الجزء الثالث عشر - ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه ‏(‏الذيل‏)‏ وشرحه، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب‏:‏ دلائل النبوة من السيرة النبوية، في أوائل هذا الكتاب ولله الحمد والمنة‏.‏

وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال‏:‏ وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى‏)‏‏)‏ فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب‏.‏

قال‏:‏ وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها‏.‏

لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة ربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور‏.‏

ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجيء إلينا‏.‏

ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة‏.‏

فيها‏:‏ أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 32-33‏]‏ وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج‏.‏

وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم‏:‏ انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد‏.‏

ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة‏.‏

قال‏:‏ وفي كتاب آخر‏:‏ لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل‏.‏

فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي برأي العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له أجيلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يبقى منك الآنك‏.‏

فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها‏.‏

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏:‏ ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه‏:‏ لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتاً للحديد الذي فيه‏.‏

واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير كلمته وقلت له‏:‏ قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت‏:‏

اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم سال منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشفا، وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج‏.‏

وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفئ بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال‏.‏

وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب، وهي على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو‏؟‏ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار‏.‏

قلت‏:‏ وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار، فقال‏:‏ وفيها‏:‏ في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياماً متغيرة اللون ضعيفة النور، والله على كل شيء قدير، ثم قال‏:‏ واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النجامة‏.‏ ‏

ثم قال أبو شامة‏:‏ ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه‏:‏ وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير، وأشرف الناس على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد‏.‏

قال‏:‏ وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم‏:‏ لما كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين، عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى‏.‏

وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر‏.‏

ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لنا الناس روعة عظيمة‏.‏

ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة‏.‏

ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا نبيه عليه الصلاة والسلام، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب‏.‏

وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد، وداعٍ إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل ما لنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهاباً، وهي كالجبل العظيم ارتفاعاً و كالمدينة عرضاً، يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوي فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد‏.‏

وبقيت كذلك أياماً ثم سالت سيلاناً إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض‏.‏

ثم سكنت ووقفت أياماً، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي‏.‏ ‏‏

والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن‏.‏ وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر‏.‏

وقد قال فيها بعضهم أبياتاً‏:‏

يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا * لقد أحاطت بنا يا رب بأساء

نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها * حملاً ونحن بها حقاً أحقاء

زلازل تخشع الصم الصلاب لها * وكيف يقوى على الزلزال شماء

أقام سبعاً يرج الأرض فانصدعت * عن منظر منه عين الشمس عشواء

بحر من النار تجري فوقه سفن * من الهضاب لها في الأرض أرساء

كأنما فوقه الأجبال طافيةٌ * موج عليه لفرط البهج وعثاء

ترمي لها شرراً كالقصر طائشةً * كأنها ديمةٌ تنصب هطلاء

تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت * رعباً وترعد مثل السعف أضواء

منها تكاثف في الجو الدخان إلى * أن عادت الشمس منه وهي دهماء

قد أثرت سفعةً في البدر لفحتها * فليلة التم بعد النور ليلاء

تحدث النيرات السبع ألسنها * بما يلاقى بها تحت الثرى الماء

وقد أحاط لظاها بالبروج إلى * أن كاد يلحقها بالأرض إهواءُ

فيالها آية من معجزات رسو * ل الله يعقلها القوم الألباء

فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت * منا الذنوب وساء القلب أسواء

فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد * واصفح فكل لفرط الجهل خطاء

فقوم يونس لما آمنوا كشف الـ * ـعذاب عنهم وعم القوم نعماء

ونحن أمة هذا المصطفى ولنا * منه إلى عفوك المرجو دعاء

هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت * محجة في سبيل الله بيضاء

فارحم وصل على المختار ما خطبت * على علا منبر الأوراق ورقاء

قلت‏:‏ والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى‏)‏‏)‏ وهذا لفظ البخاري‏.‏

وقد وقع هذا في هذه السنة - أعني سنة أربع وخمسين وستمائة -كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الأيام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال‏:‏ سمعت رجلاً من الأعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز‏.‏

قلت‏:‏ وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرساً للحنفية ببصرى وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولي قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الأعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً‏.‏

ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله‏:‏

سبحان من أصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقدار

اغرق بغداد بالمياه كما * أحرق أرض الحجاز بالنار

قال أبو شامة‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏

في سنة أغرق العراق وقد * أحرق أرض الحجاز بالنار

وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة‏:‏ في يوم الجمعة ثامن عشر رجب - يعني من هذه السنة - كنت جالساً بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم زلزلت يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوماً‏.‏

قال القاصد‏:‏ وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي الجهات ترمي‏؟‏ فقال‏:‏ إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها‏.‏

وأخرج قيماز المذكور شيئاً من الصخر المحترق وهو كالفحم لوناً وخفة‏.‏

قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رؤوسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع ممالكيه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع‏.‏

وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوماً وإلى الآن‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الأمعاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول‏:‏ إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عز وجل قبل الموت‏.‏

وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة احترق مسجد المدينة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، ابتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة إلى خزانة ثم ومعه نار فعلقت في الأبواب ثم، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف، وأخذت قبلة فأعجلت الناس عن قطعها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه وذاب رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية ووقع ما وقع منه في الحجرة، وبقي على حاله حتى شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وأصبح الناس فعزلوا موضعا للصلاة، وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات على ما سنذكره‏.‏ هذا كلام الشيخ شهاب الدين أبي شامة‏.‏

وقد قال أبو شامة‏:‏ في الذي وقع في هذه السنة وما بعدها شعراً وهو قوله‏:‏

بعد ست من المئين والخمسـ * ين لدى أربع جرى في العام

نار أرض الحجاز مع حرق المس * جد معه تغريق دار السلام

ثم أخذ التتار بغداد في أو * ل عام، من بعد ذاك وعام

لم يعن أهلها وللكفر أعوا * ن عليهم، يا ضيعة الإسلام

وانقضت دولة الخلافة منها * صار مستعصم بغير اعتصام

فحناناً على الحجاز ومصر * وسلاماً على بلاد الشآم

ربّ سلم وصن وعاف بقايا * المدن، يا ذا الجلال والإكرام

وفي هذه السنة كملت المدرسة الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس، وحضر فيها الدرس واقفها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس، ودرس فيها قاضي البلد صدر الدين ابن سناء الدولة، وحضر عنده الأمراء والدولة والعلماء وجمهور أهل الحل والعقد بدمشق‏.‏ وفيها أمر بعمارة الرباط الناصري بسفح قاسيون‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 الشيخ عماد الدين عبد الله بن الحسن بن النحاس

ترك الخلائق وأقبل على الزهادة والتلاوة والعبادة والصيام المتتابع والانقطاع بمسجده بسفح قاسيون نحواً من ثلاثين سنة، وكان من خيار الناس‏.‏

ولما توفي دفن عند مسجده بتربة مشهورة به، وحمام ينسب إليه في مساريق الصالحية، وقد أثنى عليه السبط، وأرخوا وفاته كما ذكرت‏.‏

 

 يوسف بن الأمير حسام الدين

قزأوغلي بن عبد الله عتيق الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى‏.‏ الشيخ شمس الدين‏.‏ أبو المظفر الحنفي البغدادي ثم الدمشقي، سبط ابن الجوزي، أمه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ، وقد كان حسن الصورة طيب الصوت حسن الوعظ كثير الفضائل والمصنفات، وله ‏(‏مرآة الزمان‏)‏ في عشرين مجلداً من أحسن التواريخ، نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه، وهو من أبهج التواريخ‏.‏

قدم دمشق في حدود الستمائة وحظي عند ملوك بني أيوب، وقدموه وأحسنوا إليه، وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التي تقوم عندها الوعاظ اليوم عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين، وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن، على طريقة جده‏.‏

وقد كان الشيخ تاج الدين الكندي، وغيره من المشايخ، يحضرون عنده تحت قبة يزيد، التي عند باب المشهد، ويستحسنون ما يقول‏.‏

ودرس بالعزية البرانية التي بناها الأمير عز الدين أيبك المعظمي، أستاذ دار المعظم، وهو واقف العزية الجوانية التي بالكشك أيضاً، وكانت قديماً تعرف بدور ابن منقذ‏.‏

ودرس السبط أيضاً بالشبلية التي بالجبل عند جسر كحيل، وفوض إليه البدرية التي قبالتها، فكانت سكنه، وبها توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحضر جنازته سلطان البلد الناصر بن العزيز فمن دونه‏.‏

وقد أثنى عليه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في علومه وفضائله ورياسته وحسن وعظه وطيب صوته ونضارة وجهه، وتواضعه وزهده وتودده، لكنه قال‏:‏ وقد كنت مريضاً ليلة وفاته فرأيت وفاته في المنام قبل اليقظة، ورأيته في حالة منكرة، ورآه غيري أيضاً، فنسأل الله العافية‏.‏ ولم أقدر على حضور جنازته، وكانت جنازته حافلة حضره السلطان والناس، ودفن هناك‏.‏

وقد كان فاضلاً عالماً ظريفاً منقطعاً منكراً على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات، وقد كان مقتصداً في لباسه مواظباً على المطالعة والاشتغال والجمع والتصنيف، منصفاً لأهل العلم والفضل، مبايناً لأولي الجهل‏.‏

وتأتي الملوك وأرباب المناصب إليه زائرين وقاصدين، وربي في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوام نحو خمسين سنة، وكان مجلس وعظه مطرباً، وصوته فيما يورده حسناً طيباً، رحمه الله تعالى ورضى عنه‏.‏

وقد سئل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئاً من مقتل الحسين فصعد المنبر وجلس طويلاً لا يتكلم، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديداً ثم أنشأ يقول وهو يبكي

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه * والصور في نشر الخلائق ينفخُ

لا بد أن ترد القيامة فاطمٌ * وقميصها بدم الحسين ملطخُ

ثم نزل عن المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو كذلك رحمه الله‏.‏

 واقف مرستان الصالحية

الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف ابن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكردي، أكبر أمراء القيمرية، كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك، ومن أكبر حسناته وقفة المارستان الذي بسفح قاسيون، وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكورة، وكان ذا مال كثير وثروة رحمه الله‏.‏

مجير الدين يعقوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب

دفن عند والده بتربة العادلية‏.‏

 الأمير مظفر الدين إبراهيم

ابن صاحب صرخد عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم واقف المعزيتين البرانية والجوانية، على الحنفية ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة رحمهما الله تعالى‏.‏

 الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح

المقدسي الفقيه الشافعي مدرس الرواحية بعد شيخه تقي الدين بن الصلاح، ودفن بالصوفية أيضاً، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكثر في هذه السنة موت الفجأة‏.‏

فمات خلق كثير بسبب ذلك‏.‏ ‏

زكي الدين أبو الغورية أحد المعدلين بدمشق‏.‏

وبدر الدين بن السني أحد رؤسائها‏.‏

وعز الدين عبد العزيز بن أبي طالب بن عبد الغفار الثعلبي أبي الحسين، وهو سبط القاضي جمال الدين بن الحرستاني، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم أجمعين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ أ صبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين أيبك بداره ميتاً وقد ولي الملك بعد أستاذه الصالح نجم الدين أيوب بشهور‏.‏

كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح، ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك، ومعه الملك الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس ابن الكامل مدة‏.‏

ثم استقل بالملك بلا منازعة، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الأشرف واستقل بالملك وحده، ثم تزوج بشجرة الدر أم خليل‏.‏

وكان كريماً شجاعاً حيياً ديناً، ثم كان موته في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الأشياء، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة‏.‏

وقد قال بعضهم‏:‏ هذه مجاز لا حقيقة له‏.‏

ولما قتل رحمه الله فإنهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به، وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك، ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع، وقد علمت على المناشير والتواقيع، وخطب الخطباء باسمها، وضربت السكة برسمها، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها‏.‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وأقامت الأتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني، بإشارة أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز، ولده نور الدين علياً ولقبوه الملك المنصور، وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتكروا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور‏.‏

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وليس لهم في شيخهم قدوة‏.‏

وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريباً من العونية‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي البغدادي مدرس النظامية، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة، وإصلاح الأحوال المدلهمة، وقد كان فاضلاً بارعاً رئيساً وقوراً متواضعاً، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الأمير أسامة، وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس‏.‏

وإنما أراد بذلك توفر خاطر الفقيه وجمعه على طلب العلم، ولكن حصل بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير، وقد كان شيخنا الإمام العلامة شيخ الشافية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري، قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة‏.‏

فقال السلطان‏:‏ ولا صبي‏؟‏

فقال الواقف‏:‏ يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين‏.‏

فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها رحمه الله تعالى‏.‏

وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار في ذريته إلى الآن‏.‏

وقد نظر فيه بعض الأوقات القاضي شمس الدين ابن الصائغ ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر، وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافاً حسنة دارة، وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولي بها قضاء القضاة كرهاً منه، فأقام فيه سبعة عشر يوماً ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة‏.‏ ودفن بالشونيزيه رحمه الله تعالى‏.‏

وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيز خان عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله - وبالله المستعان‏.‏

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

 والشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم

البلداني بها في ثامن ربيع الأول ودفن فيها، وكان شيخاً صالحاً مشتغلاً بالحديث سماعاً وكتابة وإسماعاً، إلى أن توفي وله نحو مائة سنة‏.‏

قلت وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة، وقد رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ يا رسول الله ما أنا رجل جيد‏؟‏

قال‏:‏ بلى أنت رجل جيد، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

 الشيخ شرف الدين

محمد بن أبي الفضل المرسي، وكان شيخاً فاضلاً متقناً محققاً للبحث كثير الحج، له مكانه عند الأكابر، وقد اقتنى كتباً كثيرة، وكان أكثر مقامه بالحجاز، وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصداً في أموره، وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله‏.‏

 المشد الشاعر الأمير سيف الدين

علي بن عمر بن قزل مشد الديوان بدمشق، وكان شاعراً مطبقاً له ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده‏:‏

نقلت إلى رمس القبور وضيقها * وخوفي ذنوبي أنها بي تعثرُ

فصادفت رحماناً رؤوفاً وأنعماً * حباني بها سقياً لما كنت أحذرُ

ومن كان حسن الظن في حال موته * جميلاً بعفو الله فالعفو أجدرُ

 بشارة بن عبد الله

الأرمني الأصل بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي، سمع الكندي وغيره، وكان يكتب خطاً جيداً، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته، فهم إلى الآن ينظرون في الشبليتين، وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة‏.‏

 القاضي تاج الدين

أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري ناب عن أبيه ودرّس بالشامية، وله شعر فمنه قوله‏:‏‏

صيرت فمي لفيه باللثم لئام * عمداً ورشفت من ثناياه مدامْ

فأزور وقال أنت في الفقه إمام * ريقي خمر وعندك الخمر حرامْ

 الملك الناصر

داود بن المعظم عيسى بن العادل، ملك دمشق بعد أبيه‏.‏

ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الأشرف واقتصر على الكرك ونابلس‏.‏

ثم تنقلت به الأحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شيء من المحال، وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فأنكره إياها ولم يردها عليه، وقد كان له فصاحة وشعر جيد، ولديه فضائل جمة، واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الأوائل جداً، وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم‏.‏

وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة، فقال بعضهم في جملة قصيدة له‏:‏

لو كنت في يوم السقيفة شاهداً * كنت المقدم والإمام الأعظما

فقال الناصر داود للشاعر‏:‏ اسكت فقد أخطأت، قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهداً يومئذ، ولم يكن المقدم، وما الإمام الأعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال الخليفة‏:‏ صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى‏.‏

وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة، فاجتمع الناس بجنازته، وحمل منها فصلّي عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون‏.‏

 الملك المعز

عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الأتراك، كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكان ديناً صيناً عفيفاً كريماً، مكث في الملك نحواً من سبع سنين ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل، وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي، ولقب بالملك المنصور، وكان مدير مملكة مملوك أبيه سيف الدين قطز، ثم عزله واستقل بالملك بعده نحواً من سنة وتلقب بالمظفر، فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت‏.‏

وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي‏.‏ ‏

 شجرة الدر بنت عبد الله

أم خليل التركية، كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور، فمات صغيراً، وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضراً ولا سفراً من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها وعلمت على المناشير مدة ثلاثة أشهر‏.‏

ثم تملك المعز كما ذكرنا، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره، فتمالأ عليها مماليكه المعزية فقتلوها وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام‏.‏

ثم نقلت إلى تربة لها بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى، وكانت قوية النفس، لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر النفيسة واللآلئ المثمنة، كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها، وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن جند وهو أول مناصبه‏.‏

 الشيخ الأسعد هبة الله بن صاعد

شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانياً فأسلم، وكان كثير الصدقات والبر والصلات، استوزره المعز وكان حظياً عنده جداً، لا يفعل شيئاً إلا بعد مراجعته ومشاورته، وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، وقبله القاضي بدر الدين السنجاري‏.‏

ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الأسعد المسلماني، وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك‏.‏

ثم لما قتل المعز أهين الأسعد حتى صار شقياً، وأخذ الأمير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار، وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي، فقال‏:‏ ‏

لعن الله صاعداً * وأباه، فصاعدا

وبنيه فنازلا * واحداً ثم واحدا

ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة، وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير، وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة‏.‏

 ابن أبي الحديد الشاعر العراقي

عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح ‏(‏نهج البلاغة‏)‏ في عشرين مجلداً، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة‏.‏

وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها‏.‏

استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى‏.‏

وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئاً، كما ورد في الأثر‏:‏ لن يغني حذر عن قدر‏.‏

وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ‏} ‏[‏نوح‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم‏.‏

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة - وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه‏.‏ ‏

وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالا به حتى أزف قدومه‏.‏ ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد‏.‏

وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير‏.‏

فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله‏.‏

ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم، ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت‏.‏

ثم عاد إلى بغداد، وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير‏:‏ متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله‏.‏

ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فتقلوه رفساً، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه، خافواً أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال بل أغرق فالله أعلم‏.‏

فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون‏.‏

وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار‏.‏

ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم‏.‏

وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف‏.‏

ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيراً للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء‏.‏

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً‏}‏ الآيات ‏[‏الإسراء‏:‏ 4-5‏]‏‏.‏

وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء‏.‏

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة‏.‏

فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره‏.‏ ‏

وكان عمره يومئذ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة‏:‏ عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد‏.‏

وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه‏.‏

وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الأسفل من النار‏.‏

ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى‏.‏ ‏

وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير بن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعياً جلداً رافضياً خبيثاً، فمات جهداً وغماً وحزناً وندماً، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة‏.‏

وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم‏.‏

وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير، وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية، منهم ركن الدين بيبرس البندقداري، فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الأثقال والأموال، وأسروا جماعة من رؤوس الأمراء فقتلوا صبراً، وعادوا إلى الكرك في أسوا حال وأشنعه، وجعلوا يفسدون في الأرض ويعيثون في البلاد، فأرسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشاً ليكفهم عن ذلك، فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 خليفة الوقت المستعصم بالله

أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي‏.‏

مولده سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعاً وأربعين سنة رحمه الله تعالى‏.‏ ‏

وقد كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة مقتدياً بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي، وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النيار، وأجاز هو للإمام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين البادرائي، وحدثا عنه بهذه الإجازة‏.‏

وقد كان رحمه الله سنياً على طريقة السلف واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم، وكانت قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏

قتلته التتار مظلوماً مضطهداً في يوم الأربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة، وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياماً، فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرأفة ثراه‏.‏

وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بني العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجي منهم النوال ويخشى البأس، وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام‏.‏

فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة، ثم عادت كما كانت‏.‏

وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد‏.‏

ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الأمر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب، وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الأحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيدهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولاً بعد دول، حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلى بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات، كما ذكر ذلك مبسوطاً في الحوادث والوفيات‏.‏ ‏

واستمرت دولة الفاطميين قريباً من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكاً متخلفاً، ومدة ملكهم تحريراً من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح‏.‏

فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكاً فكان أول ملوك الإسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي‏.‏

ثم ابنه عبد الملك ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضاً، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم‏.‏

وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم، وكذلك أول خلفاء الفاطميين، فالأول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جداً قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم‏.‏

وهذه أرجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء‏:‏

الحمد لله العظيم عرشه * القاهر الفرد القوي بطشه

مقلب الأيام والدهور * وجامع الأنام للنشور

ثم الصلاة بدوام الأبد * على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الكرام * السادة الأئمة الأعلام

وبعد فإن هذه أرجوزة * نظمتها لطيفة وجيزة

نظمت فيها الراشدين الخلفا * من قام بعد النبي المصطفى

ومن تلاهم وهلم جرا * جعلتها تبصرة وذكرى

ليعلم العاقل ذو التصوير * كيف جرت حوادث الأمور

وكل ذي مقدرة وملك * معرضون للفنا والهلك

وفي اختلاف الليل والنهار * تبصرة لكل ذي اعتبار

والملك الجبار في بلاده * يورثه من شاء من عباده

وكل مخلوق فللفناء * وكل ملك فإلى انتهاء

ولا يدوم غير ملك الباري * سبحانه من ملك قهار

منفرد بالعز والبقاء * وما سواه فإلى انقضاء

أول من بويع بالخلافة * بعد النبي ابن أبي قحافة

أعني الإمام الهادي الصديقا * ثم ارتضى من بعده الفاروقا

ففتح البلاد والأمصارا * واستأصلت سيوفه الكفارا

وقام بالعدل قياماً يرضي * بذاك جبار السما و الأرض

ورضي الناس بذي النورين * ثم على والد السبطين

ثم أتت كتائب مع الحسن * كادوا بأن يجددوا بها الفتن

فأصلح الله على يديه * كما عزا نبينا إليه

وجمع الناس على معاوية * ونقل القصة كل راويه

فمهد الملك كما يريد * وقام فيه بعده يزيد

ثم ابنه وكان براً راشداً * أعني أبا ليلى وكان زاهدا

فترك الإمرة لا عن غلبه * ولم يكن إليها منه طلبه

وابن الزبير بالحجاز يدأب * في طلب الملك وفيه ينصب

وبالشام بايعوا مروانا * بحكم من يقول كن فكانا

ولم يدم في الملك غير عام * وعافصته أسهم الحمام

واستوثق الملك لعبد الملك * ونار نجم سعده في الفلك

وكل من نازعه في الملك * خر صريعاً بسيوف الهلك

وقتل المصعب بالعراق * وسير الحجاج ذا الشقاق

إلى الحجاز بسيوف النقم * وابن الزبير لائذٌ بالحرم

فجار بعد قتله بصلبه * ولم يخف في أمره من ربه

وعندما صفت له الأمور * تقلبت بجسمه الدهور

ثم أتى من بعده الوليد * ثم سليمان الفتى الرشيد

ثم استفاض في الورى عدل عمر * تابع أمر ربه كما أمر

وكان يدعى بأشجّ القوم * وذي الصلاة والتقى والصوم

فجاء بالعدل والإحسان * وكف أهل الظلم والطغيان

مقتدياً بسنة الرسول * والراشدين من ذوي العقول

فجرع الإسلام كأس فقده * ولم يروا مثلاً له من بعده

ثم يزيد بعده هشام * ثم الوليد فت منه الهام

ثم يزيد وهو يدعى الناقصا * فجاءه حمامه معافصا

ولم تطل مدة إبراهيما * وكان كل أمره سقيما

وأسند الملك إلى مروانا * فكان من أموره ما كانا

وانقرض الملك على يديه * وحادث الدهر سطا عليه

وقتله قد كان بالصعيد * ولم تفده كثرة العديد

وكان فيه حتف آل الحكم * واستنزعت عنهم ضروب النعم

ثم أتى ملك بني العباس * ولا زال فينا ثابت الأساس

وجاءت البيعة من أرض العجم * وقلدت بيعتهم كل الأمم

وكل من نازعهم من أممٍ * خر صريعاً لليدين و الفم

وقد ذكرت من تولى منهم * حين تولى القائم المستعصم

أولهم ينعت بالسفاح * وبعده المنصور ذو الجناح

ثم أتى من بعده المهدي * يتلوه موسى الهادي الصفي

وجاء هارون الرشيد بعده * ثم الأمين حين ذاق فقده

وقام بعد قتله المأمون * وبعده المعتصم المكين

واستخلف الواثق بعد المعتصم * ثم أخوه جعفر موفي الذمم

وأخلص النية في المتوكل * لله ذي العرش القديم الأول

فأدحض البدعة في زمانه * وقامت السنة في أوانه

ولم يبق فيها بدعة مضلةٌ * وألبس المعتزلي ثوب ذله

فرحمة الله عليه أبدا * ما غار نجمٌ في السماء أو بدا

وبعده استولى وقام المعتمد * ومهد الملك وساس المقتصد

وعندما استشهد قام المنتصر * والمستعين بعده كما ذكر

وجاء بعد موته المعتز * والمهتدي الملتزم الأعز

والمكتفي في صحف العلا أسطر * وبعده ساس الأمور المقتدر

واستوثق الملك بعز القاهر * وبعده الراضي أخو المفاخر

والمتقي من بعد ذا المستكفي * ثم المطيع ما به من خلف

والطائع الطائع ثم القادر * والقائم الزاهد وهو الشاكر

والمقتدي من بعده المستظهر * ثم أتى المسترشد الموقر

وبعده الراشد ثم المقتفي * وحين مات استنجدوا بيوسف

المستضيء العادل في أفعاله * الصادق الصدوق في أقواله

والناصر الشهم الشديد الباسِ * ودام طول مكثه في الناس

ثم تلاه الظاهر الكريم * وعدله كلٌ به عليم

ولم تطل أيامه في المملكة * غير شهور واعترته الهلكه

وعهده كان إلى المستنصر * العادل البر الكريم العنصر

دام يسوس الناس سبع عشرة * وأشهراً بعزمات برّه

ثم توفي عام أربعينا * وفي جمادى صادف المنونا

وبايع الخلائق المستعصما * صلى عليه ربنا وسلما

فأرسل الرسل إلى الآفاق * يقضون بالبيعة والوفاق

وشرفوا بذكره المنابرا * ونشروا في جوده المفاخرا

وسار في الآفاق حسن سيرته * وعدله الزائد في رعيته

قال الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى‏:‏ ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتاً‏:‏

ثم ابتلاه الله بالتتار * أتباع جنكيز خان الجبار

صحبته ابن ابنه هولاكو * فلم يكن من أمره فكاك

فمزقوا جنوده وشمله * وقتلوه نفسه و جهله

ودمروا بغداد والبلادا * وقتلوا الأحفاد والأجدادا

وانتهبوا المال مع الحريم * ولم يخافوا سطوة العظيم

وغرهم إنظاره وحلمه * وما اقتضاه عدله وحكمه

وشغرت من بعده الخلافة * ولم يؤرخ مثلها من آفة

ثم أقام الملك أعني الظاهرا * خليفةً أعني به المستنصرا

ثم ولي من بعد ذاك الحاكم * مسيم بيبرس الإمام العالم

ثم ابنه الخليفة المستكفي * وبعض هذا للبيب يكفي

ثم ولي من بعده جماعة * ما عندهم علم ولا بضاعة

ثم تولي وقتنا المعتضد * ولا يكاد الدهر مثله يجد

في حسن خلق واعتقادٍ وحلى * وكيف لا وهو من السيم الأولى

سادوا البلاد والعباد فضلاً * وملأوا الأقطار حكماً وعدلاً

أولاد عم المصطفى محمد * وأفضل الخلق بلا تردد

صلى عليه الله ذو الجلال * ما دامت الأيام والليالي

فصل

والفاطميون قليلوا العدة * لكنهم مد لهم في المدة

فملكوا بضعاً وستين سنة * من بعده مائتين وكان كالسنة

والعدة أربع عشرة المهدي * والقائم المنصور المعدي

أعني به المعز باني القاهرة * ثم العزيز الحاكم الكوافرة

والظاهر المستنصر المستعلي * فالآمر الحافظ عنه سوء الفعل

والظافر الفائز ثم العاضد * آخرهم وما لهذا جاحد

أهلك بعد البضع والسنينا * من قبلها خمسمائةٍ سنينا

وأصلهم يهود ليسوا شرفا * بذاك أفتى السادة الأئمة

أنصار دين الله من ذي الأمة‏.‏

فصل

وهكذا خلفاء بني أمية * عدتهم كعدة الرافضية

ولكن المدة كانت ناقصة * عن مائة من السنين خالصة

وكلهم قد كان ناصبياً * إلا الإمام عمر التقيا

معاوية ثم ابنه يزيد * وابن ابنه معاوية السديد

مروان ثم ابن له عبد الملك * منابذ لابن الزبير حتى هلك

ثم استقل بعده بالملك * في سائر الأرض بغير شك

ثم الوليد النجل باني الجامع * وليس مثله بشكله من جامع

ثم سليمان الجواد وعمر * ثم يزيد وهشام وغدر

أعني الوليد بن يزيد الفاسقا * ثم يزيد بن الوليد فائقا

يلقب الناقص وهو كامل * ثم إبراهيم وهو عاقل

ثم مروان الحمار الجعدي * آخرهم فاظفر بذا من عندي

والحمد لله على التمام * كذاك نحمد على الأنعام

ثم الصلاة مع تمام العدد * على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الأخيار * في سائر الأوقات والأعصار

وهذه الأبيات نظم الكاتب * ثمانية تتمة المناقب

وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن أحمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي‏.‏

ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شاباً حسناً، وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدماً في مناصب الدنيا، فولي حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والأشعار الحسنة، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له تداريس أخر‏.‏

ولي أستاذ دار الخلافة، وكان رسولاً للملوك من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء، وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ، ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الكريم‏.‏

وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله‏.‏

ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد، وقد ذكر له ابن الساعي أشعاراً حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والأعياد، تدل على فضيلة وفصاحة، وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس، تقبل الله منه‏.‏

 الصرصري المادح رحمه الله

يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعرم عبد السلام الشيخ الإمام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم، جمال الدين أبو زكريا الصرصري، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة‏.‏

وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبد القادر، وكان ذكياً يتوقد نوراً، وكان ينظم على البديهة سريعاً أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم ‏(‏الكافي‏)‏ الذي ألفه موفق الدين بن قدامة، و‏(‏مختصر الخرقي‏)‏‏.‏

وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إنها تبلغ عشرين مجلداً، وما اشتهر عنه أنه مدح أحداً من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء، ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هولاكو فأبى أن يجيب إليه، وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم، ثم قتلوه شهيداً رحمه الله تعالى، وله من العمر ثمان وستون سنة‏.‏

وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في ‏(‏الذيل‏)‏ استوعب حروف المعجم، وذكر غير ذلك قصائد طوالاً كثيرة حسنة‏.‏

 البهاء زهير صاحب الديوان

وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن جعفر المهلبي العتكي المصري، ولد بمكة ونشأ بقوص، وأقام بالقاهرة، الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور، وقدم على السلطان الصالح أيوب، وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس، ودفع الشر عنهم، وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال‏:‏ أجاز لي رواية ديوانه وقد، بسط ترجمته القطب اليونيني‏.‏

 الحافظ زكي الدين المنذري

عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد، الإمام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري، أصله من الشام وولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وعني بهذا الشأن، حتى فاق أهل زمانه فيه، وصنف وخرج واختصر ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، و‏(‏سنن أبي داود‏)‏، وهو أحسن اختصاراً من الأول، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، وكان ثقة حجة متحرياً زاهداً توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر‏.‏

ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

 النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز

ابن عبد الرحيم بن رستم الأشعري الشاعر المشهور الخليع، كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الأجناد فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتاباً سماه ‏(‏الزرجون في الخلاعة والمجون‏)‏ وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة، ومن شعره الذي لا يحمد‏:‏ ‏

لذة العمر خمسة فاقتنيها * من خليعٍ غدا أديباً فقيها

في نديم وقينةٍ وحبيبٍ * ومدامٍ وسب من لام فيها

 الوزير بن العلقمي الرافضي قبحه الله

محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وخدمة في زمان المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة، ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الإنشاء والأدب، وكان رافضياً خبيثاً رديء الطوية على الإسلام وأهله‏.‏

وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله الكفار هولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره‏.‏

ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذوناً وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه وقالت له‏:‏

يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك‏؟‏ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمداً وغبينة وضيقاً، وقلة وذلة، في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف‏.‏

وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعاً، وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه‏:‏

يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا * أسفاً على ما حل بالمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه * لابن الفرات فصار لابن العلقمي

 محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة

فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق، كان مشكوراً حسن الطريقة، وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة، وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيراً‏.‏ ‏

 القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم

أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالإسكندرية، ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك واختصر ‏(‏الصحيحين‏)‏، وشرح ‏(‏صحيح مسلم‏)‏المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله‏.‏

 الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان

أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وكان مدرساً بالرواحية، توفي في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

 العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل

أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي، ثم الدمشقي خطيب بيت الأبار، وقد خطب بالأموي ست سنين بعد ابن عبد السلام، ودرس بالغزالية، ثم عاد إلى بيت الأبار فمات بها‏.‏

علي بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد، وكان أولاً مؤدباً للإمام المستعصم، فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده، وانضمت إليه أزمة الأمور، ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار

 الشيخ علي العابد الخباز

كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتلته التتار وألقي على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته‏.‏

 محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي

الخطيب براد سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، ولد في سنة ثلاث وخمسين فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده برادا في هذه السنة، رحمه الله‏.‏

 

 البدر لؤلؤ صاحب الموصل

الملقب بالملك الرحيم، توفي في شعبان عن مائة سنة، وقد ملك الموصل نحواً من خمسين سنة، وكان ذا عقل ودهاء ومكر، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه حتى أبادهم وأزال الدولة الأتابكية عن الموصل، ولما انفصل هولاكو خان عن بغداد - بعد الوقعة الفظيعة العظيمة - سار إلى خدمته طاعة له، ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه، ورجع من عنده فمكث بالموصل أياماً يسيرة‏.‏ ثم مات ودفن بمدرسته البدرية، وتأسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته، وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى ‏(‏بالكامل في التاريخ‏)‏ فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطي لبعض الشعراء ألف دينار‏.‏

وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل‏.‏

وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنياً اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر الأتابكي، صاحب الموصل، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه‏.‏

ثم إنه قتل أولاد أستاذه غيلة واحداً بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل هو بالملك، وصفت له الأمور، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على قنديلاً ذهباً زنته ألف دينار، وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة، وكان شاباً حسن الشباب من نضارة وجهه، وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه‏:‏ قضيب الذهب‏.‏

وكان ذا همة عالية، وداهية شديد المكر، بعيد الغور، وبعثه إلى مشهد علي بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه، والله أعلم‏.‏

 الملك الناصر داود المعظم

ترجمه الشيخ قطب الدين اليونيني في ‏(‏تذييله على المرآة‏)‏ في هذه السنة، وبسط ترجمته جداً وما جرى له من أول أمره إلى آخره‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث، وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة، فتكرر وفوده إليه، وتوسله بالناس في ردها إليه، فلم يفد من ذلك شيئاً، وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله‏:‏

لو كنت في يوم السقيفة حاضراً * كنت المقدم والإمام الأورعا

فقال له الناصر داود‏:‏ أخطأت، فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضراً يوم السقيفة، ولم يكن المقدم وهو أفضل من أمير المؤمنين، وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق‏.‏ ‏

فقال الخليفة‏:‏ صدق، وخلع عليه، ونفى ذلك الشاعر - وهو الوجيه الفزاري - إلى مصر، وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا مرسماً عليه، وشهد جنازته صاحب دمشق‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة

استهلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن أبي الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين، وهو واقع بينه وبين المصريين‏.‏

وقد ملكوا نور الدين علي بن المعز أيبك التركماني ولقبوه‏:‏ بالمنصور، وقد أرسل الملك الغاشم هولاكو خان إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه، فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه هدايا كثيرة وتحف، فلم يحتفل به هولاكو خان بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه، وأخذ ابنه وقال‏:‏ أنا أسير إلى بلاده بنفسي‏.‏

فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك ليحصنهم بها، وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً، ولا سيما لما بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناس كثير منهم ونهبوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وأقبل هولاكو خان فقصد الشام بجنوده وعساكره، وقد امتنعت عليه ميافارقين مدة سنة ونصف، فأرسل إليها ولده أشموط فافتتحها قسراً وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي بن العادل فأرسله إلى أبيه وهو محاصر حلب فقتله بين يديه، واستناب عليها بعض مماليك الأشرف، وطيف برأس الكامل في البلاد‏.‏

ودخلوا برأسه إلى دمشق فنصب على باب الفراديس البراني، ثم دفن بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الجواني، فنظم أبو شامة في ذلك قصيدة يذكر فيها فضله وجهاده، وشبهه بالحسين في قتله مظلوماً ودفن رأسه عند رأسه‏:‏

وفيها‏:‏ عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة، ونقل إليه شيئاً كثيراً من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دار حكمة، ورتب فيها فلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم‏.‏

ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهان‏.‏

ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم‏.‏

ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم‏.‏

وفيها‏:‏ قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف‏:‏ بابن العديم إلى الديار المصرية رسولاً من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار، وأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وقد استولوا على بلاد الجزيرة وغيرها‏.‏

‏وقد جاز أشموط بن هولاكو خان الفرات، وقرب من حلب، فعند ذلك عقدوا مجلساً بين يدي المنصور بن المعز التركماني، وحضر قاضي مصر بدر الدين السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال‏:‏

إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم، لأنه إذا دهم العدو البلاد، وجب على الناس كافة دفعهم بأموالهم وأنفسهم‏.‏

 ولاية الملك المظفر قطز

وفيها‏:‏ قبض الأمير سيف الدين قطز علي ابن أستاذه نور الدين علي الملقب بالمنصور، وذلك في غيبة أكثر الأمراء من مماليك أبيه وغيرهم في الصيد، فلما مسكه سيره مع أمه وأبنيه وأخوته إلى بلاد الإشكري، وتسلطن هو وسمى نفسه‏:‏ بالملك المظفر‏.‏

