الجزء الثالث عشر - ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة

 ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة

في ثاني المحرم منها دخل السلطان من الحجاز على الهجن فلم يرع الناس إلا وهو في الميدان الأخضر يسير، ففرح الناس بذلك، وأراح الناس من تلقيه بالهدايا والتحف، وهذه كانت عادته، وقد عجب الناس من سرعة مسيره وعلو همته، ثم سار إلى حلب، ثم سار إلى مصر فدخلها في سادس الشهر مع الركب المصري، وكانت زوجته أم الملك السعيد في الحجاز هذه السنة، ثم خرج في ثالث عشر صفر هو وولده والأمراء إلى الإسكندرية فتصيد هنالك، وأطلق للأمراء الأموال الكثيرة والخلع، ورجع مؤيداً منصوراً‏.‏

وفي المحرم منها قتل صاحب مراكش أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف الملقب بالواثق، قتله بنو مرين في حرب كانت بينه وبينهم بالقرب من مراكش‏.‏

وفي ثالث عشر ربيع الآخر منها وصل السلطان إلى دمشق في طائفة من جيشه، وقد لقوا في الطريق مشقة كثيرة من البرد والوحل، فخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا يقصد جيش المسلمين، فركب إليه سريعاً فوجده قريباً من عكا فدخلها خوفاً منه‏.‏

وفي رجب تسلم نواب السلطان مصياف من الإسماعيلية، وهرب منها أميرهم الصارم مبارك بن الرضي، فتحيل عليه صاحب حماه حتى أسره وأرسله إلى السلطان فحبسه في بعض الأبرجة في القاهرة‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل السلطان الدرابزينات إلى الحجرة النبوية، وأمر أن تقام حول القبر صيانة له، وعمل لها أبواباً تفتح وتغلق من الديار المصرية، فركب ذلك عليها‏.‏

وفيها‏:‏ استفاضت الأخبار بقصد الفرنج بلاد الشام، فجهز السلطان العساكر لقتالهم، وهو مع ذلك مهتم بالإسكندرية خوفاً عليها، وقد حصنها وعمل جسورة إليها إن دهمها العدو، وأمر بقتل الكلاب منها‏.‏

وفيها‏:‏ انقرضت دولة بني عبد المؤمن من بلاد المغرب، وكان آخرهم إدريس بن عبد الله بن يوسف صاحب مراكش، قتله بنو مرين في هذه السنة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الله الرفيع

ابن زيد بن مالك المصري لمعروف بابن الزبيري كان فاضلاً رئيساً، وزر للملك المظفر قطز ثم للظاهر بيبرس في أول دولته، ثم عزله وولى بهاء الدين ابن الحنا، فلزم منزله حتى أدركته منيته في الرابع عشر من ربيع الآخر من هذه السنة، وله نظم جيد‏.‏

 الشيخ موفق الدين

أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي الطبيب المعروف بابن أبي أصيبعة له تاريخ الأطباء في عشر مجلدات لطاف، وهو وقف بمشهد ابن عروة بالأموي، توفي بصرخد وقد جاوز التسعين‏.‏

 الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم

ابن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير، أبو العباس المقدسي النابلسي، تفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد سمع ورحل إلى بلدان شتى، وكان فاضلاً يكتب سريعاً‏.‏

حكى الشيخ علم الدين أنه كتب مختصر الخرقي في ليلة واحدة، وخطه حسن قوي، وقد كتب تاريخ ابن عساكر مرتين، واختصره لنفسه أيضاً، واضر في آخر عمره أربع سنين، وله شعر أورد منه قطب الدين في تذييله، توفي بسفح قاسيون وبه دفن في بكرة الثلاثاء عاشر رجب، وقد جاوز التسعين رحمه الله‏.‏

 القاضي محيي الدين بن الزكي

أبو الفضل يحيى بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد ابن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي الأموي بن الزكي، تولى قضاء دمشق غير مرة، وكذلك آباؤه من قبله، كل قد وليها‏.‏

وقد سمع الحديث من حنبل وابن طبرزد والكندي وابن الحرستاني وجماعة، وحدث ودرس في مدارس كثيرة، وقد ولى قضاء الشام في الهلاوونية فلم يحمد على ما ذكره أبو شامة، توفي بمصر في الرابع عشر من رجب، ودفن بالمقطم وقد جاوز السبعين‏.‏

وله شعر جيد قوي‏.‏

وحكى الشيخ قطب الدين في ذلك بعد ما نسبه كما ذكرنا عن والده القاضي بهاء الدين أنه كان يذهب إلى تفضيل علي على عثمان موافقة لشيخه محيي الدين ابن عربي، ولمنام رآه بجامع دمشق معرضاً عنه بسبب ما كان من بني أمية إليه في أيام صفين، فأصبح فنظم في ذلك قصيدة يذكر فيها ميله إلى علي، وإن كان هو أموي‏:‏

أدين بما دان الوصي ولا أرى * سواه وإن كانت أمية محتدي

ولو شهدت صفين خيلي لا عذرت * وشاء بني حرب هنالك مشهدي

لكنت آسن البيض عنهم تراضيا * وأمنعهم نيل الخلافة باليد

ومن شعره‏:‏

قالوا ما في جلق نزهة * تسليك عمن أنت به مغرا

يا عاذلي دونك في لحظة * سهماً وقد عارضه سطرا

 الصاحب فخر الدين

محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن الحنا المصري، كان وزير الصحبة، وقد كان فاضلاً، بني رباطاً بالقرافة الكبرى، ودرس بمدرسة والده بمصر، وبالشافعي بعد ابن بنت الأعز توفي بشعبان ودفن بسفح المقطم، وفوض السلطان وزارة الصحبة لولده تاج الدين‏.‏

 الشيخ أبو نصر بن أبي الحسن

ابن الخراز الصوفي البغدادي الشاعر، له ديوان حسن، وكان جميل المعاشرة حسن المذاكرة، دخل عليه بعض أصحابه فلم يقم له فأنشده قوله‏:‏

نهض القلب حين أقبلت * إجلالاً لما فيه من صحيح الوداد

ونهوض القلوب بالود أولى * من نهوض الأجساد للأجساد

 ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة

في مستهل صفر منها ركب السلطان من الديار المصرية في طائفة من العسكر إلى عسقلان فهدم ما بقي من سورها مما كان أهمل في الدولة الصلاحية‏.‏

ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألفا دينار ففرقهما على الأمراء‏.‏

وجاءته البشارة وهو هنالك بأن منكوتمر كسر جيش أبغا ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة‏.‏

وفي ربيع الأول بلغ السلطان أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبراً بظاهر عكا، فأمر بمن كان في يده من أسرى أهل عكا فضربت رقابهم في صبيحة واحدة، وكانوا قريباً من مائتي أسير‏.‏

وفيها‏:‏ كمل جامع المنشية وأقيمت فيه الجمعة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب يطول ذكرها بين أهل تونس والفرنج، ثم تصالحوا بعد ذلك على الهدنة ووضع الحرب، بعدما قتل من الفريقين خلق لا يحصون‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن رجب دخل الظاهر دمشق وفي صحبته ولده الملك السعيد وابن الحنا الوزير وجمهور الجيش ثم خرجوا متفرقين وتواعدوا أن يلتقوا بالساحل ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وما هنالك من البلاد‏.‏

فلما اجتمعوا فتحوا صافينا والمجدل، ثم ساروا فنزلوا على حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، وله ثلاث أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسراً يوم نصف شعبان، فدخل الجيش، وكان الذي يحاصره ولد السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومنّ عليهم وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح، فأجلى أهلها أيضاً وجعل كنيسة البلد جامعاً، وأقام فيه الجمعة‏.‏

وولى فيها نائباً وقاضياً وأمر بعمارة البلد، وبعث صاحب طرسوس بمفاتيح بلده يطلب منه الصلح على أن يكون نصف مغل بلاده للسلطان، وأن يكون له بها نائباً فأجابه إلى ذلك، وكذلك فعل صاحب المرقب فصالحه أيضاً على المناصفة ووضع الحرب عشر سنين‏.‏

وبلغ السلطان وهو مخيم على حصن الأكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفاً من السلطان، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة فبعث جيشاً كثيفاً في اثني عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص في غيبة صاحبها عنها‏.‏

فسارت المراكب مسرعة فلما قاربت المدينة جاءتها ريح قاصف فصدم بعضها بعضا فانكسر فيها أربعة عشر مركباً بإذن الله فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريباً من ألف وثمانمائة إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم سار السلطان فنصب المجانيق على حصن عكا فسأله أهلها الأمان على أن يخليهم فأجابهم إلى ذلك، ودخل البلد يوم عيد الفطر فتسلمه، وكان الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهو واد بين جبلين، ثم سار السلطان نحو طرابلس فأرسل إليه صاحبها يقول‏:‏ ما مراد السلطان في هذه الأرض‏؟‏ فقال‏:‏ جئت لأرعى زروعكم وأخرب بلادكم، ثم أعود إلى حصاركم في العام الآتي‏.‏ ‏

فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع الحرب بينهم عشر سنين فأجابه إلى ذلك، وأرسل إليه الإسماعيلية يستعطفونه على والدهم، وكان مسجوناً بالقاهرة، فقال‏:‏ سلموا إلىّ العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة، وتسلموا أباكم‏.‏

فلما نزلوا أمر بحبسهم بالقاهرة واستناب بحصن العليقة‏.‏

وفي يوم الأحد الثاني عشر من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق فأتلف شيئاً كثيراً، وغرق بسببه ناس كثير، لا سيما الحجاج من الروم الذين كانوا نزولاً بين النهرين، أخذهم السيل وجمالهم وأحمالهم، فهلكوا وغلقت أبواب البلد، ودخل الماء إلى البلد من مراقي السور، ومن باب الفراديس فغرق خان ابن المقدم وأتلف شيئاً كثيراً‏.‏

وكان ذلك في زمن الصيف في أيام المشمش، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال فعزل القاضي ابن خلكان، وكان له في القضاء عشر سنين‏.‏

وولى القاضي عز الدين بن الصائغ، وخلع عليه، وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس بسفارة الوزير ابن الحنا، فسار ابن خلكان في ذي القعدة إلى مصر‏.‏

وفي ثاني عشر شوال دخل حصن الكردي شيخ السلطان الملك الظاهر وأصحابه إلى كنيسة اليهود فصلوا فيها وأزلوا ما فيها من شعائر اليهود، ومدوا فيها سماطاً وعملوا سماعاً، وبقوا على ذلك أياماً، ثم أعيدت إلى اليهود، ثم خرج السلطان إلى السواحل فافتتح بعضها وأشرف على عكا وتأملها ثم سار إلى الديار المصرية‏.‏

وكان مقدار غرمه في هذه المدة وفي الغزوات قريباً من ثمانمائة ألف دينار، وأخلفها الله عليه، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة‏.‏

وفي اليوم السابع عشر من وصوله أمسك على جماعة من الأمراء منهم الحلبي وغيره بلغه أنهم أرادوا مسكه على الشقيف‏.‏

وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر بإراقة الخمور من سائر بلاده وتهدد من يعصرها أو يعتصرها بالقتل، وأسقط ضمان ذلك، وكان ذلك بالقاهرة وحدها كل يوم ضمانة ألف دينار، ثم سارت البرد بذلك إلى الآفاق‏.‏

وفيها‏:‏ قبض السلطان على العزيز بن المغيث صاحب الكرك، وعلى جماعة من أصحابه كانوا عزموا على سلطنته‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الملك تقي الدين عباس بن الملك العادل

أبي بكر بن أيوب بن شادي، وهو آخر من بقي من أولاد العادل، وقد سمع الحديث من الكندي وابن الحرستاني، وكان محترماً عند الملوك لا يرفع عليه أحد في المجالس والمواكب، وكان لين الأخلاق حسن العشرة، لا تمل مجالسته‏.‏

توفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة بدرب الريحان، ودفن بتربته بسفح قاسيون‏.‏‏‏

 قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص

عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي، ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقه وأفتى بالصلاحية، وولي حسبة القاهرة ثم ولي القضاء سنة ثلاث وستين، لما ولوا من كل مذهب قاضياً، وقد امتنع أشد الامتناع ثم أجاب بعد إكراه بشرط أن لا يأخذ على القضاء جامكية، وكان مشهوراً بالعلم والدين، روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة وغيره توفي لخمس بقين من ذي القعدة‏.‏

 الطواشي شجاع الدين مرشد المظفري الحموي

كان شجاعاً بطلاً من الأبطال الشجعان، وكان له رأي سديد، كان أستاذه لا يخالفه وكذلك الملك الظاهر، توفي بحماه ودفن بتربته بالقرب من مدرسته بحماه‏.‏

ابن سبعين‏:‏ عبد الحق بن إبراهيم بن محمد

ابن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة فتولد له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا‏.‏

وكان يلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويزعم أنه حال من أحوال القوم، وله من المصنفات كتاب ‏(‏البدو‏)‏ وكتاب ‏(‏الهو‏)‏، وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها ابن سمي، وجاور في بعض الأوقات بغار حراء يرتجي فيما ينقل عنه أن يأتيه فيه وحي كما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك‏.‏

وقد كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضل طوافهم بالبيت، فالله يحكم فيه وفي أمثاله‏.‏

وقد نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال، توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة‏.‏ ‏

 

ثم دخلت سنة سبعين وستمائة من الهجرة

استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بالعباسي، وسلطان الإسلام الملك الظاهر‏.‏

وفي يوم الأحد الرابع عشر من المحرم ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشواني التي عملت عوضاً عما غرق بجزيرة قبرص، وهي أربعون شينياً، فركب في شيني منها ومعه الأمير بدر الدين، فمالت بهم فسقط الخزندار في البحر فغاص في الماء فألقى إنسان نفسه وراءه فأخذ بشعره وأنقده من الغرق، فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه‏.‏

وفي أواخر المحرم ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكية، والأمراء من الديار المصرية حتى قدم الكرك، واستحصب نائبها معه إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر صفر، ومعه الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك، فولاه نيابة دمشق وعزل عنها جمال الدين آقوش النجيبي في رابع عشر صفر، ثم خرج إلى حماة وعاد بعد عشرة أيام‏.‏

وفي ربيع الأول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار، وجفل خلق كثير من أهل دمشق‏.‏

وفي ربيع الآخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر، فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور، ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الأخضر بها، وكان سبب ذلك أن عساكر الروم جمعوا نحواً من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب‏.‏

ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فلما سمع التتار بوصول السلطان ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين، وكان بلغه أن الفرنج أغاروا على بلاد قاقون ونهبوا طائفة من التركمان، فقبض على الأمراء الذين هناك حيث لم يهتموا بحفظ البلاد وعادوا إلى الديار المصرية‏.‏

