الجزء الثالث عشر - ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر، كسروه غير مرة، ثم بعد ذلك كله كسرهم كسرة عظيمة، وقتل منهم خلقاً وأمماً لا يحصون‏.‏

وكان هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا على جنكيز خان فكتب جنكيز خان إلى جلال الدين يقول له‏:‏

إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم، ولكن سترى منا ما لا قبل لك به‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المؤمنين، وعبروها وقويت شوكتهم، وجاء الأنبرو ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف المسلمون من شره وبالله المستعان‏.‏

وركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف فدخله، ثم سار إلى نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل، فكتب إلى عمه الأشرف فقدم عليه جريدة، وكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه، فأجابه الكامل‏:‏

بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين يريدون أخذه، وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن أخي، وبعد أن جئت أنت إلى الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية‏.‏

فخشي الأشرف وأهل دمشق إن رجع الكامل أن تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس، فركب الأشرف إلى أخيه الكامل فثبطه عن الرجوع، وأقاما جميعاً هنالك جزاهما الله خيراً، يحوطان جناب القدس عن الفرنج لعنهم الله‏.‏

واجتمع إلى الملك جماعة من ملوكهم، كأخيه الأشرف وأخيهما الشهاب غازي بن العادل، وأخيهم الصالح إسماعيل بن العادل وصاحب حمص أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين، وغيرهم، واتفقوا كلهم على نزع الناصر داود عن ملك دمشق وتسليمها إلى الأشرف موسى‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الصدر التكريتي عن حسبة دمشق ومشيخة الشيوخ وولى فيها اثنان غيره‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي أوائل رجب توفي الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي بن المراكشي المقيم بالمدرسة المالكية، ودفن بالمقبرة التي وقفها الزين خليل بن زويزان قبلي مقابر الصوفية، وكان أول من دفن بها رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة

استلهت هذه السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون، قد صاروا أحزاباً وفرقاً، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو مقيم بنواحي القدس الشريف، فقويت نفوس الفرنج لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم من البحر، وبموت المعظم واختلاف من بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده، وتبقى بأيديهم بقية البلاد فتسلموا القدس الشريف‏.‏ ‏

وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جداً، وحصل وهن شديد وإرجاف عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم قَدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الأنهار ونهُبت الحواصل وغلت الأسعار، ولم يزل الجنود حولها حتى أخرج منها ابن أخيه صلاح الدين الملك الناصر داود بن المعظم، على أن يقيم ملكاً بمدينة الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور وبالبلقاء، ويكون الأمير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم صاحب صرخد‏.‏

ثم تقايض الأشرف وأخاه الكامل فأخذ الأشرف دمشق وأعطى أخاه حران والرها والرقة ورأس العين وسروج‏.‏

ثم سار الكامل فحاصر حماة، وكان صاحبها الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالأمر من بعده إلى أكبر ولده المظفر محمد، وهو زوج بنت الكامل، فاستحوذ على حماة أخوه صلاح الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه المظفر محمد، ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك الأشرف كما ذكرنا‏.‏

وكان الناس بدمشق قد اشتغلوا بعلم الأوائل في أيام الملك الناصر داود، وكان يعاني ذلك وقديماً نسبه بعضهم إلى نوع من الانحلال فالله أعلم، فنادى الملك الأشرف بالبلدان أن لا يشتغل الناس بذلك، وأن يشتغلا بعلم التفسير والحديث والفقه‏.‏

وكان سيف الدين الآمدي مدرساً بالعزيزية فعزله عنها وبقي ملازماً منزله حتى مات في سنة إحدى وثلاثين كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ كان الناصر داود قد أضاف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن الخولي القاضي محيي الدين يحيى بن محمد بن علي بن الزكي، فحكم أياماً بالشباك شرقي باب الكلاسة، ثم صار الحكم بداره، مشاركاً لابن الخولي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الملك المسعود أقسيس بن الكامل

صاحب اليمن، وقد ملك مكة سنة تسع عشرة فأحسن بها المعدلة، ونفي الزيدية منها، وأمنت الطرقات والحجاج، ولكنه كان مسرفاً على نفسه، فيه عسف وظلم أيضاً، وكانت وفاته بمكة ودفن بباب المعلى‏.‏ ‏

 محمد السبتي النجار

كان يعده بعضهم من الأبدال‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهو الذي بنى المسجد غربي دار الزكاة عن يسار المار في الشارع من ماله، ودفن بالجبل‏.‏

وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو الحسن علي بن سالم

ابن يزبك بن محمد بن مقلد العبادي الشاعر من الحديثة، قدم بغداد مراراً وامتدح المستظهر وغيره، وكان فاضلاً شاعراً يكثر التغزل‏.‏

 أبو يوسف يعقوب بن صابر الحراني

ثم البغدادي المنجنيقي، كان فاضلاً في فنه، وشاعراً مطبقاً لطيف الشعر حسن المعاني، قد أورد له ابن الساعي قطعة صالحة، ومن أحسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي‏:‏

هل لمن يرتجي البقاء خلود * وسوى الله كل شيء يبيدُ

والذي كان من تراب وإن * عاش طويلاً للتراب يعودُ

فمصير الأنام طراً إلى ما * صار فيه آباؤهم والجدودُ

أين حواء أين آدم إذ فا * تهم الخلد والثوى والخلودُ ‏؟‏

أين هابيل أين قابيل إذ هـ * ذا لهذا معاند وحسودُ

أين نوحٌ ومن نجامعه بالفلـ * ك والعالمون طراً فقيدُ

أسلمته الأيام كالطفل للمو * ت ولم يغن عمره الممدودُ

أين عاد‏؟‏ بل أين جنة عادٍ * أم ترى أين صالح وثمودُ ‏؟‏

أين إبراهيم الذي شاد بيـ * ت الله فهو المعظم المقصودُ

حسدوا يوسفاً أخاهم فكادو * ه ومات الحاسد والمحسودُ

وسليمان في النبوة والملك * قضى مثل ما قضى داودُ

فغدوا بعدما أطيع لذا الخلـ * ق وهذا له ألين الحديدُ

وابن عمران بعد آياته التسـ * ع وشق الخضم فهو صعيدُ

والمسيح ابن مريم وهو روح اللـ *ـه كادت تقضي عليه اليهودُ

وقضى سيد النبيين والها * دي إلى الحق أحمد المحمودُ

وبنوه وآله الطاهرو * ن الزهر صلى عليهم المعبودُ

ونجوم السماء منتثراتٌ * بعد حينٍ وللهواء ركودُ

ولنار الدنيا التي توقد الصخـ *ـر خمود وللماء جمودُ

وكذا للثرى غداة يؤم النـ * ـاس منها تزلزل وهمودُ

هذه الأمهات نار وتربٌ * وهواءٌ رطبٌ وماءٌ برودُ

سوف يفنى كما فنينا فلا * يبقى من الخلق والدٌ ووليدُ

لا الشقي الغوي من نوب الأيا * م ينجو ولا السعيد الرشيدُ

ومتى سلت المنايا سيوفاً * فالموالي حصيدها والعبيدُ

وممن توفي فيها

 أبو الفتوح نصر بن علي البغدادي

الفقيه الشافعي ويلقب‏:‏ بثعلب، اشتغل في المذهب والخلاف ومن شعره قوله‏:‏

جسمي معي غير أن الروح عندكمُ * فالجسم في غربة والروح في وطنِ

فليعجب الناس مني أن لي بدناً * لا روح فيه ولي روح بلا بدنِ

 أبو الفضل جبرائيل بن منصور

ابن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن غالب بن يحيى بن موسى بن يحيى بن الحسن بن غالب بن الحسن بن عمرو بن الحسن بن النعمان بن المنذر المعروف‏:‏ بابن زطينا البغدادي‏.‏

كاتب الديوان بها، أسلم - وكان نصرانياً - فحسن إسلامه، وكان من أفصح الناس وأبلغهم موعظة، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏خير أوقاتك ساعة صفت لله، وخلصت من الفكرة لغيره والرجاء لسواه، وما دمت في خدمة السلطان فلا تغتر بالزمان، اكفف كفك واصرف طرفك وأكثر صومك وأقلل نومك يؤمنك واشكر ربك يحمد أمرك‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏زاد المسافر يقدم على رحيله، فأعد الزاد تبلغ بالمعاد المراد‏.‏

وقال‏:‏ إلى متى تتمادى في الغفلة كأنك قد أمنت عواقب المهلة، عمر اللهو مضى وعمر الشبيبة انقضى، وما حصلت من ربك على ثقة بالرضا، وقد انتهى بك الأمر إلى سن التخاذل وزمن التكاسل، وما حظيت بطائل‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏روحك تخضع وعينك لا تدمع، وقلبك يخشع ونفسك تجشع، وتظلم نفسك وأنت لها تتوجع، وتظهر الزهد في الدنيا وفي الحال تطمع، وتطلب ما ليس لك بحق، وما وجب عليك من الحق لا تدفع، وتروم فضل ربك وللماعون تمنع، وتعيب نفسك الأمارة وهي عن اللهو لا ترجع، وتوقظ الغافلين بإنذارك وتتناوم عن سهمك وتهجع، وتخص غيرك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع، وتحوم على الحق وأنت بالباطل مولع‏.‏

وتتعثر في المضايق وطرق النجاة مهيع، وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع، وتظهر القناعة بالقليل وبالكثير لا تشبع، وتعمر الدار الفانية ودارك الباقية خراب بلقع، وتستوطن في منزل رحيل كأنك إلى ربك لا ترجع، وتظن أنك بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب ترفع، تقدم على الكبائر وعن الصغائر تتورع، وتؤمل الغفران وأنت عن الذنوب لا تقلع، وترى الأهوال محيطة بك وأنت في ميدان اللهو ترتع، وتستقبح أفعال الجهال وباب الجهل تقرع، وقد آن لك أن تأنف من التعنيف وعن الدنايا تترفع، وقد سار المخفون وتخلفت فماذا تتوقع‏)‏‏.‏

وقد أورد ابن الساعي له شعراً حسناً فمنه‏:‏

إن سهرت عيناك في طاعة * فذاك خير لك من نومِ

أمسك قد فات بعلاته * فاستدرك الفائت في اليومِ

وله‏:‏

إن ربَّا هداك بعد ضلالٍ * سُبل الرشد مستحق للعبادهْ

فتعبد له تجد منه عتقاً * واستدم فضله بطول الزهادهْ

وله‏:‏

إذا تعففت عن حرامٍ * عوضت بالطيب الحلالْ

فاقنع تجد في الحرام حلاً * فضلاً من الله ذي الجلالْ

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين الأشرف موسى بن العادل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان سببها أن جلال الدين كان قد أخذ مدينة خلاط في الماضي وخربها وشرد أهلها، وحاربه علاء الدين كيقباد ملك الروم وأرسل إلى الأشرف يستحثه على القدوم عليه ولو جريدة وحده، فقد الأشرف في طائفة كبيرة من عسكر دمشق، وانضاف إليهم عسكر بلاد الجزيرة ومن تبقى من عسكر خلاط، فكانوا خمسة آلاف مقاتل، معهم العدة الكاملة، والخيول الهائلة، فالتقوا مع جلال الدين بأذربيجان وهو في عشرين ألف مقاتل، فلم يقم لهم ساعة واحدة، ولا صبر فتقهقر وانهزم واتبعوه على الأثر‏.‏

ولم يزالوا في طلبهم إلى مدينة خوي وعاد الأشرف إلى مدينة خلاط فوجدها خاوية على عروشها، فمهدها وأطدها، ثم تصالح وجلال الدين وعاد إلى مستقر ملكه حرسها الله‏.‏

وفيها‏:‏ تسلم الأشرف قلعة بعلبك من الملك الأمجد بهرام شاه بعد حصار طويل، ثم استخلف على دمشق أخاه الصالح إسماعيل‏.‏

ثم سار إلى الأشرف بسبب أن جلال الدين الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً ونهب أموالاً كثيرة، فالتقى معه الأشرف واقتتلوا قتالاً عظيماً فهزمه الأشرف هزيمة منكرة، وهلك من الخوارزمية خلق كثير، ودقت البشائر في البلاد فرحاً بنصرة الأشرف على الخوارزمية، فإنهم كانوا لا يفتحون بلداً إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم، فكسرهم الله تعالى‏.‏

وقد كان الأشرف رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قبل الوقعة وهو يقول له‏:‏ يا موسى، أنت منصور عليهم‏.‏

ولما فرغ من كسرتهم عاد إلى بلاد خلاط فرمم شعثها وأصلح ما كان فسد منها، ولم يحج أحد من أهل الشام في هذه السنة ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضاً، فهذه ثلاث سنين لم يسر من الشام أحد إلى الحج‏.‏

وفيها‏:‏ أخذت الفرنج جزيرة سورقة وقتلوا بها خلقاً وأسروا آخرين، فقدموا بهم إلى الساحل فاستقبلهم المسلمون فأخبروا بما جرى عليهم من الفرنج‏.‏

 وممن توفى فيها من الأعيان‏:‏

 زين الأمناء الشيخ الصالح

أبو البركات بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن زين الأمناء بن عساكر الدمشقي الشافعي، سمع على عميه الحافظ أبي القاسم، والصائن وغير واحد، وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين بنحو من ثلاث سنين، وأقعد في آخر عمره فكان يحمل في محفة إلى الجامع وإلى دار الحديث النورية لإسماع الحديث، وانتفع به الناس مدة طويلة‏.‏

ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عند أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ بيرم المارديني

كان صالحاً منقطعاً محباً للعزلة عن الناس، وكان مقيماً بالزاوية الغربية من الجامع، وهي التي يقال لها‏:‏ الغزالية‏.‏

وتعرف‏:‏ بزاوية الدولعي‏.‏

وبزاوية‏:‏ القطب النيسابوري‏.‏

وبزاوية‏:‏ الشيخ أبي نصر المقدسي‏.‏

قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏:‏ وكان يوم جنازته مشهوداً، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده‏.‏

وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر فعاثوا بالفساد يميناً وشمالاً، فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمسوفيها‏:‏ درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادى الأولى منها‏.‏

وفيها‏:‏ درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشأتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب أخت ست الشام‏.‏

وفيها‏:‏ حبس الملك الأشرف الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والأرضية، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155-156‏]‏

وذكر ابن الأثير كلاماً طويلاً مضمونه خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما وراء النهر، وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الإسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه، وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة، وأنه قد كسره الأشرف بن العادل مرتين، وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله‏.‏

وذلك أنه توفي له غلام خصي يقال له‏:‏ قلج، وكان يحبه فوجد عليه وجداً عظيماً بحيث إنه أمر الأمراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ، وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهمّ بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الأمراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة‏.‏

وكلما أحضر بين يديه طعام يقول‏:‏ احملوا هذا إلى قلج فقال له بعضهم‏:‏ أيها الملك إن قلج قد مات، فأمر بقتله فقتل، فكانوا بعد ذلك يقولون‏:‏ قبله وهو يقبل الأرض، ويقول هو الآن أصلح مما كان - يعني أنه مريض وليس بميت - فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه قبحه الله‏.‏

فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلأ قلبه خوفاً منهم، وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه وخربوا ما اجتازوا به من الأقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار وماردين وآمد، يفسدون ما قدروا عليه قتلاً ونهباً وأسراً، وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه، فصاروا شذر مذر، وبدلوا بالأمن خوفاً، وبالعز ذلاً، وبالاجتماع تفريقاً، فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو‏.‏

وانقطع خبر جلال الدين فلا يدري أين سلك، ولا أين ذهب، وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم، كانوا كثيراً يقتلون الناس فيقول المسلم‏:‏ لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله، وهذه طامة عظمى وداهية كبرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضاً لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي، وحضر الدرس بها، وكان يوماً مشهوداً، اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد، وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيهاً لهم الجوامك الدارة في كل يوم، والحلوى في أوقات المواسم، والفواكه في زمانها، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم‏.‏ وكان وقتاً حسناً تقبل الله تعالى منه‏.‏

وفيها‏:‏ سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله، فأكرم وأعيد معظماً‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط، فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين، وكان ذلك شرفاً له غبطه به سائر ملوك الآفاق وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك، فلم يمكنوا لحفظ الثغور، ورجع إلى مملكته معظماً مكرماً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 يحيى بن معطي بن عبد النور

النحوي صاحب الألفية وغيرها من المصنفات النحوية المفيدة، ويلقب زين الدين، أخذ عن الكندي وغيره، ثم سافر إلى مصر فكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، وشهد جنازته الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان قد رحل إلى مصر في هذه السنة‏.‏

وحكي أن الملك الكامل شهد جنازته أيضاً، وأنه دفن قريباً من قبر المزني بالقرافة في طريق الشافعي عن يسرة المار رحمه الله‏.‏

 الدخوار الطبيب

مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد، المعروف بالدخوار شيخ الأطباء بدمشق، وقد وقف داره بدرب العميد بالقرب من الصاغة العتيقة على الأطباء بدمشق مدرسة لهم، وكانت وفاته بصفر من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وعلى قبره قبة على أعمدة في أصل الجبل شرقي الركتيه، وقد ابتلي بستة أمراض متعاكسة، منها ريح اللقوة، وكان مولده سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها توفي‏:‏

 القاضي أبو غانم بن العديم

الشيخ الصالح، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة، من العاملين بعلمهم، ولو قال قائل إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقاً، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، فإنه من جماعة شيوخنا، سمعنا عليه الحديث وانتفعنا برؤيته وكلامه، قال‏:‏

وفيها‏:‏ أيضاً في الثاني عشر من ربيع الأول توفي صديقنا‏:‏

 أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي

وهو وأهل بيته مقدموا السنة بحلب، وكان رجلاً ذا مروءة غزيرة، وخلق حسن، وحلم وافر ورياسة كثيرة، يحب إطعام الطعام، وأحب الناس إليه من أكل من طعامه ويقبل يده، وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط، ولا يقعد عن إيصال راحة وقضاء حاجة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة‏.‏

قلت وهذا آخر ما وجد من الكامل في التاريخ للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن الأثير رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم

ابن أبي السعادات بن كريم الموصلي، أحد الفقهاء الحنفيين، شرح قطعة كبيرة من القدوري، وكتب الإنشاء لصاحبها بدر الدين لؤلؤ، ثم استقال من ذلك، وكان فاضلاً شاعراً، من شعره‏:‏

دعوة كما شاء الغرام يكون * فلست وإن خان العهود أخونُ

ولينوا له في قولكم ما استطعتم * عسى قلبه القاسي عليّ يلينُ

وبثوا صباباتي إليه وكرروا * حديثي عليه فالحديث شجونُ

بنفسي الأولى بانوا عن العين حصةً * وحبهم في القلب ليس يبينُ

وسلوا على العشاق يوم تحملوا * سيوفاً لها وطف الجفون جفونَ

 المجد البهنسي

وزير الملك الأشرف ثم عزله وصادره، ولما توفي دفن بتربته التي أنشأها بسفح قاسيون وجعل كتبه بها وقفاً، وأجرى عليها أوقافاً جيدة دارة رحمه الله تعالى‏.‏

جمال الدولة

خليل بن زويزان رئيس قصر حجاج، كان كيساً ذا مروءة، له صدقات كثيرة، وله زيارة في مقابر الصوفية من ناحية القبلة، ودفن بتربته عند مسجد قلوس رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

الملك الأمجد

واقف المدرسة الأمجدية‏.‏

 بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه

ابن أيوب صاحب بعلبك، لم يزل بها حتى قدم الأشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين، فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين، وأسكنه عنده بدمشق بدار أبيه، فلما كان شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركي فقتله ليلاً، وكان قد اتهمه في صاحبة له وحبسه، فتغلب عليه في بعض الليالي فقتله وقتل المملوك بعده‏.‏

ودفن الأمجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرق الشمالي رحمه الله تعالى، وقد كان شاعراً فاضلاً له ديوان شعر، وقد أورد له ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق، وترجمته في طبقات الشافعية، ولم يذكره أبو شامة في الذيل، وهذا عجيب منه، ومما أورد له ابن الساعي في شاب رآه يقطع قضبان بأن فأنشأ على البديهة‏:‏

من لي بأهيف قال حين عتبته * في قطع كل قضيب بانٍ رائق

تحكي شمائله الرشاء إذا انثنى * ريان بين جداولٍ وحدائقِ

سرقت غصون البان لين شمائلي * فقطعتها والقطع حد السارقِ

ومن شعره أيضاً رحمه الله تعالى‏:‏

يؤرقني حنين وإدكار * وقد خلت المرابع والديارُ

تناءى الظاعنون ولي فؤاد * يسير مع الهوادج حيث ساروا

حنين مثلما شاء التنائي * وشوق كلما بعد المزارُ

وليل بعد بينهم طويل * فأين مضت ليالي القصارُ‏؟‏

وقد حكم السهاد على جفوني * تساوى الليل عندي والنهارُ

سهادي بعد نأيهم كثير * ونومي بعد ما رحلوا غرارُ

فمن ذا يستعير لنا عيوناً * تنام وهل ترى عينا تعارُ

فلا ليلى له صبح منير * ولا وجدي يقال له‏:‏ عثارُ

وكم من قائل والحي غادٍ * يحجب ظعنه النقع المثارُ

وقوفك في الديار وأنت حي * وقد رحل الخليط عليك عار

وله دو بيت‏:‏

كم يذهب هذا العمر في الخسران * ما أغفلني فيه وما أنساني

ضيعت زماني كله في لعب * يا عمر هل بعدك عمر ثاني

وقد رآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله تعالى بك‏؟‏ فقال‏:‏

