ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة
فيها أرسل الملك خوارزم شاه أميراً من أخصاء أمرائه عنده، وكان قبل ذلك سيروانياً فصار أميراً خاصاً، فبعثه في جيش ففتح له كرمان ومكران وإلى حدود بلاد السند، وخطب له بتلك البلاد، وكان خورازم شاه لا يصيف إلا بنواحي سمرقند خوفاً من التتار وكشلى خان أن يثبوا على أطراف تلك البلاد التي تتاخمهم.
قال أبو شامة:
وفيها: شرع في تبليط داخل الجامع الأموي وبدأوا من ناحية السبع الكبير، وكانت أرض الجامع قبل ذلك حفراً وجوراً فاستراح الناس في تبليطه.
وفيها: وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخربت دور كثيرة وحمام قايماز وفرن كان هناك وقفاً على دار الحديث النورية.
وفيها: بنى المعظم الفندق المنسوب إليه بناحية قبر عاتكة ظاهر باب الجابية.
وفيها: أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها وسلمها إلى مملوكه عز الدين أيبك المعظمي، فثبتت في يده إلى أن انتزعها منه نجم الدين أيوب سنة أربع وأربعين.
وفيها: حج الملك المعظم ابن العادل ركب من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخلق، فسار على طريق تبوك والعلا. وبنى البركة المنسوبة إليه، ومصانع أخر.
فلما قدم المدينة النبوية تلقاه صاحبها سالم وسلم إليه مفاتيحها وخدمه خدمة تامة، وأما صاحب مكة قتادة فلم يرفع به رأساً، ولهذا لما قضى نسكه، وكان قارناً، وأنفق في المجاورين ما حمله إليهم من الصدقات وكر راجعاً استصحب معه سالماً صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأس الماء ما لقيه من صاحب مكة، فأرسل العادل، مع سالم جيشاً يطردون صاحب مكة، فلما انتهوا إليها هرب منهم في الأدوية والجبال والبراري، وقد أثر المعظم في حجته هذه آثاراً حسنة بطريق الحجاز أثابه الله.
وفيها: تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادلية ثم بطلت بعد ذلك ودفنت.
وفيها: مات صاحب اليمن وتولاها سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتفاق الأمراء عليه، فأرسل العادل إلى ولده الكامل أن يرسل إليها ولده أضسيس، فأرسله فتملكها فظلم بها وفتك وغشم، وقتل من الأشراف نحواً من ثمانمائة، وأما من عداهم فكثير، وكان من أفجر الملوك وأكثرهم فسقاً وأقلهم حياء وديناً، وقد ذكروا عنه ما تقشعر منه الأبدان وتنكره القلوب، نسأل الله العافية
وفيها توفي من الأعيان:
إبراهيم بن علي
ابن محمد بن بكروس الفقيه الحنبلي، أفتى وناظر وعدل عند الحكام، ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطياً بباب النوى يضرب الناس ويؤذيهم غاية الأذى، ثم بعد ذلك ضرب إلى أن مات وألقي في دجلة وفرح الناس بموته، وقد كان أبوه رجلاً صالحاً.
الركن عبد السلام بن عبد الوهاب
ابن الشيخ عبد القادر، كان أبوه صالحاً وكان هو متهماً بالفلسفة ومخاطبة النجوم، ووجد عنده كتب في ذلك، وقد ولي عدة ولايات، وفيه وفي أمثاله يقال: نعم الجدود ولكن بئس ما نسلوا.
رأى عليه أبوه يوماً ثوباً بخارياً فقال: سمعنا بالبخاري ومسلم، وأما بخاري وكافر فهذا شيء عجيب، وقد كان مصاحباً لأبي القاسم بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان الآخر مدبراً فاسقاً، وكانا يجتمعان على الشراب والمردان قبحهما الله.
أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك
البزار المعروف بابن الأخضر البغدادي المحدث المكثر الحافظ المصنف المحرر، له كتب مفيدة متقنة، وكان من الصالحين، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً رحمه الله.
الحافظ أبو الحسن علي بن الأنجب
أبي المكارم المفضل بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن اللخمي المقدسي، ثم الإسكندراني المالكي، سمع السلفي وعبد الرحيم المنذري وكان مدرساً للمالكية بالإسكندرية، ونائب الحكم بها. ومن شعره قوله:
أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل * وأصحابه والتابعين تمسكي
عساكي إذا بالغت في نشر دينه * بما طاب من عرف له أن تمسكي
وخافي غداً يوم الحساب جهنماً * إذا لفحت نيرانها أن تمسكي
توفي بالقاهرة في هذه السنة قاله ابن خلكان.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة
فيها شرع في بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق، وفيها: عزل القاضي ابن الزكي وفوض الحكم إلى القاضي جمال الدين بن الحرستاني، وهو ابن ثمانين أو تسعين سنة، فحكم بالعدل وقضى بالحق، ويقال إنه كان يحكم بالمدرسة المجاهدية قريباً من النورية عند باب القواسين.
وفيها: أبطل العادل ضمان الخمر والقيان جزاه الله خيراً، فزال بزوال ذلك عن الناس ومنهم شر كثير.
وفيها: حاصر الأمير قتادة أمير مكة المدينة ومن بها وقطع نخلاً كثيراً، فقاتله أهلها فكر خائباً خاسراً حسيراً، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب من العادل نجدة على أمير مكة، فأرسل معه جيشاً فأسرع في الأوبة فمات في أثناء الطريق، فاجتمع الجيش على ابن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه أميرها بالصفراء فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهرب المكيون وغنم منهم جماز شيئاً كثيراً، وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه.
وفيها: أغارت الفرنج على بلاد الإسماعيلية فقتلوا ونهبوا.
وفيها: أخذ ملك الروم كيكاوس مدينة إنطاكية من أيدي الفرنج ثم أخذها منه ابن لاون ملك الأرمن، ثم منه إبريس طرابلس.
وفيها: ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة بغير قتال.
وفيها: كانت وفاة ولي العهد أبي الحسن علي بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ولما توفي حزن الخليفة عليه حزناً عظيماً.
وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إلى الناس، حتى قيل إنه لم يبق بيت ببغداد إلا حزنوا عليه، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً وناح أهل البلد عليه ليلاً ونهاراً ودفن عند جدته بالقرب من قبر معروف، توفي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة وصلى عليه بعد صلاة العصر، وفي هذا اليوم قدم بغداد برأس منكلي الذي كان قد عصي على الخليفة وعلى أستاذه، فطيف به ولم يتم فرحه ذلك اليوم لموت ولده وولي عهده، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر، وترك ولدين أحدهما المؤيد أبو عبد الله الحسين، والموفق أبو الفضل يحيى.
وفيها توفي من الأعيان:
الحافظ عبد القادر الرهاوي
ابن عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الحافظ المحدث المخرج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف، كان مولى لبعض المواصلة، وقيل لبعض الجوابين، اشتغل بدار الحديث بالموصل، ثم انتقل إلى حران، وقد رحل إلى بلدان شتى، وسمع الكثير من المشايخ، وأقام بحرّان، إلى أن توفي بها، وكان مولده في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كان ديناً صالحاً رحمه الله.
الوجيه الأعمى
أبو بكر المبارك بن سعيد بن الدهان النحوي الواسطي الملقب بالوجيه، ولد بواسط وقدم بغداد فاشتغل بعلم العربية فأتقن ذلك وحفظ شيئاً من أشعار العرب، وسمع الحديث وكان حنبلياً ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم صار شافعياً وولي تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول الشاعر:
فمن مبلغ عني الوجيه رسالةً * وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل
وما أخذت برأي الشافعي ديانة * ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل
وكان يحفظ شيئاً كثيراً من الحكايات والأمثال والملح، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يد طولى في نظم الشعر. فمن ذلك قوله:
ولو وقفت في لجة البحر قطرةٌ * من المزن يوماً ثم شاء لما زها
ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها * عبيداً له في الشرق والغرب مازها
وله في التجنيس:
أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر * طغام لئام جودهم غير مرتجى
حموا ما لهم والدين والعرض منهم * مباح فما يخشون من عاب أو هجا
إذا شرع الأجواد في الجود منهجاً * لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا
وله مدائح حسنة وأشعار رائقة ومعاني فائقة، وربما عارض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه، قالوا وكان الوجيه لا يغضب قط، فتراهن جماعة مع واحد أنه إن أغضبه كان له كذا وكذا، فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية فأجابه فيها بالجواب، فقال له السائل:
أخطأت أيها الشيخ، فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى، فقال: كذبت وما أراك إلا قد نسيت النحو، فقال الوجيه: أيها الرجل فلعلك لم تفهم ما أقول لك، فقال بلى ولكنك تخطيء في الجواب، فقال له:
فقل أنت ما عندك لنستفيد منك، فأغلظ له السائل في القول فتبسم ضاحكاً وقال له: إن كنت راهنت فقد غلبت، وإنما مثلك مثل البعوضة - يعني الناموسة - سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادت أن تطير قالت له استمسك فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسست بك حين سقطت، فما أحتاج أن أستمسك إذا طرت، كانت وفاته رحمه الله في شعبان منها ودفن بالوردية.
أبو محمد عبد العزيز بن أبي المعالي
ابن غنيمة المعروف بابن منينا، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة وسمع الكثير وأسمعه، توفي في ذي الحجة منها عن سبع وتسعين سنة.
الشيخ الفقه كمال الدين مودود
ابن الشاغوري الشافعي كان يقرئ بالجامع الأموي الفقه وشرح التنبيه للطلبة،
ويتأنى عليهم حتى يفهموا احتساباً تجاه المقصورة. ودفن بمقابر باب الصغير شمالي قبور الشهداء وعلى قبره شعر ذكره أبو شامة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة
قال أبو شامة:
فيها أحضرت الأوتاد الخشب الأربعة لأجل قبة النسر، طول كل واحد اثنان وثلاثون ذراعاً بالنجار.
وفيها: شرع في تجديد خندق باب السر المقابل لدار الطعم العتيقة إلى جانب بانياس.
قلت: هي التي يقال لها اليوم اصطبل السلطان، وقد نقل السلطان بنفسه التراب ومماليكه تحمل بين يديه على قربوس السروج القفاف من التراب فيفرغونها في الميدان الأخضر، وكذلك أخوه الصالح ومماليكه يعمل هذا يوماً وهذا يوماً.
وفيها: وقعت فتنة بين أهل الشاغور وأهل العقيبة فاقتتلوا بالرحبة والصيارف، فركب الجيش إليهم ملبسين وجاء المعظم بنفسه فمسك رؤوسهم وحبسهم.
وفيها: رتب بالمصلى خطيب مستقل، وأول من باشره الصدر معيد الفلكية، ثم خطب به بعد بهاء الدين بن أبي اليسر، ثم بنو حسان وإلى الآن.
وفيها توفي من الأعيان:
الملك الظاهر أبو منصور
غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان من خيار الملوك وأسدَّهم سيرة، ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب اليسير كثيراً، وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء، أقام في الملك ثلاثين سنة وحضر كثيراً من الغزوات مع أبيه، وكان ذكياً له رأي جيد وعبارة سديدة وفطنة حسنة، بلغ أربعاً وأربعين سنة، وجعل الملك من بعده لولده العزيز غياث الدين محمد، وكان حينئذ ابن ثلاث سنين، وكان له أولاد كبار ولكن ابنه هذا الصغير الذي عهد إليه كان من بنت عمه العادل وأخواله الأشرف والمعظم والكامل، وجده وأخواله لا ينازعونه، ولو عهد لغيره من أولاده لأخذوا الملك منه، وهكذا وقع سواء، بايع له جده العادل وأخواله، وهمَّ المعظم بنقض ذلك وبأخذ الملك منه فلم يتفق له ذلك، وقام بتدبير ملكه الطواشي شهاب الدين طغرلبك الرومي الأبيض، وكان ديناً عاقلاً.
وفيها توفي من الأعيان:
زيد بن الحسن
ابن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الشيخ الإمام وحيد عصره تاج الدين أبو اليمن الكندي.
ولد ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها وفاق أهل زمانه شرقاً وغرباً في اللغة والنحو وغير ذلك من فنون العلم، وعلو الإسناد وحسن الطريقة والسيرة وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه وأثنوا عليه وخضعوا له.
وكان حنبلياً ثم صار حنفياً. ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات، وعنى به وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار العجم منها وحظي عند الملوك والوزراء والأمراء، وتردد إليه العلماء والملوك وأنباؤهم.
كان الأفضل ابن صلاح الدين وهو صاحب دمشق يتردد إليه إلى منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق، كان ينزل إليه إلى درب العجم يقرأ عليه في المفصل للزمخشري، وكان المعظم يعطى لمن حفظ المفصل ثلاثين ديناراً جائزة، وكان يحضر مجلسه بدرب العجم جميع المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي ويحيى بن معطى الوجيه اللغوي، والفخر التركي وغيرهم، وكان القاضي الفاضل يثنى عليه.
قال السخاوي:
كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره. ومن العجب أن سيبويه قد شرح عليه كتابه وكان اسمه عمرو، واسمه زيد. فقلت في ذلك:
لم يكن في عهد عمرو مثله * وكذا الكندي في آخر عصر
فهما زيد وعمرو إنمـا * بنى النحو على زيد وعمرو
قال أبو شامة:
وهذا كما قال فيه ابن الدهان المذكور في سنة ثنتين وتستعين وخمسمائة:
يا زيد زادك ربي من مواهبه * نعماً يقصر عن إدراكها الأمل
النحو أنت أحق العالمين به * أليس باسمك فيه يضرب المثل
وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي، فقال قرأت عليه وكان حسن العقيدة ظريف الخلق لا يسأم الإنسان من مجالسته، وله النوادر العجيبة والخط المليح والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال منها وله ثلاث وتسعون سنة وشهر وسبعة عشر يوماً وصلّي عليه بجامع دمشق ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها.
وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي سبعمائة وإحدى وستون مجلداً، على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن هذه الكتب تفرقت وبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليل الرث، وهي بمقصورة الحلبية، وكانت قديماً يقال لها مقصورة ابن سنان.
