الجزء الرابع عشر - ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر، وقاضي الشافعية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحنفي حسام الدين الرازي، والمالكي والحنبلي كما تقدم‏.‏

ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، والوزير تقي الدين توبة، والخطيب بدر الدين بن جماعة‏.‏

ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس، بسبب المرض الذي أصاب بعضهم، فجاء كتاب السلطان بالعتب الأكيد والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعه صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك، ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره، فخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش، وخرج أهل البلد للفرجة على الأطلاب على ما جرت به العادة، فبرز نائب السلطنة في أبهة عظيمة، فدعت له العامة وكانوا يحبونه‏.‏

واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلما وصلوا إلى حمص بلغ الأمير سيف الدين قبجق، وجماعة من الأمراء، أن السلطان قد تغلّت خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم، وعلموا أن السلطان لا يخالفه لمحبته له، فاتفق جماعة منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والأيلي، واستمروا ذاهبين‏.‏

فرجع كثير من الجيش إلى دمشق، وتخبطت الأمور وتأسفت العوام على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك إلى محمد بن قلاوون

لما كان يوم السبت التاسع عشر ربيع الآخر، وصل جماعة من البريدية، وأخبروا بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشرة، على يد الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي، ومن وافقه من الأمراء، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي، وهو جالس في خدمته يتحدثان، وقبل كانا يلعبان بالشطرنج، فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه، وقتل نائبه صبراً، صبيحة يوم الجمعة، وألقى على مزبلة، واتفق الأمراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏

فأرسلوا وراءه، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة، وخطب له على المنابر قبل قدومه، وجاءت الكتب إلى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفاً من غائلة لاجين، فسارت إليه البريدية فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين، من أعمال ماردين وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله‏.‏

وكان الذي شمر العزم وراءهم، وساق ليردهم الأمير سيف الدين بلبان، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش، والأمير سيف الدين جاعان، واحتاطوا على ما كان له اختصاص بتلك الدولة، وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي، محتسب البلد، وناظر المارستان‏.‏

ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضاً على سيف الدين جاعان، وحسام الدين لاجين، والي البر، وأدخلا القلعة، وقتل بمصر الأمير سيف الدين طغجي، وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام، وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا، وألقيا على المزابل‏.‏

وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي، وكان جميل الصورة، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور، فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك‏.‏

وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر إلى مصر، يوم السبت رابع جمادى الأولى، وكان يوماً مشهوداً، ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها، بحضرة أكابر العلماء والقضاة والأمراء، وجاء الخبر بأنه قد ركب وشق القاهرة، وعليه خلعة الخليفة، والجيش معه مشاة، فضربت البشائر أيضاً‏.‏

وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة، وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان إليهم، فدعوا له، وقدم الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، نائباً على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء، قبل العصر ثاني عشرين جمادى الأولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة‏.‏

وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والي البر، وعادا إلى ما كانا عليه، واستقر الأمير حسام الدين الأستادار أتابكاً للعساكر المصرية، والأمير سيف الدين سلار نائباً بمصر، وأخرج الأعسر في رمضان من الحبس، وولي الوزارة بمصر، وأخرج قرا سنقر المنصوري من الحبس، وأعطي نيابة الصبيبة، ثم لما مات صاحب حماه الملك المظفر نقل قرا سنقر إليها‏.‏

وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين، بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية، قام عليه جماعة من الفقهاء، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماه، المسماة بالحموية، فانتصر له الأمير سيف الدين جاعان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده، فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة، فسكت الباقون‏.‏

فلما كان يوم الجمعة، عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏، ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية، وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الأمور، وسكنت الأحوال، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسناً ومقصده صالحاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار حديث، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار، وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل لهم ضيافة، وأفرج عن قرا سنقر‏.‏

وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه، وجعل له إماماً راتباً وحاكى به مشهد علي بن الحسين زين العابدين‏.‏

وفي العشر الأولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام، وعزل عن قضاء مصر، وعزل ولده عن قضاء الشام‏.‏

وفيها‏:‏ في ذي القعدة كثرت الأراجيف بقصد التتر بلاد الشام، وبالله المستعان‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ نظام الدين

أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصري الحنفي، مدرس النورية ثامن المحرم، ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية، كان فاضلاً، ناب في الحكم في وقت، ودرّس بالنورية بعد أبيه، ثم درّس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب‏.‏

المفسر الشيخ العالم الزاهد

 جمال الدين أبو عبد الله بن محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي، ثم المقدسي، الحنفي، ولد في النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة، وأقام مدة بالجامع الأزهر، ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس فاستوطنه إلى أن مات في المحرم منها، وكان شيخاً فاضلاً في التفسير، وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفاً من التفسير، وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به‏.‏

 الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس

كان الناس يجتمعون به، وهو منقطع بالمسجد الأقصى، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه‏:‏ هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين، توفي في المحرم من هذه السنة‏.‏

 التقي توبة الوزير

تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي، ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة، وتنقل بالخدم إلى أن صار وزيراً بدمشق مرات عديدة، حتى توفي ليلة الخميس ثاني جمادى الآخرة، وصلّي عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح، وحضر جنازته القضاة والأعيان، وباشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي، وأخذ أمين الدين بن الهلال نظر الخزانة‏.‏

الأمير الكبير

 شمس الدين بيسرى، كان من أكابر الأمراء المتقدمين في خدمة الملوك، من زمن قلاوون وهلم جرا، توفي في السجن بقلعة مصر، وعمل له عزاء بالجامع الأموي، وحضره نائب السلطنة الأفرم والقضاة والأعيان‏.‏

 السلطان الملك المظفر

تقي الدين محمود بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه، وابن ملوكها كابراً عن كابر، توفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة، ودفن ليلة الجمعة‏.‏

الملك الأوحد

 نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم ناظر القدس، توفي به ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، وكان من خيار أبناء الملوك ديناً وفضيلة وإحساناً إلى الضعفاء‏.‏

 القاضي شهاب الدين يوسف

ابن الصالح محب الدين بن النحاس أحد رؤساء الحنفية، ومدرّس الزنجانية والظاهرية، توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة، ودرّس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين‏.‏

 الصاحب نصر الدين أبو الغنائم

سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي، كان أحسن حالاً من أخيه القاضي نجم الدين، وقد سمع الحديث وأسمعه، كان صدراً معظماً، ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة‏.‏

ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات، توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الجمعة بالجامع، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، وعمل عزاؤه بالصاحبية‏.‏

 ياقوت بن عبد الله

أبو الدر المستعصمي الكاتب، لقبه جمال الدين، وأصله رومي‏.‏

كان فاضلاً مليح الخط مشهوراً بذلك، كتب ختماً حساناً، وكتب الناس عليه ببغداد، توفي بها في هذه السنة، وله شعر رائق، فمنه ما أورده البرزالي في تاريخه عنه‏:‏

تجدد الشمس شوقي كلما طعلت * إلى محياك يا سمعي ويا بصري

وأسهر الليل في أنس بلا ونس * إذ طيب ذكراك في ظلماته يسري

وكل يوم مضى لا أراك به * فلست محتسباً ماضيه من عمري

ليلي نهار إذا ما درت في خلدي * لأن ذكرك نور القلب والبصر

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة

وفيها‏:‏ كانت وقعة قازان، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الأفرم، وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفاً شديداً، وجفل الناس من بلاد حلب وحماه، وبلغ كري الخيل من حماه إلى دمشق نحو المائتي درهم‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصداً الشام‏.‏

فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الأول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريباً من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له البلد، وكثرت له الأدعية، وكان وقتاً شديداً، وحالاً صعباً، وامتلأ البلد من الجافلين النازحين عن بلادهم، وجلس الأعسر وزير الدولة وطالب العمال واقترضوا أموال الأيتام وأموال الأسرى لأجل تقوية الجيش‏.‏

وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالأدعية‏.‏

 وقعة قازان

لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية‏.‏

فالتقى التتر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول، فالتقوا معهم فكسروا المسلمين، وولى السلطان هارباً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسناً، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً، فولى المسلمون لا يلوى أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير إنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية، واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر‏.‏

ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغراً ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة‏.‏

وفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول كسر المحبوسون بحبس باب الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية، وتفرقوا في البلد، وكانوا قريباً من مائتي رجل، فنهبوا ما قدروا عليه، وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب البراني، وخرجوا منه إلى بر البلد، فتفرقوا حيث شاؤوا لا يقدر أحد على ردهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبواب والشبابيك شيئاً كثيراً، وباعوا ذلك بأرخص الأثمان، هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة‏.‏

فاجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاماً قوياً شديداً فيه مصلحة عظيمة، عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد‏.‏

ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية، وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطاناً في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن‏.‏

وحضر الفرمان بالأمان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة‏.‏

وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طلبت الخيول والسلاح والأموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان، واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد‏.‏

وقتل جماعة وغلت الأسعار بالبلد جداً، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد فكلموه أيضاً فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف‏.‏

فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزاً لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم‏.‏

وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق، دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها، فقوي جأش الناس بعض قوة، ولكن الأمر كما يقال‏:‏

كيف السبيل إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف

الرجل حافية ومالي مركب * والكف صفر والطريق مخوف

وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة، ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر‏.‏

ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة‏.‏

وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الأسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفية بها، واحترق جامع التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله‏.‏

وسبوا من أهلها خلقاً كثيراً وجماً غفيراً، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم أقحموا عليه فسبوا منه خلقاً كثيراً من بنات المشايخ وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقاً من الرجال وأسروا من النساء كثيراً، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريباً من أربعمائة، وأسروا نحواً من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية‏.‏

وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسراً وقتلوا منهم خلقاً وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس، العشرين من ربيع الآخر إلى ملك التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شيء إلى الآن، ولا بد لهم من شيء‏.‏

واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفاً شديداً، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص، وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله‏.‏

وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الأسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الأبنية، كدار الحديث الأشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق‏.‏

وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل، والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعاً، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر أهل البلد ليلاً ونهاراً، حتى أخذ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامع وغيره، ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير أوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح وإلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى‏.‏

وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها، وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها‏.‏

وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان، وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحاً لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القعلية إلى الجامع فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعاً سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهراً إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي‏.‏

وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناس إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعدما ذاقوا شيئاً كثيراً‏.‏ ‏

قال الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏ ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل، وما أخذ غيره من الأمراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو ستمائة ألف درهم، والأصيل بن النصير الطوسي مائة ألف، والصفي السخاوي ثمانون ألفاً‏.‏

وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوف مسللة، وعلى رأسه عصابة، فنزل بالقصر ونودي بالبلد‏:‏ نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان والأسعار في غاية الغلاء والقلة، قد بلغت الغرارة إلى أربعمائة، واللحم بنحو العشرة، والخبز كل رطل بدرهمين ونصف، والعشرة الدقيق بنحو الأربعين، والجبن الأوقية بدرهم، والبيض كل خمسة بدرهم‏.‏

ثم فرج عنهم في أواخر الشهر، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرج الناس إلى قراهم وأمر جماعة وانضاف إليه خلق من الأجناد، وكثرت الأراجيف على بابه، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة‏.‏

وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحواً من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر‏:‏

يا لك من قنبرة بمعمري * خلا لكِ الجو فبيضي واصفِري ونقِّري ماشئت أن تنقِّري

ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضاً، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم، وهي التي دمرته ومحقت آثاره، وأخذ أموالاً أخر من أوقاف المدارس وغيرها‏.‏

ورجع بولاي من جهة الأغوار، وقد عاث في الأرض فساداً، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبوا خلقاً من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضاً جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر‏.‏

ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الأعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه‏.‏

وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والأعيان فحلَّفهم على المناصحة للدولة المحمودية - يعني قازان - فحلفوا له‏.‏

وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيراً منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق، ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام‏.‏

وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم، وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فساداً، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لأمة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد‏.‏

وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضاً، ومنهم من ألقى نفسه في النهر‏.‏

وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلق قبجق من البلد، ثم أنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين ابن القلانسي ليتلقوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب، وجاءت البريدية بذلك‏.‏

وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد‏:‏

احفظوا الأسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الأسلحة، ولا تهملوا الأسوار والأبواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط‏.‏

وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء‏.‏

وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك‏.‏

ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافاً إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح الناس بذلك وانفرجوا لأنهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الأفرم يوم السبت عاشر شعبان، وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الأميران‏:‏ شمس الدين قراسنقر المنصوري، وسيف الدين قطلبك في تجمل‏.‏

وفي هذا اليوم فتح باب العريش، وفيه درّس القاضي جلال الدين القزويني بالأمينية عوضاً عن أخيه قاضي القضاة إمام الدين توفي بمصر‏.‏ ‏‏

وفي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار، وفي خدمته الملك العادل كتبغا، وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر، ونزلوا في المرج، وكان السلطان قد خرج عازماً على المجيء فوصل إلى الصالحية، ثم عاد إلى مصر‏.‏

وفي يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاة القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة، وفي يوم سابع عشرة لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضاً عن فخر الدين بن الشيرجي، ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الأعسر‏.‏

وباشر الأمير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي ولاية البر، بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة، ودرّس الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني بأم الصالح عوضاً عن جلال الدين القزويني، يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان‏.‏

وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضاً عن حسام الدين الرومي، فقد يوم المعركة في ثاني رمضان ورفعت الستائر عن القلعة في ثالث رمضان‏.‏

وفي مستهل رمضان جلس الأمير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الأخضر وعنده القضاة والأمراء يوم السبت، وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية، وجعل ولده عماد الدين شاهداً في الخزانة، وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر إلى مصر، وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها‏.‏

وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس علي بن الصفي بن أبي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية‏.‏

وفي شوال فيها‏:‏ عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضه وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة‏.‏

وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضاً عن جمال الدين بن الباجريقي‏.‏

وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيراً منهم‏.‏

فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم، وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يدينون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏.‏ ‏

وعاد نائب السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة، وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشرة نودي في البلد أن يعلق الناس الأسلحة بالدكاكين، وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الإماجات في أماكن كثيرة من البلد، وعلقت الأسلحة بالأسواق، ورسم قاضي القضاة بعمل الإماجات في المدارس، وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو إن حضر، وبالله المستعان‏.‏

وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة أهل الأسواق بين يديه، وجعل على كل سوق مقدماً وحوله أهل سوقه‏.‏

وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الأشراف مع نقيبهم نظام الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا، وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي، وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي، وحسام الدين الحنفي وجماعة، ولم تطل مدته إلا شهوراً، ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة إلى الآن ولله الحمد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 القاضي حسام الدين أبو الفضائل

الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن أنوشروان الرازي الحنفي، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم دمشق فوليها مدة، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة، وولده جلال الدين بالشام، ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم ففقد من الصف ولم يدر ما خبره، وقد قارب السبعين‏.‏

وكان فاضلاً بارعاً رئيساً، له نظم حسن، ومولده بإقسيس من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فقد يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول منها، وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الأمراء، ثم ولي بعده القضاء شمس الدين الحريري‏.‏

 القاضي الإمام العالي

إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي‏.‏

قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين فقررا في مدارس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين، وناب عنه أخوه، وكان جميل الأخلاق كثير الإحسان رئيساً، قليل الأذى، ولما أزف قدوم التتار سافر إلى مصر، فلما وصل إليها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست وأربعين سنة، وصار المنصب إلى بدر الدين بن جماعة، مضافاً إلى ما بيده من الخطابة وغيرها، ودرس أخوه بعده بالأمينية‏.‏

 المسند المعمر الرحلة

شرف الدين أحمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث وروى، توفي خامس عشر جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة‏.‏

الخطيب الإمام العالم

 موفق الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الفضل النهرواني القضاعي الحموي، خطيب حماه، ثم خطب بدمشق عوضاً عن الفاروثي، ودرّس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة، وعاد إلى بلده، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها‏.‏

 الصدر شمس الدين

محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، وكان من أعيان الناس وأكثرهم مروءة، ودرس بالعصرونية، توفي وقد جاوز الثمانين، كان من الكتاب المشهورين المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم‏.‏

 الشيخ جمال الدين أبو محمد

عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها، وكان قد أقام بها مدة كذلك، ودرس بالقليجية والدولعية، وناب في الخطابة ودرّس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي، وكان قليل الكلام مجموعاً عن الناس‏.‏

وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والانحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه، وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض أصحاب مصنفات ابن الأثير، وله نظم ونثر حسن، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية

استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها، غير الشافعي والحنفي، ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق، فهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جداً‏.‏

وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم‏.‏

وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتر حتماً في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى، وبيت ابن فضل الله، وابن منجا، وابن سويد، وابن الزملكاني، وابن جماعة‏.‏

وفي أول ربيع الآخر قوي الأرجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودي في البلد أن تخرج العامة مع العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والأسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب‏.‏

وأن نائب حلب تقهقر إلى حماه، ونودي في البلد يتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي، ولم يرد ما سلف‏.‏ ‏

لا جرم أن عواقب هذه الأفعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائداً إلى مصر بعد أن خرج منها قاصداً الشام، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جداً، وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وخرج كثير من الناس خفافاً وثقالاً يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

واستهل جمادى الأولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقترب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثم عاد إلى دمشق، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة‏.‏