وفي ثالث شعبان أمسك السلطان قاضي الحنابلة بمصر شمس الدين أحمد بن العماد المقدسي، وأخذ ما عنده من الودائع فأخذ زكاتها ورد بعضها إلى أربابها، واعتقله إلى شعبان من سنة ثنتين وسبعين، وكان الذي وشى به رجل من أهل حران يقال له شبيب، ثم تبين للسلطان نزاهة القاضي وبراءته فأعاده إلى منصبه في سنة ثنتين وسبعين‏.‏ ‏

وجاء السلطان في شعبان إلى أراضي عكا فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة فأجابه إلى ذلك فهادنه عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشرة ساعات، وعاد إلى دمشق فقرئ بدار السعادة كتاب الصلح، واستمر الحال على ذلك ثم عاد السلطان إلى بلاد الإسماعيلية فأخذ عامتها‏.‏

قال قطب الدين‏:‏ وفي جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة‏.‏

قال‏:‏ وهذا شيء لم يعهد مثله‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 الشيخ كمال الدين

سلار بن حسن بن عمر بن سعيد الأربلي الشافعي، أحد مشايخ المذهب، وقد اشتغل عليه الشيخ محيي الدين النووي، وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عديدة هي عندي بخط يده وكانت الفتيا تدور عليه بدمشق، توفي في عشر السبعين، ودفن بباب الصغير، وكان مفيداً بالبادرائية من أيام الواقف، لم يطلب زيادة على ذلك إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

 

 وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب

ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذو الأموال الكثيرة، وكان معظماً عند الدولة، ولا سيما عند الملك الظاهر، كان يجله ويكرمه لأنه كان قد أسدى إليه جميلاً في حال إمرته قبل أن يلي السلطنة، ودفن برباطه وتربته بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، وكانت كتب الخليفة ترد إليه في كل وقت، وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك، حتى ملوك الفرنج في السواحل‏.‏

وفي أيام التتار في أيام هولاكو، وكان كثير الصدقات والبر‏.‏

 نجم الدين يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن اللبودي

واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر على الأطباء، ولديه فضيلة بمعرفة الطب، وقد ولى نظر الدواوين بدمشق، ودفن بتربته عند اللبودية‏.‏‏

 الشيخ علي البكاء

صاحب الزاوية بالقرب من بلد الخليل عليه السلام، كان مشهوراً بالصلاح والعبادة والإطعام لمن اجتاز به من المارة والزوار، وكان الملك المنصور قلاوون يثنى عليه ويقول‏:‏ اجتمعت به وهو أمير وأنه كاشفة في أشياء وقعت جميعها، ومن جملتها أنه سيملك‏.‏

نقل ذلك قطب الدين اليونيني، وذكر أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلاً كانت له أحوال وكرامات، وأنه خرج معه من بغداد فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني، فأشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني‏.‏

قال‏:‏ فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق، وقد استدار إلى جهة الشرق فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق فحولته أيضاً ففتح عينيه وقال‏:‏ لا تتعب فإني لا أموت إلا على هذه الجهة، وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم‏.‏

فقلنا لهم‏:‏ ما شأنكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الإسلام، فقلنا لهم‏:‏ خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا، قال فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى، نسأل الله حسن الخاتمة‏.‏

مات الشيخ علي في رجب من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة

في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها، وركب في أواخر المحرم إلى القاهرة فأقام بها سنة ثم عاد فدخل دمشق في رابع صفر، وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب فنهب تجارها وقتل خلقاً من أهلها‏.

منهم الوالي والقاضي، فسار إليه الأمير علاء الدين أيد غدي الخزندار فقتل خلقاً من بلاده ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد، وأخذ بالثأر ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي ربيع الأول توفي الأمير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون، ودفن في تربة والده في عشر السبعين، وكان له في ملك صهيون وبزريه إحدى عشرة سنة، وتسلمها بعده ولده سابق الدين، وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور فأذن له، فلما حضر أقطعه حيزاً وبعث إلى البلدين نواباً من جهته‏.‏

وفي خامس جمادى الآخرة وصل السلطان بعسكره إلى الفرات لأنه بلغه أن طائفة من التتار هنالك فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده، وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقاً كثيراً، وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الأمير سيف الدين قلاوون، وبدر الدين بيسرى، وتبعهما السلطان، ثم فعل بالتتار ما فعل، ثم ساق إلى ناحية البيرة وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى‏.‏

فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم، ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة وفرق في أهلها أموالاً كثيرة، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الأسرى‏.‏

وخرج منها في سابعه إلى الديار المصرية، وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ودخلا إلى القاهرة، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب، وأولاده يقال لهم بنو الشهاب محمود، في خوض السلطان الفرات بالجيش‏:‏

سر حيث شئت لك المهيمن جار * واحكم فطوع مرادك الأقدار

لم يبق للدين الذي أظهرته * يا ركنه عند الأعادي ثار

لما تراقصت الرؤوس تحركت * من مطربات قسيك الأوتار

خضت الفرات بعسكر أفضى به * موج الفرات كما أتى الأثار

حملتك أمواج الفرات ومن رأى * بحراً سواك تقله الأنهار

وتقطعت فرقاً ولم يك طودها * إذ ذاك إلا جيشك الجرار

وقال بعض من شاهد ذلك‏:‏ ‏

ولما تراءينا الفرات بخيلنا * سكرناه منا بالقنا والصوارم

ولجنا فأوقف التيار عن جريانه * إلى حين عدنا بالغنى والغنائم

وقال آخر ولا بأس به‏:‏

الملك الظاهر سلطاننا * نفديه بالأموال والأهل

اقتحم الماء ليطفي به * حرارة القلب من المغل

وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع الأمراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوايص، وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو ثلاثمائة ألف دينار‏.‏

وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه إلى القلعة وحوقق على أشياء كثيرة، ارتكبها فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه، ثم أمر باغتياله وكان آخر العهد به‏.‏

وفي ذي القعدة سلمت الإسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضوا عن ذلك بإقطاعات، ولم يبق بالشام شيء لهم من القلاع، واستناب السلطان فيها‏.‏

وفيها‏:‏ أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل، وغرم عليها مالاً كثيراً، وحصل للناس بذلك رفق كبير‏.‏

 

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ تاج الدين أبو المظفر محمد بن أحمد

ابن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحوي، التغلبي الدمشقي، كان من أعيان أهل دمشق، ولي نظر الأيتام والحسبة، ثم وكالة بيت المال، وسمع الكثير وخرج له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين الغراري بالجامع، فسمعها جماعة من الأعيان والفضلاء رحمه الله‏.‏

 الخطيب فخر الدين أبو محمد

عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الخطيب بها‏.

وبيته معروف بالعلم والخطابة والرياسة، ودفن بمقبرة الصوفية وقد قارب الستين رحمه الله‏.‏ وقد سمع الحديث من جده فخر الدين صاحب ديوان ‏(‏الخطب المشهورة‏)‏، توفي بخانقاه القصر ظاهر دمشق‏.‏

 الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي

شيخ الملك الظاهر بيبرس، كان حظياً عنده مكرماً لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية، في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعاً يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالاً كثيراً، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئاً كثيراً جداً، وكان معظماً عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له‏.‏

وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة، وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهب ما فيها لأصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة التي بالإسكندرية وهي من أعظم كنائسهم، نهبها وحولها مسجداً ومدرسة أنفق عليها أموالاً كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والأمتعة، ومد فيها سماطاً، واتخذها مسجداً مدة ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم‏.‏

ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه، ثم أمر بإعدامه وهلاكه وكانت وفاته في هذه السنة، ودفن بزاويته سامحه الله‏.‏

وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضراً موافقة لاسمه، وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر‏.‏

 مصنف التعجيز

العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن يونس بن محمد بن سعد بن مالك أبو القاسم الموصلي، من بيت الفقه والرياسة والتدريس، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة‏.‏

وسمع واشتغل وحصل وصنف واختصر ‏(‏الوجيز‏)‏ من كتابه ‏(‏التعجيز‏)‏ واختصر ‏(‏المحصول‏)‏ وله طريقة في الخلاف أخذها عن ركن الدين الطاووسي، وكان جده عماد الدين بن يونس شيخ المذهب في وقته كما تقدم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة

في صفر منها قدم الظاهر إلى دمشق وقد بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد فتصيد تلك الناحية، فأرسل إلى العساكر المصرية أن يتأهبوا للحضور، واستعد السلطان لذلك‏.‏

وفي جمادى الآخرة أحضر ملك الكرج لبين يديه بدمشق، وكان قد جاء متنكراً لزيارة بيت المقدس فظهر عليه فحمل إلى بين يديه فسجنه بالقلعة‏.‏

وفيها‏:‏ كمل بناء جامع دير الطين ظاهر القاهرة، وصلى فيه الجمعة‏.‏

وفيها‏:‏ سار السلطان إلى القاهرة فدخلها في سابع رجب‏.‏

وفي أواخر رمضان دخل الملك السعيد ابن الظاهر إلى دمشق في طائفة من الجيش، فأقام بها شهراً ثم عاد‏.‏

وفي يوم عيد الفطر ختن السلطان ولده خضراً الذي سماه باسم شيخه، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء، وكان وقتاً هائلاً‏.‏

وفيها‏:‏ فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شاباً من أولاد التجار يقال له ‏(‏لي‏)‏قد قرأ القرآن وشيئاً من الفقه و‏(‏الإشارات‏)‏لابن سينا، ونظر في النجوم‏.‏

ثم ادعى أنه عيسى ابن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكياً، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيراً، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 مؤيد الدين أبو المعالي الصدر الرئيس

أسعد بن غالب المظفري ابن الوزير مؤيد الدين أسعد بن حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي ابن القلانسي‏.‏

جاوز التسعين وكان رئيساً كبيراً واسع النعمة، لا يغفل أن يباشر شيئاً من الوظائف وقد ألزموه بعد ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان فباشرها بلا جامكية، وكانت وفاته ببستانه، ودفن بسفح قاسيون يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم‏.‏

والد الصدر عز الدين حمزة رئيس البلدين دمشق والقاهرة، وحدهم مؤيد الدين أسعد بن حمزة الكبير كان وزيراً للملك الأفضل علي بن الناصر فاتح القدس، كان رئيساً فاضلاً، له كتاب ‏(‏الوصية في الأخلاق المرضية‏)‏ وغير ذلك، وكانت له يد جيدة في النظم، فمن ذلك قوله‏:‏

يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي * برحمة منك تنجيني من النار

أحسن جواري إذا أمسيت جارك في * لحدي فإنك قد أوصيت بالجار

وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي فهو العميد، وكان يكتب جيداً وصنف تاريخاً فيما بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى سنة وفاته في خمس وخمسمائة‏.‏

 الأمير الكبير فارس الدين أقطاي

المستعربي أتابك الديار المصرية، كان أولاً مملوكاً لابن يمن، ثم صار مملوكاً للصالح أيوب فأمره، ثم عظم شأنه في دولة المظفر وصار أتابك العساكر، فلما قتل امتدت أطماع الأمراء إلى المملكة فبايع أقطاي الملك الظاهر فتبعه الجيش على ذلك، وكان الظاهر يعرفها له ولا ينساها، ثم قبل وفاته بقليل انهضم عند الظاهر، ومات في هذه السنة بالقاهرة‏.‏

 الشيخ عبد الله بن غانم

ابن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي، له زاوية بنابلس، وله أشعار رائقة، وكلام قوي في علم التصوف، وقد طول اليونيني ترجمته وأورد من أشعاره شيئاً كثيراً‏.‏

 قاضي القضاة كمال الدين

أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي التفليسي الشافعي‏.‏

ولد بتفليس سنة إحدى وستمائة، وكان فاضلاً أصولياً مناظراً، ولي نيابة الحكم مدة ثم استقل بالقضاء في دولة هلاوون - هولاكو - وكان عفيفاً نزهاً لم يرد منصباً ولا تدريساً مع كثرة عياله وقلة ماله، ولما انقضت أيامهم تغضب عليه بعض الناس ثم ألزم بالمسير إلى القاهرة، فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى‏.‏

 إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله

التنوخي، وتنوخ من قضاعة، كان صدراً كبيراً، وكتب الإنشاء للناصر داود بن المعظم، وتولى نظر المارستان النوري وغيره، وكان مشكور السيرة، وقد أثنى عليه غير واحد، وقد جاوز الثمانين، ومن شعره قوله‏:‏

خاب رجاء امرئ له أمل * بغير رب السماء قد وصله

أيبتغي غيره أخو ثقة * وهو ببطن الأحشاء قد كفله

وله أيضا‏:‏

خرس اللسان وكل عن * أوصافكم ماذا يقول وأنتم ما أنتم

الأمر أعظم من مقالة قائل * قد تاه عقل أن يعبر عنكم

العجز والتقصير وصفي دائماً * والبر والإحسان يعرف منكم

 ابن مالك صاحب الألفية

الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الجياني النحوي، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، منها ‏(‏الكافية الشافية‏)‏ وشرحها، و‏(‏التسهيل‏)‏ وشرحه، و‏(‏الألفية‏)‏ التي شرحها ولده بدر الدين شرحاً مفيداً‏.‏

ولد بجيان سنة ستمائة وأقام بحلب مدة، ثم بدمشق‏.‏

وكان كثير الاجتماع بابن خلكان وأثنى عليه غير واحد، وروى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة، وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي‏.‏

توفي ابن مالك بدمشق ليلة الأربعاء ثاني عشر رمضان، ودفن برتبة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون‏.‏

 النصير الطوسي

محمد بن عبد الله الطوسي، كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجا نصير الدين، اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً، وصنف في ذلك في علم الكلام، وشرح ‏(‏الإشارات‏)‏ لابن سينا، و وزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة فالله أعلم، وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل‏.‏

وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه، وقال‏:‏ كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله، وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة، ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء‏.‏

وبنى له فيه قبة عظيمة، وجعل فيه كتباً كثيرة جداً، توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة، وله شعر جيد قوي وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع، فنزع فيه عروق كثيرة منه، حتى أفسد اعتقاده‏.‏

الشيخ سالم البرقي

صاحب الرباط بالقرافة الصغرى، كان صالحاً متعبداً يقصد للزيارة والتبرك بدعائه، وله اليوم أصحاب معروفون على طريقه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة

فيها اطلع السلطان على ثلاثة عشر أميراً منهم قجقار الحموي‏.‏

وقد كانوا كاتبوا التتر يدعونهم إلى بلاد المسلمين، وأنهم معهم على السلطان، فأخذوا فأقروا بذلك، وجاءت كتبهم مع البريدية وكان آخر العهد بهم‏.‏

وفيها‏:‏ أقبل السلطان بالعساكر فدخل بلاد سيس يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان، فقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله وغنموا شيئاً كثيراً من الأبقار والأغنام والأثقال والدواب والأنعام، فبيع ذلك بأرخص ثمن، ثم عاد فدخل دمشق مؤيداً منصوراً في شهر ذي الحجة فأقام بها حتى دخلت السنة‏.‏

وفيها‏:‏ ثار على أهل الموصل رمل حتى عم الأفق وخرجوا من دورهم يبتهلون إلى الله حتى كشف ذلك عنهم، والله تعالى أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 ابن عطاء الحنفي

قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ شرف الدين محمد بن عطاء بن حسن بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهيب الأذرعي الحنفي، ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة‏.‏

وناب في الحكم عن الشافعي مدة، ثم استقل بقضاء الحنفية أول ما ولى القضاة من المذاهب الأربعة، ولما وقعت الحوطة على أملاك الناس أراد السلطان منه أن يحكم بها بمقتضى مذهبه، فغضب من ذلك فقال‏:‏ هذه أملاك بيد أصحابها، وما يحل لمسلم أن يتعرض لها ثم نهض من المجلس فذهب‏.‏

فغضب السلطان من ذلك غضباً شديداً، ثم سكن غضبه فكان يثني عليه بعد ذلك ويمدحه، ويقول‏:‏ لا تثبتوا كتباً إلا عنه‏.‏

كان ابن عطاء من العلماء الأخيار كثير التواضع قليل الرغبة في الدنيا، روى عنه ابن جماعة وأجاز للبرزالي‏.‏

توفي يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى، ودفن بالقرب من المعظمية بسفح قاسيون رحمه الله تعالى‏.‏

 بيمند بن بيمند بن بيمند

ابرنس طرابلس الفرنجي، كان جده نائباً لبنت صيحل الذي تملك طرابلس من ابن عمار في حدود الخمسمائة، وكانت يتيمة تسكن بعض جزائر البحر، فتغلب هذا على البلد لبعدها عنه‏.