وقد ترك نعمة وافرة وأموالاً جزيلة، ومماليك متعددة من الترك الحسان، وقد كان رقيق الحاشية حسن الأخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة من القيام والتعظيم، فلما كبر ترك القيام لهم وأنشأ يقول:
تركت قيامي للصديق يزورني * لا ذنب لي إلا الإطالة في عمري
فإن بلغوا من عش تسعين نصفها * تبين في ترك القيام لهم عذري
ومما مدح فيه الملك المظفر شاهنشاه ما ذكره ابن الساعي في تاريخه:
وصال الغواني كان أورى وأرجا * وعصر التداني كان أبهى وأبهجا
ليالي كان العمر أحسن شافعٍ * تولى وكان اللهو أوضح منهـجا
بدا الشيب فانجابت طماعية الصبا * وقبح لي ما كان يستحسن الحجا
بلهنيةٌ ولت كان لم أكن بها * أجلى بها وجه النعيم مسرجا
ولا ختلت في برد الشباب مجرراً * ذيولي إعجاباً به وتبرجا
أعارك غيداء المعاطف طفلةً * وأغيد معسول المراشف أدعجا
نقضت لياليها بطيب كأنه * لتقصيره منها مختطف الدجـا
فإن أمس مكروب الفؤاد حزينه * أعاقر من در الصابة منهجا
وحيداً على أني بفضلي متيم * مروعاً بأعداء الفضائل مزعجا
فيا رب ديني قد سررت وسرني * وأبهجته بالصالحات وأبهجا
ويا رب ناد قد شهدت وماجد * شهدت دعوته فتلجلـجا
صدعت بفضلي نقصه فتركته * وفي قلبه شجو وفي حلقه شجا
كأن ثنائي في مسامع حسدي * وقد ضم أبكار المعاني وأدرجا
حسام تقي الدين في كل مارق * يقد إلى الأرض الكمي المدججا
وقال يمدح أخاه معز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب
هل أنت راحم عبرة ومدله * ومجير صب عند ما منه وهي
هيهات يرحم قاتل مقتوله * وسنانه في القلب غير منهنـه
مذ بلّ من ذاك الغرام فإنني * مذ حل بي مرض الهوى لم أنقه
إني بليت بحب أغيد ساحر * بلحاظه رخص البنان بزهـوه
أبغي شفاء تدلهي من واله * ومتى يرق مدلل لمـدله
كم آهة لي في هواه وأنة * لو كان ينفعني عليه تأوهي
ومآرب في وصله لو أنها * تقضي لكانت عند مبسمه الشهي
يا مفرداً بالحسن إنك منته * فيه كما أنا في الصبابة منتهي
قد لام فيك معاشر كي أنتهي * باللوم عن حب الحياة وأنت هي
أبكي لديه فإن أحس بلوعة * وتشهق أرمي بطرف مقهقـه
يا من محاسنه وحالي عنده * حيران بين تفكر وتكفـه
ضدان قد جمعا بلفظ واحد * لي في هواه بمعنيين موجّـه
أو لست رب فضائل لو حاز أد * ناها وما أزهى بها غيري زهي
والذي أنشده تاج الدين الكندي في قتل عمارة اليمني حين كان مالأ الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين، وأرادوا عودة دولة الفاطميين فظهر على أمره فصلب مع من صلب في سنة تسع وتسعين وخمسمائة:
عمارة في الإسلام أبدى خيانةً * وحالف فيها بيعةً وصليبـا
فأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب الصليب صليبا
وكان طبيب الملتقي إن عجمته * تجد منه عوداً في النفاق صليبا
وله:
صحبنا الدهر أياماً حسانا * نعوم بهن في اللذات عوما
وكانت بعد ما ولت كأني * لدى نقصانها حلماً ونوما
أناخ بي المشيب فلا براح * وإن أوسعته عتباً ولومـا
نزيل لا يزال على التآني * يسوق إلى الردى يوماً فيوما
وكنت أعد لي عاماً فعاماً * فصرت أعد لي يوماً فيوما
العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي
ولد سنة ست وستين وخمسمائة وأسمعه والده الكثير ورحل بنفسه إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد وكانت له حلقة بجامع دمشق، وكان من أصحاب المعظم، وكان صالحاً ديناً ورعاً حافظاً رحمه الله ورحم أباه. أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك
الخلاخلي البغدادي، سمع الكثير، وكان يتردد في الرسلية بين الخليفة والملك الأشرف ابن العادل وكان عاقلاً ديناً ثقة صدوقاً.
الشريف أبو جعفر
يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العلوي الحسيني، نقيب الطالبيين بالبصرة بعد أبيه، كان شيخاً أديباً فاضلاً عالماً بفنون كثيرة لا سيما علم الأنساب وأيام العرب وأشعارها، يحفظ كثيراً منها، وكان من جلساء الخليفة الناصر، ومن لطيف شعره قوله:
ليهنك سمع لا يلائمه العذل * وقلب قريح لا يمل ولا يسلو
كأن عليّ الحب أضحى فريضة * فليس لقلبي غيره أبداً شغل
وإني لأهوى الهجر ما كان أصله * دلالاً ولولا الهجر ما عذب الوصل
وأما إذا كان الصدود ملالةً * فأيسر ما هم الحبيب به القتل
أبو علي مزيد بن علي
ابن مزيد المعروف بابن الخشكري الشاعر المشهور، من أهل النعمانية جمع لنفسه ديواناً أورد له ابن الساعي قطعةً من شعره فمن ذلك قوله:
سألتك يوم النوى نظرةً * فلم تسمحي فعزالاً سلم
فأعجب كيف تقولين لا * ووجهك قد خط فيه نعم
أما النون يا هذه حاجب * أما العين عين أما الميم فم
أبو الفضل رشوان بن منصور
ابن رشوان الكردي المعروف بالنقف ولد بأربل وخدم جندياً وكان أديباً شاعراً خدم مع الملك العادل ومن شعره قوله:
سلي عني الصوارم والرماحا * وخيلاً تسبق الهوج الرياحا
وأسداً حبيسها سمر العوالي * إذا ما الأسد حاولت الكفاحا
فإني ثابت عقـلاً ولبـاً * إذا ما صائح في الحرب صاحا
وأورد مهجتي لجج المنايا * إذا ماجت ولم أخف الجراحا
وكم ليل سهرت وبت فيه * أراعي النجم أرتقب الصباحا
وكم في فدفد فرسي ونضوى * بقائلة الهجير غداً وراحـا
لعينك في العجاجة ما ألاقي * وأثبت في الكريهة لا براحـا
محمد بن يحيى
ابن هبة الله أبو نصر النحاس الوساطي كتب إلى السبط من شعره:
وقائلة لما عمرت وصار لي * ثمانون عاماً: عش كذا وابق واسلم
ودم وانتشق روح الحياة فإنه * لا طيب من بيت بصعدة مظلم
فقلت لها: عذري لديك ممهد * ببيت زهير فاعملي وتعلمـي
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولاً لا محالة يسأم
ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة
في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الأموي وجاء المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولى بدمشق، فوضع آخر بلاطة منه بيده عند باب الزيارة فرحاً بذلك. وفيها: زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة وارتفع الماء حتى ساوى القبور إلا مقدار أصبعين، ثم طفح الماء من فوقه وأيقن الناس بالهلكة واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ثم منَّ الله فتناقص الماء وذهبت الزيادة، وقد بقيت بغداد تلولاً وتهدمت أكثر البنايات.
وفيها: درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان وحضر عنده القضاة والأعيان.
وفيها: صدر الصدر بن حمويه رسولاً من العادل إلى الخليفة.
وفيها: قدم ولده الفخر ابن الكامل إلى المعظم يخطب منه ابنته على ابنه أقسيس صاحب اليمن، فعقد العقد بدمشق على صداق هائل.
وفيها: قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصداً إلى بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعد له الخليفة واستخدم الجيوش وأرسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة، وأن يخطب له ببغداد، فلم يجبه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه وهو جالس في حركاة من ذهب على سرير ساج، وعليه قباء بخاري ما يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه جلدة ما تساوي درهماً، فسلم عليه فلم يرد عليه من الكبر ولم يأذن له في الجلوس، فقام إلى جانب السرير وأخذ في خطبة هائلة فذكر فيها فضل بني العباس وشرفهم.
وأورد حديثاً في النهي عن أذاهم والترجمان يعيد على الملك، فقال الملك أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه ليس كذلك، ولكني إذا قدمت بغداد أقمت من يكون بهذه الصفة، وأما ما ذكرت من النهي عن أذاهم فإني لم أوذ منهم أحداً ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة يتناسلون في السجون، فهو الذي آذى بني العباس، ثم تركه ولم يرد عليه جواباً بعد ذلك.
وانصرف السهروردي راجعاً، وأرسل الله تعالى على الملك وجنده ثلجاً عظيماً ثلاثة أيام حتى طم الحزاكي والخيام، ووصل إلى قريب رؤوس الأعلام، وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم، وعمهم من البلاء ما لا يحد ولا يوصف، فردهم الله خائبين والحمد لله رب العالمين.
وفيها: انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج واتفق قدوم العادل من مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان، فركبت الفرنج من عكا وصحبتهم ملوك السواحل كلهم وساقوا كلهم قاصدين معافصة العادل فلما أحس بهم فر منهم لكثرة جيوشهم وقلة من معه، فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة؟ فشتمه بالعجمية وقال له: أقطعت الشام مماليكك وتركت أبناء الناس.
ثم توجه العادل إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج وينقل إليها من الغلات من داريا إلى القلعة، ويرسل الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور، ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر الضجيج بالجامع، وأقبل السلطان فنزل مرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا لقتال الفرنج، فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين، فتلقاه الناس فدخل من باب الفرج وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان.
ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو العادل إلى مرج الصفر. وأما الفرنج فإنهم قدموا بيسان فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب، وقتلوا وسبوا شيئاً كثيراً، ثم عاثوا في الأرض فساداً يقتلون وينهبون ويأسرون ما بين بيسان إلى بانياس.
وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى وغيرها، وسار الملك المعظم فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفاً على القدس منهم، فإنه هو الأهم الأكبر، ثم حاصر الفرنج حصن الطور حصاراً هائلاً ومانع عنه الذين به من الأبطال ممانعة هائلة، ثم كر الفرنج راجعين إلى عكا ومعهم الأسارى من المسلمين، وجاء الملك المعظم إلى الطور فخلع على الأمراء الذين به وطيب نفوسهم، ثم اتفق هو وأبوه على هدمه كما سيأتي.
وفيها توفي من الأعيان:
الشيخ الإمام العلامة الشيخ العماد
أخو الحافظ عبد الغني، أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي،
الشيخ العمادي أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بغداد مرتين وسمع الحديث وكان عابداً زاهداً ورعاً كثير الصيام، يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان فقيهاً مفتياً، وله كتاب الفروع وصنف أحكاماً ولم يتمه، وكان يؤم بمحراب الحنابلة مع الشيخ الموفق، وإنما كانوا يصلون بغير محراب، ثم وضع المحراب في سنة سبع عشرة وستمائة، وكان أيضاً يؤم بالناس لقضاء الفوائت، وهو أول من فعل ذلك.
صلى المغرب ذات ليلة وكان صائماً ثم رجع إلى منزله بدمشق فأفطر ثم مات فجأة، فصلي عليه بالجامع الأموي، صلى عليه الشيخ الموفق عند مصلاهم، ثم صعدوا به إلى السفح، وكان يوم موته يوماً مشهوداً من كثرة الناس.
قال سبط ابن الجوزي كان الخلق من الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بذر السمسم ما وقع إلا على رؤوس الناس، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلاً صالحاً ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره، ومر بذهني أبيات الثوري التي أنشدها بعد موته في المنام:
نظرت إلى ربي كفاحاً فقال لي * هنيئاً رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قواماً إذا أظلم الدجى * بعبرة مشتاق وقلب عميـد
فدونك فاختر أي قصر أردته * وزرني فإني عنك غير بعيـد
ثم قلت أرجو أن يكون العماد رأى ربه كما رآه الثوري، فنمت فرأيت الشيخ العماد في المنام وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء، وهو في مكان متسع كأنه روضة، وهو يرقى في درج متسعة، فقلت: يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك؟ فنظر إلى وتبسم على عادته التي كنت أعرفه فيها في الدنيا ثم قال:
رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي * وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي
وقال:
جزيت الخير عني فإنني * رضيت فها عفوي لديك ورحمتي
دأبت زماناً تأمل العفو والرضا * فوقيت نيراني ولقيت جنتي
قال فانتبهت وأنا مذعور وكتبت الأبيات والله أعلم.
القاضي جمال الدين ابن الحرستاني
عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو القاسم الأنصاري ابن الحرستاني قاضي القضاة بدمشق ولد سنة عشرين وخمسمائة، وكان أبوه من أهل حرستان، فنزل داخل باب توما وأمَّ بمسجد الزينبي ونشأ ولده هذا نشأة حسنة سمع الحديث الكثير وشارك الحافظ ابن عساكر في كثير من شيوخه، وكان يجلس للإسماع بمقصورة الخضر، وعندها كان يصلي دائماً لا تفوته الجماعة بالجامع.
وكان منزله بالحورية ودرس بالمجاهدية وعمر دهراً طويلاً على هذا القدم الصالح والله أعلم. وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون، ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع، ثم عزل العادل القاضي ابن الزكي والزم هذا بالقضاء وله ثنتان وتسعون سنة وأعطاه تدريس العزيزية.
وأخذ التقوية أيضاً من ابن الزكي وولاها فخر الدين ابن عساكر. قال ابن عبد السلام: ما رأيت أحداً أفقه من ابن الحرستاني، كان يحفظ الوسيط للغزالي.
وذكر غير واحد أنه كان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان ابنه عماد الدين يخطب بجامع دمشق، وولي مشيخة الأشرفية ينوب عنه، وكان القاضي جمال الدين يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية، وأرسل إليه السلطان طراحة ومسندة لأجل أنه شيخ كبير.
وكان ابنه يجلس بين يديه، فإذا قام أبوه جلس في مكانه، ثم إنه عزل ابنه عن نيابته لشيء بلغه عنه، واستناب شمس الدين بن الشيرازي، وكان يجلس تجاهه في شرقي الإيوان، واستناب معه شمس الدين ابن سنا الدولة، واستناب شرف الدين ابن الموصلي الحنفي، فكان يجلس في محراب المدرسة، واستمر حاكماً سنتين وأربعة أشهر، ثم مات يوم السبت رابع ذي الحجة وله من العمر خمس وتسعون سنة، وصلي عليه بجامع دمشق ثم دفن بسفح قاسيون.
الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم
الهكاري باني المدرسة التي بالقدس، كان من خيار الأمراء، وكان يتمنى الشهادة دائماً فقتله الفرنج بحصن الطور، ودفن بالقدس بتربة عاملها وهو يزار إلى الآن رحمه الله.
الشجاع محمود المعروف بابن الدماغ
كان من أصدقاء العادل يضحكه، فحصل أموالاً جزيلة منهم، كانت داره داخل باب الفرنج فجعلتها زوجته عائشة مدرسة للشافعية والحنفية، ووقفت عليها أوقافاً دارّة.
الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة
شيخة العالمات بدمشق، تلقب بدهن اللوز، بنت نورنجان، وهي آخر بناته وفاة وجعلت أموالها وقفاً على تربة أختها بنت العصبة المشهورة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة
استهلت والعادل بمرج الصفر لمناجزة الفرنج وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور فأخربه ونقل ما فيه من آلات الحرب وغيرها إلى البلدان خوفاً من الفرنج.
وفي ربيع الأول نزلت الفرنج على دمياط وأخذوا برج السلسلة في جمادى الأولى، وكان حصناً منيعاً، وهو قفل بلاد مصر.
وفيها: التقى المعظم والفرنج على القيمون فكسرهم وقتل منهم خلقاً وأسر من الداوية مائة فأدخلهم إلى القدس منكسة أعلامهم.
وفيها: جرت خطوب كثيرة ببلد الموصل بسبب موت ملوكها أولاد قرا أرسلان واحداً بعد واحد، وتغلب مملوك أبيهم بدر الدين لؤلؤ على الأمور والله أعلم.
وفيها: أقبل ملك الروم كيكاريس سنجر يريد أخذ مملكة حلب، وساعده على ذلك الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط، فصده عن ذلك الملك الأشرف موسى بن العادل وقهر ملك الروم وكسر جيشه ورده خائباً.
وفيها: تملك الأشرف مدينة سنجار مضافاً إلى ما بيده من الممالك.
وفيها: توفي السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، فأخذت الفرنج دمياط ثم ركبوا وقصدوا بلاد مصر من ثغر دمياط فحاصروه مدة أربعة شهور، والملك الكامل يقاتلهم ويمانعهم، فتملكوا برج السلسلة وهو كالقفل على ديار مصر، وصفته في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر، ومنه إلى دمياط، وهو على شاطئ البحر وحافة سلسلة منه إلى الجانب الآخر، وعليه الجسر وسلسلة أخرى لتمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل، فلا يمكن الدخول، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين، وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر تأوه لذلك تأوهاً شديداً ودق بيده على صدره أسفاً وحزناً على المسلمين وبلادها، ومرض من ساعته مرض الموت لأمر يريده الله عز وجل.
