجعلهما مدرستين، ووقف عليهما وقفاً الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف‏.‏ توفي بالقدس رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستمائة

فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة، فضيق على الناس في المياه والميرة،

فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الأمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً‏.‏

فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء‏.‏

وفيها‏:‏ قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الأسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات، بها وكان جباراً عنيداً حتى قال بعضهم فيه‏:‏

خليلي قولا للخليفة وانصحا * توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما * صنيعك يا خير البرية ضائع

فإن كان حقاً من سلالة حيدر * فهذا وزير في الخلافة طامع

وإن كان فيما يدعي غير صادق * فأضيع ما كانت لديه الصنائع

وقيل‏:‏ إنه كان عفيفاً عن الأموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله‏.‏ وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين داراً للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضاً من الخبز النقي والحلواء شيء كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج‏.‏

وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين‏.‏ وفيها‏:‏ أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية‏.‏

وفيها‏:‏ الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الأوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شاباً جميل الصورة جداً، قتله بعض مماليكهم ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الأوحد بن العادل‏.‏

وفيها‏:‏ ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة‏.‏ اتفق له في بعض المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه‏.‏

فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقاً منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميراً يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافاً كثيراً وانزعجت خراسان بكمالها‏.‏

ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان‏:‏ من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهداً في خدمته‏.‏

فقال الذي أسرهما‏:‏ إني أرى هذا يخدمك فمن أنت ‏؟‏فقال‏:‏ أنا مسعود الأمير، وهذا غلامي، فقال‏:‏ والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميراً وأطلقته لأطلقتك، فقال له‏:‏ إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيراً‏.‏

فقال‏:‏ نعم، فعين رجلاً من أصحابه فقال له الأمير مسعود‏:‏ إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال‏:‏ نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه‏.‏

فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها‏.‏ فلما رآه الناس فرحوا به فرحاً شديداً، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهي من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراه وأخذها عنوة‏.‏

وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوماً للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال‏:‏ لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له‏:‏ فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقراً معظماً‏؟‏ فقال‏:‏ خفتك عليه، فقال‏:‏ سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراماً زائداً، وأحسن إليهما‏.‏

وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهراً وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف‏.‏

وأنزل الملك من القلعة وقتله صبراً بين يديه، ولم يترك له نسلاً ولا عقباً، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول‏:‏ متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا‏.‏

وكتب التتار إليه أيضاً يستنصرونه على الخطا ويقولون‏:‏ هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه‏.‏

فوقعت بينهم الوحشة الأكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلاداً كثيرة متاخمة لبلاد كشلى خان خوفاً عليها أن يملكها‏.‏ ‏

ثم إن جنكيز خان خرج على كشلى خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكراً قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الإسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لأن القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعاً فيها جماعة من المسلمين‏.‏

فطلب صاحب عكا الأمان والصلح على أن يرد الأسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريباً من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوماً يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة، ثم عاد إلى دمشق‏.‏

وفيها‏:‏ ملك صاحب أذربيجان الأمير نصير الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لأن ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له‏.‏ وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد‏.‏

وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير‏.‏ وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الأعيان والأكابر‏.‏

وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والأشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الأمراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا‏.‏

وفيها‏:‏ درس شرف الدين عبد الله ابن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الأكابر من سائر المذاهب‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأمير بنامين بن عبد الله

أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الأمراء عقلاً وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سماً فمات‏.‏ وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال‏:‏ إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة‏:‏

إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم‏.‏

 

حنبل بن عبد الله

ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي، المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتصيبه التخمة كثيراً، لأنه كان فقيراً ضيق الأمعاء من قلة الأكل، خشن العيش ببغداد‏.‏

وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم مالاً جزيلاً ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة‏.‏

 عبد الرحمن بن عيسى

ابن أبي الحسن المروزي الواعظ البغدادي، سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل علي ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة‏.‏

 الأمير زين الدين قراجا الصلاحي

صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصفير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد‏.‏

 عبد العزيز الطبيب

توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الأشرفي، وفيه يقول ابن عنين‏:‏

فراري ولا خلف الخطيب جماعة * وموت ولا عبد العزيز طبيب

وفيها توفي‏:‏

 العفيف بن الدرحي

إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية‏.‏

 أبو محمد جعفر بن محمد

ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الإربلي، كان فاضلاً في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب، والفرائض، والهندسة، والأدب، والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز، وغير ذلك ومن شعره‏:‏