وكان هذا من رحمة الله بالمسلمين، فإن الله جعل على يديه كسر التتار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

وبان عذره الذي اعتذر به إلى الفقهاء والقضاة وإلى ابن العديم، فإنه قال‏:‏ لا بد للناس من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم، وهذا صبي صغير لا يعرف تدبير المملكة‏.‏

وفيها‏:‏ برز الملك الناصر صاحب دمشق إلى وطاء، برز في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والأعراب، وغيرهم ولما علم ضعفهم عن مقاومة المغول أرفض ذلك الجمع، ولم يسر لا هو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 واقف الصدرية صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مؤمل

التنوخي المغربي ثم الدمشقي الحنبلي أحد المعدلين، ذوي الأموال، والمروءات والصدقات الدارة البارة، وقف مدرسة للحنابلة، وقبره بها إلى جانب تربة القاضي المصري في رأس درب الريحان من ناحية الجامع الأموي، وقد ولي نظر الجامع مدة‏.‏

استجد أشياء كثيرة منها‏:‏ سوق النحاسين قبلي الجامع، ونقل الصاغة إلى مكانها الآن، وقد كانت قبل ذلك في الصاغة العتيقة، وجدد الدكاكين التي بين أعمدة الزيارة، وثمر الجامع أموالاً جزيلة، وكانت له صدقات كثيرة، وذكر عنه أنه كان يعرف صنعة الكيميا، وأنه صح معه عمل الفضة، وعندي أن هذا لا يصح ولا يصح عنه، والله أعلم‏.‏

 الشيخ يوسف الأقميني

كان يعرف بالأقميني لأنه كان يسكن قمين حمام نور الدين الشهيد، وكان يلبس ثياباً طوالاً تحف على الأرض، ويبول في ثيابه، ورأسه مكشوفة، ويزعمون أن له أحوالاً وكشوفاً كثيرة‏.‏

وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته، وذلك لأنهم لا يعملون شرائط الولاية ولا الصلاح، ولا يعملون أن الكشوف قد تصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كالرهبان وغيرهم، وكالدجال وابن صياد وغيرهم‏.‏

فإن الجن تسترق السمع وتلقيه على أذن الإنسي، ولا سيما من يكون مجنوناً أو غير نقي الثياب من النجاسة، فلا بد من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة، فمن وافق حاله كتاب الله وسنة رسوله فهو رجل صالح، سواء كاشف أو لم يكاشف، ومن لم يوافق فليس برجل صالح سواء كاشف أم لا‏.‏

قال الشافعي‏:‏ إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة‏.‏

ولما مات هذا الرجل دفن بتربة بسفح قاسيون، وهي مشهورة به شرقي الرواحية، وهي مزخرفة قد اعتنى بها بعض العوام ممن كان يعتقده، فزخرفها وعمل على قبره حجارة منقوشة بالكتابة، وهذا كله من البدع‏.‏

وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة، وكان الشيخ إبراهيم بن سعيد جيعانة لا يتجاسر فيما يزعم أن يدخل البلد والقميني حي، فيوم مات الأقميني دخلها، وكانت العوام معه فدخلوا دمشق وهم يصيحون ويصرخون أذن لنا في دخول البلد، وهم أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، فقيل لجيعانة‏:‏

ما منعك من دخولها قبل اليوم‏؟‏

فقال‏:‏ كنت كلما جئت إلى باب من أبواب البلد، أجد هذا السبع رابضاً فيه فلا أستطيع الدخول‏.‏

وقد كان سكن الشاغور، وهذا كذب واحتيال ومكر وشعبذة، وقد دفن جيعانة عنده في تربته بالسفح والله أعلم بأحوال العباد‏.‏

 الشمس علي بن الشبي المحدث

ناب في الحسبة عن الصدر البكري، وقرأ الكثير بنفسه، وسمع وأسمع، وكتب بخطه كثيراً‏.‏ ‏

 

 

 أبو عبد الله الفاسي شارح ‏(‏الشاطبية‏)‏

اشتهر بالكنية، وقيل‏:‏ إن اسمه القاسم، مات بحلب وكان عالماً فاضلاً في العربية والقراءات وغير ذلك، وقد أجاد في شرحه ‏(‏للشاطبية‏)‏ وأفاد، واستحسنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة شارحها أيضاً‏.‏

 النجم أخو البدر مفضل

وكان شيخ الفاضلية بالكلاسة، وكان له إجازة من السلفي خطيب العقبية بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ودفن بباب الصغير على جده، وكانت جنازته حافلة رحمه الله‏.‏

 سعد الدين محمد بن الشيخ محي الدين بن عربي

ذكره أبو شامة وأثنى عليه في فضيلته وأدبه وشعره، هذا إن لم يكن من أتباع أبيه، وقد ذكره أبو شامة وفاة الناصر داود في هذه السنة‏.‏

 سيف الدين بن صبرة

متولي شرطة دمشق، ذكر أبو شامة‏:‏ أنه حين مات جاءت حية فنهشت أفخاذه، وقيل‏:‏ إنها التفت في أكفانه، وأعيي الناس دفعها‏.‏

قال وقيل‏:‏ إنه كان نصيرياً رافضياً خبيثاً مدمن خمر، نسأل الله الستر والعافية‏.‏

 النجيب بن شعيشعة الدمشقي

أحد الشهود بها، له سماع حديث، ووقف داره بدرب البانياسي دار حديث، وهي التي كان يسكنها شيخنا الحافظ المزي قبل انتقاله إلى دار الحديث الأشرفية‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكان ابن شعيشعة وهو النجيب أبو الفتح نصر الله بن أبي طالب الشيباني، مشهوراً بالكذب ورقة الدين وغير ذلك، وهو أحد الشهود المقدوح فيهم، ولم يكن بأهل أن يؤخذ عنه، قال‏:‏ وقد أجلسه أحمد بن يحيى الملقب بالصدر ابن سني الدولة في حال ولايته القضاء بدمشق، فأنشد فيه بعض الشعراء‏:‏

جلس الشعيشعة الشقي ليشهدا * تباً لكم، ماذا عدا فيما بدا ‏؟‏

هل زلزل الزلزال‏؟‏ أم قد خرج الد * جال أم عدم الرجال ذوو الهدى‏؟‏

عجباً لمحلول العقيدة جاهلٍ * بالشرع قد أذنوا له أن يقعدا

قال أبو شامة‏:‏ في سنة سبع وخمسين وستمائة مات شخص زنديق يتعاطى الفلسفة والنظر في علم الأوائل، وكان يسكن مدارس المسلمين، وقد أفسد عقائد جماعة من الشبان المشتغلين فيما بلغني، وكان أبوه يزعم أنه من تلامذة ابن خطيب الري الرازي صاحب المصنفات حية ولد حية‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة

استهلت هذه السنة بيوم الخميس وليس للناس خليفة، وملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد المشرق للسلطان هولاكو خان ملك التتار، وسلطان ديار مصر الملك المظفر سيف الدين قطز، مملوك المعز أيبك التركماني، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز بن الظاهر، وبلاد الكرك والشوبك للملك المغيث بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب‏.‏

وهو حرب مع الناصر صاحب دمشق على المصريين، ومعهما الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وقد عزموا على قتال المصريين، وأخذ مصر منهم‏.‏

وبينما الناس على هذه الحال وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو خان وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالأمان‏.‏

ثم غدروا بأهلها وقتلوا منهم خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، فجاسوا خلال الديار وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وامتنعت عليه القلعة شهراً ثم استلموها بالأمان، وخرب أسوار البلد وأسوار القلعة وبقيت حلب كأنها حمار أجرب، وكان نائبها الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وكان عاقلاً حازماً، لكنه لم يوافقه الجيش على القتال، وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏

وقد كان أرسل هولاكو يقول لأهل حلب‏:‏ نحن إنما جئنا لقتال الملك الناصر بدمشق، فاجعلوا لنا عندكم شحنة، فإن كانت النصرة لنا فالبلاد كلها في حكمنا، وإن كانت علينا فإن شئتم قبلتم الشحنة وإن شئتم أطلقتموه‏.‏

فأجابوه ما لك عندنا إلا السيف، فتعجب من ضعفهم وجوابهم، فزحف حينئذ إليهم وأحاط بالبلد، وكان ما كان بقدر الله سبحانه‏.‏

ولما فتحت حلب أرسل صاحب حماه بمفاتيحها إلى هولاكو، فاستناب عليها رجلاً من العجم يدّعي أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له‏:‏ خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب‏.‏ ‏

صفة أخذهم دمشق وزوال ملكهم عنها سريعاً

أرسل هولاكو وهو نازل على حلب جيشاً مع أمير من كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا دمشق في آخر صفر فأخذوها سريعاً من غير ممانعة ولا مدافع، بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة‏.‏

وقد كتب هولاكو أماناً لأهل البلد، فقرئ بالميدان الأخضر ونودي به في البلد، فأمن الناس على وجل من الغدر، كما فعل بأهل حلب، هذا والقلعة ممتنعة مستورة، وفي أعاليها المجانيق منصوبة والحال شديدة‏.‏

فأحضرت التتار منجنيقاً يحمل على عجل والخيول تجرها، وهم راكبون على الخيل وأسلحتهم على أبقار كثيرة، فنصب المنجانيق على القلعة من غربيها، وخربوا حيطاناً كثيرة وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رمياً متواتراً كالمطر المتدارك‏.‏

فهدموا كثيراً من أعاليها وشرفاتها وتداعت للسقوط، فأجابهم متوليها في آخر ذلك النهار للمصالحة، ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها، وأعالي بروجها، وذلك في نصف جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

وقتلوا المتولي بها بدر الدين بن قراجا، ونقيبها جمال الدين بن الصيرفي الحلبي، وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم يقال له‏:‏ إبل سيان، وكان لعنه الله معظماً لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه‏.‏

وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفاً، وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان من جهته، ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم، ويقولون‏:‏ ظهر الدين الصحيح دين المسيح‏.‏

ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم‏.‏

ودخلوا من درب الحجر فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان ورشوا عنده خمراً، وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير، واجتازوا في السوق حتى وصلوا درب الريحان أو قريب منه، فتكاثر عليهم المسلمون فردوهم إلى سوق كنيسة مريم‏.‏

فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم وكانت عامرة ولكن كان هذا سبب خرابها ولله الحمد‏.‏

وحكى الشيخ قطب الدين في ‏(‏ذيله على المرآة‏)‏ أنهم ضربوا بالناقوس في كنيسة مريم فالله أعلم‏.‏

قال‏:‏ وذكر أنهم دخلوا إلى الجامع بخمر وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيراً من المساجد وغيرها، ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها إبل سيان فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم‏.‏

فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وهذا كان في أول هذه السنة وسلطان الشام الناصر بن العزيز وهو مقيم في وطأة برزه، ومعه جيوش كثيرة من الأمراء وأبناء الملوك ليناجزوا التتار إن قدموا عليهم، وكان في جملة من معه الأمير بيبرس البندقداري في جماعة من البحرية، ولكن الكلمة بين الجيوش مختلفة غير مؤتلفة، لما يريده الله عز وجل‏.‏

وقد عزمت طائفة من الأمراء على خلع الناصر وسجنه ومبايعة أخيه شقيقه الملك الظاهر علي‏.‏

فلما عرف الناصر ذلك هرب إلى القلعة وتفرقت العساكر شذر مذر وساق الأمير ركن الدين بيبرس في أصحابه إلى ناحية غزة، فاستدعاه الملك المظفر قطز إليه واستقدمه عليه، وأقطعه قليوب، وأنزله بدار الوزارة، وعظم شأنه لديه، وإنما كان حتفه على يديه‏.‏

 وقعت عين جالوت

اتفق وقوع هذا كله في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، فما مضت سوى ثلاثة أيام حتى جاءت البشارة بنصرة المسلمين على التتار بعين جالوت، وذلك أن الملك المظفر قطز صاحب مصر لما بلغه أن التتار قد فعلوا بالشام ما ذكرنا، وقد نهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى غزة، وقد عزموا على الدخول إلى مصر، وقد عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر، وليته فعل، وكان في صحبته الملك المنصور صاحب حماه وخلق من الأمراء وأبناء الملوك‏.‏

وقد وصل إلى قطية وأكرم الملك المظفر قطز صاحب حماه، ووعده ببلده ووفاه له، ولم يدخل الملك الناصر مصر بل كر راجعاً إلى ناحية تيه بني إسرائيل، ودخل عامة من كان معه إلى مصر، ولو دخل كان أيسر عليه مما صار إليه‏.‏

ولكنه خاف منهم لأجل العداوة فعدل إلى ناحية الكرك فتحصن بها وليته استمر فيها، ولكنه قلق فركب نحو البرية - وليته ذهب فيها - واستجار ببعض أمراء الأعراب، فقصدته التتار وأتلفوا ما هنالك من الأموال وخربوا الديار وقتلوا الكبار والصغار وهجموا على الأعراب التي بتلك النواحي فقتلوا منهم خلقاً وسبوا من نسلهم ونسائهم‏.‏

وقد اقتص منهم العرب بعد ذلك، فأغاروا على خيل جشارهم في نصف شعبان فساقوها بأسرها، فساقت وراءهم التتار فلم يدركوا لهم الغبار ولا استردوا منهم فرساً ولا حماراً‏.‏

وما زال التتار وراء الناصر حتى أخذوه عند بركة زيزي، وأرسلوه مع ولده العزيز، وهو صغير وأخيه إلى ملكهم هولاكو خان وهو نازل على حلب، فما زالوا في أسره حتى قتلهم في السنة الآتية كما سنذكره‏.‏

والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه‏.‏

فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين‏.‏

وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعاً، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان‏.‏

فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة، وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالاً شديداً‏.‏

وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل فأمر المظفر بضرب عنقه، وأستأمن الأشرف صاحب حمص‏.‏

وكان مع التتار وقد جعله هولاكو خان نائباً على الشام كله، فأمنه الملك المظفر، ورد إليه حمص، وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها‏.‏

وأطلق سلمية للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان‏.‏

فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم، ويستفكّون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحاً شديداً، وأيد الله الإسلام وأهله تأييداً وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون‏.‏

فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة إلى النصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود‏.‏

فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً كان مصانعاً للتتار على أموال الناس يقال له‏:‏ الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقياً ممالئاً لهم على أموال المسلمين قبحه الله‏.‏

وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏.‏

وقد كان هولاكو أرسل تقليداً بولاية القضاء على جميع المدائن‏:‏ الشام، والجزيرة، والموصل، وماردين، والأكراد وغير ذلك، للقاضي كمال الدين عمر بن بدار التفليسي‏.‏

وقد كان نائب الحكم بدمشق عن القاضي صدر الدين أحمد بن يحيى بن هبة الله بن سني الدولة من مدة خمس عشرة سنة، فحين وصل التقليد في سادس عشرين ربيع الأول قرئ بالميدان الأخضر فاستقل بالحكم في دمشق، وقد كان فاضلاً‏.‏

فسار القاضيان المعزولان صدر الدين بن سني الدولة ومحيي الدين بن الزكي إلى خدمة هولاكو خان إلى حلب، فخدع ابن الزكي لابن سني الدولة وبذل أموالاً جزيلة، وتولى القضاء بدمشق ورجعا‏.‏

فمات ابن سني الدولة ببعلبك، وقدم ابن الزكي على القضاء ومعه تقليده وخلعة مذهبة فلبسها وجلس في خدمة إبل سنان تحت قبة النسر عند الباب الكبير، وبينهما الخاتون زوجة إبل سنان حاسرة عن وجهها‏.‏

وقرئ التقليد هناك والحالة كذلك، وحين ذكر اسم هولاكو نثر الذهب والفضة فوق رؤوس الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قبح الله ذلك القاضي والأمير والزوجة والسلطان‏.‏

وذكر أبو شامة‏:‏ أن ابن الزكي استحوذ على مدارس كثيرة في مدته هذه القصيرة، فإنه عزل قبل رأس الحول، فأخذ في هذه المدة العذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والعزيزية مع المدرستين اللتين كانتا بيده التقوية والعزيزية‏.‏

وأخذ لولده عيسى تدريس الأمينية ومشيخة الشيوخ، وأخذ أم الصالح لبعض أصحابه وهو العماد المصري، وأخذ الشامية البارانية لصاحب له، واستناب أخاه لأمه شهاب الدين إسماعيل بن أسعد بن حبيش في القضاء وولاه الرواحية والشامية البرانية‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ مع أن شرط واقفها أن لا يجمع بينها وبين غيرها‏.‏

ولما رجعت دمشق وغيرها إلى المسلمين، سعى في القضاء وبذل أموالاً ليستمر فيه وفيما بيديه من المدارس، فلم يستمر بل عزل بالقاضي نجم الدين أبي بكر بن صدر الدين بن سني الدولة، فقرئ توقيعه بالقضاء يوم الجمعة بعد الصلاة في الحادي والعشرين من ذي القعدة عند الشباك الكمالي من مشهد عثمان من جامع دمشق‏.‏

ولما كسر الملك المظفر قطز عساكر التتار بعين جالوت ساق وراءهم ودخل دمشق في أبهة عظيمة وفرح به الناس فرحاً شديداً ودعوا له دعاء كثيراً، وأقر صاحب حمص الملك الأشرف عليها، وكذلك المنصور صاحب حماه، واسترد حلب من يد هولاكو، وعاد الحق إلى نصابه ومهد القواعد‏.‏

وكان قد أرسل بين يديه الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ليطرد التتار عن حلب ويتسلمها ووعده بنيابتها، فلما طردهم عنها وأخرجهم منها وتسلمها المسلمون استناب عليها غيره وهو علاء الدين ابن صاحب الموصل‏.‏

وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينهما واقتضت قتل الملك المظفر قطز سريعاً، ولله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

فلما فرغ المظفر من الشام عزم على الرجوع إلى مصر واستناب على دمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والأمير مجير الدين بن الحسين بن آقشتمر، وعزل القاضي ابن الزكي عن قضاء دمشق، وولي ابن سني الدولة ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الإسلامية في خدمته، وعيون الأعيان تنظر إليه شزراً من شدة هيبته‏.‏

 ذكر سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري

وهو الأسد الضاري، وذلك أن السلطان الملك المظفر قطز لما عاد قاصداً مصر، وصل إلى ما بين الغزالي والصالحية، عدا عليه الأمراء فقتلوه هنالك‏.‏

وقد كان رجلاً صالحاً كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى المسكر ولا شيئاً مما يتعاطاه الملوك، وكانت مدة ملكه من حين عزل ابن أستاذه المنصور علي بن المعز التركماني إلى هذه المدة، وهي أواخر ذي القعدة نحواً من سنة، رحمه الله وجزاه عن الإسلام وأهله خيراً‏.‏

وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتفق مع جماعة من الأمراء على قتله، فلما وصل إلى هذه المنزلة ضرب دهليزه وساق خلف أرنب، وساق معه أولئك الأمراء فشفع عنده ركن الدين بيبرس في شيء فشفعه، فأخذ يده ليقّبلها فأمسكها وحمل عليه أولئك الأمراء بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى قتلوه رحمه الله‏.‏