وقال لهم فيما قال‏:‏ إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحاً شديداً بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الأراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر‏.‏

ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وغلقت الأسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر، فكيف به الآن وقد عزم على الهرب‏؟‏ ‏

ويقولون‏:‏ ما بقي أهل دمشق إلا طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل‏.‏

وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الأخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ إبراهيم الرقي، وابن قوام، وشرف الدين بن تيمية، وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحرضوه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة‏.‏

ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجبروه إلى الخروج، وقد غلت الأسعار بدمشق جداً، حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال‏.‏

ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعاً عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم، فطابت النفوس لذلك، وسكن الناس وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين‏.‏

ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيماً في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم‏:‏

وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درّس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشني بالكرك هارباً، ثم عاد إليها في رمضان، وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضاً عن جمال الدين الزرعي لغيبته‏.‏

وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزموا بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين‏.‏

وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والأمير سيف الدين أقبجا في نيابة القلعة، وأن يركب كل واحد منهما يوماً، ويكون الآخر بالقلعة يوماً، فامتنع أرجواش من ذلك‏.‏

وفي شوال درّس بالإقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضاً عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة، عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية، بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه، وذلك باتفاق من الوزير شمس الدين سنقر الأعسر ونائب السلطان الأفرم‏.‏

وفيها‏:‏ وصلت رسل ملك التتار إلى دمشق فأنزلوا بالقلعة، ثم ساروا إلى مصر‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ حسن الكردي

المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه، وكان يزار فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع جمادى الأولى، وقد جاوز المائة سنة‏.‏

 الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي

المحدث، اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء، وكان حسن الخلق صالحاً لين الجانب رجلاً حامياً زكياً، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين‏.‏

 الأمير عز الدين

محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهيدباني الأربلي متولي دمشق، كان لديه فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئاً في ذلك، وكان يسكن بدرب سعور فعرف به، فيقال درب ابن أبي الهيجاء‏.‏

وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة، ختم الله لي بخير في عافية آمين، توفي ابن أبي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة، وكان مشكور السيرة حسن المحاضرة‏.‏

 الأمير جمال الدين آقوش الشريفي

والي الولاة بالبلاد القبلية، توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والأمير سيف الدين سلار بالشام، ونائب دمشق الأفرم، وفي أولها عزل الأمير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الأمير سيف الدين استدمر، وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر، وتولي سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة، وجعل عوضه بالقلعة الأمير سيف الدين بهادر السيجري، وهو من الرحبة‏.‏

وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة، وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي، عوضاً عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرّس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان، توفي وكان من كبار الصالحين يصلي كل يوم مائة ركعة، وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك‏.‏

ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي، وفرحت الصوفية به، وجلس حوله ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا‏:‏ القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ‏.‏

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول قتل الفتح أحمد بن الثقفي بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبزته ولبسته جيدة‏.‏

ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال‏:‏ ما تعرف مني‏؟‏ فقال‏:‏ أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله‏.‏

قال البرزالي في تاريخه‏:‏ وفي وسط شهر ربيع الأول ورد كتاب من بلاد حماه من جهة قاضيها يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماه برد كبار على صور حيوانات مختلفة شتى، سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحويرالي بواب الظاهرية على بابها، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي‏.‏

وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضاً عن كمال الدين بن الشريشي، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق، فانتزعها من يد ابن الشريشي‏.‏ ‏

وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياماً، وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع إلى أهله، ففرحوا به‏.‏

وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة، وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وأن ولده ولي الخلافة من بعده، وهو أبو الربيع سليمان، ولقب بالمستكفي بالله، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة، ودفن بالقرب من الست نفيسة، وله أربعون سنة في الخلافة، وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي، ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي، وعزل عنها ابن جماعة ودرّس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة‏.‏

وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم أكل الزرع والثمار وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصى، ولم يعهد مثل هذا، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتاباً معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم‏.‏

فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة، والتواريخ المحبطة، واللحن الفاحش، وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين لهم خطأهم وكذبهم، وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد منهم الشؤون الماضية‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقفت أنا على هذا الكتاب فرأيت فيها شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين، وفيه‏:‏ وكتب علي بن طالب وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي، لأن علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءاً مفرداً، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي المارودي، وكتاب أصحابنا في ذلك العصر، وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد، وبينوا خطأه ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه أنه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضاً فيمن يشكو منه ذلك، وبّين خطأهم، ثم سكنت الأمور‏.‏

وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياماً بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، ففتحها المسلمون ولله الحمد‏.‏

وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضاً عن ابن مزهر‏.‏

وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديّان اليهود إلى دار العدل ومعه أولاده فأسلموا كلهم، فأكرمهم نائب السلطنة وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره، وعمل ليلتئذ ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين، وأكرمهم الناس إكراماً زائداً‏.‏

وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة، وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواس، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس، وقد فتحوا جانباً منها، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم، وخرج الناس للفرجة على العادة وفرحوا، بقدومهم ونصرهم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله

أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الأعيان والدولة كلهم مشاة‏.‏

وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان‏.‏

خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي

لما عهد إليه كتب تقليده بذلك وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الإسلامية‏.‏

وتوفي فيها‏:‏

 الأمير عز الدين

أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق، واحد أمراء الطبلخانة بها، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدته، ودفن بقاسيون، توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الأول‏.‏

 الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبو الحسن

علي بن الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي، وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين بن الشيخ الفقيه، ولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة، فأسمعه أبوه الكثير واشتغل وتفقه، وكان عابداً عاملاً كثير الخشوع‏.‏

دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضاً أياماً، ثم توفي إلى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك، ودفن بباب بطحا، وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الأحاديث، وتودده إلى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤءته تغمده الله برحمته‏.‏

 الصدر ضياء الدين

أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيها بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضاً، توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون، وعمل عزاؤه بالرواحية‏.‏

 الأمير الكبير المرابط المجاهد

علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب القلعة بالشام كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح، قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان، وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل، فإنه التزم أن لا يسلمها إليهم ما دام بها عين تطرف، واقتدت بها بقية القلاع الشامية، وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة، وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلّي عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته، ثم حمل إلى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله‏.‏

 الأبرقوهي المسند المعمر المصري

هو الشيخ الجليل المسند الرحلة، بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب، الأبرقوهي الهمداني ثم المصري، ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع الكثير من الحديث على المشايخ المكثرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخاً حسناً لطيفاً مطيقاً، توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله‏.‏وفيها توفي‏:‏ ‏

 صاحب مكة

الشريف أبو نمى محمد بن الأمير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ أربعين سنة، وكان حليماً وقوراً ذا رأي وسياسة وعقل ومروءة‏.‏

وفيها‏:‏ ولد كاتبه إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه، والله سبحانه أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأربعاء ثاني صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس، وكانت من أضر الأماكن على أهل السواحل، فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس، ففتحت ولله الحمد نصف النهار، وقتلوا من أهلها قريباً من ألفين وأسروا قريباً من خمسمائة، وكان فتحها من تمام فتح السواحل، وأراح الله المسلمين من شر أهلها‏.‏

وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد إلى دمشق فأخبر بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد، ومعه كتاب من السلطان إلى قاضي القضاة ابن جماعة، فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه إلى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك، ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الأفرم وأهل الحل والعقد، وأعيان الناس ليودعوه، وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات، ولما وصل ابن جماعة إلى مصر أكرمه السلطان إكراماً زائداً‏.‏

وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الأول، ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الأول قاصدين بلاد مصر، وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضاً عن شرف الدين الناسخ، وهو أبو حفص عمر بن محمد بن حسن بن خواجا إمام الفارسي، توفي بها عن سبعين سنة، وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة، رحمه الله‏.‏

وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درساً مفيداً وحضر عنده جماعة من الأعيان، وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضاً عن ابن جماعة، وعلى الفارقي بالخطابة، وعلى الأمير ركن الدين بيبرس العلاوي بشد الدواوين وهنأهم الناس، وحضر نائب السلطنة والأعيان المقصورة لسماع الخطبة، وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية‏.‏

وفي جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الأمراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ويريدون تولية قبجق على الشام، وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدين الأفرم، وكذلك كمال الدين بن العطار‏.‏

فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أن هذا مفتعل، ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجاوراً بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة، يقال له اليعفوري، وآخر معه يقال له أحمد الغناري، وكانا معروفين بالشر والفضول، ووجد معهما مسودة هذا الكتاب، فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيراً عنيفاً، ثم وسطا بعد ذلك، وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب، وهو التاج المناديلي‏.‏

وفي أواخر جمادى الأولى انتقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري إلى نيابة القلعة عوضاً عن أرجواش‏.‏

 عجيبة من عجائب البحر

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه‏:‏ قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب‏.‏

وهذه صفتها‏:‏ لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمكة، ورقبتها مثل غلظ التليس المحشو تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل، طول كل واحد دون الشبر في عرض أصبعين‏.‏

وفي فمها ثمان وأربعون ضرساً وسن مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد، ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً‏.‏

وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر وزفر مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظه أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه إلى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبناً وأقاموه بين يديه والله أعلم‏.‏ ‏

وفي شهر رجب قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جداً، وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري، وشرع الناس في الجفل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف‏.‏

وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أبي الطيب نظر الخزانة عوضاً عن أمين الدين سليمان‏.‏

وفي يوم السبت ثالث شعبان باشر مشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام، وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة إلى هذا التاريخ‏.‏

وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الإسلام فيهم استدمر و بهادرأخي وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس‏.‏

وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبراً جيداً، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقاً وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الأسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى‏.‏

 أوائل وقعة شقحب

وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح، وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس‏.‏

ولكن الناس في جفل عظيم من بلاد حلب وحماه وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان‏.‏

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً، وخافوا خوفاً شديداً، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس‏:‏ لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة‏.‏

وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال‏.‏

وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماه فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء‏:‏ قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً‏.‏

وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه‏.‏

فقال الشيخ تقي الدين‏:‏ هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك‏.‏

وكان يقول للناس‏:‏ إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد‏.‏

ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعاً للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال‏.‏

وقال فريق‏:‏ إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان‏.‏

فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة‏.‏

وقيل إنهم وصلوا إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك شديداً ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هارباً فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وهاأنت هارب من البلد‏؟‏ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم‏.‏

وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات‏.‏

وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يميناً وشمالاً، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون‏:‏ رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا‏؟‏ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان‏.‏ ‏

وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريباً، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين‏:‏

‏(‏‏(‏عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب‏)‏‏)‏‏.‏

فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به‏.‏

ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس‏.‏

فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعاً إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض‏.‏

 صفة وقعة شقحب

أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة‏.‏

والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوماً مزعجاً هائلاً، وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلاً قليلاً حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة‏.‏ ‏

ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلاً ونهاراً وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر‏.‏

وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنؤه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر‏.‏

فجاء هو وإياه جميعاً فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ‏:‏ السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء‏:‏ قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً‏.‏

وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إنكم ملاقوا العدو غداً، والفطر أقوى لكم‏)‏‏)‏، فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري‏.‏

وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المقدمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة‏.‏

فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل‏.‏ ‏

وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة‏.‏

ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد، فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلّى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس‏.‏

وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة، وجعل مكانة الأمير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم وإلى الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الأمير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيّد بدمشق‏.‏

وطلب الصوفية من نائب دمشق الأفرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضاً عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوماً مشهوداً، وزينت القاهرة‏.‏

وفيها‏:‏ جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان جمهورها بالديار المصرية وتلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور، ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الأعصار، وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها‏.‏

وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي المالكي إمام محراب المالكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 ابن دقيق العيد

الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري، ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، سمع الكثير ورحل في طلب الحديث، وخرج وصنف فيه إسناداً ومتناً مصنفات عديدة، فريدة مفيدة، وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه ورحل إليه الطلبة ودرّس في أماكن كثيرة‏.‏

ثم ولي قضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية، وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه‏:‏ ما أظن بقي يخلق مثلك، وكان وقوراً قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة نزاهة، وله شعر رائق، توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصلّي عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله‏.‏

 الشيخ برهان الدين الإسكندري

إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم، سمع الحديث وكان ديناً فاضلاً، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة‏.‏

وبعد شهور بسواء كانت وفاة‏:‏

 الصدر جمال الدين بن العطار

كاتب الدرج منذ أربعين سنة، أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن فتيان الشيباني، كان من خيار الناس وأحسنهم تقية، ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون، وتأسف الناس عليه لإحسانه إليهم رحمه الله‏.‏

 الملك العادل زين الدين كتبغا

توفي بحماه نائباً عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الأضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، يقال لها العادلية، وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة، وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك، وكان من كبار الأمراء المنصورية‏.‏

وقد ملك البلاد بعد مقتل الأشرف خليل بن المنصور، ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق، ثم تحول إلى صرخد، وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون، فاستنابه بحماه حتى كانت وفاته كما ذكرنا، وكان من خيار الملوك وأعد لهم وأكثرهم براً، وكان من خيار الأمراء والنواب رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي صفر تولي الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الأموي وخلع عليه وباشره مباشرة مشكورة، وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها‏.‏

وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها‏.‏

ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الأمور، فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ منه الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك، وباشر الشيخ شرف الدين الإمامة والخطابة، وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته‏.‏

فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الأول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافاً إلى ما بيده من التدريس، فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر، وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنئونه، وحضر عنده القراء والمؤذنون، وصلى بالناس العصر وباشر الإمامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته، وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث‏.‏

وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة، فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وخلع عليه بطرحة، وفرح الناس به، وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل، وباشرها في مستهل جمادى الأولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الأوليتين، وأظنهما العذراوية والشامية الجوانية‏.‏

ووصل البريد في ثاني عشر جمادى الأولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الأمير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضاً عن عز الدين الحموي، توفي‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر، وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماه فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق، وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس، وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها وافترقوا فرقتين‏.‏

فرقة سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل‏.‏

فدقت البشائر بدمشق لذلك، ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما رواء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك، وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الأرمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين منصورين، ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم أمير سلاح إلى مصر‏.‏ ‏

وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية أخيه خربندا‏.‏

وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا، وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشرة أو ثالث عشرة، بالقرب من همدان، ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام، ويقال إنه مات مسموماً، وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون، ولقبوه الملك غياث الدين، وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد‏.‏

وحج في هذه السنة الأمير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته أربعون أميراً، وجميع أولاد الأمراء، وحج معهم وزير مصر الأمير عز الدين البغدادي، وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي‏.‏

وخرج سلار في أبهة عظيمة جداً، وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي، وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محي الدين بن الزكي، وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي، والصاحب ابن ميسر، والمحتسب وجماعة‏.‏

وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الإسلام وهو الأمير بدر الدين جنكي بن البابا، وفي صحبته نحو من عشرة، فحضروا الجمعة في الجامع، وتوجهوا إلى مصر، فأكرم وأعطى إمرة ألف، وكان مقامه ببلاد آمد، وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر، فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية‏.‏

 

 من الأعيان ملك التتر قازان‏.‏

 الشيخ القدورة العابد أبو إسحاق

أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد بن عبد الكريم الرقي الحنبلي، كان أصله من بلاد الشرق، ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وسمع شيئاً من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمئذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع‏.‏

وكان معظماً عند الخاص والعام، فصيح العبارة كثير العبادة، خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة، قوي التوجه من أفراد العالم، عارفاً بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وله مصنفات وخطب، وله شعر حسن‏.‏

توفي بمنزلة ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلّي عليه عقيب الجمعة ونقل إلى تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، وكانت جنازته حافلة رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي هذا الشهر توفي الأمير زين الدين قراجا أستاذ دار الأفرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر‏.‏

 والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام

عرف بابن الحبلى، كان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياماً حين ما كانت في أيدي الفرنج، في فكاك أسارى المسلمين، جزاه الله خيراً وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته‏.‏

 الخطيب ضياء الدين

أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحواً من ستين سنة، هو ووالده، ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني، وكان رجلاً جيداً حسن القراءة من كبار العدول، توفي ليلة الاثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا‏.‏

 الشيخ زين الدين الفارقي

عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فهر بن الحسن، أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية، ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل ودرس بعدة مدارس، وأفتى مدة طويلة، وكانت له همة وشهامة وصرامة، وكان يباشر الأوقاف جيداً، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان‏.‏

وقد باشرها سبعا وعشرين سنة من بعد النووي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الأموي تسعة أشهر، باشر به الخطابة قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعد العصر، وصلّي عليه ضحوة السبت، صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري، وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان‏.‏

ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخه دار الحديث ابن الوكيل، والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك‏.‏ ‏

 الأمير الكبير عز الدين أيبك الحموي

ناب بدمشق مدة، ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص، وتوفي بها يوم العشرين من ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام، وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمره في أيام نيابته‏.‏

 

 الوزير فتح الدين

أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني، كان شيخاً جليلاً أدبياً شاعراً مجوداً من بيت رياسة ووزارة، ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعاً مدة‏.‏

وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئاً من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيوخه، توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخرة، وأصلهم من قيسارية الشام‏.‏

وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيراً لنور الدين الشهيد، وكان من الكتاب المجيدين المتقنين، له كتابة جيدة محررة جداً، توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر بن صقر ولد بعكة قبل أخذ الفرنج لها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب وكانوا بها، وكان شاعراً مطبقاً له ديوان مشهور، وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك‏.‏

 ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ

وفيها‏:‏ توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن ضو بن درع القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك‏:‏ القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى، بينها وبين أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة‏.‏

واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النووي والشيخ تقي الدين الفزاري، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحواً من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة، فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة‏.‏

وكان يخطب جيداً، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الإقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها‏.‏

أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب، وعبد العزيز، ومحمد، وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ ‏(‏التنبيه‏)‏ وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل ‏(‏المنتخب في أصول الفقة‏)‏ قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياماً ومات، فوجد الوالد عليه وجداً كثيراً، ورثاه بأبيات كثيرة‏.‏

فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي، توفي والدي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة، في قرية مجيدل القرية، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيراً ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم‏.‏

ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا شقيقاً، وبنا رفيقاً شفوقاً، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر والله أعلم‏.‏

وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرازلي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له، ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت، وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالي مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار‏:‏ قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيراً من اللغز وله همة وقوة‏.‏

كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري‏.‏

وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى، أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة‏:‏

نأى النوم عن جفني فبت مسهداً * أخا كلف حلف الصبابة موجدا

سمير الثريا والنجوم مدلها * فمن ولهي خلت الكواكب ركدا

طريحاً على فرش الصبابة والأسى * فما ضركم لو كنتم لي عودا‏

تقلبني أيدي الغرام بلوعةٍ * أرى النار من تلقائها لي أبردا

ومزق صبري بعد جيران حاجزٍ * سعير غرام بات في القلب موقدا

فأمطرته دمعي لعل زفيره * يقل فزادته الدموع توقدا

فبت بليل نابغي ولا أرى * على النأي من بعد الأحبة صعدا

فيالك من ليل تباعد فجره * عليَّ إلى أن خلته قد تخلدا

غراماً ووجداً لا يحد أقله * بأهيف معسول المراشف أغيدا

له طلعة كالبدر زان جمالها * بطرة شعر حالك اللون أسودا

يهز من القدر الرشيق مثقفاً * ويشهر من جفنيه سيفاً مهندا

وفي ورد خديه وآس عذاره * وضوء ثناياه فنيت تجلدا

غدا كل حسنٍ دونه متقاصرا * وأضحى له رب الجمال موحدا

إذا مارنا واهتز عند لقائه * سباك، فلم تملك لساناً ولا يدا

وتسجد إجلالاً له وكرامةً * وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا

ورب أخي كفرٍ تأمل حسنه * فأسلم من إجلاله وتشهدا

وأنكر عيسى والصليب ومريماً * وأصبح يهوى بعد بغضٍ محمدا

أيا كعبة الحسن التي طاف حولها * فؤادي، أما للصد عندك من فدا‏؟‏

قنعت بطيفٍ من خيالك طارقٍ * وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا

فقد شفني شوقٌ تجاوز حده * وحسبك من شوقٍ تجاوز واعتدا

سألتك إلا ما مررت بحينا * بفضلك يا رب الملاحة والندا

لعل جفوني أن تغيض دموعها * ويسكن قلبٌ مذ هجرت فما هدا

غلطت بهجراني ولو كنت صابياً * لما صدك الواشون عني ولا العدا

وعدتها ثلاثة وعشرون بيتاً والله يغفر له ما صنع من الشعر‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة

استهلت والخليفة والسلطان والحكام والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول حضرت الدروس والوظائف التي أنشأها الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري بجامع الحاكم بعد أن جدده من خرابه بالزلزلة التي طرأت على ديار مصر في آخر سنة ثنتين وسبعمائة‏.‏

وجعل القضاة الأربعة هم المدرسين للمذاهب، وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي، وشيخ النحو أثير الدين أبو حيان، وشيخ القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي، وشيخ إفادة العلوم الشيخ علاء الدين القونوي‏.‏

وفي جمادى الآخرة باشر الأمير ركن الدين بيبرس الحجوبية مع الأمير سيف الدين بكتمر، وصارا حاجبين كبيرين في دمشق‏.‏ ‏(‏

وفي رجب أحضر إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ كان يلبس دلقاً كبيراً متسعاً جداً يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر الشيخ بتقطيع ذلك الدلق فتناهبه الناس من كل جانب وقطعوه حتى لم يدعوا فيه شيئاً وأمر بحلق رأسه، وكان ذا شعر، وقلم أظفاره وكانوا طوالاً جداً، وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة، واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها‏.‏

وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضاً عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة، وكتب عليه مكتوباً أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لاعلم له به‏.‏

وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مسجد النارنج وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً‏.‏

وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه بابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي، وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم‏.‏

وفي رجب جلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمدرسة العادلية الكبيرة وعملت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة، ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة قازان بسبب خرابها، وجاء المرسوم للشيخ برهان الدين الفزاري بوكالة بيت المال فلم يقبل، وللشيخ كمال الدين بن الزملكاني بنظر الخزانة فقبل وخلع عليه بطرحة، وحضر بها يوم الجمعة، وهاتان الوظيفتان كانتا مع نجم الدين بن أبي الطيب توفي إلى رحمة الله‏.‏

وفي شعبان سعى جماعة في تبطيل الوقيد ليلة النصف وأخذوا خطوط العلماء في ذلك، وتكلموا مع نائب السلطنة فلم يتفق ذلك، بل أشعلوا وصليت صلاة ليلة النصف أيضاً‏.‏

وفي خامس رمضان وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر بوكالة بيت المال، ولبس الخلعة سابع رمضان، وحضر عند ابن صصرى بالشباك الكمالي‏.‏

وفي سابع شوال عزل وزير مصر ناصر الدين بن الشيخي وقطع إقطاعه ورسم عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة، وتولى الوزارة سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء وخلع عليه‏.‏

وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة حكم قاضي القضاة جمال الدين الزواوي بقتل الشمس محمد بن جمال الدين بن عبد الرحمن الباجريقي، وإراقة دمه وإن تاب وإن أسلم، بعد إثبات محضر عليه يتضمن كفر الباجريقي المذكور، وكان ممن شهد فيه عليه الشيخ مجد الدين التونسي النحوي الشافعي، فهرب الباجريقي إلى بلاد الشرق فمكث بها مدة سنين ثم جاء بعد موت الحاكم المذكور كما سيأتي‏.‏ ‏

وفي ذي القعدة كان نائب السلطنة في الصيد فقصدهم في الليل طائفة من الأعراب فقاتلهم الأمراء، فقتلوا من العرب نحو النصف، وتوغل في العرب الأمير يقال له‏:‏ سيف الدين بهادرتمر احتقاراً بالعرب، فضربه واحد منهم برمح فقتله، فكرت الأمراء عليهم فقتلوا منهم خلقاً أيضاً، وأخذوا واحداً منهم زعموا أنه هو الذي قتله فصلب تحت القلعة، ودفن الأمير المذكور بقبر الست‏.‏

وفي ذي القعدة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب، وجماعة من العلماء في الفتاوى الصادرة من الشيخ علاء الدين بن العطار شيخ دار الحديث النورية والقوصية، وأنها مخالفة لمذهب الشافعي‏.‏

وفيها‏:‏ تخبيط كثير، فتوهم من ذلك وراح إلى الحنفي فحقن دمه وأبقاه على وظائفه، ثم بلغ ذلك نائب السلطنة فأنكر على المنكرين عليه، ورسم عليهم ثم اصطلحوا، ورسم نائب السلطنة أن لا تثار الفتن بين الفقهاء‏.‏

وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيداً منصوراً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ تاج الدين بن شمس الدين بن الرفاعي

شيخ الأحمدية بأم عبيدة من مدة مديدة، وعنه تكتب إجازات الفقراء، ودفن هناك عند سلفة بالبطائح‏.‏

 الصدر نجم الدين بن عمر

ابن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب، وكيل بيت المال، وناظر الخزانة، وقد ولي في وقت نظر المارستان النوري وغير ذلك، وكان مشكور السيرة رجلاً جيداً، وقد سمع الحديث وروى أيضاً‏.‏

توفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من جمادى الآخرة، ودفن بتربتهم بباب الصغير‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة

استهلت والخليفة المستكفي والسلطان الملك الناصر، والمباشرون هم المذكورون فيما مضى، وجاء الخبر أن جماعة من التتر كمنوا لجيش حلب وقتلوا منهم خلقاً من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك‏.‏

وفي مستهل المحرم حكم جلال الدين القزويني أخو قاضي القضاة إمام الدين نيابة عن ابن صصرى، وفي ثانيه خرج نائب السلطنة بمن بقي من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة‏.‏

فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقاً كثيراً منهم ومن فرقتهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش‏.‏

وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علماً وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسداً له وغماً‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى، قدم القاضي أمين الدين أبو بكر ابن القاضي وجيه الدين عبد العظيم بن الرفاقي المصري من القاهرة على نظر الدواوين بدمشق، عوضا عن عز الدين بن مبشر‏.‏

ما جرى للشيخ تقي الدين بن تيمية مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة

وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق، وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء، أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ‏:‏ هذا ما يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة، قولاً وفعلاً ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه‏.‏

فأرادوا أن يفعلوا شيئاً من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشيخ‏:‏ تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلاً جيداً، ويدلكه بالخل والأشنان، ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقاً، ولو فرض أن أحداً من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته؛ بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك‏.‏

فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال‏:‏ نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع‏.‏

فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه‏.‏

وصنف الشيخ جزءاً في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه أخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي العشر الأوسط من هذا الشهر خلع علي جلال الدين بن معبد، وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر مملوك بكتاش الحسامي بالأمرة ولبس التشاريف، وركبوا بها وسلموا لهم جبل الجرد والكسروان والبقاع‏.‏ ‏

وفي يوم الخميس ثالث رجب خرج الناس للاستسقاء إلى سطح المزة، ونصبوا هناك منبراً، وخرج نائب السلطنة، وجميع الناس من القضاة والعلماء والفقراء، وكان مشهداً هائلاً وخطبة عظيمة بليغة، فاستسقوا فلم يسقوا يومهم ذلك‏.‏

أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية

وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء، وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني‏.‏

فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاماً كثيراً، ولكن ساقيته لاطمت بحراً، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه‏.‏

ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظماً مكرّماً، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء، وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه‏.‏

وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق وعلمه وعمله، ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة، وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم، ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلاً بالرد على الجهمية من كتاب ‏(‏أفعال العباد‏)‏ للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء‏.‏

فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، فأمر النائب بإعادته تطييباً لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياماً ثم أطلقه‏.‏

ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه، ورتبت داره وحانوته، فسكنت الأمور‏.‏

وقد رأيت فصلاً من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات‏.‏ ‏

ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة، وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور، وهو من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي‏.‏

وفي الكتاب إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه، ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عن ما كان وقع للشيخ تقي الدين بن تيمية في أيام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة ابن الأفرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له‏:‏

أنا أكاتب السلطان في ذلك، وأصلح القضايا‏.‏فامتنع الشيخ من ذلك، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة‏.‏

فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم فيما بين باكٍ وحزين، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه‏.‏

فلا كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل في جامعها مجلساً عظيماً، ثم دخلا معاً إلى القاهرة والقلوب معه وبه متعلقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنهما دخلاها يوم الخميس‏.‏

فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام، وانتدب له الشمس ابن عدنان خصماً احتساباً، وادعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنه يقول‏:‏ إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت‏.‏

فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له‏:‏ أجب ما جئنا بك لتخطب‏.‏

فقال‏:‏ ومن الحاكم في ‏؟‏

فقيل له‏:‏ القاضي المالكي‏.‏

فقال له الشيخ‏:‏ كيف تحكم في وأنت خصمي ‏؟‏

فغضب غضباً شديداً، وانزعج وأقيم مرسماً عليه وحبس في برج أياماً، ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن‏.‏

وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقتة، والنفوس منه نافرة، وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادي بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر‏.‏

قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم‏.‏

وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك ببناء مئذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة، فرسم له بذلك، وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، فباع ذلك وشرع في بنائها وولي سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة فشق ذلك على الروافض‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من مصر بتولية القضاء لشمس الدين محمد بن إبراهيم بن داود الأذرعي الحنفي قضاء الحنفية، عوضاً عن شمس الدين بن الحسيني معزولاً وبتولية الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين الفزاري خطابة دمشق، عوضاً عن عمه الشيخ شرف الدين توفي إلى رحمة الله، وخلع عليهما بذلك وباشرا في يوم الجمعة ثالث عشر الشهر وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والأعيان‏.‏

ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة وآثر بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه، فبقي منصب الخطابة شاغراً ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب، ودخل عيد الأضحى وليس للناس خطيب، وقد كاتب نائب السلطنة في ذلك فجاء المرسوم بإلزامه بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ لعلمنا بأهليته وكفايته واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية، فباشرها القيسي جمال الدين بن الرحبي، سعى في البادرائية فأخذها وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني، فعزل الفزاري نفسه عن الخطابة ولزم بيته، فراسله نائب السلطنة بذلك، فصمم على العزل وأنه لا يعود إليها أبداً، وذكر أنه عجز عنها، فلما تحقق نائب السلطنة ذلك أعاد إليه مدرسته وكتب له بها توقيعاً بالعشر الأول من ذي الحجة، وخلع على شمس الدين بن الخطيري بنظر الخزانة عوضاً عن ابن الزملكاني‏.‏

وحج بالناس الأمير شرف الدين حسن بن حيدر‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ عيسى بن الشيخ سيف الدين الرحبي

ابن سابق بن الشيخ يونس القيسي ودفن بزاويتهم التي بالشرق الشمالي بدمشق غربي الوراقة والعزية يوم الثلاثاء سابع المحرم‏.‏

الملك الأوحد

 ابن الملك تقي الدين شادي بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، توفي بجبل الجرد في آخر نهار الأربعاء ثاني صفر، وله من العمر سبع وخمسون سنة فنقل إلى تربتهم بالسفح، وكان من خيار الملوك والدولة، معظماً عند الملوك والأمراء، وكان يحفظ القرآن وله معرفة بعلوم، ولديه فضائل‏.‏

 

 

 الصدر علاء الدين

علي بن معالي الأنصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الزريز، وكان فاضلاً بارعاً في صناعة الحساب انتفع به جماعة، توفي في آخر هذه السنة فجأة ودفن بقاسيون، وقد أخذت الحساب عن الحاضري عن علاء الدين الطيوري عنه‏.‏

 الخطيب شرف الدين أبو العباس

أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري، الشيخ الإمام العلامة أخو العلامة شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن، ولد سنة ثلاثين وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح وابن السخاوي وغيرهما، وتفقه وأفتى وناظر وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذاً في العربية واللغة والقراءات وإيراد الأحاديث النبوية، والتردد إلى المشايخ للقراءة عليهم‏.‏

وكان فصيح العبارة حلو المحاضرة، لا تمل مجالسته، وقد درّس بالطبية، وبالرباط الناصري مدة، ثم تحول عنه إلى خطابة جامع جراح، ثم انتقل إلى خطابة جامع دمشق بعد الفارقي في سنة ثلاث ولم يزل به حتى توفي يوم الأربعاء عشية التاسع من شوال، عن خمس وسبعين سنة، وصلّي عليه صبيحة يوم الخميس على باب الخطابة، ودفن عند أبيه وأخيه بباب الصغير رحمهم الله، وولي الخطابة ابن أخيه‏.‏

 شيخنا العلامة برهان الدين الحافظ الكبير الدمياطي

وهو الشيخ الإمام العالم الحافظ شيخ المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي، حامل لواء هذا الفن - أعني صناعة الحديث وعلم اللغة - في زمانه مع كبر السن والقدر، وعلو الإسناد وكثرة الرواية، وجودة الدراية، وحسن التآليف وانتشار التصانيف، وتردد الطلبة إليه من سائر الآفاق، ومولده في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة‏.‏

وقد كان أول سماعه في سنة ثنتين وثلاثين بالإسكندرية، سمع الكثير على المشايخ ورحل وطاف وحصل وجمع فأوعى، ولكن ما منع ولا بخل، بل بذل وصنّف ونشر العلم، وولي المناصب بالديار المصرية، وانتفع الناس به كثيراً، وجمع معجماً لمشايخه الذين لقيهم بالشام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر يزيدون على ألف وثلاثمائة شيخ، وهو مجلدان‏.‏