لا يدفع المرء ما يأتي به القدر * وفي الخطوب إذا فكرت معتبر

فليس ينجي من الأقدار إن نزلت * رأى وحزم ولا خوف ولا حذر

فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا * تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر

كم مُسناً عسر فصرفه الإ * له عنا وولى بعده سر

لا ييئس المرء من روح الإله فما * ييأس منه إلا عصبة كفروا

إني لأعلم أن الدهر ذو دول * وأن يوميه ذا أمن وذا خطر

 ثم دخلت سنة خمس وستمائة

في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا أراد أحدهم السفر منها زود، وكسي، وأعطي بعد ذلك ديناراً، جزاه الله خيراً‏.‏

وفيها‏:‏ عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية، فاجتاز بالشام، فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث، فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما كنت خليلاً من وراء وراء‏)‏‏)‏ بفتح اللفظتين‏.‏

فقال الكندي‏:‏ من وراء وراء بضمهما، فقال ابن دحية للوزير ابن شكر‏:‏ من هذا‏؟‏

فقال‏:‏ هذا أبو اليمن الكندي، فنال منه ابن دحية، وكان جريئاً‏.‏

فقال الكندي‏:‏ هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكلتا اللفظتين محكية، وحكى فيهما الجر أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ عاد فخر الدين بن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي، فقال في كلامه ذلك‏:‏

وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن * لم يستطع صولة البزل القناعيس

كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف لكونه شاباً ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك أفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول، والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال على الناس يضربهم بسيفه، فقتل اثنتين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه، فأخذوا أودع المارستان وشنق في يومه ذلك على جسر اللابادين‏.‏

وفيها‏:‏ عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه، وكان قبل ذلك فقيراً زاهداً، فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها، ووكل إلى ما بيده من الأموال، فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين، فاستغنى منه خلق كثير‏.‏

فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه‏:‏ لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها، ويصرفها إلى من يستحقها، ولو ترك على ما كان تركها أولى به من تناولها، وإنما أراد أن ترتفع منزلته ببذلها‏.‏ ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها، فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فُحول العلماء والعباد‏.‏

وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة، فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقاً كثيراً منهم، وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب الجزيرة، وكان من أسوأ الناس سيرة وأخبثهم سريرة وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي، ابن عم نور الدين صاحب الموصل، وكان الذي تولى قتله ولده غازي، توصل إليه حتى دخل عليه وهو في الخلاء سكران، فضربه بسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه‏.‏

فبويع بالملك لأخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه، فسلبه الله الملك والحياة، ولكن أراح الله المسلمين من ظلم أبيه وغشمه وفسقه‏.‏ ‏

 

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار

ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي، آخر من روى المسند عن أحمد بن حنبل عن بن الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلاً متورعاً في النقل، ومما أنشده من حفظه‏:‏

ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها * وكانت من وراء الشمس حين تغيب

لحدثت نفسي بانتظار نوالها * وقال المنى لي‏:‏ إنها لقريب

 قاضي القضاة لمصر

صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستمائة

في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها، فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده، ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر‏.‏

وفي يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكري، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه، فأجيب إلى ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 القاضي الأسعد ابن مماتي

أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الأسعد بن مماتي بن أبي قدامة ابن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر، أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان‏:‏ وله فضائل عديدة، ومصنفات كثيرة، ونظم ‏(‏سيرة صلاح الدين، و‏(‏كليلة ودمنة‏)‏، وله ديوان شعر‏.‏

ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة‏.‏ فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق‏:‏

حكى نهرين وما في الأر * ض من يحكيهما أبدا

حكى في خلقه ثوراً * أراد وفي أخلاقه بردا

 أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل

ابن عبدا لرحمن بن عبدا لسلام اللمعاني، أحد الأعيان من الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزلياً، في الأصول، بارعاً في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه، وأتقن الخلاف وعلم المناظرة، وقارب التسعين‏.‏

 

أبو عبد الله محمد بن الحسن

المعروف بابن الخراساني، المحدث الناسخ، كتب كثيراً، من الحديث وجمع خطباً، له ولغيره وخطه جيد مشهور‏.‏

 أبو الواهب معتوق بن منيع

ابن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطباً، كان يخطب منها، وكان شيخاً فاضلاً له ديوان شعر، فمنه قوله‏:‏