كنت من ديني على وجلٍ * زال عني ذلك الوجلُ

أمنت نفسي بوائقها * عشت لما مت لما رجلُ

رحمه الله وعفا عنه‏.‏

 جلال الدين تكش

وقيل محمود بن علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش الخوارزمي، وهم من سلالة طاهر بن الحسين، وتكش جدهم هو الذي أزال دولة السلجوقية‏.‏

كانت التتار قهروا أباه حتى شردوه في البلاد فمات في بعض جزائر البحر، ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزقوا عساكره شذر مذر وتفرقوا عنه أيدي سبأ، وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض ميافارقين فأنكره لما عليه من الجواهر الذهب، وعلى فرسه، فقال له‏:‏ من أنت‏؟‏ فقال‏:‏

أنا ملك الخوارزمية - وكانوا قد قتلوا للفلاح أخاً - فأنزله وأظهر إكرامه، فلما نام قتله بفأس كانت عنده، وأخذ ما عليه، فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي بن العادل صاحب ميافارقين فاستدعى بالفلاح فأخذ ما كان عليه من الجواهر وأخذ الفرس أيضاً، وكان الأشرف يقول هو سد ما بيننا وبين التتار، كما أن السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ عزل القاضيان بدمشق‏:‏ شمس الخوي وشمس الدين بن سني الدولة وولي قضاء القضاة عماد الدين بن الحرستاني، ثم عزل في سنة إحدى وثلاثين وأعيد شمس الدين بن سني الدولة كما سيأتي‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ سابع عشر شوالها عزل الخليفة المستنصر وزيره مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي، وقبض عليه وعلى أخيه حسن ابنه فخر الدين أحمد بن محمد القمي وأصحابهم وحبسوا، واستوزر الخليفة مكانه أستاذ الدار شمس الدين أبا الأزهر، أحمد بن محمد بن الناقد، وخلع عليه خلعة سنية وفرح الناس بذلك‏.‏

وفيه أقبل طائفة من التتار فوصلوا إلى شهزور فندب الخليفة صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكر من عنده فساورا نحوهم فهربت منهم التتار، وأقاموا في مقابلتهم مدة شهور، ثم تمرض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل وتراجعت التتار إلى بلادها‏.‏

 

 

وممن توفى فيها من الأعيان‏:‏

 الحافظ محمد بن عبد الغني

ابن أبي بكر البغدادي، أبو بكر بن نقطة الحافظ المحدث الفاضل، صاحب الكتاب النافع المسمى بالتقييد في تراجم رواة الكتب والمشاهير من المحدثين، كان أبوه فقيهاً فقيراً منقطعاً في بعض مساجد بغداد، يؤثر أصحابه بما يحصل له‏.‏

ونشأ ولده هذا معنيّ بعلم الحديث وسماعه والرحلة فيه إلى الأفاق شرقاً غرباً، حتى برز فيه على الأقران، وفاق أهل ذلك الزمان، ولد سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، رحمهم الله تعالى‏.‏

 الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي

كان فاضلاً كريماً حيياً، سمع الكثير، ثم خالط الملوك وأبناء الدنيا، فتغيرت أحواله ومات ببستان ابن شكر عند الصالح إسماعيل بن العادل، وهو الذي كفنه ودفن بسفح قاسيون‏.‏

 أبو علي الحسين بن أبي بكر المبارك

ابن أبي عبد الله محمد بن يحيى بن مسلم الزبيدي ثم البغدادي، كان شيخاً صالحاً حنفياً فاضلاً ذا فنون كثيرة، ومن ذلك علم الفرائض والعروض، وله فيه أرجوزة حسنة، انتخب منها ابن الساعي من كل بحر بيتين، وسرد ذلك في تاريخه‏.‏

 أبو الفتح مسعود بن إسماعيل

ابن علي بن موسى السلماسي، فقيه أديب شاعر، له تصانيف، وقد شرح المقامات والجمل في النحو، وله خطب وأشعار حسنة رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو بكر محمد بن عبد الوهاب

ابن عبد الله الأنصاري فخر الدين ابن الشيرجي الدمشقي، أحد المعدلين بها، ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث وكان يلي ديوان الخاتون ست الشام بنت أيوب، وفوضت إليه أمرا أوقافها‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان ثقة أميناً كيساً متواضعاً‏.‏

قال‏:‏ وقد وزر ولده شرف الدين للناصر داود مدة يسيرة، وكانت وفاة فخر الدين في يوم عيد الأضحى ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

 حسام بن غزي

ابن يونس عماد الدين أبو المناقب المحلي المصري، ثم الدمشقي، كان شيخاً صالحاً فاضلاً فقيهاً شافعياً حسن المحاضرة وله أشعار حسنة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وله في معجم القوصي ترجمة حسنة، وذكر أنه توفي عاشر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان مقيماً بالمدرسة الأمينية، وكان لا يأكل لأحد شيئاً ولا للسلطان، بل إذا حضر طعاماً كان معه في كمه شيء يأكله، وكان لا يزال معه ألف دينار على وسطه‏.‏

وحكي عنه قال‏:‏ خلع عليَّ الملك العادل ليلة طيلساناً فلما خرجت مشى بين يدي تعاط يحسبني القاضي، فلما وصلت باب البريد عند دار سيف خلعت الطيلسان وجعلته في كمي وتباطأت في المشي، فالتفت فلم يرو راءه أحداً، فقال لي‏:‏ أين القاضي‏؟‏ فأشرت إلى ناحية النورية وقلت‏:‏ ذهب إلى داره، فلما أسرع إلى ناحية النورية هرولت إلى المدرسة الأمينية واسترحت منه‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ كان مولده سنة ستين وخمسمائة، وخلف أموالاً كثيرة ورثتها عصبته، قال‏:‏ وكانت له معرفة حسنة بالأخبار والتواريخ وأيام الناس، مع دين وصلاح وورع، وأورد له ابن الساعي قطعاً من شعره فمن ذلك قوله‏:‏

قيل لي من هويت قد عبث الشـ *ـعرَ في خديه قلت ما ذاك عارهْ

حمرة الخد أحرقت عنبر الخا * ل فمن ذاك الدخان عذارهْ

وله‏:‏

شوقي إليكم دون أشواقكم * لكن لا بد أن يشرحُ

لأنني عن قلبكم غائبٌ * وأنتم في القلب لن تبرحوا

 أبو عبد الله محمد بن علي

ابن محمد بن الجارود الماراني، الفقيه الشافعي، أحد الفضلاء، ولي القضاء بإربل وكان ظريفاً خليعاً، وكان من محاسن الأيام، وله أشعار رائقة ومعان فائقة منها قوله‏:‏

مشيب أتى وشباب رحل * أحل العناية حيث حلْ

وذنبك جم، ألا فارجعي * وعودي فقد حان وقت الأجلْ

وديني الإله ولا تقصري * ولا يخدعنك طول الأملْ

أبو الثناء محمود بن رالي

ابن علي بن يحيى الطائي الرقي نزيل إربل، وولي النظر بها للملك مظفر الدين، وكان شيخاً أديباً فاضلاً، ومن شعره قوله‏:‏

وهيف ما الخطيُّ إلا قوامه * وما الغصن إلا ما يثنيه لينه

وما الدعص إلا ما تحمل خصره * وما النبل إلا ما تريش جفونهُ

وما الخمر إلا ما يروق ثغره * وما السحر إلا ما تكن عيونهُ

وما الحسن إلا كله فمن الذي * إذا ما رآه لا يزيد جنونهُ

 ابن معطي النحوي يحيى

ترجمه أبو شامة في السنة الماضية، وهو أضبط لأنه شهد جنازته بمصر، وأما ابن الساعي فإنه ذكره في هذه السنة، وقال‏:‏ إنه كان حظياً عند الكامل محمد صاحب مصر، وإنه كان قد نظم أرجوزة في القراءات السبع، ونظم ألفاظ الجمهرة، وكان قد عزم على نظم صحاح الجوهري‏.‏

 

 

ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ باشر خطابة بغداد ونقابة العباسيين العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الله بن المنصوري، وخلع عليه خلعة سنية، وكان فاضلاً قد صحب الفقراء والصوفية وتزهد برهة من الزمان، فلما دُعي إلى هذا الأمر أجاب سريعاً وأقبلت عليه الدنيا بزهرتها، وخدمة الغلمان الأتراك، ولبس لباس المترفين وقد عاتبه بعض تلامذته بقصيدة طويلة، وعنفه على ما صار إليه، وسردها ابن الساعي بطولها في تاريخه‏.‏

وفيها‏:‏ سار القاضي محي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج في الرسلية من الخليفة إلى الكامل صاحب مصر، ومعه كتاب هائل فيه تقليده الملك، وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصر الدين أحمد بن الناقد، سرده ابن الساعي أيضاً بكماله‏.‏ ‏

وقد كان الكامل مخيماً بظاهر آمد من أعمال الجزيرة، قد افتتحها بعد حصار طويل وهو مسرور بما نال من ملكها‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت دار الضيافة ببغداد للحجيج حين قدموا من حجهم، وأجريت عليهم النفقات والكساوي والصلات‏.‏

وفيها‏:‏ سار العساكر المستنصرية صحبة الأمير سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها، وذلك لمرض مالكها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأنه ليس له من بعده من يملك البلاد، فحين وصلها الجيش منعه أهل البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوة في السابع عشر من شوال في هذه السنة‏.‏

وجاءت البشائر بذلك فضربت الطبول ببغداد بسبب ذلك، وفرح أهلها، وكتب التقليد عليها لإقبال المذكور، فرتب فيها المناصب وسار فيه سيرة جيدة، وامتدح الشعراء هذا الفتح من حيث هو، كذلك مدحوا فاتحها إقبال، ومن أحسن ما قال بعضهم في ذلك‏:‏

يا يوم سابع عشر شوال الذي * رزق السعادة أولاً وأخيرا

هنيت فيه بفتح إربل مثلما * هنيت فيه وقد جلست وزيرا

يعني أن الوزير نصير الدين بن العلقمي، قد كان وزر في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وفي مستهل رمضان من هذه السنة شرع في عمارة دار الحديث الأشرفية بدمشق، وكانت قبل ذلك داراً للأمير قايماز وبها حمام فهدمت وبنيت عوضها‏.‏

وقد ذكر السبط في هذه السنة أن في ليلة النصف من شعبان فتحت دار الحديث الأشرفية المجاورة لقلعة دمشق، وأملي بها الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحديث، ووقف عليها الأشرف الأوقاف، وجعل بها نعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وسمع الأشرف صحيح البخاري في هذه السنة على الزبيدي، قلت‏:‏ وكذا سمعوا عليه بالدار وبالصالحية‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ فتح الكامل آمد وحصن كيفا ووجد عند صاحبها خمسمائة حرة للفراش فعذبه الأشرف عذاباً أليماً‏.‏

وفيها‏:‏ قصد صاحب ماردين وجيش بلاد الروم الجزيرة فقتلوا وسبوا وفعلوا ما لم يفعله التتار بالمسلمين‏.‏

 وممن توفي بها من الأعيان في هذه السنة من المشاهير‏:‏

 أبو القاسم علي بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي

كان شيخاً لطيفاً ظريفاً، سمع الكثير وعمل صناعة الوعظ مدة، ثم ترك ذلك، وكان يحفظ شيئاً كثيراً من الأخبار والنوادر والأشعار، ولد سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكانت وفاته في هذه السنة وله تسع وسبعون سنة‏.‏

وقد ذكر السبط وفاة‏:‏

 الوزير صفي الدين بن شكر

في هذه السنة، وأثنى عليه وعلى محبته للعلم وأهله، وأن له مصنفاً سماه البصائر، وأنه تغضب عليه العادل ثم ترضّاه الكامل وأعاده إلى وزارته وحرمته، ودفن بمدرسته المشهورة بمصر وذكر أن أصله من قرية يقال لها دميرة بمصر‏.‏ ‏

 الملك ناصر الدين محمود

ابن عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن قطب الدين مودود بن عماد الدين بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل، كان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد أقامه بدر الدين لؤلؤ صورة حتى تمكن أمره وقويت شوكته، ثم حجر عليه فكان لا يصل إلى أحد من الجواري ولا شيء من السراري، حتى لا يعقب، وضيق عليه في الطعام والشراب، فلما توفي جده لأمه مظفر الدين كوكبري صاحب إربل منعه حينئذ من الطعام والشراب ثلاث عشر يوماً حتى مات كمداً وجوعاً وعطشاً رحمه الله‏.‏

وكان من أحسن الناس صورة، وهو آخر ملوك الموصل من بيت الأتابكي‏.‏

 القاضي شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم

أحد مشايخ الحنفية، وله مصنفات في الفرائض وغيرها، وهو ابن خالة القاضي شمس الدين ابن الشيرازي الشافعي، وكلاهما كان ينوب عن ابن الزكي وابن الحرستاني، وكان يدرس بالطرخانية‏.‏

وفيها سكنه، فلما أرسل إليه المعظم أن يفتي بإباحة نبيذ التمر وماء الرمان امتنع من ذلك وقال‏:‏ أنا على مذهب محمد بن الحسن في ذلك، والرواية عن أبي حنيفة شاذة، ولا يصح حديث ابن مسعود في ذلك، ولا الأثر عن عمر أيضاً‏.‏

فغضب عليه المعظم وعزله عن التدريس وولاه لتلميذه الزين ابن العتال، وأقام الشيخ بمنزله حتى مات‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ ومات في هذه السنة جماعة من السلاطين منهم المغيث بن المغيث بن العادل، والعزيز عثمان بن العادل، ومظفر الدين صاحب إربل‏.‏

قلت‏:‏ أما صاحب إربل فهو‏:‏

الملك المظفر أبو سعيد كوكبري

ابن زين الدين علي بن تبكتكين أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار حسنة وقد عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون، وكان قدهم بسياقه الماء إليه من ماء بذيرة فمنعه المعظم من ذلك، واعتل بأنه قد يمر على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً‏.‏

وكان مع ذلك شهماً شجاعاً فاتكاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلداً في المولد النبوي سماه‏:‏ ‏(‏التنوير في مولد البشير النذير‏)‏، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصر عكا وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة‏.‏

قال السبط‏:‏ حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال‏:‏ وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويتفك من الفرنج في كل سنة خلقاً من الأسارى‏.‏

حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير، قالت‏:‏ زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب - وكان قد زوجه إياها أخوها صلاح الدين، لما كان معه على عكا - قالت‏:‏ كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبته بذلك فقال‏:‏ لبسي ثوباً بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن البس ثوباً مثمناً وأدع الفقير المسكين، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار‏.‏

وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يحمل إلى مكة فلم يتفق فدفن بمشهد علي‏.‏

 والملك العزيز بن عثمان بن العادل

وهو شقيق المعظم، كان صاحب بانياس وتملك الحصون التي هنالك، وهو الذي بنى المعظمية‏.‏

وكان عاقلاً قليل الكلام مطيعاً لأخيه المعظم، ودفن عنده وكانت وفاته يوم الاثنين عاشر رمضان ببستانه الناعمة من لهيا رحمه الله وعفا عنه‏.‏

 أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر

ابن الحسين بن علي بن محمد بن غالب الأنصاري، المعروف بابن عُنين الشاعر‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ أصله من الكوفة وولد بدمشق ونشأ بها، وسافر عنها سنين، فجاب الأقطار والبلاد شرقاً وغرباً ودخل الجزيرة وبلاد الروم والعراق وخراسان وما وراء النهر والهند واليمن والحجاز وبغداد، ومدح أكثر أهل هذه البلاد، وحصل أموالاً جزيلة، وكان ظريفاً شاعراً مطيقاً مشهوراً، حسن الأخلاق جميل المعاشرة، وقد رجع إلى بلده دمشق فكان بها حتى مات هذه السنة في قول ابن للسماعي، وأما السبط وغيره فأرخوا وفاته في سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل إنه مات في سنة إحدى وثلاثين والله أعلم‏.‏

والمشهور أن أصله من حوران مدينة زرع، وكانت إقامته بدمشق في الجزيرة قبلي الجامع، وكان هجاء له قدرة على ذلك، وصنف كتاباً سماه ‏(‏مقراض الأعراض‏)‏، مشتمل على نحو من خمسمائة بيت، قل من سلم من الدماشقة من شره، ولا الملك صلاح الدين ولا أخوه العادل‏.‏

وقد كان يزن بترك الصلاة المكتوبة فالله أعلم‏.‏

وقد نفاه الملك الناصر صلاح الدين إلى الهند فامتدح ملوكها حصل أموالاً جزيلة، وصار إلى اليمن فيقال إنه وزر لبعض ملوكها، ثم عاد في أيام العادل إلى دمشق ولما ملك المعظم استوزره فأساء السيرة واستقال هو من تلقاء نفسه فعزله، وكان قد كتب إلى الدماشقة من بلاد الهند‏:‏

فعلام أبعدتم أخا ثقةٍ * لم يقترف ذنباً ولا سرقا ‏؟‏

انفوا المؤذن من بلادكم * إن كان ينفي كل من صدقا

ومما هجا به الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى‏:‏

سلطاننا أعرج وكاتبه * ذو عمشٍ ووزيره أحدبُ

والدولعي الخطيب معتكف * وهو على قشر بيضةٍ يثبُ

ولابن باقا وعظ يغش به النـ *ـاس وعبد اللطيف محتسبُ

وصاحب الأمر خلقه شرس * وعارض الجيش داؤه عجبُ

وقال في السلطان الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى وعفا عنه‏:‏

إن سلطاننا الذي نرتجيه * واسع المال ضيق الأنفاقِ

هو سيف كما يقال ولكن * قاطع للرسوم والأرزاقِ

وقد حضر مرة مجلس الفخر الرازي بخراسان وهو على المنبر يعظ الناس، فجاءت حمامة خلفها جارح فألقت نفسها على الفخر الرازي كالمستجيرة به، فأنشأ ابن عنين يقول‏:‏

جاءت سليمان الزمان حمامة * والموت يلمع من جناحي خاطف

قرم لواه الجوع حتى ظله * بإزائه يجري بقلب واجف

من أعلم الورقاء أن محلّكم * حرم وأنك ملجأ للخائف

 الشيخ شهاب الدين السهروردي

صاحب عوارف المعارف، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن حمويه واسمه عبد الله البكري البغدادي، شهاب الدين أبو حفص السهروردي، شيخ الصوفية ببغداد، كان من كبار الصالحين وسادات المسلمين، وتردد في الرسلية بين الخلفاء والملوك مراراً، وحصلت له أموال جزيلة ففرقها بين الفقراء والمحتاجين، وقد حج مرة وفي صحبته خلق من الفقراء لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وكانت فيه مروءة وإغاثة للملهوفين، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وكان يعظ الناس وعليه ثياب البذلة‏.‏

قال مرة في ميعاده هذا البيت وكرره‏:‏

ما في الصحاب أخو وجد تطارحه * إلا محب له في الركب محبوب

فقام شاب وكان في المجلس فأنشده‏:‏

كأنما يوسف في كل راحلة * وله وفي كل بيت منه يعقوب

فصاح الشيخ ونزل عن المنبر وقصد الشاب ليعتذر إليه، فلم يجده ووجد مكانه حفرة فيهادم كثير من كثرة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت‏.‏

وذكر له ابن خلكان أشياء كثيرة من أناشيده وأثنى عليه خيراً، وأنه توفي في هذه السنة وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى‏.‏

 ابن الأثير مصنف أسد الغابة والكامل

هو الإمام العلامة عز الدين أبو الحسن علي بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الأثير مصنف كتاب ‏(‏أسد الغابة في أسماء الصحابة‏)‏، وكتاب ‏(‏الكامل في التاريخ‏)‏ وهو من أحسنها حوادث، ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وقد كان يتردد إلى بغداد خصيصاً عند ملوك الموصل، ووزر لبعضهم كما تقدم بيانه، وأقام بها في آخر عمره موقراً معظماً إلى أن توفي بها في شعبان في هذه السنة، عن خمس وسبعين سنة رحمه الله‏.‏

وأما أخوه أبو السعادات المبارك فهو مصنف كتاب ‏(‏جامع الأصول‏)‏ وغيره، وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيراً للملك الأفضل علي بن الناصر فاتح بيت المقدس، صاحب دمشق كما تقدم، وجزيرة ابن عمر قيل‏:‏ إنها منسوبة إلى رجل يقال له عبد العزيز بن عمر، من أهل برقعيد، وقيل‏:‏ بل هي منسوبة إلى ابني عمر، وهما أوس وكامل ابنا عمر بن أوس‏.‏

ابن المستوفي الأربلي

مبارك بن أحمد بن مبارك ابن موهوب بن غنيمة بن غالب العلامة شرف الدين أبو البركات اللخمي الأربلي، كان إماماً في علوم كثيرة كالحديث وأسماء الرجال والأدب والحساب، وله مصنفات كثيرة وفضائل غزيرة، وقد بسط ترجمته القاضي شمس الدين بن خلكان في الوفيات، فأجاد وأفاد‏.‏ رحمهم الله‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيهاً، وأربعة معيدين، ومدرّس لكل مذهب، وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد‏.‏

ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يتخلف أحد من هؤلاء، وعمل سماط عظيم بها أكل منه الحاضرون، وحمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام، وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها، وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مطولاً مبسوطاً شافياً كافياً، وقدر لتدريس الشافعية بها الإمام محي الدين أبو عبد الله بن فضلان‏.‏

وللحنفية الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني‏.‏

وللحنابلة الإمام العالم محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، ودرس عنه يومئذ ابنه عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودرس للمالكية ويومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضاً، حتى يعين شيخ غيره، ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها‏.‏

وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي الذي وزر بعد ذلك، وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة، وخلع عليه يومئذ وعلى الوزير نصير الدين‏.‏ ‏