وله الأربعون المتباينة الإسناد وغيرها، وله كتاب في الصلاة الوسطى مفيد جداً، ومصنف في صيام ستة أيام من شوال أفاد فيه وأجاد، وجمع ما لم يسبق إليه، وله كتاب ‏(‏الذكر والتسبيح‏)‏ عقيب الصلوات، وكتاب ‏(‏التسلي في الاغتباط بثواب من يقدم من الإفراط‏)‏، وغير ذلك من الفوائد الحسان، ولم يزل في إسماع الحديث إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الإملاء غشي عليه فحمل إلى منزله فمات من ساعته يوم الأحد عاشر ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته حافلة جداً رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/46‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكرون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب من قلعة الجبل، وفي يوم الأربعاء جاء البريد بتولية الخطابة للشيخ شمس الدين إمام الكلاسة وذلك في ربيع الأول، وهنئ بذلك فأظهر التكره لذلك والضعف عنه، ولم يحصل له مباشرة لغيبة نائب السلطنة في الصيد، فلما حضر أذن له فباشر يوم الجمعة العشرين من الشهر، فأول صلاة صلاها الصبح يوم الجمعة، ثم خلع عليه وخطب بها يومئذ‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ربيع الأول باشر نيابة الحكم عن القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن بن حسن المعروف بالدمشقي عوضاً عن تاج الدين بن صالح بن تامر بن خان الجعبري، وكان معمراً قديم الهجرة كثير الفضائل، ديناً ورعاً، جيد المعاشرة، وكان قد ولي الحكم في سنة سبع وخمسين وستمائة، فلما ولي ابن صصرى كره نيابته‏.‏

وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة ومعه تجديد توقيع القاضي شمس الدين الأزرعي الحنفي، فظن الناس أنه بولاية القضاء لابن الحريري فذهبوا ليهنئوه مع البريد إلى الظاهرية، واجتمع الناس لقراءة التقليد على العادة فشرع الشيخ علم الدين البرزالي في قراءته فلما وصل إلى الاسم تبين له أنه ليس له وأنه للأزرعي، فبطل القارئ وقام الناس مع البريدي إلى الأزرعي، وحصلت كسرة وخمدة على الحريري والحضارين‏.‏

ووصل مع البريدي أيضاً كتاب فيه طلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى القاهرة، فتوهم من ذلك وخاف أصحابه عليه سبب انتسابه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتلطف به نائب السلطنة، ودارى عنه حتى أعفي من الحضور إلى مصر، ولله الحمد‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع جمادى الأولى دخل الشيخ ابن براق إلى دمشق وبصحبته مائة فقير كلهم محلقي ذقونهم موفري شواربهم عكس ما وردت به السنة، على رؤوسهم قرون لبابيد‏.‏

ومعه أجراس وكعاب وجواكين خشب، فنزلوا بالمنيبع وحضروا الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى الديار المصرية فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق فصاموا بها رمضان ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق، إذ لم يجدوا بدمشق قبولاً، وقد كان شيخهم براق رومياً من بعض قرى دوقات من أبناء الأربعين‏.‏

وقد كانت له منزلة عند قازان ومكانة، وذلك أنه سلط عليه نمراً فزجره فهرب منه وتركه، فحظي عنده وأعطاه في يوم واحد ثلاثين ألفاً ففرقها كلها فأحبه، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون لهم صلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان يزعم أن طريقه الذي سلكه إنما سلكه ليخرب على نفسه، ويرى أنه زي المسخرة، وأن هذا هو الذي يليق بالدنيا، والمقصود إنما هو الباطن والقلب وعمارة ذلك، ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله أعلم بالسرائر‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة حضر مدرس النجيبية بهاء الدين يوسف بن كمال الدين أحمد بن عبد العزيز العجمي الحلبي، عوضاً عن الشيخ ضياء الدين الطوسي توفي، وحضر عنده ابن صصرى وجماعة من الفضلاء، وفي هذه السنة صليت صلاة الرغائب في النصف بجامع دمشق بعد أن كانت قد أبطلها ابن تيمية منذ أربع سنين‏.‏

ولما كانت ليلة النصف حضر الحاجب ركن الدين بيبرس العلائي ومنع الناس من الوصول إلى الجامع ليلتئذ، وغلقت أبوابه فبات كثير من الناس في الطرقات وحصل للناس أذى كثير، وإنما أراد صيانة الجامع من اللغو والرفث والتخليط‏.‏

وفي سابع عشر رمضان حكم القاضي تقي الدين الحنبلي بحقن دم محمد الباجريقي، وأثبت عنده محضراً بعداوة ما بينه وبين الشهود الستة الذين شهدوا عليه عند المالكي، حين حكم بإراقة دمه، وممن شهد بهذه العداوة ناصر الدين بن عبد السلام وزين الدين بن الشريف عدنان، وقطب الدين بن شيخ السلامية وغيرهم‏.‏

وفيها‏:‏ باشر كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان ملك الأمراء عوضاً عن شهاب الدين الحنفي، وذلك في آخر رمضان، وخلع عليه بطيلسان وخلعة، وحضر بها دار العدل‏.‏

وفي ليلة عيد الفطر أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء فالقضاة الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين بن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطاً بذلك، منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة وأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمم‏.‏

وتكررت الرسل إليه ست مرات، فصمم على عدم الحضور، ولم يلتفت إليهم ولم يعدهم شيئاً، فطال عليهم المجلس فتفرقوا وانصرفوا غير مأجورين‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثاني شوال أذن نائب السلطنة الأفرم للقاضي جلال الدين القزويني أن يصلي بالناس ويخطب بجامع دمشق عوضاً عن الشيخ شمس الدين إمام الكلاسة توفي، فصلى الظهر يومئذ وخطب الجمعة واستمر بالإمامة والخطابة حتى وصل توقيعه بذلك من القاهرة، وفي مستهل ذي القعدة حضر نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان وشكرت خطبته‏.‏

وفي مستهل ذي القعدة كمل بناء الجامع الذي ابتناه وعمره الأمير جمال الدين نائب السلطنة الأفرم عند الرباط الناصري بالصالحية، ورتب فيه خطيباً يخطب يوم الجمعة وهو القاضي شمس الدين محمد بن العز الحنفي، وحضر نائب السلطنة والقضاة وشكرت خطبة الخطيب به، ومد الصاحب شهاب الدين الحنفي سماطاً بعد الصلاة بالجامع المذكور وهو الذي كان الساعي في عمارته، والمستحث عليها، فجاء في غاية الإتقان والحسن، تقبل الله منهم‏.‏

وفي ثالث ذي القعدة استناب ابن صصرى القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل الجعبري خطيب داريا في الحكم، عوضاً عن جلال الدين القزويني، بسبب اشتغاله بالخطابة عن الحكم، وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة قدم قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين الحنفي البصراوي إلى دمشق من القاهرة متولياً قضاء الحنفية عوضاً عن الأزرعي، مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية وخرج الناس لتلقيه وهنأوه‏.‏

وحكم بالنورية وقرئ تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية، من جامع بني أمية‏.‏

وفي ذي الحجة ولي الأمير عز الدين بن صبرة على البلاد القبلية والي الولاة، عوضاً عن الأمير جمال الدين آقوش الرستمي، بحكم ولايته شد الدواوين بدمشق، وجاء كتاب من السلطان بولاية وكالته للرئيس عز الدين بن حمزة القلانسي عوضاً عن ابن عمه شرف الدين، فكره ذلك‏.‏

وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشيخ تقي الدين من الحبس الذي يقال له‏:‏ الجب، فأرسل في طلبه فجيء به فقرئ على الناس فجعل يشكر الشيخ ويثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزهده، وقال‏:‏ ما رأيت مثله، وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله، وأنه لم يقبل من أحد شيئاً لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الإدرارات ولا غيرها، ولا تدنس بشيء من ذلك‏.‏

وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه طلب أخوا الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي وطال بينهم كلام كثير فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادّعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين ذي الحجة وصل على البريد من مصر نصر الدين محمد بن الشيخ فخر الدين بن أخي قاضي القضاة البصراوي، وزوج ابنته على الحسبة بدمشق عوضاً عن جمال الدين يوسف العجمي وخلع عليه بطيلسان ولبس الخلعة ودار بها في البلد في مستهل سنة سبع وسبعمائة، وفي هذه السنة عمر في حرم مكة بنحو مائة ألف‏.‏

وحج بالناس من الشام الأمير ركن الدين بيبرس المجنون‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 القاضي تاج الدين

صالح بن أحمد بن حامد بن علي الجعدي الشافعي نائب الحكم بدمشق ومفيد الناصرية‏.‏ ‏

كان ثقة ديناً عدلاً مرضياً زاهداً، حكم من سنة سبع وخمسين وستمائة، له فضائل وعلوم، وكان حسن الشكل والهيئة، توفي في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة، ودفن بالسفح وناب في الحكم بعده نجم الدين الدمشقي‏.‏

 الشيخ ضياء الدين الطوسي

أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي مدرس النجيبية شارح ‏(‏الحاوي‏)‏، ومختصر ‏(‏ابن الحاجب‏)‏ كان شيخاً فاضلاً بارعاً، وأعاد في الناصرية أيضاً، توفي يوم الأربعاء بعد مرجعه من الحمام تاسع عشر من جمادى الأولى، وصلّي عليه يوم الخميس ظاهر باب النصر، وحضر نائب السلطنة وجماعة من الأمراء والأعيان، ودفن بالصوفية، ودرّس بعده بالمدرسة بهاء الدين بن العجمي‏.‏

 الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن سعد الطيبي

المعروف بابن السوابلي، والسوابل الطاسات‏.‏

كان معظماً ببلاد الشرق جداً، كان تاجراً كبيراً توفي في هذا الشهر المذكور‏.‏

 الشيخ الجليل سيف الدين الرجيحي

ابن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية بمقامهم، صلّي عليه سادس رجب بالجامع ثم أعيد إلى داره التي سكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة فدفن بها، وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان والقضاة والأمراء، وكانت له حرمة كبيرة عند الدولة وعند طائفته، وكان ضخم الهامة جداً محلوق الشعر، وخلف أموالاً وأولاداً‏.‏

 الأمير فارس الدين الروادي

توفي في العشر الأخير من رمضان، وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام وهو يقول له‏:‏ أنت مغفور لك، أو نحو هذا، وهو من أمراء حسام الدين لاجين‏.‏

 الشيخ العابد خطيب دمشق شمس الدين

شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي إمام الكلاسة، كان شيخاً حسناً بهي المنظر كثير العبادة، عليه سكون ووقار، باشر إمامة الكلاسة قريباً من أربعين سنة ثم طلب إلى أن يكون خطيباً بدمشق بالجامع من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصف أحسن مباشرة‏.‏

وكان حسن الصوت طيب النغمة عارفاً بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعبادة، وقد سمع الحديث توفي فجأة بدار الخطابة يوم الأربعاء ثامن شوال عن ثنتين وستين سنة، وصلّي عليه بالجامع وقد امتلأ بالناس، ثم صلّي عليه بسوق الخيل وحضر نائب السلطنة والأمراء والعامة، وقد غلقت الأسواق ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر، وفي أوائل المحرم أظهر السلطان الملك الناصر الغضب على الأمير ابن سلار والجاشنكير وامتنع من العلامة وأغلق القلعة وتحصن فيها، ولزم الأميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعة من الأمراء وحوصرت القلعة وجرت خبطة عظيمة، وغلقت الأسواق‏.‏

ثم راسلوا السلطان فتأكدت الأمور وسكنت الشرور على دخن، وتنافر قلوب‏.‏

وقوي الأميران أكثر مما كانا قبل ذلك وركب السلطان ووقع الصلح على دخن‏.‏

وفي المحرم وقعت الحرب بين التتر وبين أهل كيلان، وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقاً إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل ملك التتر خربندا جيشاً كثيفاً ستين ألفاً من المقاتلة، أربعين ألفاً مع قطلوشاه وعشرين ألفاً مع جوبان، فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجاً من البحر ورموهم بالنفط فغرق كثير منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، فلم يفلت منهم إلا القليل‏.‏

وكان فيمن قتل أمير التتر الكبير قطلوشاه، فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان، ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا فكفى أمره عنهم، ثم قتل بعده بولاي‏.‏

ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه، وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين بن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن‏.‏ ‏

فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة‏.‏

ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم‏.‏

منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والأدلة، وأن أحداً من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير‏.‏

وبات الشيخ عند نائب السلطنة وجاء الأمير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه‏.‏

وكتب الشيخ كتاباً إلى الشام يتضمن ما وقع له من الأمور‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادّعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله فبعض الحاضرين قال‏:‏ ليس عليه في هذا شيء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب‏.‏

فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي‏:‏ قد قلت له ما يقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزماً ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبراً لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال ثم أرسلوا خلفه من الغد بريداً آخر فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء‏.‏

فقال له بعضهم‏:‏ إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس، فقال القاضي‏:‏ وفيه مصلحة له واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال‏:‏ ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال‏:‏ أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين الزواوي‏:‏ يكون في موضع يصلح لمثله فقيل له الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس‏.‏

فأرسل إلى حبس القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعز حين سجن، وأذن له أن يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه، واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس ويزورونه‏.‏ وتأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة‏.‏

ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلاً ونهاراً‏.‏

وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضاً عن يوسف العجمي توفي، وكان محتسباً بدمشق مدة فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر، وكان العجمي موصوفاً بالأمانة‏.‏

وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة وصين الجامع من الغوغاء والرعاع، وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضاً عن شمس الدين الخطيري مضافاً إلى ما بيده من الحسبة، ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد، وكان الناس لهم مدة لم يمطروا، فاستبشروا بذلك، ورخصت الأسعار، ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر، فصلوا بالجامع، وحضر نائب السلطنة فصلى بالمقصورة، وخرج المحمل، وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري‏.‏

وفيها‏:‏ حج القاضي شرف الدين البارزي من حماه‏.‏

وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية مبدؤه من الفرن تجاهها الذي يقال له فرن العوتية، ثم لطف الله وكف شرها وشررها‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد، وكان أول ما سكنا بدرب سعور الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء بالصاغة العتيقة عند الطوريين، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة آمين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير ركن الدين بيبرس

العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، كان رأس الجمدارية في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأمره الملك الظاهر‏.‏

كان من أكابر الدولة كثير الأموال، توفي بالرملة لأنه كان في قسم إقطاعه في نصف جمادى الأولى، ونقل إلى القدس فدفن به‏.‏

 الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي

شيخ المينبع، كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده، وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر‏:‏ نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين قد أخرج من الحبس، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلماً واستفتاء وغير ذلك‏.‏

وفي مستهل ربيع الأول أفرج عن الأمير نجم الدين خضر بن الملك الظاهر، فأخرج من البرج وسكن دار الأفرم بالقاهرة، ثم كانت وفاته في خامس رجب من هذه السنة‏.‏

وفي أواخر جمادى الأولى تولى نظر ديوان ملك الأمراء زين الدين الشريف بن عدنان عوضاً عن ابن الزملكاني، ثم أضيف إليه نظر الجامع أيضاً عوضاً عن ابن الخطيري، وتولى نجم الدين بن الدمشقي نظر الأيتام عوضاً عن نجم الدين بن هلال‏.‏

وفي رمضان عزل الصاحب أمين الدين الرفاقي عن نظر الدواوين بدمشق وسافر إلى مصر‏.‏

وفيها‏:‏ عزل كمال الدين بن الشريشي نفسه عن وكالة بيت المال، وصمم على الاستمرار على العزل وعرض عليه العود فلم يقبل، وحملت إليه الخلعة لما خلع على المباشرين فلم يلبسها، واستمر معزولاً إلى يوم عاشوراء من السنة الآتية، فجدد تقليده وخلع عليه في الدولة الجديدة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية قاصداً الحج، وذلك في السادس والعشرين من رمضان، وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم، ولما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر‏.‏

فلما توسطه كسر به فسلم من كان أمامه وقفز به الفرس فسلم، وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات منهم أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي الذي تحت الجسر، وبقي نائب الكرك الأمير جمال الدين آقوش خجلاً يتوهم أن يكون هذا يظنه السلطان عن قصد، وكان قد عمل للسلطان ضيافة عزم عليها أربعة عشر ألفاً فلم يقع الموقع لاشتغال السلطان بهم وما جرى له ولأصحابه ثم خلع على النائب وأذن له في الانصراف إلى مصر فسافر، واشتغل السلطان بتدبير المملكة في الكرك وحدها‏.‏

وكان يحضر دار العدل ويباشر الأمور بنفسه، وقدمت عليه زوجته من مصر، فذكرت له ما كانوا فيه من ضيق الحال وقلة النفقات‏.‏ ‏

ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بشيخ المنبجي عدو ابن تيمية

لما استقر الملك الناصر بالكرك وعزم على الإقامة بها كتب كتاباً إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فأثبت ذلك على القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنة في الثالث والعشرين من شوال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيان الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالملك المظفر، وركب إلى القلعة ومشوا بين يديه، وجلس على سرير الملكة بالقلعة‏.‏

ودقت البشائر وسارت البريدية بذلك إلى سائر البلدان‏.‏

وفي مستهل ذي القعدة وصل الأمير عز الدين البغدادي إلى دمشق، فاجتمع بنائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقصر الأبلق فقرأ عليهم كتاب الناصر إلى أهل مصر، وأنه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبته القضاة وامتنع الحنبلي من إثباته وقال‏:‏ ليس أحد يترك الملك مختاراً، ولولا أنه مضطهد ما تركه، فعزل وأقيم غيره، واستحلفهم للسلطان الملك المظفر، وكتبت العلامة على القلعة، وألقابه على محال المملكة‏.‏

ودقت البشائر وزينت البلد، ولما قرئ كتاب الملك الناصر على الأمراء بالقصر، وفيه‏:‏ إني قد صحبت الناس عشر سنين ثم اخترت المقام بالكرك، تباكى جماعة من الأمراء وبايعوا كالمكرهين، وتولى مكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأمير سيف الدين بن علي، ومكان ترعكي سيف الدين بنخاص، ومكان بنخاص الأمير جمال الدين آقوش الذي كان نائب الكرك‏.‏