ثم كروا راجعين إلى المخيم وبأيديهم السيوف مصلتة، فأخبروا من هناك بالخبر، فقال بعضهم من قتله ‏؟‏

فقالوا‏:‏ ركن الدين بيبرس‏.‏

فقالوا‏:‏ أنت قتلته ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

فقالوا‏:‏ أنت الملك إذاً‏.‏

وقيل لما قتل حار الأمراء بينهم فيمن يولون الملك، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعاً، فاتفقت كلمتهم على أن بايعوا بيبرس البندقداري، ولم يكن هو من أكابر المقدمين، ولكن أرادوا أن يجربوا فيه، ولقبوه‏:‏ الملك الظاهر‏.‏

فجلس على سرير المملكة وحكمه، ودقت البشائر وضربت الطبول والبوقات وصفرت الشغابة، وزعقت الشاووشية بين يديه، وكان يوماً مشهوداً وتوكل على الله واستعان به‏.‏

ثم دخل مصر والعساكر في خدمته، فدخل قلعة الجبل وجلس على كرسيها، فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل، وكان شهماً شجاعاً أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والأمر العسير‏.‏

وكان أولاً لقب نفسه بالملك القاهر، فقال له الوزير‏:‏ إن هذا اللقب لا يفلح من يلقب به‏.‏

تلقب به القاهر بن المعتمد فلم تطل أيامه حتى خلع وسملت عيناه، ولقب به القاهر صاحب الموصل فسم فمات، فعدل عنه حينئذ إلى الملك الظاهر‏.‏

ثم شرع في مسك من يرى في نفسه رئاسة من أكابر الأمراء حتى مهد الملك‏.‏

وقد كان هولاكو خان لما بلغه ما جرى على جيشه من المسلمين بعين جالوت أرسل جماعة من جيشه الذين معه كثيرين ليستعيدوا الشام من أيدي المسلمين، فحيل بينهم وبين ما يشتهون فرجعوا إليه خائبين خاسرين، وذلك أنه نهض إليهم الهزبر الكاسر والسيف البائر الملك الظاهر‏.‏

فقدم دمشق وأرسل العساكر في كل وجه لحفظ الثغور والمعاقل بالأسلحة، فلم يقدر التتار على الدنو إليه، ووجدوا الدولة قد تغيرت، والسواعد قد شمرت، وعناية الله بالشام وأهله قد حصلت، ورحمته بهم قد نزلت، فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم، وكروا راجعين القهقرى والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‏.‏

وقد كان الملك المظفر قطز رحمه الله استناب على دمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي أحد الأتراك، فلما بلغه مقتل المظفر دخل القلعة ودعا لنفسه وتسمى‏:‏ بالملك المجاهد‏.‏

فلما جاءت البيعة للملك الظاهر خطب له يوم الجمعة السادس من ذي الحجة فدعا الخطيب أولا للمجاهد، ثم للظاهر ثانياً وضربت السكة باسمهما معا، ثم ارتفع المجاهد هذا من البين كما سيأتي‏.‏

وقد اتفق في هذا العام أمور عجيبة وهي‏:‏ أن أول هذه السنة كانت الشام للسلطان الناصر ابن العزيز، ثم في النصف من صفر صارت لهولاكو ملك التتار، ثم في آخر رمضان صارت للمظفر قطز، ثم في أواخر العقدة صارت للظاهر بيبرس، وقد شركه في دمشق الملك المجاهد سنجر‏.‏

وكذلك كان القضاء في أولها بالشام لابن سني الدولة صدر الدين، ثم صار للكمال عمر التفليسي من جهة هولاكو، ثم لابن الزكي، ثم لنجم الدين ابن سني الدولة‏.‏

وكذلك كان خطيب جامع دمشق عماد الدين بن الحرستاني من سنين متطاولة، فعزل في شوال منها بالعماد الأسعردي، وكان صيناً قارئاً مجيداً، ثم أعيد العماد الحرستاني في أول ذي القعدة منها‏.‏ فسبحان من بيده الأمور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏

 

 

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس ابن سني الدولة

أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن محمد بن علي يحيى بن صدقة بن الخياط، قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس ابن سني الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي، وسني الدولة الحسين بن يحيى المذكور كان قاضياً لبعض ملوك دمشق في حدود الخمسمائة، وله أوقاف على ذريته‏.‏

وابن الخياط الشاعر صاحب الديوان، وهو‏:‏ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي، هو عم سني الدولة‏.‏

ولد سني الدولة سنة تسع وخسمين وخمسمائة وسمع الخشوعي، وابن طبرزد، والكندي، وغيرهم، وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى، وكان عارفاً بالمذاهب مشكور السيرة، ولكن أبو شامة ينال منه ويذمه فالله أعلم‏.‏

وقد ولي الحكم بدمشق استقلالاً سنة ثلاث وأربعين واستمر إلى مدة السنة، وسافر حين عزل بالكمال التفليسي هو والقاضي محيي الدين ابن الزكي، وقد سافر هو وابن الزكي إلى هولاكو لما أخذ حلب فولى ابن الزكي القضاء، واختار ابن سني الدولة بعلبك فقدمها وهو متمرض فمات بها ودفن عند الشيخ عبد الله اليونيني‏.‏

وقد كان الملك الناصر يثني عليه كما كان الملك الأشرف يثني على والده شمس الدين‏.‏

ولما استقر الملك الظاهر بيبرس ولى القضاء ولده نجم الدين ابن سني الدولة، وهو الذي حدث في زمن المشمشي بطالة الدروس لأنه كان له بستان بأرض السهم، فكان يشق عليه مفارقة المشمش، والنزول إلى المدارس، فبطل الناس هذه الأيام واتبعوه في ذلك، والنفوس إنما تؤثر الراحة والبطالة، ولا سيما أصحاب البساتين في أيام الفواكه، وكثرة الشهوات في تلك الأيام ولا سيما القضاة‏.‏

وفيها توفي‏.‏

 الملك السعيد صاحب ماردين

نجم الدين بن أيل غازي بن المنصور ارتق بن أرسلان بن أيل غازي بن السني بن تمرتاش ابن أيل غازي بن أريثي، وكان شجاعاً ملك يوماً، وقد وقع في قلعته توران شاه بن الملك صلاح الدين كان نائباً للملك الظاهر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، صاحب دمشق على حلب، وقد حصن حلب من أيدي المغول مدة شهر، ثم تسلمها بعد محاصرة شديدة صلحا‏.‏

كانت وفاته في هذه السنة، ودفن بدهليز داره وفيها قتل‏:‏

 الملك السعيد حسن بن عبد العزيز

ابن العادل أبي بكر بن أيوب، كان صاحب الصبيبة وبانياس بعد أبيه، ثم أخذتا منه وحبس بقلعة المنيرة، فلما جاءت التتار كان معهم وردوا عليه بلاده، فلما كانت وقعة عين جالوت أتي به أسيراً إلى بين يدي المظفر قطز، فضرب عنقه لأنه كان قد لبس سرقوج التتار وناصحهم على المسلمين‏.‏

 عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر

ابن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، شرف الدين بن العجمي الحلبي الشافعي، من بيت العلم والرئاسة بحلب، درس بالظاهرة ووقف مدرسة بها ودفن بها، توفي حين دخلت التتار حلب في صفر فعذبوه وصبوا عليه ماء بارداً في الشتاء، فتشنج حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏

 

 الملك المظفر قطز بن عبد الله

سيف الدين التركي، أخص مماليك المعز التركماني أحد مماليك الصالح أيوب بن الكامل‏.‏ ‏

لما قتل أستاذه المعز قام في تولية ولده نور الدين المنصور علي، فلما سمع بأمر التتار خاف أن تختلف الكلمة لصغر ابن أستاذه فعزله ودعا إلى نفسه، فبويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة كما تقدم، ثم سار إلى التتار فجعل الله على يديه نصرة الإسلام كما ذكرنا، وقد كان شجاعاً بطلاً كثير الخير ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيراً‏.‏

ذكر عنه‏:‏ أنه لما كان يوم المعركة بعين جالوت قتل جواده ولم يجد أحدا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع السلطان من القلب‏.‏

فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها، فامتنع وقال لذلك الأمير‏:‏ ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل، فركب فلامه بعض الأمراء وقال‏:‏

يا خوند لم لا ركبت فرس فلان‏؟‏ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك‏.‏

فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقا من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الإسلام رحمه الله‏.‏

وكان حين سار من مصر في خدمته خلق من كبار الأمراء البحرية وغيرهم ومعه المنصور صاحب حماه، وجماعة من أبناء الملوك فأرسل إلى صاحب حماه يقول له‏:‏

لا تتعني في مد سماط في هذه الأيام وليكن مع الجندي لحمة يأكلها والعجل العجل، وكان اجتماعه مع عدوه كما ذكرنا في العشر الأخير من رمضان يوم الجمعة، وهذه بشارة عظيمة، فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان، وكان فيها نصر الإسلام‏.‏

ولما قدم دمشق في شوال أقام بها العدل ورتب الأمور، وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرجهم ويطردهم عن حلب، ووعده بنيابتها فلم يف له لما رآه من المصلحة فوقعت الوحشة بينهما بسبب ذلك، فلم عاد إلى مصر تملأ عليه الأمراء مع بيبرس فقتلوه بين القرابي والصالحية ودفن بالقصر، وكان قبره يزار‏.‏

فلما تمكن الظاهر من الملك بعث إلى قبره فغيبه عن الناس، وكان لا يعرف بعد ذلك قتل يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة رحمه الله‏.‏

وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني في الذيل على المرآة عن الشيخ علاء الدين بن غانم عن المولى تاج الدين أحمد بن الأثير كاتب السر في أيام الناصر صاحب دمشق، قال‏:‏ لما كنا مع الناصر بوطاه برزه جاءت البريدية بخبر أن قطز قد تولى الملك بمصر، فقرأت ذلك على السلطان، فقال‏:‏ ‏

اذهب إلى فلان وفلان فأخبرهم بهذا‏.‏

قال‏:‏ فلما خرجت عنه لقيني بعض الأجناد فقال لي‏:‏ جاءكم الخبر من مصر بأن قطز قد تملك‏.‏

فقلت‏:‏ ما عندي من هذا علم وما يدريك أنت بهذا ‏؟‏

فقال‏:‏ بلى والله سيلي المملكة ويكسر التتار‏.‏

فقلت‏:‏ من أين تعلم هذا ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ كنت أخدمه وهو صغير، وكان عليه قمل كثير فكنت أفليه وأهينه وأذمه، فقال لي يوماً ويلك إيش تريد أعطيك إذا ملكت الديار المصرية ‏؟‏‏.‏

فقلت له‏:‏ أنت مجنون ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ لقد رأيت رسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال لي‏:‏ أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه‏.‏

فقلت له حينئذ - وكان صادقاً -‏:‏ أريد منك إمرة خمسين فارساً‏.‏

فقال‏:‏ نعم، أبشر‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ فلما قال لي هذا قلت له‏:‏ هذه كتب المصريين بأنه قد تولى السلطنة، فقال‏:‏ والله ليكسرن التتار، وكان كذلك، ولما رجع الناصر إلى ناحية الديار المصرية وأراد دخولها، ورجع عنها ودخلها أكثر الجيوش الشامية، كان هذا الأمير الحاكي في جملة من دخلها، فأعطاه المظفر إمرة خمسين فارساً، ووفى له بالوعد، وهو الأمير جمال الدين التركماني‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ فلقيني بمصر بعد أن تأمر فذكرني بما كان أخبرني عن المظفر، فذكرته ثم كانت وقعة التتار على إثر ذلك فكسرهم وطردهم عن البلاد، وقد روى عنه أنه لما رأى عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه‏:‏ لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس، وتفيء الظلال، وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم، رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ هلك كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشام لعنه الله، ومعنى نوين يعني‏:‏ أمير عشرة آلاف، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاكو من أقصى بلاد العجم إلى الشام، وقد أدرك جنكيز خان جد هولاكو وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها‏.‏

كان إذا فتح بلداً ساق مقاتلة هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يؤوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصوده في تضييق الأطعمة والأشربة عليهم، فتقصر مدة الحصار عليه، لما ضاق على أهل البلد من أقواتهم، وإن امتنعوا من إيوائهم عندهم قاتلهم بأولئك المقاتلة الذين هم أهل البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حصل الفتح وإلا كان قد أضعف أولئك بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتلة، فإن حصل الفتح وإلا قاتلهم بجنده وأصحابه مع راحة أصحابه وتعب أهل البلد وضعفهم حتى يفتحهم سريعاً‏.‏

وكان يبعث إلى الحصن يقول‏:‏ إن ماءكم قد قلَّ فنخشى أن نأخذكم عنوة فنقتلكم عن آخركم، ونسبي نساءكم وأولادكم فما بقاؤكم بعد ذهاب مائكم، فافتحوا صلحاً قبل أن نأخذكم قسراً‏.‏

فيقولون له‏:‏ إن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى ماء‏.‏

فيقول‏:‏ لا أصدق، حتى أبعث من عندي من يشرف عليه فإن كان كثيراً انصرفت عنكم‏.‏

فيقولون‏:‏ ابعث من يشرف، عليه فيرسل رجالاً من جيشه معهم رماح مجوفة محشو سماً، فإذا دخلوا الحصن الذي قد أعياه ساطوا ذلك الماء بتلك الرماح على أنهم يفتشونه ويعرفون قدره، فينفتح ذلك السم ويستقر في ذلك الماء فيكون سبب هلاكهم وهم لا يشعرون، لعنه الله لعنة تدخل معه قبره‏.‏

وكان شيخاً كبيراً قد أسن، وكان يميل إلى دين النصارى، ولكن لا يمكنه الخروج من حكم جنكيز خان في الياساق‏.‏

قال الشيخ قطبي الدين اليونيني‏:‏ وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها، وكان شيخاً حسناً له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة، وتارة يعلقها من خلفه بأذنه، وكان مهيباً شديد السطوة قال‏:‏ وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكاناً خراباً فقضى حاجته والناس ينظرون إليه وهو مكشوف العورة، فلما فرغ من حاجته مسحه بعض أصحابه بقطن ملبد مسحة واحدة‏.‏

قال ولما بلغه خروج المظفر بالعساكر من مصر تلوم في أمره وحار ماذا يفعل، ثم حملته نفسه الأبية على لقائه، وظن أنه منصور على جاري عادته، فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها ثم أيد الله المسلمين وثبتهم في المعركة فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم خزيمة لا تجبر أبدا، وقتل أميرهم كتبغانوين في المعركة وأسر ابنه، وكان شاباً حسناً، فأحضر بين يدي المظفر قطز فقال له‏:‏ أهرب أبوك ‏؟‏

قال‏:‏ إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى، فلما رآه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثم قال‏:‏ أنام طيباً‏.‏

كان هذا سعادة التتار، وبقتلة ذهب سعدهم، وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبداً، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وكان الذي قتله الأمير آقوش الشمسي رحمه الله‏.‏

 الشيخ محمد الفقيه اليونيني

الحنبلي البعلبكي الحافظ، هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق، كذا نقل هذه النسبة الشيخ قطب الدين اليونيني من خط أخيه الأكبر أبي الحسين علي، وأخبره أن والده قال له‏:‏ نحن من سلالة جعفر الصادق‏.‏

قال‏:‏ وإنما قال له هذا عند الموت ليتخرج من قبول الصدقات‏.‏

أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي تقي الدين الفقيه الحنبلي الحافظ المفيد البارع العابد الناسك، ولد سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع الخشوعي وحنبلاً، والكندري، والحافظ عبد الغني، وكان يثني عليه، وتفقه على الموفق، ولزم الشيخ عبد الله اليونيني فانتفع به‏.‏ ‏

وكان الشيخ عبد الله يثني عليه ويقدمه ويقتدي به في الفتاوى، وقد لبس الخرقة من شيخ شيخه عبد الله البطائحي، وبرع في علم الحديث، وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو، وحفظ قطعة صالحة من مسند أحمد، وكان يعرف العربية أخذها عن التاج الكندي، وكتب مليحاً حسناً، وكان الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة، ويأخذون عنه الطرق الحسنة، وقد حصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك، توضأ مرة عند الملك الأشرف بالقلعة حال سماع البخاري على الزبيدي، فلما فرع من الوضوء نفض السلطان تخفيفته وبسطها على الأرض ليطأ عليها، وحلف السلطان له إنها طاهرة، ولا بد أن يطأ برجليه عليها ففعل ذلك‏.‏

وقدم الكامل على أخيه الأشرف دمشق فأنزله القلعة، وتحول الأشرف لدار السعادة، وفعل يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه، فقال الكامل‏:‏ أحب أن أراه فأرسل إليه إلى بعلبك بطاقة واستحضره فوصل إلى دار السعادة، فنزل الكامل إليه وتحادثا وتذاكرا شيئاً من العلم فجرت مسألة القتل بالمثقل، وجرى ذكر حديث الجارية التي قتلها اليهودي فرض رأسها بين حجرين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله‏.‏

فقال الكامل‏:‏ إنه لم يعترف، فقال الشيخ الفقيه في صحيح مسلم فاعترف، فقال الكامل‏:‏ أنا اختصرت صحيح مسلم، ولم أجد هذا فيه فأرسل الكامل فأحضر خمس مجلدات اختصاره لمسلم، فأخذ الكامل مجلداً والأشرف آخر، وعماد الدين بن موسك آخر، وأخذ الشيخ الفقيه مجلداً فأول ما فتحه وجد الحديث كما قال الشيخ الفقيه، فتعجب الكامل من استحضاره وسرعة كشفه، وأراد أن يأخذه معه إلى الديار المصرية، فأرسله الأشرف سريعاً إلى بعلبك، وقال للكامل‏:‏

إنه لا يؤثر ببعلبك شيئاً، فأرسل له الكامل ذهباً كثيراً قال ولده قطب الدين‏:‏ كان والدي يقبل بر الملوك، ويقول‏:‏ أنا لي في بيت المال أكثر من هذا، ولا يقبل من الأمراء ولا من الوزراء شيئاً إلا أن يكون هدية مأكول ونحوه، ويرسل إليهم من ذلك فيقبلونه على سبيل التبرك والاستشفاء‏.‏

وذكر أنه كثر ماله وأثرى، وصار له سعة من المال كثيرة، وذكر له أن الأشرف كتب له كتاباً بقرية يونين، وأعطاه لمحيي الدين بن الجوزي ليأخذ عليه خط الخليفة، فلما شعر والدي بذلك أخذ الكتاب ومزقه وقال‏:‏ أنا في غنية عن ذلك‏.‏

قال‏:‏ وكان والدي لا يقبل شيئاً من الصدقة، ويزعم أنه من ذرية علي بن أبي طالب من جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‏.‏

قال‏:‏ وقد كان قبل ذلك فقيراً لا شيء له، وكان للشيخ عبد الله زوجة ولها ابنة جميلة، وكان الشيخ يقول لها‏:‏ زوجيها من الشيخ محمد‏.‏