ولا ترجو الصداقة من عدوٍ * يعادي نفسه سراً وجهرا

فلو أجدت مودته انتفاعاً * لكان النفع منه إليه أجرا

 ابن خروف

شارح سيبويه على بن محمد بن يوسف أبو الحسن بن خروف الأندلسي النحوي شرح سيبويه، وقدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان يتنقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات، ولم يتزوج ولا تسرى، ولذلك علة تغلب على طباع الأراذل وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس، توفي عن خمس وثمانين سنة‏.‏

 أبو علي يحيى بن الربيع

ابن سلميان بن حرار الواسطي البغدادي، اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه، وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف، ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرساً بالنظامية وناظراً على أوقافها، وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيرة، ومعرفة حسنة بالمذهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين‏.‏

 ابن الأثير صاحب جامع الأصول والنهاية

المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي، المعروف بابن الأثير، وهو أخو الوزير وزير الأفضل ضياء الدين نصر الله، وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن علي صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات هذا في إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر العلوم كتباً مفيدة، منها جامع الأصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيه، وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في أربع مجلدات، وغير ذلك في فنون شتى، وكان معظماً عند ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضاً وقال له‏:‏ قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم، ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه‏.‏

قال أبو السعادات‏:‏ كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان، وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي، فأمرني بذلك، فقلت له‏:‏ ضع لي مثالاً أعمل عليه فقال‏:‏

حب العلا مدمناً إن فاتك الظفر* فقلت أنا‏:‏ وخدّ خد الثرى والليل معتكر

فالعز في صهوات الليل مركزه * والمجد ينتجه الإسراء والسهر

فقال‏:‏ ‏

أحسنت ثم استيقظت فأتممت عليها نحواً من عشرين بيتاً‏.‏

كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة، وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال‏:‏ كان عالماً في عدة علوم منها الفقه وعلم الأصول والنحو والحديث واللغة، وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان مغلقاً يضرب به المثل ذا دين متين، ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله، فلقد كان من محاسن الزمان‏.‏

قال ابن الأثير وفيها توفي‏:‏

المجلد المطرزي النحوي الخوارزمي

كان إماماً في النحو له فيه تصانيف حسنة‏.‏

قال أبو شامة‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 الملك المغيث

فتح الدين عمر بن الملك العادل، ودفن في تربة أخيه المعظم بسفح قاسيون والملك المؤيد‏:‏

مسعود بن صلاح الدين

بمدرسة رأس العين فحمل إلى حلب فدفن بها‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 الفخر الرازي

المتكلم صاحب التيسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمد بن عمر بن الحسين ابن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف، منها التفسير الحافل والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والأربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره، وصنف ترجمه الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافق عليها، وينسب إليه أشياء عجيبة، وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وقد كان معظماً عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكاً من الترك، ‏

وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضاً في ذمهم‏.‏ وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول‏:‏ من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه‏.‏

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته‏:‏ كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سباً وتكفيراً بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سماً فمات ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم، قال‏:‏ وكانت وفاته في ذي الحجة، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعا زائداً، وليس ذلك من صفة العلماء، ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله‏:‏ قال محمد البادي، يعني العربي يريد به النبي صلى الله عليه وسلم، نسبة إلى البادية‏.‏ وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك، قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الأكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش‏.‏

 

 

وقال ابن الأثير في ‏(‏الكامل‏)‏‏:‏

وفيها‏:‏ توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والأصول، كان إمام الدنيا في عصره، بلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله‏:‏

إليك إله الخلق وجهي ووجهتي * وأنت الذي أدعوه في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمة * وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري

ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن الفخر الدين عنه وبه قال‏:‏

تتمة أبواب السعادة للخلق * بذكر جلال الواحد الأحد الحق

مدبر كل الممكنات بأسرها * ومبدعها بالعدل والقصد والصدق

أجل جلال الله عن شبه خلقه * وأنصر هذا الدين في الغرب والشرف

إله عظيم الفضل والعدل والعلى * هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي

ومما كان ينشده‏:‏

وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا * سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول‏:‏ لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفى عليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات‏:‏ {‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وفي النفي‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستمائة

ذكر الشيخ أبو شامة أن في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة‏:‏ صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده، وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج أرسلان صاحب الروم، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا الحصار خلاط، وفيها الملك الأوحد بن العادل، ووعدهم النصر والمعاونة عليه‏.‏