وخطب للمظفر يوم الجمعة على المنابر بدمشق وغيرها، وحضر نائب السلطنة الأفرم والقضاة، وجاءت الخلع وتقليد نائب السلطنة في تاسع عشر ذي القعدة، وقرأ تقليد النائب كاتب السر القاضي محيي الدين بن فضل الله بالقصر بحضرة الأمراء، وعليهم الخلع كلهم‏.‏

وركب المظفر بالخلعة السوداء الخليفية، والعمامة المدورة والدولة بين يديه عليهم الخلع يوم السبت سابع ذي القعدة، والصاحب ضياء الدين النساي حامل تقليد السلطان من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود، وأوله‏:‏ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ويقال إنه خلع في القاهرة قريب ألف خلعة ومائتي خلعة، وكان يوماً مشهوداً، وفرح بنفسه أياماً يسيرة، وكذا شيخه المنبجي، ثم أزال الله عنهما نعمته سريعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/55‏)‏

وفيها‏:‏ خطب ابن جماعة بالقلعة وباشر الشيخ علاء الدين القونوي تدريس الشريفية‏.‏

 

 

من الأعيان‏:‏

 الشيخ الصالح عثمان الحلبوني

أصله من صعيد مصر، فأقام مدة بقرية حلبون وغيرها من تلك الناحية، ومكث مدة لا يأكل الخبز، واجتمع عليه جماعة من المريدين وتوفي بقرية برارة في أواخر المحرم، ودفن بها وحضر جنازته نائب الشام والقضاة وجماعة من الأعيان‏.‏

 الشيخ الصالح

أبو الحسن علي بن محمد بن كثير الحراني الحنبلي إمام مسجد عطية، ويعرف بابن المقري روى الحديث وكان فقيهاً بمدارس الحنابلة‏.‏

ولد بحران سنة أربع وثلاثين وستمائة، وتوفي بدمشق في العشر الأخير من رمضان، ودفن بسفح قاسيون، وتوفي قبله الشيخ زين الدين الحراني بغزة، وعمل عزاؤه بدمشق رحمهما الله‏.‏

 السيد الشريف زين الدين

أبو علي الحسن بن محمد بن عدنان الحسيني نقيب الأشراف، كان فاضلاً بارعاً فصيحاً متكلماً، يعرف طريقة الاعتزال ويباحث الإمامية، ويناظر على ذلك بحضرة القضاة وغيرهم، وقد باشر قبل وفاته بقليل نظر الجامع ونظر ديوان الأفرم، توفي يوم الخامس من ذي القعدة عن خمس وخمسين سنة، ودفن بتربتهم بباب الصغير‏.‏

 الشيخ الجليل ظهير الدين

أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل بن منعة البغدادي، شيخ الحرم الشريف بمكة بعد عمه عفيف الدين منصور بن منعة، وقد سمع الحديث وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم سار إلى مكة، بعد وفاة عمه، فتولى مشيخة الحرم إلى أن توفي‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة

استهلت وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار، وبالشام آقوش الأفرم، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية صحبة أمير مقدم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويتشغلون في سائر العلوم، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع‏.‏

وكان دخوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكنوا أحداً من أصحابه أن يخرج معه إلى الإسكندرية، فضاقت له الصدور، وذلك أنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي‏.‏

وكان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي، ويقول‏:‏ زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأبتاعه، فأرادوا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحداً من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقرباً منه وانتفاعاً به واشتغالاً عليه، وحنواً وكرامة له‏.‏

وجاء كتاب من أخيه يقول فيه‏:‏ إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمرواً يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله‏.‏

وكانت تلك كرامة في حقنا، وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندماً على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين‏.‏

وذلك شجى في حلوق الأعداء واتفق أنه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوب رئيساً من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه، ومفتٍ وشيخ وجماعة المجتهدين‏.‏

إلا من شذ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغار - محبة الشيخ وتعظيمه وقوبل كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سراً وجهراً وباطناً وظاهراً، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يعبر عنه، وذكر كلاماً كثيراً‏.‏

والمقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيماً ببرج متسع مليح نظيف له شباكان‏:‏ أحدهما إلى جهة البحر، والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء، ويقرؤون عليه وستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر‏.‏ ‏

وفي آخر ربيع الأول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدين عبدا لقادر بن الخطيري‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الإمام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد ابن مسعود بن زين الدين الحارثي، شيخ الحديث بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني‏.‏

وفي جمادى الأولى برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى البلاد السواحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفي أهلها، ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً‏.‏

وفي مستهل جمادى الآخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي، عوضاً عن التقي سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن الملك، وإنه إنما نزل عنه مضطهداً بذلك، ليس بمختار، وقد صدق فيما قال‏.‏

وفي عشرين جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، عوضاً عن الرستمي فلم يقبل، وبنظر الخزانة للأمير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسي، فباشرهما وعزل عنها البصراوي محتسب البلد‏.‏

وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء بالقاهرة بطلب الصوفية له، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة، وعزل عنها الشيخ كريم الدين الأيكي، لأنه عزل منها الشهود، فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرسم بصرفه عنهم، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الإسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب، مع جهله وقلة ورعه، فجعل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقاً‏.‏

وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها، وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصداً دمشق يطلب عوده إلى الملك، وقد مالأه جماعة من الأمراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين‏.‏

وتحدث الناس بسفر نائب دمشق الأفرم إلى القاهرة، وأن يكون مع الجم الغفير، فاضطرب الناس ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار، وتخبطت الأمور فاجتمع القضاة وكثير من الأمراء بالقصر وجددوا البيعة للملك المظفر‏.‏

وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم، وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد، وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان، فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد‏.‏ ‏

وقفز إليه الأميران ركن الدين بيبرس المجنون، وبيبرس العلمي، وركب إليه الأمير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين، ولحقه الأمير سيف الدين بهادرا يشير عليه بمثل ذلك، ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب وأخبر أن السلطان الملك الناصر قد عاد إلى الكرك، فسكن الناس ورجع نائب السلطنة إلى القصر، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم، واستقروا بها‏.‏

صفة عود الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك وزاول دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي

لما كان ثالث عشر شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق، فساق إليه الأميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك، وحضاه على المجيء إليها، واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من أتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف أرنون‏.‏

وهيئت بدمشق أبهة السلطنة والإقامات اللائقة به، والعصائب والكوسات، وركب من الكرك في أبهة عظيمة، وأرسل الأمان إلى الأفرم، ودعا له المؤذنون في المئذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان، وصبح بالدعاء له والسرور بذكره، ونودي في الناس بالأمان، وأن يفتحوا دكاكينهم ويأمنوا في أوطانهم، وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر ونام الناس في الأسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد‏.‏

وخرج القضاة، والأمراء والأعيان لتلقيه‏.‏

قال كاتبه ابن كثير‏:‏ وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة، وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه، كلما جاوز شقة طويت من ورائه، والجد على رأسه والأمراء السلحدارية عن يمينه وشماله، وبين يديه، والناس يدعون له ويضجون بذلك ضجيجاً عالياً، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

قال الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏ وكان على السلطان يومئذ عمامة بيضاء، وكارثة حمراء، وكان الذي حمل الغاشية على رأس السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم‏.‏

ولما وصل إلى القلعة نصب له الجسر ونزل إليها نائبها الأمير سيف الدين السنجري، فقبل الأرض بين يديه، فأشار إليه إني الآن لا أنزل ههنا، وسار بفرسه إلى جهة القصر الأبلق والأمراء بين يديه، فخطب له يوم الجمعة‏.‏ ‏

وفي بكرة يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر وصل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب دمشق مطيعاً للسلطان، فقبل الأرض بين يديه، فترجل له السلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النيابة على عادته، وفرح الناس بطاعة الأفرم له، ووصل إليه أيضاً الأمير سيف الدين قبجق نائب حماه، والأمير سيف الدين استدمر نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان، وخرج الناس لتلقيهما، وتلقاهما السلطان كما تلقى الأفرم‏.‏

وفي هذا اليوم رسم السلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقي الدين سليمان، وهنأه الناس وجاء إلى السلطان إلى القصر فسلم عليه ومضى إلى الجوزية فحكم بها ثلاثة أشهر وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه، وأكابر الأمراء والدولة وكثير من العامة‏.‏

وفي هذا اليوم وصل إلى السلطان الأمير قراسنقر المنصوري نائب حلب وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر، وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضاً‏.‏

ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان، وفي صحبته ابن صصرى وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر، والخطيب جلال الدين، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه وأقاليمه بنوا به وأمرائه، فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة‏.‏

وتلقاه الأمير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين، فأخبروه أن الملك المظفر قد خلع نفسه من المملكة، ثم تواتر قدوم الأمراء من مصر إلى السلطان وأخبروه بذلك، فطابت قلوب الشاميين واستبشروا بذلك ودقت البشائر وتأخر مجيء البريد بصورة الناصري‏.‏

واتفق في يوم هذا العيد أنه خرج نائب الخطيب الشيخ تقي الدين الجزري المعروف بالمقضاي في السناجق إلى المصلّى على العادة، واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي، فلما وصلوا إلى المصلّى وجدوا خطيب المصلّى قد شرع في الصلاة فنصبت السناجق في صحن المصلّى وصلى بينهما تقي الدين المقضاي ثم خطب، وكذلك فعل ابن حسان داخل المصلّى، فعقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ، ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم‏.‏

وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة، ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك، واستناب بمصر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد، وبالشام الأمير قراسنقر المنصوري، وذلك في العشرين من شوال، واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين، وباشر القاضي فخر الدين كاتب الممالك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي، توفي ليلة الجمعة عاشر شوال، وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار‏.‏

وقد روى شيئاً من الحديث، وصرف الأمير جمال الدين آقوش الأفرم إلى نيابة صرخد وقدم إلى دمشق الأمير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين، وأستاذ دار الاستادارية عوضاً عن سيف الدين أقجبا، وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة‏.‏

قال الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏ ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية معززاً مكرماً مبجلاً، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر وخرج مع الشيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حفل‏.‏

فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال‏:‏ أنا حاللت كل من أذاني‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه مما حصل له من الشكر والمدح من السلطان والحاضرين من الأمراء، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلاً، وذلك أنه كان إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كان حاضراً هذا المجلس‏.‏

ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائماً للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصرى‏.‏

ثم صدر الدين علي الحنفي وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة، زيادة على الحالية، فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني‏.‏

قال ابن القلانسي‏:‏ وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزملكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان‏:‏ ما تقولون يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله رداً عنيفاً، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكته بترفق وتؤدة وتوقير‏.

وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق في ذلك‏.‏وقال للسلطان‏:‏ حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك، فقال‏:‏ والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائباً لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على، ذلك وجرت فصول يطول ذكرها‏.‏

وقد كان السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته، وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم‏.‏

وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحداً منهم بسوء، وقال له‏:‏ إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له‏:‏ إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مراراً، فقال الشيخ‏:‏ من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح‏.‏

قال‏:‏ وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول‏:‏ ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم ونشره‏.‏

وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال‏:‏ قد جعلت الكل في حل، وبعث الشيخ كتاباً إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم التي له ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها‏.‏

وقال في هذا الكتاب‏:‏ والحق كل ماله في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم من يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة‏.‏

وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتى يظهر إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولاً، والمذكور مفعولاً، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وذكر كلاماً طويلاً يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/62‏)‏

وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الأمراء قريباً من عشرين أميراً، وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوران من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جداً، قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السوداء، وهم يسمونها السويداء، ووقعة السويداء، وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ حال وأضعفه، وهربت قيس خوفاً من الدولة، وبقيت القرى خالية والزروع سائبة‏.‏فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس القعدة قدم الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائباً على حلب فنزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين، ثم سافر إلى حلب بمن معه من الأمراء والأجناد، واجتاز الأمير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهباً إلى طرابلس نائباً والفتوحات السواحلية عوضاً عن الأمير سيف الدين استدمر، ووصل جماعة ممن كان قد سافر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة‏.‏

منهم‏:‏ قاضي قضاة الحنفية صدر الدين، ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما، فقمت وجلست يوماً إلى القاضي صدر الدين الحنفي بعد مجيئه من مصر فقال لي‏:‏ أتحب ابن تيمية‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، فقال لي وهو يضحك‏:‏ والله لقد أحببت شيئاً مليحاً، وذكر لي قريباً مما ذكر ابن القلانسي، لكن سياق ابن القلانسي أتم‏.‏

 مقتل الجاشنكيري

كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه، فلما خرج الأمير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجهاً إلى نيابة الشام عوضاً من الأفرم، فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لأجل الصيد، فوقع في وسطها الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه فأحيط بهم، وتفرق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن‏.‏

فلما كان بالخطارة تلقاهم استدمر فتسلمن منهم ورجعا إلى عسكرهم ودخل به، استدمر على السلطان فعاتبه ولامه، وكان آخر العهد به، قتل ودفن بالقرافة ولم ينفعه شيخه المنبجي ولا أمواله، بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنزل بالقصر، وكان في صحبته ابن صصرى، وابن الزملكاني، وابن القلانسي، وعلاء الدين بن غانم، وخلق من الأمراء المصريين والشاميين‏.‏ ‏

وكان الخطيب جلال الدين القزويني قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر، وخطب يوم الجمعة على عادته، فلما كان يوم الجمعة الأخرى وهو التاسع والعشرون من الشهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبلي عن إذن نائب السلطنة، وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والأكابر والأعيان، وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية، واستمر يباشر الإمامة والخطابة اثنين وأربعين يوماً، ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم من السنة الآتية‏.‏

وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشيرازي بالمدرسة الشامية البرانية، انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وذلك أن استدمر ساعده على ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده، وأمر الخطباء أولاً أن لا يذكروا في خطبتهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته، ولما وصل خطيب بلاد الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءاً شديداً وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة، فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السنة أهل البدعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولم يحج فيها أحد من أهل الشام بسبب تخبيط الدولة وكثرة الاختلاف‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الخطيب ناصر الدين أبو الهدى

أحمد بن الخطيب بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب العقيبة بداره بها، وقد باشر نظر الجامع الأموي وغير ذلك، توفي يوم الأربعاء النصف من المحرم، وصلّي عليه بجامع العقيبة، ودفن عند والده بباب الصغير، وقد روى الحديث وباشر الخطابة بعد والده بدر الدين وحضر عنده نائب السلطنة والقضاة والأعيان‏.‏

 قاضي الحنابلة بمصر

شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني، ولد بحران سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحية ثم أضيف إليه القضاء، وكان مشكور السيرة كثير المكارم توفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الأول دفن بالقرافة؛ وولي بعده سعد الدين الحارثي كما تقدم‏.‏

 

 الشيخ نجم الدين

أيوب بن سليمان بن مظفر المصري المعروف بمؤذن النجيبي، كان رئيس المؤذنين بجامع دمشق ونقيب الخطباء، وكان حسن الشكل رفيع الصوت، واستمر بذلك نحواً من خمسين سنة إلى أن توفي في مستهل جمادى الأولى‏.‏

وفي هذا الشهر توفي‏:‏

 الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري

تولى الوزارة بمصر مع شد الدواوين معاً، وباشر شد الدواوين بالشام مرات، وله دار وبستان بدمشق مشهوران به، وكان فيه نهضة وله همة عالية وأموال كثيرة، توفي بمصر‏.‏

 الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرسيمي

شاد الدواوين بدمشق، وكان قبل ذلك والي الولاة بالجهة القبلية بعد الشريفي، وكانت له سطوة توفي يوم الأحد تاسع عشر جمادى الأولى ودفن ضحوة بالقبة التي بناها تجاه قبة الشيخ رسلان، وكان فيه كفاية وخبرة‏.‏

وباشر بعده شد الدواوين أقبجا‏.‏

وفي شعبان أو في رجب توفي‏:‏

 التاج أحمد بن سعيد الدولة

وكان مسلمانياً وكان سفير الدولة، وكانت له مكانة عند الجاشنكير بسبب صحبته لنصر المنبجي شيخ الجاشنكير، وقد عرضت عليه الوزارة فلم يقبل، ولما توفي تولى وظيفته ابن أخته كريم الدين الكبير‏.‏

 الشيخ شهاب الدين

أحمد بن محمد بن أبي المكرم بن نصر الأصبهاني رئيس المؤذنين بالجامع الأموي، ولد سنة اثنتين وستمائة، وسمع الحديث وباشر وظيفة الأذان من سنة خمس وأربعين إلى أن توفي ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة، وكان رجلاً جيداً والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة

استهلت وخليفة الوقت المستكفي بالله أبو الربيع سليمان العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، والشيخ تقي الدين بن تيمية مقيم بمصر معظماً مكرماً، ونائب مصر الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، سوى الحنبلي فإنه سعد الدين الحارثي، والوزير بمصر فخر الدين الخليلي، وناظر الجيوش فخر الدين كاتب المماليك، ونائب الشام قراسنقر المنصوري، وقضاة دمشق هم هم، ونائب حلب قبجق، ونائب طرابلس الحاج بهادر والأفرم بصرخد‏.‏