فلما كان يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة توفي بقرية غالقين، فجاءه ولده المعظم مسرعاً فجمع حواصله وأرسله في محفة ومعه خادم بصفة أن السلطان مريض، وكلما جاء أحد من الأمراء ليسلم عليه بلغهم الطواشي عنه، أي أنه ضعيف، عن الرد عليهم، فلما انتهى به إلى القلعة دفن بها مدة ثم حول إلى تربته بالعادلية الكبيرة، وقد كان الملك سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادي من خيار الملوك وأجودهم سيرة، ديناً عاقلاً صبوراً وقوراً، أبطل المحرمات والخمور والمعازف من مملكته كلها وقد كانت ممتدة من أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همدان كلها، أخذها بعد أخيه صلاح الدين سوى حلب فإنه أقرها بيد ابن أخيه الظاهر غازي لأنه زوج ابنته صفية الست خاتون.
وكان العادل حليماً صفوحاً صبوراً على الأذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد البيضاء، وكان ماسك اليد وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالاً كثيرة على الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئاً كثيراً جداً، ثم إنه كفن في العام الثاني من بعد عام الغلاء في الفناء مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء.
وكان كثير الصدقة في أيام مرضه حتى كان يخلع جميع ما عليه ويتصدق به وبمركوبه، وكان كثير الأكل ممتعاً بصحة وعافية مع كثرة صيامه، كان يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة، ثم بعد هذا يأكل عند النوم رطلاً بالدمشقي من الحلوى السكرية اليابسة، وكان يعتريه مرض في أنفه في زمن الورد وكان لا يقدر على الإقامة بدمشق حتى يفرغ زمن الورد، فكان يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد ذلك.
توفي عن خمس وسبعين سنة، وكان له من الأولاد جماعة:
محمد الكامل صاحب مصر، وعيسى المعظم صاحب دمشق، وموسى الأشرف صاحب الجزيرة، وخلاط وحران وغير ذلك، والأوحد أيوب مات قبله، والفائز إبراهيم، والمظفر غازي صاحب الرها، والعزيز عثمان والأمجد حسن وهما شقيقا المعظم، والمقيت محمود، والحافظ أرسلان صاحب جعبر والصالح إسماعيل، والقاهر إسحاق، ومجير الدين يعقوب، وقطب الدين أحمد وخليل، وكان أصغرهم وتقي الدين عباس، وكان آخرهم وفاة، بقي إلى سنة ستين وستمائة.
وكان له بنات أشهرهن الست صفية خاتون زوجة الظاهر غازي صاحب حلب وأم الملك العزيز والد الناصر يوسف الذي ملك دمشق، وإليه تنسب الناصريتان إحداهما بدمشق والأخرى بالسفح وهو الذي قتله هولاكو كما سيأتي.
صفة أخذ الفرنج دمياط
لما اشتهر الخبر بموت العادل ووصل إلى ابنه الكامل وهو بثغر دمياط مرابط الفرنج، أضعف ذلك أعضاء المسلمين وفشلوا، ثم بلغ الكامل خبر آخر أن الأمير ابن المشطوب وكان أكبر أمير بمصر، قد أراد أن يبايع للفائز عوضاً عن الكامل، فسلق وحده جريدة فدخل مصر ليستدرك هذا الخطب الجسيم، فلما فقده الجيش من بينهم انحل نظامهم واعتقدوا أنه قد حدث أمر أكبر من موت العادل، فركبوا وراءه فدخلت الفرنج بأمان إلى الديار المصرية، واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله، فوقع خبط عظيم جداً، وذلك تقدير العزيز العليم، فلما دخل الكامل مصر لم يقع مما ظنه شيء، وإنما هي خديعة من الفرنج وهرب منه ابن المشطوب إلى الشام.
ثم ركب من فوره في الجيش إلى الفرنج فإذا الأمر قد تزايد، وتمكنوا من البلدان وقتلوا خلقاً وغنموا كثيراً، وعاثت الأعراب التي هنالك على أموال الناس، فكانوا أضر عليهم من الفرنج، فنزل الكامل تجاه الفرنج يمانعهم عن دخولهم إلى القاهرة بعد أن كان يمانعهم عن دخول الثغر، وكتب إلى إخوانه يستحثهم ويستنجدهم ويقول: الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر.
فأقبلت العساكر الإسلامية إليه من كل مكان، وكان أول من قدم عليه أخوه الأشرف بيض الله وجهه، ثم المعظم وكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره بعد هذه السنة.
وفيها: ولي حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي، وهو مع ذلك يعمل ميعاد الوعظ على قاعدة أبيه، وشكر في مباشرته للحسبة.
وفيها: فوض إلى المعظم النظر في التربة البدرية تجاه الشبلية عند الجسر الذي على ثور، ويقال له: جسر كحيل، وهي منسوبة إلى حسن بن الداية، كان هو وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، وقد جعلت في حدود الأربعين وستمائة جامعاً يخطب فيه يوم الجمعة.
وفيها: أرسل السلطان علاء الدين محمد بن تكش إلى الملك العادل وهو مخيم بمرج الصفر رسولاً، فرد إليه مع الرسول خطيب دمشق جمال الدين محمد بن عبد الملك الدولعي، واستنيب عنه في الخطابة الشيخ الموفق عمر بن يوسف خطيب بيت الآبار، فأقام بالعزيزية يباشر عنه، حتى قدم وقد مات العادل.
وفيها: توفي الملك القاهر صاحب الموصل.
فأقيم ابنه الصغير مكانه، ثم قتل وتشتت شمل البيت الأتابكي، وتغلب على الأمور بدر الدين لؤلؤ غلام أبيه.
وفيها: كان عود الوزير صفي الدين عبد الله ابن علي بن شكر من بلاد الشرق بعد موت العادل، فعمل فيه علم الدين مقامة بالغ في مدحه فيها، وقد ذكروا أنه كان متواضعاً يحب الفقراء والفقهاء، ويسلم على الناس إذا اجتاز بهم وهو راكب في أبهة وزارته، ثم إنه نكب في هذه السنة، وذلك أن الكامل هو الذي كان سبب طرده وإبعاده كتب إلى أخيه المعظم فيه، فاحتاط على أمواله وحواصله وعزل ابنه عن النظر من الدواوين، وقد كان ينوب عن أبيه، في مدة غيبته.
وفي رجب منها أعاد المعظم ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك، من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها، بحيث إنه لم يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل خيراً، ولا جزى المعظم خيراً على ما فعل، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الأموال على الجند، واحتياجهم إلى النفقات في قتال الفرنج.
وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور، فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال، فيولون بسببه الأدبار.
وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الأثر: ((إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)).
وهذا ظاهر لا يخفى على فطن.
من الأعيان:
القاضي شرف الدين
أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى اللخمي الضرير البغدادي، كان ينسب إلى علم الأوائل، ولكنه كان يتستر بمذهب الظاهرية، قال فيه ابن الساعي: الداودي المذهب المعري أدباً واعتقاداً، ومن شعره:
إلى الرحمن أشكو ما ألاقي * غداة عدوا على هوج النياقِ؟
سألتكم بمن زم المطايـا * أمَّـر بكم أمـُّر من الفـراقِ؟
وهل ذل أشد من التنائـي * وهل عيش ألذ من التـلاقِ ؟
قاضي قضاة بغداد.
عماد الدين أبو القاسم
عبد الله بن الحسين بن الدمغاني الحنفي، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وولي القضاء ببغداد مرتين نحواً من أربع عشرة سنة، وكان مشكور السيرة عارفاً بالحساب والفرائض وقسمة التركات.
أبو اليمن نجاح بن عبد الله الحبشي
السوداني نجم الدين مولى الخليفة الناصر، كان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان لا يفارق الخليفة، فلما مات وجد عليه الخليفة وجداً كثيراً، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً، كان بين يدي نعشه مائة بقرة وألف شاة وأحمال من التمر والخبز والماورد، وقد صلى عليه الخليفة بنفسه تحت التاج، وتصدق عنه بعشرة آلاف دينار على المشاهد، ومثلها على المجاورين بالحرمين، وأعتق مماليكه ووقف عنه خمسمائة مجلد.
أبو المظفر محمد بن علوان
ابن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث، ثم عاد إلى الموصل فساد أهل زمانه بها، وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة بدر الدين لؤلؤ وغيرها، وكان صالحاً ديناً.
أبو الطيب رزق الله بن يحيى
ابن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سليمان بن رزق الله بن غانم بن غنام التأخدري المحدث الجوال الرحال الثقة الحافظ الأديب الشاعر، أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي، كان من أمراء سنجار، وكان أبوه من موالي الملك عماد الدين زنكي صاحبها، وكان أحمد هذا ديناً شاعراً ذا مال جزيل، وأملاك كثيرة، وقد احتاط على أمواله قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجناً فنسي فيه ومات كمداً، ومن شعره:
تقول وقد ودعتها ودموعها * على خدها من خشية البين تلتقي
مضى أكثر العمر الذي كان نافعاً * رويدك فاعمل صالحاً في الذي بقي
ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة
فيها: أمر الشيخ محيي الدين بن الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم، وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة.
ظهور جنكيز خان وعبور التتار نهر جيحون
وفيها: عبرت التتار نهر جيحون صحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم، وكانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار، وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال، وسبب دخولهم نهر جيحون أن جنكزخان بعث تجاراً له ومعهم أموال كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون له ثياباً للكسوة فكتب نائبها إلى خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الأموال.
فأرسل إليه بأن يقتلهم ويأخذ ما معهم، ففعل ذلك، فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم شاه، ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلاً جيداً.
فلما تهدده أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم، فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلي خان، فنهب خوارزم شاه أموالهم وسبى ذراريهم وأطفالهم، فأقبلوا إليه محروبين فاقتتلوا مع أربعة أيام قتالاً لم يسمع بمثله، أولئك يقاتلون عن حريمهم والمسلمون عن أنفسهم، يعملون أنهم متى ولوا استأصلوهم، فقتل من الفريقين خلق كثير، حتى أن الخيول كانت تزلق في الدماء، وكان من جملة من قتل من المسلمين نحواً من عشرين ألفاً، ومن التتار أضعاف ذلك.
ثم تحاجز الفريقان وولى كل منهم إلى بلاده ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند فحصنها وبالغ في كثرة من ترك بها من المقاتلة، ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة فقصدت، التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل فحاصرها جنكزخان ثلاثة أيام، فطلب منه أهلها الأمان فأمنهم ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكراً وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها.
وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق يطمونه بها ففتحوها قسراً في عشرة أيام، فقتل من كان بها.
ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها.
ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، وكان من أمرهم ما سنذكره في السنة الآتية.
وفي مستهل هذه السنة خرب سور بيت المقدس عمره الله بذكره، أمر بذلك المعظم خوفاً من استيلاء الفرنج عليه بعد مشورة من أشار بذلك، فإن الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه، فشرع في تخريب السور في أول يوم المحرم فهرب منه أهله خوفاً من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلاً أو نهاراً، وتركوا أموالهم وأثاثهم وتمزقوا في البلاد كل ممزق، حتى قيل إنه بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف درهم.
وضج الناس وابتهلوا إلى الله عند الصخرة، وفي الأقصى وهي أيضاً فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من الفواحش في العام الماضي، فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك.
في رجب حلل الحميّـا * وأخرب القدس في المحـرمُ
وفيها: استحوذت الفرنج على مدينة دمياط ودخولها بالأمان فغدروا بأهلها، وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وفجروا بالنساء وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة.
وفيها: غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي، وسببه أن عمته ست الشام بنت أيوب مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه، فذهب إليها بشهود معه فكتب الوصية كما قالت، فقال: المعظم يذهب إلى عمتي بدون إذني، ويسمع هو والشهود كلامها ؟
واتفق أن القاضي طلب من جابي العزيزية حسابها وضربه بين يديه بالمقارع، وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه، فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوتة، القباء أبيض والكاوتة صفراء.
وقيل بل كانا حمراوين مدرنين، وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم بين الخصوم فيهما، وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا وهو في دهليز داره التي باب البريد، وهو منتصب للحكم، فلم يستطع إلا أن يلبسهما وحكم فيهما، ثم دخل داره واستقبل مرض موته.
وكانت وفاته في صفر من السنة الآتية بعدها، وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر النسك والتعبد، ويقال: إنه اعتكف بالجامع أيضاً فأرسل إليه المعظم بخمر ونرد ليشتغل بهما. فكتب إليه ابن عنين:
يا أيهـا الملك المعظم سنـةً * أحدثتـها تبقى على الآبـادِ
تجري الملوك على طريقك بعدها * خلع القضاة وتحفة الزهـادِ
وهذا من أقبح ما يكون أيضاً، وقد كان نواب ابن الزكي أربعة:
شمس الدين بن الشيرازي إمام مشهد علي، كان يحكم بالمشهد بالشباك، وربما برز إلى طرف الرواق تجاه البلاطة السوداء.
وشمس الدين ابن سني الدولة، كان يحكم في الشباك الذي في الكلاسة تجاه تربة صلاح الدين عند الغزالية.
وكمال الدين المصري وكيل بيت المال كان يحكم في الشباك الكمالي بمشهد عثمان.
وشرف الدين الموصلي الحنفي كان يحكم بالمدرسة الطرخانية بجبرون، والله تعالى أعلم.
وفيها توفي من الأعيان:
ست الشام
واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي، أخت الملوك وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكاً، منهم شقيقها المعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن، وهو مدفون عندها في القبر القبلي من الثلاثة، وفي الأوسط منها زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي صاحب حمص.
وكانت قد تزوجته بعد أبي ابنها حسام الدين عمر بن لاجين، وهي وابنها حسام الدين عمر في القبر الثالث، وهو الذي يلي مكان الدرس.
ويقال للتربة والمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها هذا حسام الدين عمر بن لاجين، وكان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين.
وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحساناً إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة، وهي عند المارستان وهي الشامية الجوانية، ونقلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية، وكانت جنازتها حافلة رحمها الله.
أبو البقاء صاحب الأعراب واللباب
عبد الله بن الحسين بن عبد الله، الشيخ أبو البقاء العكبري الضرير النحوي الحنبلي صاحب: (إعراب القرآن العزيز) وكتاب (اللباب في النحو)، وله حواش على المقامات ومفصل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان صالحاً ديناً، مات وقد قارب الثمانين رحمه الله.
وكان إماماً في اللغة فقيهاً مناظراً عارفاً بالأصلين والفقه.
وحكى القاضي بن خلكان عنه: أنه ذكر في شرح المقامات أن عنقاء مغرب كانت تأتي إلى جبل شاهق عند أصحاب الرس، فربما اختطفت بعض أولادهم فشكوها إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فهلكت.
قال: وكان وجهها كوجه الإنسان وفيها شبه من كل طائر.
وذكر الزمخشري في كتابه: (ربيع الأبرار) أنها كانت في زمن موسى لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان، وفيها شبه كثير من سائر الحيوان، وأنها تأخرت إلى زمن خالد بن سنان العبسي الذي كان في الفترة فدعا عليها فهلكت، والله أعلم.
وذكر ابن خلكان: أن المعز الفاطمي جيء إليه بطائر غريب الشكل من الصعيد يقال له عنقاء مغرب.
قلت: وكل واحد من خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان كان في زمن الفترة، وكان صالحاً ولم يكن نبياً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي)) وقد تقدم ذلك.
الحافظ عماد الدين أبو القاسم
علي ابن الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، سمع الكثير ورحل فمات ببغداد في هذه السنة، ومن لطيف شعره قوله في المروحة:
ومروحة تـروح كل هـمٍ * ثلاثة أشهرٍ لا بـد منـها
حـزيران وتمـوز وآبٍ * وفي أيلول يغـني الله عنـها
ابن الدواي الشاعر وقد أورد له ابن الساعي جملة صالحة من شعره.