ثم استقل بها ولده ثم حفيده هذا، وكان شكلاً مليحاً‏.‏

قال قطب الدين اليونيني‏:‏ رأيته في بعلبك في سنة ثمان وخمسين وستمائة حين جاء مسلماً على كتبغانوين، ورام أن يطلب منه بعلبك، فشق ذلك على المسلمين‏.‏

ولما توفي دفن في كنيسة طرابلس، ولما فتحها المسلمون في سنة ثمان وثمانين وستمائة نبش الناس قبره وأخرجوه منه وألقوا عظامه على المزابل للكلاب‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة

لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل، خمسة عشر ألفاً من المغول، وخمسة عشر ألفاً من الروم، والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتار ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والأكراد، ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقاً‏.‏

فخرج أهل البيرة في الليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئاً كثيراً، ورجعوا إلى بيوتهم سالمين، فأقام عليها الجيش مدة إلى تاسع عشر الشهر المذكور، ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً‏.‏

ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار، ثم ركب سريعاً وفي صحبته ولده السعيد، فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق، ثم ركب في رجب إلى القاهرة فدخلها في ثامن عشر فوجد بها خمسة وعشرين رسولاً من جهة ملوك الأرض ينتظرونه فتلقوه وحدثوه وقبلوا الأرض بين يديه ودخل القلعة في أبهة عظيمة‏.‏

ولما عاد البرواناه إلى بلاد الروم حلف الأمراء الكبار منهم شرف الدين مسعود وضياء الدين محمود ابنا الخطيري، وأمين الدين ميكائيل، وحسام الدين ميجار، وولده بهاء الدين، على أن يكونوا من جهة السلطان الملك الظاهر وينابذوا أبغا، فحلفوا له على ذلك‏.‏

وكتب إلى الظاهر بذلك، وأن يرسل إليه جيشاً ويحمل له ما كان يحمله إلى التتار، ويكون غياث الدين كنجري على ما هو عليه، يجلس على تخت مملكة الروم‏.‏

وفي هذه السنة استسقى أهل بغداد ثلاثة أيام فلم يسقوا‏.‏

وفيها‏:‏ في رمضان منها وجد رجل وامرأة في نهار رمضان على فاحشة الزنا، فأمر علاء الدين صاحب الديوان برجمهما فرجما، ولم يرجم ببغداد قبلهما قط أحد منذ بنيت‏.‏ وهذا غريب جداً‏.‏

وفيها‏:‏ استسقى أهل دمشق أيضاً مرتين‏.‏

في أواخر رجب وأوائل شعبان - وكان ذلك في آخر كانون الثاني - فلم يسقوا أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل السلطان جيشاً إلى دنقلة فكسر جيش السودان وقتلوا منهم خلقاً وأسروا شيئاً كثيراً من السودان بحيث بيع الرقيق الرأس منها بثلاثة دراهم، ورهب ملكهم داوداه إلى صاحب النوبة فأرسله إلى الملك الظاهر محتاطاً عليه، وقرر الملك الظاهر على أهل دنقلة جزية تحمل إليه في كل سنة‏.‏ ‏

كل ذلك كان في شعبان من هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ عُقِدَ عَقْد الملك السعيد بن الظاهر على بنت الأمير سيف الدين قلاوون الألفي في الإيوان بحضرة السلطان والدولة على صداق خمسة آلاف دينار، تعجل منها ألفا دينار وكان الذي كتبه وقرأه محيي الدين بن عبد الظاهر، فأعطي مائة دينار، وخلع عليه‏.‏

ثم ركب السلطان مسرعاً فوصل إلى حصن الكرك فجمع القيمرية الذين به فإذا هم ستمائة نفر، فأمر بشنقهم فشفع فيهم عنده فأطلقهم وأجلاهم منه إلى مصر، كان قد بلغه عنهم انهم يريدون قتل من فيه ويقيموا ملكاً عليهم، وسلم الحصن إلى الطواشي شمس الدين رضوان السهيلي، ثم عاد في بقية الشهر إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة ثامن عشر الشهر‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة بأخلاط واتصلت ببلاد بكر‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ الإمام العلامة

الأديب تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن علي التميمي الصرخدي الحنفي، كان مشهوراً بالفقه والأدب، والعفة والصلاح، ونزاهة النفس ومكارم الأخلاق‏.‏

ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع الحديث وروى، ودفن بمقابر الصوفية في ربيع الآخر منها، وله ست وتسعون سنة رحمه الله‏.‏

 الشيخ الإمام عماد الدين عبد العزيز بن محمد

ابن عبد القادر بن عبد الله بن خليل بن مقلد الأنصاري الدمشقي، المعروف بابن الصائغ، كان مدرساً بالعذراوية وشاهداً بالخزانة بالقلعة يعرف الحساب جيداً، وله سماع ورواية، ودفن بقاسيون‏.‏ ‏

 ابن الساعي المؤرخ

تاج الدين بن المحتسب المعروف بابن الساعي البغدادي، ولد سنة ثلاث وتسعين وسمع الحديث واعتنى بالتاريخ، وجمع وصنف، ولم يكن بالحافظ ولا الضابط المتقن‏.‏

وقد أوصى إليه ابن النجار حين توفي، وله تاريخ كبير عندي أكثره، ومصنفات أخر مفيدة، وآخر ما صنف كتاب في الزهاد، كتب في حاشيته زكي الدين عبد الله بن حبيب الكاتب‏:‏

ما زال تاج الدين طول المدى * من عمره يعتق في السير

في طلب العلم وتدوينه * وفعله نفع بلا ضير

علا علي بتصانيفه * وهذه خاتمة الخير

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين وستمائة

في ثالث عشر المحرم منها دخل السلطان إلى دمشق وسبق العساكر إلى بلاد حلب، فلما توافت إليه أرسل بين يديه الأمير بدر الدين الأتابكي بألف فارس إلى البلستين‏.‏

فصادف بها جماعة من عسكر الروم فركبوا إليه وحملوا إليه الإقامات، وطلب جماعة منهم أن يدخلوا بلاد الإسلام فأذن لهم، فدخل طائفة منهم بيجار وابن الخطير، فرسم لهم أن يدخلوا القاهرة فتلقاهم الملك السعيد، ثم عاد السلطان من حلب إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشر ربيع الآخر‏.‏

وفي خامس جمادى الأولى عمل السلطان عرس ولده الملك السعيد على بنت قلاوون، واحتفل السلطان به احتفالاً عظيماً، وركب الجيش في الميدان خمسة أيام يلعبون ويتطاردون، ويحمل بعضهم على بعض، ثم خلع على الأمراء وأرباب المناصب‏.‏

وكان مبلغ ما خلع ألف وثلاثمائة خلعة بمصر، وجاءت مراسيمه إلى الشام بالخلع على أهلها، ومد السلطان سماطاً عظيماً حضره الخاص والعام، والشارد والوارد، وحبس فيه رسل التتار ورسل الفرنج وعليهم كلهم الخلع الهائلة، وكان وقتاً مشهوداً، وحمل صاحب حماه هدايا عظيمة وركب إلى مصر للتهنئة‏.‏

وفي حادي عشر شوال طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وقعة البلستين وفتح قيسارية

ركب السلطان من مصر في العساكر فدخل دمشق في سابع عشر شوال‏.‏

فأقام بها ثلاثة أيام، ثم سار حتى دخل حلب في مستهل ذي القعدة، فأقام بها يوماً ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المنائر وسار السلطان فقطع الدربند في نصف يوم، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة وصعد العسكر على الجبال فأشرفوا على وطأة البلستين فرأوا التتار قد رتبوا عسكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل‏.‏

وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفاً من مخامرتهم، فلما ترآى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت سناجق السلطان، ودخلت طائفة منهم بينهم فشقوها، وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه‏.‏

ثم لاحت منه التفاتة فرأي الميسرة قد كادت أن تتحطم فأمر جماعة من الأمراء بأردافها، ثم حمل العسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم، وقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً، وصبر المسلمون صبراً عظيماً‏.‏

فأنزل الله نصره على المسلمين، فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل من المسلمين أيضاً جماعة، وكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير، وسيف الدين قيماز، وسيف الدين بنجو الجاشنكير، وعز الدين أيبك الثقفي، وأسر جماعة من أمراء المغول، ومن أمراء الروم، وهرب البرواناه فنجا بنفسه‏.‏

ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشرة ذي القعدة، وأعلم أمراء الروم ملكهم بكسرة التتار على البلستين، وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها، فدخلها الملك الظاهر وصلى بها الجمعة سابع ذي القعدة، وخطب له بها، ثم كر راجعاً مؤيداً منصوراً‏.‏

وسارت البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله‏.‏

ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا جاء حتى وقف بنفسه وجيشه، وشاهد مكان المعركة ومن فيها من قتلى المغول، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال، وكان يظن أمر الملك الظاهر دون هذا كله، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية، فقتل منهم قريباً من مائتي ألف، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ أبو الفضل ابن الشيخ عبيد بن عبد الخالق الدمشقي

ودفن بالقرب من الشيخ أرسلان‏.‏

قال الشيخ علم الدين وكان يذكر أن مولده كان سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

 الطواشي يمن الحبشي

شيخ الخدم بالحرم الشريف كان ديناً عاقلاً عدلاً صادق اللهجة، مات في عشر السبعين رحمه الله‏.‏

 

 

 الشيخ المحدث شمس الدين أبو العباس

أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الموصلي، ثم الدمشقي الصوفي، سمع الكثير وكتب الكتب الكبار بخط رفيع جيد واضح، جاوز السبعين ودفن بباب الفراديس‏.‏

 الشاعر شهاب الدين أبو المكارم

محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله الشيباني التلعفري، صاحب ديوان الشعر، جاوز الثمانين، مات بحماة، وكان الشعراء مقرين له معترفين بفضله وتقدمه في هذا الفن‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

لساني طري منك يا غاية المنى * ومن ولهي أني خطيب وشاعر

فهذا لمعنى حسن وجهك ناظم * وهذا لدمعي في تجنيك ناشر

 القاضي شمس الدين

علي بن محمود بن علي بن عاصم الشهرزوري الدمشقي، مدرس القيمرية بشرط واقفها له ولذريته من بعده التدريس من تأهل منهم، فدرس بها إلى أن توفي في هذه السنة، ودرس بعده ولده صلاح الدين‏.‏

ثم ابن ابنه بعد ابن جماعة، وطالت مدة حفيده‏.‏

وقد ولى شمس الدين على نيابة ابن خلكان في الولاية الأولى، وكان فقيهاً جيداً نقالاً للمذهب، رحمه الله‏.‏

وقد سافر مع ابن العديم لبغداد فسمع بها ودفن بمقابر الصوفية بالقرب من ابن الصلاح‏.‏

 الشيخ الصالح العالم الزاهد

أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن سنجر الكناني الحموي له معرفة بالفقه والحديث، ولد سنة ست وتسعين بحماة، وتوفي بالقدس الشريف ودفن بماملا وسمع من الفخر ابن عساكر، وروى عنه ولده قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة‏.‏

 الشيخ الصالح جندل بن محمد المنيني

كانت له عبادة وزهادة وأعمال صالحة، وكان الناس يترددون إلى زيارته بمنين، وكان يتكلم بكلام كثير لا يفهمه أحد من الحاضرين بألفاظ غريبة، وحكى عنه الشيخ تاج الدين أنه سمعه يقول‏:‏ ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل له والتضرع إليه، وسمعه يقول الموله منفي من طريق الله يعتقد أنه واصل ولو علم أنه منفي رجع عما هو فيه، لأن طريق القوم من أهل السلوك لا يثبت عليها إلا ذوو العقول الثابتة‏.‏

وكان يقول‏:‏ السماع وظيفة أهل البطالة‏.‏

قال الشيخ تاج الدين‏:‏ وكان الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق‏.‏

قال‏:‏ وأخبرني في سنة إحدى وستين وستمائة أنه قد بلغ من العمر خمساً وتسعين سنة‏.‏

قلت على هذا فيكون قد جاوز المائة، لأنه توفي في رمضان من هذه السنة، ودفن في زاويته المشهورة بقرية منين، وتردد الناس لقبره يصلون عليه من دمشق وأعمالها أياماً كثيرة رحمه الله‏.‏

 

 محمد بن عبد الرحمن بن محمد

الحافظ بدر الدين أبو عبد الله بن الفويرة السلمي الحنفي، اشتغل على الصدر سليمان وابن عطاء وفي النحو على ابن مالك، وحصل وبرع ونظم ونثر، ودرس في الشبلية والقصاعين‏.‏

وطلب لنيابة القضاء فامتنع، وكتب الكتاب المنسوبة‏.‏

رآه بعض أصحابه في المنام بعد وفاته فقال‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فأنشأ يقول‏:‏