وفي محرم منها باشر الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدرين وكيل بيت المال إمام مسجد هشام تدريس الشامية الجوانية، والشيخ صدر الدين سليمان بن موسى الكردي تدريس العذراوية، كلاهما انتزعها من ابن الوكيل بسبب إقامته بمصر، وكان قد وفد إلى المظفر فألزمه رواتب لانتمائه إلى المنبجي، ثم عاد بتوقيع سلطاني إلى مدرستيه، فأقام بهما شهراً أو سبعة وعشرين يوماً‏.‏

ثم استعادهما منه ورجعنا إلى المدرسين الأولين‏:‏ الأمين سالم، والصدر الكردي، ورجع الخطيب جلال الدين إلى الخطابة في سابع عشر المحرم، وعزل عنها البدر بن الحداد، وباشر الصاحب شمس الدين نظر الجامع والأسرى والأوقاف قاطبة يوم الاثنين، ثم خلع عليه وأضيف إليه شرف الدين بن صصرى في نظر الجامع، وكان ناظره مستقلاً به قبلهما‏.‏

وفي يوم عاشوراء قدم استدمر إلى دمشق متولياً نيابة حماه، وسافر إليها بعد سبعة أيام‏.‏

وفي المحرم باشر بدر الدين بن الحداد نظر المارستان عوضاً عن شمس الدين بن الخطيري، ووقعت منازعة بين صدر الدين بن المرحل وبين الصدر سليمان الكردي بسبب العذراوية، وكتبوا إلى الوكيل محضراً يتضمن من القبائح والفضائح والكفريات على ابن الوكيل، فبادر ابن الوكيل إلى القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، فحكم بإسلامه وحقن دمه، وحكم بإسقاط التعزير عنه والحكم بعدالته واستحقاقه إلى المناصب‏.‏

وكانت هذه هفوة من الحنبلي، ولكن خرجت عنه المدرستان العذراوية لسليمان الكردي، والشامية الجوانية للأمين سالم، ولم يبق معه سوى دار الحديث الأشرفية‏.‏

وفي ليلة الاثنين السابع من صفر وصل النجم محمد بن عثمان البصراوي من مصر متولياً الوزارة بالشام، ومعه توقيع بالحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، فباشرا المنصبين بالجامع، ونزلا بدرب سفون الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء، ثم انتقل الوزير إلى دار الأعسر عند باب البريد، واستمر نظر الخزانة لعز الدين أحمد بن القلانسي أخي الشيخ جلال الدين‏.‏

وفي مستهل ربيع الأول باشر القاضي جمال الدين الزرعي قضاء القضاة بمصر عوضاً عن ابن جماعة، وكان قد أخذ منه قبل ذلك في ذي الحجة مشيخة الشيوخ، وأعيدت إلى الكريم الأيكي، وأخذت منه الخطابة أيضاً‏.‏

وجاء البريد إلى الشام بطلب القاضي شمس الدين بن الحريري لقضاء الديار المصرية، فسار في العشرين من ربيع الأول وخرج معه جماعة لتوديعه، فلما قدم على السلطان أكرمه وعظمه وولاه قضاء الحنفية وتدريس الناصرية والصالحية، وجامع الحاكم، وعزل عن ذلك القاضي شمس الدين السروجي فمكث أياماً ثم مات‏.‏

وفي نصف هذا الشهر مسك من دمشق سبعة أمراء ومن القاهرة أربعة عشر أميراً‏.‏

وفي ربيع الآخر اهتم السلطان بطلب الأمير سيف الدين سلار فحضر هو بنفسه إليه فعاتبه، ثم استخلص منه أمواله وحواصله في مدة شهر، ثم قتل بعد ذلك فوجد معه من الأموال والحيوان والأملاك والأسلحة والمماليك والبغال والحمير أيضاً والرباع شيئاً كثيراً‏.‏

وأما الجواهر والذهب والفضة فشيء لا يحد ولا يوصف في كثرته، وحاصل الأمر أنه قد استأثر لنفسه طائفة كبيرة من بيت المال وأموال المسلمين تجري إليه، ويقال إنه كان مع ذلك كثير العطاء كريماً محبباً إلى الدولة والرعية والله أعلم‏.‏

وقد باشر نيابة السلطنة بمصر من سنة ثمان وتسعين إلى أن قتل يوم الأربعاء رابع عشرين هذا الشهر، ودفن بتربته ليلة الخميس بالقرافة، سامحه الله‏.‏

وفي ربيع الآخر درس القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي بالظاهرية عوضاً عن شمس الدين الحريري، وحضر عنده خاله الصدر علي قاضي قضاة الحنفية وبقية القضاة والأعيان‏.‏

وفي هذا الشهر كان الأمير سيف الدين استدمر قد قدم دمشق لبعض أشغاله، وكان له حنو على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فاستنجز له مرسوماً بنظر دار الحديث وتدريس العذراوية، فلم يباشر ذلك حتى سافر استدمر، فاتفق أنه وقعت له بعد يومين كائنة بدار ابن درباس الصالحية‏.‏

وذكر أنه وجد عنده شيء من المنكرات، واجتمع عليه جماعة من أهل الصالحية مع الحنابلة وغيرهم، وبلغ ذلك نائب السلطنة فكاتب فيه، فورد الجواب بعزله عن المناصب الدينية، فخرجت عنه دار الحديث الأشرفية وبقي بدمشق وليس بيده وظيفة لذلك‏.‏

فلما كان في آخر رمضان سافر إلى حلب فقرر له نائبها استدمر شيئاً على الجامع، ثم ولاه تدريساً هناك وأحسن إليه، وكان الأمير استدمر قد انتقل إلى نيابة حلب في جمادى الآخرة عوضاً عن سيف الدين قبجق توفي، وباشر مملكة حماه بعده الأمير عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بن محمود بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وانتقل جمال الدين آقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الحاج بهادر‏.‏ ‏

وفي يوم الخميس سادس عشر شعبان باشر الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضاً عن ابن الوكيل، وأخذ في التفسير والحديث والفقه، فذكر من ذلك دروساً حسنة، ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوماً حتى انتزعها منه كمال الدين بن الشريشي فباشرها يوم الأحد ثالث شهر رمضان‏.‏

وفي شعبان رسم قراسنقر نائب الشام بتوسعة المقصورة، فأخرت سدة المؤذنين إلى الركنين المؤخرين تحت قبة النسر، ومنعت الجنائز من دخول الجامع أياماً ثم أذن في دخولهم‏.‏

وفي خامس رمضان قدم فخر الدين إياس الذي كان نائباً في قلعة الروم إلى دمشق شاد الدواوين عوضاً عن زين الدين كتبغا المنصوري‏.‏

وفي شوال باشر الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي مشيخة الشيوخ بالديار المصرية عوضاً عن الشيخ كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الأيكي توفي، وكان له تحرير وهمة، وخلع على القونوي خلعة سنية، وحضر سعيد السعداء بها‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة خلع على الصاحب عز الدين القلانسي خلعة الوزراء بالشام عوضاً عن النجم البصراوي بحكم إقطاعه إمرة عشرة وإعراضه عن الوزارة‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة عاد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى تدريس الشامية البرانية‏.‏

وفي هذا اليوم لبس تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السلعوس خلعة النظر على الجامع الأموي، ومسك الأمير سيف الدين استدمر نائب حلب في ثاني ذي الحجة ودخل إلى مصر، وكذلك مسك نائب البيرة سيف الدين ضرغام بعده بليال‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس

أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، شارح ‏(‏الهداية‏)‏، كان بارعاً في علوم شتى، وولي الحكم بمصر مدة وعزل قبل موته بأيام، توفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر ودفن بقرب الشافعي وله اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام، أضحك فيها على نفسه، وقد رد عليه الشيخ تقي الدين في مجلدات، وأبطل حجته‏.‏

وفيها توفي سلار مقتولاً كما تقدم‏.‏

 الصاحب أمين الدولة

أبو بكر بن الوجيه عبد العظيم بن يوسف المعروف بابن الرقاقي، والحاج بهادر نائب طرابلس مات بها‏.‏ ‏

والأمير سيف الدين قبجق نائب حلب مات بها ودفن بتربته بحماه، ثاني جمادى الآخرة وكان شهماً شجاعاً، وقد ولي نيابة دمشق في أيام لاجين، ثم قفز إلى التتر خوفاً من لاجين، ثم جاء مع التتر‏.‏

وكان على يديه فرج المسلمين كما ذكرنا عام قازان، ثم تنقلت به الأحوال إلى أن مات بحلب، ثم وليها بعده استدمر ومات أيضاً في آخر السنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي

شيخ الشيوخ بمصر، كان له صلة بالأمراء، وقد عزل مرة عن المشيخة بابن جماعة، توفي ليلة السبت سابع شوال بخانقاه سعيد السعداء، وتولاها بعدة الشيخ علاء الدين القونوي كما تقدم‏.‏

 الفقيه عز الدين عبد الجليل

النمراوي الشافعي، كان فاضلاً بارعاً، وقد صحب سلار نائب مصر وارتفع في الدنيا بسببه‏.‏

ابن الرفعة

هو الإمام العلامة نجم الدين أحمد بن محمد شارح ‏(‏التنبيه‏)‏، وله غير ذلك، وكان فقيهاً فاضلاً وإماماً في علوم كثيرة رحمهم الله‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها غير الوزير بمصر فإنه عزل وتولى سيف الدين بكتمر وزيراً، والنجم البصراوي عزل أيضاً بعز الدين القلانسي، وقد انتقل الأفرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تيمية على السلطان بذلك، ونائب حماه الملك المؤيد عماد الدين على قاعدة أسلافه، وقد مات نائب حلب استدمر وهي شاغرة عن نائب فيها، وأرغون الدوادار الناصري قد وصل إلى دمشق لتسفير قراسنقر منها إلى حلب وإحضار سيف الدين كراي إلى نيابة دمشق‏.‏ ‏

وغالب العساكر بحلب والأعراب محدقة بأطراف البلاد، فخرج قراسنقر المنصوري من دمشق في ثالث المحرم في جميع حواصله وحاشيته وأتباعه، وخرج الجيش لتوديعه، وسار معه أرغون لتقريره بحلب وجاء المرسوم إلى نائب القلعة الأمير سيف الدين بهادر السنجري أن يتكلم في أمور دمشق إلى أن يأتيه نائب، فحضر عنده الوزير والموقعون وباشر النيابة‏.‏

وقويت شوكته وقويت شوكة الوزير إلى أن ولي ولايات عديدة منها لابن أخيه عماد الدين نظر الأسرار، واستمر في يده، وقدم نائب السلطنة سيف الدين كراي المنصوري إلى دمشق نائباً عليها‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي عشرين من المحرم خرج الناس لتلقيه وأوقدوا الشموع، وأعيدت مقصورة الخطابة إلى مكانها رابع عشرين المحرم، وانفرج الناس ولبس النجم البصراوي خلعة الإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر على قاعدة الوزراء بالطرحة، وركب مع المقدمين الكبار وهو أمير عشرة بأقطاع يضاهي إقطاع كبر الطبلخانات‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول جلس القضاة الأربعة بالجامع لإنفاذ أمر الشهود بسبب تزوير وقع من بعضهم، فاطلع عليه نائب السلطنة فغضب وأمر بذلك، فلم يكن منه كبير شيء، ولم يتغير حال‏.‏

وفي هذا اليوم ولي الشريف نقيب الأشراف أمين الدين جعفر بن محمد بن محيي الدين عدنان نظر الدواودين عوضاً عن شهاب الدين الواسطي، وأعيد تقي الدين بن الزكي إلى مشيخة الشيوخ‏.‏

وفيه ولي ابن جماعة تدريس الناصرية بالقاهرة، وضياء الدين النسائي تدريس الشافعي، والميعاد العام بجامع طولون، ونظر الأحباس أيضاً‏.‏

وولي الوزارة بمصر أمين الملك أبو سعيد عوضاً عن سيف الدين بكتمر الحاجب في ربيع الآخر‏.‏

وفي هذا الشهر احتيط على الوزير عز الدين ابن القلانسي بدمشق، ورسم عليه مدة شهرين، وكان نائب السلطنة كثير الحنق عليه، ثم أفرج عنه وأعيد بدر الدين بن جماعة إلى الحكم بديار مصر في حادي عشر ربيع الآخر، مع تدريس دار الحديث الكاملية، وجامع طولون والصالحية والناصرية، وجعل له إقبال كثير من السلطان‏.‏

واستقر جمال الدين الزرعي على قضاء العسكر وتدريس جامع الحاكم، ورسم له أن يجلس مع القضاة بين الحنفي والحنبلي بدار العدل عند السلطان‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى أشهد القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى على نفسه بالحكم ببطلان البيع في الملك الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة المنصوري في الرمثا والثوجة والفصالية لكونه بدون ثمن المثل، ونفذه بقية الحكام‏.‏

وأحضر ابن القلانسي إلى دار السعادة وادّعى عليه بريع ذلك، ورسم عليه بها، ثم حكم قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي بصحة هذا البيع وبنقض ما حكم به الدمشقي، ثم نفذ بقية الحكام ما حكم به الحنبلي‏.‏

وفي هذا الشهر قرر على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس لكل فارس خمسمائة درهم، وضربت على الأملاك والأوقاف، فتألم الناس من ذلك تألماً عظيماً وسعى إلى الخطيب جلال الدين فسعى إلى القضاة واجتمع الناس بكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر، واحتفلوا بالاجتماع، وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفية، ووقفوا في الموكب فلما رآهم كراي تغيظ عليهم وشتم القاضي والخطيب، وضرب مجد الدين التونسي ورسم عليهم ثم أطلقهم بضمان وكفالة، فتألم الناس من ذلك كثيراً، فلم يمهله الله إلا عشرة أيام فجاءة الأمر فجأة فعزل وحبس، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، ويقال إن الشيخ تقي الدين بلغه ذلك الخبر عن أهل الشام فأخبر السلطان بذلك فبعث من فوره فمسكه شر مسكة، وصفة مسكه أن تقدم الأمير سيف الدين أرغون الدوادار فنزل في القصر، فلما كان يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى خلع على الأمير سيف الدين كراي خلعة سنية، فلبسها وقبل العتبة، وحضر الموكب ومد السماط، فقيد بحضرة الأمراء وحمل على البريد إلى الكرك صحبة غرلو العادلي، وبيبرس المجنون‏.‏

وخرج عز الدين القلانسي من الترسيم من دار السعادة، فصلى في الجامع الظهر ثم عاد إلى داره وقد أوقدت له الشموع ودعا له الناس، ثم رجع إلى دار الحديث الأشرفية فجلس فيها نحواً من عشرين يوماً، حتى قدم الأمير جمال الدين نائب الكرك‏.‏

وفي هذا الشهر مسك نائب صفت الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وعوض عنه بالكرك بيبرس الدوادار المنصوري، ومسك نائب غزة، وعوض عنه بالجاولي، فاجتمع في حبس الكرك استدمر نائب حلب، وبكتمر نائب مصر، وكراي نائب دمشق، وقطلوبك نائب صفت، وقلطنمز نائب غزة وبنحاص‏.‏

وقدم جمال الدين آقوش المنصوري الذي كان نائب الكرك على نيابة دمشق إليها في يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الآخر، وتلقاه الناس وأشعلت له الشموع، وفي صحبته الخطيري لتقريره في النيابة، وقد باشر نيابة الكرك من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة، وخرج عز الدين بن القلانسي لتلقي النائب‏.‏

وقريء يوم الجمعة كتاب السلطان على السدة بحضرة النائب والقضاة والأعيان، وفيه الأمر بالإحسان إلى الرعية وإطلاق البواقي التي كانت قد فرضت عليهم أيام كراي، فكثرت الأدعية للسلطان وفرح الناس‏.‏

وفي يوم الاثنين التاسع عشر خلع على الأمير سيف الدين بهادراص بنيابة صفت فقبل العتبة وسار إليها يوم الثلاثاء‏.‏ ‏

وفيه لبس الصدر بدر الدين بن أبي الفوارس خلعة نظر الدواوين بدمشق، مشاركاً للشريف ابن عدنان وبعد ذلك بيومين قدم تقليد عز الدين بن القلانسي وكالة السلطان على ما كان عليه، وأنه أعفي عن الوزارة لكراهته لذلك‏.‏

وفي رجب باشر ابن السلعوس نظر الأوقاف عوضاً عن شمس الدين عدنان‏.‏

وفي شعبان ركب نائب السلطنة بنفسه إلى أبواب السجون فأطلق المحبوسين بنفسه، فتضاعفت له الأدعية في الأسواق وغيرها‏.‏

وفي هذا اليوم قدم الصاحب عز الدين بن القلانسي من مصر فاجتمع بالنائب وخلع عليه ومعه كتاب يتضمن احترامه وإكرامه واستمراره على وكالة السلطان، ونظر الخاص والإنكار لما ثبت عليه بدمشق، وأن السلطان لم يعلم بذلك ولا وكل فيه، وكان المساعد له على ذلك كريم الدين ناظر الخاص السلطاني، والأمير سيف الدين أرغون الدوادار‏.‏

وفي شعبان منع ابن صصرى الشهود والعقاد من جهته، وامتنع غيرهم أيضاً وردهم المالكي‏.‏

وفي رمضان جاء البريد بتولية زين الدين كتبغا المنصوري حجوبية الحجاب، والأمير بدر الدين ملتوبات القرماني شد الدواوين عوضاً عن طوغان، وخلع عليهما معاً‏.‏

