ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة
استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها غير الحنبلي بدمشق فإنه توفي في السنة الماضية.
وفي المحرم تكملت تفرقة المثالات السلطانية بمصر بمقتضى إزالة الأجناد، وعرض الجيش على السلطان، وأبطل، السلطان المكس بسائر البلاد القبلية والشامية.
وفيه: وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز فأصلح بينهم، وانفصل الحال على خير من غير محاققه ولا تشويش على أحد من الفريقين، وذلك يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم.
وفي يوم الأحد سادس عشر صفر قرئ تقليد قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الحنبلي، بقضاء الحنابلة والنظر بأوقافهم عوضاً عن تقي الدين سليمان بحكم وفاته رحمه الله، وتاريخ التقليد من سادس ذي الحجة، وقرئ بالجامع الأموي بحضور القضاة والصاحب والأعيان، ثم مشوا معه وعليه الخلعة إلى دار السعادة فسلم على النائب وراح إلى الصالحية، ثم نزل من الغد إلى الجوزية فحكم بها على عادة من تقدمه، واستناب بعد أيام الشيخ شرف الدين بن الحافظ.
وفي يوم الاثنين سابع صفر وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر على البريد ومعه توقيع بعود الوكالة إليه، فخلع عليه وسلم على النائب والخلعة عليه.
وفي هذا الشهر مسك الوزير عز الدين بن القلانسي واعتقل بالعذراوية وصودر بخمسين ألفاً ثم أطلق له ما كان أخذ منه وانفصل من ديوان نظر الخاص.
وفي ربيع الآخر وصل من مصر فضل بن عيسى وأجري له ولابن أخيه موسى بن مهنا إقطاعات صيدا، وذلك بسبب دخول منها إلى بلاد التتر واجتماعهم بملكهم خربندا.
وفي يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى باشر ابن صصرى مشيخة الشيوخ بالسميساطية بسؤال الصوفية وطلبهم له من نائب السلطنة، فحضرها وحضر عنده الأعيان في هذا اليوم عوضاً عن الشريف شهاب الدين أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم بن عبد الكريم بن محمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن يحيى بن موسى بن جعفر الصادق، وهو الكاشنغر، توفي عن ثلاث وستين سنة ودفن بالصوفية.
وفي جمادى الآخرة باشر بهاء الدين إبراهيم بن جمال الدين يحيى الحنفي المعروف بابن علية وهو ناظر ديوان النائب بالشام نظر الدواوين عوضاً عن شمس الدين محمد بن عبد القادر الخطيري الحاسب الكاسب توفي، وقد كان مباشراً عدة من الجهات الكبار، مثل نظر الخزانة ونظر الجامع ونظر المارستان وغير ذلك، واستمر نظر المارستان من يومئذ بأيدي ديوان نائب السلطنة من كان، وصارت عادة مستمرة.
وفي رجب نقل صاحب حمص الأمير شهاب الدين قرطاي إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير سيف الدين التركستاني بحكم وفاته، وولي الأمير سيف الدين إرقطاي نيابة حمص، وتولى نيابة الكرك سيف الدين طقطاي الناصري عوضاً عن سيف الدين تيبغا.
وفي يوم الأربعاء عاشر رجب درس بالنجيبية القاضي شمس الدين الدمشقي عوضاً عن بهاء الدين يوسف بن جمال الدين أحمد بن الظاهري العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين بن العديم، توفي ودفن عند خاله ووالده بتربة العديم.
وفي آواخر شعبان وصل القاضي شمس الدين بن عز الدين يحيى الحراني أخو قاضي قضاة الحنابلة بمصر شرف الدين عبد الغني، إلى دمشق متولياً نظر الأوقاف بها عوضاً عن الصاحب عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن مبشر، توفي في مستهل رجب بدمشق، وقد باشر نظر الدواوين بها وبمصر، والحسبة وبالإسكندرية وغير ذلك، ولم يكن بقي معه في آخر وقت سوى نظر الأوقاف بدمشق، وقد قارب الثمانين ودفن بقاسيون.
وفي آخر شوال خرج الركب الشامي وأميرهم سيف الدين أرغون السلحدار الناصري الساكن عند دار الطراز بدمشق، وحج من مصر سيف الدين الدوادار وقاضي القضاة ابن جماعة، وقد زار القدس الشريف في هذه السنة بعد وفاة ولده الخطيب جمال الدين عبد الله، وكان قد رأس وعظم شأنه.
وفي ذي القعدة سار الأمير سيف الدين تنكز إلى زيارة القدس فغاب عشرين يوماً.
وفيه: وصل الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى دمشق من مصر وقد كان معتقلاً في السجن فأطلق وأكرم وولي نيابة صفد فسار إليها بعد ما قضى أشغاله بدمشق، ونقل القاضي حسام الدين القزويني من قضاء صفد إلى قضاء طرابلس، وأعيدت ولاية قضاء صفد إلى قاضي دمشق فولى فيها ابن صصرى شرف الدين الهاوندي، وكان متولياً طرابلس قبل ذلك.
ووصل مع بكتمر الحاجب الطواشي ظهير الدين مختار المعروف بالزرعي، متولياً الخزانة بالقلعة عوضاً عن الطواشي ظهير الدين مختار البلستين توفي.
وفي هذا الشهر أعني ذا القعدة وصلت الأخبار بموت ملك التتر خربندا محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو قان ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر.
توفي في السابع والعشرين من رمضان ودفن بتربته بالمدنية التي، أنشأها التي يقال لها السلطانية، وقد جاوز الثلاثين من العمر وكان موصوفاً بالكرم ومحباً للهو واللعب والعمائر، وأظهر الرفض.
أقام سنة على السنة ثم تحول إلى الرفض أقام شعائره في بلاده وحظي عنده الشيخ جمال الدين بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، وأقطعه عدة بلاد، ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة، وقد جرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام، فأراح الله منه العباد والبلاد.
وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد وله إحدى عشرة سنة، ومدبر الجيوش والممالك له الأمير جوبان، واستمر في الوزارة على شاه التبريزي، وأخذ أهل دولته بالمصادرة وقتل الأعيان ممن أتهمهم بقتل أبيه مسموماً، ولعب كثير من الناس به في أول دولته ثم عدل إلى العدل وإقامة السنة، فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولاً ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم.
ففرح الناس بذلك وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك، وكان صاحب مكة الأمير خميصة بن أبي نمي الحسني، قد قصد ملك التتر خربندا لينصره على أهل مكة فساعده الروافض هناك وجهزوا معه جيشاً كثيفاً من خراسان، فلما مات خربندا بطل ذلك بالكلية، وعاد خميصة خائباً خاسئاً.
وفي صحبته أمير من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي، وقد جمع لخميصة أموالاً كثيرة ليقيم بها الرفض في بلاد الحجاز، فوقع بهما الأمير محمد بن عيسى أخو مهنا، وقد كان في بلاد التتر أيضاً ومعه جماعة من العرب، فقهرهما ومن كان معهما، ونهب ما كان معهما من الأموال وحضرت الرجال.
وبلغت أخبار ذلك إلى الدولة الإسلامية فرضي عنه الملك الناصر وأهل دولته، وغسل ذلك ذنبه عنده، فاستدعى به السلطان إلى حضرته فحضر سامعاً مطيعاً فأكرمه نائب الشام، فلما وصل إلى السلطان أكرمه أيضاً، ثم إنه استفتى الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكذلك أرسل إليه السلطان يسأله عن الأموال التي أخذت من الدلقندي، فأفتاهم أنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على السنة.
من الأعيان:
عز الدين المبشر، والشهاب الكاشنغيري شيخ الشيوخ والبهاء العجمي مدرس النجيبية.
وفيها: قتل خطيب المزة قتله رجل جبلي ضربه بفأس اللحام في رأسه في السوق فبقي أياماً ومات، وأخذ القاتل فشنق في السوق الذي قتل فيه، وذلك يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر ودفن هناك وقد جاوز الستين.
الشرف صالح بن محمد بن عربشاه
ابن أبي بكر الهمداني، مات في جمادى الآخرة ودفن بمقابر النيرب، وكان مشهوراً بطيب القراءة وحسن السيرة، وقد سمع الحديث وروى جزءاً.
ابن عرفة صاحب التذكرة الكندية
الشيخ الإمام المقرئ المحدث النحوي الأديب علاء الدين علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله الكندي الإسكندراني، ثم الدمشقي، سمع الحديث على أزيد من مائتي شيخ وقرأ القراءات السبع، وحصل علوماً جيدة، ونظم الشعر الحسن الرائق الفائق، وجمع كتاباً في نحو من خمسين مجلداً، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات سماها التذكرة الكندية.
وقفها بالسميساطية وكتب حسناً وحسب جيداً وخدم في عدة خدم، وولي مشيخة دار الحديث النفيسية في مدة عشر سنين وقرأ صحيح البخاري مرات عديدة، وأسمع الحديث، وكان يلوذ بشيخ الإسلام ابن تيمية، وتوفي ببستان عند قبة المسجد ليلة الأربعاء سابع عشر رجب، ودفن بالمزة عن ست وسبعين سنة.
الطواشي ظهير الدين مختار
البكنسي الخزندار بالقلعة وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق، كان زكياً خبيراً فاضلاً، يحفظ القرآن ويؤديه بصوت طيب، ووقف مكتباً للأيتام على باب قلعة دمشق، ورتب لهم الكسوة و الجامكية، وكان يمتحنهم بنفسه ويفرح بهم، وعمل تربة خارج باب الجابية ووقف عليها القريتين وبنى عندها مسجداً حسناً ووقفه بإمام وهي من أوائل ما عمل من الترب بذلك الخط، ودفن بها في يوم الخميس عاشر شعبان رحمه الله، وكان حسن الشكل والأخلاق، عليه سكينة ووقار وهيبة وله وجاهة في الدولة سامحه الله.
وولي بعده الخزانة سميه ظهير الدين مختار الزرعي.