ما كان لي من شافع عنده * غير اعتقادي أنه واحد

وكانت وفاته في جمادى الآخرة ودفن بظاهر دمشق رحمه الله‏.‏

 محمد بن عبد الوهاب بن منصور

شمس الدين أبو عبد الله الحراني الحنبلي تلميذ الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وهو أول من حكم بالديار المصرية من الحنابلة نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم ولى شمس الدين ابن الشيخ العماد القضاء مستقلاً فاستناب به، ثم ترك ذلك ورجع إلى الشام يشتغل ويفتى إلى أن توفي وقد نيف على الستين رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة

فيها كانت وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغير ذلك، وأقام ولده ناصر الدين أبا المعالي محمد بركه خان الملقب السعيد من بعده، ووفاة الشيخ محيي الدين النووي إمام الشافعية فيها في اليوم السابع من المحرم منها‏.‏

ودخل السلطان الملك الظاهر من بلاد الروم وقد كسر التتار على البلستين، ورجع مؤيداً منصوراً فدخل دمشق وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، فنزل بالقصر الأبلق الذي بناه غربي دمشق بين الميدانين الأخضرين‏.‏

وتواترت الأخبار إليه بأن أبغا جاء إلى المعركة ونظر إليها وتأسف على من قتل من المغول وأمر بقتل البرواناه وذكروا أنه قد عزم على قصد الشام، فأمر السلطان بجمع الأمراء وضرب مشورة فاتفق مع الأمراء على ملاقاته حيث كان من البقاع، وتقدم بضرب الدهليز على القصر، ثم جاء الخبر بأن أبغا قد رجع إلى بلاده فأمر برد الدهليز وأقام بالقصر الأبلق يجتمع عنده الأعيان والأمراء والدولة في أسر حال، وأنعم بال‏.‏

وأما أبغا فإنه أمر بقتل البرواناه - وكان نائبه على بلاد الروم - وكان اسمه معين الدين سليمان ابن علي بن محمد بن حسن، وإنما قتله لأنه اتهمه بممالأته للملك الظاهر، وزعم أنه هو الذي حسن له دخول بلاد الروم، وكان البرواناه شجاعاً حازماً كريماً جواداً، وله ميل إلى الملك الظاهر، وكان قد جاوز الخمسين لما قتل‏.‏

ثم لما كان يوم السبت خامس عشر المحرم توفي الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن السلطان المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، عن أربع وستين سنة، وكان رجلاً جيداً سليم الصدر كريم الأخلاق، لين الكلمة كثير التواضع، يعاني ملابس العرب ومراكبهم، وكان معظماً في الدولة شجاعاً مقداماً‏.‏ ‏

وقد روى عن ابن الليثي وأجاز للبرزالي‏.‏

قال البرزالي ويقال إنه سم، وذكر غيره أن السلطان الملك الظاهر سمه في كأس خمر ناوله إياه فشربه وقام السلطان إلى المرتفق ثم عاد وأخذ الساقي الكأس من يد القاهر فملأه وناوله السلطان الظاهر والساقي لا يشعر بشيء مما جرى‏.‏

وأنسى الله السلطان ذلك الكأس، أو ظن أنه غيره لأمر يريده الله ويقضيه، وكان قد بقي في الكأس بقية كثيرة من ذلك السم، فشرب الظاهر ما في الكأس ولم يشعر حتى شربه فاشتكى بطنه من ساعته، ووجد الوهج والحر والكرب الشديد من فوره‏.‏

وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب فمات من ليلته، وتمرض الظاهر من ذلك أياماً حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر في السابع والعشرين من المحرم بالقصر الأبلق، وكان ذلك يوماً عظيماً على الأمراء‏.‏

وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة، فصلوا عليه سراً وجعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور وجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده له بعد موته، وهي دار العقيقي تجاه العادلية الكبيرة، ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة‏.‏

وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى إذا كان العشر الأخير من ربيع الأول، وجاءت البيعة لولده السعيد من مصر فحزن الناس عليه حزناً شديداً، وترحموا عليه ترحماً كثيراً، وجددت البيعة أيضاً بدمشق وجاء تقليد النيابة بالشام مجدداً إلى عز الدين أيدمر نائبها‏.‏

وقد كان الملك الظاهر شهماً شجاعاً عالي الهمة بعيد الغور مقداماً جسوراً معتنياً بأمر السلطنة، يشفق على الإسلام، متحلياً بالملك، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله، وإقامة شعار الملك واستمرت أيامه من يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين‏.‏

ففتح في هذه المدة فتوحات كثيرة قيسارية، وأرسون ويافا، والشقيف، وإنطاكية، وبعراس، وطبرية، والقصير، وحصن الأكراد، وحصن عكار، والغرين، وصافينا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج‏.‏

ولم يدع مع الإسماعيلية شيئاً من الحصون، وناصف الفرنج على المرقب، وبانياس وبلاد انطرسوس، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون، وولى في نصيبه مما ناصفهم عليه النواب والعمال وفتح قيسارية من بلاد الروم‏.‏ ‏

وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأساً لم يسمع بمثله من دهور متطاولة، واستعاد من صاحب سيس بلاداً كثيرة، وجاس خلال ديارهم وحصونهم، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك، وبصرى، وصرخد، وحمص، وعجلون، والصلت، وتدمر، والرحبة، وتل باشر وغيرها، والكرك، والشوبك، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان‏.‏

وانتزع بلاداً من التتار كثيرة، منها شيرزور، والبيرة، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة، وعمر شيئاً كثيراً من الحصون والمعاقل والجسور على الأنهار الكبار، وبنى دار الذهب بقلعة الجبل، وبنى قبة على اثني عشر عموداً ملونة مذهبة‏.‏

وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم، وحفر أنهاراً كثيرة وخلجانات ببلاد مصر، منها نهر السرداس، وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة، وجدد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احترق، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة، وعمل فيه منبراً وسقفه بالذهب‏.‏

وجدد المارستان بالمدينة، وجدد قبر الخليل عليه السلام، وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا، وجدد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة، ورمم سقف الصخرة وغيرها‏.‏

وبنى بالقدس خاناً هائلاً بماملاّ، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر، وعمل فيه طاحوناً وفرنا وبستانا، وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة وإصلاح أمتعتهم رحمه الله‏.‏

وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتنا مشهداً، ووقف عليه أشياء للواردين إليه، وعمر جسر دامية، وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك، ووقف على الزائرين له شيئاً كثيراً، وجدد قلعة صفت وجامعها، وجدد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها‏.‏

وبنى بحلب داراً هائلة، وبدمشق القصر الأبلق والمدرسة الظاهرية وغيرها، وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس، فرحمه الله‏.‏

وله من الأثار الحسنة والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب، مع اشتغاله في الجهاد في سبيل الله واستخدم من الجيوش شيئاً كثيراً، ورد إليه نحواً من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمَّر كثيراً منهم، وكان مقتصداً في ملبسه ومطعمه وكذلك جيشه، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد دثورها، وبقي الناس بلا خليفة نحواً من ثلاث سنين، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضياً مستقلاً قاضي قضاة‏.‏

وكان رحمه الله متيقظاً شهماً شجاعاً لا يفتر عن الأعداء ليلاً ولا نهاراً، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله‏.‏

وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عوناً ونصراً للإسلام وأهله، وشجاً في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين‏.‏

وأبطل الخمور ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئاً من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته‏.‏

وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته، وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة، وكذلك ابن شداد أيضاً‏.‏‏

وقد ترك من الأولاد عشرة‏:‏ ثلاثة ذكور وسبعة إناث ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين، وله أوقاف وصلات وصدقات، تقبل الله منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات والله سبحانه أعلم‏.‏

وقام في الملك بعده ولده السعيد بمبايعة أبيه له في حال حياته، وكان عمر السعيد يومئذ دون العشرين سنة، وهو من أحسن الأشكال وأتم الرجال، وفي صفر وصلت الهدايا من الفنس مع رسله إلى الديار المصرية فوجدوا السلطان قد مات‏.‏

وقد أقيم الملك السعيد ولده مكانه والدولة لم تتغير، والمعرفة بعده ما تنكرت، ولكن البلاد قد فقدت أسدها بل أسدها وأشدها، بل الذي بلغ أشدها، وإذا انفتحت ثغرة من سور الإسلام سدها، وكلما انحلت عقدة من عرى العزائم شدها، وكلما رامت فرقة مارقة من طوائف الطغام أن تلج إلى حومة الإسلام صدها وردها، فسامحه الله، وبل بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه‏.‏

وكانت العساكر الشامية قد سارت إلى الديار المصرية ومعهم محفة يظهرون أن السلطان بها مريض، حتى وصلوا إلى القاهرة فجددوا البيعة للسعيد بعدما أظهروا موت الملك السديد الذي هو إن شاء الله شهيد‏.‏

وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده الملك الظاهر واستهلت عيناه بالدموع‏.‏

وفي منتصف ربيع الأول ركب الملك السعيد بالعصائب على عادته وبين يديه الجيش بكماله المصري والشامي، حتى وصل إلى الجبل الأحمر وفرح الناس به فرحاً شديداً، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة، وعليه أبهة الملك ورياسة السلطنة‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت مدرسة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة، بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة، وعمل فيها مشيخة حديث وقارئ‏.‏

وبعده بيوم عُقِدَ عَقْد ابن الخليفة المستمسك بالله ابن الحاكم بأمر الله على ابنة الخليفة المستنصر ابن الظاهر، وحضر والده والسلطان ووجوه الناس‏.‏

وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقيقي، تجاه العادلية، لتجعل مدرسة وتربة للملك الظاهر، ولم تكن قبل ذلك إلا دارا للعقيقي، وهي المجاورة لحمام العقيقي، وأسس أساس التربة في خامس جمادى الآخرة وأسست المدرسة أيضاً‏.‏

وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفت لمع منها برق شديد، وسطع منها لسان نار، وسمع منها صوت شديد هائل، ووقع منها على منارة صفت صاعقة شقتها من أعلاها إلى أسفلها شقاً يدخل الكف فيه‏.‏‏

 من الأعيان‏:‏

البرواناه في العشر الأول من المحرم‏.‏

والملك الظاهر في العشر الأخير منه، وقد تقدم شيء من ترجمتهما‏.‏

 الأمير الكبير بدر الدين بيلبك بن عبد الله

الخزندار نائب الديار المصرية للملك الظاهر، كان جواداً ممدحاً له إلمام ومعرفة بأيام الناس، والتواريخ، وقد وقف درساً بالجامع الأزهر على الشافعية، ويقال إنه سم فمات فلما مات انتقض بعده حبل الملك السعيد، واضطربت أموره‏.‏

 قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي

محمد بن الشيخ العماد أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أول من ولي قضاء قضاة الحنابلة بالديار المصرية، سمع الحديث خصوصاً علي ابن طبرزد وغيره، ورحل إلى بغداد واشتغل بالفقه، وتفنن في علوم كثيرة، وولي مشيخة سعيد السعداء، وكان شيخاً مهيباً حسن الشيبة كثير التواضع والبر والصدقة‏.‏

وقد اشترط في قبول الولاية أن لا يكون له عليها جامكية ليقوم في الناس بالحق في حكمه، وقد عزله الظاهر عن القضاء سنة سبعين واعتقله بسبب الودائع التي كانت عنده، ثم أطلقه بعد سنتين فلزم منزله واستقر بتدريس الصالحية إلى أن توفي في أواخر المحرم، ودفن عند عم الحافظ عبد الغني بسفح جبل المقطم، وقد أجاز للبرزالي‏.‏

قال الحافظ البرزالي‏:‏ وفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الأول ورد الخبر بموت ستة أمراء من الديار المصرية‏:‏ سنقر البغدادي، وبسطا البلدي التتري، وبدر الدين الوزيري، وسنقر الرومي، وآق سنقر الفارقاني رحمهم الله‏.‏

 الشيخ خضر الكردي شيخ الملك الظاهر

خضر بن أبي بكر بن موسى الكردي النهرواني العدوي ويقال إن أصله من قرية المحمدية من جزيرة ابن عمر، كان ينسب إليه أحوال ومكاشفات، ولكنه لما خالط الناس افتتن ببعض بنات الأمراء‏.‏

وكان يقول عن الملك الظاهر وهو أمير إنه سيلي الملك، فلهذا كان الملك الظاهر يعتقده ويبالغ في إكرامه بعد أن ولي المملكة، ويعظمه تعظيماً زائداً، وينزل عنده إلى زاويته في الأسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره‏.‏

ويلزمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحة مطابقة، إما رحمانية أو شيطانية، أوحال أو سعادة، لكنه افتتن لما خالط الناس ببعض بنات الأمراء، وكن لا يحتجبن منه، فوقع في الفتنة‏.‏

وهذا في الغالب واقع في مخالطة الناس فلا يسلم المخالط لهم من الفتنة، ولا سيما مخالطة النساء مع ترك الأصحاب، فلا يسلم العبد ألبتة منهن‏.‏

فلما وقع ما وقع فيه حوقق عند السلطان وتيسرى وقلاوون والفارس إقطاي الأتابك، فاعترف، فهمّ بقتله فقال له‏:‏ إنما بيني وبينك أيام قلائل، فأمر بسجنه فسجن سنين عديدة من سنة إحدى وسبعين إلى سنة ست وسبعين‏.‏

وقد هدم بالقدس كنيسة وذبح قسيسها وعملها زاوية وقد قدمنا ترجمته قبل ذلك فيما تقدم، ثم لم يزل مسجوناً حتى مات في يوم الخميس سادس المحرم من هذه السنة، فأخرج من القلعة وسلم إلى قرابته فدفن في تربة أنشأها في زاويته‏.‏

مات وهو في عشر الستين، وقد كان يكاشف السلطان في أشياء، وإليه تنسب قبة الشيخ خضر التي على الجبل غربي الربوة، وله زاوية بالقدس الشريف‏.‏

 الشيخ محيي الدين النووي

يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي العالم، محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونوى قرية من قرى حوران‏.‏

وقد قدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقد حفظ القرآن فشرع في قراءة التنبيه، فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحاً وشرحاً، فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درساً على المشايخ، ثم اعتنى بالتصنيف فجمع شيئاً كثيراً، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمما كمل ‏(‏شرح مسلم‏)‏، و‏(‏الروضة‏)‏، و‏(‏المنهاج‏)‏، و ‏(‏الرياض‏)‏، و‏(‏الأذكار‏)‏، و‏(‏التبيان‏)‏، و‏(‏تحرير التنبيه وتصحيحه‏)‏، و‏(‏تهذيب الأسماء واللغات‏)‏، و‏(‏طبقات الفقهاء‏)‏ وغير ذلك‏.‏

ومما لم يتممه ولو كمل لم يكن له نظير في بابه‏:‏ ‏(‏شرح المهذب‏)‏ الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد، وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه، وقد جعله نخبة على ما عن له ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنه محتاج إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه‏.‏

وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى، وقد باشر تدريس الاقبالية نيابة عن ابن خلكان، وكذلك ناب في الفلكية والركنية، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية‏.‏

وكان لا يضيع شيئاً من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم‏.‏ ‏

توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب من هذه السنة بنوى، ودفن هناك رحمه الله وعفا عنا وعنه‏.‏

 علي بن علي بن أسفنديار

نجم الدين الواعظ بجامع دمشق أيام السبوت في الأشهر الثلاثة، وكان شيخ الخانقاه المجاهدية وبها توفي في هذه السنة، كان فاضلاً بارعاً، وكان جده يكتب الإنشاء للخليفة الناصر، وأصلهم من بوشنج‏.‏

ومن شعر نجم الدين هذا قوله‏:‏

إذا زار بالجثمان غيري فإنني * أزور مع الساعات ربعك بالقلب

وما كل ناء عن ديار نازح * ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب

 ثم دخلت سنة سبع وسبعين وستمائة

كان أولها يوم الأربعاء وكان الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد شاماً ومصراً وحلباً الملك السعيد‏.‏

وفي أوائل المحرم اشتهر بدمشق ولاية ابن خلكان قضاء دمشق عوداً على بدء في أواخر ذي الحجة، بعد عزل سبع سنين، فامتنع القاضي عز الدين بن الصائغ من الحكم في سادس المحرم وخرج الناس لتلقي ابن خلكان، فمنهم من وصل إلى الرملة وكان دخوله في يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، فخرج نائب السلطنة عز الدين أيدمر بجميع الأمراء والمواكب لتلقيه، وفرح الناس بذلك، مدحه الشعراء، وأنشد الفقيه شمس الدين محمد بن جعفر‏:‏

لما تولى قضاء الشام حاكمه * قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم

من بعد سبع شداد قال خادمه * ذا العام في يغاث الناس بالنعم

وقال سعد الله بن مروان الفارقي‏:‏

أذقت الشام سبع سنين جدباً * غداة هجرته هجراً جميلا

فلما زرت من أرض مصر * مددت عليه من كفيك نيلا

وقال آخر‏:‏

رأيت أهل الشام طراً * ما فيهم قط غير راض

نالهم الخير بعد شرٍ * فالوقت بسط بلا انقباض

وعوضوا فرحة بحزن * قد أنصف الدهر في التقاضي

وسرهم بعد طول غم * بدور قاضي وعزل قاضي

وكلهم شاكر وشاكٍ * بحال مستقبل وماض

قال اليونيني‏:‏ وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالظاهرية وحضر نائب السلطنة أيدمر الظاهري وكان درساً حافلاً حضره القضاة، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارقي، ومدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي، ولم يكن بناء المدرسة كمل‏.‏

وفي جمادى الأولى باشر قضاء الحنفية صدر الدين سليمان المذكور عوضاً عن مجد الدين بن العديم، بحكم وفاته‏.‏

ثم توفي صدر الدين سليمان المذكور في رمضان وتولى بعده القضاء حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي، الذي كان قاضياً بملطية قبل ذلك‏.‏

وفي العشر الأول من ذي القعدة فتحت المدرسة النجيبية وحضر تدريسها ابن خلكان بنفسه، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وفتحت الخانقاه النجيبية، وقد كانتا وأوقافهما تحت الحيطة إلى الآن‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة دخل السلطان السعيد إلى دمشق وقد زينت له وعملت له قباب ظاهرة وخرج أهل البلد لتلقيه وفرحوا به فرحاً عظيماً لمحبتهم والده، وصلى عيد النحر بالميدان، وعمل العيد بالقلعة المنصورة، واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني، وبالديار المصرية بعد موت بهاء الدين بن الحنا الصاحب برهان الدين بن الحضر بن الحسن السنجاري‏.‏

وفي العشر الأخير من ذي الحجة جهز السلطان العساكر إلى بلاد سيس صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، وأقام السلطان بدمشق في طائفة يسيرة من الأمراء والخاصكية والخواص، وجعل يكثر التردد إلى الزنبقية‏.‏

وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة جلس السلطان بدار العدل داخل باب النصر، وأسقط ما كان حدده والده على بساتين أهل دمشق، فتضاعفت له منهم الأدعية وأحبوه لذلك حباً شديداً، فإنه كان قد أجحف بكثير من أصحاب الأملاك، وود كثير منهم لو تخلص من ملكه جملة سبب ما عليه‏.‏ ‏

وفيها‏:‏ طلب من أهل دمشق خمسين ألف دينار ضربت أجرة على أملاكهم مدة شهرين، وجبيت منهم على القهر والعسف‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 آقوش بن عبد الله الأمير الكبير جمال الدين النجيبي

أبو سعيد الصالحي، أعتقه الملك نجم الدين أيوب الكامل، وجعله من أكابر الأمراء، وولاه أستاذ داريته، وكان يثق إليه ويعتمد عليه، وكان مولده في سنة تسع أو عشر وستمائة، وولاه الملك الظاهر أيضاً أستاذ داريته‏.‏

ثم استنابه بالشام تسع سنين، فاتخذ فيها المدرسة النجيبية ووقف عليها أوقافاً دارّة واسعة، لكن لم يقرر للمستحقين قدراً يناسب ما وقفه عليهم‏.‏

ثم عزله السلطان واستدعاه لمصر فأقام بها مدة بطالاً‏.‏

ثم مرض بالفالج أربع سنين، وقد عاده في بعضها الملك الظاهر ولم يزل به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة بداره بدرب الملوخية، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وقد كان بنى لنفسه تربة بالنجيبية، وفتح لها شباكين إلى الطريق، فلم يقدر دفنه بها‏.‏

وكان كثير الصدقة محباً للعلماء محسناً إليهم، حسن الاعتقاد‏.‏

شافعي المذهب، متغالياً في السنة ومحبة الصحابة وبغض الروافض، ومن جملة أوقافه الحسان البستان والأراضي التي أوقفها على الجسورة التي قبلي جامع كريم الدين اليوم، وعلى ذلك أوقاف كثيرة، وجعل النظر في أوقافه لابن خلكان‏.‏

 أيدكين بن عبد الله

الأمير الكبير علاء الدين الشهابي، واقف الخانقاه الشهابية، داخل باب الفرج‏.‏

كان من كبار الأمراء بدمشق، وقد ولاه الظاهر بحلب مدة، وكان من خيار الأمراء وشجعانهم، وله حسن ظن بالفقراء والإحسان إليهم، ودفن بتربة الشيخ عمار الرومي بسفح قاسيون، في خامس عشر ربيع الأول، وهو في عشر الخمسين، وخانقاه داخل باب الفرج، وكان لها شباك إلى الطريق‏.‏ والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير الصالحي‏.‏

 قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز

ابن وهيب أبو الربيع الحنفي شيخ الحنفية في زمانه، وعالمهم شرقاً وغرباً، أقام بدمشق مدة يفتي ويدرس، ثم انتقل إلى الديار المصرية يدرس بالصالحية، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالظاهرية‏.‏

وولي القضاء بعد مجد الدين بن العديم ثلاثة أشهر، ثم كانت وفاته ليلة الجمعة سادس شعبان، ودفن في الغد بعد الصلاة بداره بسفح قاسيون، وله ثلاث وثمانون سنة، ومن لطيف شعره في مملوك تزوج جارية للملك المعظم‏:‏

يا صاحبي قفا لي وانظرا عجباً * أتى به الدهر فينا من عجائبه

البدر أصبح فوق الشمس منزلةً * وما العلو عليها من مراتبه

أضحى يماثلها حسناً وشاركها * كفواً وسار إليها في مواكبه

فأشكل الفرق لولا وشى نمنمةٍ * بصدغه واخضرارٍ فوق شاربه

 طه بن إبراهيم بن أبي بكر كمال الدين الهمداني

الإربلي الشافعي، كان أديباً فاضلاً شاعراً، له قدرة في تصنيف روبيت، وقد أقام بالقاهرة حتى توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقد اجتمع مرة بالملك الصالح أيوب، فجعل يتكلم في علم النجوم فأنشده على البديهة هذين البيتين‏:‏

دع النجوم لطرقي يعيش بها * وبالعزيمة فانهض أيها الملك

إن النبي وأصحاب النبي نهوا * عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا

وكتب إلى صاحب له اسمه شمس الدين يستزيره بعد رمد أصابه فبرأ منه‏:‏

يقول لي الكحال عينك قد هدت * فلا تشغلن قلباً وطب بها نفسا

ولي مدة يا شمس لم أركم بها * وآية برءِ العين أن تبصر الشمسا

 عبد الرحمن بن عبد الله

ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عفان جمال الدين بن الشيخ نجم الدين البادرائي البغدادي ثم الدمشقي، درس بمدرسة أبيه من بعده حتى حين وفاته يوم الأربعاء سادس رجب، ودفن بسفح قاسيون، وكان رئيساً حسن الأخلاق جاوز خمسين سنة‏.‏

 قاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمن بن جمال الدين

عمر بن أحمد بن العديم، الحلبي، ثم الدمشقي الحنفي، ولي قضاء الحنفية بعد ابن عطاء بدمشق، وكان رئيساً ابن رئيس، له إحسان وكرم أخلاق، وقد ولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي وليه، توفي بجوسقه بدمشق في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بالتربة التي أنشأها عند زاوية الحريري على الشرف القبلي غربي الزيتون‏.‏

 الوزير ابن الحنا

علي بن محمد بن سليم بن عبد الله الصاحب بهاء الدين أبو الحسن بن الحنا الوزير المصري، وزير الملك الظاهر وولده السعيد إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة، وهو جد جد‏.‏ ‏

وكان ذا رأي وعزم وتدبير ذا تمكن في الدولة الظاهرية، لا تمضي الأمور إلا عن رأيه وأمره، وله مكارم على الأمراء وغيرهم، وقد امتدحه الشعراء، وكان ابنه تاج الدين وزير الصحبة، وقد صودر في الدولة السعيدية‏.‏

 الشيخ محمد ابن الظهير اللغوي

محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر مجد الدين أبو عبد الله الإربلي الحنفي المعروف بابن الظهير، ولد بإربل سنة ثنتين وستمائة، ثم أقام بدمشق ودرس بالقايمازية وأقام بها حتى توفي بها ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن بمقابر الصوفية، وكان بارعاً في النحو واللغة‏.‏

وكانت له يد طولى في النظم وله ديوان مشهور، وشعر رائق، فمن شعره قوله‏:‏

كل حي إلى الممات مآبه * ومدى عمره سريع ذهابه

يخرب الدار وهي دار بقاء * ثم يبني ما عما قريب خرابه

عجباً وهو في التراب غريق * كيف يلهيه طيبه وعلابة‏؟‏

كل يوم يزيد نقصاً وإن عمـ * ـر حلت أوصاله أوصابه

والورى في مراحل الدهر ركب * دائم السير لا يرجى إيابه

فتزود إن التقى خير زاد * ونصيب اللبيب منه لبابة

وأخو العقل من يقضي بصدق * شيبته في صلاحه وشبابه

وأخو الجهل يستلذ هوى النفـ * س فيغدو شهداً لديه مصابة

وهي طويلة جداً قريبة من مائة وخمسين بيتاً، وقد أورد الشيخ قطب الدين شيئاً كثيراً من شعره الحسن الفائق الرائق‏.‏

 ابن إسرائيل الحريري

محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين نجم الدين أبو المعالي الشيباني الدمشقي، ولد في يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة، وصحب الشيخ علي بن أبي الحسن بن منصور اليسري الحريري، في سنة ثمان عشرة‏.‏

وكان قد لبس الخرقة قبله من الشيخ شهاب الدين السهروردي، وزعم أنه أجلسه في ثلاث خلوات، وكان ابن إسرائيل يزعم أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد فاستوطنوا دمشق، وكان أديباً فاضلاً في صناعة الشعر، بارعاً في النظم، ولكن في كلامه ونظمه ما يشير به إلى نوع الحلول والاتحاد على طريقة ابن عربي وابن الفارض وشيخه الحريري والله أعلم بحاله وحقيقة أمره‏.‏

توفي بدمشق ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الآخر هذه السنة، عن أربع وسبعين سنة، ودفن بتربة الشيخ رسلان معه داخل القبة، وكان الشيخ رسلان شيخ الشيخ علي المغربل الذي تخرج على يديه الشيخ على الحريري شيخ ابن إسرائيل، فمن شعره قوله‏:‏

لقد عادني من لا عج الشوق عائد * فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد‏؟‏

وهل نارها بالأجرع الفرد تعتلي * لمنفردٍ شاب الدجى وهو شاهد‏؟‏

نديمي من سعدي أديرا حديثها * فذكرى هواها والمدامة واحد

منعمة الأطراف رقت محاسناً * حلى لي في حبها ما أكابد

فللبدر ما لاثت عليه خمارها * وللشمس ما جالت عليه القلائد

وله‏:‏

أيها المعتاض بالنوم السهر * ذاهلاً يسبح في بحر الفكر

سلم الأمر إلى مالكه * واصطبر فالصبر عقباه الظفر

لا تكونن آيساً من فرجٍ * إنما الأيام تأتي بالعبر

كدر يحدث في وقت الصفا * وصفي يحدث في وقت الكدر

وإذا ما ساء دهر مرةٍ * سر أهليه ومهما ساء سر

فارض عن ربك في أقداره * إنما أنت أسير للقدر

وله قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم طويلة حسنة سمعها الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وأصحابه علي الشيخ أحمد الأعفف عنه، وأورد له الشيخ قطب الدين اليونيني أشعاراً كثيرة‏.‏

فمنها قصيدته الدالية المطولة التي أولها‏:‏

وافى لي من أهواه جهراً لموعدي * وأرغم عذالي عليه وحسدي

وزار على شط المزار مطولاً * على مغرمٍ بالوصل لم يتعود

فيا حسن ما أهدى لعيني جماله * ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدي

ويا صدق أحلامي ببشرى وصاله * ويانيل آمالي ويا نجح مقصدي

تجلى وجودي إذ تجلى لباطني * بجدٍ سعيدٍ أو بسعدٍ مجدد

لقد حق لي عشق الوجود وأهله * وقد علقت كفاي جمعاً بموجدي

ثم تغزل فأطال إلى أن قال‏:‏

فلما تجلى لي على كل شاهدٍ * وسامرني بالرمز في كل مشهد

تجنبت تقييد الجمال ترفعاً * وطالعت أسرار الجمال المبدد

وصار سماعي مطلقاً منه بدؤه * وحاشى لمثلي من سماع مقيد

ففي كل مشهود لقلبي شاهدٌ * وفي كل مسموع له لحن معبد

ثم قال‏:‏ ‏

وصل في مشاهد الجمال

أراه بأوصاف الجمال جميعها * بغير اعتقاد للحلو المبعد

ففي كل هيفاء المعاطف غادةً * وفي كل مصقول السوالف أغيد

وفي كل بدر لاح في ليل شعره * على كل غصنٍ مائس العطف أملد

وعنه اعتناقي كل قدٍ مهفهفٍ * ورشفي رضاباً كالرحيق المبرد

وفي الدر والياقوت والطيب والحلا * على كل ساجي الطرف لدن المقلد

وفي حلل الأثواب راقت لناظري * بزبرجها من مذهبٍ ومورد

وفي الراح والريحان والسمع والغنا * وفي سجع ترجيع الحمام المغرد

وفي الدوح والأنهار والزهر والندى * وفي كل بستان وقصرٍ مشيد

وفي الروضة الفيحاء تحت سمائها * يضاحك نور الشمس نوارها الندى

وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى * وقد جعدته الريح صفحة مبرد