وفيها‏:‏ ركب بهادر السنجري نائب قلعة دمشق على البريد إلى مصر وتولاها سيف الدين بلبان البدري، ثم عاد السنجري في آخر النهار على نيابة البيرة، فسار إليها وجاء الخبر بأنه قد احتيط على جماعة من قصاد المسلمين ببغداد، فقتل منهم ابن العقاب وابن البدر، وخلص عبيدة وجاء سالماً‏.‏

وخرج المحمل في شوال وأمير الحاج الأمير علاء الدين طيبغا أخو بهادراص‏.‏

وفي آخر ذي القعدة جاء الخبر بأن الأمير قراسنقر رجع من طريق الحجاز بعد أن وصل إلى بركة زيرا، وأنه لحق بمهنا بن عيسى فاستجار به خائفاً على نفسه ومعه جماعة من خواصه، ثم سار من هناك إلى التتر بعد ذلك كله، وصحبه الأفرم والزردكش‏.‏

وفي العشرين من ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين أرغون في خمسة آلاف إلى دمشق وتوجهوا إلى ناحية حمص، وتلك النواحي‏.‏

وفي سابع ذي الحجة وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر مستمراً على وكالته ومع توقيع بقضاء العسكر الشامي، وخلع عليه في يوم عرفة‏.‏

وفي هذا اليوم وصلت ثلاثة آلاف عليهم سيف الدين ملي من الديار المصرية فتوجهوا وراء أصحابهم إلى البلاد الشمالية‏.‏

وفي آخر الشهر وصل شهاب الدين الكاشنغري من القاهرة ومعه توقيع بمشيخة الشيوخ، فنزل في الخانقاه وباشرها بحضرة القضاة والأعيان، وانفصل ابن الزكي عنها‏.‏

وفيه باشر الصدر علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير كتابة السر بمصر، وعزل عنها شرف الدين بن فضل الله، إلى كتابة السر بدمشق عوضاً عن أخيه محيي الدين، واستمر محيي الدين على كتابة الدست بمعلوم أيضاً والله أعلم‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ الرئيس بدر الدين

محمد بن رئيس الأطباء أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري، من سلالة سعد بن معاذ السويدي، من سويداء حوران، سمع الحديث وبرع في الطب، توفي في ربيع الأول ببستانه بقرب الشبلية، ودفن في تربة له في قبة فيها عن ستين سنة‏.‏

 الشيخ شعبان بن أبي بكر بن عمر الأربلي

شيخ الحلبية بجامع بني أمية، كان صالحاً مباركاً فيه خير كثير، كان كثير العبادة وإيجاد الراحة للفقراء، وكانت جنازته حافلة جداً، صلّي عليه بالجامع بعد ظهر يوم السبت تاسع عشرين رجب ودفن بالصوفية وله سبع وثمانون سنة، وروى شيئاً من الحديث، وخرجت له مشيخة حضرها الأكابر رحمه الله‏.‏

 الشيخ ناصر الدين يحيى بن إبراهيم

ابن محمد بن عبد العزيز العثماني، خادم المصحف العثماني نحواً من ثلاثين سنة، وصلّي عليه بعد الجمعة سابع رمضان ودفن بالصوفية، وكان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد ووصله منه افتقاد، وبلغ خمساً وستين سنة‏.‏

الشيخ الصالح الجليل القدوة

 أبو عبد الله محمد بن الشيخ القدوة إبراهيم بن الشيخ عبد الله الأموي، توفي في العشرين من رمضان بسفح قاسيون، وحضر الأمراء والقضاة والصدور جنازته وصلّي عليه بالجامع المظفري، ثم دفن عند والده وغلق يومئذ سوق الصالحية له، وكانت له وجاهة عند الناس وشفاعة مقبولة، وكان عنده فضيلة وفيه تودد، وجمع أجزاء في أخبار جيدة، وسمع الحديث وقارب السبعين رحمه الله‏.‏

 ابن الوحيد الكاتب

هو الصدر شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف الزرعي المعروف بابن الوحيد، كان موقعاً بالقاهرة وله معرفة بالإنشاء وبلغ الغاية في الكتابة في زمانه، وانتفع الناس به، وكان فاضلاً مقداماً شجاعاً، توفي بالمرستان المنصوري بمصر سادس عشر شوال‏.‏

 الأمير ناصر الدين

محمد بن عماد الدين حسن بن النسائي أحد أمراء الطبلخانات، وهو حاكم البندق، ولي ذلك بعد سيف دين بلبان، توفي في العشرين الأخر من رمضان‏.‏

 التميمي الداري

توفي يوم عيد الفطر ودفن بالقرافة الصغرى، وقد ولي الوزارة بمصر، وكان خبيراً كافياً، مات معزولاً، وقد سمع الحديث وسمع عليه بعض الطلبة‏.‏

وفي ذي القعدة جاء الخبر إلى دمشق بوفاة الأمير الكبير استدمر وبنخاص في السجن بقلعة الكرك‏.‏

القاضي الإمام العلامة الحافظ

 سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي الحاكم بمصر، سمع الحديث وجمع وخرج وصنف، وكانت له يد طولى في هذه الصناعة والأسانيد والمتون، وشرح قطعة من سنن أبي داود فأجاد وأفاد، وحسن الإسناد رحمه الله تعالى، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي خامس المحرم توجه الأمير عز الدين ازدمر الزردكاش وأميران معه إلى الأفرم، وساروا بأجمعهم حتى لحقوا بقراسنقر وهو عند مهنا، وكاتبوا السلطان وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وجاء البريد في صفر بالاحتياط على حواصل الأفرم وقراسنقر والزردكاش وجميع ما يتعلق بهم، وقطع خبز مهنا وجعل مكانه في الإمرة أخاه محمداً‏.‏ ‏

وعادت العساكر صحبة أرغون من البلاد الشمالية، وقد حصل عند الناس من قراسنقر وأصحابه هم وغم وحزن، وقدم سودي من مصر على نيابة حلب فاجتاز بدمشق فخرج الناس والجيش لتلقيه، وحضر السماط وقرئ المنشور بطلب جمال الدين نائب دمشق إلى مصر، فركب من ساعته على البريد إلى مصر وتكلم في نيابته لغيبة لاجين‏.‏

وطلب في هذا اليوم قطب الدين موسى شيخ السلامية ناظر الجيش إلى مصر، فركب في آخر النهار إليها فتولى بها نظر الجيش عوضاً عن فخر الدين الكاتب كاتب المماليك بحكم عزله ومصادرته وأخذ أمواله الكثيرة منه، في عاشر ربيع الأول‏.‏

وفي الحادي عشر منه باشر الحكم للحنابلة بمصر القاضي تقي الدين أحمد بن المعز عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي، وهو ابن بنت الشيخ شمس الدين بن العماد أول قضاة الحنابلة، وقدم الأمير سيف الدين تمر على نيابة طرابلس عوضاً عن الأفرم بحكم هربه إلى التتر‏.‏

وفي ربيع الآخر مسك بيبرس العلائي نائب حمص وبيبرس المجنون وطوغان وجماعة آخرون من الأمراء ستة في نهار واحد وسيروا إلى الكرك معتقلين بها‏.‏

وفيه‏:‏ مسك نائب مصر الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وولي بعده أرغون الدوادار، ومسك نائب الشام جمال الدين نائب الكرك وشمس الدين سنقر الكمالي حاجب الحجاب بمصر، وخمسة أمراء آخرون وحبسوا كلهم بقلعة الكرك، في برج هناك‏.‏

وفيه‏:‏ وقع حريق داخل باب السلامية احترق فيه دور كثيرة منها دار ابن أبي الفوارس ودار الشريف القباني‏.‏

 نيابة تنكز على الشام

في يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر دخل الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائباً على دمشق بعد مسك نائب الكرك، ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم الحاج أرقطاي على حيز بيبرس العلائي، وخرج الناس لتلقيه وفرحوا به كثيراً، ونزل بدار السعادة ووقع عند قدومه مصر فرح عظيم، وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب‏.‏

وحضر يوم الجمعة الخطبة بالمقصورة وأشعلت له الشموع في طريقه، وجاء توقيع لابن صصرى بإعادة قضاء العسكر إليه، وأن ينظر الأوقاف فلا يشاركه أحد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية‏.‏

وجاء مرسوم لشمس الدين أبي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن ابن شيخ السلامية بحكم إقامته بمصر، ثم بعد أيام وصل الصدر معين الدين هبة الله بن خشيش ناظر الجيش وجعل ابن حميد بوظيفة ابن البدر، وسافر ابن البدر على نظر جيش طرابلس، وتولى أرغون نيابة مصر وعاد فخر الدين كاتب المماليك إلى وظيفته مع استمرار قطب الدين بن شيخ السلامية مباشراً معه‏.‏ ‏

وفي هذا الشهر قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيراً بليغاً عنيفاً وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادي عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة‏.‏

ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه‏.‏

وفيها‏:‏ قدم بهادراص من نيابة صعد إلى دمشق وهنأه الناس‏.‏

وفيها‏:‏ قدم كتاب من السلطان إلى دمشق أن لا يولي أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل، فقرأه ابن الزملكاني على السدة وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله‏.‏

وفي رجب وشعبان حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجيء إلى الشام، فانزعج الناس من ذلك وخافوا، وتحول كثير منهم إلى البلد، وازدحموا في الأبواب، وذلك في شهر رمضان وكثرت الأراجيف بأنهم قد وصلوا إلى الرحبة، وكذلك جرى واشتهر بأن ذلك بإشارة قراسنقر وذويه فالله أعلم‏.‏

وفي رمضان جاء كتاب السلطان أن من قتل لا يجني أحد عليه، بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف، فقرأه ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة ابن تنكز وسببه ابن تيمية، هو أمر بذلك وبالكتاب الأول قبله‏.‏

وفي أول رمضان وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يوماً وقاتلهم نائبها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالاً عظيماً، ومنعهم منها فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خدمة السلطان خربندا ويهدوا له هدية ويطلبون منه العفو، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدوا له خمسة رؤوس خيل، وعشرة أباليج سكر، فقبل ذلك ورجع إلى بلاده‏.‏

وكانت بلاد حلب وحماه وحمص قد أجلوا منها وخرب أكثرها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودقت البشائر وتركت الأئمة القنوت، وخطب الخطيب يوم العيد وذكر الناس بهذه النعمة‏.‏

وكان سبب رجوع التتر قلة العلف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانهم بالرجوع الرشيد وجوبان‏.‏

وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين لاجين الصغير، الذي كان والي البر وقدمت العساكر المصرية أرسالاً، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق ثالث عشرين شوال، واحتفل الناس لدخوله ونزل القلعة وزينت البلد وضربت البشائر، ثم انتقل بعد ليلتئذ إلى القصر، وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة، وخلع على الخطيب‏.‏

وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر، وقدم صحبة السلطان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة، وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من السناء أيضاً لرؤيته‏.‏

وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياماً، ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميراً من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة‏.‏

ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازماً لاشتغال الناس في سائر العلوم، ونشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة، والاجتهاد في الأحكام الشرعية ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف‏.‏

فلما سار السلطان إلى الحج فرق العساكر والجيوش بالشام وترك أرغون بدمشق‏.‏

وفي يوم الجمعة لبس الشيخ كمال الدين الزملكاني خلعة وكالة بيت المال عوضاً عن ابن الشريشي، وحضر بها الشباك وتكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالاً كثيرة وصادر وضرب بالمقارع وأهان جماعة من الرؤساء، منهم ابن فضل الله محيي الدين‏.‏

وفيه عين شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية بالمقدس عوضاً عن نجم الدين داود الكردي توفي، وقد كان مدرساً بها من نحو ثلاثين سنة، فسافر ابن جهبل إلى القدس بعد عيد الأضحى‏.‏

وفيها‏:‏ مات ملك القفجاق المسمى طغطاي خان، وكان له في الملك ثلاث وعشرون سنة، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان شهماً شجاعاً على دين التتر في عبادة الأصنام والكواكب، يعظم المجسمة والحكماء والأطباء ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف‏.‏

كان جيشه هائلاً لا يجسر أحد على قتاله لكثرة جيشه وقوتهم وعددهم وعددهم، ويقال‏:‏ إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحداً فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسين ألفاً، توفي في رمضان منها وقام في الملك من بعده ابن أخيه أزبك خان، وكان مسلماً فأظهر دين الإسلام ببلاده، وقتل خلقاً من أمراء الكفرة وعلت الشرائع المحمدية على سائر الشرائع هناك ولله الحمد والمنة على الإسلام والسنة‏.‏

 

 

 من الأعيان‏:‏

 الملك المنصور صاحب ماردين

وهو نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق الأرتقي أصحاب ماردين من عدة سنين، كان شيخاً حسناً مهيباً كامل الخلقة بديناً سميناً إذا ركب يكون خلفه محفة، خوفاً من أن يمسه لغوب فيركب فيها‏.‏

توفي في تاسع ربيع الآخر ودفن بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريباً من عشرين سنة، وقام من بعده في الملك ولده العادل فمكث سبعة عشر يوماً، ثم ملك أخوه المنصور‏.‏

وفيها مات‏:‏

 الأمير سيف الدين قطلوبك الشيخي

كان من أمراء دمشق الكبار

 الشيخ الصالح

نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن هارون بن محمد بن هارون بن علي بن حميد الثعلبي الدمشقي، قارئ الحديث بالقاهرة ومسندها، روى عن ابن الزبيدي وابن الليثي وجعفر الهمداني وابن الشيرازي وخلق، وقد خرج له الإمام العلامة تقي الدين السبكي مشيخة، وكان رجلاً صالحاً توفي بكرة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر، وكانت جنازته حافلة‏.‏

 الأمير الكبير الملك المظفر

شهاب الدين غازي بن الملك الناصر داود بن المعظم، سمع الحديث وكان رجلاً متواضعاً توفي بمصر ثاني عشر رجب، ودفن بالقاهرة‏.‏

قاضي القضاة

 شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن داود بن خازم الأزرعي الحنفي، كان فاضلاً درس وأفتى وولي قضاء الحنفية بدمشق سنة ثم عزل واستمر على تدريس الشبلية مدة ثم سافر إلى مصر فأقام بسعيد السعداء خمسة أيام، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشرين رجب فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم هم، والسلطان في الحجاز لم يقدم بعد، وقد قدم الأمير سيف الدين تجليس يوم السبت مستهل المحرم من الحجاز وأخبر بسلامة السلطان وأنه فارقه من المدينة النبوية، أنه قد قارب البلاد، فدقت البشائر فرحاً بسلامته، ثم جاء البريد فأخبر بدخوله إلى الكرك ثاني المحرم يوم الأحد، فلما كان يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم دخل دمشق وقد خرج الناس لتلقيه على العادة، وقد رأيته مرجعه من هذه الحجة على شفته ورقة قد ألصقها عليها‏.‏

فنزل بالقصر وصلى الجمعة رابع عشر المحرم بمقصورة الخطابة، وكذلك الجمعة التي تليها ولعب في الميدان بالكرة يوم السبت النصف من المحرم، وولي نظر الدواوين للصاحب شمس الدين غبريال يوم الأحد حادي عشر المحرم وشد الدواوين لفخر الدين إياس الأعسري عوضاً عن القرماني‏.‏

وسافر القرماني إلى نيابة الرحبة وخلع عليهما وعلى وزيره، وخلع على ابن صصرى وعلى الفخر كاتب المماليك، وكان مع السلطان في الحج، وولى شرف الدين بن صصرى حجابة الديوان وباشر فخر الدين ابن شيخ السلامية نظر الجامع، وباشر بهاء الدين بن عليم نظر الأوقاف، والمنكورسي شد الأوقاف‏.‏

وتوجه السلطان راجعاً إلى الديار المصرية بكرة الخميس السابع والعشرين من المحرم، وتقدمت الجيوش بين يديه ومعه‏.‏

وفي أواخر صفر اجتاز على البريد في الرسلية إلى مهنا الشيخ صدر الدين الوكيل وموسى بن مهنا والأمير علاء الدين الطنبغا فاجتمعوا به في تدمر، ثم عاد الطنبغا وابن الوكيل إلى القاهرة‏.‏

وفي جمادى الآخرة مسك أمين الملك وجماعة من الكبار معه وصودروا بأموال كثيرة، وأقيم عوضه بدر الدين بن التركماني الذي كان والي الخزانة‏.‏

وفي رجب كملت أربعة مناجيق واحد لقلعة دمشق، وثلاثة تحمل إلى الكرك، ورمى باثنين على باب الميدان وحضر نائب السلطنة تنكز والعامة، وفي شعبان تكامل حفر النهر الذي عمله سودي نائب حلب بها‏.‏ ‏

وكان طوله من نهر الساجور إلى نهر قويق أربعين ألف ذراع في عرض ذراعين وعمق ذراعين، وغرم عليه ثلاثمائة ألف درهم، وعمل بالعدل ولم يظلم فيه أحداً‏.‏

وفي يوم السبت ثامن شوال خرج الركب من دمشق وأميره سيف الدين بلباي التتري، وحج صاحب حماه في هذه السنة وخلق من الروم والغرباء‏.‏

وفي يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة وصل القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية من مصر على نظر الجيوش الشامية كما كان قبل ذلك، وراح معين الدين بن الخشيش إلى مصر في رمضان صحبة الصاحب شمس الدين بن غبريال، وبعد وصول ناظر الجيوش بيومين وصلت البشائر بمقتضى إزالة الإقطاعات لما رآه السلطان بعد نظره في ذلك أربعة أشهر‏.‏