فتقول‏:‏ إنه فقير، وأنا أحب أن تكون ابنتي سعيدة‏.‏

فيقول الشيخ عبد الله‏:‏ كأني أنظر إليهما إياه وإياها في دار فيها بركة، وله رزق كثير والملوك يترددون إلى زيارته، فزوجتها منه فكان الأمر كذلك، وكانت أولى زوجاته رحمه الله تعالى‏.‏

وكانت الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه ويجيئون إلى مدينته، بنو العادل وغيرهم، وكذلك كان مشايخ الفقهاء كابن الصلاح، وابن عبد السلام، وابن الحاجب، والحصري، وشمس الدين بن سني الدولة، وابن الجوزي، وغيرهم يعظمونه ويرجعون إلى قوله لعلمه وعمله وديانته وأمانته‏.‏

وقد ذكرت له أحوال ومكاشفات وكرامات كثيرة رحمه الله‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أنه قطب منذ ثنتي عشرة سنة فالله أعلم‏.‏

وذكر الشيخ الفقيه قال‏:‏ عزمت مرة على الرحلة إلى حران، وكان قد بلغني أن رجلاً بها يعلم علم الفرائض جيداً، فلما كانت الليلة التي أريد أن أسافر في صبيحتها جاءتني رسالة الشيخ عبد الله اليونيني يعزم علي إلى القدس الشريف، وكأني كرهت ذلك وفتحت المصحف فطلع قوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 21‏]‏‏.‏

فخرجت معه إلى القدس فوجدت ذلك الرجل الحراني بالقدس الشريف، فأخذت عنه علم الفرائض حتى خيل لي أني صرت أبرع فيه منه‏.‏

وقال الشيخ أبو شامة‏:‏ كان الشيخ الفقيه رجلاً ضخماً، وحصل له قبول من الأمراء وغيرهم، وكان يلبس قبعاً صوفه إلى خارج كما كان شيخه الشيخ عبد الله اليونيني‏.‏

قال‏:‏ وقد صنف شيئاً في المعراج فرددت عليه في كتاب سميته ‏(‏الواضح الجلي في الرد على الحنبلي‏)‏‏.‏

وذكر ولده قطب الدين أنه مات في التاسع عشر من رمضان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله تعالى‏.‏

 محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر

أبو عبد الله البيطار الأكال، أصله من جبل بني هلال، وولد بقصر حجاج، وكان مقيماً بالشاغور، وكان فيه صلاح ودين وإيثار للفقراء والمحاويج والمحباس وكانت له حال غريبة، ولا يأكل لأحد شيئا إلا بأجرة، وكان أهل البلد يترامون عليه ليأكل لهم الأشياء المفتخرة الطيبة فيمتنع إلا بأجرة جيدة، وكلما امتنع من ذلك حلى عند الناس وأحبوه ومالوا إليه، ويأتونه بأشياء كثيرة من الحلاوات والشواء وغير ذلك فيرد عليهم عوض ذلك أجرة جيدة مع ذلك، وهذا غريب جداً، رحمه الله تعالى ورضى عنه بمنه وكرمه آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخسمين وستمائة

استهلت بيوم الاثنين لأيام خلون من كانون الأول، وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة أبو نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة الحسني، وعمه إدريس بن علي شريكه، وصاحب المدينة الأمير عز الدين جماز بن شيحه الحسيني، وصاحب مصر والشام السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وشريكه في دمشق وبعلبك والصبيبة وبانياس الأمير علم الدين سنجر الملقب‏:‏ بالملك المجاهد‏.‏

وشريكه في حلب الأمير حسام الدين لاشين الجوكنداري العزيزي، والكرك والشوبك للملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن سيف الدين أبي بكر الكامل محمد بن العادل الكبير سيف الدين أبي بكر بن أيوب‏.‏

وحصن جهيون وبازريا في يد الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين مكورس، وصاحب حماه الملك المنصور بن تقي الدين محمود، وصاحب حمص الأشرف بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين الناصر، وصاحب الموصل الملك الصالح بن البدر لؤلؤ، وأخوه الملك المجاهد صاحب جزيرة ابن عمر‏.‏

وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين أيل غازي بن أرتق، وصاحب بلاد الروم ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو السلجوقي، وشريكه في الملك أخوه كيكاوس والبلاد بينهما نصفين، وسائر بلاد المشرق بأيدي التتار أصحاب هولاكو وبلاد اليمن تملكها غير واحد من الملوك، وكذلك بلاد الجوكندي المغرب في كل قطر منها ملك‏.‏

وفي هذا السنة‏:‏ أغارت التتار على حلب فلقيهم صاحبها حسام الدين العزيزي، والمنصور صاحب حماه، والأشرف صاحب حمص، وكانت الوقعة شمالي حمص قريباً من قبر خالد بن الوليد، والتتار في ستة آلاف، والمسلمون في ألف وأربعمائة فهزمهم الله عز وجل‏.‏

وقتل المسلمون أكثرهم فرجع التتار إلى حلب فحصروها أربعة أشهر، وضيقوا عليها الأقوات وقتلوا من الغرباء خلقاً صبراً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

والجيوش الذين كسروهم على حمص مقيمون لم يرجعوا إلى حلب، بل ساقوا إلى مصر، فتلقاهم الملك الظاهر في أبهة السلطنة، وأحسن إليهم، وبقيت حلب محاصرة لا ناصر لها في هذه المدة ولكن سلم الله سبحانه وتعالى‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الظاهر في أبهة الملك ومشى الأمراء والأجناد بين يديه، وكان ذلك أول ركوبه واستمر بعد ذلك يتابع الركوب واللعب بالكرة‏.‏ ‏

وفي سابع عشر صفر خرج الأمراء بدمشق على ملكها علم الدين سنجر فقاتلوه فهزموه، فدخل القلعة فحاصر فيها فهرب منها إلى قلعة بعلبك، وتسلم قلعة دمشق الأمير علم الدين أيدكين البندقداري، وكان مملوكاً لجمال الدين يغمور، ثم للصالح أيوب بن الكامل، وإليه ينسب الملك الظاهر‏.‏

فأرسله الظاهر ليتسلم دمشق من الحلبي علم الدين سنجر، فأخذها وسكن قلعتها نيابة عن الظاهر، ثم حاصروا الحلبي ببعلبك حتى أخذوه فأرسلوه إلى الظاهر على بغل إلى مصر، فدخل عليه ليلاً فعاتبه ثم أطلق له أشياء وأكرمه‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الأول استوزر الظاهر بهاء الدين علي بن محمد المعروف بابن الحنا‏.‏

وفي ربيع الآخر قبض الظاهر على جماعة من الأمراء، بلغه عنهم أنهم يريدون الوثوب عليه‏.‏

وفيه أرسل إلى الشوبك فتسلمها من أيدي نواب المغيث صاحب الكرك‏.‏

وفيها‏:‏ جهز الظاهر جيشاً إلى حلب ليطردوا التتار عنها، فلما وصل الجيش إلى غزة كتب الفرنج إلى التتار ينذرونهم، فرحلوا عنها مسرعين واستولى على حلب جماعة من أهلها، فصادروا ونهبوا وبلغوا أغراضهم، وقدم إليهم الجيش الظاهري فأزالوا ذلك كله، وصادروا أهلها بألف ألف وستمائة ألف، ثم قدم الأمير شمس الدين آقوش التركي من جهة الظاهر فاستلم البلد فقطع ووصل وحكم وعدل‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى باشر القضاء بمصر تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين بن أبي الثناء محمود بن بدر العلائي، وذلك بعد شروط ذكرها للظاهر شديدة، فدخل تحتها الملك الظاهر وعزل عن القضاء بدر الدين أبو المحاسن، يوسف بن علي السنجاري ورسم عليه أياماً ثم أفرج عنه‏.‏

 

 البيعة بالخلافة للمستنصر بالله أبي القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر

وكان معتقلاً ببغداد فأطلق، وكان مع جماعة الأعراب بأرض بالعراق، ثم قصد الظاهر حين بلغه ملكه فقدم مصر صحبة جماعة من أمراء الأعراب عشرة منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب، فخرج السلطان ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلقوه، وكان يوماً مشهوداً، وخرج أهل التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل من باب النصر في أبهة عظيمة‏.‏

فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعة الجبل، والوزير والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نسب الخليفة المذكور على الحاكم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفة هو أخو المستنصر باني المستنصرية، وعم المستعصم، بويع بالخلافة بمصر بايعه الملك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء‏.‏

وركب في دست الخلافة بديار مصر والأمراء بين يديه والناس حوله، وشق القاهرة في ثالث عشر رجب، وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس بينه وبين العباس أربعة وعشرون أباً، وكان أول من بايعه القاضي تاج الدين لما ثبت نسبه، ثم السلطان، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضرب اسمه على السكة، وكان منصب الخلافة قد شغر منذ ثلاث سنين ونصفاً‏.‏

لأن المستعصم قتل في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة - أعني سنة تسع وخمسين وستمائة - وكان أسمر وسيماً شديد القوى، عالي الهمة، له شجاعة وإقدام، وقد لقبوه‏:‏ بالمستنصر كما كان أخاه باني المدرسة، وهذا أمر لم يسبق إليه أن خليفتين أخوين يلقب كل منهما بالآخر، ولي الخلافة أخوين كهذين السفاح وأخوه المنصور، وكذا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، والهادي والرشيد، والمسترشد والمقتفي ولدا المستظهر‏.‏

وأما ثلاثة‏:‏ فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد، والمنتصر والمعتز والمطيع أولاد المقتدر، وأما أربعة‏:‏ فأولاد عبد الملك بن مروان الوليد وسليمان ويزيد وهشام‏.‏

وكانت مدة خلافته إلى أن فقد كما سيأتي خمسة أشهر وعشرين يوماً أقصر مدة من جميع خلفاء بني العباس، وأما بنو أمية فكانت مدة خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية أربعين يوماً، وإبراهيم بن يزيد الناقص سبعين يوماً، وأخوه يزيد بن الوليد خمسة أشهر‏.‏

وكانت مدة خلافة الحسن بن علي بعد أبيه سبعة أشهر وأحد عشر يوماً‏.‏

وكانت مدة مروان بن الحكم تسعة أشهر وعشرة أيام، وكان في خلفاء بني العباس من لم يستكمل سنة منهم المنتصر بن المتوكل ستة أشهر والمهتدي بن الواثق أحد عشر شهراً وأياما، وقد أنزل الخليفة هذا بقلعة الجبل في برج هو وحشمه‏.‏

فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدراً من سورة الأنعام ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابة، ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالناس فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتاً حسناً ويوماً مشهوداً‏.‏

 تولية الخلافة المستنصر بالله للملك الظاهر السلطنة

لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحل والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة فجلسوا فيها، فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وطوقاً في عنقه، وقيداً في رجليه وهما من ذهب‏.‏

وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان وهو رئيس الكتاب منبراً فقرأ على الناس تقليد السلطان، وهو من إنشائه وبخط نفسه، ثم ركب السلطان بهذه الأبهة والقيد في رجليه، والطوق في عنقه، والوزير بين يديه، وعلى رأسه التقليد والأمراء والدولة في خدمته مشاة سوى الوزير، فشق القاهرة وقد زينت له، وكان يوماً مشهوداً، وقد ذكر الشيخ قطب الدين هذا التقليد بتمامه، وهو مطول والله أعلم‏.‏

 ذهاب الخليفة إلى بغداد

ثم إن الخليفة طلب من السلطان أن يجهزه إلى بغداد، فرتب السلطان له جنداً هائلة، وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطان صحبته قاصدين دمشق، وكان سبب خروج السلطان من مصر إلى الشام أن التركي كما تقدم كان قد استحوذ على حلب‏.‏

فأرسل إليه الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان قد تغلب على دمشق فطرده عن حلب، وتسلمها وأقام بها نائبا عن السلطان، ثم لم يزل التركي حتى استعادها منه وأخرجه منها هارباً، فاستناب الظاهر على مصر عز الدين أيد مر الحلبي، وجعل تدبير المملكة إلى الوزير بهاء الدين بن الحنا، وأخذ ولده فخر الدين معه وزيراً، وجعل تدبير العساكر والجيوش إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، ثم ساروا فدخلوا دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يوماً مشهوداً، وصليا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخول الخليفة من باب البريد، ودخل السلطان من باب الزيارة، وكان يوماً مشهوداً أيضاً‏.‏

ثم جهز السلطان الخليفة إلى بغداد ومعه أولاد صاحب الموصل، وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقل معه من الجيش الذين يردون عنه ما لم يقدر الله من الذهب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيراً‏.

وقدم إليه صاحب حمص الملك الأشرف فخلع عليه وأطلق له وزاده تل باشر، وقدم صاحب حماه المنصور فخلع عليه وأطلق له وكتب له تقليداً ببلاده، ثم جهز جيشاً صحبة الأمير علاء الدين البندقداري إلى حلب لمحاربة التركي المتغلب عليها المفسد فيها‏.‏

وهذا كل ما بلغنا من وقائع هذه السنة ملخصاً‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين وستمائة

في أوائل هذه السنة في ثالث المحرم قتل الخليفة المستنصر بالله الذي بويع له في رجب في السنة الماضية، بمصر وكان قتله بأرض العراق بعدما هزم من كان معه من الجنود فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

واستقل الملك الظاهر بجميع الشام ومصر، وصفت له الأمور، ولم يبق له منازع سوى التركي، فإنه ذهب إلى المنيرة فاستحوذ عليها وعصى عليه هنالك‏.‏

وفي اليوم الثالث من المحرم من هذه السنة خلع السلطان الملك الظاهر ببلاد مصر على جميع الأمراء والحاشية، وعلى الوزير وعلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وعزل عنها برهان الدين السنجاري، وفي أواخر المحرم أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخازندار على بنت الأمير لؤلؤ صاحب الموصل، واحتفل الظاهر بهذا العرس احتفالاً بالغاً‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ اصطاد بعض أمراء الظاهر بحدود حماة حمار وحش، فطبخوه فلم ينضج ولا أثر فيه كثرة الوقود، ثم افتقدوا جلده فإذا هو مرسوم على أذنه بهرام جور، قال‏:‏ وقد أحضروه إلى فقرأته كذلك، وهو يقتضي أن لهذا الحمار قريباً من ثمانمائة سنة، فإن بهرام جور كان قبل المبعث بمدة متطاولة، وحمر الوحش تعيش دهراً طويلاً‏.‏

قلت‏:‏ يحتمل أن يكون هذا بهرام شاه الملك الأمجد، إذ يبعد بقاء مثل هذا بلا اصطياد هذه المدة الطويلة، ويكون الكاتب قد أخطأ فأراد كتابة بهرام شاه فكتب بهرام جور فحصل اللبس من هذا، والله أعلم‏.‏

 ذكر بيعة الحاكم بأمر الله العباسي

في السابع والعشرين من ربيع الآخر دخل الخليفة أبو العباس الحاكم بأمر الله أحمد بن الأمير أبي علي القبي من الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد؛ وقد شهد الوقعة صحبة المستنصر، وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم، فلما كان يوم دخوله تلقاه السلطان الظاهر، وأظهر السرور له والاحتفال به، وأنزله في البرج الكبير من قلعة الجبل وأجريت عليه الأرزاق الدارة والإحسان‏.‏

وفي ربيع الآخر عزل الملك الظاهر الأمير جمال الدين آقوش النجيبي عن استداريته واستبدل به غيره، وبعد ذلك أرسله نائباً على الشام كما سيأتي‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسع رجب حضر السلطان الظاهر إلى دار العدل في محاكمة في بئر إلى بيت القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، فقام الناس إلا القاضي فإنه أشار عليه أن لا يقوم‏.‏

وتداعيا وكان الحق مع السلطان وله بينه عادلة، فانتزعت البئر من يد الغريم وكان الغريم أحد الأمراء‏.‏

وفي شوال استناب الظاهر على حلب الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي، وحينئذ انحاز عسكر سيس على القلعة من أرض حلب فركب إليهم الشهابي فكسرهم، وأسر منهم جماعة فبعثهم إلى مصر فقتلوا‏.‏

وفيها‏:‏ استناب السلطان على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، وكان من أكابر الأمراء، وعزل عنها علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة‏.‏

وفي ذي القعدة خرج مرسوم السلطان إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يستنيب من كل مذهب من المذاهب الثلاثة نائباً، فاستناب من الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ومن الحنابلة شمس الدين محمد بن الشيخ العماد، ومن المالكية شرف الدين عمر السبكي المالكي‏.‏

وفي ذي الحجة قدمت وفود كثيرة من التتار على الملك الظاهر مستأمنين فأكرمهم وأحسن إليهم، وأقطعهم إقطاعات حسنة، وكذلك فعل بأولاد صاحب الموصل ورتب لهم رواتب كافية‏.‏

وفيها أرسل هولاكو طائفة من جنده نحو عشرة آلاف فحاصروا الموصل ونصبوا عليها أربعة وعشرين منجنيقاً وضاقت بها الأقوات.‏

وفيها‏:‏ أرسل الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ إلى التركي يستنجده فقدم عليه فهزمت التتار، ثم ثبتوا والتقوا معه، وإنما كان معه سبعمائة مقاتل فهزموه وجرحوه وعاد إلى البيرة، وفارقه أكثر أصحابه فدخلوا الديار المصرية، ثم دخل هو إلى الملك الظاهر فأنعم عليه وأحسن إليه وأقطعه سبعين فارساً‏.‏

وأما التتار فإنهم عادوا إلى الموصل ولم يزالوا حتى استنزلوا صاحبها الملك الصالح إليهم ونادوا في البلد بالأمان حتى اطمأن الناس، ثم مالوا عليهم فقتلوهم تسعة أيام، وقتلوا الملك الصالح إسماعيل وولده علاء الدين، وخربوا أسوار البلد وتركوها بلاقع، ثم كروا راجعين قبحهم الله‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الخلف بين هولاكو وبين السلطان بركه خان ابن عمه، وأرسل إليه بركه يطلب منه نصيباً مما فتحه من البلاد، وأخذه من الأموال والأسرار، على ما جرت به عادة ملوكهم، فقتل رسله فاشتد غضب بركه، وكاتب الظاهر ليتفقا على هولاكو‏.‏

وفيها‏:‏ وقع غلاء شديد بالشام فبيع القمح الغرارة بأربعمائة، والشعير بمائتين وخمسين، واللحم الرطل بستة أو سبعة، وحصل في النصف من شعبان خوف شديد من التتار، فتجهز كثير من الناس إلى مصر، وبيعت الغلات حتى حواصل القلعة والأمراء ورسم أولياء الأمور على من له قدرة أن يسافر من دمشق إلى بلاد مصر‏.‏

ووقعت رجفة عظيمة في الشام وفي بلاد الروم، ويقال‏:‏ إنه حصل لبلاد التتر خوف شديد أيضاً، فسبحان الفعال لما يريد وبيده الأمر‏.‏

وكان الآمر لأهل دمشق بالتحول منها إلى مصر نائبها الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، فأرسل السلطان إليه في ذي القعدة فامسكه وعزله واستناب عليها بهاء الدين النجيبي، واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة‏.‏

وفيها‏:‏ نزل ابن خلكان عن تدريس الركنية لأبي شامة وحضر عنده حين درس وأخذ في أول ‏(‏مختصر المزني‏)‏‏.‏

 

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الخليفة المستنصر بن الظاهر بأمر الله العباسي