الأمير بدر الدين
محمد بن الوزيري، كان من الأمراء المقدمين، ولديه فضيلة ومعرفة وخبرة، وقد ناب عن السلطان بدار العدل مرة بمصر، وكان حاجب الميسرة، وتكلم في الأوقاف وفيما يتعلق بالقضاة والمدرسين، ثم نقل إلى دمشق فمات بها في سادس عشر شعبان، ودفن بميدان الحصى فوق خان النجيبي، وخلف تركة عظيمة.
الشيخة الصالحة
ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجا، راوية صحيح البخاري وغيره، جاوزت التسعين سنة، وكانت من الصالحات، توفيت ليلة الخميس ثامن عشر شعبان ودفنت بتربتهم فوق جامع المظفري بقاسيون.
القاضي محب الدين
أبو الحسن ابن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، استنابه أبوه في أيامه وزوجه بابنة الحاكم بأمر الله، ودرّس بالكهارية ورأس بعد أبيه، وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر رمضان، وقد قارب الستين، ودفن عند أبيه بالقرافة.
الشيخة الصالحة
ست المنعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية، والدة الشيخ تقي الدين بن تيمية عمرت فوق السبعين سنة، ولم ترزق بنتاً قط، توفيت يوم الأربعاء العشرين من شوال ودفنت بالصوفية وحضر جنازتها خلق كثير وجم غفير رحمها الله.
الشيخ نجم الدين موسى بن علي بن محمد
الجيلي ثم الدمشقي، الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص، شيخ صناعة الكتابة في زمانه لا سيما في المزوج والمثلث.
وقد أقام يكتب الناس خمسين سنة، وأنا ممن كتب عليه أثابه الله.
وكان شيخاً حسناً بهي المنظر يشعر جيداً، توفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة ودفن بمقابر الباب الصغير وله خمس وستون سنة.
الشيخ تقي الدين الموصلي
أبو بكر بن أبي الكرم شيخ القراءة عند محراب الصحابة، وشيخ ميعاد بن عامر مدة طويلة، وقد انتفع الناس به نحواً من خمسين سنة، في التلقين والقراءات، وختم خلقاً كثيراً، وكان يقصد لذلك ويجمع تصديقات يقولها الصبيان ليالي ختمهم، وقد سمع الحديث وكان خيراً ديناً، توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير رحمه الله.
الشيخ الصالح الزاهد المقري
أبو عبد الله محمد بن الخطيب سلامة بن سالم بن الحسن بن ينبوب الماليني، أحد الصلحاء المشهورين بجامع دمشق، سمع الحديث وأقرأ الناس نحواً من خمسين سنة، وكان يفصح الأولاد في الحروف الصعبة، وكان مبتلى في فمه يحمل طاسة تحت فمه من كثرة ما يسيل منه من الريال وغيره وقد جاوز الثمانين بأربع سنين.
توفي بالمدرسة الصارمية يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير بالقرب من القندلاوي، وحضر جنازته خلق كثير جداً نحواً من عشرة آلاف رحمه الله تعالى.
الشيخ الصدر ابن الوكيل
هو العلامة أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخ الشافعية في زمانه، وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل والافتنان بالعلوم العديدة.
وقد أجاد معرفة المذهب والأصلين، ولم يكن بالنحو بذاك القوي، وكان يقع منه اللحن الكثير، مع أنه قرأ منه المفصل للزمخشري، وكانت له محفوظات كثيرة، ولد في شوال سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث على المشايخ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان، والكتب الستة، وقرئ عليه قطعة كبيرة من صحيح مسلم بدار الحديث عن الأمير الأربلي والعامري والمزي.
وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم كثيرة، من الطب والفلسفة وعلم الكلام، وليس ذلك بعلم، وعلوم الأوائل، وكان يكثر من ذلك، وكان يقول الشعر جيداً، وله ديوان مجموع مشتمل على أشياء لطيفة، وكان له أصحاب يحسدونه ويحبونه، وآخرون يحسدونه ويبغضونه، وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظائم.
وقد كان مسرفاً على نفسه قد ألقى جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش، وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية ويناظره في كثير من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثني عليه، ولكنه كان يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافح عن طائفته.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالإسلام إذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة، وكان يقول: كان مخلطاً على نفسه متبعاً مراد الشيطان منه، يميل إلى الشهوة والمحاضرة، ولم يكن كما يقول فيه بعض أصحابه ممن يحسده ويتكلم فيه هذا أو ما هو في معناه.
وقد درّس بعدة مدارس بمصر والشام، ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الأشرفية، وولي في وقت الخطابة أياماً يسيرة كما تقدم، ثم قام الخلق عليه وأخرجوها من يده، ولم يرق منبرها، ثم خالط نائب السلطنة الأفرم فجرت له أمور لا يمكن ذكرها ولا يحسبن من القبائح ثم آل به الحال على أن عزم على الانتقال من دمشق إلى حلب لاستحوازه على قلب نائبها، فأقام بها ودرّس.
ثم تردد في الرسلية بين السلطان ومهنا صحبة أرغون والطنبغا، ثم استقر به المنزل بمصر ودرّس فيها بمشهد الحسين إلى أن توفي بها بكرة نهار الأربعاء رابع عشرين ذي الحجة بداره قريباً من جامع الحاكم، ودفن من يومه قريباً من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة، ولما بلغت وفاته دمشق صلّي عليه بجامعها صلاة الغائب بعد الجمعة ثالث المحرم من السنة الآتية، ورثاه جماعة منهم ابن غانم علاء الدين، والقجقازي، والصفدي، لأنهم كانوا من عشرائه.
وفي يوم عرفة توفي:
الشيخ عماد الدين إسماعيل الفوعي
وكيل قجليس، وهو الذي بنى له الباشورة على باب الصغير بالبرانية الغربية، وكانت فيه نهضة وكفاية، وكان من بيت الرفض، اتفق أنه استحضره نائب السلطنة فضربه بين يديه، وقام النائب إليه بنفسه فجعل يضربه بالمهاميز في وجهه فرفع من بين يديه وهو تالف فمات في يوم عرفة، ودفن من يومه بسفح قاسيون وله دار ظاهر باب الفراديس.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي صفر شرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر تجاه حكر السماق على نهر بانياس بدمشق وتردد القضاة والعلماء في تحرير قبلته، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله الشيخ تقي الدين بن تيمية في يوم الأحد الخامس والعشرين منه، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان، ومساعدته لنائبه في ذلك.
وفي صفر هذا جاء سيل عظيم بمدينة بعلبك أهلك خلقاً كثيراً من الناس، وخرب دوراً وعمائر كثيرة، وذلك في يوم الثلاثاء سابع وعشرين صفر.
وملخص ذلك أنه قبل ذلك جاءهم رعد وبرق عظيم معهما برد ومطر، فسالت الأودية، ثم جاءهم بعده سيل هائل خسف من سور البلد من جهة الشمال شرق مقدار أربعين ذراعاً، مع أن سمك الحائط خمسة أذرع، وحمل برجاً صحيحاً ومعه من جانبيه مدينتين، فحمله كما هو حتى مر فحفر في الأرض نحو خمسمائة ذراع سعة ثلاثين ذراعاً.
وحمل السيل ذلك إلى غربي البلد، لا يمر على شيء إلا أتلفه، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فأتلف ما يزيد على ثلثها، ودخل الجامع فارتفع فيه على قامة ونصف، ثم قوي على حائطه الغربي فأخربه وأتلف جميع ما فيه الحواصل والكتب والمصاحف وأتلف شيئاً كثيراً من رباغ الجامع.
وهلك تحت الهدم خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وغرق في الجامع الشيخ علي بن محمد بن الشيخ علي الحريري هو وجماعة معه من الفقراء، ويقال كان من جملة من هلك في هذه الكائنة من أهل بعلبك مائة وأربعة وأربعون نفساً سوى الغرباء، وجملة الدور التي خربها والحوانيت التي أتلفها نحو من ستمائة دار وحانوت، وجملة البساتين التي جرف أشجارها عشرون بستاناً، ومن الطوحين ثمانية سوى الجامع والأمينية وأما الأماكن التي دخلها وأتلف ما فيها ولم تخرب فكثير جداً.
وفي هذه السنة زاد النيل زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها من مدد، وغرق بلاداً كثيرة، وهلك فيها ناس كثير أيضاً، وغرق منية السبرج فهلك الناس فيها شيء كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي مستهل ربيع الآخر منها أغار جيش حلب على مدينة آمد فنهبوا وسبوا وعادوا سالمين.
وفي يوم السبت تاسع وعشرين منه قدم قاضي المالكية إلى الشام من مصر وهو الإمام العلامة فخر الدين أبو العباس أحمد بن سلامة بن أحمد بن أحمد بن سلامة الإسكندري المالكي، على قضاء دمشق عوضاً عن قاضي القضاة جمال الدين الزواوي لضعفه واشتداد مرضه، فالتقاه القضاة والأعيان، وقرئ تقليده بالجامع ثاني يوم وصوله، وهو مؤرخ بثاني عشر الشهر، وقدم نائبه الفقيه نور الدين السخاوي درّس بالجامع في جمادى الأولى.
وحضر عنده الأعيان، وشكرت فضائله وعلومه ونزاهته وصرامته وديانته، وبعد ذلك بتسعة أيام توفي الزواوي المعزول، وقد باشر القضاء بدمشق ثلاثين سنة.
وفيها: أفرج عن الأمير سيف الدين بهادرآص من سجن الكرك وحمل إلى القاهرة وأكرمه السلطان، وكان سجنه بها مطاوعة لإشارة نائب الشام بسبب ما كان وقع بينهما بملطية.
وخرج المحمل في يوم الخميس تاسع شوال، وأمير الحج سيف الدين كجكني المنصوري.
وممن حج قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وابن أخيه شرف الدين وكمال الدين بن الشيرازي والقاضي جلال الدين الحنفي والشيخ شرف الدين بن تيمية وخلق.
وفي سادس هذا الشهر درس بالجاروضية القاضي جلال الدين محمد بن الشيخ كمال الدين الشريشي بعد وفاة الشيخ شرف الدين بن أبي سلام، وحضر عنده الأعيان، وفي التاسع عشر منه درس ابن الزملكاني بالعذراوية عوضاً عن ابن سلام، وفيه، درس الشيخ شرف الدين بن تيمية بالحنبلية عن إذن أخيه له بذلك بعد وفاة أخيهما لأمهما بدر الدين قاسم بن محمد ابن خالد.