ثم عزل مدرس الشافية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القضاة أبي المعالي عبد الرحمن بن مقبل، مضافاً إلى ما بيده من القضاء، وذلك بعد وفاة محيي الدين بن فضلان، وقد ولي القضاء مدة ودرس بالنظامية وغيرها، ثم عزل ثم رضي عنه ثم درس آخر وقت بالمستنصرية كما ذكرنا، فلما توفي وليها بعده ابن مقبل رحمهم الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ عمر الأشرف مسجد جراح ظاهر باب الصغير‏.‏

وفيها‏:‏ قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج إلى الأشرف ومعه هدايا منها دب أبيض شعره مثل شعر الأسد، وذكروا أنه ينزل إلى البحر فيخرج السمك فيأكله‏.‏

وفيها‏:‏ طاووس أبيض أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ كملت عمارة القيسارية التي هي قبل النحاسين، وحول إليها سوق الصاغة وشغر سوق اللؤلؤ الذي كان فيه الصاغة العتيقة عند الحدادين‏.‏

وفيها‏:‏ جددت الدكاكين التي بالزيادة‏.‏ قلت‏:‏ وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة قيساريتان في زماننا وسكنها الصياغ وتجار الذهب، وهما حسنتان وجميعهما وقف الجامع المعمور‏.‏

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 أبو الحسن علي بن أبي علي

ابن محمد بن سالم الثعلبي، الشيخ سيف الدين الآمدي ثم الحموي ثم الدمشقي، صاحب المصنفات في الأصلين وغير ذلك، من ذلك‏:‏ ‏(‏أبكار الأفكار في الكلام‏)‏، و‏(‏دقائق الحقائق في الحكمة‏)‏، و‏(‏أحكام الأحكام في أصول الفقه‏)‏، وكان حنبلي المذهب فصار شافعياً أصولياً منطقياً جدلياً خلافياً، وكان حسن الأخلاق سليم الصدر كثير البكاء رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم بصحتها‏.‏

والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه وإن كانوا لا يحبونه كثيراً، وقد فوض إليه المعظم تدريس العزيزية، فلما ولي الأشرف دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلوم الأوائل نفيته، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفي بدمشق في هذه السنة في صفر، ودفن بتربته بسفح قاسيون‏.‏

وذكر القاضي ابن خلكان‏:‏ أنه اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحفظ طريقة الخلاف للشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول، ثم إلى الديار المصرية فأعاد بمدرسة الشافعية بالقرافة الصغرى، وتصدر بالجامع الظافري، واشتهر فضله وانتشرت فضائله، فحسده أقوام فسعوا فيه وكتبوا خطوطهم باتهامه بمذهب الأوائل والتعطيل والانحلال، فطلبوا من بعضهم أن يوافقهم فكتب‏:‏

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالقوم أعداء له وخصوم

فانتقل سيف الدين إلى حماه ثم تحول إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عزل عنها ولزم بيته إلى أن مات في هذه السنة، وله ثمانون عاماً رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

واقف الركنية الأمير ركن الدين منكورس الفلكي

غلام فلك الدين أخي الملك العادل، لأنه وقف الفلكية كما تقدم، وكان هذا الرجل من خيار الأمراء، ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافه ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة، وكان قليل الكلام كثير الصدقات، وقد بنى المدرسة الركنية بسفح قاسيون، ووقف عليها أوقافاً كثيرة وعمل عندها تربة، وحين توفي بقرية حدود حمل إليها رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ الإمام العالم رضي الدين

أبو سليمان بن المظفر بن غنائم الجيلي الشافعي، أحد فقهاء بغداد والمفتيين بها والمشغلين للطلبة مدة طويلة، له كتاب في المذهب نحو من خمسة عشر مجلداً، يحكى فيه الوجوه الغريبة والأقوال المستغربة وكان لطيفاً ظريفاً، توفي رحمه الله يوم الأربعاء ثالث ربيع الأول من هذه السنة ببغداد‏.‏

الشيخ طي المصري أقام مدة بالشام في زاوية له بدمشق، وكان لطيفاً كيساً زاهداً، يتردد إليه الأكابر ودفن بزاويته المذكورة رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ عبد الله الأرمني

أحد العباد الزهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد، واجتمعوا بالأقطاب والأبدال والأوتاد، وممن كانت له الأحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات، وقد قرأ القرآن في بدايته وحفظ كتاب ‏(‏القدوري على مذهب أبي حنيفة‏)‏‏.‏

ثم اشتغل بالمعاملات والرياضات، ثم أقام آخر عمره بدمشق حتى مات بها ودفن بسفح قاسيون، وقد حكي عنه أشياء حسنة منها أنه قال‏:‏ اجتزت مرة في السياحة ببلدة فطالبتني نفسي بدخولها فآليت أن لا أستطعم منها بطعام، ودخلتها فمررت برجل غسال فنظر إلى شزراً فخفت منه وخرجت من البلد هارباً، فلحقني ومعه طعام فقال‏:‏ كل فقد خرجت من البلد، فقلت له‏:‏ وأنت في هذا المقام وتغسل الثياب في الأسواق‏؟‏

فقال‏:‏ لا ترفع رأسك ولا تنظر إلي شيء من عملك، وكن عبداً الله فإن استعملك في الحش فارض به، ثم قال رحمه الله‏.‏

ولو قيل لي مت قلت سمعاً وطاعةً * وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحبا

وقال اجتزت مرة في سياحتي براهب في صومعة فقال لي‏:‏ يا مسلم ما أقرب الطرق عندكم إلى الله عز وجل‏؟‏

قلت‏:‏ مخالفة النفس، قال‏:‏ فرد رأسه إلى صومعته، فلما كنت بمكة زمن الحج إذا رجل يسلم علي عند الكعبة فقلت‏:‏ من أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أنا الراهب، قلت‏:‏ بم وصلت إلى هاهنا‏؟‏ قال‏:‏ بالذي قلت‏.‏

وفي رواية عرضت الإسلام على نفسي فأبت، فعلمت أنه حق فأسلمت وخالفتها، فأفلح وأنجح‏.‏

وقال‏:‏ بينا أنا ذات يوم بجبل لبنان إذا حرامية الفرنج فأخذوني فقيدوني وشدوا وثاقي فكنت عندهم في أضيق حال، فلما كان النهار شربوا وناموا، فبينا أنا موثوق إذا حرامية المسلمين قد أقبلوا نحوهم فأنبهتهم فلجأوا إلى مغارة هنالك فسلموا من أولئك المسلمين، فقالوا‏:‏ كيف فعلت هذا وقد كان خلاصك على أيديهم‏؟‏

فقلت‏:‏ إنك أطعمتموني فكان من حق الصحبة أن لا أغشكم، فعرضوا علي شيئاً من متاع الدنيا فأبيت وأطلقوني‏.‏

وحكى السبط قال‏:‏ زرته مرة ببيت المقدس وكنت قد أكلت سمكاً مالحاً، فلما جلست عنده أخذني عطش جداً وإلى جانبه إبريق فيه ماء بارد فجعلت أستحيي منه، فمد يده إلى الإبريق وقد أحمر وجهه وناولني، وقال خذ كم تكاسر، فشربت‏.‏

وذكر أنه لما ارتحل من بيت المقدس كان سورها بعد قائماً جديداً على عمارة الملك صلاح الدين قبل أن يخربه المعظم، فوقف لأصحابه يودعهم ونظر إلى السور، وقال‏:‏ كأني بالمعاول وهي تعمل في هذا السور عما قريب، فقيل له معاول المسلمين أو الفرنج‏؟‏ فقال‏:‏ بل معاول المسلمين، فكان كما قال‏.‏

وقد ذكرت له أحوال كثيرة حسنة، ويقال إن أصله أرمني وإنه أسلم على يدي الشيخ عبد الله اليونيني، وقيل بل أصله رومي من قونية، وأنه قدم على الشيخ عبد الله اليونيني وعليه برنس كبرانس الرهبان، فقال له‏:‏ أسلم فقال‏:‏ أسلمت لرب العالمين‏.‏

وقد كانت أمه داية امرأة الخليفة، وقد جرت له كائنة غريبة فسلمه الله بسبب ذلك، وعرفه الخليفة فأطلقه‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ خرب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطئ وخمور ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمى جامع التوبة، تقبل الله تعالى منه‏.‏ ‏

 وفيها‏:

 توفي القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم بن شداد الحلبي، أحد رؤسائها من بيت العلم والسيادة، له علم بالتواريخ وأيام الناس وغير ذلك، وقد سمع الكثير وحدث، والشيخ شهاب الدين عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن عصرون الحلبي أيضاً، كان فقيهاً زاهداً عابداً كانت له نحو من عشرين سرية، وكان شيخاً يكثر من الجماع، فاعترته أمراض مختلفة فأتلفته ومات بدمشق ودفن بقاسيون، وهو والد قطب الدين وتاج الدين، والشيخ الإمام العالم صائن الدين أبو محمد عبد العزيز الجبلي الشافعي أحد الفقهاء المفتيين المشتغلين بالمدرسة النظامية ببغداد، وله شرح على التنبيه للشيخ أبي إسحاق، توفي في ربيع الأول رحمه الله تعالى‏.‏

 والشيخ الإمام العالم الخطيب الأديب أبو محمد حمد بن حميد بن محمود بن حميد بن أبي الحسن بن أبي الفرج بن مفتاح التميمي الدينوري، الخطيب بها والمفتي لأهلها، الفقيه الشافعي، تفقه ببغداد بالنظامية، ثم عاد إلى بلده المشار إليها، وقد صنف كتباً‏.‏ وأنشد عنه ابن الساعي سماعاً منه‏:‏

روت لي أحاديث الغرام صبابتي * بإسنادها عن بانة العلم الفرد

وحدثني مر النسيم عن الحمى * عن الدوح عن وادي الغضا عن ربا نجد

بان غرامي والأسى قد تلازما * فلن يبرحا حتى أوسد في لحدي

وقد أرخ أبو شامة في الذيل وفاة الشهاب السهروردي صاحب ‏(‏عوارف المعارف‏)‏ في هذه السنة، وذكر أن مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأنه جاوز التسعين‏.‏

وأما السبط فإنما أرخ وفاته في سنة ثلاثين كما تقدم‏.‏

 قاضي القضاة بحلب

أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد الأسدي الموصلي الشافعي، كان رجلاً فاضلاً أديباً مقرئاً ذا وجاهة عند الملوك، أقام بحلب وولي القضاء بها، وله تصانيف وشعر، توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

 ابن الفارض

ناظم التائية في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد، هو أبو حفص عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، وكان أبوه يكتب فروض النساء والرجال، وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها، وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ‏(‏ميزانه‏)‏ وحط عليه‏.‏ مات في هذه السنة وقد قارب السبعين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ قطع الكامل وأخوه الأشرف الفرات وأصلحا ما كان أفسده جيش الروم من بلادهما، وخرب الكامل قلعة الرها وأحل بدنيسر بأساً شديداً، وجاء كتاب بدر الدين صاحب الموصل بأن الروم أقبلوا بمائة طلب كل طلب بخمسمائة فارس، فرجع الملكان إلى دمشق سريعاً وعاد جيش الروم إلى بلادهما بالجزيرة وأعادوا الحصار كما كان، ورجعت التتار عامهم ذلك إلى بلادهم والله تعالى أعلم‏.‏

 من الأعيان والمشاهير‏:

ابن عنين الشاعر وقد تقدمت ترجمته في سنة ثلاثين‏.‏

 الحاجري الشاعر

صاحب الديوان المشهور، وهو عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الأربلي شاعر مطبق، ترجمه ابن خلكان وذكر أشياء من شعره كثيرة، وذكر أنه كان صاحبهم وأنه كتب إليه أخيه ضياء الدين عيسى يستوحش منه‏:‏

الله يعلم ما أبقى سوى رمق * مني فراقك يا من قربة الأمل

فابعث كتابك واستودعه تعزية * فربما مت شوقاً قبل ما يصل

وذكر له في الخال رحمه الله تعالى‏:‏

ومهفهف من شعره وجبينه * أمسى الورى في ظلمة وضياء

لا تنكروا الخال الذي في خده * كل الشقيق بنطقة سوداء

 ابن دحية

أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن مزلال بن بلال بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكاملية بها‏.‏

قال السبط‏:‏ وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة فيهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلاً عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي في ربيع الأول بالقاهرة ودفن بقرافة مصر‏.‏

وقد قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏:‏ وللشيخ السخاوي فيه أبيات حسنة‏.‏

وقال القاضي ابن خلكان‏:‏ بعد سياق نسبه كما تقدم، وذكر أنه كتبه من خطه، قال‏:‏ وذكر أن أمه أمة الرحمن بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين ابن دحية ابن الحسن والحسين‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقناً لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام، ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب ‏(‏التنوير في مولد السراج المنير‏)‏ وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار‏.‏

قال‏:‏ وقد سمعناه على الملك المعظم في ستة مجالس في سنة ست وعشرين وستمائة، قلت‏:‏ وقد وقفت على هذا الكتاب وكتبت منه أشياء حسنة مفيدة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان مولده في سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل ست أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في هذه السنة، وكان أخوه أبو عمرو عثمان قد باشر بعده دار الحديث الكاملية بمصر، وتوفي بعده بسنة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده لنعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء كما ذكره ابن المنذر وغيره على أن المغرب لا يقصر، والله سبحانه وتعالى يتجاوز عنا وعنه بمنه وكرمه‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ حاصرت التتار إربل بالمجانيف ونقبوا الأسوار حتى فتحوها عنوة فقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وامتنعت عليهم القلعة مدة‏.‏

وفيها‏:‏ النائب من جهة الخليفة، فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها وانشمروا إلى بلادهم، وقيل إن الخليفة جهز لهم جيشاً فانهزم التتار‏.‏

وفيها‏:‏ استخدم الصالح أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا الخوارزمية الذين تبقوا من جيش جلال الدين وانفصلوا عن الرومي، فقوي جأش الصالح أيوب‏.‏

وفيها‏:‏ طلب الأشرف موسى بن العادل من أخيه الكامل الرقة لتكون قوة له وعلفاً لدوابه إذا جاز الفرات مع أخيه في البواكير، فقال الكامل‏:‏ أما يكفيه أن معه دمشق مملكة بني أمية‏؟‏ فأرسل الأشرف الأمير فلك الدين بن المسيري إلى الكامل في ذلك، فأغلظ له الجواب، وقال‏:‏ إيش يعمل بالملك‏؟‏ يكفيه عشرته للمغاني وتعلمه لصناعتهم‏.‏

فغضب الأشرف لذلك وبدت الوحشة بنيهما، وأرسل الأشرف إلى حماه وحلب وبلاد الشرق مخالف أولئك الملوك على أخيه الكامل، فلو طال عمر الأشرف لأفسد الملك على أخيه، وذلك لكثرة ميل الملوك إليه لكرمه وشجاعته وشح أخيه الكامل، ولكنه أدركته منيته في أول السنة الداخلة رحمه الله تعالى‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الملك العزيز الظاهر

صاحب حلب محمد بن السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين فاتح القدس الشريف، وهو وأبوه وابنه الناصر أصحاب ملك حلب من أيام الناصر، وكانت أم العزيز الخاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان حسن الصورة كريماً عفيفاً، توفي وله من العمر أربع وعشرون سنة، وكان مدبر دولته الطواشي شهاب الدين، وكان من الأمراء رحمه الله تعالى‏.‏

وقام في الملك بعده ولده الناصر صلاح الدين يوسف، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 صاحب الروم

كيقباذ الملك علاء الدين صاحب بلاد الروم، كان من أكابر الملوك وأحسنهم سيرة، وقد زوجه العادل ابنته وأولدها، وقد استولى على بلاد الجزيرة في وقت وأخذ أكثرها من يد الكامل محمد، وكسر الخوارزمية مع الأشرف موسى رحمهما الله‏.‏

 الناصح الحنبلي

في ثالث المحرم توفي الشيخ ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج الشيرازي، وهم ينتسبون إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولد الناصح سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وقرأ القرآن وسمع الحديث، وكان يعظ في بعض الأحيان‏.‏ وقد ذكرنا قبل أنه وعظ في حياة الشيخ الحافظ عبد الغني، وهو أول من درس بالصالحية التي بالجبل، وله بنيت، وله مصنفات‏.‏ وقد اشتغل علي ابن المنى البغدادي، وكان فاضلاً صالحاً، وكان وفاته بالصالحية ودفن هناك رحمه الله‏.‏

 الكمال بن المهاجر

التاجر كان كثير الصدقات والإحسان إلى الناس، مات فجأة في جمادى الأولى بدمشق فدفن بقاسيون، واستحوذ الأشرف على أمواله، فبلغت التركة قريباً من ثلاثمائة ألف دينار، من ذلك سبحة فيها مائة حبة لؤلؤ، كل واحدة مثل بيضة الحمامة‏.‏

 الشيخ الحافظ أبو عمرو عثمان بن دحية

أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية، كان قد ولي دار الحديث الكاملية حين عزل أخوه عنها حتى توفي في عامه هذا، وكان ندر في صناعة الحديث أيضاً رحمه الله تعالى‏.‏

 القاضي عبد الرحمن التكريتي

الحاكم بالكرك، ومدرس مدرسة الزبداني، فلما أخذت أوقافها سار إلى القدس ثم إلى دمشق، فكان ينوب بها عن القضاة، وكان فاضلاً نزهاً عفيفاً ديناً رحمه الله تعالى ورضى عنه‏.‏

 

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة الأشرف ثم أخوه الكامل، أما الأشرف موسى بن العادل باني دار الحديث الأشرفية وجامع التوبة وجامع جراح، فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة، بالقلعة المنصورة، ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة، ثم حول إليها رحمه الله تعالى، في جمادى الأولى‏.‏

وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية، واختلفت عليه الأدواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله عز وجل، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال مفرط فخارت قوته فشرع في التهيؤ للقاء الله عز وجل، فأعتق مائتي غلام وجارية، ووقف دار فروخشاه التي يقال لها دار السعادة، وبستانه بالنيرب على ابنيه، وتصدق بأموال جزيلة، وأحضر له كفناً كان قد أعده من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين‏.‏ ‏

وقد كان رحمه الله تعالى شهماً شجاعاً كريماً جواداً لأهل العلم، لا سيما أهل الحديث، ومقاربيته الصالحة، وقد بنى لهم دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، وجعل فيها نعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما زال حريصاً على طلبه من النظام ابن أبي الحديد التاجر، وقد كان النظام ضنيناً به فعزم الأشرف أن يأخذ منه قطعة، ثم ترك ذلك خوفاً من أن يذهب بالكلية، فقدر الله موت ابن أبي الحديد بدمشق فأوصى للملك الأشرف، به فجعله الأشرف بدار الحديث، ونقل إليها كتباً سنية نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، وقد كان خاناً للزنجاري فيه من المنكرات شيء كثير، وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة، وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، ونشأ بالقدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه وكذلك أخوه المعظم ثم استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة منها الرها وحران‏.‏

ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط، وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة، لا يعرف غير نسائه وسراريه، مع أنه قد كان يعاني الشراب، وهذا من أعجب الأمور‏.‏

حكى السبط عنه قال‏:‏ كنت يوماً بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال‏:‏ بالباب امرأة تستأذن، فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها، وإذا هي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي، فذكرت أن الحاجب عليّ قد استحوذ على قرية لها، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكرى، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء، فأمرت برد ضيعتها إليها وأمرت لها بدار تسكنها، وقد كنت قمت لها حين دخلت وأجلستها بين يدي وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه، ومعها عجوز، فحين قضت شغلها قلت لها انهضي على اسم الله تعالى‏.‏

فقالت العجوز‏:‏ يا خوند إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة، فقلت‏:‏ معاذ الله لا يكون هذا، واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه، فقامت وهي تقول بالأرمني‏:‏ سترك الله مثل ما سترتني، وقلت لها‏:‏ مهما كان من حاجة فأنهيها إلى أقضها لك، فدعت لي وانصرفت، فقالت لي‏:‏ نفسي في الحلال مندوحة عن الحرام، فتزوجها، فقلت‏:‏ لا والله لا كان هذا أبداً أين الحياء والكرم والمروءة‏؟‏

قال ومات مملوك من مماليكي وترك ولداً ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن شباباً، ولا أحلى شكلاً منه، فأحببته وقربته، وكان من لا يفهم أمري يتهمني به، فاتفق أنه عدا على إنسان فضربه حتى قتله، فاشتكى عليه إلي أولياء المقتول، فقلت أثبتوا أنه قتله، فأثبتوا ذلك فحاجفت عنه مماليكي وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات فلم يقبلوا، ووقفوا لي في الطريق وقالوا‏:‏ قد أثبتنا أنه قتله فقلت خذوه فتسلموه فقتلوه، ولو طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نفي من البلد‏.‏ وكان البلد به في غاية الأمن والعدل، وكثرة الصدقات والخيرات كانت القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط، والصالحية وإلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم‏.‏ ‏

وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء الذي جدده وزخرفه بالقلعة، وكان ميمون النقيبة ما كسرت له راية قط، وقد استدعى الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه صحيح البخاري وغيره، وكان له ميل إلى الحديث وأهله، ولما توفي رحمه الله رآه بعض الناس وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال‏:‏ ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا‏؟‏ فقال‏:‏ ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم، وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء فهي معهم، ولقد صدق رحمه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏المرء مع من أحب‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان أوصى بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناس بين يديه، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه، ثم إنه صادر جماعة من الدماشقة الذين قيل عنهم إنهم مع الكامل، منهم العالم تعاسيف وأولاد ابن مزهر وحبسهم ببصرى، وأطلق الحريري من قلعة عزاز، وشرط عليه أن لا يدخل دمشق، ثم قدم الكامل من مصر وانضاف إليه الناصر داود صاحب الكرك ونابلس والقدس، فحاصروا دمشق حصاراً شديداً، وقد حصنها الصالح إسماعيل وقطع المياه ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا، وأحرقت العقبية وقصر حجاج، فافتقر خلق كثير واحترق آخرون، وجرت خطوب طويلة، ثم آل الحال في آخر جمادى الأولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الكامل، على أن له بعلبك وبصرى، وسكن الأمر، وكان الصلح بينهما على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، اتفق أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق فجزاه الله تعالى خيراً‏.‏

ودخل الكامل دمشق وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي كان أودعه فيه الأشرف، ونقل الأشرف إلى تربته، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى الإمام الكبير، لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد، ولنعم ما فعل رحمه الله‏.‏ وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح، اجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدم، عند المنبر ولم يبق به إمام يومئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد علي ولو ترك لكان حسناً والله أعلم‏.‏

 ذكر وفاة الملك الكامل

محمد بن العادل رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

تملك الكامل دمشق مدة شهرين ثم أخذه أمراض مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موته في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفي فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجوده ميتاً رحمه الله تعالى‏.‏

وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفر معرفته، وقد كان جيد الفهم يحب العلماء، ويسألهم أسئلة مشكلة، وله كلام جيد على صحيح مسلم وكان ذكياً مهيباً ذا بأس شديد، عادل منصف له حرمة وافرة، وسطوة قوية، ملك مصر ثلاثين سنة، وكانت الطرقات في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسر أحد أن يظلم أحداً شنق جماعة من الأجناد أخذوا شعيراً لبعض الفلاحين بأرض آمد، واشتكى إليه بعض الركبدارية، أن أستاذه استعمله ستة أشهر بلا أجرة فأحضر الجندي وألبسه قباب الركبدارية، وألبس الركبداري ثياب الجندي، وأمر الجندي أن يخدم الركبدار ستة أشهر على هذه الهيئة، ويحضر الركبدار الموكب والخدمة حتى ينقضي الأجل فتأدب الناس بذلك غاية الأدب‏.‏

وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج لعنهم الله، فرابطهم أربع سنين حتى استنقذه منهم، وكان يوم أخذه له واسترجاعه إياه يوماً مشهوداً، كما ذكرنا مفصلاً رحمه الله تعالى‏.‏ وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع ذات الشباك الذي هناك قريباً من مقصورة ابن سنان، وهي الكندية التي عند الحلبية‏.‏

نقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، ومن شعره يستحث أخاه الأشرف من بلاد الجزيرة حين كان محاصراً بدمياط‏:‏

يا مسعفي إن كنت حقا مسعفي * فارحل بغير تقيد وتوقف

واطو المنازل والديار ولا تنخ * إلا على باب المليك الأشرف

قبل يديه لا عدمت وقل له‏:‏ * عني بحسن تعطف وتلطف

إن مات صنوك عن قريب تلقه * ما بين حد مهند ومثقف

أو تبط عن إنجاده فلقاؤه * يوم القيامة في عراص الموقف

 ذكر ما جرى بعده

كان قد عهد لولده العادل وكان صغيراً بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، وولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الأمراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الأمراء بها في الملك الناصر داود بن المعظم، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل، فكان ميل عماد الدين ابن الشيخ إلى الجواد، وآخرون إلى الناصر‏.‏

وكان نازلاً بدار أسامة، فانتظم أمر الجواد وجاءت الرسالة إلى الناصر أن أخرج من البلد، فركب من دار أسامة والعامة وراءه إلى القلعة لا يشكون في ولايته الملك، فسلك نحو القلعة فلما جاوز العمادية عطف برأس فرسه نحو باب الفرج، فصرخت العامة‏:‏ لا لا لا، فسار حتى نزل القابون عند وطأة برزة‏.‏

فعزم بعض الأمراء الأشرفية على مسكه، فساق فبات بقصر أم حكيم، وساقوا وراءه فتقدم إلى عجلون فتحصن بها وأمن‏.‏

وأما الجواد

فإنه ركب في أبهة الملك وأنفق الأموال والخلع على الأمراء‏.‏

قال السبط‏:‏ فرق ستة آلاف ألف دينار وخمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى الخواطيء واستقر ملكه بدمشق، واجتمع عليه الأمراء الشاميون والمصريون، ورحل الناصر داود من عجلون نحو غزة وبلاد الساحل فاستحوذ عليها، فركب الجواد في طلبه ومعه العساكر الشامية والمصرية‏.‏

وقال للأشرفية‏:‏ كاتبوه وأطمعوه، فلما وصلت إليه كتبهم طمع في موافقتهم، فرجع في سبعمائة راكب إلى نابلس، فقصده الجواد وهو نازل على جيتين، والناصر على سبسطية، فهرب منه الناصر فاستحوذوا على حواصله وأثقاله، فاستغنوا بها وافتقر بسببها فقراً مدقعاً، ورجع الناصر إلى الكرك جريدة قد سلب أمواله وأثقاله، وعاد الجواد إلى دمشق مؤيداً منصوراً‏.‏

وفيها‏:‏ اختلفت الخوارزمية على الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب كيفا، وتلك النواحي، وعزموا على القبض عليه، فهرب منهم ونهبوا أمواله وأثقاله، ولجأ إلى سنجار فقصده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ليحاصره ويأخذه في قفص إلى الخليفة، وكان أهل تلك الناحية يكرهون مجاورته لتكبره وقوة سطوته، فلم يبق إلى أخذه إلا القليل، فكاتب الخوارزمية واستنجد بهم ووعدهم بأشياء كثيرة‏.‏

فقدموا إليه جرائد ليمنعوه من البدر لؤلؤ، فلما أحس بهم لؤلؤ هرب منهم فاستحوذوا على أمواله وأثقاله، فوجدوا فيها شيئاً كثيراً لا يحد ولا يوصف، ورجع إلى بلده الموصل جريدة خائباً، وسلم الصالح أيوب مما كان فيه من الشدة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن زيد

ابن ياسين الخطيب جمال الدين الدولعي، نسبة إلى قرية بأصل الموصل، وقد ذكرنا ذلك عند ترجمة عمه عبد الملك بن ياسين الخطيب بدمشق أيضاً‏.‏ ‏

وكان مدرساً بالغزالية مع الخطابة، وقد منعه المعظم في وقت عن الإفتاء فعاتبه السبط في ذلك، فاعتذر بأن شيوخ بلده هم الذين أشاروا عليه بذلك، لكثرة خطئه في فتاويه، وقد كان شديد المواظبة على الوظيفة حتى كاد أن لا يفارق بيت الخطابة، ولم يحج قط مع أنه كانت له أموال جزيلة‏.‏

وقف مدرسة بجيرون وسبعاً في الجامع‏.‏

ولما توفي ودفن بمدرسته التي بجيرون ولي الخطابة بعده أخ له وكان جاهلاً، ولم يستقر فيها وتولاها الكمال بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبي، وولي تدريس الغزالية الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام‏.‏

 محمد بن هبة الله بن جميل

الشيخ أبو نصر بن الشيرازي ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الكثير على الحافظ ابن عساكر وغيره، واشتغل في الفقه وأفتى ودرس بالشامية البرانية، وناب في الحكم عدة سنين، وكان فقيهاً عالماً فاضلاً ذكياً حسن الأخلاق عارفاً بالأخبار وأيام العرب والأشعار، كريم الطباع حميد الآثار، وكانت وفاته يوم الخميس الثالث من جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى‏.‏

 القاضي شمس الدين يحيى بن بركات

ابن هبة الله بن الحسن الدمشقي قاضيها بن سنا الدولة، كان عالماً عفيفاً فاضلاً عادلاً منصفاً نزهاً كان الملك الأشرف يقول‏:‏ ما ولي دمشق مثله، وقد ولي الحكم ببلده المقدس وناب بدمشق عن القضاة، ثم استقل بالحكم، وكانت وفاته يوم الأحد السادس ذي القعدة، وصلّي عليه بالجامع ودفن بقاسيون، وتأسف الناس عليه رحمه الله تعالى‏.‏ وتوفي بعده‏:‏

الشيخ شمس الدين بن الحوبي

القاضي زين الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي، عرف بابن الأستاذ الحلبي قاضيها بعد بهاء الدين بن شداد، وكان رئيساً عالماً عارفاً فاضلاً، حسن الخلق والسمت، وكان أبوه من الصالحين الكبار رحمهم الله تعالى‏.‏

 الشيخ الصالح المعمر

أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز البغدادي، ظهر سماعه من أبي الوقت في سنة خمس عشرة وستمائة فانهال الناس عليه يسمعون منه، وتفرد بالرواية عنه في الدنيا بعد الزبيدي وغيره، توفي ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

 الأمير الكبير المجاهد المرابط صارم الدين

خطلبا بن عبد الله مملوك شركس ونائبه بعده مع ولده على تنين وتلك الحصون، وكان كثير الصدقات، ودفن مع أستاذه بقباب شركس، وهو الذي بناها بعد أستاذه، وكان خيراً قليل الكلام كثير الغزو مرابطاً مدة سنين رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه كرمه‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ قضى الملك الجواد على الصفي بن مرزوق وصادره بأربعمائة ألف دينار، وحبسه بقلعة حمص، فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء‏.‏

وكان ابن مرزوق محسناً إلى الجواد قبل ذلك إحساناً كثيراً‏.‏

وسلط الجواد خادماً لزوجته يقال له الناصح فصادر الدماشقة وأخذ منهم نحواً من ستمائة ألف دينار، ومسك الأمير عماد الدين بن الشيخ الذي كان سبب تمليكه دمشق، ثم خاف من أخيه فخر الدين بن الشيخ الذي بديار مصر، وقلق من ملك دمشق‏.‏

وقال‏:‏ إيش أعمل بالملك‏؟‏ باز وكلب أحب إلي من هذا‏.‏

ثم خرج إلى الصيد وكاتب الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فتقايضا من حصن كيفا وسنجار وما تبع ذلك إلى دمشق، فملك الصالح دمشق ودخلها في مستهل جمادى الأولى من هذه السنة، والجواد بين يديه بالغاشية، وندم على ما كان منه، فأراد أن يستدرك الفائت فلم يتفق له، وخرج من دمشق والناس يلعنونه بوجهه، بسبب ما أسداه إليهم من المصادرات، وأرسل إليه الصالح أيوب ليرد إلى الناس أموالهم فلم يلتفت إليه، وسار وبقيت في ذمته‏.‏

ولما استقر الصالح أيوب في ملك مصر كما سيأتي حبس الناصح الخادم، فمات في أسوأ حالة، من القلة والقمل، جزاءً وفاقاً ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وفيها‏:‏ ركب الصالح أيوب من دمشق في رمضان قاصداً الديار المصرية ليأخذها من أخيه العادل لصغره، فنزل بنابلس واستولى عليها وأخرجها من يد الناصر داود، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ليقدم عليه ليكون في صحبته إلى الديار المصرية، وكان قد جاء إليه إلى دمشق ليبايعه فجعل يسوف به ويعمل عليه ويحالف الأمراء بدمشق ليكون ملكهم، ولا يتجاسر أحد من الصالح أيوب لجبروته أن يخبره بذلكوانقضت السنة وهو مقيم بنابلس يستعدي إليه وهو يماطله‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 جمال الدين الحصيري الحنفي

محمود بن أحمد العلامة شيخ الحنفية بدمشق، ومدرس النورية، أصله من قرية يقال لها حصير من معاملة بخارى، تفقه بها وسمع الحديث الكثير، وصار إلى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها، لا سيما في أيام المعظم، كان يقرأ عليه الجامع الكبير، وله عليه شرح، وكان يحترمه ويعظمه ويكرمه، وكان رحمه الله غزير الدمعة كثير الصدقات، عاقلاً نزهاً عفيفاً، توفي يوم الأحد ثامن صفر ودفن بمقابر الصوفية تغمده الله برحمته‏.‏

توفي وله تسعون سنة، وأول درسة بالنورية في سنة إحدى عشر وستمائة، بعد الشرف داود الذي تولاها بعد البرهان مسعود، وأول مدرسيها رحمهم الله تعالى الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ صدر الدين على بن حمويه، كان سبباً في ولاية الجواد دمشق‏.‏

ثم سار إلى مصر فلامه صاحبها العادل بن الكامل بن العادل‏.‏

فقال‏:‏ الآن أرجع إلى دمشق وآمر الجواد بالمسير إليك، على أن تكون له إسكندرية عوض دمشق، فإن امتنع عزلته عنها وكنت أنا نائبك فيها، فنهاه أخوه فخر الدين بن الشيخ عن تعاطي ذلك فلم يقبل، ورجع إلى دمشق فتلقاه الجواد إلى المصلى وأنزله عنده بالقلعة بدار المسرة‏.‏

وخادعه عن نفسه ثم دس إليه من قتله جهرة في صورة مستغيث به، واستحوذ على أمواله وحواصله، وكانت له جنازة حافلة ودفن بقاسيون‏.‏

 الوزير جمال الدين علي بن حديد

وزر للأشرف واستوزره الصالح أيوب أياماً، ثم مات عقب ذلك، كان أصله من الرقة، وكان له أملاك يسيرة يعيش منها‏.‏

ثم آل أمره أن وزر للأشرف بدمشق، وقد هجاه بعضهم وكانت وفاته بالجواليق في جمادى الآخرة، ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

 جعفر بن علي

ابن أبي البركات بن جعفر بن يحيى الهمداني، راوية السلفي، قدم إلى دمشق صحبة الناصر داود، وسمع عليه أهلها، وكانت وفاته بها ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى، وله تسعون سنة‏.‏

 الحافظ الكبير زكي الدين

أبو عبد الله بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الإشبيلي، أحد من اعتنى بصناعة الحديث وبرز فيه، وأفاد الطلبة، وكان شيخ الحديث بمشهد ابن عروة‏.‏

ثم سافر إلى حلب، فتوفي بحماه في رابع عشر رمضان من هذه السنة، وهو جد شيخنا الحافظ علم الدين بن القاسم بن محمد البرزالي، مؤرخ دمشق الذي ذيّل على الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ذيلت أنا على تاريخه بعون الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة

استهلت هذه السنة وسلطان دمشق نجم الدين الصالح أيوب بن الكامل مخيم عند نابلس، يستدعي عمه الصالح إسماعيل ليسير إلى الديار المصرية، بسبب أخذها من صاحبها العادل بن الكامل، وقد أرسل الصالح إسماعيل ولده وابن يغمور إلى صحبة الصالح أيوب، فهما ينفقان الأموال في الأمراء ويحلفانهم على الصالح أيوب للصالح إسماعيل‏.‏

فلما تم الأمر وتمكن الصالح إسماعيل من مراده أرسل إلى الصالح أيوب يطلب منه ولده ليكون عوضه ببعلبك، ويسير هو إلى خدمته، فأرسله إليه وهو لا يشعر بشيء مما وقع، وكل ذلك عن ترتيب أبي الحسن غزال المتطبب وزير الصالح - وهو الأمين واقف أمينية بعلبك - فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر هجم الملك الصالح إسماعيل وفي صحبته أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى دمشق، فدخلاها بغتة من باب الفراديس، فنزل الصالح إسماعيل بداره من درب الشعارين، ونزل صاحب حمص بداره‏.‏

وجاء نجم الدين بن سلامة فهنأ الصالح إسماعيل ورقص بين يديه وهو يقول‏:‏ إلى بيتك جئت‏.‏

وأصبحوا فحاصروا القلعة وبها المغيث عمر بن الصالح نجم الدين، ونقبوا القلعة من ناحية باب الفرج، وهتكوا حرمتها ودخلوها وتسلموها واعتقلوا المغيث في برج هنالك‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ واحترقت دار الحديث وما هنالك من الحوانيت والدور حول القلعة‏.‏

ولما وصل الخبر بما وقع إلى الصالح أيوب تفرق عنه أصحابه والأمراء خوفاً على أهاليهم من الصالح إسماعيل وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه وجاريته أم ولده خليل، وطمع فيه الفلاحون والفوارنة، وأرسل الناصر داود صاحب الكرك إليه من أخذه من نابلس مهاناً على بغلة بلا مهماز ولا مقدمة، فاعتقله عنده سبعة أشهر، وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه الصالح أيوب ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراج الصالح من سجنه والإفراج عنه وإطلاقه من الحبس يركب وينزل، فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر داود‏.‏

وبرز العادل من الديار المصرية إلى بلبيس قاصداً قتال الناصر داود، فاضطرب الجيش عليه واختلفت الأمراء، وقيدوا العادل واعتقلوه في خركاه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصر داود من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر‏.‏

قال الصالح أيوب‏:‏ فأجبت إلى ذلك مكرهاً، ولا تقدر على ما اشترط جميع ملوك الأرض، وسرنا فأخذته معي خائفاً أن تكون هذه الكائنة من المصريين مكيدة، ولم يكن لي به حاجة، وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الأمور ويخالف في الآراء السديدة‏.‏

فلما وصل الصالح إلى المصريين ملكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالماً مؤيداً منصوراً مظفراً محبوراً مسروراً، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فردها عليه ولم يقبلها منه‏.‏

واستقر ملكه بمصر‏.‏

وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم، فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقصدهم - وقد خرج الجواد للصيد - فأخذ البلد بغير شيء وصار الجواد إلى عانة‏.‏

ثم باعها من الخليفة بعد ذلك‏.‏

وفي ربيع الأول درّس القاضي الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد الجيلي بالشامية البرانية‏.‏ وفي يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر ولي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي خطابة جامع دمشق، وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم ببلد دمشق وغيرها، لأنه حالفه على الصالح أيوب‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي حزيران أيام المشمش جاء مطر عظيم هدم كثيرا من الحيطان وغيرها، وكنت يومئذ بالمزة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 صاحب حمص

الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، ولاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعاً وخمسين سنة، وكان من أحسن الملوك سيرة، طهّر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غاية الأمن والعدل، لا يتجاسر أحد من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه غاية الإهانة، وكانت ملوك بني أيوب يتقونه لأنه يرى أنه أحق بالأمر منهم، لأن جده هو الذي فتح مصر، وأول من ملك منهم، وكانت وفاته رحمه الله بحمص وعمل عزاءه بجامع دمشق عفا الله عنه بمنه‏.‏

 القاضي الخويي شمس الدين أحمد بن خليل

ابن سعادة جعفر الحويي قاضي القضاة بدمشق يومئذ، وكان عالماً بفنون كثيرة من الأصول والفروع وغير ذلك، وكانت وفاته يوم السبت بعد الظهر السابع من شعبان، وله خمس وخمسون سنة بالمدرسة العادلية، وكان حسن الأخلاق جميل المعاشرة، وكان يقول لا أقدر على إيصال المناصب إلى مستحقيها، له مصنفات منها عروض‏.‏

قال فيه أبو شامة‏:‏

أحمد بن الخليل أرشده الـ * ـله لما أرشد الخليل بن أحمد

ذاك مستخرج العروض وهـ * ـذا مظهر السر منه والعود أحمد

وقد ولي القضاء بعد رفيع الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل بن عبد الهادي الحنبلي مع تدريس العادلية، وكان قاضياً بعلبك‏.‏

فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدين الذي كان سامرياً فأسلم، وزر للصالح إسماعيل، واتفق هو وهذا القاضي على أكل أموال الناس بالباطل‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ ظهر منه سوء سيرة وعسف وفسق وجور ومصادرة في الأموال‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر غيره عنه أنه ربما حضر يوم الجمعة في المشهد الكمالي بالشباك وهو سكران، وأن قناني الخمر كانت تكون على بركة العادلية يوم السبت، وكان يعتمد في التركات اعتماداً سيئاً جداً، وقد عامله الله تعالى بنقيض مقصوده، وأهلكه الله على يدي من كان سبب سعادته، كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ سلم الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون لصاحب صيدا الفرنجي فاشتد الإنكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما، وولى الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الأبار‏.‏

ثم خرج الشيخان من دمشق فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية، فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والإكرام، وولاه خطابة القاهرة وقضاء مصر، واشتغل عليه أهلها فكان ممن أخذ عنه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمهما الله تعالى‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ قدم رسول من ملك التتار تولى بن جنكيز خان إلى ملوك الإسلام يدعوهم إلى طاعته ويأمرهم بتخريب أسوار بلدانهم‏.‏ وعنوان الكتاب‏:‏ ‏(‏من نائب رب السماء ماسح وجه الأرض ملك الشرق والغرب قان قان‏)‏‏.‏

وكان الكتاب مع رجل مسلم من أهل أصبهان لطيف الأخلاق، فأول ما ورد على شهاب الدين غازي بن العادل بميافارقين وقد أخبر بعجائب في أرضهم غريبة، منها أن في البلاد المتاخمة للسد أناسا أعينهم في مناكبهم، وأفواههم في صدورهم، يأكلون السمك وإذا رأوا أحداً من الناس هربوا‏.‏

وذكر أن عندهم بزراً ينبت الغنم يعيش الخروف منها شهرين وثلاثة، ولا يتناسل‏.‏

ومن ذلك أن بما زندران عيناً يطلع فيها كل ثلاثين سنة خشبة عظيمة مثل المنارة، فتقيم طول النهار فإذا غابت الشمس غابت في العين فلا ترى إلى مثل ذلك الوقت، وأن بعض الملوك احتال ليمسكوها بسلاسل ربطت فيها فغارت وقطعت تلك السلاسل، ثم كانت إذا طلعت ترى فيها تلك السلاسل وهي إلى الآن كذلك‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها قلت المياه من السماء والأرض، وفسد كثير من الزرع والثمار والله أعلم‏.‏