قلت وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الأوحد ذرعاً وقال‏:‏ هذا يوم عصيب، فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيراً حقيراً، فأسقط في أيدي الكرج، فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد وأن يزوج ابنته من أخيه الأشرف موسى، وأن يكون عوناً له على من يحاربه، فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الأيمان بذلك وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر حراب في أشد حدة مما قد داهمه من هذا الأمر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والأمر الهائل من الله العزيز الحكيم، لا من حولهم ولا من قوتهم، ولا كان في بالهم، فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور، ثم أجاز جميع ما شرطه ولده، وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره، فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحاً أكيداً واستقبل الملك عصراً جديداً، وفي ملك الكرج الأوحد بجميع ما شرطه عليه، وتزوج الأشرف ابنته‏.‏ ‏

ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم‏:‏ أعلم أنك تدخل غداً إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك أذان العصر، فوافق دخوله إليها أسيراً أذان العصر‏.‏

 ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين

أرسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل، وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار، فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق، فعقد العقد بعد وفاته، وقد أثنى عليه ابن الأثير في كامله كثيراً وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو أعلم به من غيره، وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهراً، وأما أبو المظفر السبط فإنه قال‏:‏ كان جباراً ظالماً بخيلاً سفاكاً للدماء فالله أعلم به‏.‏

وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود، وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى، وبنى له أربع جدر مشرفة، وجعل له أبواباً صوناً لمكانه من الميار ونزول القوافل، وجعل في قبلته محراباً من حجارة ومنبراً من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة‏.‏

ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه، وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر‏.‏

قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الأموي من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر، وركبت في أماكنها‏.‏ وفي شوال أيضاً شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد، وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون‏.‏

وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط

وفيها‏:‏ ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلاً فأغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعاً فركب مراكبه ولم يدركه الطلب، وقد تقدمت له مثلها قبل هذه، وهذا شيء لم يتفق لغيره لعنه الله‏.‏

وفيه عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر ابن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة، وهو صاحب مرآة الزمان، وكان فاضلاً في علوم كثيرة، حسن الشكل طيب الصوت وكان يتكلم في الوعظ جيداً وتحبه العامة على صيت جده، وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها، وولى التدريس بها، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا، ‏

فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات، الجلوس غير الوقوف، فحزر جمعه في بعض الأيام ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين، يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع، يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على العمل الصالح والكف عن المساوي، وكان يحضر عنده الأكابر، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي، كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم‏.‏

والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر بإحضار ما كان تحصل عنده من شعر التائبين، وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيراً وقطعوا من شعورهم نحوها، فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم‏.‏

وكان من خيار الناس، فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس، وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة، قال‏:‏

فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم، قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي، وعمل أبو المظفر ميعاداً بنابلس وحث على الجهاد وكان يوماً مشهوداً، ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقاً وخربوا أماكن كثيرة، وغنموا وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلباً على الفرنج، فغرم أموالاً كثيرة في ذلك، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله أعلم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ أبو عمر

باني المدرسة بسفح قاسيون للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرأ بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني، ‏

قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده، وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والإبانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا أجرة، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسماً، وكان يقرأ كل يوم سبعاً بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين، وكان متقللاً في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصاً، وكان يقطع من عمامته قطعاً يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وجاء الملك العادل يوماً إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله‏.‏

والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولاً بمال رجل فامي، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالاً فكمل به، وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس، كما كان المنبر النبوي‏.‏

وقد حكى أبو المظفر‏:‏

أنه حضر يوماً عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضراً الجمعة أيضاً عنده، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال‏:‏

اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له‏:‏ ماذا نقمت عليه في قوله‏؟‏ فقال يقول لهذا الظالم العادل‏؟‏ لا صليت معه، قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة، ثم قال‏:‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت في زمن الملك العادل كسرى‏)‏‏)‏ فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل، فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب، فلما ذهب قال لي البوتاني‏:‏ يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ كان البوتاني من الصالحين الكبار، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافراً والمسافر لا جمعة عليه، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرف ونحوه،

كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الأسماء، فلا يكون سالماً ولا غانماً ولا مسعوداً ولا محموداً، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم، والتجار وغيرهم، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوساً على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم‏.‏

وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم‏.‏

قلت‏:‏ هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له، وليس هو في شيء من الكتب المشهورة، وعجباً له ولأبي المظفر ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلماً إليه في والله أعلم‏.‏

ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة‏.‏

قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتاً وهدياً، وكان حسن العقيدة متمسكاً بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك‏:‏

أوصيكم بالقول في القرآن * بقول أهل الحق والإتقان

ليس بمخلوق ولا بفان * لكن كلام الملك الديان

آياته مشرقة المعاني * متلوة للـه باللسـان

محفوظةً في الصدر والجنان * مكتوبةٌ في الصحف بالبنان

والقول في الصفات يا إخواني * كالذات والعلم مع البيان

إمرارها من غير ما كفران * من غير تشبيهٍ ولا عطلان

قال وأنشدني لنفسه‏:‏

ألم يك ملهاة عن اللهو أنني * بدا لي شيب الرأس والضعف والألم

ألم بي الخطب الذي لو بكيته * حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم

قال ومرض أياماً فلم يترك شيئاً مما كان يعمله من الأوراد، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته‏.‏

وكان يوماً مشهوداً وكان الحر شديداً فأظلت الناس سحابة من الحر، كان يسمع منها كدوي النحل، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي، ورثاه الشعراء بمراثي حسنة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله‏.‏

وترك من الأولاد ثلاثة ذكور‏:‏ عمر، وبه كان يكنى، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه، وهو والد العز أحمد‏.‏ وعبد الرحمن‏.‏ ‏

ولما توفي الشرف عبد الله صارت الخطابة لأخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وكان من أولاد أبيه الذكور، فهؤلاء أولاده الذكور، وترك من الإناث بنات كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏5‏]‏ قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا‏.‏

 ابن طبرزد شيخ الحديث

عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان خليعاً ظريفاً ماجناً، وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما، وحصل لهما أموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون سنة، وترك مالاً جيداً ولم يكن له وارث إلا بيت المال، ودفن بباب حرب‏.‏

 السلطان الملك العادل أرسلان شاه

نور الدين صاحب الموصل، وهو ابن أخي نور الدين الشهيد، وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث، كان شافعي المذهب، ولم يكن بينهم شافعي سواه، وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته، توفي في صفر ليلة الأحد من هذه السنة‏.‏

 ابن سكينة عبد الوهاب بن علي

ضياء الدين المعروف بابن سكينة الصوفي، كان يعد من الأبدال، سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى، ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحباً لأبي الفرج ابن الجوزي ملازماً لمجلسه وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله‏.‏

 مظفر بن ساسير

الواعظ الصوفي البغدادي، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث،

وكان يعظ في الأعزية والمساجد والقرى، وكان ظريفاً مطبوعاً قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه‏:‏ أنا مريض جائع، فقال أحمد ربك فقد عوفيت‏.‏

واجتاز مرة على قصاب يبيع لحماً ضعيفاً وهو يقول أين من حلف لا يغبن، فقال له حتى تحنثه‏.‏ قال‏:‏ وعملت مرة مجلساً بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول عندي للشيخ نصفية، وهذا يقول مثله حتى عدوا نحواً من خمسين نصفية، فقلت في نفسي‏:‏

استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجراً، فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة، وإذا هي بكيلة يسمونها نصفية مثل الزبدية، وعملت مرة مجلساً بباصرا فجمعوا لي شيئاً لا أدري ما هو، فلما أصبحنا إذا شيء من صوف الجواميس وقرونها، فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه، فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه‏.‏ ذكره أبو شامة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستمائة

استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه، وجاءت الأخبار من بلاد المغرب بأن عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة، وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة، هدمت منها دوراً كثيرة، وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجاً، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورئي دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق‏.‏

وفيها‏:‏ أظهرت الباطنية الإسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمة منهم إلى بغداد لأجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك، ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لأمير مكة قتادة الحسيني فقتله ظاناً أنه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ اشترى الملك الأشرف جوسق الريس من النيرب من ابن عم الظاهر خضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسناً، وهو المسمى بزماننا بالدهشة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ عماد الدين

محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، كان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولاً إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان، وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة، وكان يعامل في الأموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستربطون الجمال بأحمالها، ولو عكس الأمر لكان خيراً له، ‏

فلقيه يوماً قضيب البان الموكه فقال له‏:‏ يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بإبريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك‏؟‏ ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك‏.‏ توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة‏.‏