ثم سافر الشيخ شرف الدين إلى الحج، وحضر الشيخ تقي الدين الدرس بنفسه، وحضر عنده خلق كثير من الأعيان وغيرهم حتى عاد أخوه، وبعد عوده أيضاً، وجاءت الأخبار بأنه قد أبطلت الخمور والفواحش كلها من بلاد السواحل وطرابلس وغيرها، ووضعت مكوس كثيرة عن الناس هنالك، وبنيت بقرى النصيرية في كل قرية مسجد ولله الحمد والمنة.
وفي بكرة نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من شوال وصل الشيخ الإمام العلامة شيخ الكتاب شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي على البريد من مصر إلى دمشق متولياً كتابة السر بها، عوضاً عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله توفي إلى رحمة الله.
وفي ذي القعدة يوم الأحد درس بالصمصامية التي جددت للمالكية وقد وقف عليها الصاحب شمس الدين غبريال درساً، ودرس بها فقهاء، وعين تدريسها لنائب الحكم الفقيه نور الدين على بن عبد البصير المالكي، وحضر عنده القضاة والأعيان وممن حضر عنده الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان يعرفه من إسكندرية، وفيه درس بالدخوارية الشيخ جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد الكحال، ورتب في رياسة الطب عوضاً عن أمين الدين سليمان الطبيب، بمرسوم نائب السلطنة تنكز، واختاره لذلك.
واتفق انه في هذا الشهر تجمع جماعة من التجار بماردين وانضاف إليهم خلق من الجفال من الغلا قاصدين بلاد الشام، حتى إذا كانوا بمرحلتين من رأس العين لحقهم ستون فارساً من التتار فمالوا عليهم بالنشاب وقتلوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى صبيانهم نحو سبعين صبياً، فقالوا من يقتل هؤلاء؟ فقال واحد: منهم أنا بشرط أن تنفلوني بمال من الغنيمة، فقتلهم كلهم عن آخرهم، وكان جملة من قتل من التجار ستمائة، ومن الجفلان ثلاثمائة من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وردموا بهم خمس صهاريج هناك حتى امتلأت بهم رحمهم الله، ولم يسلم من الجميع سوى رجل واحد تركماني، هرب وجاء إلى رأس العين فأخبر الناس بما رأى وشاهد من هذا الأمر الفظيع المؤلم الوجيع، فاجتهد متسلم ديار بكر سوياي في طلب أولئك التتر حتى أهلكهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى رجلين، لا جمع الله بهم شملاً ولا بهم مرحباً ولا أهلاً.آمين يا رب العالمين.
صفة خروج المهدي الضال بأرض جبلة
وفي هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدّعي علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وتارة يدّعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمه ألف، وبلاداً كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقاً من أهلها، وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان.
وسبّوا الشيخين، وصاح أهل البلد وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال تلك الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين.
وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها.
ونادى في تلك البلاد إن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لآلهك المهدي، الذي يحيى ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا وعملوا أمراً عظيماً جداً.
فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، وقتل المهدي أضلهم وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب السعير، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * } ذلك بما قدمت يداك الآية [الحج: 3-4].
وفيها: حج الأمير حسام الدين مهنا وولده سليمان في ستة آلاف، وأخوه محمد بن عيسى في أربعة آلاف، ولم يجتمع مهنا بأحد من المصريين ولا الشاميين، وقد كان في المصريين قجليس وغيره والله أعلم.
وممن توفي بها من الأعيان:
الشيخ الصالح
أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله المنتزه كان فاضلاً، وكتب حسناً نسخ (التنبيه) و(العمدة) وغير ذلك، وكان الناس ينتفعون به ويقابلون عليه ذلك ويصححون عليه، ويجلسون إليه عند صندوق كان له في الجامع، توفي ليلة الاثنين سادس محرم ودفن بالصوفية، وقد صححت عليه في العمدة وغيره.
الشيخ شهاب الدين الرومي
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن المراغي، درس بالعينية، وأم بمحراب الحنفية بمقصورتهم الغربية إذ كان محرابهم هناك، وتولى مشيخة الخاتونية، وكان يؤم بنائب السلطان الأفرم، وكان يقرأ حسناً بصوت مليح، وكانت له مكانة عنده، وربما راح إليه الأفرم ماشياً حتى يدخل عليه زاويته التي أنشأها بالشرق الشمالي على الميدان الكبير، ولما توفي بالمحرم ودفن بالصوفية قام ولداه عماد الدين وشرف الدين بوظائفه.
الشيخ الصالح العدل
قمر الدين عثمان بن أبي الوفا بن نعمة الله الأعزازي، كان ذا ثروة من المال كثير المروءة والبلاوة أدى الأمانة في ستين ألف دينار وجواهر لا يعلم بها إلا الله عز وجل، بعد ما مات صاحبها مجرداً في الغزاة وهو عز الدين الجراحي نائب غزة، أودعه إياها فأداها إلى أهلها أثابه الله، ولهذا لما مات يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الآخر حضر جنازته خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى، حتى قيل إنهم لم يجتمعوا في مثلها قبل ذلك، ودفن بباب الصغير رحمه الله.
قاضي القضاة
جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن يوسف الزواوي قاضي المالكية بدمشق، من سنة سبع وثمانين وستمائة، قدم مصر من المغرب واشتغل بها وأخذ عن مشايخها منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم قدم دمشق قاضياً في سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان مولده تقريباً في سنة تسع وعشرين وستمائة.
وأقام شعار مذهب مالك وعمر الصمصامية في أيامه وجدد عمارة النورية، وحدث (بصحيح مسلم) و(موطأ مالك) عن يحيى بن يحيى عن مالك، و(كتاب الشفا) للقاضي عياض، وعزل قبل وفاته بعشرين يوماً عن القضاء، وهذا من خيره حيث لم يمت قاضياً، توفي بالمدرسة الصمصامية يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة، وصلّي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر باب الصغير تجاه مسجد النارنج وحضر الناس جنازته وأثنوا عليه خيراً، وقد جاوز الثمانين كمالك رحمه الله.
ولم يبلغ إلى سبعة عشر من عمره على مقتضى مذهبه أيضاً.
القاضي الصدر الرئيس
رئيس الكتاب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب بن جمال الدين فضل الله بن الحلي القرشي العدوي المعمري، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة وسمع الحديث وخدم وارتفعت منزلته حتى كتب الإنشاء بمصر، ثم نقل إلى كتابة السر بدمشق إلى أن توفي في ثامن رمضان، ودفن بقاسيون، وقد قارب التسعين، وهو ممتع بحواسه وقواه، وكانت له عقيدة حسنة في العلماء، ولا سيما في ابن تيمية وفي الصلحاء رحمه الله.
وقد رثاه الشهاب محمود كاتب السر بعده بدمشق، وعلاء الدين بن غانم وجمال الدين بن نباتة.
الفقيه الإمام العالم المناظر
شرف الدين أبو عبد الله الحسين بن الإمام كمال الدين علي بن إسحاق بن سلام الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل ودرس بالجاروخية والعذراوية، وأعاد بالظاهرية وأفتى بدار العدل، وكان واسع الصدر كثير الهمة كريم النفس مشكوراً في فهمه وخطه وحفظه وفصاحته ومناظرته، توفي في رابع عشرين رمضان وترك أولاداً وديناً كثيراً، فوفته عنه زوجته بنت زويزان تقبل الله منها وأحسن إليها.
الصاحب أنيس الملوك
بدر الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الأربلي ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، واشتغل بالأدب فحصل على جانب جيد منه وارتزق عند الملوك به.
فمن رقيق شعره ما أورده الشيخ علم الدين في ترجمته قوله:
ومدامة حمراء تشـ* ـبه خد من أهو ودمعي
يسعى بها قمر أعز * ز علي من نظري وسمعي
وقوله في مغنية:
وعزيزة هيفاء ناعمة الصبا * طوع العناق مريضة الأجفان
غنت وماس قومها فكأنها الـ * ـورقاء تسجع فوق غصن البان
الصدر الرئيس شرف الدين محمد بن جمال الدين إبراهيم
ابن شرف الدين عبد الرحمن بن أمين الدين سالم بن الحافظ بهاء الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى، ذهب إلى الحجاز الشريف، فلما كانوا ببردى اعتراه مرض ولم يزل به حتى مات، توفي بمكة وهو محرم ملبٍ، فشهد الناس جنازته وغبطوه بهذه الموتة.
وكانت وفاته يوم الجمعة آخر النهار سابع ذي الحجة ودفن ضحى يوم السبت بمقبرة بباب الحجون رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة
الخليفة والسلطان هما هما، وكذلك النواب والقضاة سوى المالكي بدمشق فإنه العلامة فخر الدين بن سلامة بعد القاضي جمال الدين الزواوي رحمه الله.
ووصلت الأخبار في المحرم من بلاد الجزيرة وبلاد الشرق سنجار والموصل وماردين وتلك النواحي بغلاء عظيم وفناء شديد، وقلة الأمطار، وخوف التتار، وعدم الأقوات وغلاء الأسعار، وقلة النفقات، وزوال النعم، وحلول النقم، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوه من الجمادات والحيوانات والميتات.
وباعوا حتى أولادهم وأهاليهم، فبيع الولد بخمسين درهماً وأقل من ذلك، حتى إن كثير كانوا لا يشترون من أولاد المسلمين، وكانت المرأة تصرح بأنها نصرانية ليشترى منها ولدها لتنتفع بثمنه ويحصل له من يطعمه فيعيش، وتأمن عليه من الهلاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ووقعت أحوال صعبة يطول ذكرها، وتنبو الأسماع عن وصفها، وقد ترحلت منهم فرقة قريب الأربعمائة إلى ناحية مراغة فسقط عليهم ثلج أهلكهم عن آخرهم، وصحبت طائفة منهم فرقة من التتار، فلما انتهوا إلى عقبة صعدها التتار ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكلفوا بهم فماتوا عن آخرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وفي بكرة الاثنين السابع من صفر قدم القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم هبة الله وكيل الخاص السلطاني بالبلاد جميعها، قدم إلى دمشق فنزل بدار السعادة وأقام بها أربعة أيام وأمر ببناء جامع القبيبات، الذي يقال له جامع كريم الدين، وراح لزيارة بيت المقدس، وتصدق بصدقات كثيرة وافرة، وشرع ببناء جامع بعد سفره.