الذي بايعه الظاهر بمصر كما ذكرنا، وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة وكان شهماً شجاعاً بطلاً فاتكاً، وقد أنفق الظاهر عليه حتى أقام له جيشاً بألف ألف دينار، وأزيد وسار في خدمته ومعه خلق من أكابر الأمراء وأولاد صاحب الموصل، وكان الملك الصالح إسماعيل من الوفد الذين قدموا على الظاهر فأرسله صحبة الخليفة‏.‏

فلما كانت الوقعة فقد المستنصر، ورجع الصالح إلى بلاده فجاءته التتار فحاصروه كما ذكرنا، وقتلوه وخربوا بلاده وقتلوا أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 العز الضرير النحوي اللغوي

واسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا من أهل نصيبين، ونشأ بأربل فاشتغل بعلوم كثيرة من علوم الأوائل، وكان يشتغل عليه أهل الذمة، وغيرهم ونسب إلى الانحلال وقلة الدين، وترك الصلوات، وكان ذكياً وليس بذكي عالم اللسان جاهل القلب، ذكي القول خبيث الفعل‏.‏

وله شعر أورد منه الشيخ قطب الدين قطعة في ترجمته، وهو شبيه بأبي العلاء المعري قبحهما الله‏.‏ ‏

 ابن عبد السلام

عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب، الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب، ومفيد أهله وله مصنفات حسان منها‏:‏ ‏(‏التفسير‏)‏، و‏(‏اختصار النهاية‏)‏، و‏(‏القواعد الكبرى والصغرى‏)‏، و‏(‏كتاب الصلاة والفتاوى الموصلية‏)‏ وغير ذلك‏.‏

ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيراً واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره وبرع في المذهب وجمع علوماً كثيرة، وأفاد الطلبة ودرس بعدة مدارس بدمشق، وولي خطابتها ثم سافر إلى مصر ودرس بها وخطب وحكم، وانتهت إليه رئاسة الشافعية ، وقصد بالفتاوى من الآفاق، وكان لطيفاً ظريفاً يستشهد بالأشعار، وكان سبب خروجه من الشام إنكاره على الصالح إسماعيل تسليمه صغد والثقيف إلى الفرنج‏.‏

ووافقه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فأخرجهما من بلده فسار أبو عمرو إلى الناصر داود صاحب الكرك فأكرمه، وسار ابن عبد السلام إلى الملك الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر فأكرمه وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق، ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية‏.‏

فلما حضره الموت أوصى بها للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وتوفي في عاشر جمادى الأولى، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد بسفح المقطم، وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلقٌ كثير رحمه الله تعالى‏.‏

 كمال الدين بن العديم الحنفي

عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل الحلبي الحنفي أبو القاسم بن العديم، الأمير الوزير الرئيس الكبير، ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة، سمع الحديث وحدث وتفقه وأفتى ودرس وصنف‏.‏

وكان إماما في فنون كثيرة، وقد ترسل إلى الخلفاء والملوك مراراً عديدة، وكان يكتب حسناً طريقة مشهورة، وصنف لحلب تاريخاً مفيداً قريباً في أربعين مجلداً، وكان جيد المعرفة بالحديث، حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير الإحسان إليهم، وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة، توفي بمصر ودفن بسفح المقطم بعد ابن عبد السلام بعشرة أيام، وقد أورد له قطب الدين أشعاراً حسنة‏.‏ ‏

 يوسف بن يوسف بن سلامة

ابن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سليمان بن محمد القاقاني الزينبي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، محيي الدين أبو المعز، ويقال‏:‏ أبو المحاسن الهاشمي العباسي الحوصلي، المعروف‏:‏ بابن زبلاق الشاعر، قتلته التتار لما أخذوا الموصل في هذه السنة عن سبع وخمسين سنة ومن شعره قوله‏:‏

بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنا * سهاداً يذود الكرى أن يألف الجفنا

وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلاً * فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى

وأبرزت وجهاً أخجل الصبح طالعاً * وملت بقد علم الهيف الغصن اللدنا

حكيت أخال البدر ليلة تمه * سناً وسناءً إذ تشابهتما سنا

وقال أيضاً‏:‏ وقد دعي إلى موضع فبعث يعتذر بهذين البيتين

أنا في منزلي وقد وهب الـ * ـله نديماً وقينةً وعقار

فأبسطوا العذر في التأخر عنكم * شغل الخلي أهل بأن يعارا

قال أبو شامة‏:‏ وفيها في ثاني عشر جمادى الآخرة توفي‏:‏

 البدر المراغي الخلافي

المعروف بالطويل، وكان قليل الدين تاركاً للصلاة مغتبطاً بما كان فيه من معرفة الجدل، والخلاف على اصطلاح المتأخرين، راضياً بما لا يفيد‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 محمد بن داود بن ياقوت الصارمي

المحدث، كتب كثير الطبقات وغيرها، وكان ديناً خيراً يعير كتبه ويداوم على الاشتغال بسماع الحديث، رحمه الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة

استهلت وسلطان البلاد الشامية والمصرية الظاهر بيبرس، وعلى الشام نائبه آقوش النجيبي، وقاضي دمشق ابن خلكان والوزير بها عز الدين بن وداعة، وليس للناس خليفة، وإنما تضرب السكة باسم المستنصر الذي قتل‏.‏

 ذكر خلافة الحاكم بأمر الله أبي العباس

أحمد بن الأمير أبي على القبي ابن الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن الإمام المستظهر بالله أحمد العباسي الهاشمي‏.‏

لما كان ثاني المحرم وهو يوم الخميس، جلس السلطان الظاهر والأمراء في الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفة الحاكم بأمر الله راكباً حتى نزل عند الإيوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قرئ نسبه على الناس ثم أقبل عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفة بالناس فقال في خطبته‏:‏

الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركناً ظهيراً، وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء، وأستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الإقتداء، لا سيما الأربعة، وعلي العباس كاشف غمه أبي السادة الخلفاء وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‏.‏

أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم، فلو شاهدتم أعداء الإسلام لما دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال وقتلوا الرجال والأطفال، وسبوا الصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والأمهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وعلت الصيحات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه‏.‏

فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين‏.‏

وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأصبحت البيعة بهمته منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يروعكم ما جرى فالحرب سجال والعاقبة للمتقين‏.‏

والدهر يومان والأجر للمؤمنين، جمع الله على الهدى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله لي ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم‏.‏

ثم خطب الثانية ونزل فصلى‏.‏

وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له وضربت السكة باسمه‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة‏.‏

وهذه الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، ولم يل الخلافة من بني العباس من ليس والده وجده خليفة بعد السفاح والمنصور سوى هذا، فأما من ليس والده خليفة فكثير منهم المستعين أحمد بن محمد ابن المعتصم، والمعتضد بن طلحة بن المتوكل، والقادر بن إسحاق بن المقتدر، والمقتدي بن الذخيرة ابن القائم بأمر الله‏.‏

 ذكر أخذ الظاهر الكرك وإعدام صاحبها

ركب الظاهر من مصر في العساكر المنصورة قاصداً ناحية بلاد الكرك، واستدعى صاحبها الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، فلما قدم عليه بعد جهد أرسله إلى مصر معتقلاً فكان آخر العهد به، وذلك أنه كاتب هولاكو وحثه على القدوم إلى الشام مرة أخرى، وجاءته كتب التتار بالثبات ونيابة البلاد، وأنهم قادمون عليه عشرون ألفاً لفتح الديار المصرية‏.‏

وأخرج السلطان فتاوى الفقهاء بقتله وعرض ذلك على ابن خلكان، وكان قد استدعاه من دمشق، وعلى جماعة من الأمراء، ثم سار فتسلم الكرك يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى ودخلها يومئذ في أبهة الملك، ثم عاد إلى مصر مؤيداً منصوراً‏.‏

وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الظاهر يقول له‏:‏ قد علمت محبتي للإسلام، وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين، فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من ناحية حتى نصطلمه أو نخرجه من البلاد وأعطيك جميع ما كان بيده من البلاد، فاستصوب الظاهر هذا الرأي وشكره وخلع على رسله وأكرمهم‏.‏

وفيها زلزلت الموصل زلزلة عظيمة وتهدمت أكثر دورها، وفي رمضان جهز الظاهر صناعاً وأخشاباً وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حريقه فطيف بتلك الأخشاب والآلات بمصر فرحة وتعظيماً لشأنها‏.‏

ثم ساروا بها إلى المدينة النبوية، وفي شوال سار الظاهر إلى الإسكندرية فنظر في أحوالها وأمورها، وعزل قاضيها وخطيبها ناصر الدين أحمد بن المنير وولى غيره‏.‏ ‏

وفيها التقى بركه خان وهولاكو ومع كل واحد جيوش كثيرة فاقتتلوا فهزم الله هولاكو هزيمة فظيعة وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي وهرب هو في شرذمة يسيرة ولله الحمد‏.‏

ولما نظر بركه خان كثرة القتلى قال‏:‏ يعز علي أن يقتل المغول بعضهم بعضاً ولكن كيف الحيلة فيمن غير سنة جنكيز خان ثم أغار بركه خان على بلاد القسطنطينية فصانعه صاحبها وأرسل الظاهر هدايا عظيمة إلى بركه خان، وقد أقام التركي بحلب خليفة آخر لقبه بالحاكم، فلما اجتاز به المستنصر سار معه إلى العراق واتفقا على المصلحة وإنفاذ الحاكم المستنصر لكونه أكبر منه ولله الحمد‏.‏

ولكن خرج عليهما طائفة من التتار ففرقوا شملهما وقتلوا خلقاً ممن كان معهما، وعدم المستنصر وهرب الحاكم مع الأعراب‏.‏

وقد كان المستنصر هذا فتح بلداناً كثيرة في مسيرة من الشام إلى العراق، ولما قاتله بهادر على شحنة بغداد كسره المستنصر وقتل أكثر أصحابه، ولكن خرج كمين من التتار نجدة فهرب العربان والأكراد الذين كانوا مع المستنصر وثبت هو في طائفة ممن كان معه من الترك فقتل أكثرهم وفقد هو من بينهم‏.‏

ونجا الحاكم في طائفة، وكانت الوقعة في أول المحرم من سنة ستين وستمائة، وهذا هو الذي أشبه الحسين بن علي في توغله في أرض العراق مع كثرة جنودها، وكان الأولى له أن يستقر في بلاد الشام حتى تتمهد له الأمور ويصفو الحال ولكن قدر الله وما شاء فعل‏.‏

وجهز السلطان جيشاً آخر من دمشق إلى بلاد الفرنج فأغاروا وقتلوا وسبوا ورجعوا سالمين، وطلبت الفرنج منه المصالحة فصالحهم مدة لاشتغاله بحلب وأعمالها، وكان قد عزل في شوال قاضي مصر تاج الدين ابن بنت الأعز وولى عليها برهان الدين الخضر بن الحسين السنجاري‏.‏

وعزل قاضي دمشق نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين أحمد ابن شمس الدين بن هبة الله بن سني الدولة، وولى عليها شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، وقد ناب في الحكم بالقاهرة مدة طويلة عن بدر الدين السنجاري‏.‏

وأضاف إليه مع القضاء نظر الأوقاف والجامع والمارستان، وتدريس سبع مدارس، العادلية والناصرية والغدراوية والفلكية والركنية والإقبالية والبهنسية، وقرئ تقليده يوم عرفة يوم الجمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من جامع دمشق‏.‏

وسافر القاضي المعزول مرسماً عليه‏.‏

وقد تكلم فيه الشيخ أبو شامة وذكر أنه خان في وديعة ذهب جعلها فلوساً فالله أعلم‏.‏

وكانت مدة ولايته سنة وأشهراً‏.‏

وفي يوم العيد يوم السبت سافر السلطان إلى مصر، وقد كان رسول الإسماعيلية قدم على السلطان بدمشق يتهددونه ويتوعدونه، ويطلبون منه إقطاعات كثيرة، فلم يزل السلطان يوقع بينهم حتى استأصل شأفتهم واستولى على بلادهم‏.‏ ‏

وفي السادس والعشرين من ربيع الأول عمل عزاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس وكان عمل هذا العزاء بقلعة الجبل بمصر، بأمر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك لما بلغهم أن هولاكو ملك التتار قتله‏.‏ وقد كان في قبضته منذ مدة، فلما بلغ هولاكو أن أصحابه قد كسروا بعين جالوت طلبه إلى بين يديه وقال له‏:‏

أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاؤوا فاقتتلوا مع المغول فكسروهم ثم أمر بقتله‏.‏

ويقال إنه اعتذر إليه وذكر له أن المصريين كانوا أعداءه وبينه وبينهم شنآن، فأقاله ولكنه انحطت رتبته عنده، وقد كان مكرماً في خدمته وقد وعده أنه إذا ملك مصر استنابه في الشام فلما كانت وقعة حمص في هذه السنة وقتل فيها أصحاب هولاكو مع مقدمهم بيدرة غضب وقال له‏:‏

أصحابك في العزيزية أمراء أبيك، والناصرية من أصحابك قتلوا أصحابنا، ثم أمر بقتله‏.‏

وذكروا في كيفية قتله أنه رماه بالنشاب وهو واقف بين يديه يسأله العفو فلم يعف عنه حتى قتله وقتل أخاه شقيقه الظاهر علياً، وأطلق ولديهما العزيز محمد بن الناصر و زبالة بن الظاهر، وكانا صغيرين من أحسن أشكال بني آدم‏.‏

فأما العزيز فإنه مات هناك في أسر التتار، وأما زبالة فإنه سار إلى مصر وكان أحسن من بها، وكانت أمه أم ولد يقال له وجه القمر، فتزوجها بعض الأمراء بعد أستاذها، ويقال إن هولاكو لما أراد قتل الناصر أمر بأربع من الشجر متباعدات بعضها عن بعض فجمعت رؤوسها بحبال ثم ربط الناصر في الأربعة بأربعته ثم أطلقت الحبال فرجعت كل واحدة إلى مركزها بعضو من أعضائه رحمه الله‏.‏

وقد قيل إن ذلك كان في الخامس والعشرين من شوال في سنة ثمان وخمسين، وكان مولده في سنة سبع وعشرين بحلب، ولما توفي أبوه سنة أربع وثلاثين بويع بالسلطنة بحلب وعمره سبع سنين، وقام بتدبير مملكته جماعة من مماليك أبيه، وكان الأمر كله عن رأي جدته أم خاتون بنت العادل أبي بكر بن أيوب، فلما توفيت في سنة أربعين وستمائة استقل الناصر بالملك، وكان جيد السيرة في الرعية محبباً إليهم، كثير النفقات، ولا سيما لما ملك دمشق مع حلب وأعمالها وبعلبك وحران وطائفة كبيرة من بلاد الجزيرة‏.‏

فيقال إن سماطه كان كل يوم يشتمل أربعمائة رأس غنم سوى الدجاج والإوز وأنواع الطير، مطبوخاً بأنواع الأطعمة والقلويات غير المشوي والمقلي، وكان مجموع ما يغرم على السماط في كل يوم عشرين ألفاً وعامته يخرج من يديه كما هو كأنه لم يؤكل منه شيء، فيباع على باب القلعة بأرخص الأثمان حتى إن كثيراً من أرباب البيوت كانوا لا يطبخون في بيوتهم شيئاً من الطرف والأطعمة بل يشترون برخص ما لا يقدرون على مثله إلا بكلفة ونفقة كثيرة، فيشتري أحدهم بنصف درهم أو بدرهم ما لا يقدر عليه إلا بخسارة كثيرة، ولعله لا يقدر على مثله‏.‏

وكانت الأرزاق كثيرة دارة في زمانه وأيامه، وقد كان خليعاً ظريفاً حسن الشكل أديباً يقول الشعر المتوسط القوي بالنسبة إليه، وقد أورد له الشيخ قطب الدين في الذيل قطعة صالحة من شعره وهي رائقة لائقة‏.‏

قتل ببلاد المشرق ودفن هناك، وقد كان أعد له تربة برباطه الذي بناه بسفح قاسيون فلم يقدر دفنه بها‏.‏

والناصرية البرانية بالسفح من أغرب الأبنية وأحسنها بنياناً من الموكد المحكم قبلي جامع الأفرم، وقد بني بعدها بمدة طويلة، وكذلك الناصرية الجوانية التي بناها داخل باب الفراديس هي من أحسن المدارس، وبني الخان الكبير تجاه الزنجاري وحولت إليه دار الطعم، وقد كانت قبل ذلك غربي القلعة في اصطبل السلطان اليوم رحمه الله‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن عبد الله

ابن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر اليعمري الأندلسي الحافظ ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وسمع الكثير، وحصل كتباً عظيمة، وصنف أشياء حسنة، وختم به الحافظ في تلك البلاد، توفي بمدينة تونس في سابع عشرين رجب من هذه السنة‏.‏

أيضاً‏:‏

 عبد الرزاق بن عبد الله

ابن أبي بكر بن خلف عز الدين أبو محمد الرسعني المحدث المفسر، سمع الكثير، وحدث وكان من الفضلاء والأدباء، له مكانة عند البدر لؤلؤ صاحب الموصل، وكان له منزلة أيضا عند صاحب سنجار، وبها توفي في ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر وقد جاوز السبعين، ومن شعره‏:‏

نعب الغراب فدلنا بنعيبه * أن الحبيب دنا أوان مغيبه

يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم * جدلي بعيش ثم سل عن طيبه

 محمد بن أحمد بن عنتر السلمي الدمشقي

محتسبها، ومن عدولها وأعيانها، وله بها أملاك وأوقاف، توفي بالقاهرة ودفن بالمقطم‏.‏

 علم الدين أبو القاسم بن أحمد

ابن الموفق بن جعفر المرسي البورقي اللغوي النحوي المقري‏.‏

شرح الشاطبية شرحاً مختصراً، وشرح المفصل في عدة مجلدات، وشرح الجزولية وقد اجتمع بمصنفها وسأله عن بعض مسائلها، وكان ذا فنون عديدة حسن الشكل مليح الوجه له هيئة حسنة وبزة وجمال، وقد سمع الكندي وغيره‏.‏

 الشيخ أبو بكر الدينوري

وهو باني الزاوية بالصالحية، وكان له فيها جماعة مريدون يذكرون الله بأصوات حسنة طيبة رحمه الله‏.‏

مولد الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ الإسلام

قال الشيخ شمس الدين الذهبي‏:‏ وفي هذه السنة ولد شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن أبي القاسم بن تيمية الحراني بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وستمائة‏.‏

 الأمير الكبير مجير الدين

أبو الهيجاء عيسى بن حثير الأزكشي الكردي الأموي، كان من أعيان الأمراء وشجعانهم، وله يوم عين جالوت اليد البيضاء في كسر التتار، ولما دخل الملك المظفر إلى دمشق بعد الوقعة جعله مع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً على دمشق مستشاراً ومشتركاً في الرأي والمراسيم والتدبير‏.‏

وكان يجلس معه في دار العدل وله الإقطاع الكامل والرزق الواسع، إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ ووالده الأمير حسام الدين توفي في جيش الملك الأشرف ببلاد الشرق هو والأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب‏.‏