 من الأعيان والمشاهير‏:‏

 محيي الدين بن عربي

صاحب الفصوص وغيره، محمد بن علي بن محمد ابن عربي أبو عبد الله الطائي الأندلسي، طاف البلاد وأقام بمكة مدة، وصنف فيها كتابه المسمى ب‏(‏الفتوحات المكية‏)‏ في نحو عشرين مجلداً‏.‏

فيها ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف، وله كتابه المسمى ‏(‏بفصوص الحكم‏)‏ فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح، وله كتاب ‏(‏العبادلة‏)‏ وديوان شعر رائق، وله مصنفات أخر كثيرة جداً وأقام بدمشق مدة طويلة قبل وفاته، وكان بنو الزكي لهم عليه اشتمال وبه احتفال ولجميع ما يقوله احتمال‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل، وله شعر حسن وكلام طويل على طريق التصوف، وكانت له جنازة حسنة، ودفن بمقبرة القاضي محي الدين بن الزكي بقاسيون، وكانت جنازته في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة‏.‏

وقال ابن السبط‏:‏ كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم ويقول إنه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلاً في علم التصوف، وله تصانيف كثيرة‏.‏ ‏

 القاضي نجم الدين أبو العباس

أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الشافعي، المعروف بابن الحنبلي، كان شيخاً فاضلاً ديناً بارعاً في علم الخلاف، ويحفظ الجمع بين الصحيحين للحميدي، وكان متواضعاً حسن الأخلاق قد طاف البلدان يطلب العلم ثم استقر بدمشق ودرس بالفداوية والصارمية والشامية الجوانية وأم الصالح، وناب في الحكم عن جماعة من القضاة إلى أن توفي بها، وهو نائب الرفيع الجيلي، وكانت وفاته يوم الجمعة سادس شوال ودفن بقاسيون‏.‏

 ياقوت بن عبد الله أمين الدين الرولي

منسوب إلى بيت أتابك، قدم بغداد مع رسول صاحب الموصل لؤلؤ‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ اجتمعت به وهو شاب أديب فاضل، يكتب خطاً حسناً في غاية الجودة، وينظم شعراً جيداً، ثم روى عنه شيئاً من شعره‏.‏ قال وتوفي في جمادى الآخرة محبوساً‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة

فيها‏:‏ قصد الملك الجواد أن يدخل مصر ليكون في خدمة الصالح أيوب، فلما وصل إلى الرمل توهم منه الصالح أيوب وأرسل إليه كمال الدين ابن الشيخ ليقبض عليه، فرجع الجواد فاستجار بالناصر داود، وكان إذ ذاك بالقدس الشريف، وبعث منه جيشاً فالتقوا مع ابن الشيخ فكسروه وأسروه فوبخه الناصر داود ثم أطلقه، وأقام الجواد في خدمة الناصر حتى توهم منه فقيده وأرسله تحت الحوطة إلى بغداد، فأطلقه بطن من العرب عن قوة فلجأ إلى صاحب دمشق مدة، ثم انتقل إلى الفرنج، ثم عاد إلى دمشق فحبسه الصالح إسماعيل بعزتا إلى أن مات في سنة إحدى وأربعين كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ شرع الصالح أيوب في بناء المدارس بمصر، وبنى قلعة بالجزيرة غرم عليها شيئاً كثيراً من بيت المال، وأخذ أملاك الناس وخرب نيفاً وثلاثين مسجداً، وقطع ألف نخلة‏.‏ ‏

ثم أخربها الترك في سنة إحدى وخمسين كما سيأتي بيانه‏.‏

وفيها‏:‏ ركب الملك المنصور بن إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص ومعه الحلبيون، فاقتتلوا مع الخوارزمية بأرض حران، فكسروهم ومزقوهم كل ممزق، وعادوا منصورين إلى بلادهم، فاصطلح شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين مع الخوارزمية وآواهم إلى بلده ليكونوا من حزبه‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها كان دخول الشيخ عز الدين إلى الديار المصرية فأكرمه صاحبها وولاه الخطابة بالقاهرة وقضاء القضاة بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين المرقع ثم عزل نفسه مرتين وانقطع في بيته رحمه الله تعالى‏.‏

 قال‏:‏ وفيها‏:‏ توفي الشمس بن الخباز النحوي الضرير في سابع رجب‏.‏ والكمال بن يونس الفقيه في النصف من شعبان، وكانا فاضلي بلدهما في فنهما‏.‏

قلت أما‏:‏

 الشمس ابن الخباز

فهو أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي الضرير النحوي الموصلي المعروف بابن الخباز، اشتغل بعلم العربية وحفظ المفصل والإيضاح والتكملة والعروض والحساب، وكان يحفظ المجمل في اللغة وغير ذلك، وكان شافعي المذهب كثير النوادر والملح، وله أشعار جيدة، وكانت وفاته عاشر رجب وله من العمر خمسون سنة رحمه الله تعالى‏.‏ وأما‏:‏

 

 

الكمال بن يونس

فهو موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك العقيلي، أبو الفتح الموصلي شيخ الشافعية بها، ومدرس بعدة مدارس فيها، وكانت له معرفة تامة بالأصول والفروع والمعقولات والمنطق والحكمة، ورحل إليه الطلبة من البلدان، وبلغ ثمانياً وثمانين عاماً، وله شعر حسن‏.‏

فمن ذلك ما امتدح به البدر لؤلؤ صاحب الموصل وهو قوله‏:‏

لئن زينت الدنيا بما لك أمرها * فمملكة الدنيا بكم تتشرف

بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ * وسعيك مشكور وحكمك ينصف

كان مولده سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وتوفي للنصف من شعبان هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها توفي بدمشق‏:‏

 عبد الواحد الصوفي

الذي كان قساً راهباً في كنيسة مريم سبعين سنة، أسلم قبل موته بأيام‏.‏ ‏

ثم توفي شيخاً كبيراً بعد أن أقام بخانقاه السميساطية أياماً، ودفن بمقابر الصوفية، وكانت له جنازة حافلة حضرت دفنه والصلاة عليه رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو الفضل أحمد بن اسفنديار

ابن الموفق بن أبي علي البوسنجي الواعظ شيخ رباط الأرجوانية‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ كان جميل الصورة حسن الأخلاق كثير التودد والتواضع، متكلماً متفوهاً منطقياً حسن العبارة جيد الوعظ طيب الإنشاد عذب الإيراد، له نظم حسن‏.‏

ثم ساق عنه قصيدة يمدح بها الخليفة المستنصر

 أبو بكر محمد بن يحيى

ابن المظفر بن علم بن نعيم المعروف بابن الحبير السلامي، شيخ عالم فاضل، كان حنبلياً ثم صار شافعياً، ودرس بعدة مدارس ببغداد للشافعية، وكان أحد المعدلين بها، تولى مباشرات كثيرة، وكان فقيهاً أصولياً عالماً بالخلاف، وتقدم ببلده وعظم كثيراً، ثم استنابه ابن فضلان بدار الحريم‏.‏

ثم صار من أمره أن درس بالنظامية وخلع عليه ببغلة، وحضر عنده الأعيان، وما زال بها حتى توفي عن ثمانين سنة، ودفن بباب حرب‏.‏

 قاضي القضاة ببغداد

أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل بن علي الواسطي الشافعي، اشتغل ببغداد وحصل وأعاد في بعض المدارس‏.‏

ثم استنابه قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر في أيام الخليفة الظاهر بن الناصر‏.‏

ثم ولي قضاء القضاة مستقلاً، ثم ولي تدريس المستنصرية بعد موت أول من درس بها محيي الدين محمد بن فضلان‏.‏

ثم عزل عن ذلك كله وعن مشيخة بعض الربط‏.‏

ثم كانت وفاته في هذا العام، وكان فاضلاً ديناً متواضعاً رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة أربعين وستمائة

فيها‏:‏ توفي الخليفة المستنصر بالله وخلافة ولده المستعصم بالله، فكانت وفاة الخليفة أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، وله من العمر إحدى وخمسون سنة، وأربعة أشهر وسبعة أيام، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، ودفن بدار الخلافة‏.‏

ثم نقل إلى الترب من الرصافة‏.‏

وكان جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات، محسناً إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة في دار الخلافة، فكان يقف على حافتها ويقول‏:‏ أترى أعيش حتى أملأها، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول‏:‏ أترى أعيش حتى أنفقها كلها فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات‏.‏

وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الأربعين فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب، تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام وغيرهم، تقبل الله تعالى منه وجزاه خيراً‏.‏

وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحماماً ودار طب، وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافاً عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها‏.‏

ووقف فيها كتباً نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالاً لبغداد وسائر البلاد، وقد احترق في أول هذه السنة المشهدا لذي بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي، في حدود سنة خمسين وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه، وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له، وصنفوا فيه أخبار وأنشدوا أشعاراً كثيرة لا معنى لها‏.‏

وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له، فلا عين ولا أثر، ولو لم يبن لكان أجدر، وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكر بلاء بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم‏.‏ ‏

وكان المستنصر رحمه الله كريماً حليماً رئيساً متودداً إلى الناس، وكان جميل الصورة حسن الأخلاق بهي المنظر، عليه نور بيت النبوة رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

وحكى أنه اجتاز راكباً في بعض أزفة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى شيخاً كبيراً ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخرى‏.‏

فقال‏:‏ أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك‏؟‏ أو أنت محتاج تأخذ من المحلتين‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ كبير، وقد نزل بي الوقت وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام، فيشمت بي من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا يراني أحد‏.‏

فبكى الخليفة رحمه الله وأمر له بألف دينار، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحاً شديداً حتى قيل إنه انشق قلبه من شدة الفرح، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوماً‏.‏

ثم مات فخلف الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يترك وارثاً‏.‏

وقد أنفق منها ديناراً واحداً، فتعجب الخليفة من ذلك وقال‏:‏ شيء قد خرجنا عنه لا يعود إلينا، تصدقوا بها على فقراء محلته، فرحمه الله تعالى‏.‏

وقد خلف من الأولاد ثلاثة، اثنان شقيقان وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله، والأمير أبو القاسم عبد العزيز وأختهما من أم أخرى كريمة صان الله حجابها‏.‏

وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة أورد منها بن الساعي قطعة صالحة، ولم يستوزر أحداً بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة‏.‏

ثم كان بعده نصر الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد الناقد الذي كان أستاذ دار الخلافة والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

 خلافة المستعصم بالله

أمير المؤمنين وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار بأمر هولاكو ابن تولى ملك التتار بن جنكيز خان لعنهم الله، في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء بالله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الخليفة المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر‏.‏

وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولي الخلافة يتلو بعضهم بعضاً، ولم يتفق هذا لأحد قبل المستعصم، أن في نسبه ثمانية نسقاً ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد، وهو التاسع رحمه الله تعالى بمنه‏.‏ ‏

لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة أربعين وستمائة استدعى هو من التاج يومئذ بعد الصلاة فبويع بالخلافة، ولقب بالمستعصم، وله من الأمر يومئذ ثلاثون سنة وشهور، وقد أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حفظاً وتجويداً‏.‏

وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد أئمة الشافعية في زمانه، وقد أكرمه وأحسن إليه في خلافته، وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة حسن الأداء طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، وقد نظر في شيء من التفسير وحل المشكلات‏.‏

وكان مشهوراً بالخير مشكوراً مقتدياً بأبيه المستنصر جهده وطاقته، وقد مشت الأمور في أيامه على السداد والاستقامة بحمد الله‏.‏

وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل إقبال المستنصري، فبايعه أولاً بنو عمه وأهله من بني العباس، ثم أعيان الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من أولي الحل والعقد والعامة، وغيرهم وكان يوماً مشهوداً ومجمعاً محموداً ورأياً سعيداً وأمراً حميداً، وجاءت البيعة من سائر الجهات والأقطار والبلدان والأمصار، وخطب له في سائر البلدان، والأقاليم والرساتيق، وعلى سائر المنابر شرقاً وغرباً، بعداً وقرباً كما كان أبوه وأجداده، رحمهم الله أجمعين‏.‏

وفيها‏:‏ وقع من الحوادث أنه كان بالعراق وباء شديد في آخر أيام المستنصر وغلا السكر والأدوية فتصدق الخليفة المستنصر بالله رحمه الله بسكر كثير على المرضى، تقبل الله منه‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان أذن الخليفة المستعصم بالله لأبي الفرج عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - وكان شاباً ظريفاً فاضلاً - في الوعظ بباب البدرية، فتكلم وأجاد وأفاد وامتدح الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة، سردها ابن الساعي بكمالها، ومن يشابه أباه فما ظلم، والشبل في المخبر مثل الأسد‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين الحلبيين وبين الخوارزمية، ومع الخوارزمية شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين، فكسرهم الحلبيون كسرة عظيمة منكرة، وغنموا من أموالهم شيئاً كثيراً جداً، ونهبت نصيبين مرة أخرى، وهذه سابع عشر مرة نهبت في هذه السنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وعاد الغازي إلى ميا فارقين وتفرقت الخوارزمية يفسدون في الأرض صحبة مقدمهم بركات خان، لا بارك الله فيه، وقدم على الشهاب غازي منشور بمدينة خلاط فتسلمها وما فيها من الحواصل‏.‏

وفيها عزم الصالح أيوب صاحب مصر على دخول الشام فقيل له إن العساكر مختلفة فجهز عسكراً إليها وأقام هو بمصر يدير مملكتها‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 المستنصر بالله

أمير المؤمنين كما تقدم‏.‏ والحرمة المصونة الجليلة‏:‏

 خاتون بنت عز الدين مسعود

ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكية واقفة المدرسة الأتابكية بالصالحية، وكانت زوجة السلطان الملك الأشرف رحمه الله وفي ليلة وفاتها كانت وقفت مدرستها وتربتها بالجبل قاله أبو شامة‏:‏ ودفنت بها رحمها الله تعالى وتقبل منها‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة

فيها ترددت الرسل بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على أن يرد إليه ولده المغيث عمر بن الصالح أيوب المعتقل في قلعة دمشق، وتستقر دمشق في يد الصالح إسماعيل، فوقع الصلح على ذلك، وخطب للصالح أيوب بدمشق، فخاف الوزير أمين الدولة أبو الحسن غزال المسلماني، وزير الصالح إسماعيل من غائلة هذا الأمر، فقال لمخدومه‏:‏ لا ترد هذا الغلام لأبيه تخرج البلاد من يدك، هذا خاتم سليمان بيدك للبلاد، فعند ذلك أبطل ما كان وقع من الصلح ورد الغلام إلى القلعة، وقطعت الخطبة للصالح أيوب، ووقعت الوحشة بين الملكين، وأرسل الصالح أيوب إلى الخوارزمية يستحضرهم لحصار دمشق فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكانت الخوارزمية قد فتحوا في هذه السنة بلاد الروم وأخذوها من أيدي ملكها ابن علاء الدين، وكان قليل العقل يلعب بالكلاب والسباع، ويسلطها على الناس، فاتفق أنه عضه سبع فمات فتغلبوا على البلاد حينئذ‏.‏

وفيها‏:‏ احتيط على أعوان القاضي الرفيع الجيلي، وضرب بعضهم بالمقارع، وصودروا ورسم على القاضي الرفيع بالمدرسة المقدمية داخل باب الفراديس، ثم أخرج ليلاً وذهب به فسجن بمغارة أفقه من نواحي البقاع، ثم انقطع خبره‏.‏

وذكر أبو شامة‏:‏ أنه توفي، ومنهم من قال إنه ألقى من شاهق، ومنهم من قال خنق، وذلك كله بذي الحجة من هذه السنة‏.‏ ‏

وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين منه قرئ منشور ولاية القضاء بدمشق لمحي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي، بالشباك الكمالي من الجامع، كذا قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏.‏ وزعم السبط أن عزله إنما كان في السنة الآتية، وذكر أن سبب هلاكه أنه كتب إلى الملك الصالح يقول له‏:‏ إنه قد أورد إلى خزانته من الأموال ألف ألف دينار من أموال الناس‏.‏ فأنكر الصالح ذلك، ورد عليه الجواب أنه لم يرد سوى ألف ألف درهم، فأرسل القاضي يقول فأنا أحاقق الوزير، وكان الصالح لا يخالف الوزير، فأشار حينئذ على الصالح فعزله لتبرأ ساحة السلطان من شناعات الناس، فعزله وكان من أمره ما كان‏.‏

وفوض أمر مدارسه إلى الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فعين العادلية للكمال التفليسي، والعذراوية لمحي الدين بن الزكي الذي ولي القضاء بعده، والأمينية لابن عبد الكافي، والشامية البرانية للتقي الحموي، وغيب القاضي الرفيع وأسقط عدالة شهوده‏.‏

قال السبط‏:‏ أرسله الأمين مع جماعة على بغل بأكاف لبعض النصارى إلى مغارة أفقه في جبل لبنان من ناحية الساحل، فأقام بها أياماً ثم أرسل إليه عدلين من بعلبك ليشهدا عليه ببيع أملاكه من أمين الدولة، فذكرا أنهما شاهداه وعليه يخفيفة وقندورة، وأنه استطعمهما شيئاً من الزاد وذكر أن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً، فأطعماه من زوادتهما وشهدا عليه وانصرفا، ثم جاءه داود النصراني فقال له‏:‏ قم فقد أمرنا بحملك إلى بعلبك، فأيقن بالهلاك حينئذ، فقال‏:‏ دعوني أصلي ركعتين‏.‏

فقال له‏:‏ قم فقام يصلي فأطال الصلاة فرفسه النصراني فألقاه من رأس الجبل إلى أسفل الوادي الذي هناك، فما وصل حتى تقطع وحكي أنه تعلق ذيله بسن الجبل فما زال داود يرميه بالحجارة حتى ألقاه إلى أسفل الوادي، وذلك عند السقيف المطل على نهر إبراهيم‏.‏

قال السبط‏:‏ وقد كان فاسد العقيدة دهرياً مستهزئاً بأمور الشرع، يخرج إلى المجلس سكراناً ويحضر إلى الجمعة كذلك، وكانت داره كالحانات‏.‏

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال‏:‏ وأخذ الموفق الواسطي أحد أمنائه - وكان من أكبر البلايا - أخذ لنفسه من أموال الناس ستمائة ألف درهم، فعوقب عقوبة عظيمة حتى أخذت منه، وقد كسرت ساقاه ومات تحت الضرب، فألقي في مقابر اليهود والنصارى، وأكلته الكلاب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ شمس الدين أبو الفتوح

أسعد بن المنجى التنوخي المعري الحنبلي، قاضي حران قديماً، ثم قدم دمشق ودرس بالمسمارية وتولى خدماً في الدولة المعظمية، وكانت له رواية عن ابن صابر والقاضيين الشهرزوري وابن أبي عصرون، وكانت وفاته في سابع ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

 الشيخ الحافظ الصالح

تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر الصريفيني، كان يدري الحديث وله به معرفة جيدة، أثنى عليه أبو شامة وصلي عليه بجامع دمشق ودفن بقاسيون رحمه الله‏.‏

 واقف الكروسية

محمد بن عقيل بن كروس، جمال الدين محتسب دمشق، كان كيساً متواضعاً، توفي بدمشق في شوال، ودفن بداره التي جعلها مدرسة، وله دار حديث رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

 الملك الجواد يونس بن ممدود

ابن العادل أبي بكر بن أيوب الملك الجواد، وكان أبوه أكبر أولاد العادل، تقلبت به الأحوال وملك دمشق بعد عمه الكامل محمد بن العادل، وكان في نفسه جيداً محباً للصالحين، ولكن كان في بابه من يظلم الناس وينسب ذلك إليه، فأبغضته العامة وسبوه وألجؤوه إلى أن قايض بدمشق الملك الصالح أيوب بن الكامل إلى سنجار وحصن كيفا، ثم لم يحفظهما بل خرجتا عن يده، ثم آل به الحال إلى أن سجنه الصالح إسماعيل بحصن عزتا، حتى كانت وفاته في هذه السنة، ونقل في شوال إلى تربة المعظم بسفح قاسيون، وكان عنده ابن يغمور معتقلاً فحوله الصالح إسماعيل إلى قلعة دمشق، فلما ملكها الصالح أيوب نقله إلى الديار المصرية وشنقه مع الأمين غزال وزير الصالح إسماعيل، على قلعة القاهرة، جزاء على صنعهما في حق الصالح أيوب رحمه الله تعالى‏.‏

أما ابن يغمور فإنه عمل عليه حتى حول ملك دمشق إلى الصالح إسماعيل، وأما أمين الدولة فإنه منع الصالح من تسليم ولده عمر إلى أبيه فانتقم منهما بهذا، وهو معذور بذلك‏.‏

 مسعود بن أحمد بن مسعود

ابن مازه المحاربي أحد الفقهاء الحنفية الفضلاء، وله علم بالتفسير وعلم الحديث، ولديه فضل غزير، قدم بغداد صحبة رسول التتار للحج، فحبس مدة سنين ثم أفرج عنه، فحج ثم عاد، فمات ببغداد في هذه السنة، رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو الحسن علي بن يحيى بن الحسن

ابن الحسين بن علي بن محمد البطريق بن نصر بن حمدون بن ثابت الأسدي الحلي، ثم الواسطي، ثم البغدادي، الكاتب الشاعر الشيعي، فقيه الشيعة‏.‏

أقام بدمشق مدة وامتدح كثيراً من الأمراء والملوك، منهم الكامل صاحب مصر وغيره، ثم عاد إلى بغداد فكان يشغل الشيعة في مذهبهم، وكان فاضلاً ذكياً جيداً النظم والنثر، لكنه مخذول محجوب عن الحق‏.‏

وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من أشعاره الدالة على غزارة مادته في العلم والذكاء رحمه الله وعفا عنه‏.‏

 ثم دخلت سنة أثنين وأربعين وستمائة

فيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشؤوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده قبحه الله وإياهم‏.‏ وقد كان ابن العلقمي قبل هذه الوزارة أستاذ دار الخلافة، فلما مات نصر الدين محمد بن الناقد استوزر ابن العلقمي وجعل مكانه في الاستادارية الشيخ محيي الدين يوسف بن أبي الفرج بن الجوزي وكان من خيار الناس، وهو واقف الجوزية التي بالنشابين بدمشق تقبل الله منه‏.‏

وفيها‏:‏ جعل الشيخ شمس الدين علي بن محمد بن الحسين بن النيار مؤدب الخليفة شيخ الشيوخ ببغداد، وخلع عليه، ووكل الخليفة عبد الوهاب ابن المطهر وكالة مطلقة، وخلع عليه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق، فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والأموال والأقمشة والعساكر، فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك، والمنصور صاحب حمص، مع الفرنج واقتتلوا مع الخوارزمية قتالاً شديداً، فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة، هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤس أطلاب المسلمين، وكانت كوؤس الخمر دائرة بين الجيوش فنابت كوؤس المنون عن كوؤس الزرجون‏.‏

فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم، وخلقاً من أمراء المسلمين وبعثوا بالأسارى إلى الصالح أيوب بمصر، وكان يومئذ يوماً مشهوداً وأمراً محموداً ولله الحمد‏.‏

وقد قال بعض أمراء المسلمين‏:‏ قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح‏.‏

وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئاً كثيراً، وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها، فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعاً كثيرة، وكسر جسر باب توما فسار النهر فتراجع الماء حتى صار بحيرة من باب توما وباب السلامة، فغرق جميع ما كان بينهما من العمران، وافتقر كثير من الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 الملك المغيث عمر بن الصالح أيوب

كان الصالح إسماعيل قد أسره وسجنه في برج قلعة دمشق، حين أخذها في غيبة الصالح أيوب‏.‏

فاجتهد أبوه بكل ممكن في خلاصه فلم يقدر وعارضه فيه أمين الدولة غزال المسلماني، واقف المدرسة الأمينية التي ببعلبك، فلم يزل الشاب محبوساً في القلعة من سنة ثمان وثلاثين إلى ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر من هذه السنة، فأصبح ميتاً في محبسه غماً وحزناً، ويقال إنه قتل فالله أعلم‏.‏

وكان من خيار أبناء الملوك، وأحسنهم شكلاً، وأكملهم عقلاً‏.‏ ودفن عند جده الكامل في تربته شمالي الجامع، فاشتد حنق أبيه الصالح أيوب على صاحب دمشق‏.‏

شيخ الشيوخ بدمشق‏:‏

 تاج الدين أبو عبد الله بن عمر بن حمويه

أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات، ذكر فيه أصول وله السياسة الملوكية صنفها للكامل محمد وغير ذلك، وسمع الحديث وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل إنه لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب في سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، فقدم إلى ديار مصر وولى مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه رحمه الله تعالى‏.‏

 الوزير نصر الدين أبو الأزهر

أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الناقد البغدادي وزير المستنصر ثم ابنه المستعصم، كان من أبناء التجار، ثم توصل إلى أن وزر لهذين الخليفتين، وكان فاضلاً بارعاً حافظاً للقرآن كثير التلاوة، نشأ في حشمة باذخة، ثم كان في وجاهة هائلة، وقد أقعد في آخر أمره، وهو مع هذا في غاية الاحترام والإكرام‏.‏

وله أشعار حسنة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة، توفي في هذه السنة وقد جاوز الخمسين رحمه الله تعالى‏.‏

 نقيب النقباء خطيب الخطباء

وكيل الخلفاء أبو طالب الحسين بن أحمد بن علي بن أحمد بن معين بن هبة الله بن محمد بن علي ابن الخليفة المهتدي بالله العباسي، كان من سادات العباسيين وأئمة المسلمين، وخطباء المؤمنين، استمرت أحواله على السداد والصلاح، لم ينقطع قط عن الخطابة ولم يمرض قط حتى كانت ليلة السبت الثامن والعشرين من هذه السنة، قام في أثناء الليل لبعض حاجاته فسقط على أم رأسه، فسقط من فمه دم كثير وسكت فلم ينطق كلمة واحدة يومه ذلك إلى الليل، فمات وكانت له جنازة حافلة، رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة

وهي سنة الخوارزمية، وذلك أن الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر بعث الخوارزمية ومعهم ملكهم بركات خان في صحبة معين الدين ابن الشيخ فأحاطوا بدمشق يحاصرون عمه الصالح أبا الجيش صاحب دمشق، وحرق قصر حجاج، وحكر السماق، وجامع جراح خارج باب الصغير، ومساجد كثيرة‏.‏

ونصب المنجنيق عند باب الصغير وعند باب الجابية، ونصب من داخل البلد منجنيقان أيضاً، وترآى الفريقان وأرسل الصالح إسماعيل إلى الأمير معين الدين بن الشيخ بسجادة وعكاز وإبريق وأرسل يقول‏:‏

اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بمحاصرة الملوك‏.‏

فأرسل إليه المعين بزمر وجنك وغلالة حرير أحمر وأصفر، وأرسل يقول‏:‏

أما السجادة فإنها تصلح لي، وأما أنت فهذا أولى بك‏.‏

ثم أصبح ابن الشيخ فاشتد الحصار بدمشق، وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق قصر والده العادل، وامتد الحريق في زقاق الرمان إلى العقبية فأحرقت بأسرها، وقطعت الأنهار وغلت الأسعار، وأخيفت الطرق وجرى بدمشق أمور بشعة جداً، لم يتم عليها قط‏.‏

وامتد الحصار شهوراً من هذه السنة إلى جمادى الأولى، فأرسل أمين الدولة يطلب من ابن الشيخ شيئاً من ملابسه، فأرسل إليه بفرجية وعمامة وقميص ومنديل، فلبس ذلك الأمين وخرج إلى معين الدين، فاجتمع به بعد العشاء طويلاً، ثم عاد ثم خرج مرة أخرى‏.‏

فاتفق الحال على أن يخرج الصالح إسماعيل إلى بعلبك ويسلم دمشق إلى الصالح أيوب، فاستبشر الناس بذلك وأصبح الصالح إسماعيل خارجاً إلى بعلبك ودخل معين الدين ابن الشيخ فنزل في دار أسامة، فولي وعزل وقطع ووصل، وفوض قضاء القضاة إلى صدر الدين بن سني الدولة وعزل القاضي محي الدين بن الزكي، واستناب ابن سني الدولة التفليسي الذي ناب لابن الزكي والفرز السنجاري، وأرسل معين الدين ابن الشيخ أمين الدولة غزال ابن المسلماني وزير الصالح إسماعيل تحت الحوطة إلى الديار المصرية‏.‏

وأما الخوارزمية فإنهم لم يكونوا حاضرين وقت الصلح، فلما علموا بوقوع الصلح غضبوا وساروا نحو داريا فنهبوها وساقوا نحو بلاد الشرق، وكاتبوا الصالح إسماعيل فحالفوه على الصالح أيوب، ففرح بذلك ونقض الصلح الذي كان وقع منه‏.‏

وعادت الخوارزمية فحاصروا دمشق، وجاء إليهم الصالح إسماعيل من بعلبك فضاق الحال على الدماشقة، فعدمت الأموال وغلت الأسعار جداً، حتى إنه بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل وقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة وبيعت الأملاك بالدقيق، وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار فكانوا يلقون موتاهم في الآبار حتى أنتنت المدينة وضجر الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏

وفي هذه الأيام توفي الشيخ تقي الدين ابن الصلاح شيخ دار الحديث وغيرها من المدارس، فما أخرج من باب الفرج إلا بعد جهد جهيد، ودفن بالصوفية رحمه الله‏.‏

قال ابن السبط‏:‏ ومع هذا كانت الخمور دائرة والفسق ظاهراً، والمكوس بحالها‏.‏ وذكر الشيخ شهاب الدين‏:‏ أن الأسعار غلت في هذه السنة جداً، وهلك الصعاليك بالطرقات، كانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابة ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها، كالدجاج‏.‏

قال‏:‏ وأنا شاهدت ذلك‏.‏

وذكر تفاصيل الأسعار وغلاءها في الأطعمة وغيرها، ثم زال هذا كله في آخر السنة بعد عيد الأضحى ولله الحمد‏.‏

ولما بلغ الصالح أيوب أن الخوارزمية قد مالؤا عليه وصالحوا عمه الصالح إسماعيل، كاتب الملك المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، فاستماله إليه وقوي جانب نائب دمشق معين الدين حسين ابن الشيخ، ولكنه توفي في رمضان من هذه السنة كما سيأتي في الوفيات‏.‏

ولما رجع المنصور صاحب حمص عن موالاة الصالح إسماعيل شرع في جمع الجيوش من الحلبيين والتركمان والأعراب لاستنقاذ دمشق من الخوارزمية، وحصارهم إياها، فبلغ ذلك الخوارزمية فخافوا من غائلة ذلك، وقالوا‏:‏ دمشق ما تفوت، والمصلحة قتاله عند بلده‏.‏

فساورا إلى بحيرة حمص، وأرسل الناصر داود جيشه إلى الصالح إسماعيل مع الخوارزمية، وساق جيش دمشق فانضافوا إلى صاحب حمص، والتقوا مع الخوارزمية عند بحيرة حمص، وكان يوماً مشهوداً، قتل فيه عامة الخوارزمية، وقتل ملكهم بركات خان، وجيء برأسه على رمح، فتفرق شملهم وتمزقوا شذر مذر‏.‏

وساق المنصور صاحب حمص إلى بعلبك فتسلمها الصالح أيوب، وجاء إلى دمشق فنزل ببستان سامة خدمة للصالح أيوب، ثم حدثته نفسه بأخذها فاتفق مرضه، فمات رحمه الله في السنة الآتية، ونقل إلى حمص، فكانت مدة ملكه بعد أبيه عشر سنين‏.‏

وقام من بعده فيها ابنه الملك الأشرف مدة سنتين، ثم أخذت منه على ما سيأتي وتسلم نواب الصالح أيوب بعلبك وبصرى، ولم يبق بيد الصالح إسماعيل بلد يأوي إليه ولا أهل ولا ولد ولا مال؛ بل أخذت جميع أمواله ونقلت عياله تحت الحوطة إلى الديار المصرية‏.‏

وسار هو فاستجار بالملك الناصر بن العزيز بن الظاهر غازي صاحب حلب، فآواه وأكرمه واحترمه، وقال الأتابك لؤلؤ الحلبي لابن أستاذه الناصر، وكان شاباً صغيراً‏:‏ انظر إلى عاقبة الظلم‏.‏

وأما الخوارزمية فإنهم ساروا إلى ناحية الكرك فأكرمهم الناصر داود صاحبها، وأحسن إليهم وصاهرهم وأنزلهم بالصلت فأخذوا معها نابلس، فأرسل إليهم الصالح أيوب جيشاً مع فخر الدين ابن الشيخ فكسرهم على الصلت وأجلاهم عن تلك البلاد، وحاصر الناصر بالكرك وأهانه غاية الإهانة، وقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية فدخل دمشق في أبهة عظيمة، وأحسن إلى أهلها، وتصدق على الفقراء والمساكين، وسار إلى بعلبك وإلى بصرى وإلى صرخد، فتسلمها من صاحبها عز الدين أيبك المعظمي، وعوضه عنها ثم عاد إلى مصر مؤيداً منصوراً‏.‏ وهذا كله في السنة الآتية‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ظهر ببلاد خوزستان على شق جبل داخله من الأبنية الغريبة العجيبة ما يحار فيه الناظر، وقد قيل‏:‏ إن ذلك من بناء الجن‏.‏

وأورد صفته ابن الساعي في تاريخه‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 الشيخ تقي الدين ابن الصلاح

عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الإمام العلامة، مفتي الشام ومحدثها، الشهرزوري ثم الدمشقي، سمع الحديث ببلاد الشرق وتفقه هنالك بالموصل وحلب وغيرها، وكان أبوه مدرساً بالأسدية التي بحلب، وواقفها أسد الدين شيركوه ابن شاذي، وقدم هو الشام وهو في عداد الفضلاء الكبار‏.‏

وأقام بالقدس مدة ودرس بالصلاحية، ثم تحول منه إلى دمشق، ودرس بالرواحية ثم بدار الحديث الأشرفية، وهو أول من وليها من شيوخ الحديث، وهو الذي صنف كتاب وقفها‏.‏

ثم بالشامية الجوانية، وقد صنف كتباً كثيرة مفيدة في علوم الحديث والفقه، وله تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها‏.‏

وكان ديناً زاهداً ورعاً ناسكاً على طريق السلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين، مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة، ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت وفاته بمنزله في دار الحديث الأشرفية ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين وستمائة‏.‏

وصلّي عليه بجامع دمشق وشيعه الناس إلى داخل باب الفرج، ولم يمكنهم البروز لظاهره لحصار الخوارزمية، وما صحبه إلى جبانة الصوفية إلا نحو العشرة رحمه الله وتغمده برضوانه‏.‏

وقد أثنى عليه القاضي شمس الدين بن خلكان، وكان من شيوخه‏.‏

قال السبط‏:‏ أنشدني الشيخ تقي الدين من لفظه رحمه الله‏:‏

احذر من الواوات أربعة * فهن من الحتوف

واو الوصية والوديعة * والوكالة والوقوف

وحكى ابن خلكان عنه أنه قال‏:‏ ألهمت في المنام هؤلاء الكلمات‏:‏ ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك فإن لكل يوم رزقاً جديداً، والإلحاح في الطلب يذهب البهاء، وما أقرب الصنيع من الملهوف، وربما كان العسر نوعاً من آداب الله، والحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة قبل أن تدرك، فإنك ستنالها في أوانها، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعاً، ويغشاك القنوط‏.‏

 ابن النجار الحافظ صاحب التاريخ

محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن ابن النجار، أبو عبد الله البغدادي الحافظ الكبير، سمع الكثير ورحل شرقاً وغرباً، ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمسة عشر سنة، والقراءات وقرأ بنفسه على المشايخ كثيراً حتى حصل نحواً من ثلاثة آلاف شيخ، من ذلك نحو من أربعمائة امرأة، وتغرب ثمانياً وعشرين سنة‏.‏

ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياء كثيرة، من ذلك ‏(‏القمر المنير في المسند الكبير‏)‏، يذكر لكل صحابي ما روى‏.‏

و‏(‏كنز الأيام‏)‏ في معرفة السنن والأحكام، و‏(‏المختلف والمؤتلف‏)‏، و‏(‏السابق واللاحق‏)‏ و‏(‏المتفق والمفترق‏)‏ وكتاب ‏(‏الألقاب‏)‏، و‏(‏نهج الإصابة في معرفة الصحابة‏)‏، و‏(‏الكافي‏)‏ في أسماء الرجال، وغير ذلك مما لم يتم أكثره وله كتاب ‏(‏الذيل‏)‏ على تاريخ مدينة السلام، في ستة عشر مجلداً كاملاً‏.‏

وله أخبار مكة ولمدينة وبيت المقدس وغرر الفوائد في خمس مجلدات، وأشياء كثيرة جداً سردها ابن الساعي في ترجمته، وذكر أنه لما عاد إلى بغداد عرض عليه الإقامة في المدارس فأبى وقال‏:‏ معي ما أستغني به عن ذلك فأشتري جارية وأولدها وأقام برهة ينفق مدة على نفسه من كيسه‏.‏

ثم احتاج إلى أن نزل محدثاً في جماعة المحدثين بالمدرسة المستنصرية حين وضعت‏.‏

ثم مرض شهرين وأوصى إلى ابن الساعي في أمر تركته وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس من شعبان من هذه السنة، وله من العمر خمس وسبعون سنة وصلّي عليه بالمدرسة النظامية، وشهد جنازته خلق كثير، وكان ينادي حول جنازته هذا حافظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان ينفي الكذب عنه‏.‏

ولم يترك وارثاً، وكانت تركته عشرين ديناراً وثياب بدنه، وأوصى أن يتصدق بها، ووقف خزانتين من الكتب بالنظامية تساوي ألف دينار، فأمضى ذلك الخليفة المستعصم، وقد أثنى عليه الناس ورثوه بمراث كثيرة، سردها ابن الساعي في آخر ترجمته‏.‏ ‏

 الحافظ ضياء الدين المقدسي

ابن الحافظ محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل سمع الحديث الكثير وكتب كثيراً وطوف وجمع وصنف وألف كتباً مفيدة حسنة كثيرة الفوائد، من ذلك كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏ ولم يتمه، وكتاب ‏(‏المختارة‏)‏ وفيه علوم حسنة حديثية، وهي أجود من ‏(‏مستدرك الحاكم‏)‏ لو كمل، وله ‏(‏فضائل الأعمال‏)‏ وغير ذلك من الكتب الحسنة الدالة على حفظه واطلاعه وتضلعه من علوم الحديث متناً وإسناداً‏.‏

وكان رحمه الله في غاية العبادة والزهادة والورع والخير، وقد وقف كتباً كثيرة عظيمة لخزانة المدرسة الضيائية التي وقفها على أصحابهم من المحدثين والفقهاء، وقد وقفت عليها أوقاف أخر كثيرة بعد ذلك‏.‏

 الشيخ علم الدين أبو الحسن السخاوي

علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمذاني المصري، ثم الدمشقي شيخ القراء بدمشق، ختم عليه ألوف من الناس، وكان قد قرأ على الشاطبي وشرح قصيدته، وله شرح المفصل وله تفاسير وتصانيف كثيرة، ومدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكانت له حلقة بجامع دمشق، وولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح، وبها كان مسكنه وبه توفي ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون‏.‏

وذكر القاضي ابن خلكان أن مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وذكر من شعره قوله‏:‏

قالوا غدا نأتي ديار الحمى * وينزل الركب بمغناهم

وكل من كان مطيعاً لهم * أصبح مسرورا بلقياهم

قلت فلي ذنب فما حيلتي * بأي وجه أتلقاهم

قالوا أليس العفو من شأنهم * لا سيما عمن ترجاهم

 ربيعة خاتون بنت أيوب

أخت السلطان صلاح الدين، زوجها أخوها أولاً بالأمير سعد الدين مسعود بن معين الدين وتزوج هو بأخته عصمة الدين خاتون، التي كانت زوجة الملك نور الدين واقفة الخاتونية الجوانية، والخانقاه البرانية‏.‏ ‏‏

ثم لما مات الأمير سعد الدين زوجها من الملك مظفر الدين صاحب إربل، فأقامت عنده بإربل أزيد من أربعين سنة حتى مات‏.‏

ثم قدمت دمشق فسكنت بدار العقيقي حتى كانت وفاتها في هذه السنة وقد جاوزت الثمانين، ودفنت بقاسيون، وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي، وكانت فاضلة، ولها تصانيف، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة‏.‏

ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى وهي الآن شرقي الرباط الناصري‏.‏

ثم لما ماتت الخاتون وقعت العالمة بالمصادرات وحبست مدة ثم أفرح عنها وتزوجها الأشرف صاحب حمص، وسافرت معه إلى الرحبة وتل راشد، ثم توفيت في سنة ثلاث وخمسين، ووجد لها بدمشق ذخائر كثيرة وجواهر ثمينة، تقارب ستمائة ألف درهم، غير الأملاك والأوقاف رحمها الله تعالى‏.‏

 معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ

وزير الصالح نجم الدين أيوب، أرسله إلى دمشق فحاصرها مع الخوارزمية أول مرة حتى أخذها من يد الصالح إسماعيل، وأقام بها نائباً من جهة الصالح أيوب‏.‏

ثم مالأ الخوارزمية مع الصالح إسماعيل عليه فحصروه بدمشق، ثم كانت وفاته في العشر الأخر من رمضان هذه السنة، عن ست وخمسين سنة، فكانت مدة ولايته بدمشق أربعة أشهر ونصف، وصلّي عليه بجامع دمشق، ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين‏.‏

 

وفيها‏:‏ كانت وفاة وقاف القليجية للحنفية

وهو الأمير‏:‏

 سيف الدين بن قلج

ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة، التي كانت سكنه بدار فلوس تقبل الله تعالى منه‏.‏

وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله بن الشيخ أبي عمر رحمه الله‏.‏

والسيف أحمد بن عيسى بن الإمام موفق الدين بن قدامة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إمام الكلاسة الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن أبي جعفر مسند وقته، وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحاً رحمه الله تعالى‏.‏

والمحدثان الكبيران الحافظان المفيدان شرف الدين أحمد بن الجوهري وتاج الدين عبد الجليل الأبهري‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة

فيها‏:‏ كسر المنصور الخوارزمية عند بحيرة حمص واستقرت يد نواب الصالح أيوب على دمشق وبعلبك وبصرى‏.‏

ثم في جمادى الآخرة كسر فخر الدين بن الشيخ الخوارزمية على الصلت كسرت فرق بقية شملهم‏.‏

ثم حاصر الناصر بالكرك ورجع عنه إلى دمشق‏.‏

وقدم الصالح أيوب إلى دمشق في ذي القعدة فأحسن إلى أهلها وتسلم هذه المدن المذكورة، وانتزع صرخد من يد عز الدين أيبك، وعوضه عنها، وأخذ الصلت من الناصر داود بن المعظم وأخذ حصن الصبية من السعيد بن العزيز بن العادل، وعظم شأنه جداً، وزار في رجوعه بيت المقدس وتفقد أحواله وأمر بإعادة أسواره أن تعمر كما كانت في الدولة الناصرية، فاتح القدس، وأن يصرف الخراج وما يتحصل من غلات بيت المقدس في ذلك‏.‏