وفي اللهو الأفراح والغفلة التي * تمكن أهل الفرق من كل مقصد

وعند انتشار الشرب في كل مجلسٍ * بهيجٍ بأنواع الثمار المنضد

وعند اجتماع الناس في كل جمعةٍ * وعيدٍ وإظهار الرياش المجدد

وفي لمعان المشرفيات بالوغى * وفي ميل أعطاف القنا المتأود

المظاهر العلوية

وفي الأعوجيات العتاق إذا انبرت * تسابق وفد الريح في كل مطرد

وفي الشمس تحكي وهي في برج نورها * لدى الأفق الشرقي مرآة عسجد

وفي البدر بدر الأفق ليلة تمه * جلته سماء مثل صرحٍ ممرد

وفي أنجم زانت دجاها كأنها * نثار لآلٍ في بساطٍ زبرجد

وفي الغيث روى الأرض بعد همودها * قبال نداء متهم بعد منجد

وفي البرق يبدو موهناً في سحابه * كباسم ثغر أو حسام مجرد

وفي حسن الخطاب وسرعة الجـ * ـواب وفي الخط الأنيق المجود

ثم قال‏:‏

المظاهر المعنوية

وفي رقة الأشعار راقت لسامعٍ * بدائعها من مقصر ومقصد

وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة * وفي أمن أحشاء الطريد المشرد

وفي رحمة المعشوق شكوى محبه * وفي رقة الألفاظ عند التودد

وفي أريحيات الكريم إلى الندى * وفي عاطفات العفو من كل سيد

وحالة بسط العارفين وأنسهم * وتحريكهم عند السماع المقيد

وفي لطف آيات الكتاب التي بها * تنسم روح الوعد بعد التوعد

ثم قال‏:‏

المظاهر الجلالية

كذلك أوصاف الجلال مظاهر * أشاهده فيها بغير تردد

ففي سطوة القاضي الجليل وسمته * وفي سطوة الملك الشديد الممرد

وفي حدة الغضبان حالة طيشه * وفي نخوة القرم المهيب المسود

وفي صولة الصهباء جاز مديرها * وفي بؤس أخلاق النديم المعربد

وفي الحر والبرد اللذين تقسما الز* مان وفي إيلام كل محسد

وفي سر تسليط النفوس بشرها * علي وتحسين التعدي لمعتدي

وفي عسر العادات يشعر بالقضا * وتكحيل عين الشمس منه بأثمد

وعند اصطدام الخيل في كل موقفٍ * يعثر فيه بالوشيج المنضد

وفي شدة الليث الصؤول وبأسه * وشدة عيش بالسقام منكد

وفي جفوة المحبوب بعد وصاله * وفي غدره من بعد وعد مؤكد

وفي روعة البين المسيء وموقف الـ * ـوداع لحران الجوانح مكمد

وفي فرقة الألاَّف بعد اجتماعهم * وفي كل تشتيت وشمل مبدد

وفي كل دار أقفرت بعد أنسها * وفي طلل بال ودارس معمد

وفي هول أمواج البحار ووحشة الـ * ـقفار وسيل بالمزاييب مزبد

وعند قيامي بالفرائض كلها * وحالة تسليم لسر التعبد

وعند خشوعي في الصلاة لعزة الـ * ـمناجي وفي الأطراق عند التهجد

وحالة إهلال الحجيج بحجهم * وأعمالهم للعيش في كل فدفد

وفي عسر تخليص الحلال وفترة الـ * ـملال لقلب الناسك المتعبد

المظاهر الكمالية

وفي ذكريات العذاب وظلمة الـ *حجاب وقبض الناسك المتزهد

ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى * برؤيته شيئاً قبيحاً ولا ردي

فكل مسيءٍ لي إليّ كمحسنٍ * وكل مضل لي إليّ كمرشد

فلا فرق عندي بين أنسٍ ووحشةٍ * ونورٍ وإظلامٍ ومدنٍ ومبعد

وسيان إفطاري وصومي وفترتي * وجهدي ونومي وإدعاء تهجدي

أرى تارة في حانة الخمر خالعاً * عذارى وطوراً في حنية مسجد

تجلى لسري بالحقيقة مشرب * فوقتي ممزوج بكشفٍ مسرمد

تعمرت الأوطان بي وتحققت * مظاهرها عندي بعيني ومشهدي

وقلبي على الأشياء أجمع قلب * وشربي مقسوم على كل مورد

فهيكل أوثانٍ وديرٍ لراهبٍ * وبيت لنيرانٍ وقبله معبدي

ومسرح غرلانٍ وحانة قهوةٍ * وروضة أزهارٍ ومطلع أسعد

وأسرار عرفانٍ ومفتاح حكمةٍ * وأنفاس وجدانٍ وفيض تبلد

وجيش لضرغامٍ وخدر لكاعب * وظلمة جيرانٍ ونور لمهتدي

تقابلت الأضداد عندي جميعها * لمحنة مجهود ومنحة مجتدي

وأحكمت تقرير المراتب صورةً * ومعنى ومن عين التفرد موردي

فما موطن إلا ولي فيه موقفٌ * على قدم قامت بحق التفرد

فلا غرو وإن فت الأنام جميعهم * وقد علقت بحبل من حبال محمد

عليه صلاة الله تشفع دائماً * بروح تحيات السلام المردد

 ابن العود الرافضي

أبو القاسم الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحلي، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، كانت له فضيلة ومشاركة في علوم كثيرة، وكان حسن المحاضرة والمعاشرة، لطيف النادرة، وكان كثير التعبد، بالليل وله شعر جيد، ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتوفي في رمضان من هذه السنة عن ست وتسعين سنة، والله أعلم بأحوال عباده وسرائرهم ونياتهم‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة

كان أولها يوم الأحد والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، وقد اتفق في هذه السنة أمور عجيبة، وذلك أنه وقع الخلف بين الممالك كلها، اختلفت التتار فيما بينهم واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واختلفت الفرنج في السواحل وصال بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضاً‏.‏

وكذلك الفرنج الذين في داخل البحور وجزائرها، فاختلفوا واقتتلوا، وقتلت قبائل الأعراب بعضها في بعض قتالاً شديداً، وكذلك وقع الخلف بين العشير من الحوارنة وقامت الحرب بينهم على ساق، وكذلك وقع الخلف بين الأمراء الظاهرية بسبب أن السلطان الملك السعيد بن الظاهر لما بعث الجيش إلى سيس أقام بعده بدمشق وأخذ في اللهو واللعب والانبساط مع الخاصكية، وتمكنوا من الأمور‏.‏

وبعد عنه الأمراء الكبار، فغضبت طائفة منهم ونابذوه وفارقوه وأقاموا بطريق العساكر الذين توجهوا إلى سيس وغيرهم، فرجعت العساكر إليهم فلما اجتمعوا شعثوا قلوبهم على الملك السعيد، ووحشوا خوطر الجيش عليه‏.‏

وقالوا‏:‏ الملك لا ينبغي له أن يلعب ويلهو إنما همة الملوك في العدل ومصالح المسلمين والذب عن حوزتهم، كما كان أبوه‏.‏

وصدقوا فيما قالوا، فإن لعب الملوك والأمراء وغيرهم دليل على زوال النعم وخراب الملك، وفساد الرعية‏.‏

ثم راسله الجيش في إبعاد الخاصكية عنه ودنو ذوي الأحلام والنهي إليه كما كان أبوه، فلم يفعل، وذلك أنه كان لا يمكنه ذلك لقوة شوكة الخاصكية

وكثرتهم، فركب الجيش وساروا قاصدين مرج الصفر، ولم يمكنهم العبور على دمشق بل أخذوا من شرقها، فلما اجتمعوا كلهم بمرج الصفر أرسل السلطان أمه إليهم فتلقوها وقبلوا الأرض بين يديها، فأخذت تتألفهم وتصلح الأمور، فأجابوها واشترطوا شروطاً على ولدها السلطان، فلما رجعت إليه لم يلتزم بها ولم تمكنه الخاصكية من ذلك، فسارت العساكر إلى الديار المصرية، فساق السلطان خلفهم ليتلافى الأمور قبل تفاقمها وانفراطها، فلم يلحقهم وسبقوه إلى القاهرة، وقد كان أرسل أولاده وأهله وثقله إلى الكرك فحصنهم فيها، وركب في طائفة من الجيش الذين بقوا معه والخاصكية إلى الديار المصرية‏.‏

فلما اقترب منها صدوه عنها وقاتلوه فقتل من الفريقين نفر يسير، فأخذه بعض الأمراء فشق به الصفوف وأدخله قلعة الجبل ليسكن الأمر، فما زادهم ذلك إلا نفوراً، فحاصروا حينئذ القلعة وقطعوا عنها الماء، وجرت خطوب طويلة وأحوال صعبة‏.‏

ثم اتفق الحال بعد ذلك مع الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي - وهو المشار إليه حينئذ - أن يترك الملك السعيد الملك وتعوض بالكرك والشوبك، ويكون في صحبته أخوه نجم الدين خضر، وتكون المملكة إلى أخيه الصغير بدر الدين سلامش، ويكون الأمير سيف الدين قلاوون أتابكه‏.‏

 خلع الملك السعيد وتولية أخيه الملك العادل سلامش

لما اتفق الحال على ما ذكرنا نزل السلطان الملك السعيد من القلعة إلى دار العدل في سابع عشر الشهر، وهو ربيع الآخر، وحضر القضاة والدولة من أولي الحل والعقد، فخلع السعيد نفسه من السلطنة وأشهدهم على نفسه بذلك، وبايعوا أخاه بدر الدين سلامش ولقب بالملك العادل، وعمره يومئذ سبع سنين، وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي‏.‏ ‏

خطب له الخطباء ورسمت السكة باسمهما وجعل لأخيه الكرك ولأخيه خضر الشوبك، وكتبت بذلك مكاتيب، ووضع القضاة والمفتيون خطوطهم بذلك، وجاءت البريدية إلى الشام بالتحليف لهم على ما حلف عليه المصريون‏.‏

ومسك الأمير أيدمر نائب الشام الظاهري واعتقل بالقلعة عند نائبها، وكان نائبها إذ ذاك علم الدين سنجر الدواداري، وأحيط على أموال نائب الشام وحواصله، وجاء على نيابة الشام الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في أبهة عظيمة، وتحكم مكين، فنزل بدار السعادة وعظمه الناس وعاملوه معاملة الملوك، وعزل السلطان قضاة مصر الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي، وولوا القضاء صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز عوضاً عن الشافعي، وهو تقي الدين بن رزين وكأنهم إنما عزلوه لأنه توقف في خلع الملك السعيد والله أعلم‏.‏

 بيعة الملك المنصور قلاوون الصالحي

لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رجب اجتمع الأمراء بقلعة الجبل من مصر وخلعوا الملك العادل سلامش ابن الظاهر، وأخرجوه من البين، وإنما كانوا قد بايعوه صورة ليسكن الشر عند خلع الملك السعيد، ثم اتفقوا على بيعه الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولقبوه الملك المنصور، وجاءت البيعة إلى دمشق فوافق الأمراء وحلفوا، وذكر أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف مع الناس ولم يرض بما وقع، وكأنه داخله حسد من المنصور لأنه كان يرى أنه أعظم منه عند الظاهر‏.‏

وخطب للمنصور على المنابر في الديار المصرية والشامية، وضربت السكة باسمه، وجرت الأمور بمقتضى رأيه فعزل وولى ونفذت مراسيمه في سائر البلاد بذلك، فعزل عن الوزارة برهان الدين السنجاري وولى مكانه فخر الدين ابن لقمان كاتب السر، وصاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة من هذه السنة توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر بالكرك وسيأتي ذكر ترجمته إن شاء الله تعالى‏.‏

فيها‏:‏ حمل الأمير أيدمر الذي كان نائب الشام في محفة لمرض لحقه إلى الديار المصرية، فدخلها في أواخر ذي القعدة، واعتقل بقلعة مصر‏.‏

 سلطنة سنقر الأشقر بدمشق

لما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بعد صلاة العصر وبين يديه جماعة من الأمراء والجند مشاة‏.‏ ‏

وقصد باب القلعة الذي يلي المدينة، فهجم منه ودخل القلعة واستدعى الأمراء فبايعوه على السلطنة، ولقب بالملك الكامل، وأقام بالقلعة ونادت المنادية بدمشق بذلك، فلما أصبح يوم السبت استدعى بالقضاة والعلماء والأعيان ورؤساء البلد إلى مسجد أبي الدرداء بالقلعة، وحلفهم وحلف له بقية الأمراء والعسكر، وأرسل العساكر إلى غزة لحفظ الأطراف وأخذ الغلات، وأرسل الملك المنصور إلى الشوبك فتسلمها نوابه ولم يمانعهم نجم الدين خضر‏.‏

وفيها‏:‏ جددت أربع أضلاع في قبة النسر من الناحية الغربية‏.‏

وفيها‏:‏ عزل فتح الدين بن القيسراني من الوزارة بدمشق ووليها تقي الدين بن توبة التكريتي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عز الدين بن غانم الواعظ

عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين عز الدين أحمد الأنصاري المقدسي، الواعظ المطبق المفلق الشاعر الفصيح، الذي نسج على منوال ابن الجوزي وأمثاله، وقد أورد له قطب الدين أشياء حسنة كثيرة مليحة، وكان له قبول عند الناس، تكلم مرة تجاه الكعبة المعظمة‏.‏

وكان في الحضرة الشيخ تاج الدين بن الفزاري والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وابن العجيل من اليمن وغيرهم من العلماء والعباد، فأجاد وأفاد وخطب فأبلغ وأحسن‏.‏

نقل هذا المجلس الشيخ تاج الدين الفزاري، وأنه كان في سنة خمس وسبعين‏.‏

 الملك السعيد بن الملك الظاهر

بركة خان ناصر الدين محمد بن بركة خان أبو المعالي ابن السلطان الملك الظاهر‏.‏

ركن الدين بيبرس البندقداري، بايع له أبوه الأمراء في حياته، فلما توفي أبوه بويع له بالملك وله تسع عشرة سنة، ومشيت له الأمور في أول الأمر على السعادة، ثم إنه غلبت عليه الخاصكية فجعل يعلب معهم في الميدان الأخضر فيما قيل أول هوى، فربما جاءت النوبة عليه فينزل لهم‏.‏