قلت وولده الأمير عز الدين تولى هذه المدينة أعني دمشق مدة، وكان مشكور السيرة وإليه ينسب درب ابن سنون بالصاغة العتيقة، فيقال درب ابن أبي الهيجاء لأنه كان يسكنه وكان يعمل الولاية فيه فعرف به‏.‏

وبعد موته بقليل كان فيه نزولنا حين قدمنا من حوران وأنا صغير فختمت فيه القرآن، ولله الحمد‏.‏

 

 ثم دخلت سنة ثنتين وستين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، والسلطان الظاهر بيبرس، ونائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش النجيبي وقاضيه ابن خلكان‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ في أولها كملت المدرسة الظاهرية التي بين القصرين، ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر ابن العديم، ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الحافظ الدمياطي‏.‏

وفيها‏:‏ عمر الظاهر بالقدس خاناً ووقف عليه أوقافاً للنازلين به من إصلاح نعالهم وأكلهم وغير ذلك، وبنى به طاحوناً وفرناً‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت رسل بركه خان إلى الملك الظاهر ومعهم الأشرف ابن الشهاب غازي بن العادل، ومعهم من الكتب والمشافهات ما فيه سرور للإسلام وأهله مما حل بهولاكو وأهله‏.‏

وفي جمادى الآخرة منها درس الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي بدار الحديث الأشرفية، بعد وفاة عماد الدين بن الحرستاني، وحضر عنده القاضي ابن خلكان وجماعة من القضاة والأعيان، وذكر خطبة كتابه المبعث، وأورد الحديث بسنده ومتنه وذكر فوائد كثيرة مستحسنه، ويقال أنه لم يراجع شيئاً حتى ولا درسه ومثله لا يستكثر ذلك عليه والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو، فنظر في الأوقاف وأحوال البلد، وأخذ كتباً كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة، ثم انحدر إلى واسط والبصرة‏.‏

 وفيها كانت وفاة‏:‏

 الملك الأشرف

موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، كانوا ملوك حمص كابراً عن كابر إلى هذا الحين، وقد كان من الكرماء الموصوفين، وكبراء الدماشقة المترفين، معتنياً بالمأكل والمشرب والملابس والمراكب وقضاء الشهوات والمآرب وكثرة التنعم بالمغاني والحبائب، ثم ذهب ذلك كأن لم يكن أو كأضغاث أحلام، أو كظل زائل، وبقيت تبعاته وعقوباته وحسابه وعاره‏.‏ ‏

ولما توفي وجدت له حواصل من الجواهر النفيسة والأموال الكثيرة، وصار ملكه إلى الدولة الظاهرية، وتوفي معه في هذه السنة الأمير حسام الدين الجوكندار نائب حلب‏.‏

وفيها‏:‏ كانت كسرة التتار على حمص وقتل مقدمهم بيدرة بقضاء الله وقدره الحسن الجميل‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الرشيد العطار المحدث بمصر‏.‏ والذي حضر مسخرة الملك الأشرف موسى بن العادل والتاجر المشهور الحاج نصر بن دس وكان ملازماً للصلوات بالجامع، وكان من ذوي اليسار والخير‏.‏

 الخطيب عماد الدين بن الحرستاني

عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني، كان خطيباً بدمشق وناب في الحكم عن أبيه في الدولة الأشرفية، بعد ابن الصلاح إلى أن توفي في دار الخطابة في تاسع عشرين جمادى الأولى، وصلي عليه بالجامع ودفن عند أبيه بقاسيون، وكانت جنازته حافلة، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين، وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجد الدين، وباشر مشيخة دار الحديث الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏.‏

 

 محيي الدين محمد بن أحمد بن محمد

ابن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الحافظ المحدث الأنصاري الشاطبي أبو بكر المغربي، عالم فاضل دين أقام بحلب مدة، ثم اجتاز بدمشق قاصداً مصر‏.‏

وقد تولى دار الحديث الكاملية بعد زكي الدين عبد العظيم المنذري، وقد كان له سماع جيد ببغداد وغيرها من البلاد، وقد جاوز السبعين‏.‏

 الشيخ الصالح محمد بن منصور بن يحيى الشيخ أبي القاسم القباري الاسكندراني

كان مقيماً بغيط له يقتات منه ويعمل فيه ويبدره، ويتورع جداً ويطعم الناس من ثماره‏.‏

توفي في سادس شعبان بالإسكندرية وله خمس وسبعون سنة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويردع الولاة عن الظلم فيسمعون منه ويطيعونه لزهده، وإذا جاء الناس إلى زيارته إنما يكلمهم من طاقة المنزل وهم راضون منه بذلك‏.‏ ‏

ومن غريب ما حكى عنه أنه باع دابة له من رجل، فلما كان بعد أيام جاء الرجل الذي اشتراها فقال‏:‏

يا سيدي إن الدابة التي اشتريتها منك لا تأكل عندي شيئاً، فنظر إليه الشيخ فقال له ماذا تعاني من الأسباب‏؟‏ فقال رقاص عند الوالي، فقال له‏:‏

إن دابتنا لا تأكل الحرام، ودخل منزله فأعطاه دراهم ومعها دراهم كثيرة قد اختلطت بها فلا تميز، فاشترى الناس من الرقاص كل درهم بثلاثة لأجل البركة، وأخذ دابته‏.‏

ولما توفي ترك من الأساس ما يساوي خمسين درهماً فبيع بمبلغ عشرين ألفاً‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي الرابع والعشرين من ربيع الآخر توفي‏:‏

 محيي الدين عبد الله بن صفي الدين

إبراهيم بن مرزوق بداره بدمشق المجاورة للمدرسة النورية رحمه الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ داره هذه هي التي جعلت مدرسة للشافعية وقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي التي يقال لها النجيبية تقبل الله منه‏.‏

وبها إقامتنا جعلها الله داراً تعقبها دار القرار في الفوز العظيم‏.‏ وقد كان أبو جمال الدين النجيبي وهو صفي الدين وزير الملك الأشرف، وملك من الذهب ستمائة ألف دينار خارجاً عن الأملاك والأثاث والبضائع، وكانت وفاة أبيه بمصر سنة تسع وخمسين، ودفن بتربته عند المقطم‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وجاء الخبر من مصر بوفاة الفخر عثمان المصري المعروف بعين غين‏.‏

وفي ثامن عشر ذي الحجة توفي الشمس الوبار الموصلي، وكان قد حصل شيئاً من عمل الأدب، وخطب بجامع المزة مدة فأنشدني لنفسه في الشيب وخصابه قوله‏:‏

وكنت وإياها مذ اختط عارضي * كروحين في جسم وما نقضت عهدا

فلما أتاني الشيب يقطع بيننا * توهمته سيفاً فألبسته غمدا

وفيها استحضر الملك هولاكو خان الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وقال له‏:‏ قد ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالأ على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، حتى سلطهم الله عليه بأنواع القعوبات والمثلات ‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 129‏]‏‏.‏

ومن أعان ظالماً سلط عليه، فإن الله ينتقم من الظالم بالظالم ثم ينتقم من الظالمين جميعاً، نسأل الله العافية من انتقامه وغضبه عقابه وشر عباده‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة

فيها جهز السلطان الظاهر عسكراً جماً كثيفاً إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة، فلما سمعوا بالعساكر قد أقبلت ولو مدبرين، فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة، وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد والخوف، فعمرت وأمنت‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الملك الظاهر في عساكره فقصد بلاد الساحل لقتال الفرنج ففتح قيسارية في ثلاث ساعات من يوم الخميس ثامن جمادى الأولى يوم نزوله عليها، وتسلم قلعتها في يوم الخمس الآخر خامس عشرة فهدمها وانتقل إلى غيرها، ثم جاء الخبر بأنه فتح مدينة أرسوف وقتل من بها من الفرنج وجاءت البريدية بذلك‏.‏

فدقت البشائر في بلاد المسلمين وفرحوا بذلك فرحاً شديداً‏.‏

وفيها‏:‏ ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصروا على الفرنج وقتلوا منهم خمسة وأربعين ألفاً، وأسروا عشرة آلاف، واسترجعوا منهم ثنتين وأربعين بلدة منها برنس، وأشبيلية، وقرطبة، ومرسية، وكانت النصرة في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثنتين وستين‏.‏

وفي رمضان من هذه السنة شرع في تبليط باب البريد من باب الجامع إلى القناة التي عند الدرج وعمل في الصف القبلي منها بركة وشاذروان‏.‏

وكان في مكانها قناة من القنوات ينتفع الناس بها عند انقطاع نهر ماناس فغيرت وعمل الشاذروان، ثم غيرت وعمل مكانها دكاكين‏.‏

وفيها استدعى الظاهر نائبه على دمشق الأمير آقوش، فسار إليه سامعاً مطيعاً، وناب عنه الأمير علم الدين الحصني حتى عاد مكرماً معزوزاً‏.‏

وفيها‏:‏ ولي الظاهر قضاة من بقية المذاهب في مصر مستقلين بالحكم يولون من جهتهم في البلدان أيضاً كما يولى الشافعي، فتولى قضاء الشافعية التاج عبد الوهاب ابن بنت الأعز، والحنفية شمس الدين سليمان، والمالكية شمس الدين السبكي، والحنابلة شمس الدين محمد المقدسي، وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل‏.‏

وكان سبب ذلك كثرة توقف القاضي ابن بنت الأعز في أمور تخالف مذهب الشافعي، وتوافق غيره من المذاهب، فأشار الأمير جمال الدين أيد غدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضياً مستقلاً يحكم بمقتضى مذهبه، فأجابه إلى ذلك، وكان يحب رأيه ومشورته، وبعث بأخشاب ورصاص وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل منبراً فنصب هنالك‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم ببلاد مصر واتهم النصارى فعقابهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة‏.‏

وفيها‏:‏ جاءت الأخبار بأن سلطان التتار هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه في سابع ربيع الآخر بمرض الصرع بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا وبنيت عليه قبة واجتمعت التتار على ولده أبغا‏.‏ ‏

فقصده الملك بركة خان فكسره وفرق جموعه، ففرح الملك الظاهر بذلك، وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر في الإقطاعات‏.‏

وفيها‏:‏ في ثاني عشر شوال سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد محمد بركه خان، وأخذ له البيعة من الأمراء وأركبه ومشى الأمراء بين يديه، وحمل والده الظاهر الغاشية بنفسه والأمير بدر الدين بيسرى حامل الخبز، والقاضي تاج الدين والوزير بهاء الدين ابن حنا راكبان وبين يديه، وأعيان الأمراء ركبان وبقيتهم مشاة حتى شقوا القاهرة وهم كذلك‏.‏

وفي ذي القعدة ختن الظاهر ولده الملك السعيد المذكور، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء وكان يوماً مشهوداً‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 خالد بن يوسف بن سعد النابلسي

الشيخ زين الدين ابن الحافظ شيخ دار الحديث النورية بدمشق، كان عالماً بصناعة الحديث حافظاً لأسماء الرجال، وقد اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وتولى بعده مشيخة دار الحديث النورية الشيخ تاج الدين الفزاري، كان الشيخ زين الدين حسن الأخلاق فكه النفس كثير المزاح على طريقة المحدثين‏.‏

رحل إلى بغداد واشتغل بها، وسمع الحديث وكان فيه خير وصلاح وعبادة، وكانت جنازته حافلة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله‏.‏

 الشيخ أبو القاسم الحواري

هو أبو القاسم يوسف ابن أبي القاسم بن عبد السلام الأموي الشيخ المشهور صاحب الزاوية بحواري، توفي ببلده، وكان خيراً صالحاً له أتباع وأصحاب يحبونه، وله مريدون كثير من قرايا حوران في الجبل والبثنية وهم حنابلة لا يرون الضرب بالدف بل بالكف، وهم أمثل من غيرهم‏.‏

 القاضي بدر الدين الكردي السنجاري

الذي باشر القضاء بمصر مراراً توفي بالقاهرة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وسيرته معروفة في أخذ الرشا من قضاة الأطراف والمتحاكمين إليه، إلا أنه كان جواداً كريماً صودر هو وأهله‏.‏ ‏

 ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة

استهلت و الخليفة الحاكم العباسي والسلطان الملك الظاهر وقضاة مصر أربعة‏.‏

وفيها‏:‏ جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول، ونائب الشام آقوش النجيبي، وكان قاضي قضاة الشافعية ابن خلكان، والحنفية شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا، والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر، والمالكية عبد السلام بن الزواوي، وقد امتنع من الولاية فألزم بها حتى قبل ثم عزل نفسه، ثم ألزم بها فقبل بشرط أن لا يباشر أوقافاً ولا يأخذ جامكية على أحكامه‏.‏

وقال‏:‏ نحن في كفاية فأعفى من ذلك أيضاً رحمهم الله‏.‏ وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الأول بمصر كما تقدم، واستقرت الأحوال على هذا المنوال‏.‏

وفيها‏:‏ كمل عمارة الحوض الذي شرقي قناة باب البريد وعمل له شاذروان وقبة وأنابيب يجري منها الماء إلى جانب الدرج الشمالية‏.‏

وفيها‏:‏ نازل ا لظاهر صفد واستدعى بالمنجانيق من دمشق وأحاط بها ولم يزل حتى افتتحها، ونزل أهلها على حكمه، فتسلم البلد في يوم الجمعة ثامن عشر شوال، وقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقد افتتحها الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب في شوال أيضاً في أربع وثمانين وخمسمائة، ثم استعادها الفرنج فانتزعها الظاهر منهم قهراً في هذه السنة ولله الحمد‏.‏

وكان السلطان الظاهر في نفسه منهم شيء كثير فلما توجه إلى فتحها طلبوا الأمان، فأجلس على سرير مملكته الأمير سيف الدين كرمون التتري، وجاءت رسلهم فخلعوه وانصرفوا ولا يشعرون أن الذي أعطاهم العهود بالأمان إنما هو الأمير الذي أجلسه على السرير والحرب خدعة‏.‏

فلما خرجت الاسبتارية والداوية من القلعة وقد فعلوا بالمسلمين الأفاعيل القبيحة، فأمكن الله منهم فأمر السلطان بضرب رقابهم عن آخرهم، وجاءت البريدية إلى البلاد بذلك، فدقت البشائر وزينت البلاد، ثم بث السرايا يميناً وشمالاً في بلاد الفرنج فاستولى المسلمون على حصون كثيرة تقارب عشرين حصناً، وأسروا قريباً من ألف أسير ما بين امرأة وصبي، وغنموا شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر من الأسر واسمه علي، فأكرم وأنزل بالدار الأسدية تجاه العزيزية، وقد كان أسيراً في أيدي التتار، فلما كسرهم بركه خان تخلص من أيديهم وسار إلى دمشق‏.‏ ‏‏

ولما فتح السلطان صفداً أخبره بعض من كان فيها من أسرى المسلمين أن سبب أسرهم أن أهل قرية فأرا كانوا يأخذونهم فيحملونهم إلى الفرنج فيبيعونهم منهم، فعند ذلك ركب السلطان قاصداً فأرا فأوقع بهم بأساً شديداً وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأسر من أبنائهم ونسائهم أخذاً بثأر المسلمين جزاه الله خيراً‏.‏

ثم أرسل السلطان جيشاً هائلاً إلى بلاد سيس، فجاسوا خلال الديار وفتحوا سيس عنوة وأسروا ابن ملكها وقتلوا أخاه ونهبوها، وقتلوا أهلها وأخذوا بثار الإسلام وأهله منهم، وذلك أنهم كانوا أضر شيء على المسلمين زمن التتار، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقاً كثيراً‏.‏

ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الإسلام، هو وأميره كتبغا، وكان وأخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وجاءت الأخبار بذلك إلى البلاد وضربت البشائر‏.‏

وفي الخامس والعشرين من ذي الحجة دخل السلطان وبين يديه ابن صاحب سيس وجماعة من ملوك الأرمن أسارى أذلاء صغرة، والعساكر صحبته وكان يوماً مشهوداً‏.‏

ثم سار إلى مصر مؤيداً منصوراً، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده، فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الأشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتر فتذلل له وتمسكن وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الأشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس‏.‏

وفيها‏:‏ عمر الظاهر الجسر المشهور بين قرارا ودامية، تولى عمارته الأمير جمال الذين محمد بن بهادر وبدر الدين محمد بن رحال والي نابلس والأغوار، ولما تم بناؤه اضطرب بعض أركانه فقلق السلطان من ذلك وأمر بتأكيده فلم يستطيعوا من قوة جري الماء حينئذ‏.‏

فاتفق بإذن الله أن انسالت على النهر أكمة من تلك الناحية، فسكن الماء بمقدار أن أصلحوا ما يريدون، ثم عاد الماء كما كان وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أيد غدي بن عبد الله

الأمير جمال الدين العزيزي، كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند الملك الظاهر، لا يكاد الظاهر يخرج عن رأيه، وهو الذي أشار عليه بولاية القضاة من كل مذهب قاض على سبيل الاستقلال وكان متواضعاً لا يلبس محرماً، كريماً وقوراً رئيساً معظماً في الدولة، أصابته جراحة في حصار صفد فلم يزل مريضاً منها حتى مات ليلة عرفة، ودفن بالرباط الناصري بسفح قاسيون من صلاحية دمشق رحمه الله‏.‏ ‏‏

 هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان

ملك التتار ابن ملك التتار، وهو والد ملوكهم، والعامة يقولون هولاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكاً جباراً فاجراً كفاراً لعنه الله‏.‏

قتل من المسلمين شرقاً وغرباً ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم وسيجازيه على ذلك شر الجزاء، كان لا يتقيد بدين من الأديان، وإنما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصرت وكانت تفضل النصارى على سائر الخلق، وكان هو يترامى على محبة المعقولات، ولا يتصور منها شيئاً، وكان أهلها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، وإنما كانت همته في تدبير مملكته وتملك البلاد شيئاً فشيئاً، حتى أباده الله في هذه السنة‏.‏

وقيل في سنة ثلاث وستين ودفن في مدينة تلا، لا رحمه الله، وقام في الملك من بعده ولده أبغا خان وكان أبغا أحد إخوة عشرة ذكور، والله سبحانه أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة

في يوم الأحد ثاني المحرم توجه الملك الظاهر من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته العساكر المنصورة، وقد استولت الدولة الإسلامية على بلاد سيس بكمالها، وعلى كثير من معاقل الفرنج في هذه السنة، وقد أرسل العساكر بين يديه إلى غزة، وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها، فلما كان عند بركة زيزي تصيد هنالك فسقط عن فرسه فانكسرت فخذه‏.‏

فأقام هناك أياماً يتداوى حتى أمكنه أن يركب في المحفة، وسار إلى مصر فبرأت رجله في أثناء الطريق فأمكنه الركوب وحده على الفرس‏.‏

ودخل القاهرة في أبهة عظيمة، وتجمل هائل، وقد زينت البلد، واحتفل الناس له احتفالاً عظيماً، وفرحوا بقدومه وعافيته فرحاً كثيراً، ثم في رجب منها رجع من القاهرة إلى صفد، وحفر خندقاً حول قلعتها وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه وأغار على ناحية عكا، فقتل وأسر وغنم وسلم وضرب لذلك البشائر بدمشق‏.‏