وأبو سعيد بن الوزان الداوي وكان أحد المعدلين ببغداد وسمع البخاري من أبي الوقت.
وأبو سعيد محمد بن محمود بن عبد الرحمن المروزي الأصل الهمداني المولد البغدادي المنشأ والوفاة، كان حسن الشكل كامل الأوصاف له خط حسن ويعرف فنوناً كثيرة من العلوم، شافعي المذهب، يتكلم في مسائل الخلاف حسن الأخلاق ومن شعره قوله:
أرى قسم الأرزاق أعجب قسمةٍ * لذي دعةٍ ومكديةٍ لذي كدِ
وأحمـق ذو مال وأحمـق معدمٌ * وعقل بلا حظٍ وعقلٍ له حدُ
يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجا * ولله من قبل الأمور ومن بعدُ
أبو زكريا يحيى بن القاسم
ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعي شيخ تاج الدين التكريتي قاضيها، ثم درس بنظامية بغداد، وكان متقناً لعلوم كثيرة منها التفسير والفقه والأدب والنحو واللغة، وله المصنفات في ذلك كله وجمع لنفسه تاريخاً حسناً. ومن شعره قوله:
لا بد للمرء من ضيق ومن سعة * ومن سرور يوافيه ومن حزنِ
والله يطلب منه شكر نعمتـهِ * ما دام فيها ويبغي الصبر في المحنِ
فكن مع الله في الحالين معتنقـاً * فرضيك هذين في سر وفي علنِ
فما على شدةٍ يبقى الزمان يكن * ولا على نعمةٍ تبقى على الزمنِ
وله أيضا:
إن كان قاضي الهوى علي ولي * ما جار في الحكم من علي ولي
يا يوسفي الجمال عندك لم * تبق لي حيلةٌ من الحيـلِ
إن كان قد القميص من دبرٍ * ففيك قد الفؤاد من قبـلِ
صاحب الجواهر
الشيخ الإمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس الجذامي المالكي الفقيه، مصنف كتاب: (الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) وهو من أكثر الكتب فوائد في الفروع رتبه على طريقة الوجيز للغزالي.
قال ابن خلكان: وفيه دلالة على غزارة علمه وفضله والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده، وكان مدرساً بمصر، ومات بدمياط رحمه والله.
الله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة
في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى، ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين، واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها.
فملكوا في سنة واحدة، وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر، وقهروا جميع الطوائف التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم.
وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار، وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع.
وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم.
وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطاً حسناً مفصلاً، وقدم على ذلك كلاماً هائلاً في تعظيم هذا الخطب العجيب.
قال فنقول: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم والى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة لما قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل.
ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقى على من أتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح.
فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما رواء النهر، مثل سمرقند وبخارا وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً، وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق.
ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير قلعته التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلاً ونهباً وتخريباً.
ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عدداً، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم.
وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في سنة واحدة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحداً بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض، وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلاً وأعد لهم أخلاقاً وسيرة في نحو سنة.
ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم، وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئاً، ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى.
قال: وإنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع لأن السلطان خوارزم شاه محمداً كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الأمور، فلما انهزم منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 44]، وإلى الله ترجع الأمور.
ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملاً، فذكر أولاً ما قدمنا ذكره في العام الماضي من بعث جنكزخان أولئك التجار بمال له ليأتونه بثمنه كسوة ولباساً، وأخذ خوارزم شاه تلك الأموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلى خان، فنهب أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم، وازدادوا حنقاً وغيظاً، فتواقعواهم وإياه وابن جنكزخان ثلاثة أيام فقتل من الفريقين خلق كثير.
ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر راجعاً إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كما ذكرنا فافتتحها صلحاً وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهراً وقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى النساء والأطفال وخرب الدور والمحال، وقد كان بها عشرون ألف مقاتل، فلم يغن عنهم شيئاً، ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من الجند، فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفاً من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة، وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به، وقتلهم في ذلك اليوم، واستباح البلد فقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى الذرية وحرقه وتركه بلاقع فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأقام لعنه الله هنالك وأرسل السرايا إلى البلدان فأرسل سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفاً قال: اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء، فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفناً فعملوا لهم أحواضاً يحملون عليها الأسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها فتجره الفرس بالماء، وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه، حتى صاروا كلهم في الجانب الآخر، فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور، ثم منها إلى غيرها، وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلداً ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم.
حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته.
وقيل: إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل من الأطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل، ومن الغلمان والجواري والخيام شيئاً كثيراً، وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل ملك فتمزق ذلك كله.
وقد كان خوارزم شاه فقيهاً حنفياً فاضلاً، له مشاركات في فنون من العلم، يفهم جيداً، وملك بلاداً متسعة وممالك متعددة إحدى وعشرين سنة وشهوراً.
ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه، ولا أعظم ملكاً منه، لأنه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات، ولذلك قهر الملوك بتلك الأراضي وأحل بالخطا بأساً شديداً، حتى لم يبق ببلاد خراسان وما رواء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه، وجميع البلاد تحت أيدي نوابه.
ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسر مدة، ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا، ثم ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه، ومعها أموال عظيمة جداً، فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر وغيرها.
ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا وأسروا.
ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا.
ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحواً من أربعين ألفاً.
ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بن البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب السيئات والانهماك على الشهوات، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم، فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة وأشنعها.
وههنا قال ابن الأثير: ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه:
طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، قد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها.
يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه.
قال: وانقضت هذه السنة وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعة و مقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال.
ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأة - ولو يفلح قوم ولو أمرهم امرأة - ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقاً لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئاً كثيراً، وسبوا وأسروا على عادتهم لعنهم الله لعنة تدخلهم نار جهنم، وقد كان الناس يخافون منهم خوفاً عظيماً جداً حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحداً بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده.
ودخلت امرأة منهم في زي رجل داراً فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله.
ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعاً، وقال أهل تلك النواحي: هذا أمر عصيب، وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الأشرف صاحب الجزيرة يقول:
إني قد جهزت عسكراً فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فأرسل الأشرف يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم لها على أخذ الديار المصرية قاطبة.
وكان أخوه المعظم قد قدم على والي حران يستنجده لأضيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على أهبة المسير إلى الديار المصرية، فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي: عشرة آلاف مقاتل، فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس، ثم تفرقوا قبل أن يجتمعوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسراً وقتلوا أهلها عن آخرهم.
ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز، ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وجماً غفيراً، وحرقوها وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهم عن الأجنة.
ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضاً كسرة فظيعة.
ثم فتحوا بلداناً كثيرة يقتلون أهلها، ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونهم بين أيديهم ترساً يتقون بهم الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالاً عظيماً فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق، وهي: مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شيء كثير جداً.
ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس، وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة فظيعة جداً.
ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك كله، ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.
هذا ما فعلته هذه السرية المغرّبة، وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشاً آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلها، وكذلك صالحوا مدناً كثيرة أخرى.
حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها، وكانت حصينة فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهراً، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة.
ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم، فاقتتلوا معه قتالاً عظيماً حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة، ثم غدروا به وبأهل البلد، فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان.
ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو.
ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد علي بن موسى الرضي سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خراباً.
ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم، ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.
وأرسل جنكزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحو البلد قهراً، فقتلوا من فيها قتلاً ذريعاً، ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها.
ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقاً من أسارى المسلمين.
ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله، فقصده جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة، كل هذا أو أكثره وقع في هذه السنة.
وفيها: أيضاً ترك الأشرف، موسى بن العادل لأخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميافارقين وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك، بالرها وسروج، وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى.
وفي المحرم منها: هبت رياح ببغداد، وجاءت بروق، وسمعت رعود شديدة، وسقطت صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها، ثم أصلحت، وغارت الصاعقة في الأرض.
وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم، ولكن ساعدهم بعض الأمراء في نصبه لهم، وهو الأمير ركن الدين المعظمي، وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن قدامة.
قلت: ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيارة، كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان في الجانب الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة، حين جدد الحائط الذي هو فيه في الأيام التنكزية، على يدي ناظر الجامع تقي الدين بن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيها: قتل صاحب سنجار أخاه، فملكها مستقلاً بها الملك الأشرف بن العادل.
وفيها: نافق الأمير عماد الدين بن المشطوب على الملك الأشرف، وكان قد آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز، ثم إنه سعى في الأرض فساداً في بلاد الجزيرة فسجنه الأشرف حتى مات كمداً وذلاً وعذاباً.
وفيها: أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأساً شديداً، فقتل منهم عشرة آلاف، وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد.
وفيها: عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها للعزيز خليل، ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم المعتمد فحصل به خير كثير، وذلك أنه كف عبيد مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين أقباش الناصري، وكان من أكبر الأمراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده، وذلك لأنه قدم معه بخلع للأمير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم العلوي الحسني الزيدي بولايته لأمرة مكة بعد أبيه.
وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة، فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة.
وقال لا يتأمر عليها غيري، فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطاً.
وقد كان قتادة من أكابر الأشراف الحسنيين الزيديين، وكان عادلاً منصفاً منعماً، نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها.
ثم عكس هذا السير فظلم وجدد المكوس، ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسناً فقتله وقتل عمه وأخاه أيضاً، فلهذا لم يمهل الله حسناً أيضاً، بل سلبه الملك وشرده في البلاد، وقيل: بل قتل كما ذكرنا، وكان قتادة شيخاً طويلاً مهيباً لا يخاف من أحد من الخلفاء والملوك، ويرى أنه أحق بالأمر من كل أحد.
وكان الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه، وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد الامتناع، ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل الخليفة ولا ملك، وكتب إليه الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه:
ولي كف ضرغامٍ أذل ببطشها * وأشرى بها بين الورى وأبيعُ
تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها * وفي بطنها للمجد بين ربيـعُ
أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي * خلاصا لها؟ إني إذا لرقيـعُ
ما أنا إلا المسك في كل بقعـة * يضوع وأما عندكم فيضيعُ
وقد بلغ من السنين سبعين سنة.
وقد ذكر ابن الأثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله أعلم.
وفيها توفي من الأعيان:
الملك الفائز
غياث الدين إبراهيم بن العادل، كان قد انتظم له الأمر في الملك بعد أبيه على الديار المصرية على يدي الأمير عماد الدين بن المشطوب، لولا أن الكامل تدارك ذلك سريعاً ثم، أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الأشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج، فمات بين سنجاب والموصل، وقد ذكر أنه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى.
شيخ الشيوخ صدر الدين
أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود بن حمويه الجويني من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب، وقد كان صدر الدين هذا فقيهاً فاضلاً، درس بتربة الشافعي بمصر وبمشهد الحسين وولى مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك أرسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج، فمات بالموصل بالإسهال، ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة.
صاحب حماه
الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلاً له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار، وكان شجاعاً فارساً، فقام بالملك بعده ولده الناصر قليج أرسلان، ثم عزله عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن المنصور.
صاحب آمد
الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، وكان شجاعاً محباً للعلماء، وكان مصاحباً للأشرف موسى بن العادل يجيء إلى خدمته مراراً، وملك بعده ولده المسعود، وكان بخيلاً فاسقاً، فأخذه معه الكامل وحبسه بمصر، ثم أطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار، فأخذته منه.
الشيخ عبد الله الوينني
الملقب: أسد الشام رحمه الله ورضى عنه من قرية بعلبك يقال لها: يونين، وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة، وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، له همة عالية في الزهد والورع، بحيث إنه كان لا يقتني شيئاً ولا يملك مالاً ولا ثياباً، بل يلبس عارية ولا يتجاوز قميصاً في الصيف وفروة فوقه في الشتاء، وعلى رأسه قبعاً من جلود المعز، شعره إلى ظاهر.
وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات، ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلاً، وكان يجاور في بعض الأحيان بجبل لبنان، ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق، لأجل سخونة الماء، فيقصده الناس للزيارة هناك ويجيء تارة إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية.
وكانت له أحوال ومكاشفات صالحة، وكان يقال له: أسد الشام.
حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع: أنه شاهد مرة الشيخ عبد الله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الأبيض، إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمراً فعثرت الدابة عند الجسر فسقط الحمل، فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه، واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال:
تعال يا فقيه، فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت من ذلك، وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة، فانتهى به إلى العقبة فأورده إلى الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار: ويحك هذا خل.
فقال النصراني: أنا أعرف من أين أتيت، ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه.
وله أحوال وكرامات كثيرة جداً، وكان لا يقوم لأحد دخل عليه ويقول: إنما يقوم الناس لرب العالمين.
وكان الأمجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: يا أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره، بما يأمره وينهاه عما ينهاه عنه، وهو يمتثل جميع ما يقوله له، وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه.
وكان يقبل الفتوح، وكان لا يدخر منه شيئاً لغد، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز ففركه واستفه، ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.
وذكروا: أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد.
ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء، وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري، ثم من بعده من الصالحين رحمهم الله أجمعين.
فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبد الله اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو صحيح، فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن، وكان يغسل الموتى: انظر كيف تكون غداً.
ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكر الله تعالى تلك الليلة، ويتذكر أصحابه، ومن أحسن إليه ولو بأدنى شيء ويدعو لهم، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة، فمات وهو كذلك جالس، لم يسقط، ولم تسقط السبحة من يده، فلما انتهى الخبر إلى الملك الأمجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك، فقال:
لو بنينا عليه بنياناً هكذا يشاهد الناس منه آية.
فقيل له: ليس هذا من السنة، فنحي وكفن وصلي عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى، رحمه الله ونور ضريحه.
وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاماً أكرمه الله تعالى، وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه، وممن يلوذ به وهو جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك.
أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر
المجلي الموصلي ويعرف بابن الجهني، شاب فاضل ولي كتابة الإنشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل ومن شعره:
نفسي فـداء الذي فكرت فيه وقـد * غدوت أغرق في بحر من العجبِ
يبدو بليل على صبح على قمرٍ * على قضيبٍ على وهم على كثبِ
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة
فيها: استولت التتر على كثير من البلدان بكلادة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة، وقتلوا أهاليها ونهبوا ما فيها، واستأسروا ذراريها واقتربوا من بغداد فانزعج الخليفة لذلك، وحصن بغداد واستخدم الأجناد، وقنت الناس في الصلوات والأوراد.
وفيها: قهروا الكرج واللان، ثم قاتلوا القبجاق فكسروهم، وكذلك الروس، وينهبون ما قدروا عليه، ثم قاتلوهم سبوا نساءهم وذراريهم.
وفيها: سار المعظم إلى أخيه الأشرف فاستعطفه على أخيه الكامل، وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعاً نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة؛ وعرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ويتركوا دمياط، فامتنعوا من ذلك ولم يفعلوا.
فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الأقوات فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في نفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن.
فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة بلا معاوضة، فجاء مقدموهم إليه وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الأشرف، وكانا قائمين بين يديه، وكان يوماً مشهوداً، فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد بيض الله وجهه، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين يديه، ومد سماطاً عظيماً، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد:
هنيئاً فإن السعد راح مخلداً * وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحاً بدا لنا * مبيناً وإنعاماً وعـزاً مؤبـدا
تهلل وجه الدهر بعد قطوبه * وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخضم بأهله الط*ـغـاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه * صقيلاً كما سل الحسام مجـردا
فلم ينج إلا كل شلو مجدلٍ * ثوى منهم أو من تراه مقيـدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً * عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه * وموسى جميعاً يخدمون محمدا
قال أبو شامة: وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى، والأشرف موسى، والكامل محمد.
قال: وهذا من أحسن شيء اتفق، وكان ذلك يوم الأربعاء التاسع عشر رجب من هذه السنة، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها، ورجع المعظم إلى الشام واصطلح الأشرف والكامل على أخيهما المعظم.