وإن عاز شيئاً صرفه من عنده‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت الرسل من عند البابا الذي للنصارى تخبر بأنه قد أباح دم الأبدور ملك الفرنج لتهاونه في قتال المسلمين، وأرسل طائفة من عنده ليقتلوه، فلما انتهوا إليه كان استعد لهم وأجلس مملوكاً له على السرير فاعتقدوه الملك فقتلوه، فعند ذلك أخذهم الأبدور فصلبهم على باب قصره بعد ما ذبحهم وسلخهم وحشى جلودهم تبناً، فلما بلغ ذلك البابا أرسل إليه جيشاً كثيفاً لقتاله فأوقع الله الخلف بينهم بسبب، ذلك وله الحمد والمنة‏.‏

وفيها‏:‏ هبت رياح عاصفة شديدة بمكة في يوم الثلاثاء من عشر ربيع الآخر، فألقت ستارة الكعبة المشرفة، وكانت قد عتقت، فإنها من سنة أربعين لم تجدد لعدم الحج في تلك السنين من ناحية الخليفة، فما سكنت الريح إلا والكعبة عريانة قد زال عنها شعار السواد‏.‏

وكان هذا فألاً على زوال دولة بني العباس، ومنذراً بما سيقع بعد هذا من كائنة التتار لعنهم الله تعالى‏.‏

فاستأذن نائب اليمن عمر بن سول شيخ الحرم العفيف بن منعة في أن يكسو الكعبة، فقال‏:‏ لا يكون هذا إلا من مال الخليفة، ولم يكن عنده مال فاقترض ثلاثمائة دينار واشترى ثياب قطن وصبغها سواداً وركب عليها طرازاتها العتيقة وكسى بها الكعبة ومكثت الكعبة ليس عليها كسوة إحدى وعشرين ليلة‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت دار الكتب التي أنشأها الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي بدار الوزارة، وكانت في نهاية الحسن، ووضع فيها من الكتب النفيسة والنافعة شيء كثير، وامتدحها الشعراء بأبيات وقصائد حساناً وفي أواخر ذي الحجة طهر الخليفة المستعصم بالله ولديه الأميرين أبا العباس أحمد، وأبا الفضائل عبد الرحمن، وعملت ولائم فيها كل أفراح ومسرة، لا يسمع بمثلها من أزمان متطاولة، وكان ذلك وداعاً لمسرات بغداد وأهلها في ذلك الزمان‏.‏

وفيها‏:‏ احتاط الناصر داود صاحب الكرك على الأمير عماد الدين داود بن موسك بن حسكو، وكان من خيار الأمراء الأجواد واصطفى أمواله كلها وسجنه عنده في الكرك، فشفع فيه فخر الدين ابن الشيخ لما كان محاصره في الكرك فأطلقه، فخرجت في حلقه جراحة فبطها فمات، ودفن عند قبر جعفر والشهداء بمؤتة رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ توفي ملك الخوارزمية قبلاً بركات خان لما كسرت أصحابه عند بحيرة حمص كما تقدم ذكره‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 الملك المنصور

ناصر الدين إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص بدمشق، بعد أن سلم بعلبك للصالح أيوب، ونقل إلى حمص، وكان نزوله أولاً ببستان أسامة فلما مرض حمل إلى الدهشة بستان الأشرف بالنيرب فمات فيه‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 الصائن محمد بن حسان

ابن رافع العامري الخطيب، وكان كثير السماع مسنداً، وكانت وفاته بقصر حجاج رحمه الله تعالى‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 الفقيه العلامة محمد بن محمود بن عبد المنعم

المرامي الحنبلي وكان فاضلاً ذا فنون، أثنى عليه أبو شامة‏.‏

قال‏:‏ صحبته قديما ولم يترك بعده بدمشق مثله في الحنابلة‏.‏

وصُلي عليه بجامع دمشق، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله‏.‏

 والضياء عبد الرحمن الغماري

المالكي الذي ولي وظائف الشيخ أبي عمرو ابن الحاجب حين خرج من دمشق سنة ثمان وثلاثين، وجلس في حلقته ودرس مكانه بزاوية المالكية، والفقيه تاج الدين إسماعيل بن جميل بحلب، وكان فاضلاً ديناً سليم الصدر، رحمه الله‏.‏‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة

فيها‏:‏ كان عود السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل من الشام إلى الديار المصرية، وزار في طريقه بيت المقدس وفرق في أهله أموالاً كثيرة، وأمر بإعادة سوره كما كان في أيام عم أبيه الملك الناصر فاتح القدس‏.‏

ونزل الجيوش لحصار الفرنج، ففتحت طبرية في عاشر صفر، وفتحت عسقلان في أواخر جمادى الآخرة، وفي رجب عزل الخطيب عماد الدين داود بن خطيب بيت الآبار عن الخطابة بجامع الأموي، وتدريس الغزالية، وولي ذلك للقاضي عماد الدين بن عبد الكريم بن الحرستاني شيخ دار الحديث بعد ابن الصلاح‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الصالح أيوب يطلب جماعة من أعيان الدماشقة اتهموا بممالأة الصالح إسماعيل، منهم القاضي محي الدين بن الزكي، وبنو صصرى، وابن العماد الكاتب، والحليمي مملوك الصالح إسماعيل، والشهاب غازي والي بصرى، فلما وصلوا إلى مصر لم يكن إليهم شيء من العقوبات والإهانة؛ بل خلع على بعضهم وتركوا باختيارهم مكرمين‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 الحسين بن الحسين بن علي

ابن حمزة العلوي الحسيني، أبو عبد الله الأفساسي النقيب قطب الدين، أصله من الكوفة، وأقام ببغداد، وولي النقابة، ثم اعتقل بالكوفة وكان فاضلاً أديباً شاعراً مطبقاً‏.‏

أورد له ابن الساعي أشعاراً كثيرة رحمه الله‏.‏

 الشلوبين النحوي

هو عمر بن محمد بن عبد الله الأزدي، أبو علي الأندلسي الأشبيلي المعروف‏:‏ بالشلوبين‏.‏

وهو بلغة الأندلسيين الأبيض الأشقر‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ختم به أئمة النحو، وكان فيه تغفل، وذكر له شعراً ومنصفات منها‏:‏ ‏(‏شرح الجزولية‏)‏ وكتاب ‏(‏التوطئة‏)‏ وأرخ وفاته بهذه السنة‏.‏ وقد جاوز الثمانين رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

 الشيخ علي المعروف بالحريري

أصله من قرية بسر شرقي ذرع، وأقام بدمشق مدة يعمل صنعة الحرير، ثم ترك ذلك وأقبل يعمل الفقيري على يد الشيخ علي المغربل، وابتنى له زاوية على الشرف القبلي، وبدرت منه أفعال أنكرها عليه الفقهاء، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية وغيرهم‏.‏

فلما كانت الدولة الأشرفية حبس في قلعة عزتا مدة سنين، ثم أطلقه الصالح إسماعيل واشترط عليه أن لا يقيم بدمشق، فلزم بلده بسر مدة حتى كانت وفاته في هذه السنة‏.‏

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في ‏(‏الذيل‏)‏‏:‏ وفي رمضان أيضاً توفي الشيخ على المعروف بالحريري المقيم بقرية بسر في زاويته، وكان يتردد إلى دمشق، وتبعه طائفة من الفقراء وهم المعروفون‏:‏ بأصحاب الحريري أصحاب المنافي للشريعة، وباطنهم شر من ظاهرهم، إلا من رجع إلى الله منهم‏.‏

وكان عند هذا الحريري من الاستهزاء بأمور الشريعة والتهاون فيها من إظهار شعائر أهل الفسوق والعصيان شيء كثير، وانفسد بسببه جماعة كبيرة من أولاد كبراء دمشق، وصاروا على زي أصحابه، وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار، يجمع مجلسه الغنا الدائم والرقص والمردان، وترك الإنكار على أحد فيما يفعله، وترك الصلوات وكثرت النفقات، فأضل خلقاً كثيراً وأفسد جماً غفيراً، ولقد أفتى في قتله مراراً جماعة من علماء الشريعة، ثم أراح الله تعالى منه‏.‏ هذا لفظه بحروفه‏.‏

واقف العزية الأمير عز الدين أيبك

أستاذ دار المعظم، كان من العقلاء الأجواد الأمجاد، استنابه المعظم على صرخد وظهرت منه نهضة وكفاية وسداد، ووقف العزيتين الجوانية والبرانية، ولما أخذ منه الصالح أيوب صرخد عوضه عنها وأقام بدمشق، ثم وشي عليه بأنه يكاتب الصالح إسماعيل فاحتيط عليه وعلى أمواله وحواصله، فمرض وسقط إلى الأرض، وقال‏:‏ هذا آخر عهدي‏.‏

ولم يتكلم حتى مات ودفن بباب النصر بمصر رحمه الله تعالى، ثم نقل إلى تربته التي فوق الوراقة‏.‏

وإنما أرخ السبط وفاته في سنة سبع وأربعين، فالله أعلم‏.‏

 

 الشهاب غازي بن العادل

صاحب ميافارقين وخلاط وغيرهما من البلدان، كان من عقلاء بني أيوب وفضلائهم، وأهل الديانة منهم، ومما أنشد قوله‏:‏

ومن عجب الأيام أنك جالس * على الأرض في الدنيا وأنت تسير

فسيرك يا هذا كسير سفينة * بقوم جلوس والقلوع تطير

 ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة

‏:‏ فيها‏:‏ قدم السلطان الصالح نجم الدين من الديار المصرية إلى دمشق، وجهز الجيوش والمجانيق إلى حمص، لأنه كان صاحبها الملك الأشرف بن موسى بن المنصور بن أسد الدين قد قايض بها إلى تل باشر لصاحب حلب الناصر يوسف بن العزيز، ولما علمت الحلبيون بخروج الدماشقة، برزوا أيضاً في جحفل عظيم ليمنعوا حمص منهم‏.‏

واتفق الشيخ نجم الدين البادزاي مدرس النظامية ببغداد في رسالة فأصلح بين الفريقين، ورد كلاً من الفئتين إلى مستقرها ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده علي دفعه عنه لما أراد به من الفاحشة، فصلب الغلام مسمراً، وكان شاباً حسناً جداً فتأسف الناس له لكونه صغيراً ومظلوماً وحسناً، ونظموا فيه قصائد، وممن نظم فيه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في ‏(‏الذيل‏)‏، وقد أطال قصته جداً‏.‏

وفيها‏:‏ سقطت قنطرة رومية قديمة البناء بسوق الدقيق من دمشق، عند قصر أم حكيم، فتهدم بسببها شيء كثير من الدور والدكاكين، وكان سقوطها نهاراً‏.‏

وفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من رجب وقع حريق بالمنارة الشرقية، فأحرق جميع حشوها، وكانت سلالمها سقالات من خشب، وهلك للناس ودائع كثيرة كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الحمد‏.‏

وقدم السلطان بعد أيام إلى دمشق فأمر بإعادتها كما كانت‏.‏

قلت‏:‏ ثم احترقت وسقطت بالكلية بعد سنة أربعين وسبعمائة، وأعيدت عمارتها أحسن مما كانت ولله الحمد‏.‏

وبقيت حينئذ المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، كما نطق به الحديث في نزول عيسى عليه السلام عليها، كما سيأتي بيانه وتقريره في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم عاد السلطان الصالح أيوب مريضاً في محفة إلى الديار المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هو فيه عن أمره بقتل أخيه العادل أبي بكر بن الكامل الذي كان صاحب الديار المصرية بعد أبيه، وقد كان سجنه سنة استحوذ على مصر، فلما كان في هذه السنة في شوالها أمر بخنقه فخنق بتربة شمس الدولة، فما عمر بعده إلا إلى النصف من شعبان في العام القابل في أسوأ حال، وأشد مرض، فسبحان من له الخلق والأمر‏.‏

 وفيها‏:‏ كانت وفاة قاضي القضاة بالديار المصرية‏:‏

 فضل الدين الخونجي

الحكيم المنطقي البارع في ذلك، وكان مع ذلك جيد السيرة في أحكامه‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ أثنى عليه غير واحد‏.‏

علي بن يحيى جمال الدين أبو الحسن المحرمي

كان شاباً فاضلاً أديباً شاعراً ماهراً، صنف كتاباً مختصراً وجيزاً جامعاً لفنون كثيرة في الرياضة والعقل وذم الهوى، وسماه‏:‏ ‏(‏نتائج الأفكار‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فيه من الكلم المستفادة الحكمية‏:‏ السلطان إمام متبوع، ودين مشروع، فإن ظلم جارت الحكام لظلمه، وإن عدل لم يجر أحد في حكمه، من مكنه الله في أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الأمانة، و يخلص الديانة، ويجمل السريرة، ويحسن السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب الفقر، ويهلك الأمم‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ معارضة الطبيب توجب التعذيب، رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة، سمين الغضب مهزول، ووالي الغدر معزول، قلوب الحكماء تستشف الأسرار من لمحات الأبصار، ارض من أخيك في ولايته بعشر ما كنت تعهده في مودته، التواضع من مصائد الشرف‏.‏

ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز، ما أقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم‏.‏

وذكر في غضون كلامه‏:‏ أن خادماً لعبد الله بن عمر أذنب فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه، فقال‏:‏

يا سيدي، أما لك ذنب تخاف من الله فيه ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ بالذي أمهلك لما أمهلتني، ثم أذنب العبد ثانياً فأراد عقوبته فقال له مثل ذلك فعفا عنه، ثم أذنب الثالثة فعاقبه وهو لا يتكلم فقال له ابن عمر‏:‏ مالك لم تقل مثل ما قلت في الأولتين ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي، حياء من حلمك مع تكرار جرمي‏.‏

فبكى ابن عمر وقال‏:‏ أنا أحق بالحياء من ربي، أنت حر لوجه الله تعالى‏.‏

ومن شعره يمدح الخليفة‏:‏

يا من إذا بخل السحاب بمائه * هطلت يداه على البرية عسجدا

جورت كسرى يا مبخل حاتم * فغدت بنو الآمال نحوك سجدا

وقد أورد له ابن الساعي أشعاراً كثيرة حسنة رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ أبو عمرو بن الحاجب

المالكي عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري، العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي، واشتغل هو بالعلم فقرأ القراءات وحرر النحو تحريراً بليغاً، وتفقه وساد أهل عصره‏.‏

ثم كان رأساً في علوم كثيرة، منها الأصول والفروع والعربية والتصريف والعروض والتفسير وغير ذلك‏.‏

وقد كان استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، ودرس بها للمالكية بالجامع حتى كان خروجه بصحبة الشيخ عز الدين بن عبد السلام في سنة ثمان وثلاثين، فصارا إلى الديار المصرية حتى كانت وفاة الشيخ أبي عمرو في هذه السنة بالإسكندرية، ودفن بالمقبرة التي بين المنارة والبلد‏.‏

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏:‏ وكان من أذكى الأئمة قريحة، وكان ثقة حجة متواضعاً عفيفاً كثير الحياء منصفاً محباً للعلم وأهله، ناشراً له محتملاً للأذى صبوراً على البلوى، قدم دمشق مراراً آخرها سنة سبع عشرة، فأقام بها مدرساً للمالكية وشيخاً للمستفيدين عليه في علمي القراءات والعربية‏.‏

وكان ركناً من أركان الدين في العلم والعمل، بارعاً في العلوم متقناً لمذهب مالك بن أنس رحمه الله تعالى‏.‏

وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيراً، وذكر أنه جاء إليه في أداء شهادة حين كان نائباً في الحكم بمصر وسأله عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط، إذا قال‏:‏

إن أكلتِ إن شربتِ فأنتِ طالق، لم كان يقع الطلاق حين شربت أولاً‏؟‏ وذكر أنه أجاب عن ذلك في تؤده وسكون‏.‏

قلت‏:‏ ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات، انتظم فيه فوائد ابن شاش، ومختصره في أصول الفقه، استوعب فيه عامة فوائد الأحكام لسيف الدين الآمدي، وقد منّ الله تعالى عليّ بحفظه وجمعت كراريس في الكلام على ما أودعه فيه من الأحاديث النبوية، ولله الحمد‏.‏

وله شرح المفصل والأمالي في العربية والمقدمة المشهورة في النحو، اختصر فيها مفصل الزمخشري وشرحها، وقد شرحها غيره أيضاً، وله التصريف وشرحه، وله عروض على وزن الشاطبية رحمه الله ورضى عنه‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة الملك الصالح أيوب، وقتل ابنه توران شاه وتوليه المعز عز الدين أيبك التركماني‏.‏

وفي رابع المحرم يوم الاثنين توجه الملك الصالح من دمشق إلى الديار المصرية في محفة‏.‏ قاله ابن السبط‏.‏ ‏

وكان قد نادى في دمشق‏:‏ من له عندنا شيء فليأت، فاجتمع خلق كثير بالقلعة، فدفعت إليهم أموالهم وفي عاشر صفر دخل إلى دمشق نائبها الأمير جمال الدين بن يغمور من جهة الصالح أيوب فنزل بدرب الشعارين داخل باب الجابية‏.‏

وفي جمادى الآخرة أمر النائب بتخريب الدكاكين المحدثة وسط باب البريد، وأمر أن لا يبقى فيها دكان سوى ما في جانبيه إلى جانب الخياطين القبلي والشامي، وما في الوسط يهدم‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وقد كان العادل هدم ذلك ثم أعيد ثم هدمه ابن يغمور، والمرجو استمراره على هذه الصفة‏.‏

وفيها‏:‏ توجه الناصر داود من الكرك إلى حلب فأرسل الصالح أيوب إلى نائبه بدمشق جمال الدين بن يغمور بخراب دار أسامة المنسوبة إلى الناصر بدمشق، وبستانه الذي بالقابون، وهو بستان القصر، وأن تقلع أشجاره ويخرب القصر، وتسلم الصالح أيوب الكرك من الأمجد حسن بن الناصر‏.‏

وأخرج من كان بها من بيت المعظم، واستحوذ على حواصلها وأموالها، فكان فيها من الذهب ألف ألف دينار، وأقطع الصالح الأمجد هذا إقطاعاً جيداً‏.‏

وفيها‏:‏ طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئاً كثيراً من المحال والدور الشهيرة، وتعذرت الجمع في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاث جوامع، ونقلت توابيت جماعة من الخلفاء إلى الترب من الرصافة خوفاً عليهم من أن تغرق محالهم، منهم المقتصد بن الأمير أبي أحمد المتوكل، وذلك بعد دفنه بنيف وخمسين سنة وثلاثمائة سنة، وكذا نقل ولده المكتفي وكذا المقتفي بن المقتدر بالله رحمهم الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ هجمت الفرنج على دمياط فهرب من كان فيها من الجند والعامة واستحوذ الفرنج على الثغر وقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، وذلك في ربيع الأول منها، فنصب السلطان المخيم تجاه العدو بجميع الجيش، وشنق خلقاً ممن هرب من الفرنج، ولامهم على ترك المصابرة قليلاً ليرهبوا عدو الله وعدوهم، وقوى المرض وتزايد بالسلطان جداً‏.‏

فلما كانت ليلة النصف من شعبان توفي إلى رحمة الله تعالى بالمنصورة، فأخفت جاريته أم خليل المدعوة شجرة الدر موته‏.‏

وأظهرت أنه مريض مدنف لا يوصل إليه، وبقيت تعلم عنه بعلامته سواء‏.‏

وأعلمت إلى أعيان الأمراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا، فأقدموه إليهم سريعاً، وذلك بإشارة أكابر الأمراء منهم فخر الدين ابن الشيخ، فلما قدم عليهم ملكوه عليهم وبايعوه أجمعين، فركب في عصائب الملك وقاتل الفرنج فكسرهم وقتل منهم ثلاثين ألفاً ولله الحمد‏.‏

وذلك في أول السنة الداخلة‏.‏

ثم قتلوه بعد شهرين من ملكه، ضربه بعض الأمراء وهو عز الدين أيبك التركماني فضربه في يده فقطع بعض أصابعه فهرب إلى قصر من خشب في المخيم فحاصروه فيه وأحرقوه عليه، فخرج من بابه مستجيراً برسول الخليفة فلم يقبلوا منه، فهرب إلى النيل فانغمر فيه ثم خرج فقتل سريعاً شر قتلة وداسوه بأرجلهم ودفن كالجيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان فيمن ضربه البندقداري على كتفه فخرج السيف من تحت إبطه الآخر وهو يستغيث فلا يغاث‏.‏

 وممن قتل في هذه السنة‏:‏

 فخر الدين يوسف بن الشيخ بن حمويه

وكان فاضلاً ديناً مهيباً وقوراً خليقاً بالملك، كانت الأمراء تعظمه جداً ولو دعاهم إلى مبايعته بعد الصالح لما اختلف عليه اثنان، ولكنه كان لا يرى ذلك حماية لجانب بني أيوب، قتلته الداوية من الفرنج شهيداً قبل قدوم المعظم توران شاه إلى مصر، في ذي القعدة‏.‏

ونهبت أمواله وحواصله وخيوله، وخربت داره ولم يتركوا شيئاً من الأفعال الشنيعة البشعة إلا صنعوه به، مع أن الذين تعاطوا ذلك من الأمراء كانوا معظمين له غاية التعظيم‏.‏ ومن شعره‏:‏

عصيت هو نفسي صغيراً فعندما * رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر

أطعت الهوى عكس القضية ليتني * خلقت كبيراً ثم عدت إلى الصغر

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة

في ثالث المحرم يوم الأربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفاً وقيل مائة ألف، وغنموا شيئاً كثيراً ولله الحمد‏.‏