وفي ثاني صفر جاءت ريح شديدة ببلاد طرابلس على ذوق تركمان فأهلكت لهم كثيراً من الأمتعة، وقتلت أميراً منهم يقال له طرالي وزوجته وابنتيه وابني ابنيه وجاريته وأحد عشر نفساً، وقتلت جمالاً كثيرة وغيرها.
وكسرت الأمتعة والأثاث وكانت ترفع البعير في الهواء مقدار عشرة أرماح ثم تلقيه مقطعاً، ثم سقط بعد ذلك مطر شديد وبرد عظيم بحيث أتلف زروعاً كثيرة في قرى عديدة نحو من أربعة وعشرين قرية، حتى أنها لا ترد بدارها.
وفي صفر أخرج الأمير سيف الدين طغاي الحاصلي إلى نيابة صفد فأقيم بها شهرين ثم مسك، والصاحب أمين الدين إلى نظر الأوقاف بطرابلس على معلوم وافر.
قال الشيخ علم الدين وفي يوم الخميس منتصف ربيع الأول اجتمع قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم بالشيخ الإمام العلامة تقي الدين بن تيمية، وأشار عليه في ترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبل الشيخ نصيحته وأجاب إلى ما أشار به، رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتيين.
ثم ورد البريد في مستهل جمادى الأولى بكتاب من السلطان فيه منع الشيخ تقي الدين من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق وانعقد بذلك مجلس، وانفصل الحال على ما رسم به السلطان، ونودي به في البلد، وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلم الحنبلي جماعة من المفتيين الكبار، وقالوا له أن ينصح الشيخ في ترك الإفتاء في مسألة الطلاق، فعلم الشيخ نصيحته، وأنه إنما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشر.
وفي عاشره جاء البريد إلى صفد بمسك سيف الدين طغاي، وتولية بدر الدين القرماني نيابة حمص.
وفي هذا الشهر كان مقتل رشيد الدولة فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمداني، كان أصله يهودياً عطاراً، فتقدم بالطب وشملته السعادة حتى كان عند خربندا الجزء الذي لا يتجزأ، وعلت رتبته وكلمته، وتولى مناصب الوزراء، وحصل له من الأموال والأملاك والسعادة ما لا يحد ولا يوصف، وكان قد أظهر الإسلام.
وكانت لديه فضائل جمة، وقد فسر القرآن وصنف كتباً كثيرة، وكان له أولاد وثروة عظيمة، وبلغ الثمانين من العمر، وكانت له يد جيدة يوم الرحبة، فإنه صانع عن المسلمين وأتقن القضية في رجوع ملك التتار عن البلاد الشامية، سنة ثنتي عشرة كما تقدم.
وكان يناصح الإسلام، ولكن قد نال منه خلق كثير من الناس واتهموه على الدين وتكلموا في تفسيره هذا، ولا شك أنه كان مخبطاً مخلطاً، وليس لديه علم نافع، ولا عمل صالح.
ولما تولى أبو سعيد المملكة عزله وبقي مدة خاملاً ثم استدعاه جوبان وقال له: أنت سقيت السلطان خربندا سماً؟ فقال له: أنا كنت في غاية الحقارة والذلة، فصرت في أيامه وأيام أبيه في غاية العظمة والعزة، فكيف أعمد إلى سقيه والحالة هذه؟ فأحضرت الأطباء فذكروا صورة مرض خربندا وصفته، وأن الرشيد أشار بإسهاله لما عنده في باطنه من الحواصل، فانطلق باطنه نحواً من سبعين مجلساً، فمات بذلك على وجه أنه أخطأ في الطب.
فقال: فأنت إذاً قتلته، فقتله وولده إبراهيم واحتيط على حواصله وأمواله، فبلغت شيئاً كثيراً، وقطعت أعضاؤه وحمل كل جزء منها إلى بلدة، ونودي على رأسه بتبريز هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله لعنه الله، ثم أحرقت جثته، وكان القائم عليه علي شاه.
وفي هذا الشهر - أعني جمادى الأولى - تولى قضاء المالكية بمصر تقي الدين الأخنائي عوضاً عن زين الدين بن مخلوف توفي عن أربع وثمانين سنة، وله في الحكم ثلاث وثلاثون سنة.
وفي يوم الخميس عاشر رجب لبس صلاح الدين يوسف بن الملك الأوحد خلعة الإمرة بمرسوم السلطان.
وفي آخر رجب جاء سيل عظيم بظاهر حمص خرب شيئاً كثيراً، وجاء إلى البلد ليدخلها فمنعه الخندق.
وفي شعبان تكامل بناء الجامع الذي عمره تنكز ظاهر باب النصر، وأقيمت الجمعة فيه عاشر شعبان، وخطب فيه الشيخ نجم الدين علي بن داود بن يحيى الحنفي المعروف بالفقجازي، من مشاهير الفضلاء ذوي الفنون المتعددة، وحضر نائب السلطنة والقضاة والأعيان والقراء والمنشدون وكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الجمعة التي يليها خطب بجامع القبيبات الذي أنشأه كريم الدين وكيل السلطان، وحضر فيه القضاة والأعيان، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الواحد بن يوسف بن الرزين الحراني الأسدي الحنبلي، وهو من الصالحين الكبار، ذوي الزهادة والعبادة والنسك والتوجه وطيب الصوت وحسن السمت.
وفي حادي عشر رمضان خرج الشيخ شمس الدين بن النقيب إلى حمص حاكماً بها مطلوباً مولى مرغوباً فيه، وخرج الناس لتوديعه.
وفي هذا الشهر حصل سيل عظيم بسلمية ومثله بالشوبك، وخرج المحمل في شوال وأمير الركب الأمير علاء الدين بن معبد والي البر، وقاضيه زين الدين ابن قاضي الخليل الحاكم بحلب.
وممن حج في هذه السنة من الأعيان:
الشيخ برهان الدين الفزاري وكمال الدين بن الشريشي وولده وبدر الدين بن العطار.
وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة انتقل الأمير فخر الدين إياس الأعسري من شد الدواوين بدمشق إلى طرابلس أميراً.
وفي يوم الجمعة السابع عشر ذي الحجة أقيمت الجمعة في الجامع الذي أنشأه الصاحب شمس الدين غبريال ناظر الدواوين بدمشق خارج باب شرقي، إلى جانب ضرار بن الأزور بالقرب من محلة القساطلة.
وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن التدمري المعروف بالنيرباني، وهو من كبار الصالحين ذوي العبادة والزهادة، وهو من أصحاب شيخ الإسلام ابن يتيمة، وحضره الصاحب المذكور وجماعة من القضاة والأعيان.
وفي يوم الاثنين والعشرين من ذي الحجة باشر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي المحدث الحافظ بتربة أم الصالح عوضاً عن كمال الدين بن الشريشي توفي بطريق الحجاز في شوال، وقد كان له في مشيختها ثلاث وثلاثون سنة، وحضر عند الذهبي جماعة من القضاة.
وفي يوم الثلاثاء صبيحة هذا الدرس أحضر الفقيه زين الدين بن عبيدان الحنبلي من بعلبك وحوقق على منام رآه زعم أنه رآه بين النائم واليقظان، وفيه تخليط وتخبيط وكلام كثير لا يصدر عن مستقيم المزاج، كان كتبه بخطه وبعثه لي بعض أصحابه، فاستسلمه القاضي الشافعي وحقن دمه وعزره، ونودي عليه في البلد ومنع من الفتوى وعقود الأنكحة ثم أطلق.
وفي يوم الأربعاء بكرة باشر بدر الدين محمد بن بضحان مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح عوضاً عن الشيخ مجد الدين التونسي، توفي وحضر عنده الأعيان الفضلاء، وقد حضرته يومئذ، وقبل ذلك باشر مشيخة الإقراء بالأشرفية عوضاً عنه أيضاً الشيخ محمد بن خروف الموصلي.
وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة باشر الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة شيخنا ومفيدنا أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضاً عن كمال الدين بن الشريشي، ولم يحضر عنده كبير أحد، لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك، مع أنه لم يتولها أحد قبله أحق بها منه.
ولا أحفظ منه، وما عليه منهم؟ إذا لم يحضروا عنده فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده، وبعدهم عنه أنس والله أعلم.
الشيخ الصالح العباد الناسك
الورع الزاهد القدوة بقية السلف وقدوة الخلف
أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك الكبير العارف أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي، ولد سنة خمسين وستمائة ببالس، وسمع من أصحاب ابن طبرزد.
وكان شيخاً جليلاً بشوش الوجه حسن السمت، مقصداً لكل أحد، كثير الوقار عليه سيما العبادة والخير، وكان يوم قازان في جملة من كان مع الشيخ تقي الدين بن تيمية لما تكلم مع قازان، فحكى عن كلام شيخ الإسلام تقي الدين لقازان وشجاعته وجرأته عليه، وأنه قال لترجمانه قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ على ما بلغنا فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هلكا وكانا كافرين، وما غزوا بلاد الإسلام، بل عاهدوا قومنا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.
قال: وجرت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونوب، قام ابن تيمية فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل.قال وقرب إلى الجماعة طعاماً فأكلوا منه إلا ابن تيمية فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس، قال: ثم إن قازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فأخذ له وزلزله ودمره واقطع دابره قال: وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه.
قال: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفاً من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله.
قال: فلما خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وأنا والله لا أصحبكم.
قال: فانطلقنا عصبة وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به الخواقين والأمراء من أصحاب قازان فأتوه يتبركون بدعائه، وهو سائر إلى دمشق، وينظرون إليه، قال والله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وكنت أنا من جملة من كان معه، وأما أولئك الذين أبو أن يصحبوه فخرج عليهم جماعة من التتر فشلحوهم عن آخرهم، هذا الكلام أو نحوه.
وقد سمعت هذه الحكاية من جماعة غيره، وقد تقدم ذلك.