 ابن حمدون تاج الدين

أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية، كان فاضلاً بارعاً، اعتنى بجمع الكتب المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها‏.‏

 صاحب الروم خسروشاه

ابن قلج أرسلان، مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس، فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقباذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق، مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس، وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي، وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه‏.‏

 الأمير فخر الدين سركس

ويقال له جهاركس أحد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏

هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المنسوبة إليه وبنى في أعلاها مسجداً معلقاً وربعاً، وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيراً في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها‏.‏

قال‏:‏ وجها ركس بمعنى أربعة أنفس‏.‏

قلت وقد كان نائباً للعادل على بانياس وتينين وهو بين، فلما توفي ترك ولداً صغيراً فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبراً وهو الأمير صارم الدين قطلبا التنيسي، ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة‏.‏

الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح

منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما، وعنه ابن الصلاح وغيره، توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة‏.‏

 قاسم الدين التركماني

العقيبي والد والي البلد، كانت وفاته في شوال منها والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستمائة

فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة الجبلي أحد أكابر الأمراء، وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعاً إلى دمشق ليستلم البلدين، فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم عليه في كنيسة صهيون، وكان شيخاً كبيراً قد أصابه النقرس، فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها‏.‏

وكان قيمة ما أخذه منه قريباً من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادل وولده المعظم‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق، وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني منها بعد نفيه من الشام، فكتب أن ينفى إلى المغرب، فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب، وكتب الله عز وجل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر، ونفاه عن الأرض المقدسة جزاء وفاقاً‏.‏

ولما استولى صاحب قبرص على مدينة إنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين، لا سيما على التراكمين الذين حول إنطاكية، قتل منهم خلقاً كثيراً وغنم من أغنامهم شيئاً كثيراً، فقدر الله عز وجل أن أمكنهم منه في بعض الأودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد، ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك، وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك‏.‏

 وفي ربيع الأول منها توفي الملك الأوحد‏.‏

 نجم الدين أيوب

ابن العادل صاحب خلاط، يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره، ووليها بعده أخوه الملك الأشرف موسى، وكان محمود السيرة جيد السريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيراً‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

فقيه الحرم الشريف بمكة

 محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي المقري المحدث، كتب كثيراً وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

 أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي

من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو‏.‏ كان ثقة عالماً سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة‏.‏

 الشيخ الصالح الزاهد العابد

أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي كان له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبنى رباطاً بباب الأزج يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم، وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏ توفي وقد جاوز الثمانين‏.‏

ثم دخلت سنة عشر وستمائة

فيها أمر العادل أيام الجمع بوضع سلاسل على أفواه الطرق إلى الجامع لئلا تصل الخيول إلى قريب الجامع صيانة للمسلمين عن الأذى بهم، ولئلا يضيقوا على المارين إلى الصلاة‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الملك العزيز للظاهر غازي صاحب حلب، وهو والد الملك الناصر صاحب دمشق واقف الناصريتين داخل دمشق، إحداهما داخل باب الفراديس، والأخرى بالسفح ذات الحائط الهائل والعمارة المتينة، التي قيل إنه لا يوجد مثلها إلا قليلاً، وهو الذي أسره التتار الذين مع هولاكو ملك التتار‏.‏

وفيها‏:‏ قدم بالفيل من مصر فحمل هدية إلى صاحب الكرج فتعجب الناس منه جداً، ومن بديع خلقه‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين من حلب قاصداً الحج، فتلقاه الناس وأكرمه ابن عمه المعظم، ‏

فلما لم يبق بينه وبين مكة إلا مراحل يسيرة تلقته حاشية الكامل صاحب مصر وصدوه عن دخول مكة، وقالوا إنما جئت لأخذ اليمن، فقال لهم قيدوني وذروني أقضي المناسك، فقالوا‏:‏ ليس معنا مرسوم وإنما أمرنا بردك وصدك، فهمّ طائفة من الناس بقتالهم فخاف من وقوع فتنة فتحلل من حجه ورجع إلى الشام، وتأسف الناس على ما فعل به وتباكوا لما ودعهم، تقبل الله منه‏.‏

وفيها‏:‏ وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي يخبر به أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تاج تنكر في ثلاثة نفر من أصحابه، ودخل بلاد التتر ليكشف أخبارهم بنفسه، فأنكروهم فقبضوا عليهم فضربوا منهم اثنين حتى ماتا ولم يقرأ بما جاؤا فيه واستوثقوا من الملك وصاحبه الآخر أسراً، فلما كان في بعض الليالي هربا ورجع السلطان إلى ملكه وهذه المرة غير نوبة أسره في المعركة مع مسعود الأمير‏.‏