وفيها: ولى الملك المعظم قضاء دمشق كمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها، وكان فاضلاً بارعاً يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية بعد فراغها لإثبات المحاضر، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة، جزاه الله خيراً
من الأعيان:
ياقوت الكاتب الموصلي رحمه الله
أمين الدين المشهور بطريقة ابن البواب.
قال ابن الأثير:لم يكن في زمانه من يقاربه، وكانت لديه فضائل جمة والناس متفقون على الثناء عليه، وكان نعم الرجل.
وقد قال فيه نجيب الدين الواسطي قصيدة يمدحه بها:
جامع شارد العـلوم ولولا * ه لكانت أم الفضائـلِ ثكـلى
ذو يراع تخاف ريقتـه الأسـ * د، وتعنو له الكتائـب ذلا
وإذا افتر ثغره عن بياض * في سوادٍ فالسمر والبيـض خجلا
أنت بدر والكاتب ابن هلال * كأبيـه لا فخر فيمن تـولى
إن يكن أولى فإنك بالتفـضـ * يل أولى فقد سبقت وصلـى
جلال الدين الحسن
من أولاد الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية، وكان قد أظهر في قومه شعائر الإسلام، وحفظ الحدود والمحرمات والقيام فيها بالزواجر الشرعية.
الشيخ الصالح
شهاب الدين محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الزاهد العابد الناسك، كان يقرأ على الناس يوم الجمعة الحديث النبوي وهو جالس على أسفل منبر الخطابة بالجامع المظفري، وقد سمع الحديث الكثير، ورحل وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة، وكانت له فنون كثيرة، وكان ظريفاً مطبوعاً رحمه الله.
والخطيب موفق الدين
أبو عبد الله عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي، خطيب بيت الأبار، وقد تاب في دمشق عن الخطيب جمال الدين الدولعي حين سار في الرسلية إلى خوارزم شاه، حتى عاد.
المحدث تقي الدين أبو طاهر
إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، قرأ الحديث ورحل وكتبه.
وكان حسن الخط متقناً في علوم الحديث، حافظاً له، وكان الشيخ تقي الدين ابن الصلاح يثني عليه ويمدحه، وكانت له كتب بالبيت الغربي من الكلاسة الذي كان للملك المحسن بن صلاح الدين.
ثم أخذ من ابن الأنماطي وسلم إلى الشيخ عبد الصمد الدكائي، واستمر بيد أصحابه بعد ذلك، وكانت وفاته بدمشق ودفن بمقابر الصوفية، وصلى عليه بالجامع الشيخ موفق الدين، وبباب النصر الشيخ فخر الدين بن عساكر، وبالمقبرة قاضي القضاة جمال الدين المصري رحمه الله تعالى.
أبو الغيث شعيب بن أبي طاهر بن كليب
ابن مقبل الضرير الفقيه الشافعي، أقام ببغداد إلى أن توفي، وكانت لديه فضائل وله رسائل، ومن شعره قوله:
إذا كنتم للناس أهل سياسةٍ * فسوسوا كرام الناس بالجود والبذلِ
وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا * عليه، فإن الذل أصلح للنذلِ
أبو العز شرف بن علي
ابن أبي جعفر بن كامل الخالصي المقري الضرير الفقيه الشافعي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث ورواه، وأنشد عن الحسن بن عمرو الحلبي:
تمثلتم لي والديار بعيدةٌ * فخيل لي أن الفـؤاد لكـم معنى
وناجاكم قلبي على البعد بيننا * فأوحشتم لفظاً وآنستم معنى
أبو سليمان داوود بن إبراهيم
ابن مندار الجيلي، أحد المعيدين بالمدرسة النظامية، ومما أنشده:
أيا جامعاً أمسك عنانك مقصراً * فإن مطايا الدهر تكبو وتقصرُ
ستقرع سنا أو تعض ندامـةً * إذا خـان الزمان واقصـرُ
ويلقاك رشد بعد غيك واعـٌظ * ولكنه يلقاك والأمر مدبرُ
أبو المظفر عبد الودود بن محمود بن المبارك
ابن علي بن المبارك بن الحسن الواسطي الأصل، البغدادي الدار والمولد، كمال الدين المعروف والده بالمجيد، تفقه على أبيه وقرأ عليه علم الكلام، ودرس بمدرسته عند باب الأزج، ووكله الخليفة الناصر.
واشتهر بالديانة والأمانة، وباشر مناصب كباراً، وحج مراراً عديدة، وكان متواضعاً حسن الأخلاق، وكان يقول:
وما تركت ست وستون حجةً * لنا حجة أن نركب اللهو مركبا
وكان ينشده:
العلم يأتي كل ذي خفـ *ض ويأبى على كل آبي
كالماء ينزل في الوها * د وليس يصعد في الروابي
ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة
فيها: نقل تابوت العادل من القلعة إلى تربته العادلية الكبيرة فصلى عليه أولاً تحت النسر بالجامع الأموي، ثم جاؤا به إلى التربة المذكورة فدفن فيها، ولم تكن المدرسة كملت بعد، وقد تكامل بناؤها في هذه السنة أيضاً.
وذكر الدرس بها القاضي جمال الدين المصري، وحضر عنده السلطان المعظم، فجلس في الصدر، وعن شماله القاضي، وعن يمينه صدر الدين الحصيري شيخ الحنفية، وكان في المجلس الشيخ تقي الدين بن الصلاح إمام السلطان، والشيخ سيف الدين الآمدي إلى جانب المدرس، وإلى جانبه شمس الدين بن سناء الدولة، ويليه النجم خليل قاضي العسكر، وتحت الحصيري شمس الدين بن الشيرازي، وتحته محيي الدين التركي، وفيه خلق من الأعيان والأكابر، وفيهم فخر الدين بن عساكر.
وفيها: أرسل الملك المعظم الصدر الكشهني محتسب دمشق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه يستعينه على أخويه الكامل والأشرف اللذين قد تمالآ عليه، فأجابه إلى ذلك بالسمع والطاعة، ولما عاد الصدر المذكور أضاف إليه مشيخة الشيوخ.
وحج في هذه السنة الملك مسعود بن أقسيس بن الكامل صاحب اليمن، فبدت منه أفعال ناقصة بالحرم من سكر ورشق حمام المسجد بالبندق من أعلا قبة زمزم، وكان إذا نام في دار الإمارة، يضرب الطائفون بالمسعى بأطراف السيوف لئلا يشوشوا عليه، وهو نوم سكر قبحه الله، ولكن كان مع هذا كله مهيباً محترماً والبلاد به آمنة مطمئنة.
وقد كاد يرفع سنجق أبيه يوم عرفة على سنجق الخليفة فيجري بسبب ذلك فتنة عظيمة، وما مكن من طلوعه وصعوده إلى الجبل إلا في آخر النهار بعد جهد جهيد.
وفيها: كان بالشام جراد كثيراً أكل الزرع والثمار والأشجار.
وفيها: وقعت حروب كثيرة بين القبجاق والكرج وقتال كثير بسبب ضيق بلاد القبجاق عليهم.
وفيها: ولي قضاء القضاة ببغداد، أبو عبد الله محمد بن فلان.
ولبس الخلعة في باب دار الوزارة مؤيد الدين محمد بن محمد القيمق بحضرة الأعيان والكبراء، وقرئ تقليده بحضرتهم وساقه ابن الساعي بحروفه.
من الأعيان:
عبد القادر بن داود
أبو محمد الواسطي الفقيه الشافعي، الملقب: بالمحب، استقل بالنظامية دهراً واشتغل بها، وكان فاضلاً ديناً صالحاً، ومما أنشده من الشعر:
الفرقدان كلاهما شَهدا له * والبدر ليلة تمه بسهاده
دنف إذا اعتبق الظلام تضرمت * نار الجوى في صدره وفؤاده
فجرت مدامع جفنه في خده * مثل المسيل يسيل من أطواره
شوقاً إلى مضنيه لم أر هكذا * مشتاق مضني جسمه ببعاده
ليت الذي أضناه سحر جفونه * قبل الممات يكون من عواده
أبو طالب يحيى بن علي
اليعقوبي الفقيه الشافعي، أحد المعيدين ببغداد، كان شيخاً مليح الشيبة جميل الوجه، كان يلي بعض الأوقاف، ومما أنشده لبعض الفضلاء:
لحمل تهامة وجبال أحد * وماء البحر ينقل بالزبيل
ونقل الصخر فوق الظهر عريا * لاهون من مجالسة الثقيل
ولبعضهم أيضاً، وهو مما أنشده المذكور:
وإذا مضى للمرء من أعوامه * خمسون وهو إلى التقى لا يجنح
عكفت عليه المخزيات فقولها: * حالفتنا، فأقم كذا لا تبرح
وإذا رأى الشيطان غرة وجهه * حيا، وقال: فديت من لا يفلح
اتفق أنه طولب بشيء من المال فلم يقدر عليه، فاستعمل شيئاً من الأفيون المصري فمات من يومه ودفن بالوردية.
وفيها: توفي قطب الدين العادل بالفيوم، ونقل إلى القاهرة.
وفيها: توفي إمام الحنابلة بمكة الشيخ نصر بن أبي الفرج المعروف بابن الحصري، جاور بمكة مدة لم يسافر ثم ساقته المنية إلى اليمن، فمات بها في هذه السنة، وقد سمع الحديث من جماعة من المشايخ.
وفيها: في ربيع الأول توفي بدمشق الشهاب عبد الكريم بن نجم النيلي، أخو البهاء والناصح، وكان فقيهاً مناظراً بصيراً بالمحاكمات، وهو الذي أخرج مسجد الوزير من يد الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله تعالى بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة
فيها: عاد الأشرف موسى بن العادل من عند أخيه الكامل صاحب مصر.
فتلقاه أخوه المعظم، وقد فهم أنهما تمالآ عليه، فبات ليلة بدمشق وسار من آخر الليل، ولم يشعر أخوه بذلك فسار إلى بلاده فوجد أخاه الشهاب غازي الذي استنابه على خلاط وميافارقين وقد قووا رأسه، وكاتبه المعظم صاحب إربل وحسنوا له مخالفة الأشرف، فكتب إليه الأشرف ينهاه عن ذلك، فلم يقبل فجمع له العساكر ليقاتله.
وفيها: سار أقسيس الملك مسعود صاحب اليمن ابن الكامل من اليمن إلى مكة شرفها الله تعالى فقاتله ابن قتادة ببطن مكة بين الصفا والمروة، فهزمه أقسيس وشرده، واستقل بملك مكة مع اليمن، وجرت أمور فظيعة، وتشرد حسن بن قتادة قاتل أبيه وعمه وأخيه في تلك الشعاب والأودية.
من الأعيان الشيخ الإمام:
موفق الدين عبد الله بن أحمد
ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر، شيخ الإسلام. مصنف المغني في المذهب، أبو محمد المقدسي إمام عالم بارع، لم يكن في عصره بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه.
ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير ورحل مرتين إلى العراق، إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبد الغني، والأخرى سنة سبع وستين، وحج في سنة ثلاث وسبعين، وتفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة.
مع زهد وعبادة وورع وتواضع وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة، واتباع للسلف الصالح، وكانت له أحوال ومكاشفات.
وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله ولياً، وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، فإن غاب صلى عنه أبو سليمان ابن الحافظ عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني، وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف، وأخذ معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه.
وكان منزله الأصلي بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل، فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته، وكان فيها كاغد فيه رمل، فقال له الشيخ:
خذ الكاغد وألق العمامة، فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه، وألقى العمامة.
وهذا يدل على ذكاء مفرط واستحضار حسن في الساعة الراهنة، حتى خلص عمامته من يده بتلطف.
وله مصنفات عديدة مشهورة:
منها: (المغني في شرح مختصر الخرقي) في عشرة مجلدات.
و(الشافي) في مجلدين.
و(المقنع) للحفظ.
و(الروضة) في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة.
وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في هذه السنة، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى، وكان له أولاد ذكور وإناث، فلما كان حياً ماتوا في حياته.
ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله.
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى:
لا تجلسن بباب من * يأبى عليك وصول داره
وتقول حاجاتي إليـ * ـه يعوقها إن لم أداره
واتركه واقصد ربها * تقضى ورب الدار كاره
ومما أنشده الشيخ موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضى عنه قوله:
أبعد بياض الشعر أعمر مسكناً * سوى القبر، إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت * وشيكاً، فينعاني إلي ويصدق
يخرق عمري كل يوم وليلة * فهل مستطاع وقع ما يتخرق
كأني بجسمي فوق نعشي ممددا * فمن ساكت أو معول يترحق
إذا سئلوا عني أجابوا وعولوا * وأدمعهم تنهل هذا الموفق
وغيبت في صدع من الأرض ضيق * وأودعت لحداً فوقه الصخر مطبق
ويحثو على الترب أوثـق صاحب * ويسلمني للقـبر من هو مشفق
فيا رب كن لي مؤنساً يوم وحشتي * فإني بما أنزلته لمصدق
وما ضرني أني إلى الله صائر * ومن هو من أهلـي أبر وأرفق
فخر الدين ابن عساكر
عبد الرحمن بن الحسن بن هبة الله بن عساكر
أبو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها، وأمه اسمها أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر القدسية المعروف والدها: بأبي البركات ابن المران، وهو الذي جدد مسجد القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وبه قبره وقبرها، ودفن هناك طائفة كبيرة من العلماء، وهي أخت آمنة، والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي.
اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري، فتزوج بابنته ودرس مكانه بالجاروجية، وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما، وبها توفي غربي الإيوان.
ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف.
ثم ولاه العادل تدريس التقوية، وكان عنده أعيان الفضلاء.
ثم تفرغ فلزم المجاورة في الجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى، وكانت تفد إليه من الأقطار، وكان كثير الذكر حسن السمت، وكان يجلس تحت النسر في كل اثنين وخميس مكان عمه لإسماع الحديث بعد العصر، فيقرأ عليه دلائل النبوة وغيره.
وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية، ومشهد ابن عروة أول ما فتح وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال: حتى أستخير الله تعالى.
ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيه فقيل له: أحمد الله الذي فيه مثل هذا.
ولما توفي العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور، أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسه منه فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروجية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة.
وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة، وله خمس وستون سنة، وصلى عليه بالجامع، وكان يوماً مشهوداً وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن في أولها قريباً من قبر شيخه قطب الدين مسعود بن عروة.
سيف الدين محمد بن عروة الموصلي
المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع الأموي، لأنه أول من فتحه وقد كان مشحوناً بالحواصل الجامعية، وبنى فيه البركة ووقف فيه على الحديث درساً، ووقف خزائن كتب فيه، وكان مقيماً بالقدس الشريف، ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم، فانتقل إلى دمشق حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها، وقبره عند قباب أتابك طغتكين قبلي المصلى رحمه الله.
الشيخ أبو الحسن الروزبهاري
دفن بالمكان المنسوب إليه عند باب الفراديس.
الشيخ عبد الرحمن اليمني
كان مقيماً بالمنارة الشرقية، كان صالحاً زاهداً ورعاً وفيه مكارم أخلاق، ودفن بمقابر الصوفية.
الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد
ابن حمزة التميمي ابن القلانسي، أحد رؤساء دمشق وكبرائها، وجده أبو يعلى حمزة له تاريخ ذيل به على ابن عساكر، وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وغيره، ولزم مجالسة الكندي وانتقع به.