توفي الشيخ محمد بن قوام ليلة الاثنين الثاني والعشرين من صفر بالزاوية المعروفة بهم غربي الصالحية والناصرية والعادلية، وصلّي عليه بها ودفن بها وحضر جنازته ودفنه خلق كثير وجم غفير، وكان في جملة الجمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، لأنه كان يحبه كثيراً، ولم يكن للشيخ محمد مرتب على الدولة ولا غيرهم، ولا لزاويته مرتب ولا وقف، وقد عرض عليه ذلك غير مرة فلم يقبل، وكان يزار، وكان لديه علم وفضائل جمة، وكان فهمه صحيحاً وكانت له معرفة تامة، وكان حسن العقيدة وطويته صحيحة محباً للحديث وآثار السلف، كثير التلاوة والجمعية على الله عز وجل، وقد صنف جزءاً فيه أخبار جيدة، رحمه الله وبل ثراه بوابل الرحمة آمين.
الشيخ الصالح الأديب البارع الشاعر المجيد
تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان البلي ثم الصالحي الحنبلي، أخو الشيخ محمد بن تمام، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث، وصحب الفضلاء، وكان حسن الشكل والخلق، طيب النفس مليح المجاورة والمجالسة، كثير المفاكهة، أقام مدة بالحجاز واجتمع بابن سبعين وبالتقي الحوراني، وأخذ النحو عن ابن مالك وابنه بدر الدين وصحبه مدة، وقد صحبه الشهاب محمود مدة خمسين سنة، وكان يثني عليه بالزهد والفراغ من الدنيا، توفي ليلة السبت الثالث من ربيع الآخر ودفن بالسفح، وقد أورد الشيخ علم الدين البرزالي في ترجمته قطعة من شعره: فمن ذلك قوله:
أسكان المعاهد من فؤادي * لكم في خافق منه سكون
أكرر فيكم أبداً حديثي * فيحلو والحديث له شجون
وأنظمه عقيقاً من دموعي * فتنثره المحاجر والجفون
وأبتكر المعاني في هواكم * وفيكم كل قافية تهون
وأسئل عنكم البكاء سراً * وسر هواكم سر مصون
وأغتبق النسيم لأن فيه * شمائل من معاطفكم تبين
فكم لي في محبتكم غرام * وكم لي في الغرام بكم فنون؟
قاضي القضاة زين الدين
علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري المالكي الحاكم بالديار المصرية، سنة أربع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل وحصل، وولي الحكم بعد ابن شاش سنة خمس وثمانين، وطالت أيامه إلى هذا العام، وكان غزير المروءة والاحتمال والإحسان إلى الفقهاء والشهود، ومن يقصده، توفي ليلة الأربعاء حادي عشر جمادى الآخرة، ودفن بسفح المقطم بمصر، وتولى الحكم بعده بمصر تقي الدين الأخنائي المالكي.
المقري الصيت المشهور المعروف بابن شعلان، وكان رجلاً جيداً في شهود المسمارية، ويقصد للختمات لصيت صوته، توفي يوم الجمعة وهو كهل ثالث عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون.
الشيخ الإمام العالم الزاهد
أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر أحمد بن خلف بن إبراهيم بن أبي عيسى بن الحاج النجيبي القرطبي ثم الإشبيلي، ولد بإشبيلية سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
وقد كان أهله بيت العلم والخطابة والقضاء بمدينة قرطبة، فلما أخذها الفرنج انتقلوا إلى إشبيلية وتمحقت أموالهم وكتبهم، وصادر ابن الأحمر جده القاضي بعشرين ألف دينار، ومات أبوه وجده في سنة إحدى وأربعين وسمتائة، ونشأ يتيماً ثم حج وأقبل إلى الشام فاستقام بدمشق من سنة أربع وثمانين، وسمع من ابن البخاري وغيره، وكتب بيده نحواً من مائة مجلد، إعانة لولديه أبي عمر وأبي عبد الله على الاشتغال.
ثم كانت وفاته بالمدرسة الصلاحية يوم الجمعة وقت الأذان ثامن عشر رجب، وصلي عليه بعد العصر ودفن عند القندلاوي، بباب الصغير بدمشق، وحضر جنازته خلق كثير.
الشيخ كمال الدين ابن الشريشي
احمد ابن الإمام العلامة جمال الدين بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن محمد بن سحمان البكري الوايلي الشريشي، كان أبوه مالكياً كما تقدم، واشتغل هو في مذهب الشافعي فبرع وحصل علوماً كثيرة، وكان خبيراً بالكتابة مع ذلك، وسمع الحديث وكتب الطباق بنفسه، وأفتى ودرس وناظر وباشر بعدة مدارس ومناصب كبار، أول ما باشر مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح بعد والده من سنة خمس وثمانين وستمائة إلى أن توفي، وناب في الحكم عن ابن جماعة.
ثم ترك ذلك وولي وكالة بيت المال وقضاء العسكر ونظر الجامع مرات، ودرس بالشامية البرانية ودرس بالناصرية عشرين سنة، ثم انتزعها من يده ابن جماعة وزين الدين الفارقي، فاستعادها منهما وباشر مشيخة الرباط الناصري بقاسيون مدة، ومشيخة دار الحديث الأشرفية ثمان سنين، وكان مشكور السيرة فيما يولي من الجهات كلها، وقد عزم في هذه السنة على الحج فخرج بأهله فأدركته منيته بالحسا في سلخ شوال من هذه السنة، ودفن هناك رحمه الله، وتولى بعده الوكالة جمال الدين بن القلانسي، ودرس بالناصرية كمال الدين بن الشيرازي، وبدار الحديث الأشرفية الحافظ جمال الدين المزي، وبأم الصالح الشيخ شمس الدين الذهبي، وبالرباط النصاري ولده جمال الدين.
أحمد بن أبي بكر بن أحمد البغدادي نقيب الأشراف المتعممين، كان عنده فضائل جمة نثراً ونظماً مما يناسب الوقائع وما يحضر فيه من التهاني والتعازي، ويعرف الموسيقى والشعبذة، وضرب الرمل، ويحضر المجالس المشتملة على اللهو والمسكر واللعب والبسط، ثم انقطع عن ذلك كله لكبر سنه وهو مما يقال فيه وفي أمثاله:
ذهبت عن توبته سائلاً * وجدتها توبة إفلاس
وكان مولده بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتوفي ليلة السبت خامس ذي القعدة ودفن بمقابر باب الصغير في قبر أعده لنفسه عن خمس وثمانين سنة، سامحه الله.
أبو العباس أحمد بن تاج الدين أبي الخير سلامة بن زين الدين أبي العباس أحمد بن سلام الإسكندري المالكي، ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة، وبرع في علوم كثيرة، وولي نيابة الحكم في الإسكندرية فحمدت سيرته وديانته وصرامته.
ثم قدم على قضاء الشام للمالكية في السنة الماضية فباشرها أحسن مباشرة سنة ونصفاً، إلى أن توفي بالصمصامية بكرة الأربعاء مستهل ذي الحجة، ودفن إلى جانب القندلاوي بباب الصغير، وحضر جنازته خلق كثير، وشكره الناس وأثنوا عليه رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي ليلة مستهل محرم هبت ريح شديدة بدمشق سقط بسببها شيء من الجدران، واقتلعت أشجاراً كثيرة.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم خلع على جمال الدين بن القلانسي بوكالة بيت المال عوضاً عن ابن الشريشي.
وفي يوم الأربعاء الخامس من صفر درس بالناصرية الجوانية ابن صصرى عوضاً عن ابن الشريشي أيضاً، وحضر عنده الناس على العادة.
وفي عاشره باشر شد الدواوين جمال الدين آقوش الرحبي عوضاً عن فخر الدين إياس، وكان آقوش متولي دمشق من سنة سبع وسبعمائة، وولي مكانه الأمير علم الدين طرقش الساكن بالعقبية.
وفي هذا اليوم نودي بالبلد بصوم الناس لأجل الخروج إلى الاستسقاء، وشرع في قراءة البخاري وتهيأ الناس ودعوا عقيب الصلوات وبعد الخطب، وابتهلوا إلى الله في الاستسقاء، فلما كان يوم السبت منتصف صفر، وكان سابع نيسان، خرج أهل البلد برمتهم إلى عند مسجد القدم، وخرج نائب السلطنة والأمراء مشاة يبكون ويتضرعون.
واجتمع الناس هنالك وكان مشهداً عظيماً، وخطب بالناس القاضي صدر الدين سليمان الجعفري وأمن الناس على دعائه، فلما أصبح الناس من اليوم الثاني جاءهم الغيث بإذن الله ورحمته ورأفته لا بحولهم ولا بقوتهم، ففرح الناس فرحاً شديداً وعم البلاد كلها ولله الحمد والمنة، وحده لا شريك له.
وفي أواخر الشهر شرعوا بإصلاح رخام الجامع وترميمه وحلى أبوابه وتحسين ما فيه.
وفي رابع عشر ربيع الآخر درس بالناصرية الجوانية ابن الشيرازي بتوقيع سلطاني، وأخذها من ابن صصرى وباشرها إلى أن مات.
وفي يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى باشر ابن شيخ السلامية فخر الدين أخو ناظر الجيش الحسبة بدمشق عوضاً عن ابن الحداد، وباشر ابن الحداد نظر الجامع بدلاً عن ابن شيخ السلامية، وخلع على كل منهما.
وفي بكرة الثلاثاء خامس جمادى الآخرة قدم من مصر إلى دمشق قاضي القضاة شرف الدين أبو عبد الله محمد إلى قاضي القضاة معين الدين أبي بكر بن الشيخ زكي الدين ظافر الهمداني المالكي، على قضاء المالكية بالشام، عوضاً عن ابن سلامة توفي، وكان بينهما ستة أشهر، ولكن تقليد هذا مؤرخ بآخر ربيع الأول، ولبس الخلعة وقرئ تقليده بالجامع.
وفي هذا الشهر درّس بالخاتونية البرانية القاضي بدر الدين بن نويرة الحنفي، وعمره خمس وعشرون سنة، عوضاً عن القاضي شمس الدين محمد قاضي ملطية توفي.