وفيها‏:‏ ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة وسبعون رطلاً، ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

شيخ الحنفية

مدرس مشهد أبي حنيفة ببغداد،

 الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن علي الرساني، وكان إليه المظالم، ودفن بالمشهد المذكور‏.‏

 والشيخ أبو الفضل بن إسماعيل

ابن علي بن الحسين فخر الدين الحنبلي، يعرف بابن الماشطة، ويقال له الفخر غلام ابن المنى، له تعليقة في الخلاف وله حلقة بجامع الخليفة، وكان يلي النظر في قرايا الخليفة، ثم عزله فلزم بيته فقيراً لا شيء له إلى أن مات رحمه الله، وكان ولده محمد مدبراً شيطاناً مريداً كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الأمر بالباطل، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات‏.‏

 والوزير معز الدين أبو المعالي

سعيد بن علي بن أحمد بن حديدة، من سلالة الصحابي قطبة بن عامر بن حديدة الأنصاري، ولي الوزارة للناصر في سنة أربع وثمانين ثم عزله عن سفارة ابن مهدي فهرب إلى مراغة، ثم عاد بعد موت ابن مهدي فأقام ببغداد معظماً محترماً، وكان كثير الصدقات والإحسان إلى الناس إلى أن مات رحمه الله‏.‏

 وسنجر بن عبد الله الناصري

الخليفتي، كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة، وكان مع ذلك بخيلاً ذليلاً ساقط النفس، اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فاعترضه بعض الأعراب في نفر يسير، ومع سنجر خمسمائة فارس، فدخله الذل من الأعرابي، فطلب منه الأعرابي خمسين ألف دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه، فلما عاد إلى بغداد أخذ الخليفة منه خمسين ألف دينار ودفعها إلى أصحابها وعزله وولى طاشتكين مكانه‏.‏

قاضي السلامية

 ظهير الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر، الفقيه الشافعي الأديب، ذكره العماد في الجريدة وابن خلكان في الوفيات، وأثنى عليه وأنشد من شعره، في شيخ له زاوية وفي أصحابه يقال له مكي‏:‏

ألا قل لمكي قول النصوح * وحق النصيحة أن تستمع

متى سمع الناس في دينهم * بأن الغنـا سنَّـة تتبـع‏؟‏

وأن يأكل المرء أكل البعير * ويرقص في الجمع حتى يقع

ولو كان طاوى الحشا جائعاً * لما دار من طرب واستمع

وقالوا‏:‏ سكرنا بحب الإله * وما أسكر القوم إلا القصع

كذاك الحمير إذا أخصبت * يهـيّجها ريّـها والشبـع

تراهم يهـزّوا لحاهم إذا * تـرنّـم حاديهم بالبـدع

فيصرخ هذا وهذا يئـن * ويبس لو تلـيّن ما انصدع

 وتاج الأمناء

أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر من بيت الحديث والرواية، وهو أكبر من إخوته زين الفخر والأمناء، سمع عميه الحافظ أبي القاسم والصائن، وكان صديقاً للكندي توفي يوم الأحد ثاني رجب ودفن قبلي محراب مسجد القدم‏.‏

 والنسابة الكلبي

كان يقال له تاج العلى الحسيني، اجتمع بآمد بابن دحية، وكان ينسب إلى دحية الكلبي، ودحية الكلبي لم يعقب، فرماه ابن دحية بالكذب في مسائله الموصلية‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏

وفي المحرم منها توفي‏:‏

 المهذب الطبيب المشهور

وهو علي بن أحمد بن مقبل الموصلي سمع الحديث وكان أعلم أهل زمانه بالطب، وله فيه تصنيف حسن، وكان كثير الصدقة حسن الأخلاق‏.‏

 الجزولي صاحب المقدمة المسماة بالقانون

وهو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي- بطن من البربر- ثم البردكيني النحوي المصري، مصنف المقدمة المشهورة البديعة، شرحها هو وتلامذته، وكلهم يعترفون بتقصيرهم عن فهم مراده في أماكن كثيرة منها، قدم مصر وأخذ عن ابن بري، ثم عاد إلى بلاده وولي خطابة مراكش، توفي في هذه السنة وقيل قبلها فالله أعلم‏.‏