الأمير الكبير أحد حجاب الخليفة
محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه بن منصور السمرقندي، وكان من أولاد الأمراء وولي حاجب الحجاب بالديوان العزيز الخليفتي، وكان يكتب جيداً، وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة، منها الأدب وعلوم الرياضة، وعمر دهراً، وله حظ من نظم الشعر الحسن، ومن شعره قوله:
سئمت تكاليف هذي الحياة * وكذا الصباح بها والمساء
وقد كنت كالطفل في عقله * قليل الصواب كثير الهراء
أنام إذا كنت في مجلس * وأسهر عند دخول الغنـاء
وقصر خطوى قيد المشيب * وطال على ما عناني عناء
وغودرت كالفرخ في عشه * وخلفت حلمي وراءَ وراءُ
وما جر ذلك غير البقاء * فكيف بدا سوء فعل البقـاء
وله أيضاً، وهو من شعره الحسن رحمه الله:
إلهي يا كثير العفو عفواً *لما أسلفت في زمن الشباب
فقد سودت في الآثام وجهاً * ذليلاً خاضعاً لك في التراب
فبيضه بحسن العفو عني * وسامحني وخفف من عذابي
ولما توفي صلى عليه بالنظامية، ودفن بالشونيزية، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربك؟
فقال:
تحاشيت اللقـاء لسوء فعـلي * وخوفـاً في المعـاد من النـدامـة
فلما أن قدمت على إلهي * وحاقق في الحساب على قلامه
وكان العدل أن أصلى جحيماً * تعطف بالمكارم والكرامة
وناداني لسان العفو منه * ألا يا عبد يهنيك السلامة
أبو علي الحسن بن أبي المحاسن
زهرة بن علي بن زهرة العلوي الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بها، كان لديه فضل وأدب وعلم بأخبار الناس والتواريخ والسير والحديث، ضابطاً حافظاً للقرآن المجيد، وله شعر جيد فمنه قوله:
لقد رأيت المعشوق وهو من الـ * ـهجر تنبو النواظر عنه
أثر الدهر فيه آثار سوء * وأدالت يد الحوادث منه
عاد مستذلاً ومستبدلاً * عزاً بذلٍ كأن لم يصنه
أبو علي يحيى بن المبارك
ابن الجلاجلي من أبناء التجار، سمع الحديث، وكان جميل الهيئة يسكن بدار الخلافة، وكان عنده علم وله شعر حسن فمنه قوله:
خير إخوانك المشارك في المر * وأين الشريك في المر أينا
الذي إن شهدت سرك في القو * م وإن غبت كان أذنا وعينا
مثل العقيق إن مسه النا * ر جلاه الجلاء فازداد زينا
وأخو السوء إن يغب عنك يش * نئك وإن يحتضر يكن ذاك شينا
جيبه غير ناصح ومناه أن * يصب الخليل إفكا ومينا
فاخش منه ولا تلهف عليه * إن غُرما له كنقدك دينا
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة
فيها وصلت سرية من جهة جنكزخان غير الأولتين إلى الري، وكانت قد عمرت قليلاً فقتلوا أهلها أيضاً، ثم ساروا إلى ساوة، ثم إلى قم وقاسان، ولم تكونا طرقتا إلا هذه المرة، ففعلوا بها مثل ما تقدم من القتل والسبي.
ثم ساروا إلى همذان فقتلوا أيضاً وسبوا، ثم ساروا إلى خلف الخوارزمية إلى أذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، فهربوا منهم إلى تبريز، فلحقوهم وكتبوا إلى ابن البهلوان:
إن كنت مصالحاً لنا فابعث لنا بالخوارزمية، وإلا فأنت مثلهم، فقتل منهم خلقاً وأرسل برؤوسهم إليهم مع تحف وهدايا كثيرة.
هذا كله وإنما كانت هذه السرية ثلاثة آلاف والخوارمية وأصحاب البلهوان أضعاف أضعافهم، ولكن الله تعالى ألقى عليهم الخذلان والفشل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها: مَلك غياث الدين بن خوارزم شاه بلاد فارس مع ما في يده من مملكة أصفهان وهمذان.
وفيها: استعاد الملك الأشرف مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازي، وكان قد جعلها إليه مع جميع بلاد أرمينية، وميافارقين، وجاي، وجبل حور، وجعله ولي عهده من بعده.
فلما عصي عليه وتشغب دماغه بما كتب إليه المعظم من تحسينه له مخالفته، فركب إليه وحاصره بخلاط فسلمت إليه، وامتنع أخوه في القلعة، فلما كان الليل نزل إلى أخيه معتذراً فقبل عذره، ولم يعاقبه بل أقره على ميافارقين وحدها.
وكان صاحب إربل والمعظم متفقين مع الشهاب غازي على الأشرف، فكتب الكامل إلى المعظم يتهدده لئن ساعد على الأشرف ليأخذنه وبلاده، وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع الأشرف، فركب إليه صاحب إربل فحاصره بسبب قلة جنده لأنه أرسلهم إلى الأشرف حين نازل خلاط، فلما انفصلت الأمور على ما ذكرنا ندم صاحب إربل، والمعظم بدمشق أيضاً.
وفيها: أرسل المعظم ولده الناصر داود إلى صاحب إربل يقويه على مخالفة الأشرف، وأرسل صوفياً من الشميساطية يقال له: الملق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه - وكان قد أخذ أذربيجان في هذه السنة، وقوى جأشه - يتفق معه على أخيه الأشرف، فوعده النصر والرفادة.
وفيها: قدم الملك مسعود أقسيس ملك اليمن على أبيه الكامل بالديار المصرية ومعه شيء كثير من الهدايا والتحف، من ذلك مائتا خادم، وثلاثة أفيلة هائلة، وأحمال عود وند ومسك وعنبر.
وخرج أبوه الكامل لتلقيه ومن نية أقسيس أن ينزع الشام من يد عمه المعظم.
وفيها: كمل عمارة دار الحديث الكاملية بمصر، وولى مشيختها الحافظ أبو الخطاب ابن دحية الكلبي، وكان مكثاراً كثير الفنون، وعنده فوائد وعجائب رحمه الله.
من الأعيان:
أحمد بن محمد
ابن علي القادسي الضرير الحنبلي، والد صاحب الذيل على تاريخ ابن الجوزي.
وكان القادسي هذا يلازم حضور مجلس الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، ويزهره لما يسمعه من الغرائب، ويقول: والله إن ذا مليح.
فاستقرض منه الشيخ مرة عشرة دنانير فلم يعطه، وصار يحضر ولا يتكلم، فقال الشيخ مرة:
هذا القادسي لا يقرضنا شيئاً، ولا يقول: والله إن ذا مليح ؟
رحمهم الله تعالى، وقد طلب القادسي مرة إلى دار المستضيء ليصلي بالخليفة التراويح، فقيل له والخليفة يسمع:
ما مذهبك؟
فقال: حنبلي.
فقال له: لا تصل بدار الخلافة وأنت حنبلي.
فقال: أنا حنبلي ولا أصلي بكم.
فقال الخليفة: اتركوه لا يصلي بنا إلا هو.
أبو الكرم المظفر بن المبارك
ابن أحمد بن محمد البغدادي الحنفي شيخ مشهد أبي حنيفة وغيره، ولي الحسبة بالجانب الغربي من بغداد، وكان فاضلاً دينا شاعراً ومن شعره:
فصن بجميل الصبر نفسك واغتنم * شريف المزايا لا يفنك ثوابها
وعش سالما والقول فيك مهذب * كريما وقد هانت عليك صعابها
وتندرج الأيام والكل ذاهب * قليل ويفنى عذبها وعذابها
وما الدهر إلا مر يومٍ وليلة * وما العمر إلا طيها وذهابها
وما الحزم إلا في إخاء عزيمة * وفيك المعالي صفوها ولبابها
ودع عنك أحلام الأماني فإنه * سيسفر يوماً غيها وصوابها
محمد بن أبي الفرج بن بركة
الشيخ فخر الدين أبو المعالي الموصلي قدم بغداد، واشتغل بالنظامية وأعاد بها، وكانت له معرفة بالقراءات، وصنف كتاباً في مخارج الحروف، وأسند الحديث، وله شعر لطيف.
أبو بكر بن حلبة الموازيني البغدادي
كان فرداً في علم الهندسة وصناعة الموازين يخترع أشياء عجيبة، من ذلك أنه ثقب حبة خشخاش سبعة ثقوب وجعل في كل ثقب شعرة، وكان له حظوة عند الدولة.
أحمد بن جعفر بن أحمد
ابن محمد أبو العباس الدبيبي البيع الواسطي، شيخ أديب فاضل له نظم ونثر، عارف بالأخبار والسير، وعنده كتب جيدة كثيرة، وله شرح قصيدة لأبي العلاء المعري في ثلاث مجلدات، وقد أورد له ابن الساعي شعراً حسناً فصيحاً حلواً لذيذاً في السمع لطيفاً في القلب.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة
فيها: عاثت الخوارزمية حين قدموا مع جلال الدين بن خوارزم شاه من بلاد غزنة مقهورين من التتار إلى بلاد خوزستان ونواحي العراق، فأفسدوا فيه وحاصروا مدنه ونهبوا قراه.
وفيها: استحوذ جلال الدين بن خوارزم شاه على بلاد أذربيجان وكثيراً من بلاد الكرج، وكسر الكرج وهم في سبعين ألف مقاتل، فقتل منهم عشرين ألفاً من المقاتلة، واستفحل أمره جداً، وعظم شأنه، وفتح تفليس، فقتل منها ثلاثين ألفاً.
وزعم أبو شامه: أنه قتل من الكرج سبعين ألفاً في المعركة، وقتل من تفليس تمام المائة ألف، وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد، وذلك أنه لما حاصر دقوقا سبه أهلها ففتحها قسراً وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، وخرب سورها وعزم على قصد الخليفة ببغداد لأنه فيم زعم عمل على أبيه حتى هلك، واستولت التتر على البلاد.
وكتب إلى المعظم بن العادل يستدعيه لقتال الخليفة ويحرضه على ذلك، فامتنع المعظم من ذلك، ولما علم الخليفة بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعج لذلك، وحصن بغداد واستخدم الجيوش والأجناد، أنفق في الناس ألف ألف دينار، وكان جلال الدين قد بعث جيشاً إلى الكرج فكتبوا إليه:
أن أدركنا قبل أن نهلك عن آخرنا، وبغداد ما تفوت، فسار إليهم وكان من أمره ما ذكرنا.
وفيها: كان غلاء شديد بالعراق والشام بسبب قلة الأمطار وانتشار الجراد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بالعراق والشام أيضا، فمات بسببه خلق كثير في البلدان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفاة الخليفة الناصر لدين الله وخلافة ابنه الظاهر
لما كان يوم الأحد آخر يوم من شهر رمضان المعظم من هذه السنة، توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله.
أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله.
أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله.
أبي عبد الله أحمد بن المقتدي بأمر الله.
أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله.
أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله.
أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد بن محمد المتوكل أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله.
أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله.
أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق.
أبي أحمد بن محمد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي، أمير المؤمنين، ولد ببغداد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
وتوفي في هذه السنة وله من العمر تسع وستون سنة وشهران وعشرون يوماً، وكانت مدة خلافته سبعا وأربعين سنة إلا شهرا، ولم يقم أحد من الخلفاء العباسيين قبله في الخلافة هذه المدة الطويلة، ولم تطل مدة أحد من الخلفاء مطلقا أكثر من المستنصر العبيدي، أقام بمصر حاكماً ستين سنة، وقد انتظم في نسبه أربعة عشر خليفة، وولي عهد على ما رأيت، وبقية الخلفاء العباسيين كلهم من أعمامه وبني عمه.
وكان مرضه قد طال به وجمهوره من عسار البول، مع أنه كان يجلب له الماء من مراحل عن بغداد ليكون أصفى، وشق ذكره مرات بسبب ذلك، ولم يغن عنه هذا الحذر شيئاً، وكان الذي ولي غسله محيي الدين بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وصلى عليه ودفن في دار الخلافة.
ثم نقل إلى الترب من الرصافة في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، وكان يوماً مشهوداً.
قال ابن الساعي: أما سيرته فقد تقدمت في الحوادث.
وأما ابن الأثير في كامله فإنه قال: وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلاً من الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصاراً ضعيفاً، وآخر الأمر أصابه دوسنطارية عشرين يوماً ومات.
وزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في أيام مرضه ما كان أحدثه من الرسوم الجائرة، وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالما لهم، فخرب في أيامه العراق، وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده، فمن ذلك أنه عمل دوراً للإفطار في رمضان، ودورا لضيافة الحجاج، ثم أبطل ذلك.
وكان قد أسقط مكوساً ثم أعادها، وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة.
قال ابن الأثير: وإن كان ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه هو الذي أطمع التتار في البلاد وراسلهم فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم.
قلت: وقد ذكر عنه أشياء غريبة، من ذلك أنه كان يقول للرسل الوافدين عليه: فعلتم في مكان كذا وكذا، وفعلتم في الموضع الفلاني، كذا حتى ظن بعض الناس أو أكثرهم أنه كان يكاشف أو أن جنيا يأتيه بذلك، والله أعلم.
خلافة الظاهر بن الناصر
لما توفي الخليفة الناصر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه بالظاهر، وخطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي.
فتوفي في حياة أبيه سنة ثنتي عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخطب له ثانيا، فحين توفي بويع بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة، فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، وكان عاقلاً وقوراً ديناً عادلاً محسناً، رد مظالم كثيرة وأسقط مكوساً كان قد أحدثها أبوه، وسار في الناس سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو طالت مدته، لكنه لم يحل إلى الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر أسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطلت، ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي يعقوبا سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخراج، وكانت صنجة المخزن تزيد على صنجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا وإذا أقبضوا دفعوا بصنجة البلد.
فكتب إلى الديوان: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6].
فكتب إليه بعض الكتاب يقول: يا أمير المؤمنين، إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثون ألفاً فأرسل ينكر عليه ويقول: هذا يترك وإن كان تفاوته ثلاثمائة ألف وخمسين ألفاً، رحمه الله.
وأمر للقاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعي يوصل إليه بلا مراجعة، وأقام في النظر على الأموال الجردة رجلاً صالحاً واستخلص على القضاء الشيخ العلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبدا لرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي في يوم الأربعاء ثامن ذي الحجة، فكان من خيار المسلمين ومن القضاة العادلين، رحمهم الله أجمعين.
ولما عرض عليه القضاء لم يقبله إلا بشرط أن يورث ذوي الأرحام، فقال: أعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه، وكان من عادة أبيه أن يرفع إليه حراس الدروب في كل صباح بما كان عندهم في المحال من الاجتماعات الصالحة والطالحة، فلما ولي الظاهر أمر بتبطيل ذلك كله، وقال:
أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم؟ فقيل له: إن ترك ذلك يفسد الرعية، فقال: نحن ندعو الله لهم أن يصلحهم، وأطلق من كان في السجون معتقلاً على الأموال الديوانية، ورد عليهم ما كان استخرج منهم قبل ذلك من المظالم وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من في سجونه من المدينين الذي لا يجدون وفاء.
وفرق في العلماء بقية المائة ألف، وقد لامه بعض الناس في هذه التصرفات فقال: إنما فتحت الدكان بعد العصر، فذروني أعمل صالحاً وأفعل الخير، فكم مقدار ما بقيت أعيش؟
ولم تزل هذه سيرته حتى توفي في العام الآتي كما سيأتي. ورخصت الأسعار في أيامه وقد كانت قبل ذلك في غاية الغلاء حتى أنه فيما حكى ابن الأثير: أكلت الكلاب والسنانير ببلاد الجزيرة والموصل، فزال ذلك والحمد لله.
وكان هذا الخليفة الظاهر حسن الشكل مليح الوجه أبيض مشرباً حلو الشمائل شديد القوى.
من الأعيان:
أبو الحسن علي الملقب بالملك الأفضل
نور الدين ابن السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، كان ولي عهد أبيه، وقد ملك دمشق بعده مدة سنتين ثم أخذها منه عمه العادل، ثم كاد أن يملك الديار المصرية بعد أخيه العزيز فأخذها منه عمه العادل أبو بكر، ثم اقتصر على ملك صرخد فأخذها منه أيضاً عمه العادل، ثم آل به الحال أن ملك سميساط وبها توفي في هذه السنة، وكان فاضلاً شاعراً جيد الكتابة، ونقل إلى مدينة حلب فدفن بها بظاهرها.