وفي يوم السبت خامس رمضان وصل إلى دمشق سيل عظيم أتلف شيئاً كثيراً، وارتفع حتى دخل من باب الفرج، ووصل إلى العقبية وانزعج الناس له، وانتقلوا من أماكنهم، ولم تطل مدته لأن أصله كان مطراً وقع بأرض وابل السوق والحسينية.
وفي هذا اليوم باشر طرقشي شد الدواوين بعد موت جمال الدين الرحبي، وباشر ولاية المدينة صارم الدين الجوكندار، وخلع عليهما.ولما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من رمضان اجتمع القضاة وأعيان الفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة وقرئ عليهم كتاب من السلطان يتضمن منع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الفتيا بمسألة الطلاق، وانفصل المجلس على تأكيد المنع من ذلك.
وفي يوم الجمعة تاسع شوال خطب القاضي صدر الدين الداراني عوضاً عن بدر الدين بن ناصر الدين بن عبد السلام، بجامع جراح، وكان فيه خطيباً قبله فتولاه بدر الدين حسن العقرباني واستمر ولده في خطابة داريا التي كانت بيد أبيه من بعده.
وفي يوم السبت عشرة خرج الركب وأميرهم عز الدين أيبك المنصوري أمير علم، وحج فيها صدر الدين قاضي القضاة الحنفي، وبرهان الدين بن عبد الحق، وشرف الدين بن تيمية، ونجم الدين الدمشقي وهو قاضي الركب، ورضي الدين المنطيقي، وشمس الدين بن الزريز خطيب جامع القبيبات، وعبد الله بن رشيق المالكي وغيرهم.
وفيها: حج سلطان الإسلام الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعه جمع كثير من الأمراء، ووكيله كريم الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وكاتب السر ابن الأثير، وقاضي القضاة ابن جماعة، وصاحب حماه الملك عماد الدين، والصاحب شمس الدين غبريال، في خدمة السلطان وكان في خدمته خلق كثير من الأعيان.
وفيها: كانت وقعة عظيمة بين التتار بسبب أن ملكهم أبا سعيد كان قد ضاق ذرعاً بجوبان وعجز عن مسكه، فانتدب له جماعة من الأمراء عن أمره، منهم أبو يحيى خال أبيه، ودقماق وقرشي وغيرهم من أكابر الدولة، وأرادوا كبس جوبان فهرب وجاء إلى السلطان فأنهى إليه ما كان منهم.
وفي صحبته الوزير علي شاه، ولم يزل بالسلطان حتى رضي عن جوبان وأمده بجيش كثيف، وركب السلطان معه أيضاً والتقوا مع أولئك فكسروهم وأسروهم، وتحكم فيهم جوبان فقتل منهم إلى آخر هذه السنة نحواً من أربعين أميراً.
من الأعيان:
الشيخ المقري شهاب الدين
أبو عبد الله الحسين بن سليمان بن فزارة بن بدر الكفري الحنفي، ولد تقريباً في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وقرأ بنفسه كتاب الترمذي، وقرأ القراءات وتفرد بها مدة يشتغل الناس عليه، وجمع عليه السبع أكثر من عشرين طالباً.
وكان يعرف النحو والأدب وفنوناً كثيرة وكانت مجالسته حسنة، وله فوائد كثيرة، درس بالطرخانية أكثر من أربعين سنة، وناب في الحكم عن الأذرعي مدة ولايته، وكان خيراً مباركاً أضر في آخر عمره، وانقطع في بيته، مواظباً على التلاوة والذكر وإقراء القرآن إلى أن توفي ثالث عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ بجامع دمشق، ودفن بقاسيون رحمه الله.
وفي هذا الشهر جاء الخبر بموت:
الشيخ الإمام تاج الدين
عبد الرحمن بن محمد بن أبي حامد التبريزي الشافعي المعروف بالأفضلي، بعد رجوعه من الحج ببغداد في العشر الأول من صفر، وكان صالحاً فقيهاً مباركاً، وكان ينكر على رشيد الدولة ويحط عليه، ولما قتل قال: كان قتله أنفع من قتل مائة ألف نصراني، وكان رشيد الدولة يريد أن يترضّاه فلم يقبل، وكان لا يقبل من أحد شيئاً، ولما توفي دفن بتربة الشونيزي، وكان قد قارب الستين رحمه الله.
محيي الدين محمد بن مفضل بن فضل الله المصري
كاتب ملك الأمراء، ومستوفي الأوقاف، كان مشكور السيرة محبباً للعلماء والصلحاء، فيه كرم وخدمة كثيرة للناس، توفي في رابع عشرين من جمادى الأولى، ودفن بتربة ابن هلال بسفح قاسيون وله ست وأربعون سنة، وباشر بعده في وظيفته أمين الدين بن النحاس.
الأمير الكبير غرلو بن عبد الله العادلي
كان من أكابر الدولة ومن الأمراء المقدمين الألوف، وقد ناب بدمشق عن أستاذه الملك العادل كتبغا نحواً من ثلاثة أشهر في سنة خمس وسبعين وستمائة، وأول سنة ست وتسعين، واستمر أميراً كبيراً إلى أن توفي في سابع جمادى الأولى يوم الخميس ودفن بتربته بشمالي جامع المظفري بقاسيون، وكان شهماً شجاعاً ناصحاً للإسلام وأهله، مات في عشر الستين.
الأمير جمال الدين أقوش
الرحبي المنصوري، والي دمشق مدة طويلة، كان أصله من قرى إربل، وكان نصرانياً فسبي وبيع من نائب الرحبة، ثم انتقل إلى الملك المنصور فأعتقه وأمره، وتولى الولاية بدمشق نحواً من إحدى عشرة سنة ثم انتقل إلى شد الدواوين مدة أربعة أشهر، وكان محبوباً إلى العامة مدة ولايته.
الخطيب صلاح الدين
يوسف بن محمد بن عبد اللطيف بن المعتزل الحموي، له تصانيف وفوائد، وكان خطيب جامع السوق الأسفل بحماه، وسمع من ابن طبرزد، توفي في جمادى الآخرة.
العلامة فخر الدين أبو عمرو
عثمان بن علي بن يحيى بن هبة الله بن إبراهيم بن المسلم بن علي الأنصاري الشافعي المعروف بابن بنت أبي سعد المصري، سمع الحديث وكان من بقايا العلماء، وناب في الحكم بالقاهرة، ووليّ مكانه في ميعاد جامع طولون الشيخ علاء الدين القونوي شيخ الشيوخ، وفي ميعاد الجامع الأزهر شمس الدين بن علان، كانت وفاته ليلة الأحد الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بمصر وله من العمر سبعون سنة.
الشيخ الصالح العابد
أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، له زاوية بالحسينية يزار فيها ولا يخرج منها إلا إلى الجمعة، سمع الحديث، توفي يوم الثلاثاء بعد العصر السادس والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن من الغد بزاويته المذكورة رحمه الله.
الشيخ الصالح المعمر الرحلة
عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك بن علي بن أبي الجيش المقدسي الصالح المطعم، راوي صحيح البخاري وغيره، وقد سمع الكثير من مشايخ عدة وترجمه الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه توفي ليلة السبت رابع عشر ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الظهر في اليوم المذكور بالجامع المظفري، ودفن بالساحة بالقرب من تربة المولهين، وله أربع وسبعون سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة
استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وكان السلطان في هذه السنة في الحج، وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر المحرم، ودقت البشائر، ورجع الصاحب شمس الدين على طريق الشام وصحبته الأمير ناصر الدين الخازندار، وعاد صاحب حماه مع السلطان إلى القاهرة.
وأنعم عليه السلطان ولقب بالملك المؤيد، ورسم أن يخطب له على منابرها وأعمالها، وأن يخطب بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي، على ما كان عليه عمه المنصور.
وفيها: عمر ابن المرجاني شهاب الدين مسجد الخيف وأنفق عليه نحواً من عشرين ألفاً.
وفي المحرم استقال أمين الدين من نظر طرابلس وأقام بالقدس.
وفي آخر صفر باشر نيابة الحكم المالكي القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القفصي، وكان قد قدم مع قاضي القضاة شرف الدين من مصر.
وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الأول ضربت عنق شخص يقال له عبد الله الرومي وكان غلاماً لبعض التجار، وكان قد لزم الجامع، ثم ادّعى النبوة واستتيب فلم يرجع فضربت عنقه وكان أشقر أزرق العينين جاهلاً، وكان قد خالطه شيطان حسن له ذلك، واضطرب عقله في نفس الأمر وهو في نفسه شيطان إنسي.
وفي يوم الاثنين ثاني ربيع الآخر عقد عقدُ السلطان على المرأة التي قدمت من بلاد القبجاق، وهي من بنات الملوك، وخلع على القاضي بدر الدين بن جماعة وكاتب السر وكريم الدين وجماعة الأمراء.
ووصلت العساكر في هذا الشهر إلى بلاد سيس وغرق في بحر جاهان من عساكر طرابلس نحو من ألف فارس، وجاءت مراسيم السلطان في هذا اليوم إلى الشام في الاحتياط على أخبار آل مهنا وإخراجهم من بلاد الإسلام، وذلك لغضب السلطان عليهم لعدم قدوم والدهم مهنا على السلطان.
وفي يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الأولى درس بالركنية الشيخ محي الدين الأسمر الحنفي وأخذت منه الجوهرية لشمس الدين البرقي الأعرج، وتدريس جامع القلعة لعماد الدين بن محيي الدين الطرسوسي، الذي ولي قضاء الحنفية بعد هذا، وأخذ من البرقي إمامة مسجد نور الدين له بحارة اليهود، ولعماد الدين بن الكيال، وإمامة الربوة الشيخ محمد الصبيبي.
وفي جمادى الآخرة اجتمعت الجيوش الإسلامية بأرض حلب نحواً من عشرين ألفاً، عليهم كلهم نائب حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة.
فدخلوا بلاد الأرمن من إسكندرونة ففتحوا الثغر ثم تل حمدان ثم خاضوا جاهان فغرق منهم جماعة، ثم سلم الله من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضيقوا على أهلها وأحرقوا دار الملك التي في البلد، وقطعوا أشجار البساتين وساقوا الأبقار والجواميس والأغنام وكذلك فعلوا بطرسوس، وخربوا الضياع والأماكن وأحرقوا الزروع.