فأنكرت الأمراء الكبار ذلك وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب مع الغلمان، ويجعل نفسه كأحدهم، فراسلوه في ذلك ليرجع عما هو عليه فلم يقبل، فخلعوه كما ذكرنا، وولوا السلطان الملك المنصور قلاوون في أواخر رجب كما تقدم‏.‏

ثم كانت وفاته في هذه السنة بالكرك في يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة، يقال إنه سُمّ فالله أعلم، وقد دفن أولا عند قبر جعفر وأصحابه الذين قتلوا بموته‏.‏

ثم نقل إلى دمشق فدفن في تربة أبيه سنة ثمانين وستمائة، وتملك الكرك بعده أخوه نجم الدين خضر وتلقب بالملك المسعود، فانتزعها المنصور من يده كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏

 

 ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة

كان أولها يوم الخميس ثالث أيار، والخليفة الحاكم بأمر الله وملك مصر الملك المنصور قلاوون الصالحي، وبعض بلاد الشام أيضاً، وأما دمشق وأعمالها فقد ملكها سنقر الأشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود بن الظاهر، وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق وبلاد الجزيرة وخراسان والموصل وإربل وأذربيجان وبلاد بكر وخلاط وما والاها وغير ذلك من البلاد بأيدي التتار، وكذلك بلاد الروم في أيديهم أيضاً‏.‏

ولكن فيها غياث الدين بن ركن الدين، ولا حكم له سوى الاسم وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب الحرم الشريف نجم الدين بن أبي نمي الحسني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحه الحسيني‏.‏

ففي مستهل السنة المذكورة ركب السلطان الملك الكامل سنقر الأشقر من القلعة إلى الميدان وبين يديه الأمراء ومقدموا الحلقة الفاشية، وعليهم الخلع والقضاة والأعيان ركاب معه، فسير في الميدان ساعة ثم رجع إلى القلعة، وجاء إلى خدمته الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب، فقّبل الأرض بين يديه، وجلس إلى جانبه وهو على السماط، وقام له الكامل، وكذلك جاء إلى خدمته ملك الأعراب بالحجاز، وأمر الكامل سنقر أن تضاف البلاد الحلبية إلى ولاية القاضي شمس الدين بن خلكان، وولاه تدريس الأمينية وانتزعها من ابن سني الدولة‏.‏

ولما بلغ الملك المنصور بالديار المصرية ما كان من أمر سنقر الأشقر بالشام أرسل إليه جيشاً كثيفاً فهزموا عسكر سنقر الأشقر الذي كان قد أرسله إلى غزة، وساقوهم بين أيديهم حتى وصل جيش المصريين إلى قريب دمشق، فأمر الملك الكامل أن يضرب دهليزه بالجسورة، وذلك في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، ونهض بنفسه وبمن معه فنزل هنالك واستخدم خلقاً كثيراً وأنفق أموالاً جزيلة‏.‏

وأنضاف إليه عرب الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجي، وجاءته نجدة حلب ونجدة حماة ورجال كثيرة من رجال بعلبك، فلما كان يوم الأحد السادس عشر من صفر أقبل الجيش المصري صحبة الأمير علم الدين سنجر الحلبي، فلما تراءى الجمعان وتقابل الفريقان وتقاتلوا إلى الرابعة في النهار، فقتل نفر كثير وثبت الملك الكامل سنقر الأشقر ثباتاً جيداً، ولكن خامر عليه الجيش فمنهم من صار إلى المصري ومنهم من انهزم في كل وجه‏.‏ ‏

وتفرق عنه أصحابه فلم يسعه إلا الانهزام على طريق المرح في طائفة يسيرة، في صحبة عيسى بن مهنا، فسار بهم إلى برية الرحبة فأنزلهم في بيوت من شعر، وأقام بهم وبدوابهم مدة مقامهم عنده‏.‏

ثم بعث الأمراء الذين انهزموا عنه فأخذوا لهم أماناً من الأمير سنجر، وقد نزل في ظاهر دمشق وهي مغلوقة، فراسل نائب القلعة ولم يزل به حتى فتح باب الفرج من آخر النهار، وفتحت القلعة من داخل البلد فتسلمها للمنصور وأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالحالق، والأمير لاجين حسام الدين المنصوري وغيرهم من الأمراء الذين كان قد اعتقلهم الأمير سنقر الأشقر وأرسل سنجر البريدية إلى الملك المنصور يعلمونه بصورة الحال‏.‏

وأرسل سنجر بثلاثة آلاف في طلب سنقر الأشقر‏.‏

وفي هذا اليوم جاء ابن خلكان ليسلم على الأمير سنجر الحلبي فاعتقله في علو الخانقاه النجيبية، وعزله في يوم الخميس العشرين من صفر، ورسم للقاضي نجم الدين بن سني الدولة بالقضاء فباشره‏.‏

ثم جاءت البريدية معهم كتاب من الملك المنصور قلاوون بالعتب على طوائف الناس، والعفو عنه كلهم، فتضاعفت له الأدعية، وجاء تقليد النيابة بالشام للأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، فدخل معه علم الدين سنجر الحلبي فرتبه في دار السعادة، وأمر سنجر القاضي ابن خلكان أن يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة ليسكنها نجم الدين بن سني الدولة، وألح عليه في ذلك، فاستدعى جمالاً لينقل أهله وثقله عليها إلى الصالحية فجاء البريد بكتاب من السلطان فيه تقرير ابن خلكان على القضاء والعفو عنه وشكره والثناء عليه‏.‏

وذكر خدمته المتقدمة، ومعه خلعة سنية له فلبسها وصلى بها الجمعة وسلم على الأمراء فأكرموه وعظموه، وفرح الناس به وبما وقع من الصفح عنه‏.‏

وأما سنقر الأشقر فإنه لما خرجت العساكر في طلبه فارق الأمير عيسى بن مهنا وساء إلى السواحل فاستحوذ منها على حصون كثيرة، منها صهيون، وقد كان بها أولاده وحواصله، وحصن بلاطس، وبرزية، وعكا، وجبلة، واللاذقية، والشفر، بكاس، وشيزر واستناب فيها الأمير عز الدين أزدمر الحاج‏.‏

فأرسل السلطان المنصور لحصار شيزر طائفة من الجيش، فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتار لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين، فانجفل الناس من بين أيديهم من سائر البلاد إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، فوصلت التتار إلى حلب فقتلوا خلقاً كثيراً، ونهبوا جيشاً كبيراً، وظنوا أن جيش سنقر الأشقر يكون معهم على المنصور، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الأشقر‏.‏

إن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين، والمصلحة أن نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحداً‏.‏

فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب، ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار، وخرج الملك المنصور من مصر في أواخر جمادى الآخرة ومعه العساكر‏.‏

وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الآخرة قرئ على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد إلى ولده علي، ولقب بالملك الصالح، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتار من حلب إلى بلادهم، وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين، ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد، وعاد المنصور إلى مصر وكان قد وصل إلى غزة، أراد بذلك تخفيف الوطأة عن الشام فوصل إلى مصر في نصف شعبان‏.‏

وفي جمادى الآخرة أعيد برهان الدين السنجاري إلى وزارة مصر ورجع فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الإنشاء‏.‏

وفي أواخر رمضان أعيد إلى القضاء ابن رزين وعزل ابن بنت الأعز، وأعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعين الدين الحنفي، وتولي قضاء الحنابلة عز الدين المقدسي‏.‏

وفي ذي الحجة جاء تقليد ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبية إليه يستنيب فيها من شاء من نوابه‏.‏

وفي مستهل ذي الحجة خرج الملك المنصور من بلاد مصر بالعساكر قاصداً الشام، واستناب على مصر ولده الملك الصالح علي بن المنصور إلى حين رجوعه‏.‏

قال الشيخ قطب الدين‏:‏ وفي يوم عرفة وقع بمصر برد كبار أتلف شيئاً كثيراً من المغلات، ووقعت صاعقة بالإسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الأحمر على صخرة فأحرقتها، فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه أواقي بالرطل المصري‏.‏

وجاء السلطان فنزل بعساكره تجاه عكا، فخافت الفرنج منه خوفاً شديداً وراسلوه في طلب تحديد الهدنة، وجاء الأمير عيسى بن مهنا من بلاد العراق إلى خدمة المنصور، وهو بهذه المنزلة فتلقاه السلطان بجيشه وأكرمه واحترمه وعامله بالصفح والعفو والإحسان‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير الكبير جمال الدين آقوش الشمسي

أحد أمراء الإسلام وهو الذي باشر قتل كتبغانوين أحد مقدمي التتار، وهو المطاع فيهم يوم عين جالوت، وهو الذي مسك عز الدين أيدمر الظاهري في حلب من السنة الماضية، وكانت وفاته بها‏.‏

 الشيخ الصالح داود بن حاتم

ابن عمر الحبال، كان حنبلي المذهب له كرامات وأحوال صالحة ومكاشفات صادقة، وأصل آبائه من حران، وكانت إقامته ببعلبك، وتوفي فيها رحمه الله عن ست وتسعين سنة، وقد أثنى عليه الشيخ قطب الدين ابن الشيخ الفقيه اليونيني‏.‏

 الأمير الكبير

نور الدين علي بن عمر أبو الحسن الطوري، كان من أكابر الأمراء، وقد نيف على تسعين سنة وكانت وفاته بسبب أنه وقع يوم مصاف سنقر الأشقر تحت سنابك الخيل فمكث بعد ذلك متمرضاً إلى أن مات بعد شهرين ودفن بسفح قاسيون‏.‏

 الجزار الشاعر

يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي جمال الدين أبو الحسين المصري، الشاعر الماجن، المعروف بالجزار‏.‏

مدح الملوك والوزراء والأمراء، وكان ماجناً ظريفاً حلو المناظرة، وله في حدود ستمائة بعدها بسنة أو سنتين، وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال من هذه السنة‏.‏

ومن شعره‏:‏

أدركوني فبي من البرد همٌ * ليس ينسى وفي حشاي التهاب

ألبستني الأطماع وهماً فها * جسمي عارٍ ولي فرى وثياب

كلما ازرق لون جسمي من الـ * ـبرد تخيلت أنه سنجاب

وقال وقد تزوج أبوه بعجوزة‏:‏

تزوج الشيخ أبي شيخةٍ * ليس لها عقلٌ ولا ذهن

كأنها في فرشها رمة * وشعرها من حولها قطن

وقال لي كم سنها * قلت ليس في فمنها سن

لو أسفرت غربها في الدجى * ما جسرت تبصرها الجن

 ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة من الهجرة

استهلت والخليفة الحاكم وسلطان البلاد الملك المنصور قلاوون‏.‏ وفي عاشر المحرم انعقدت الهدنة بين أهل عكا والمرقب والسلطان، وكان نازلاً على الروحاء وقد قبض على جماعة من الأمراء ممن كان معه، وهرب آخرون إلى قلعة صهيون إلى خدمة سنقر الأشقر، ودخل المنصور إلى دمشق في التاسع عشر من المحرم فنزل القلعة وقد زينت له البلد، وفي التاسع والعشرين من المحرم أعاد القضاء إلى عز الدين بن الصائغ وعزل ابن خلكان‏.‏

وفي أول صفر باشر قضاء الحنابلة نجم الدين ابن الشيخ شمس بن أبي عمر، وقد كان المنصب شاغراً منذ عزل والده نفسه عن القضاء، وتولى قضاء حلب في هذا الشهر تاج الدين يحيى بن محمد بن إسماعيل الكردي‏.‏

وجلس الملك المنصور في دار العدل في هذا الشهر فحكم وأنصف المظلوم من الظالم، وقدم عليه صاحب حماة فتلقاه المنصور بنفسه في موكبه، ونزل بداره بباب الفراديس‏.‏

وفي ربيع الأول وقع الصلح بين الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الأشقر الملك الكامل على أن يسلم للسلطان شيزر ويعوضه عنها بإنطاكية، وكفر طاب، وشفر بكاس وغير ذلك، وعلى أن يقيم على ما بيده ستمائة فارس، وتحالفا على ذلك، ودقت البشائر لذلك، وكذلك تصالح صاحب الكرك والملك المنصور خضر بن الظاهر على تقرير ما بيده ونودي بذلك في البلاد‏.‏

وفي العشر الأول من هذا الشهر ضمن الخمر والزنا بدمشق، وجعل عليه ديوان ومشد، فقام في إبطال ذلك جماعة من العلماء والصلحاء والعباد، فأبطل بعد عشرين يوماً وأريقت الخمور وأقيمت الحدود ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي تاسع عشر ربيع الأول وصلت الخاتون بكرة خان زوجة الملك الظاهر ومعها ولدها السعيد قد نقلته من قرية المساجد بالقرب من الكرك لتدفنه عند أبيه بالتربة الظاهرية، فرفع بحبال من السور ودفن عند والده الظاهر، ونزلت أمه بدار صاحب حمص، وهيئت لها الإقامات وعمل عزاء ولدها يوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر بالتربة المذكورة، وحضر السلطان المنصور وأرباب الدولة والقراء والوعاظ‏.‏ ‏‏

وفي أواخر ربيع الآخر عزل التقي بن توبة التكريتي من الوزارة بدمشق وباشرها بعده تاج الدين السهنوري، وكتب السلطان المنصور إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش لأجل اقتراب مجيء التتار، فدخل أحمد بن حجي ومعه بشر كثير من الأعراب، وجاء صاحب الكرك الملك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة‏.‏

وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل مكان، وجاءته التركمان والأعراب وغيرهم، وكثرت الأراجيف بدمشق، وكثرت العساكر بها وجفل الناس من بلاد حلب وتلك لنواحي، وتركوا الغلات والأموال خوفاً من أن يدهمهم العدو من التتار‏.‏

ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عنتاب، وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضاً، ونازلت التتار بالرحبة في أواخر جمادى الآخرة جماعة من الأعراب، وكان فيهم ملك التتار إبغا مختفياً ينظر ماذا يفعل أصحابه، وكيف يقاتلون أعداءه‏.‏

ثم خرج المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والأئمة بالجوامع والمساجد في الصلوات وغيرها، وجاء مرسوم من السلطان باستسلام أهل الذمة من الدواوين والكتبة‏.‏

ومن لا يسلم يصلب، فأسلموا كرهاً وكانوا يقولون آمنا وحكم الحاكم بإسلامنا بعد أن عرض من امتنع منهم على الصلب بسوق الخيل، وجعلت الحبال في أعناقهم، فأجابوا والحالة هذه، ولما انتهى الملك المنصور إلى حمص كتب إلى الملك الكامل سنقر الأشقر يطلبه إليه نجدة فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الإقامات‏.‏

وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك، واجتمع الناس بعد خروج الملك في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم، وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الإسلام وأهله على الأعداء، وخرجوا كذلك والمصحف على رؤوسهم إلى المصلى يدعون ويبتهلون ويبكون، وأقبلت التتار قليلاً قليلاً فلما وصلوا حماه أحرقوا بستان الملك وقصره وما هنالك من المساكن‏.‏

والسلطان المنصور مخيم بحمص في عساكر من الأتراك والتركمان وغيرهم جحفل كثير جداً، وأقبلت التتار في مائة ألف مقاتل أو يزيدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

 وقعة حمص

لما كان يوم الخميس رابع عشر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيد قليلاً‏.‏ ‏

والجميع فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن فاقتتلوا قتالاً عظيماً لم ير مثله من أعصار متطاولة، فاستظهر التتار أول النهار، وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضاً وبالله المستعان‏.‏

وكسر جناح القلب الأيسر وثبت السلطان ثباتاً عظيماً جداً في جماعة قليلة، وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين، والتتار في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص ووصلوا حمص وهي مغلقة الأبواب، فقتلوا خلقاً من العامة وغيرهم، وأشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك، ثم إن أعيان الأمراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الأشقر، وبيسرى، وطيبرس الوزيري، وبدر الدين أمير سلاح، وايتمش السعدي، وحسام الدين لاجين، وحسام الدين طرنطاي، والدوايداري وأمثالهم‏.‏

لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة، ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر، وجرح منكوتمر، وجاءهم الأمير عيسى بن مهنا من ناحية العرض فصدم التتر فأضربت الجيوش لصدمته، وتمت الهزيمة ولله الحمد‏.‏

وقتلوا من التتار مقتلة عظيمة جداً، ورجعت من التتار الذين اتبعوا المنهزمين من المسلمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا، والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون، والسلطان ثابت في مكانه تحت السناجق، والكوسات تضرب خلفه وما معه إلا ألف فارس‏.‏

فطمعوا فيه فقاتلوه فثبت لهم ثباتاً عظيماً فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم، وكان ذلك تمام النصر، وكان انهزام التتار قبل الغروب، وافترقوا فرقتين أخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية، والأخرى إلى ناحية حلب والفرات‏.‏

فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب، فدقت البشائر وزينت البلد وأوقدت الشموع وفرح الناس‏.‏

فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري، والحالق وغيرهم، فأخبروا الناس بما شاهدوه من الهزيمة في أول الأمر، ولم يكونوا شاهدوا بعد ذلك، فبقي الناس في قلق عظيم، وخوف شديد، وتهيأ ناس كثير للهرب‏.‏

فبينما الناس في ذلك إذ أقبلت البريدية فأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الأمر وآخره، فتراجع الناس وفرحوا فرحاً شديداً ولله الحمد والمنة‏.‏

ثم دخل السلطان إلى دمشق الثاني والعشرين من رجب، وبين يديه الأسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤوس القتلى، وكان يوماً مشهوداً، ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الأشقر منهم علم الدين الدويداري، فنزل السلطان بالقلعة مؤيداً منصوراً، وقد كثرت له المحبة والأدعية، وكان سنقر الأشقر ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون‏.‏

وأما التتر فإنهم انهزموا في أسوا حال وأتعسه يتخطفون من كل جانب، ويقتلون من كل فج، حتى وصلوا إلى الفرات فغرق أكثرهم‏.‏ ‏

ونزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وأسروا آخرين والجيوش في آثارهم يطردونهم عن البلاد حتى أراح الله منهم الناس‏.‏

وقد استشهد في هذه الوقعة جماعة من سادات الأمراء منهم الأمير الكبير الحاج عز الدين ازدمر جمدار، وهو الذي جرح ملك التتار يومئذ منكوتمر، فإنه خاطر بنفسه وأوهم أنه مقفز إليه وقلب رمحه حتى وصل إليه فطعنه فجرحه فقتلوه رحمه الله، ودفن بالقرب من مشهد خالد‏.‏

وخرج السلطان من دمشق قاصداً الديار المصرية يوم الأحد ثاني شعبان والناس يدعون له، وخرج معه علم الدين الدويداري، ثم عاد من غزة وقد ولاه المشد في الشام والنظر في المصالح، ودخل السلطان إلى مصر في ثاني عشر شعبان‏.‏

وفي سلخ شعبان ولي قضاء مصر والقاهرة للقاضي وجيه الدين البهنسي الشافعي، وفي يوم الأحد سابع رمضان فتحت المدرسة الجوهرية بدمشق في حياة منشئها وواقفها الشيخ نجم الدين محمد بن عباس بن أبي المكارم التميمي الجوهري، ودرس بها قاضي الحنفية حسام الدين الرازي‏.‏

وفي بكرة يوم السبت التاسع والعشرين من شعبان وقعت مأذنة مدرسة أبي عمر بقاسيون على المسجد العتيق فمات شخص واحد، وسلم الله تعالى بقية الجماعة‏.‏

وفي عاشر رمضان وقع بدمشق ثلج عظيم وبرد كثير مع هواء شديد، بحيث إنه ارتفع عن الأرض نحواً من ذراع، وفسدت الخضراوات، وتعطل على الناس معايش كثيرة‏.‏

وفي شوال وصل صاحب سنجار إلى دمشق مقفزاً من التتار داخلاً في طاعة السلطان بأهله وماله، فتلقاه نائب البلد وأكرمه وسيره إلى مصر معززاً مكرماً‏.‏

وفي شوال عقد مجلس بسبب أهل الذمة من الكتاب الذين كانوا قد أسلموا كرهاً وقد كتب لهم جماعة من المفتيين بأنهم كانوا مكرهين فلهم الرجوع إلى دينهم، وأثبت الإكراه بين يدي القاضي جمال الدين بن أبي يعقوب المالكي، فعاد أكثرهم إلى دينهم وضربت عليهم الجزية كما كانوا، سود الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم غرموا مالاً جزيلاً جملة مستكثرة على ذلك، قبحهم الله‏.‏

وفي ذي القعدة قبض السلطان على أيتمش السعدي وسجنه بقلعة الجبل، وقبض نائبة بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني وسجنه بقلعتها‏.‏

وفي بكرة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة، وهو العاشر من آذار، استسقى الناس بالمصلى بدمشق فسقوا بعد عشرة أيام‏.‏

وفي هذه السنة أخرج الملك المنصور جميع آل الملك الظاهر من النساء والولدان والخدام من الديار المصرية إلى الكرك ليكونوا في كنف الملك المسعود خضر بن الظاهر‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبغا ملك التتار بن هولاكو خان

ابن تولى بن جنكيز خان، كان عالي الهمة بعيد الغور له رأي وتدبير، وبلغ من العمر خمسين سنة، ومدة ملكه ثماني عشرة سنة، ولم يكن بعد والده في التدبير والحزم مثله، ولم تكن وقعة حمص هذه برأيه ولا عن مشورته، ولكن أخوه منكوتمر أحب ذلك فلم يخالفه‏.‏

ورأيت في بعض تاريخ البغاددة أن قدوم منكوتمر إلى الشام إنما كان عن مكاتبة سنقر الأشقر إليه فالله أعلم‏.‏

وقد جاء إبغا هذا بنفسه فنزل قريباً من الفرات ليرى ماذا يكون من الأمر، فلما جرى عليهم ما جرى ساءه ذلك ومات غماً وحزناً‏.‏

توفي بين العيدين من هذه السنة، وقام بالملك بعده ولده السلطان أحمد‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 قاضي القضاة محمد

نجم الدين أبو بكر بن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي الشافعي بن سني الدولة، ولد سنة ست عشرة وستمائة، وسمع الحديث وبرع في المذهب، وناب عن أبيه فشكرت سيرته، واستقل بالقضاء في الدولة المظفرية فحمد أيضاً، وكان الشيخ شهاب الدين ينال منه ومن أبيه‏.‏

وقال البرزالي‏:‏ كان شديداً في الأحكام متحرياً، وقد ألزم بالمقام بمصر فدرس بجامع مصر، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالأمينية والركنية، وباشر قضاء حلب، وعاد إلى دمشق، وولاه سنجر قضاء دمشق، ثم عزل بابن خلكان كما تقدم‏.‏

ثم كانت وفاته يوم الثلاثاء من المحرم، ودفن من الغد يوم تاسوعاء بتربة جده بقاسيون‏.‏

وفي عاشر المحرم توفي‏:‏

 قاضي القضاة صدر الدين عمر

ابن القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم الغلابي ابن بنت الأعز المصري، كان فاضلاً بارعاً عارفاً بالمذهب، متحرياً في الأحكام كأبيه، ودفن بالقرافة‏.‏ ‏

 الشيخ إبراهيم بن سعيد الشاغوري

الموله المعروف بالجيعانة، كان مشهوراً بدمشق، ويذكر له أحوال ومكاشفات على ألسنة العوام ومن لا يعقل، ولم يكن ممن يحافظ على الصلوات ولا يصوم مع الناس، ومع هذا كان كثير من العوام وغيرهم يعتقدونه‏.‏

توفي يوم الأحد سابع جمادى الأولى، ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون عند الشيخ يوسف القيميني‏.‏

وقد توفي الشيخ يوسف قبله بمدة، وكان الشيخ يوسف يسكن إقمين حمام نور الدين الشهيد بالبزوريين، وكان يجلس على النجاسات والقذر، وكان يلبس ثياباً بداوية تجحف على النجاسات في الأزقة، وكان له قبول من الناس ومحبة وطاعة، وكان العوام يغالون في محبته واعتقاده، وكان لا يصلي ولا يتقي نجاسة، ومن جاءه زائراً جلس عند باب الأقمين على النجاسة، وكان العوام يذكرون له مكاشفات وكرامات‏.‏

وكل ذلك خرافات من خرافات العوام وأهل الهديان كما يعتقدون ذلك في غيره من المجانين والمولهين‏.‏

ولما مات الشيخ يوسف القميني خرج خلق في جنازته من العوام وغيرهم، وكانت جنازته حافلة بهم، وحمل على أعناق الرجال إلى سفح قاسيون، وبين يديه غوغاء وغوش كثير وتهليل وأمور لا تجوز من فعل العوام، حتى جاؤوا به إلى تربة المولهين بقاسيون فدفنوه بها، وقد اعتنى بعض العوام بقبره فعمل عليه حجارة منقوشة وعمل على قبره سقفاً مقرنصاً بالدهان وأنواعه‏.‏

وعمل عليه مقصورة وأبواباً، وغالى فيه مغالاة زائدة، ومكث هو وجماعة مجاورون عنده مدة في قراءة وتهليل، ويطبخ لهم الطبيخ فيأكلون ويشربون هناك‏.‏

والمقصود أن الشيخ إبراهيم الجيعانة لما مات الشيخ يوسف الأقميني جاء من الشاغور إلى باب الصغير في جماعة من أتباعه، وهم في صراخ وضجة وغوش كثير، وهم يقولون‏:‏ أذن لنا في دخول البلد أذن لنا في دخول البلد، يكررون ذلك، فقيل له في ذلك فقال‏:‏

لي عشرون سنة ما دخلت داخل سور دمشق، لأني كنت كلما أتيت باباً من أبوابها أجد هذا السبع رابضاً بالباب فلا أستطيع الدخول خوفاً منه‏.‏

فلما مات أذن لنا في الدخول، وهذا كله ترويج على الطغام والعوام من الهمج الرعاع، الذين هم أتباع كل ناعق‏.‏

وقيل‏:‏ إن الشيخ يوسف كان يرسل إلى الجيعانة مما يأتيه من الفتوح والله سبحانه أعلم بأحوال العباد، وإليه المنقلب والمآب، وعليه الحساب‏.‏

وقد ذكرنا أنه استشهد في وقعة حمص جماعة من الأمراء منهم الأمير عز الدين أزدمر السلحداري عن نحو من ستين سنة، وكان من خيار الأمراء وله همة عالية ينبغي أن ينال بها مكاناً عالياً في الجنة‏.‏

قاضي القضاة

 تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى العامري الحموي الشافعي، ولد سنة ثلاث وستمائة، وقد سمع الحديث وانتفع بالشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأم بدار الحديث مدة، ودرس بالشامية، وولي وكالة بيت المال بدمشق‏.‏

ثم سار إلى مصر فدرس بها بعدة مدارس، وولي الحكم بها، وكان مشكوراً، توفي ليلة الأحد ثالث رجب منها، ودفن بالمقطم‏.‏

وفي يوم السبت السابع الرابع والعشرين من ذي القعدة توفي‏:‏

 الملك الأشرف

مظفر الدين موسى بن الملك الزاهر محيي الدين داود المجاهد بن أسد الدين شيركوه بن الناصر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي ابن صاحب حمص، ودفن بتربتهم بقاسيون‏.‏

وفي ذي القعدة توفي‏:‏

 الشيخ جمال الدين الإسكندري

الحاسب بدمشق، وكان له مكتب تحت منارة كيروز، وقد انتفع به خلق كثير، وكان شيخ الحساب في وقته رحمه الله‏.‏

 الشيخ علم الدين أبو الحسن

محمد بن الإمام أبي علي الحسين بن عيسى بن عبد الله بن رشيق الربعي المالكي المصري، ودفن بالقرافة، وكانت له جنازة حافلة، وقد كان فقيهاً مفتياً، سمع الحديث وبلغ خمساً وثمانين سنة‏.‏

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة توفي‏:‏

 الصدر الكبير أبو الغنائم المُسلَّم

محمد بن المسلم مكي بن خلف بن غيلان، القيسي الدمشقي، مولده سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وكان من الرؤساء الكبار، وأهل البيوتات، وقد ولي نظر الدواوين بدمشق وغير ذلك‏.‏ ‏

ثم ترك ذلك كله، وأقبل على العبادة وكتابة الحديث، وكان يكتب سريعاً يكتب في اليوم الواحد ثلاث كراريس، وقد أسمع مسند الإمام أحمد ثلاث مرات، وحدث بصحيح مسلم وجامع الترمذي وغير ذلك، وسمع منه البرازلي والمري وابن تيمية، ودفن من يومه بسفح قاسيون عن ست وثمانين سنة رحمهم الله جميعاً‏.‏

 الشيخ صفي الدين

أبو القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الحنفي، شيخ الحنفية ببصرى، ومدرس الأمينية بها مدة سنين كثيرة، كان بارعاً فاضلاً عالماً عابداً منقطعاً عن الناس، وهو والد قاضي القضاة صدر الدين علي، وقد عمر دهراً طويلاً، فإنه ولد في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتوفي ليلة نصف شعبان من هذه السنة عن تسع وتسعين سنة رحمه الله‏.‏