وفي ثاني عشر ربيع الأول صلى الظاهر بالجامع الأزهر الجمعة، ولم يكن تقام به الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين، مع أنه أول مسجد بني بالقاهرة، بناه جوهر القائد وأقام فيه الجمعة، فلما بنى الحاكم جامعه حول الجمعة منه إليه، وترك الأزهر لا جمعة فيه فصار في حكم بقية المساجد وشعث حاله وتغيرت أحواله، فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الجمعة وأمر بعمارة جامع الحسينية وكمل في سنة سبع وستين كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ أمر الظاهر أن لا يبيت أحد من المجاورين بجامع دمشق فيه وأمر بإخراج الخزائن منه، والمقاصير التي كانت فيه، فكانت قريباً من ثلاثمائة، ووجدوا فيها قوارير البول والفرش والسجاجيد الكثيرة، فاستراح الناس والجامع من ذلك واتسع على المصلين‏.‏

وفيها‏:‏ أمر السلطان بعمارة أسوار صفد وقلعتها، وأن يكتب عليها‏:‏ {‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وفيها‏:‏ التقى أبغا ومنكوتمر الذي قام مقام بركه خان فكسره أبغا وغنم منه شيئاً كثيراً‏.‏

وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال‏:‏ بلغنا أن رجلاً يدعى أبا سلامة من ناحية بصرى، كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة، فقال‏:‏ والله لا أستاك إلا في المخرج - يعني دبره - فأخذ سواكاً فوضعه في مخرجه، ثم أخرجه فمكث بعده تسعة أشهر فوضع ولداً على صفة الجرذان له أربعة قوائم، ورأسه كرأس السمكة، وله دبر كدبر الأرنب‏.‏

ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان، ومنهم من رأى ذلك الحيوان حياً، ومنهم من رآه بعد موته‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 السلطان بركه خان بن تولي بن جنكيز خان

وهو ابن عم هولاكو، وقد أسلم بركه خان هذا، وكان يحب العلماء والصالحين ومن أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جنوده، وكان يناصح الملك الظاهر ويعظمه ويكرم رسله إليه، ويطلق لهم شيئاً كثيراً، وقد قام في الملك بعده بعض أهل بيته وهو منكوتمر بن طغان بن بابو بن تولي بن جنكيز خان، وكان على طريقته ومنواله ولله الحمد

قاضي القضاة بالديار المصرية

 تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر ابن بنت الأعز الشافعي، كان ديناً عفيفاً نزهاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقبل شفاعة أحد، وجمع له قضاء الديار المصرية بكمالها، والخطابة والحسبة ومشيخة الشيوخ، ونظر الأجياش، وتدريس الشافعي والصالحية وإمامة الجامع، وكان بيده خمسة عشر وظيفة، وباشر الوزارة في بعض الأوقات‏.‏

وكان السلطان يعظمه، والوزير ابن حنا يخاف منه كثيراً، وكان يحب أن ينكبه عند السلطان ويضعه فلا يستطيع ذلك، وكان يشتهي أن يأتي داره ولو عائداً، فمرض في بعض الأحيان فجاء القاضي عائداً، فقام إلى تلقيه لوسط الدار، فقال له القاضي‏:‏ إنما جئنا لعيادتك فإذا أنت سوي صحيح، سلام عليكم، فرجع ولم يجلس عنده‏.‏

وكان مولده في سنة أربع وستمائة، وتولى بعده القضاء تقي الدين بن رزين‏.‏

 واقف القيمرية الأمير الكبير ناصر الدين

أبو المعالي الحسين بن العزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي، كان من أعظم الأمراء مكانة عند الملوك، وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر صاحب حلب، حين قتل توران شاه بن الصالح أيوب بمصر، وهو واقف المدرسة القيمرية عند مأذنة فيروز، وعمل على بابها الساعات التي لم يسبق إلى مثلها، ولا عمل على شكلها، يقال إنه غرم عليها أربعين ألف درهم‏.‏

 الشيخ شهاب الدين أبو شامة

عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس أبو محمد وأبو القاسم المقدسي الشيخ الإمام العالم الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ المعروف بأبي شامة شيخ دار الحديث الأشرفية، ومدرس الركنية، وصاحب المصنفات العديدة المفيدة، له اختصار تاريخ دمشق في مجلدات كثيرة، وله شرح الشاطبية، وله الرد إلى الأمر الأول، وله في المبعث وفي الأسراء، وكتاب ‏(‏الروضتين في الدولتين النورية والصلاحية‏)‏، وله الذيل على ذلك، وله غير ذلك من الفوائد الحسان والغرائب التي كالعقيان‏.‏ ‏

ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وذكر لنفسه ترجمة في هذه السنة في الذيل، وذكر مرباه ومنشأه، وطلبه العلم، وسماعه الحديث، وتفقهه على الفخر بن عساكر وابن عبد السلام، والسيف الآمدي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وما رئي له من المنامات الحسنة‏.‏

وكان ذا فنون كثيرة، أخبرني علم الدين البرزالي الحافظ عن الشيخ تاج الدين الفزاري، أنه كان يقول‏:‏ بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة رتبة الاجتهاد، وقد كان ينظم أشعاراً في أوقات، فمنها ما هو مستحلى، ومنها ما لا يستحلى، فالله يغفر لنا وله‏.‏

وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه، وأرسلوا إليه من اغتاله وهو بمنزل له بطواحين الأشنان‏.‏

وقد كان اتهم برأي، الظاهر براءته منه، وقد قال جماعة من أهل الحديث وغيرهم‏:‏ إنه كان مظلوماً ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من هذه السنة، فذكر أنه أصيب بمحنة في منزله بطواحين الأشنان‏.‏

وكان الذين قتلوه جاؤوه قبل فضربوه ليموت فلم يمت، فقيل له‏:‏ ألا تشتكي عليهم، فلم يفعل وأنشأ يقول‏:‏

قلت لمن قال‏:‏ ألا تشتكي * ما قد جرى فهو عظيم جليل

يقيض الله تعالى لنا * من يأخذ الحق ويشفي الغليل

إذا توكلنا عليه كفى * فحسبنا الله ونعم الوكيل

وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في المنزل المذكور فقتلوه بالكلية في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان رحمه الله‏.‏

ودفن من يومه بمقابر دار الفراديس، وباشر بعده مشيخة دار الحديث الأشرفية الشيخ محيي الدين النووي‏.‏

وفي هذه السنة كان مولد الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي، وقد ذيل على تاريخ أبي شامة لأن مولده في سنة وفاته، فحذا حذوه وسلك نحوه، ورتب ترتيبه وهذب تهذيبه‏.‏

وهذا أيضا ممن ينشد في ترجمته‏:‏

ما زلت تكتب في التاريخ مجتهداً * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

ويناسب أن ينشد هنا‏:‏

إذا سيد منا خلا قام سيد * قؤول لما قال الكرام فعول

 ثم دخلت سنة ست وستين وستمائة

استهلت هذه السنة والحاكم العباسي خليفة، وسلطان البلاد الملك الظاهر، وفي أول جمادى الآخرة خرج السلطان من الديار المصرية بالعساكر المنصورة، فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة، وسلم إليه أهلها قلعتها صلحاً، فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة وسار منها في رجب قاصداً حصن الشقيف‏.‏

وفي بعض الطريق أخذ من بعض بريدية الفرنج كتاباً من أهل عكا إلى أهل الشقيف يعلمونهم قدوم السلطان عليهم، ويأمرونهم بتحصين البلد، والمبادرة إلى إصلاح أماكن يخشى على البلد منها‏.‏ ففهم السلطان كيف يأخذ البلد وعرف من أين تؤكل الكتف، واستدعى من فوره رجلاً من الفرنج فأمره أن يكتب بدله كتاباً على ألسنتهم إلى أهل الشقيف، يحذر الملك من الوزير، والوزير من الملك، ويرمي الخلف بين الدولة‏.‏

فوصل إليهم فأوقع الله الخلف بينهم بحوله وقوته، وجاء السلطان فحاصرهم ورماهم بالمنجنيق فسلموه الحصن في التاسع والعشرين من رجب وأجلاهم إلى صور، وبعث بالأنفال إلى دمشق، ثم ركب جريدة فيمن نشط من الجيش فشن الغارة على طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب وكر راجعاً مؤيداً منصوراً‏.‏

فنزل على حصن الأكراد لمحبته في المرج، فحمل إليه أهله من الفرنج الإقامات فأبى أن يقبلها وقال‏:‏ أنتم قتلتم جندياً من جيشي وأريد ديته مائة ألف دينار، ثم سار فنزل على حمص، ثم منها إلى حماة، ثم إلى فامية ثم سار منزلة أخرى، ثم سار ليلاً وتقدم العسكر فلبسوا العدة وساق حتى أحاط بمدينة إنطاكية‏.‏

 

 فتح إنطاكية على يد السلطان الملك الظاهر

وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير، يقال إن دور سورها اثنا عشر ميلاً، وعدد بروجها مائة وستة

وثلاثون برجاً، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألف شرافة، كان نزوله عليها في مستهل شهر رمضان، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان، وشرطوا شروطاً له عليهم فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره، وغنم منها شيئاً كثيراً، وأطلق للأمراء أموالاً جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقاً كثيراً، كل هذا في مقدار أربعة أيام‏.‏

وقد كان الأغريس صاحبها وصاحب طرابلس، من أشد الناس أذية للمسلمين، حين ملك التتار حلب وفر الناس منها، فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للإسلام ناصراً وللصليب دامغاً كاسراً، ولله الحمد والمنة‏.‏

وجاءت البشارة بذلك مع البريدية، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة، وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها، فأرسل إليهم أستاذ داره الأمير أقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها، وتسلموا حصوناً كبيرة وقلاعاً كثيرة، وعاد السلطان مؤيداً منصوراً، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة، وقد زينت له البلد ودقت له البشائر فرحاً بنصرة الإسلام على الكفرة الطغام‏.‏

لكنه كان قد عزم على أخذ أراضي كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها بزعم أنه قد كانت التتار استحوذوا عليها ثم استنقذها منهم، وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية تفريعاً على أن الكفار إذا أخذوا شيئاً من أموال المسلمين ملكوها، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها، وهذه المسألة مشهورة وللناس فيها قولان أصحها‏:‏ قول الجمهور أنه يجب ردها إلى أصحابها لحديث العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استرجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أخذها المشركون، استدلوا بهذا وأمثاله على أبي حنيفة‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إذا أخذ الكفار أموال المسلمين وأسلموا وهي في أيديهم استقرت على أملاكهم، واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏(‏‏(‏وهل ترك لنا عقيل من رباع‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان استحوذ على أملاك المسلمين الذين هاجروا وأسلم عقيل وهي في يده، فلم تنتزع من يده‏.‏

وأما إذا انتزعت من أيديهم قبل، فإنها ترد إلى أربابها لحديث العضباء، والمقصود أن الظاهر عقد مجلساً اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب وتكلموا في ذلك وصمم السلطان على ذلك اعتماداً على ما بيده من الفتاوى‏.‏

وخاف الناس من غائلة ذلك فتوسط الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين بن أحنا، وكان قد درس بالشافعي بعد ابن بنت الأعز، فقال‏:‏ يا خوند أهل البلد يصالحونك عن ذلك كله بألف ألف درهم، تقسط كل سنة مائتي ألف درهم، فأبى إلا أن تكون معجلة بعد أيام، وخرج متوجهاً إلى الديار المصرية، وقد أجاب إلى تقسيطها، وجاءت البشارة بذلك‏.‏

ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف درهم، وأن تعاد إليه الغلات التي كانوا قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار، وكانت هذه الفعلة مما شعثت خواطر الناس على السلطان‏.‏

ولما استقر أمر أبغا على التتار أمر باستمرار وزيره نصير الدين الطوسي، واستناب على بلاد الروم البرواناه وارتفع قدره عنده جداً واستقل بتدبير تلك البلاد وعظم شأنه فيها‏.‏

وفيها‏:‏ كتب صاحب اليمن إلى الظاهر بالخضوع والانتماء إلى جانبه وأن يخطب له ببلاد اليمن، وأرسل إليه هدايا وتحفاً كثيرة، فأرسل إليه السلطان هدايا وخلعاً وسنجقاً وتقليداً‏.‏

وفيها‏:‏ رافع ضياء الدين بن الفقاعي للصاحب بهاء الدين بن الحنا عند الظاهر واستظهر عليه ابن الحنا، فسلمه الظاهر إليه، فلم يزل يضربه بالمقارع ويستخلص أمواله إلى أن مات، فيقال إنه ضربه قبل أن يموت سبعة عشر ألف مقرعة وسبعمائة فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ عمل البرواناه على قتل الملك علاء الدين صاحب قونية وأقام ولده غياث الدين مكانه وهو ابن عشر سنين وتمكن البرواناه في البلاد والعباد وأطاعه جيش الروم‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الصاحب علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب‏.‏

فقال ابن الخشكري‏:‏ يا مولانا أسمع شيئاً جديداً، وأعرض عن شيء له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئاً مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لإنسان معه استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه‏:‏ أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنوهم، ثم قال‏:‏ انزعوا عنه ثيابه فسلبوها وهو يخاصمهم، ويقول إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال‏:‏ اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال

شيخ رباط المرزبانية، كان صالحاً ورعاً زاهداً حكى عن نفسه قال‏:‏ كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت‏:‏ يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له‏؟‏ فرأيت في المنام رجلاً وفي يده كتاب فأخذته فقرأته فإذا فيه هذه الأبيات فيها الإنكار عليّ‏:‏

دع الاعتراض فما الأمر لك * ولا الحكم في حركات الفلك

ولا تسأل الله عن فعله * فمن خاض لجة بحر هلك

إليه تصير أمور العباد * دع الاعتراض فما أجهلك

من الأعيان‏:‏

 الحافظ أبو إبراهيم إسحاق بن عبد الله

ابن عمر المعروف بابن قاضي اليمن، عن ثمان وستين سنة، ودفن بالشرف الأعلى، وكان قد تفرد بروايات جيدة وانتفع الناس به‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية والخطيب القزويني‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة

في صفر منها جدد السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده الملك السعيد محمد بركه خان، وأحضر الأمراء كلهم والقضاة والأعيان وأركبه ومشى بين يديه، وكتب له ابن لقمان تقليداً هائلاً بالملك من بعد أبيه، وأن يحكم عنه أيضاً في حال حياته، ثم ركب السلطان في عساكره في جمادى الآخرة قاصداً الشام، فلم دخل دمشق جاءته رسل من أبغا ملك التتار معهم مكاتبات ومشافهات، فمن جملة المشافهات‏:‏ أنت مملوك بعت بسيواس فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الأرض‏؟‏ واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان أبغا‏.‏

فلم يلتفت إلى ذلك ولا عده شيئاً بل أجاب عنه أتم جواب، وقال لرسله‏:‏ أعلموه أني من روائه بالمطالبة ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة، وسائر أقطار الأرض‏.‏

وفي جمادى الآخرة رسم السلطان الملك الظاهر بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطىء بالبلاد كلها، فنهبت الخواطىء وسلبن جميع ما كان معهن حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقط المكوس التي كانت مرتبة على ذلك، وعوض من كان محالاً على ذلك بغيرها ولله الحمد والمنة‏.‏

ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور، وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله وأخذ ماله، فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئاً كثيراً، وقتل خلقاً فأرسل إليه ملكها ما سبب هذا‏؟‏ فذكر له غدره ومكره بالتجار ثم قال السلطان لمقدم الجيوش‏:‏

أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة وأحضر الأطباء استوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا، وإذا وصفوا لك فأحضر الأشربة إلى المحفة وأنتم سائرون‏.‏

ثم ركب السلطان على البريد وساق مسرعاً فكشف أحوال ولده وكيف الأمر بالديار المصرية بعده ثم عاد مسرعاً إلى الجيش فجلس في المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك، وهذه جرأة عظيمة، وإقدام هائل‏.‏ ‏

وفيها حج السلطان الملك الظاهر وفي صحبته الأمير بدر الدين الخزندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الأثير ونحو من ثلاثمائة مملوك، وأجناد من الخلقة المنصورة، فسار على طريق الكرك ونظر في أحوالها ثم منها إلى المدينة النبوية، فأحسن إلى أهلها ونظر في أحوالها، ثم منها إلى مكة فتصدق على المجاورين ثم وقف بعرفة وطاف طواف الإفاضة وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده‏.‏

ثم وقف بباب الكعبة فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم، ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين‏.‏

ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة، وأرسل البشير إلى دمشق بقدومه سالماً، فخرج الأمير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الأخضر، وقد سبق الجميع، فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده، ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماة ثم رجع إلى دمشق ثم سار إلى مصر، فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة رحمه الله‏.‏

وفي أواخر ذي الحجة هبت ريح شديدة أغرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع هناك مطر شديد جداً، أصاب الشام من ذلك صاعقة أهلكت الثمار، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ أوقع الله تعالى الخلف بين التتار من أصحاب أبغا وأصحاب ابن منكوتمر ابن عمه وتفرقوا واشتغلوا ببعضهم بعضاً، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ خرج أهل حران منها وقدموا الشام، وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين، وأخوه زين الدين عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله، وهما أصغر منه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله

الحلبي الصالحي، كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند الملوك، ثم عند الملك الظاهر، كان يستنيبه إذا غاب، فلما كانت هذه السنة أخذه معه وكانت وفاته بقلعة دمشق، ودفن بتربته بالقرب من اليغمورية، وخلف أموالاً جزيلة، وأوصى إلى السلطان في أولاده، وحضر السلطان عزاءه بجامع دمشق‏.‏‏

 شرف الدين أبو الظاهر

محمد بن الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية المصري، ولد سنة عشر وستمائة وسمع أباه وجماعة، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة، وحدث وكان فاضلاً‏.‏

 القاضي تاج الدين أبو عبد الله

محمد بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي، درس وأفتى عن ابن عطاء بدمشق، ومات بعد خروجه من الحمام على مساطب الحمام فجأة ودفن بقاسيون‏.‏

 الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن

علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي شيخ الأطباء بدمشق، ومدرس الدخوارية عن وصية واقفها بذلك وله التقدمة في هذه الصناعة على أقرانه من أهل زمانه، ومن شعره قوله‏:‏

يساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوةً * ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي

كأنهم الأنعام في جهل بعضها * بمأثم من سفك الدماء على بعض

 الشيخ نصير الدين

المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبي البركات بن الصباغ الشافعي، العلامة في الفقه والحديث، درس وأفتى وصنف وانتفع به، وعمر ثمانين سنة، وكانت وفاته في حادي عشرة جمادى الأولى من هذه السنة، رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ أبو الحسن

علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المقري النحوي الملقب بسيبويه، وكان فاضلاً بارعاً في صناعة النحو، توفي بمارستان القاهرة في هذه السنة عن سبع وستين سنة رحمه الله‏.‏ ومن شعره‏:‏ ‏

عذبت قلبي بهجر منك متصل * يا من هواه ضمير غير منفصل

فما زادني غير تأكيد صدك لي * فما عدولك من عطف إلى بدل

وفيها ولد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي الأنصاري بن الزملكاني شيخ الشافعية‏.‏