ثم قتل جماعة من الأمراء الذي أسروا، وكان فيمن أسر ملك الفرنسيس وأخوه، وأرسلت غفارة ملك الأفرنسيس إلى دمشق، فلبسها نائبها في يوم الموكب، وكانت من سقرلاط تحتها فروسنجاب، فأنشد في ذلك جماعة من الشعراء فرحاً بما وقع‏.‏

ودخل الفقراء كنيسة مريم فأقاموا بها فرحاً لما نصر الله تعالى على النصارى، وكادوا أن يخربوها وكانت النصارى ببعلبك فرحوا حين أخذت النصارى دمياط، فلما كانت هذه الكسرة عليهم سخموا وجوه الصور، فأرسل نائب البلد فجناهم وأمر اليهود فصفعوهم‏.‏

ثم لم يخرج شهر المحرم حتى قتل الأمراء ابن أستاذهم توران شاه، ودفنوه إلى جانب النيل من الناحية الأخرى رحمه الله تعالى ورحم أسلافه بمنه وكرمه‏.‏ ‏

المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب

لما قتل الأمراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن أستاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان ملكه بعد أبيه بشهرين كما تقدم بيانه، ولما انفصل مره بالقتل نادوا فيما بينهم لا باس لا بأس‏.‏

واستدعوا من بينهم الأمير عز الدين أيبك التركماني، فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز، وركبوا إلى القاهرة‏.‏

ثم بعد خمسة أيام أقاموا لهم صبياً من بين أيوب ابن عشر سنين وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف ابن المسعود إقسيس بن الكامل، وجعلوا المعز أتابكه فكانت السكة والخطبة بينهما، وكاتبوا أمراء الشام بذلك، فما تم لهم الأمر بالشام، بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية‏.‏

وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل حظية الصالح أيوب، فتزوجت بالمعز، وكانت الخطبة والسكة لها، يدعى لها على المنابر أيام الجمع بمصر وأعمالها، وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل، والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها، مدة ثلاثة أشهر قبل المعز‏.‏

ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل‏.‏

الناصر بن العزيز بن الظاهر صاحب حلب يملك دمشق

لما وقع بالديار المصرية من قتل الأمراء للمعظم توران شاه بن الصالح أيوب ركب الجلبيون معهم ابن أستاذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف فاتح بيت المقدس، ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب منهم الصالح إسماعيل ابن العادل، وكان أحق الموجودين بالملك، من حيث السن والتعدد والحرمة والرياسة‏.‏

ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل، والأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه، الذي كان صاحب حمص وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصروها فملكوها سريعاً‏.‏ ‏

ونهبت دار ابن يغمور وحبس في القلعة وتسلموا ما حولها كبعلبك وبصرى والصلت وصرخد، وامتنعت عليهم الكرك والشوبك بالملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل، كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قتل المعظم توران شاه، فطلبه المصريون ليملكوه عليهم فخاف مما حل بابني عمه، فلم يذهب إليهم ولما استقرت يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصر في القلعة وطيب قلوب الناس‏.‏

ثم ركبوا إلى غزة ليتسلموا الديار المصرية، فبرز إليهم الجيش المصري فاقتتلوا معهم أشد القتال، فكسر المصريون أولاً بحيث إنه خطب للناصر في ذلك بها‏.‏

ثم كانت الدائرة على الشاميين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقاً كثيراً، وعدم من الجيش الصالح إسماعيل رحمه الله تعالى، وقد أنشد هنا الشيخ أبو شامة لبعضهم‏:‏

ضيع إسماعيل أموالنا * وخرب المغنى بلا معنى

وراح من جلق هذا جزاء * من أفقر الناس وما استغنى

شيء من ترجمة الصالح إسماعيل واقف تربة الصالح

وقد كان الصالح رحمه الله ملكاً عاقلاً حازماً تتقلب به الأحوال أطواراً كثيرة، وقد كان الأشرف أوصى له بدمشق من بعده، فملكها شهوراً ثم انتزعها منه أخوه الكامل‏.‏

ثم ملكها من يد الصالح أيوب خديعة ومكراً، فاستمر فيها أزيد من أربع سنين‏.‏

ثم استعادها منه الصالح أيوب عام الخوارزمية سنة ثلاث وأربعين، واستقرت بيده بلداه بعلبك وبصرى‏.‏

ثم أخذتا منه كما ذكرنا، ولم يبق به بلد يأوي إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها، فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا عدم بالديار المصرية في المعركة فلا يدري ما فعل به والله تعالى أعلم‏.‏

وهو واقف التربة والمدرسة ودار الحديث والأفراء بدمشق رحمه الله بكرمه‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 الملك المعظم توران شاه بن الصالح أيوب

ابن الكامل ابن العادل، كان أولاً صاحب حصن كيفا في حياة أبيه، وكان أبوه يستدعيه في أيامه فلا يجيبه، فلما توفي أبوه كما ذكرنا استدعاه الأمراء فأجابهم وجاء إليهم فملكوه عليهم‏.‏

ثم قتلوه كما ذكرنا، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم، وقد قيل إنه كان متخلفاً لا يصلح للملك، وقد رئي أبوه في المنام بعد قتل ابنه وهو يقول‏:‏ ‏

قتلوه شر قتلة * صار للعالم مثله

لم يراعوا فيه إلاّ * لا ولا من كان قبله

ستراهم عن قريب * لأقل الناس أكله

فكان كما ذكرنا من اقتتال المصريين والشاميين‏.‏

وممن عدم فيما بين الصفين من أعيان الأمراء والمسلمين فمنهم الشمس لؤلؤ مدبر ممالك الحلبيين، وكان من خيار عباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف وعن المنكر ناهين‏.‏

وفيها كانت وفاة‏:‏

 الخاتون أرغوانية

الحافظية سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ، صاحب قلعة جعبر، وكانت امرأة عاقلة مدبرة عمرت دهراً ولها أموال جزيلة عظيمة، وهي التي كانت تصلح الأطعمة للمغيث عمر بن الصالح أيوب، فصادرها الصالح إسماعيل فأخذ منها أربعمائة صندوق من المال، وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها، واشترت بستان النجيب ياقوت الذي كان خادم الشيخ تاج الدين الكندي، وجعلت فيه تربة ومسجداً، ووقفت فيه عليه أوقافاً كثيرة جيدة رحمها الله‏.‏

واقف الأمينية التي ببعلبك‏:‏

 أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب

وزير الصالح إسماعيل أبي الجيش الذي كان مشؤوما على نفسه، وعلى سلطانه، وسبباً في زوال النعمة عنه وعن مخدومه، وهذا هو وزير السوء، وقد اتهمه السبط بأنه كان مستهتراً بالدين وانه لم يكن له في الحقيقة دين فأرح الله تعالى منه عامة المسلمين‏.‏

وكان قتله في هذه السنة لما عدم الصالح إسماعيل بديار مصر، عمد من عمد من الأمراء إليه وإلى ابن يغمور فشنقوهما وصلبوهما على القلعة بمصر متناوحين‏.‏

وقد وجد لأمين الدولة غزال هذا من الأموال والتحف والجواهر والأثاث ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، وعشرة آلاف مجلد بخط منسوب وغير ذلك من الخطوط النفيسة الفائقة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة

فيها‏:‏ عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق وقدمت عساكر المصريين فحكموا على بلاد السواحل إلى حد الشريعة، فجهز لهم الملك الناصر جيشاً فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار المصرية، وقصروهم عليها‏.‏ ‏

وتزوجت في هذه السنة أم خليل شجرة الدر بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني، مملوك زوجها الصالح أيوب‏.‏

وفيها‏:‏ نقل تابوت الصالح أيوب إلى تربته بمدرسته، ولبست الأتراك ثياب العزاء، وتصدقت أم خليل عنه بأموال جزيلة‏.‏

وفيها‏:‏ خربت الترك دمياط ونقلوا الأهالي إلى مصر وأخلوا الجزيرة أيضاً خوفاً من عود الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ كمل شرح الكتاب المسمى ‏(‏بنهج البلاغة‏)‏ في عشرين مجلداً مما ألفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني، الكاتب للوزير مؤيد الدين بن العلقمي، فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعة وفرساً، وامتدحه عبد الحميد بقصيدة، لأنه كان شيعياً معتزلياً‏.‏

وفي رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهرقلي مدرس النظامية ببغداد فولي قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور، وخلع عليه‏.‏

وفي شعبان ولي تاج الدين عبد الكريم بن الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهد عنها، وخلع عليه بطرحة، ووضع على رأسه غاشية، وركب الحجاب في خدمته‏.‏

وفي هذه السنة صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، وهذا اتفاق غريب‏.‏

وفيها‏:‏ وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن صلاح الدين بن يوسف بن عمر بن رسول يذكر فيه أن رجلاً باليمن خرج فادعى الخلافة، وأنه أنفذ إليه جيشاً فكسروه وقتلوا خلقاً من أصحابه وأخذ منهم صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقي من أصحابه‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة إليه بالخلع والتقليد‏.‏

 وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

 بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة الحميري

خطيب القاهرة، رحل في صغره إلى العراق فسمع بها وغيرها، وكان فاضلاً قد أتقن معرفة مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وكان ديناً حسن الأخلاق واسع الصدر كثير البر، قل أن يقدم عليه أحد إلا أطعمه شيئاً، وقد سمع الكثير على السلفي وغيره، وأسمع الناس شيئاً كثيراً من مروياته، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة، وله تسعون سنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏

 القاضي أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام

ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمعاني الحنفي من بيت العلم والقضاء، درس بمشهد أبي حنيفة وناب عن قاضي القضاة ابن فضلان الشافعي، ثم عن قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق الحنبلي، ثم عن قاضي القضاء عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، ثم بعد وفاته في سنة ثلاث وثلاثين استقل القاضي عبد الرحمن اللمعاني بولاية الحكم ببغداد‏.‏

ولقب أقضى القضاة، ولم يخاطب بقاضي القضاة، ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين، وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه‏.‏

ولما توفي تولى بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهرقلي رحمهما الله تعالى وتجاوز عنهما بمنه وكرمه آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية

فيها‏:‏ وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران ورأس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية، وستمائة ألف دينار، وكان عدة من قتلوا في هذه السنة من أهل الجزيرة نحواً من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال السبط‏:‏ وفيها‏:‏ حج الناس من بغداد، وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق بحلب احترق بسببه ستمائة دار، ويقال إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيه قصداً‏.‏

وفيها‏:‏ أعاد قاضي القضاة عمر بن علي النهرقلي أمر المدرسة التاجية التي كان قد استحوذ عليها طائفة من العوام، وجعلوها كالقيسارية يبتاعون فيها مدة طويلة، وهي مدرسة جيدة حسنة قريبة الشبه من النظامية، وقد كان بانيها يقال له تاج الملك، وزير ملك شاه السلجوقي، وأول من درس بها الشيخ أبو بكر الشاشي‏.‏

 وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

 جمال الدين بن مطروح

وقد كان فاضلاً رئيساً كيساً شاعراً من كبار المتعممين، ثم استتابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق فلبس لبس الجند‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان لا يليق في ذلك‏.‏

ومن شعره في الناصر داود صاحب الكرك لما استعاد القدس من الفرنج حين سلمت إليهم في سنة ست وثلاثين في الدولة الكاملية فقال هذا الشاعر، وهو ابن مطروح رحمه الله‏:‏ ‏

المسجد الأقصى له عادة * سارت صارت مثلاً سائرا

إذا غدا للكفر مستوطناً * أن يبعث الله له ناصرا

فناصر طهره أولاً * وناصر طهره آخرا

ولما عزله الصالح من النيابة أقام خاملاً وكان كثير البر بالفقراء والمساكين، وكانت وفاته بمصر‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 شمس الدين محمد بن سعد المقدسي

الكاتب الحسن الخط كان كثير الأدب، وسمع الحديث كثيراً، وخدم السلطان الصالح إسماعيل والناصر داود، وكان ديناً فاضلاً شاعراً له قصيدة ينصح فيها السلطان الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من وزيره وقاضيه وغيرهما، من حواشيه‏.‏

من الأعيان‏:‏

 عبد العزيز بن علي

ابن عبد الجبار المغربي، أبوه ولد ببغداد، وسمع بها الحديث، وعني بطلب العلم وصنف كتاباً في مجلدات على حروف المعجم في الحديث، وحرر فيه حكاية مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ أبو عبد الله محمد بن غانم بن كريم

الأصبهاني، قدم بغداد وكان شاباً فاضلاً، فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردي، وكان حسن الطريقة، له يد في التفسير، وله تفسير على طريقة التصوف، وفيه لطافة، ومن كلامه في الوعظ‏:‏

العالم كالذرة في فضاء عظمته، والذرة كالعالم في كتاب حكمته، الأصول فروع إذا تجلى جمال أوليته، والفروع أصول إذا طلعت من مغرب نفي الوسائط شمس أخريته، أستار الليل مسدولة، وشموع الكواكب مشعولة، وأعين الرقباء عن المشتاقين مشغولة، وحجاب الحجب عن أبواب الوصل معزولة ما هذه الوقعة والحبيب قد فتح الباب‏؟‏ ما هذه الفترة والمولى قد خرق حاجب الحجاب ‏؟‏

وقوفي بأكناف العقيق عقوق * إذا لم أرد والدمع فيه عقيق

وإذ لم أمت شوقاً إلى ساكن الحمى * فما أنا فيما أدعيه صدوق

أيا ربع ليلى ما المحبون في الهوى * سواء، ولا كل الشراب رحيق

ولا كل من تلقاه يلقاك قلبه * ولا كل من يحنو إليك مشوق

تكاثرت الدعوى على الحب فاستوى * أسير صبابات الهوى وطليق

أيها الآمنون، هل فيكم من يصعد إلى السماء‏؟‏ أيها المحبوسون في مطامير مسمياتهم، هل فيكم سليم في الفهم يفهم رموز الوحوش والأطيار‏؟‏ هل فيكم موسوي الشوق يقول بلسان شوقه أرني أنظر إليك، فقد طال الانتظار‏؟‏

ولما استسقى الناس قال بعد الاستسقاء‏:‏ لما صعدت إلى الله عز وجل نفس المشتاق بكت آماق الآفاق، وجادت بالدر مرضعة السحاب، وامتص لبن الرحمة رضيع التراب وخرج من أخلاف الغمام نطاف الماء النمير، فاهتزت به الهامدة، وقرت عيون المدر، وتزينت الرياض بالسندس الأخضر، فحبر الصب حبرها أحسن تحبير، وأنفلق بأنملة الصبا أكمام الأنوار، وانشقت بنفحات أنفاسه جيوب الأزهار، ونطقت أجزاء الكائنات بلغات صفاتها، وعادات عبرها‏:‏

أيها النائمون تيقظوا، أيها المبعدون تعرضوا ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏‏.‏

 أبو الفتح نصر الله بن هبة الله

ابن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن صاقعة الغفاري الكناني المصري ثم الدمشقي كان من أخصاء الملك المعظم، وولده الناصر داود، وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان أديباً مليح المحاضرة رحمه الله تعالى‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

ولما أبيتم سادتي عن زيارتي * وعوضتموني بالبعاد عن القرب

ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتي * ولم يصطبر عنكم لرقته قلبي

نصبت لصيد الطيف جفني حبالةً * فأدركت خفض العيش بالنوم والنصب

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رسول الخليفة بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأصلح بين الجيشين، وكانوا قد اشتد الحرب بينهم ونشبت، وقد مالأ الجيش المصري الفرنج ووعدهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين، وجرت خطوب كثيرة، فأصلح بينهم وخلص جماعة من بيوت الملوك من الديار المصرية، منهم أولاد الصالح إسماعيل، وبنت الأشرف وغيرهم من أولاد صاحب حمص وغيرهم، جزاه الله خيراً‏.‏

وفيها‏:‏ فيما ذكر ابن الساعي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسي فزلق فتكسرت ووقف يبكي، فتألم الناس له لفقره وحاجته، وأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجل من الحاضرين ديناراً فلما أخذه نظر فيه طويلاً ثم قال‏:‏ والله هذا الدينار أعرفه، وقد ذهب مني في جملة دنانير عام أول، فشتمه بعض الحاضرين فقال له ذلك الرجل‏:‏ فما علامة ما قلت‏؟‏

قال‏:‏ زنة هذا وكذا وكاذ، وكان معه ثلاثة وعشرون ديناراً، فوزنوه فوجدوه كما ذكر، فأخرج له الرجل ثلاثة وعشرين ديناراً، وكان قد وجدها كما قال حين سقطت منه، فتعجب الناس لذلك‏.‏

قال‏:‏ ويقرب من هذا أن رجلاً بمكة نزع ثيابه ليغتسل من ماء زمزم وأخرج من عضده دملجاً زنته خمسون مثقالاً فوضعه مع ثيابه، فلما فرغ من اغتساله لبس ثيابه ونسي الدملج ومضى، وصار إلى بغداد وبقي مدة سنتين بعد ذلك وأيس منه، ولم يبق معه شيء إلا يسير فاشترى به زجاجاً وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف بها إذا زلق فسقطت القوارير فتكسرت فوقف يبكي واجتمع الناس عليه يتألمون له‏.‏

فقال في جملة كلامه‏:‏ والله يا جماعة لقد ذهب مني من مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون ديناراً، ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير، وما ذاك إلا لأن هذه كانت جميع ما أملك، فقال له رجل من الجماعة‏:‏ فأنا والله لقيت ذلك الدملج، وخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏

من الأعيان‏:‏

 ثم دخلت سنة اثنين وخمسين وستمائة

قال سبط ابن الجوزي في كتابه ‏(‏مرآة الزمان‏)‏‏:‏

فيها وردت الأخبار من مكة شرفها الله تعالى بأن ناراً ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث إنه يطير شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار، فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الفارس أقطاي من الصعيد ونهب أموال المسلمين وأسر بعضهم، ومعه جماعة من البحرية المفسدين في الأرض، وقد بغوا وطغوا وتجبروا، ولا يلتفتون إلى الملك المعز أيبك التركماني، ولا إلى زوجته شجرة الدر‏.‏

فشاور المعز زوجته شجرة الدر في قتل أقطاي، فأذنت له، فعمل عليه حتى قتله في هذه السنة بالقلعة المنصورة بمصر، فاستراح المسلمون من شره‏.‏

وفيها‏:‏ درس الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمدرسة الصالح أيوب بين القصرين‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت بنت ملك الروم في تجمل عظيم وإقامات هائلة إلى دمشق زوجة لصاحبها الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، وجرت أوقات حافلة بدمشق بسببها‏.‏

 من المشاهير‏:‏

 عبد الحميد بن عيسى

الشيخ شمس الدين بن الخسروشاهي، أحد مشاهير المتكلمين، وممن اشتغل على الفخر الرازي في الأصول وغيرها، ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن المعظم وحظى عنده‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكان شيخاً مهيباً فاضلاً متواضعاً حسن الظاهر رحمه الله تعالى‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان متواضعاً كيساً محضر خير، لم ينقل عنه أنه آذى أحداً فإن قدر على نفع وإلا سكت، توفي بدمشق ودفن بقاسيون على باب تربة الملك المعظم رحمه الله تعالى‏.‏

الشيخ مجد الدين بن تيمية صاحب ‏(‏الأحكام‏)‏ عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي، جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين، وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره، ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران‏.‏ ‏

 الشيخ كمال الدين بن طلحة

الذي ولي الخطابة بدمشق بعد الدولعي، ثم عزل وصار إلى الجزيرة فولى قضاء نصيبين، ثم صار إلى حلب فتوفى بها في هذه السنة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكان فاضلاً عالماً طلب أن يلي الوزارة فامتنع من ذلك، وكان هذا من التأييد رحمه الله تعالى‏.‏

 السيد بن علان

آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعاً بدمشق‏.‏

 الناصح فرج بن عبد الله الحبشي

كان كثير السماع مسنداً خيراً صالحاً مواظباً على سماع الحديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحديث النورية بدمشق رحمه الله‏.‏

 النصرة بن صلاح الدين يوسف بن أيوب

توفي بحلب في هذه السنة‏.‏ وآخرون رحمهم الله أجمعين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة

قال السبط‏:‏ فيها عاد الناصر داود من الأنبار إلى دمشق، ثم عاد وحج من العراق وأصلح بين العراقيين، وأهل مكة، ثم عاد معهم إلى الحلة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها في ليلة الاثنين ثامن عشر صفر توفي بحلب الشيخ الفقيه‏:‏

ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم

وكان فاضلاً ديناً‏.‏

ومن شعره قوله رحمه الله تعالى‏:‏ ‏

من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكونن له صاحباً * فإنه ضرٌ بلا نفع

وهو واقف القوصية‏.‏

أبو العز إسماعيل بن حامد

ابن عبد الرحمن الأنصاري القوصي، واقف داره بالقرب من الرحبة على أهل الحديث وبها قبره، وكان مدرساً بحلقة جمال الإسلام تجاه البدارة، فعرفت به، وكان ظريفاً مطبوعاً حسن المحاضرة، وقد جمع له معجماً حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وقد طالعته بخطه فرأيت فيه أغاليط وأوهاماً في أسماء الرجال وغيرها، فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة ابن دلم فقال سعد بن عبادة بن الصامت وهذا غلط‏.‏

وقال في شدة خرقه التصوف فغلط وصحف حيياً أبا محمد حسيناً‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ رأيت ذلك بخطه، توفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله‏.‏

وقد توفي الشريف المرتضي نقيب الأشراف بحلب، وكانت وفاته بها، رحمه الله تعالى‏.‏