ثم رجعوا فخاضوا النهر المذكور فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعهم مهنا وأولاده من بلادهم وساقوا خلفه إلى عانة وحديثة، ثم بلغ الجيوش موت صاحب سيس وقيام ولده من بعد، فشنوا الغارات على بلاده وتابعوها وغنموا وأسروا إلا في المرة الرابعة فإنه قتل منهم جماعة.
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة ببلاد المغرب بين المسلمين والفرنج فنصر الله المسلمين على أعدائهم، فقتلوا منهم خمسين ألفاً وأسروا خمسة آلاف، وكان في جملة القتلى خمسة وعشرين ملكاً من ملوك الإفرنج، وغنموا شيئاً كثيراً من الأموال.
يقال كان من جملة ما غنموا سبعون قنطاراً من الذهب والفضة، وإنما كان جيش الإسلام يومئذ ألفين وخمسمائة فارس غير الرماة، ولم يقتل منهم سوى إحدى عشر قتيلاً، وهذا من غريب ما وقع وعجيب ما سمع.
وفي يوم الخميس ثاني عشرين رجب عقد مجلس بدار السعادة للشيخ تقي الدين بن تيمية بحضرة نائب السلطنة، وحضر فيه القضاة والمفتيون من المذاهب، وحضر الشيخ وعاتبوه على العود إلى الإفتاء بمسألة الطلاق، ثم حبس في القلعة فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وبعد ذلك بأربعة أيام أضيف شد الأوقاف إلى الأمير علاء الدين بن معبد إلى ما بيده من ولاية البر وعزل بدر الدين المنكورسي عن الشام.
وفي آخر شعبان مسك الأمير علاء الدين الجاولي نائب غزة وحمل إلى الإسكندرية لأنه اتهم أنه يريد الدخول إلى دار اليمن، واحتيط على حواصله وأمواله، وكان له بر وإحسان وأوقاف، وقد بنى بغزة جامعاً حسناً مليحاً.
وفي هذا الشهر أراق ملك التتر أبو سعيد الخمور وأبطل الحانات، وأظهر العدل والإحسان إلى الرعايا، وذلك أنه أصابهم برد عظيم وجاءهم سيل هائل فلجؤوا إلى الله عز وجل، وابتهلوا إليه فسلموا فتابوا وأنابوا وعملوا الخير عقيب ذلك.
وفي العشر الأول من شوال جرى الماء بالنهر الكريمي الذي اشتراه كريم الدين بخمسة وأربعين ألفاً وأجراه في جدول إلى جامعه بالقبيبات فعاش به الناس، وحصل به أنس إلى أهل تلك الناحية، ونصبت عليه الأشجار و البساتين، وعمل حوض كبير تجاه الجامع من الغرب يشرب منه الناس والدواب، وهو حوض كبير وعمل مطهرة، وحصل بذلك نفع كثير، ورفق زائد أثابه الله.
وخرج الركب في حادي عشر شوال وأميره الملك صلاح الدين بن الأوحد، وفيه زين الدين كتبغا الحاجب، وكمال الدين الزملكاني، والقاضي شمس الدين بن المعز، وقاضي حماه شرف الدين البازري، وقطب الدين ابن شيخ السلامية وبدر الدين بن العطار، وعلاء الدين بن غانم، ونور الدين السخاوي، وهو قاضي الركب.
ومن المصريين قاضي الحنفية ابن الحريري، وقاضي الحنابلة ومجد الدين حرمي والشرف عيسى المالكي، وهو قاضي الركب.وفيه كملت عمارة الحمام الذي عمره الجيبغا غربي دار الطعم ودخله الناس.
وفي أواخر ذي الحجة وصل إلى دمشق من عند ملك التتر الخواجه مجد الدين إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي، وفي صحبته هدايا وتحف لصاحب مصر من ملك التتر، وأشهر أنه إنما جاء ليصلح بين المسلمين والتتر، فتلقاه الجند والدولة، ونزل بدار السعادة يوماً واحداً، ثم سار إلى مصر.وفيها: وقف الناس بعرفات موقفاً عظيماً لم يعهد مثله، أتوه من جميع أقطار الأرض، وكان مع العراقيين محامل كثيرة منها محمل قوم ما عليه من الذهب واللآلئ بألف ألف دينار مصرية، وهذا أمر عجيب.
من الأعيان:
الشيخ إبراهيم الدهستاني
وكان قد أسن وعمر، وكان يذكر أن عمره حين أخذت التتر بغداد أربعين سنة، وكان يحضر الجمعة هو وأصحابه تحت قبة النسر، إلى أن توفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ربيع الآخر بزاويته التي عند سوق الخيل بدمشق، ودفن بها وله من العمر مائة وأربع سنين، كما قال، فالله أعلم.
الشيخ محمد بن محمود بن علي
الشحام المقرئ شيخ ميعاد ابن عامر، كان شيخاً حسناً بهياً مواظباً على تلاوة القرآن إلى أن توفي في ليلة توفي الدهستاني المذكور أو قبله بليلة رحمهما الله.
الشيخ شمس الدين بن الصائغ اللغوي
هو أبو عبد الله محمد بن حسين بن سباع بن أبي بكر الجذامي المصري الأصل، ثم انتقل إلى دمشق، ولد تقريباً سنة خمس وأربعين وستمائة بمصر، وسمع الحديث وكان أديباً فاضلاً بارعاً بالنظم والنثر، وعلم العروض والبديع والنحو واللغة، وقد اختصر صحاح الجوهري، وشرح مقصورة بن دريد.
وله قصيدة تائية تشتمل على ألفي بيت فأكثر، ذكر فيها العلوم والصنائع، وكان حسن الأخلاق لطيف المحاورة والمحضارة، وكان يسكن بين درب الحبالين والفراش عند بستان القط توفي بداره يوم الاثنين ثالث شعبان ودفن بباب الصغير.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة
استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفي أول يوم منها فتح حمام الزيت الذي في رأس درب الحجر، جدد عمارته رجل ساوي بعد ما كان قد درس ودثر من زمان الخوارزمية من نحو ثمانين سنة، وهو حمام جيد متسع.
وفي سادس المحرم وصلت هدية من ملك التتار أبي سعيد إلى السلطان صناديق وتحف ودقيق.
وفي يوم عاشوراء خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من القلعة بمرسوم السلطان وتوجه إلى داره، وكانت مدة إقامته خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً رحمه الله.
وفي رابع ربيع الآخر وصل إلى دمشق القاضي كريم الدين وكيل السلطان فنزل بدار السعادة وقدم قاضي القضاة تقي الدين بن عوض الحاكم الحنبلي بمصر وهو ناظر الخزانة أيضاً، فنزل بالعادلية الكبيرة التي للشافعية، فأقام بها أياماً، ثم توجه إلى مصر: جاء في بعض أشغال السلطان وزار القدس.
وفي هذا الشهر كان السلطان قد حفر بركة قريباً من الميدان وكان في جوارها كنيسة فأمر الوالي بهدمها، فلما هدمت تسلط الحرافيش وغيرهم على الكنائس بمصر يهدمون ما قدروا، عليه فانزعج السلطان لذلك وسأل القضاة ماذا يجب على من تعاطى ذلك منهم؟ فقالوا: يعزر.
فأخرج جماعة من السجون ممن وجب عليه قتل فقطع وصلب وحرم وحزن وعاقب، موهماً أنه إنما عاقب من تعاطي تخريب ذلك، فسكن الناس وأمنت النصارى وظهروا بعد ما كانوا قد اختفوا أياماً.
وفيه: ثارت الحرامية ببغداد ونهبوا سوق الثلاثاء وقت الظهر، فثار الناس وراءهم وقتلوا منهم قريباً من مائة وأسروا آخرين.
قال الشيخ علم الدين البرزالي ومن خطه نقلت: وفي يوم الأربعاء السادس من جمادى الأولى خرج القضاة والأعيان والمفتيون إلى القابون ووقفوا على قبلة الجامع الذي أمر ببنائه القاضي كريم الدين وكيل السلطان بالمكان المذكور، وحرروا قبلته واتفقوا على أن تكون مثل قبلة جامع دمشق.
وفيه: وقعت مراجعة من الأمير جوبان أحد المقدمين الكبار، بدمشق، وبين نائب السلطنة تنكز، فمسك جوبان ورفع إلى القلعة ليلتان، ثم حول إلى القاهرة فعوتب في ذلك، ثم أعطي خبزاً يليق به.
وذكر علم الدين أن في هذا اليوم وقع حريق عظيم في القاهرة في الدور الحسنة والأماكن المليحة المرتفعة، وبعض المساجد، وحصل للناس مشقة عظيمة من ذلك، وقنتوا في الصلوات ثم كشفوا عن القضية فإذا هو من قبل النصارى بسبب ما كان أحرق من كنائسهم وهدم، فقتل السلطان بعضهم وألزم النصارى أن يلبسوا الزرقاء على رؤوسهم وثيابهم كلها، وأن يحملوا الأجراس في الحمامات، وأن لا يستخدموا في شيء من الجهات، فسكن الأمر وبطل الحريق.
وفي جمادى الآخرة خرب ملك التتار أبو سعيد البازار وزوج الخواطىء وأراق الخمور وعاقب في ذلك أشد العقوبة، وفرح المسلمون بذلك ودعوا له رحمه الله وسامحه.
وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقيمت الجمعة بجامع القصب، وخطب به الشيخ علي المناخلي.
وفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة فتح الحمام الذي أنشأه تنكز تجاه جامعه، وأكري في كل يوم بأربعين درهماً لحسنه وكثرة ضوئه ورخامه.
وفي يوم السبت تاسع عشر رجب خربت كنيسة القرائيين التي تجاه حارة اليهود بعد إثبات كونها محدثة وجاءت المراسيم السلطانية بذلك.
وفي أواخر رجب نفذت الهدايا من السلطان إلى أبي سعيد ملك التتار، صحبة الخواجا مجد الدين السلامي، وفيها خمسون جملاً وخيول وحمار عتابي.
وفي منتصف رمضان أقيمت الجمعة بالجامع الكريمي بالقابون وشهدها يومئذ القضاة والصاحب وجماعة من الأعيان.