وقد ذكر ابن خلكان أنه كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يشكو إليه عمه أبا بكر وأخاه عثمان وكان الناصر شيعياً مثله:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه * عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده * عليهما باستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته * والأمر بينهما والنص فيه جلـي
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقى * من الأواخر ما لاقى من الأول
الأمير سيف الدين علي
ابن الأمير علم الدين بن سليمان بن جندر، كان من أكابر الأمراء بحلب، وله الصدقات الكثيرة ووقف بها مدرستين إحداهما على الشافعية والأخرى على الحنفية، وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل الخيرات والغزوات رحمه الله.
الشيخ علي الكردي
الموله المقيم بظاهر باب الجابية.
قال أبو شامة: وقد اختلفوا فيه فبعض الدماشقة يزعم أنه كان صاحب كرامات، وأنكر ذلك آخرون، وقالوا ما رآه أحد يصلي ولا يصوم ولا لبس مداساً، بل كان يدوس النجاسات ويدخل المسجد على حاله، وقال آخرون كان له تابع من الجن يتحدث على لسانه.
حكى السبط عن امرأة قالت: جاء خبر بموت أمي باللاذقية أنها ماتت وقال لي بعضهم: إنها لم تمت، قالت: فمررت به وهو قاعد عند المقابر فوقفت عنده فرفع رأسه وقال لي: ماتت ماتت إيش تعملين؟ فكان كما قال.
وحكى لي عبد الله صاحبي قال: صبحت يوماً وما كان معي شيء فاجتزت به فدفع إلي نصف درهم وقال: يكفي هذا للخبز والفت بدبس.
وقال: مر يوماً على الخطيب جمال الدين الدولعي فقال له: يا شيخ علي أكلت اليوم كسيرات يابسة وشربت عليها الماء فكفتني، فقال له: الشيخ علي الكردي وما تطلب نفسك شيئاً آخر غير هذا؟ قال: لا، فقال: يا مسلمين من يقنع بكسرة يابسة يحبس نفسه في هذه المقصورة ولا يقضي ما فرضه الله عليه من الحج.
الفخر ابن تيمية
محمد بن أبي القاسم بن محمد الشيخ فخر الدين أبو عبد الله بن تيمية الحراني، عالمها وخطيبها وواعظها، اشتغل على مذهب الإمام أحمد وبرع فيه وبرز وحصل وجمع تفسيراً حافلاً في مجلدات كثيرة، وله الخطب المشهورة المنسوبة إليه، وهو عم الشيخ مجد الدين صاحب المنتقى في الأحكام، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي، سمعته يوم جمعة بعد الصلاة وهو يعظ الناس ينشد:
أحبابنا قد ندرت مقلتي * ما تلتقي بالنوم أو نلتقي
رفقا بقلب مغرم واعطفوا * على سقام الجسد المحرق
كم تمطلوني بليالي اللقا * قد ذهب العمر ولم نلتـق
وقد ذكرنا أنه قدم بغداد حاجاً بعد وفاة شيخه أبي الفرج ابن الجوزي، ووعظ بها في مكان وعظه.
الوزير ابن شكر
صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الخالق بن شكر، ولد بالديار المصرية بدميرة بين مصر وإسكندرية سنة أربعين وخمسمائة، ودفن بتربته عند مدرسته بمصر، وقد وزر للملك العادل وعمل أشياء في أيامه منها تبليط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه، وعمل الفوارة ومسجدها وعمارة جامع المزة، وقد نكب وعزل سنة خمس عشرة وستمائة وبقي معزولا إلى هذه السنة فكانت فيها وفاته، وقد كان مشكور السيرة ومنهم من يقول كان ظالماً، فالله أعلم.
أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر
ابن إبراهيم بن علي المعروف بابن البذي الواعظ البغدادي، أخذ الفن عن شيخه أبي الفرج ابن الجوزي وسمع الحديث الكثير، ومن شعره قوله في الزهد:
ما هذه الدنيا بدار مسرة * فتخوفي مكرا لها وخداعـا
بينا الفتى فيها يسر بنفسه * وبماله يستمتع استمتاعـا
حتى سقته من المنية شربة * وحمته فيه بعد ذاك رضاعا
فغدا بما كسبت يداه رهينة * لا يستطيع لما عرته دفاعا
لو كان ينطق قال من تحت الثرى * فليحسن العمل الفتى ما اسطاعا
أبو الحسن علي بن الحسن
الرازي ثم البغدادي الواعظ، عنده فضائل وله شعر حسن، فمنه قوله في الزهد:
استعدي يا نفس للموت واسعي * لنجاة فالحازم المستعـدُ
قد تبينت أنه ليس للحي * خلود ولا من المـوت بـدُ
إنما أنت مستعيرة ماسو * ف تردين والعواري تـردُ
أنت تسهين والحوادث لا * تسهو وتلهين والمنايا تجدُ
لا نرجى البقاء في معدن المو * ت ولا أرضاً بها لك وِردُ
أي ملك في الأرض أم أي حظ * لامرئ حظه من الأرض لحدُ
كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا * م عليه الأنفاس فيها تعـدُ
البها السنجاري
أبو السعادات أسعد بن محمد بن موسى الفقيه الشافعي الشاعر.
قال ابن خلكان: كان فقيهاً وتكلم في الخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر، فأجاد فيه واشتهر بنظمه وخدم به الملوك، وأخذ منهم الجوائز وطاف البلاد، وله ديوان بالتربة الأشرفية بدمشق، ومن رقيق شعره ورائقه قوله:
وهواك ما خطر السلو بباله * ولأنت أعلم في الغرام بحاله
ومتى وشى واشٍ إليك بأنه * سال هواك فذاك من عذاله
أوليس للكلف المعني شاهد * من حاله يغنيك عن
تسآله
جددت ثوب سقامه وهتكت ستـ * ر غرامه وصرمت حبل وصاله
وهي قصيدة طويلة امتدح فيها القاضي كمال الدين الشهرزوري. وله:
لله أيامي على رامة * وطيب أوقاتي على حاجر
تكاد للسرعة في مرها * أولها يـعثر بالآخر
وكانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة رحمه الله بمنه وفضله.
عثمان بن عيسى
ابن درباس بن قسر بن جهم بن عبدوس الهدباني الماراني ضياء الدين أخو القاضي صدر الدين عبد الملك حاكم الديار المصرية في الدولة الصلاحية، وضياء الدين هذا هو شارح (المهذب) إلى كتاب الشهادات في نحو من عشرين مجلداً، و(شرح اللمع في أصول الفقه)و(التنبيه) للشيرازي، وكان بارعاً عالماً بالمذهب رحمه الله.
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرسوي
البواريجي ثم البغدادي، شيخ فاضل له رواية، ومما أنشده:
ضيق العذر في الضراعة أنا * لو قنعنا بقسمنا لكفانا
مالنا نعبد العباد إذا كان * إلى الله فقرنا وغنانـا
أبو الفضل عبد الرحيم بن نصر الله
ابن علي بن منصور بن الكيال الواسطي من بيت الفقه والقضاء، وكان أحد المعدلين ببغداد ومن شعره:
فتبا لدنيا لا يدوم نعيمها * تسر يسيراً ثم تبدي المساويا
تريك رواء في النقاب وزخرفاً * وتسفر عن شوهاء طحياء عاميا
ومن ذلك قوله:
إن كنت بعد الطاعتين تسامحت* بالفحص أجفاني فما أجفاني
أو كنت من بعد الأحبة ناظراً * حسناً بإنساني فما أنسـاني
الدهر مغفور له زلاته * إن عاد أوطاني على أوطـاني
أبو علي الحسن بن علي
ابن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمار بن فهر بن وقاح الياسري نسبة إلى عمار بن ياسر، شيخ بغدادي فاضل، له مصنفات في التفسير والفرائض، وله خطب ورسائل وأشعار حسنة وكان مقبول الشهادة عند الحكام.
أبو بكر محمد بن يوسف بن الطباخ
الواسطي البغدادي الصوفي، باشر بعض الولايات ببغداد ومما أنشده:
ما وهب الله لامرئ هبة * أحسن من عقله ومن أدبه
نعما جمال الفتى فإن فقدا * ففقده للحياة أجمل به
ابن يونس شارح التنبيه
أبو الفضل أحمد بن الشيخ كمال الدين أبي الفتح موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عابد بن كعب بن قيس بن إبراهيم الأربلي الأصل، ثم الموصلي من بيت العلم والرياسة، اشتغل على أبيه في فنونه وعلومه فبرع وتقدم.
وقد درس وشرح التنبيه واختصر إحياء علوم الدين للغزالي مرتين صغيراً وكبيراً، وكان يدرس منه.
قال ابن خلكان: وقد ولي بأربل مدرسة الملك المظفر بعد موت والدي في سنة عشر وستمائة، وكنت أحضر عنده وأنا صغير ولم أر أحداً يدرس مثله، ثم صار إلى بلده سنة سبع عشرة، ومات في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة عن سبع وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة
فيها: التقى الملك جلال الدين بن خوارزم شاه الخوارزمي مع الكرج فكسرهم كسرة عظيمة، وصمد إلى أكبر معاقلتهم تفليس ففتحها عنوة وقتل من فيها من الكفرة وسبى ذراريهم ولم يتعرض لأحد من المسلمين الذين كانوا بها، واستقر ملكه عليها، وقد كان الكرج أخذوها من المسلمين في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وهي بأيديهم إلى الآن حتى استنقذها منهم جلال الدين هذا، فكان فتحاً عظيماً ولله المنة.
وفيها: سار إلى خلاط ليأخذها من نائب الملك الأشرف فلم يتمكن من أخذها وقاتله أهلها قتالاً عظيماً فرجع عنهم سبب اشتغاله بعصيان نائبه بمدينة كرمان وخلافه له فسار إليهم وتركهم.
وفيها: اصطلح الملك الأشرف مع أخيه المعظم وسار إليه إلى دمشق، وكان المعظم ممالئاً عليه مع جلال الدين وصاحب إربل وصاحب ماردين وصاحب الروم.
وكان مع الأشرف أخوه الكامل وصاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، ثم استمال أخاه المعظم إلى ناحيته يقوي جانبه.
وفيها: كان قتال كبير بين إبرنش إنطاكية وبين الأرمن، وجرت خطوب كثيرة بينهم.
وفيها: أوقع الملك جلال الدين بالتركمان الإيوانية بأساً شديداً وكانوا يقطعون الطرق على المسلمين.
وفيها: قدم محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزي من بغداد في الرسلية إلى الملك المعظم بدمشق، ومعه الخلع والتشاريف لأولاد العادل من الخليفة الظاهر بأمر الله، ومضمون الرسالة نهيه عن موالاة جلال الدين بن خوارزم شاه، فإنه خارجي من عزمه قتال الخليفة وأخذ بغداد منهم، فأجابه إلى ذلك وركب القاضي محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الكامل بالديار المصرية، وكان ذلك أول قدومه إلى الشام، ومصر وحصل له جوائز كثيرة من الملوك، منها كان بناء مدرسته الجوزية بالنشابين بدمشق.
وفيها: ولى تدريس الشبلية بالسفح شمس الدين محمد بن قزغلي سبط ابن الجوزي بمرسوم الملك المعظم، وحضر عنده أول يوم القضاة والأعيان.
وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر
كانت وفاة الخليفة رحمه الله يوم الجمعة ضحى الثالث عشر من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة، فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوماً، وعمره اثنتان وخمسون سنة.
وكان من أجود بني العباس وأحسنهم سيرة وسريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظراً ورواءً، ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحاً كثيراً، على يديه ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحساناً ورفده.
وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الأموال الديوانية ورد المظالم وإسقاط المكوس، وتخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمن عجز من أدائها، والإحسان إلى العلماء والفقراء وتولية ذوي الديانة والأمانة.
وقد كان كتب كتاباً لولاة الرعية فيه:
بسم الله الرحيم، اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً ولا إغضاؤنا احتمالاً، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي، حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدركاً لأغراض انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون.
والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمناً، وبفقركم غنى وبباطلكم حقاً، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه، وإلا هلكتم والسلام.
ووجد في داره رقاع مختومة لم يفتحها ستراً للناس ودرءاً عن أعراضهم رحمه الله، وقد خلف من الأولاد عشرة ذكوراً وإناثا، منهم ابنه الأكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده أبو جعفر المنصور، ولقب بالمستنصر بالله، وغسله الشيخ محمد الخياط الواعظ، ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة.
خلافة المستنصر بالله العباسي
أمير المؤمنين أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد، بويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم جمعة ثالث عشر رجب من هذه السنة، سنة ثلاث وعشرين وستمائة، استدعوا به من التاج فبايعه الخاصة والعامة من أهل العقد والحل، وكان يوماً مشهوداً، وكان عمره يومئذ خمساً وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان من أحسن الناس شكلاً وأبهاهم منظراً، وهو كما قال القائل:
كأن الثريا علقت في جبينه * وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر
وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة، منهم خسة من آبائه ولوا نسقاً، وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابراً عن كابر، وهذا شيء لم يتفق لأحد من الخلفاء قبله، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في الجود وحسن السيرة والإحسان إلى الرعية.
وبنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله، واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه، ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للإمام المستنصر بالله على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه، وكان يوماً مشهوداً وأنشد الشعراء المدائح والمراثي، وأطلقت لهم الخلع والجوائز، وقدم رسول من صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الأثير، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة:
ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكباً ظاهراً للناس، وإنما معه خادمان وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟ فقيل له التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشياً، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريباً من الإمام ويستمع الخطبة، ثم أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة.
وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوباً ظاهراً للناس عامةً، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج، إعانة لهم على الصيام، وتقوية لهم على القيام.
وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى التربة من الرصافة، وكان يوماً مشهوداً وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة وإنعاماً جزيلاً إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على يدي محي الدين ابن الجوزي.
وذكر ابن الأثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة، هدمت شيئاً كثيراً من القرى والقلاع ببلادهم، وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مراً حتى رأسها وأكارعها ومعاليقها وجميع أجزائها.
وممن توفي بها من الأعيان بعد الخليفة الظاهر كما تقدم:
الجمال المصري
يونس بن بدران بن فيروز جمال الدين المصري، قاضي القضاة في هذا الحين، اشتغل وحصل وبرع واختصر كتاب (الأم) للإمام للشافعي وله كتاب مطول في الفرائض.
وولي تدريس الأمينية بعد التقي صالح الضرير، الذي قتل نفسه، ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر، وكان معتنياً بأمره ثم ولى وكالة بيت المال بدمشق، وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق، ثم ولاه المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي بن الزكي، وولاه تدريس العادلية الكبيرة، حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الأعيان كما ذكرنا.
وكان يقول أولا درساً في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره، ويقول درس الفقه بعد التفسير، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتماداً حسناً وهو أنه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان العادلية جميع شهود البلد، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعاً.
وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب، وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضاً، وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة، لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لأحد.
قال أبو شامة: وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة بمصالحة بيت المال، وأنه استناب ولده التاج محمداً ولم يكن مرضي الطريقة، وأما هو فكان عفيفاً في نفسه نزها مهيباً.
قال أبو شامة:
وكان يدعى أنه قرشي شيبي فتكلم الناس فيه بسبب ذلك، وتولى القضاء بعده شمس الدين أحمد بن الخليلي الجويني.
قلت: وكانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بداره التي في رأس درب الريحان من ناحية الجامع، ولتربته شباك شرق المدرسة الصدرية اليوم.