 من الأعيان‏:‏

الشيخ الإمام المحدث

 فخر الدين أبو عمرو عفان بن محمد بن عثمان بن أبي بكر بن محمد بن داود التوزي بمكة يوم الأحد حادي ربيع الآخر، وقد سمع الكثير، وأجازه خلق يزيدون على ألف شيخ، وقرأ الكتب الكبار وغيرها، وقرأ صحيح البخاري أكثر من ثلاثين مرة رحمه الله‏.‏

 عز الدين محمد بن العدل

شهاب الدين أحمد بن عمر بن إلياس الرهاوي، كان يباشر استيفاء الأوقاف وغير ذلك، وكان من أخصاء أمين الملك، فلما مسك بمصر أرسل إلى هذا وهو معتقل بالعذراوية ليحضر على البريد فمرض فمات بالمدرسة العذراوية ليلة الخميس التاسع عشر من جمادى الآخرة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة، وكان قد سمع من ابن طبرزد الكندي، ودفن من الغد بباب الصغير، وترك من بعده ولدين ذكرين جمال الدين محمد، وعز الدين‏.‏

 الشيخ الكبير المقرئ

شمس الدين المقصاي، هو أبو بكر بن عمر بن السبع الجزري المعروف بالمقصاي نائب الخطيب وكان يقرئ الناس بالقراءات السبع وغيرها من الشواذ، وله إلمام بالنحو، وفيه ورع واجتهاد، توفي ليلة السبت حادي عشرين جمادى الآخرة، ودفن من الغد بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري، وقد جاوز الثمانين رحمه الله‏.‏ ‏

 

 ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم هم في التي قبلها إلا الوزير أمين الملك فمكانه بدر الدين التركماني وفي رابع المحرم عاد الصاحب شمس الدين غبريال من مصر على نظر الدواوين وتلقاه أصحابه‏.‏

وفي عاشر المحرم يوم الجمعة قرئ كتاب السلطان على السدة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والأمراء يتضمن بإطلاق البواقي من سنة ثمان وتسعين وستمائة إلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فتضاعفت الأدعية للسلطان، وكان القارئ جمال الدين بن القلانسي ومبلغه صدر الدين بن صبح المؤذن‏.‏

ثم قرئ في الجمعة الأخرى مرسوم آخر فيه الإفراج عن المسجونين، وأن لا يؤخذ من كل واحد إلا نصف درهم، ومرسوم آخر فيه إطلاق السخر في الغصب وغيره عن الفلاحين، قرأه ابن الزملكاني وبلغه عنه أمين الدين محمد بن مؤذن النجيبي‏.‏

وفي المحرم استحضر السلطان إلى بين يديه الفقيه نور الدين علي البكري وهمّ بقتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم، وكان قد هرب لما طلب من جهة الشيخ تقي الدين بن تيمية فهرب واختفى، وشفع فيه أيضاً، ثم لما ظفر به السلطان الآن وأراد قتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام والفتوى، وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل والجهل الحامل له على هذا وغيره‏.‏

وفي يوم الجمعة مستهل صفر قرأ ابن الزملكاني كتاباً سلطانياً على السدة بحضرة نائب السلطان القاضي وفيه الأمر بإبطال ضمان القواسير وضمان النبيذ وغير ذلك، فدعا الناس للسلطان‏.‏

وفي أواخر ربيع الأول اجتمع القضاة بالجامع للنظر في أمر الشهود ونهوهم عن الجلوس في المساجد، وأن لا يكون أحد منهم في مركزين، وأن لا يتولوا ثبات الكتب ولا يأخذوا أجراً على أداء الشهادة، وأن لا يغتابوا أحداً وأن يتناصفوا في المعيشة، ثم جلسوا مرة ثانية لذلك وتواعدوا ثالثة فلم يتفق اجتماعهم، ولم يقطع أحد من مركزه‏.‏

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه عقد مجلس في دار ابن صصرى لبدر الدين بن بضيان وأنكر عليه شيء من القراءات فالتزم بترك الإقراء %بالكلية ثم استأذن بعد أيام في الإقراء فأذن له فجلس بين الظهر والعصر بالجامع وصارت له حلقة على العادة‏.‏

وفي منتصف رجب توفي نائب حلب الأمير سيف الدين سودي ودفن بتربته وولي مكانه علاء الدين الطنبغا الصالحي الحاجب بمصر، قبل هذه النيابة‏.‏

وفي تاسع شعبان خلع على الشريف شرف الدين عدنان بنقابة الأشراف بعد والده أمين الدين جعفر توفي في الشهر الماضي‏.‏

وفي خامس شوال دفن الملك شمس الدين دوباج بن ملكشاه بن رستم صاحب كيلان بتربته المشهورة بسفح قاسيون، وكان قد قصد الحج في هذا العام، فلما كان بغباغب أدركته منيته يوم السبت سادس عشرين رمضان فحمل إلى دمشق وصلي عليه ودفن في هذه التربة، اشتريت له وتممت وجاءت حسنة وهي مشهورة عند المكارية شرقي الجامع المظفري، وكان له في مملكة كيلان خمسة وعشرين سنة، وعمر أربعاً وخسمين سنة‏.‏

وأوصى أن يحج عنه جماعة ففعل ذلك وخرج الركب في ثالث شوال وأميره سيف الدين سنقر الإبراهيمي، وقاضيه محيي الدين قاضي الزبداني‏.‏

وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قدم القاضي بدر الدين بن الحداد من القاهرة متولياً حسبة دمشق فخلع عليه عوضاً عن فخر الدين سليمان البصراوي، عزل فسافر سريعاً إلى البرية ليشتري خيلا للسلطان يقدمها رشوة على المنصب المذكور، فاتفق موته في البرية في سابع عشر الشهر المذكور، وحمل إلى بصرى فدفن بها عند أجداده في ثامن ذي القعدة، وكان شاباً حسناً كريم الأخلاق حسن الشكل‏.‏

وفي أواخره مسك نائب صفد بلبان طوباي المنصوري وسجن وتولى مكانه سيف الدين بلباي البدري‏.‏

وفي سادس ذي الحجة تولي ولاية البر الأمير علاء الدين علي بن محمود بن معبد البعلبكي، عوضاً عن شرف الدين عيسى بن البركاسي، وفي يوم عيد الأضحى وصل الأمير علاء الدين بن صبح من مصر وقد أفرج عنه فسلم عليه الأمراء‏.‏

وفي هذا الشهر أعيد أمين الملك إلى نظر النظار بمصر وخلع على الصاحب بهاء الدين النسائي بنظر الخزانة عوضاً عن سعد الدين حسن بن الأقفاصي‏.‏

وفيه‏:‏ وردت البريدية بأمر السلطان للجيوش الشامية بالمسير إلى حلب وأن يكون مقدم العساكر كلها تنكز نائب الشام، وقدم من مصر ستة آلاف مقاتل عليهم الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكري، وفيهم تجليس وبدر الدين الوزيري، وكتشلي وابن طيبرس وشاطي وابن سلار وغيرهم، فتقدموا إلى البلاد الحلبية بين يدي نائب الشام تنكز‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 سودي نائب حلب في رجب

ودفن بتربته، وهو الذي كان السبب في إجراء نهر إليها، غرم عليه ثلاثمائة ألف درهم، وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه الله‏.‏

وفي شعبان توفي‏:‏ ‏

 الصاحب شرف الدين

يعقوب بن مزهر وكان باراً بأهله وقرابته رحمه الله‏.‏

 والشيخ رشيد أبو الفداء إسماعيل

أبو محمد القرشي الحنفي المعروف بابن المعلم، كان من أعلام الفقهاء والمفتيين، ولديه علوم شتى وفوائد وفرائد، وعنده زهد وانقطاع عن الناس، وقد درّس بالبلخية مدة ثم تركها لولده وسار إلى مصر فأقام بها، وعرض عليه قضاء دمشق فلم يقبل، وقد جاوز السبعين من العمر، توفي سحر يوم الأربعاء خامس رجب ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

وفي شوال توفي‏:‏

 الشيخ سليمان التركماني

الموله الذي كان يجلس على مصطبته بالعلبيين، وكان قبل ذلك مقيماً بطهارة باب البريد، وكان لا يتحاشى من النجاسات ولا يتقيها، ولا يصلي الصلوات ولا يأتيها، وكان بعض الناس من الهمج له فيه عقيدة قاعدة الهمج الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق من المولهين والمجانين، ويزعمون أنه يكاشف وأنه رجل صالح، ودفن بباب الصغير في يوم كثير الثلج‏.‏

وفي يوم عرفة توفيت‏:‏

 الشيخة الصالحة العابدة الناسكة

أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية بظاهر القاهرة، وشهدها خلق كثير، وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال‏.‏

وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعت الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيراً من المغنى أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي ختّمت نساء كثيراً القرآن‏.‏

منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام في البلاد هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

فتح ملطية

في يوم الاثنين مستهل المحرم خرج سيف الدين تنكز في الجيوش قاصداً ملطية وخرجت الأطلاب على راياتها وأبرزوا ما عندهم من العدد وآلات الحرب، وكان يوماً مشهوداً، وخرج مع الجيش ابن صصرى لأنه قاضي العساكر وقاضي قضاة الشامية، فساروا حتى دخلوا حلب في الحادي عشر من الشهر‏.‏

ومنها وصلوا في السادس عشر إلى بلاد الروم إلى ملطية، فشرعوا في محاصرتها في الحادي والعشرين من المحرم، وقد حصنت ومنعت وغلقت أبوابها، فلما رأوا كثرة الجيش نزل متوليها وقاضيها وطلبوا الأمان فأمنوا المسلمين ودخلوها، فقتلوا من الأرمن خلقاً ومن النصارى وأسروا ذرية كثيرة، وتعدى ذلك إلى بعض المسلمين وغنموا شيئاً كثيراً‏.‏

وأخذت أموال كثير من المسلمين ورجعوا عنها بعد ثلاثة أيام يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم إلى عين تاب إلى مرج دابق، وزينت دمشق ودقت البشائر‏.‏

وفي أول صفر رحل نائب ملطية متوجهاً إلى السلطان‏.‏

وفي نصف الشهر وصل قاضيها الشريف شمس الدين ومعه خلق من المسلمين من أهلها، وفي بكرة نهار الجمعة سادس عشر ربيع الأول دخل تنكز دمشق وفي خدمته الجيوش الشامية والمصرية، وخرج الناس للفرجة عليهم على العادة، وأقام المصريون قليلاً، ثم ترحلوا إلى القاهرة‏.‏

وقد كانت ملطية إقطاعاً للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلاً كردياً فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلها السلطان الناصر وأحبوا أن يكونوا من رعيته، فلما ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمرها ورد إليها خلقاً من الأرمن وغيرهم‏.‏

وفي التاسع عشر من هذا الشهر وصل إلينا الخبر بمسك بكتمر الحاجب وأيد غدي شقير وغيرهما، وكان ذلك يوم الخميس مستهل هذا الشهر، وذلك أنهم اتفقوا على السلطان فبلغه الخبر فمسكهم واحتيط على أموالهم وحواصلهم‏.‏ ‏

وظهر لبكتمر أموال كثيرة وأمتعة وأخشاب وحواصل كثيرة وقدم مجليس من القاهرة فاجتاز بدمشق إلى ناحية طرابلس، ثم قدم سريعاً ومعه الأمير سيف الدين تمير نائب طرابلس تحت الحوطة، ومسك بدمشق الأمير سيف الدين بهادراص المنصوري فحمل الأول إلى القاهرة، وجعل مكانه في نيابة طرابلس كسناي، وحمل الثاني وحزن الناس عليه ودعوا له‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ربيع الآخر قدم عز الدين بن مبشر دمشق محتسباً وناظر الأوقاف وانصرف ابن الحداد عن الحسبة، وبهاء الدين عن نظر الأوقاف‏.‏

وفي ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى وقع حريق قبالة مسجد الشنباشي داخل باب الصغير، احترق فيه دكاكين ودور وأموال وأمتعة‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة درّس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الخاتونية البرانية، عوضاً عن قاضي القضاة الحنفي البصروي، وحضر عنده الأعيان، وهو رجل له فضيلة وخلق حسن، كان قاضياً بملطية وخطيباً بها نحواً من عشرين سنة‏.‏

وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة أعيد ابن الحداد إلى الحبسة واستمر ابن مبشر ناظر الأوقاف‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع جمادى الآخرة درس ابن صصرى بالأتابكية عوضاً عن الشيخ صفي الدين الهندي‏.‏

وفي يوم الأربعاء الآخر حضر ابن الزمكاني درس الظاهرية الجوانية عوضاً عن الهندي أيضاً بحكم وفاته كما ستأتي ترجمته‏.‏

وفي أواخر رجب أخرج الأمير آقوش نائب الكرك من سجن القاهرة وأعيد إلى الإمرة‏.‏

وفي شعبان توجه خمسة آلاف من بلاد حلب فأغاروا على بلاد آمد، وفتحوا بلداناً كثيرة، وقتلوا وسبوا وعادوا سالمين، وخمسوا ما سبوا فبلغ سهم الخمس أربعة آلاف رأس وكسور‏.‏

وفي أواخر رمضان وصل قراسنقر المنصوري إلى بغداد ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا ملك التتر، وجاء في خدمته خربندا واستأذنه في الغارة على أطراف بلاد المسلمين فلم يأذن له، ووثب عليه رجل فداوي من جهة صاحب مصر فلم يقدر عليه وقتل الفداوي‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان درّس بالعادلية الصغيرة الفقيه الإمام فخر الدين محمد بن علي المصري المعروف بابن كاتب قطلوبك، بمقتضى نزول مدرسها كمال الدين بن الزملكاني له عنها، وحضر عنده القضاة والأعيان والخطيب وابن الزملكاني أيضاً‏.‏

وفي هذا الشهر كملت عمارة القيسارية المعروفة بالدهشة عند الوراقين واللبادين وسكنها التجار، فتميزت بذلك أوقاف الجامع، وذلك بمباشرة الصاحب شمس الدين‏.‏

وفي ثامن شوال قتل أحمد الزوسي شهد عليه بالعظائم من ترك الواجبات واستحلال المحرمات واستهانته وتنقيصه بالكتاب والسنة، فحكم المالكي بإراقة دمه وإن أسلم، فاعتقل ثم قتل‏.‏

وفي هذا اليوم كان خروج الركب الشامي وأميره سيف الدين طقتمر وقاضيه قاضي ملطية‏.‏ ‏

وحج فيه قاضي حماه وحلب وماردين ومحيي الدين كاتب ملك الأمراء تنكز وصهره فخر الدين المصري‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 شرف الدين أبو عبد الله

محمد بن العدل عماد الدين محمد بن أبي الفضل محمد بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نظر الخاص‏.‏

وقد شهد قبل ذلك في القيمة ثم تركها، وقد ترك أولاداً وأموالاً جمة، توفي ليلة السبت ثاني عشر صفر ودفن بقاسيون‏.‏

 الشيخ صفي الدين الهندي

أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي الشافعي المتكلم، ولد بالهند سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل على جده لأمه، وكان فاضلاً، وخرج من دهلي في رجب سنة سبع وستين فحج وجاور بمكة أشهراً، ثم دخل اليمن فأعطاه ملكها المظفر أربعمائة دينار‏.‏

ثم دخل مصر فأقام بها أربع سنين، ثم سافر إلى الروم على طريق إنطاكية فأقام إحدى عشرة سنة بقونية وبسيواس خمساً وبقيسارية سنة، واجتمع بالقاضي سراج الدين فأكرمه، ثم قدم إلى دمشق في سنة خمس وثمانين فأقام بها واستوطنها ودرّس بالرواحية والدولعية والظاهرية والأتابكية وصنف في الأصول والكلام، وتصدى للاشتغال والإفتاء‏.‏

ووقف كتبه بدار الحديث الأشرفية، وكان فيه بر وصلة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشرين صفر ودفن بمقابر الصوفية، ولم يكن معه وقت موته سوى الظاهرية وبها مات، فدرّس بعده فيها ابن الزملكاني، وأخذ ابن صصرى الأتابكية‏.‏

 القاضي المسند المعمر الرحلة

تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي الحاكم بدمشق، ولد في نصف رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ بنفسه وتفقه وبرع، وولي الحكم وحدث، وكان من خيار الناس وأحسنهم خلقاً وأكثرهم مروءة‏.‏

توفي فجأة بعد مرجعه من البلد وحكمه بالجوزية، فلما صار إلى منزله بالدير تغيرت حاله ومات عقيب صلاة المغرب ليلة الاثنين حادي عشرين ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة جده، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير رحمه الله‏.‏

 الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري

كان مقدماً في طائفته، مات أبوه وعمره سنتان، توفي في قرية نسر في جمادى الأولى‏.‏

الحكيم الفاضل البارع

 بهاء الدين عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الطبيب الكحال المتشرف بالإسلام، ثم قرأ القرآن جميعه لأنه أسلم على بصيرة، وأسلم على يديه خلق كثير من قومه وغيرهم، وكان مباركاً على نفسه وعليهم، وكان قبل ذلك ديان اليهود، فهداه الله تعالى، وتوفي يوم الأحد سادس جمادى الآخرة ودفن من يومه بسفح قاسيون، أسلم على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية لما بين له بطلان دينهم وما هم عليه وما بدلوه من كتابهم وحرفوه من الكلم عن مواضعه رحمه الله‏.‏