وقد قال فيه ابن عنين، وكان هجاء:
ما أقصر المصري في فعله * إذ جعل التربة في داره
أراح للأحياء من رجمه * وأبعد الأموات من ناره
المعتمد والي دمشق
المبارز إبراهيم المعروف بالمعتمد والي دمشق، من خيار الولاة وأعفهم وأحسنهم سيرة وأجودهم سريرة، أصله من الموصل، وقدم الشام فخدم فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب.
ثم استنابه البدر مودود أخو فروخشاه، وكان شحنة دمشق، فحمدت سيرته في ذلك، ثم صار هو شحنة دمشق أربعين سنة، فجرت في أيامه عجائب وغرائب، وكان كثير الستر على ذوي الهيئات، ولا سيما من كان من أبناء الناس وأهل البيوتات.
وأتفق في أيامه أن رجلاً حائكاً كان له ولد صغير في آذانه حلق فعدا عليه رجل من جيرانهم فقتله غيلة، وأخذ ما عليه من الحلي ودفنه في بعض المقابر، فاشتكوا عليه فلم يقر.
فبكت والدته من ذلك، وسألت زوجها أن يطلقها، فطلقها، فذهبت إلى ذلك الرجل وسألته أن يتزوجها، وأظهرت له أنها أحبته فتزوجها، ومكثت عنده حيناً ثم سألته في بعض الأوقات عن ولدها الذي اشتكوا عليه بسببه.
فقال: نعم، أنا قتلته.
فقالت: أشتهي أن تريني قبره حتى أنظر إليه، فذهب بها إلى قبر خشنكاشه ففتحه فنظرت إلى ولدها فاستعبرت، وقد أخذت معها سكينا أعدتها لهذا اليوم، فضربته حتى قتلته ودفنته مع ولدها في ذلك القبر، فجاء أهل المقبرة فحملوها إلى الوالي المعتمد هذا فسألها فذكرت له خبرها، فاستحسن ذلك منها وأطلقها وأحسن إليها.
وحكى عنه السبط قال: بينما أنا يوما خارج من باب الفرج، وإذا برجل يحمل طبلاً وهو سكران، فأمرت به فضرب الحد، وأمرتهم فكسروا الطبل، وإذا ذكرة كبيرة جداً فشقوها فإذا فيها خمر، وكان العادل قد منع أن يعصر خمر ويحمل إلى دمشق شيء منه بالكلية، فكان الناس يتحيلون بأنواع الحيل ولطائف المكر.
قال السبط: فسألته من أين علمت أن في الطبل شيئاً ؟
قال: رأيته يمشي ترجف سيقانه، فعرفت أنه يحمل شيئا ثقيلاً في الطبل.
وله من هذا الجنس غرائب، وقد عزله المعظم وكان في نفسه منه وسجنه في القلعة نحواً من خمس سنين، ونادى عليه في البلد فلم يجيء أحد ذكر أنه أخذ منه حبة خردل، ولما مات رحمه الله دفن بتربته المجاورة لمدرسة أبي عمر من شامها قبلي السوق، وله عند تربته المسجد يعرف به، رحمه الله. (ج/ص: 13/136)
واقف الشبلية التي بطريق الصالحية
شبل الدولة كافور الحسامي نسبة إلى حسام الدين محمد بن لاجين، ولد ست الشام وهو الذي كان مستحثاً على عمارة الشامية البرانية لمولاته ست الشام، وهو الذي بنى الشبلية للحنفية والخانقاه على الصوفية إلى جانبها.
وكانت منزله ووقف القناة والمصنع والساباط، وفتح للناس طريقاً من عند المقبرة غربي الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش، ولم يكن الناس لهم طريق إلى الجبل من هناك، إنما كانوا يسلكون من عند مسجد الصفي بالعقبية، وكانت وفاته في رجب ودفن إلى جانب مدرسته، وقد سمع الحديث على الكندي وغيره، رحمه الله تعالى.
واقف الرواحية بدمشق وحلب
أبو القاسم هبة الله المعروف: بابن رواحة، كان أحد التجار وفي الثروة المقدار ومن المعدلين بدمشق، وكان في غاية الطول والعرض ولا لحية له، وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب الفراديس ووقفها على الشافعية، وفوض نظرها وتدريسها إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري، وله بحلب مدرسة أخرى مثلها.
وقد انقطع في آخر عمره في المدرسة التي بدمشق، وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من الشرق، ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات، فلم يمكن من ذلك، بل دفن بمقابر الصوفية، وبعد وفاته شهد محي الدين بن عربي الطائي الصوفي، وتقي الدين خزعل النحوي المصري ثم المقدسي إمام مشهد على شهدا على ابن رواحة بأنه عزل الشيخ تقي الدين عن هذه المدرسة، فجرت خطوب طويلة ولم ينتظم ما راماه من الأمر، ومات خزعل في هذه السنة أيضا، فبطل ما سلكوه.
أبو محمد محمود بن مودود بن محمود
البلدجي الحنفي الموصلي، وله بها مدرسة تعرف به، وكان من أبناء الترك، وصار من مشايخ العلماء وله دين متين وشعر حسن جيد، فمنه قوله:
من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرعِ
فلا تكونن له صاحبا * فإنه خرء بلا نفعِ
كانت وفاته بالموصل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله نحو من ثمانين سنة.
ياقوت ويقال له: يعقوب بن عبد الله
نجيب الدين متولي الشيخ تاج الدين الكندي، وقد وقف إليه الكتب التي بالخزانة بالزاوية الشرقية الشمالية من جامع دمشق، وكانت سبعمائة وإحدى وستين مجلداً، ثم على ولده من بعده ثم على العلماء فتمحقت هذه الكتب وبيع أكثرها.
وقد كان ياقوت هذا لديه فضيلة وأدب وشعر جيد، وكانت وفاته ببغداد في مستهل رجب، ودفن بمقبرة الخيزران بالقرب من مشهد أبي حنيفة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة
فيها: كانت عامة أهل تفليس الكرج فجاؤوا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة، ونهبوا وسبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك جلال الدين فسار سريعاً ليدركهم فلم يدركهم.
وفيها: قتلت الإسماعيلية أميراً كبيراً من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وخرب مدينتهم، وسبى ذراريهم، ونهب أموالهم.
وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس، وكانوا أضر على الناس منهم.
وفيها: تواقع جلال الدين وطائفة كبيرة من التتار فهزمهم وأوسعهم قتلاً وأسراً، وساق وراءهم أياماً فقتلهم، حتى وصل إلى الري فبلغه أن طائفة قد جاؤا لقصده فأقام يثبطهم، وكان من أمره وأمرهم ما سيأتي في سنة خمس وعشرين.
وفيها: دخلت عساكر الملك الأشرف بن العادل إلى أذربيجان فملكوا منها مدناً كثيرة، وغنموا أموالاً جزيلة، وخرجوا معهم بزوجة جلال الدين بنت طغرل، وكانت تبغضه وتعاديه فأنزلوها مدينة خلاط، وسيأتي ما كان من خبرهم في السنة الآتية.
وفيها: قدم رسول الأنبور ملك الفرنج في البحر إلى المعظم يطلب منه ما كان فتحه عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من بلاد السواحل، فأغلظ لهم المعظم في الجواب، وقال له:
قل لصاحبك ما عندي إلا السيف، والله أعلم.
وفيها: جهز الأشرف أخاه شهاب الدين غازي إلى الحج في محمل عظيم يحمل ثقله ستمائة جمل، ومعه خمسون هجيناً، على كل هجين مملوك، فسار من ناحية العراق، وجاءته هدايا من الخليفة إلى أثناء الطريق، وعاد على طريقه التي حج منها.
وفيها: ولي قضاء القضاة ببغداد نجم الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، وخلع عليه كما هي عادة الحكام، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها: كان غلاء شديد ببلاد الجزيرة، وقل اللحم.
حتى حكى ابن الأثير: أنه لم يذبح بمدينة الموصل في بعض الأيام سوى خروف واحد في زمن الربيع.
قال: وسقط فيها عاشر آذار ثلج كثير بالجزيرة والعراق مرتين، فأهلك الأزهار وغيرها، قال:
وهذا شيء لم يعهد مثله، والعجب كل العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا.
من الأعيان:
جنكيز خان
السلطان الأعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا الملك وهو الذي وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب والظاهر أنه مجهول النسب.
وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب.
فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصاً عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شاباً حسناً وكان اسمه أولاً تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان.
وكان هذا الملك قد قربه وأدناه فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقاً في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده.
ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه، وانضاف إليه عَدده وعُدده وعظم أمره.
وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمعاج كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم: قيان.
ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم.
قال الجويني: وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شيء كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والأقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث.
وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع.
وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة، فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك.
وأما كتابه (الياسا) فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً ثم ينزل ثم يصعد ثم ينزل مراراً حتى يعي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقي على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها.
وذكر الجويني: أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلاً يقول له: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض، قال الجويني: فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلماً.
ثم ذكر الجويني نتفاً من (الياسا) من ذلك: أنه من زنا قتل محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هارباً ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل.
ومن ذبح حيواناً ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً.
وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (الياسا) وقدمها عليه ؟
من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. [المائدة: 50]
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} صدق الله العظيم، [النساء: 65].
ومن آدابهم: الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه، ومن شاء من حاشيته، ما شاء منهن، ومن شأنهم أن يخاطبوا الملك باسمه، ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار، ولا طبق الطعام، ولا يقف على أسكفه الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء من كل ما ذكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت.
وقد ذكر علاء الدين الجويني: طرفاً كبيراً من أخبار جنكيزخان ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله، وإن كان مشركاً بالله كان يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيزخان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وهو والد زوجة كشلي خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعمله هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به، فأنكره، وقال له فيما أرسل إليه:
من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك.
فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث: ((اتركوا الترك ما تركوكم))، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع.
فمما ذكره الجويني: أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيز خان أحد من الخزندارية، فقال: لزوجته خاتون: أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك.
وكان فيهما جوهرتان نفيستان جداً، فشحت المرأة بهما
وقالت: انظره إلى غد.
فقال: إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر، وربما لا يجعل له شيء بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله بهما، وذهب بهما فباعهما لأحد التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتهما، فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته، ثم أنشد الجويني عند ذلك:
ومن قال إن البحر والقطر أشبها * نداه فقد أثنى على البحر والقطر
قالوا: واجتاز يوماً في سوق، فرأى عند بقال عناباً فأعجبه لونه، ومالت نفسه إليه، فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب بربع بالس، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كله ببالس؟ قال: وبقي منه هذا - وأشار إلى ما بقي معه من المال - فغضب وقال:
من يجد من يشتري منه مثلي تمموا له عشرة بوالس.
قالوا: وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيز خان فوهن أمره عنده بعض خواصه وقال: خوند هذا زجاج لا قيمة له.
فقال: أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالماً؟ أعطوه مائتي بالس.
قال: وقيل له: إن في هذا المكان كنزاً عظيماً إن فتحته أخذت منه مالاً جزيلاً.
فقال: الذي في أيدينا يكفينا، ودع هذا يفتحه الناس ويأكلونه فهم أحق به منا، ولم يتعرض له.
قال: واشتهر عن رجل في بلاده يقول: أنا أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان، وألح عليه الأمراء أن يعلمهم فلم يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الآولاق - يعني البريد - سريعاً فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز.
فقال: إنما كنت أقول ذلك حيلة لأرى وجهك.
فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له: قد حصل لك ما قلت، ورده إلى موضعه سالماً ولم يعطه شيئاً.
قال: وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد حبها بوالس ثم أنشد:
فلذاك تزدحم الوفود ببابه * مثل ازدحام الحب في الرمان
قال: وقدم عليه لرجل كافر يقول: رأيت في النوم جنكيز خان يقول: قل لأبي يقتل المسلمين، فقال له هذا كذب، وأمر بقتله.
قال: وأمر بقتل ثلاثة قد قضت (الياسا) بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتلطم.
فقال: ما هذه؟ أحضروها.
فقالت: هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي.
فقال: اختاري واحداً منهم حتى أطلقه لك.
فقالت: الزوج يجيء مثله، والابن كذلك، والأخ لا عوض له، فاستحسن ذلك منها، وأطلق الثلاثة لها.
قال: وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة، وقد اجتمع عنده منهم جماعة، فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه وأطلق له بنتاً من بنات الملوك حسناء.
فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها، فاتفق مجيئها إلا الاردوا فجعل السلطان يمازحها.
ويقول: كيف رأيت المستعرب؟ فذكرت له أنه لم يقربها، فتعجب من ذلك وأحضره فسأله عن ذلك.
فقال: يا خوند أنا إنما حظيت عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك.
فقال: لا بأس عليك وأحضر ابن عم له وكان مثله، فأراد أن يصارع الأول.
فقال السلطان: أنتما قرابة ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل.
قال: ولما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في لك الأمثال، وأحضر بين يديه نشاباً وأخذ سهماً أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها.
فقال: هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم.
قال: وكان له عدة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار، وكان كل منهم له وظيفة عنده.
ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان، وهو يقول في اسمه ياذشاه زاره هولاكو، وذكر ما وقع في زمانه من الأوابد والأمور المعروفة المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله أعلم.
السلطان الملك المعظم
عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، ملك دمشق والشام، كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وكان استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً.
اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان محفوظه مفصل الزمخشري، وكان يجيز من حفظه بثلاثين ديناراً، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل (صحاح) الجوهري و(الجمهرة) لابن دريد و(التهذيب) للأزهري وغير ذلك، وأمر أن يرتب له (مسند) الإمام أحمد.
وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي.
وأوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبني عليه، وكان يقول:
واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها - يعني أنه أبلى بها بلاء حسناً - رحمه الله تعالى، وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله.
وكان يجيء في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس قليلاً، ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين فيصلي فيها الجمعة، وكان قليل التعاظم، يركب في بعض الأحيان وحده ثم يلحقه بعض غلمانه سوقاً.
وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي: لئن غودرت تلك المحاسن في الثرى بوالٍ * فما وجدي عليك ببالِ
ومذ غبت عني ما ظفرت بصاحبٍ * أخي ثقة إلا خطرت ببالي
وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن المعظم، وبايعه الأمراء.
أبو المعالي أسعد بن يحيى
ابن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب الفقيه الشافعي البخاري، شيخ أديب فاضل خير، له نظم ونثر ظريف، وله نوادر حسنة وجاوز التسعين.
قد استوزره صاحب حماة في وقت، وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة جيدة. فمن ذلك قوله:
وهواك ما خطر السلو بباله * ولأنت أعلم في الغرام بحالهِ
فمتى وشى واش إليك بشأنه * سائل هواك فذاك من أعدالهِ
أو ليس للدنف المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسآلهِ
جددت ثوب سقامه وهتكت ستـ * ر غرامه، وصرمت حبل وصالهِ
ياللعجائب من أسيرٍ دأبه * يفدي الطليق بنفسه وبمالهِ
وله أيضاً:
لام العواذل في هواك فأكثروا * هيهات ميعاد السلو المحشر
جهلوا مكانكِ في القلوب وحاولوا * لو أنهم وجدوا كوجدي أقصروا
صبراً على عذب الهوى وعذابهِ * وأخو الهوى أبداً يلام ويعذرُ
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد
ابن أحمد بن حمدان الطبي المعروف بالصائن، أحد المعيدين بالنظامية، ودرس بالثقفية، وكان عارفاً بالمذهب والفرائض والحساب، صنف شرحاً للتنبيه. ذكره ابن الساعي.
أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي
الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم بن فضلان، ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها، وكان يشتغل كل يوم عشرين درساً، ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلاً ونهاراً.
وكان بارعاً كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها، ثم استدعى إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى. وهذا ذكره ابن الساعي.