قال الشيخ علم الدين: وقدم دمشق الشيخ قوام الدين أمير كاتب ابن الأمير العميد عمر الأكفاني القازاني، مدرّس مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد، في أول رمضان، وقد حج في هذه السنة وتوجه إلى مصر وأقام بها أشهراً ثم مر بدمشق متوجهاً إلى بغداد فنزل بالخاتونية الحنفية، وهو ذو فنون وبحث وأدب وفقه.
وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره شمس الدين حمزة التركماني، وقاضيه نجم الدين الدمشقي.
وفيها: حج تنكز نائب الشام وفي صحبته جماعة من أهله، وقدم من مصر الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب لينوب عنه إلى أن يرجع، فنزل بالنجيبية البرانية.
وممن حج فيها: الخطيب جلال الدين القزويني، وعز الدين حمزة بن القلانسي، وابن العز شمس الدين الحنفي، وجلال الدين بن حسام الدين الحنفي، وبهاء الدين بن علية، وعلم الدين البرزالي ودرّس ابن جماعة بزاوية الشافعي يوم الأربعاء ثامن عشر شوال عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري لسوء تصرفه، وخلع على ابن جماعة، وحضر عنده من الأعيان والعامة ما نشأ به جمعية الجمعة وأشعلت له شموع كثيرة وفرح الناس بزوال المعزول.
قال البرزالي ومن خطه نقلت: وفي يوم الأحد سادس عشر شوال ذكر الدرس الإمام العلامة تقي الدين السبكي المحدث بالمدرسة الهكارية عوضاً عن ابن الأنصاري أيضاً، وحضر عنده جماعة منهم القونوي، وروى في الدرس حديث المتبايعين بالخيار، عن قاضي القضاة ابن جماعة.
وفي شوال عزل علاء الدين بن معبد عن ولاية البر وشد الأوقاف، وتولى ولاية الولاة بالبلاد القبلية بحوران عوضاً عن بكتمر لسفره إلى الحجاز، وباشر أخوه بدر الدين شد الأوقاف، والأمير علم الدين الطرقشي ولاية البر مع شد الدواوين، وتوجه ابن الأنصاري إلى حلب متولياً وكالة بيت المال عوضاً عن ناصر الدين أخي شرف الدين يعقوب ناظر حلب، بحكم ولاية التاج المذكور نظر الكرك.
وفي يوم عيد الفطر كرب الأمير تمرتاش بن جوبان نائب أبي سعيد على بلاد الروم في قيسارية في جيش كثيف من التتار والتركمان والقرمان، ودخل بلاد سيس فقتل وسبى وحرق وخرب، وكان قد أرسل لنائب حلب الطنبغا ليجهز له جيوشاً ليكونون عوناً له على ذلك، فلم يمكنه ذلك بغير مرسوم السلطان.
من الأعيان:
الشيخ الصالح المقري
بقية السلف عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله بن عبد الواحد بن علي القرشي المخزومي الدلاصي شيخ الحرم بمكة، أقام فيه أزيد من ستين سنة، يقرئ الناس القرآن احتساباً، وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع عشر من محرم بمكة، وله أزيد من تسعين سنة رحمه الله.
الشيخ الفاضل شمس الدين أبو عبد الله
محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمداني، أبوه الصالحي المعروف بالسكاكيني، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة بالصالحية، وقرأ بالروايات، واشتغل في مقدمة في النحو، ونظم قوياً وسمع الحديث، وخرج له الفخر ابن البعلبكي جزءاً عن شيوخه، ثم دخل في التشيع فقرأ على أبي صالح الحلي شيخ الشيعة، وصحب عدنان وقرأ عليه أولاده، وطلبه أمير المدينة النبوية الأمير منصور بن حماد فأقام عنده نحواً من سبع سنين.
ثم عاد إلى دمشق وقد ضعف وثقل سمعه، وله سؤال في الخبر أجابه به الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكل فيه عنه غيره، وظهر له بعد موته كتاب فيه انتصار لليهود وأهل الأديان الفاسدة فغسله تقي الدين السبكي لما قدم دمشق قاضياً، وكان بخطه، ولما مات لم يشهد جنازته القاضي شمس الدين بن مسلم.
توفي يوم الجمعة سادس عشر صفر، ودفن بسفح قاسيون، وقتل ابنه قيماز على قذفه أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهن وقبح قاذفهن.
وفي يوم الجمعة مستهل رمضان صلّي بدمشق على غائبين وهم الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد الأصبهاني، توفي بمكة، وعلى جماعة توفوا بالمدينة النبوية منهم عبد الله بن أبي القاسم بن فرحون مدرس المالكية بها، والشيخ يحيى الكردي، والشيخ حسن المغربي السقا.
الشيخ الإمام العالم علاء الدين
علي بن سعيد بن سالم الأنصاري، إمام مشهد علي من جامع دمشق، كان بشوش الوجه متواضعاً حسن الصوت بالقراءة ملازماً لإقراء الكتاب العزيز بالجامع، وكان يؤم نائب السلطنة ولده العلامة، بهاء الدين محمد بن علي مدرس الأمينية، ومحتسب دمشق.
توفي ليلة الاثنين رابع رمضان ودفن بسفح قاسيون.
الأمير حاجب الحجاب
زين الدين كتبغا المنصوري، حاجب دمشق، كان من خيار الأمراء وأكثرهم براً للفقراء، يحب الختم والمواعيد والمواليد وسماع الحديث، ويلزم أهله ويحسن إليهم، وكان ملازماً لشيخنا أبي العباس ابن يتيمة كثيراً، وكان يحج ويتصدق، توفي يوم الجمعة آخر النهار ثامن عشر شوال، ودفن من الغد بتربته قبلي القبيبات، وشهده خلق كثير وأثنوا عليه رحمه الله.
والشيخ بهاء الدين بن المقدسي والشيخ سعد الدين أبي زكريا يحيى المقدسي، والد الشيخ شمس الدين محمد بن سعد المحدث المشهور.
وسيف الدين الناسخ المنادي على الكتب، والشيخ أحمد الحرام المقرئ على الجنائز، وكان يكرر على التنبيه، ويسأل عن أشياء منا ما هو حسن ومنها ما ليس بحسن.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وسبعمائة
استهلت وأرباب الولايات هم المذكورون في التي قبلها، سوى والي البر بدمشق فإنه علم الدين طرقشي، وقد صرف ابن معبد إلى ولاية حوران لشهامته وصرامته وديانته وأمانته.
وفي المحرم حصلت زلزلة عظيمة بدمشق، وقى الله شرها، وقدم تنكز من الحجاز ليلة الثلاثاء حادي عشر المحرم، وكانت مدة غيبته ثلاثة أشهر.
وقدم ليلاً لئلا يتكلف أحد لقدومه، وسافر نائب الغيبة عنه قبله بيومين لئلا يكلفه بهدية ولا غيرها، وقدم مغلطاي عبد الواحد الجحدار أحد الأمراء بمصر بخلعة سنية من السلطان لتنكز فلبسها وقبل العتبة على العادة، وفي يوم الأربعاء سادس صفر درس الشيخ نجم الدين القفجازي بالظاهرية للحنيفة، وهو خطيب جامع تنكز، وحضر عنده القضاة والأعيان، ودرس في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
وذلك بعد وفاة القاضي شمس الدين بن العز الحنفي، توفي مرجعه من الحجاز، وتولى بعده نيابة القضاء عماد الدين الطرسوسي، وهو زوج ابنته، وكان ينوب عنه في حال غيبته، فاستمر بعده، ثم ولي الحكم بعده، مستنيبه فيها.
وفيه: قدم الخوارزمي حاجباً عوضاً عن كتبغا، وفي ربيع الأول قدم إلى دمشق الشيخ قوام الدين مسعود بن الشيخ برهان الدين محمد بن الشيخ شرف الدين محمد الكرماني الحنفي، فنزل بالقصاعين وتردد إليه الطلبة ودخل إلى نائب السلطنة واجتمع به وهو شاب مولده سنة إحدى وسبعين وقد اجتمعت به، وكان عنده مشاركة في الفروع والأصول ودعواه أوسع من محصوله، وكانت لأبيه وجده مصنفات، ثم صار بعد مدة إلى مصر ومات بها كما سيأتي.
وفي ربيع الأول تكامل فتح إياس ومعاملتها وانتزاعها من أيدي الأرمن، وأخذ البرج الأطلس وبينه وبينها في البحر رمية، ونصف فأخذه المسلمون بإذن الله وخربوه، وكانت أبوابه مطلية بالحديد والرصاص، وعرض سوره ثلاثة عشر ذراعا بالنجار، وغنم المسلمون غنائم كثيرة جداً، وحاصروا كواره فقوى عليهم الحر والذباب، فرسم السلطان بعودهم فحرقوا ما كان معهم من المجانيق وأخذوا حديدها وأقبلوا سالمين غانمين، وكان معهم خلق كثير من المتطوعين.
وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى كمل بسط داخل الجامع فاتسع على الناس، ولكن حصل حرج بحمل الأمتعة على خلاف العادة، فإن الناس كانوا يمرون وسط الرواق ويخرجون من باب البرادة، ومن شاء استمر يمشي إلى الباب الآخر بنعليه، ولم يكن ممنوعاً سوى المقصورة لا يمكن أحد الدخول إليها بالمداسات، بخلاف باقي الرواقات، فأمر نائب السلطة بتكميل بسطه بإشارة ناظره ابن مراحل. وفي جمادى الآخرة رجعت العساكر من بلاد سيس ومقدمهم أقوش نائب الكرك.
وفي آخر رجب باشر القاضي محيي الدين بن إسماعيل بن جهبل نيابة الحكم عن ابن صصرى عوضاً عن الداراني الجعفري، واستغنى الداراني بخطبة جامع العقبية عنها.
وفي ثالث رجب ركب نائب السلطنة إلى خدمة السلطان فأكرمه وخلع عليه، وعاد في أول شعبان ففرح به الناس.
وفي رجب كملت عمارة الحمام الذي بناه الأمير علاء الدين بن صبيح جوار داره شمالي الشامية البرانية.
وفي يوم الاثنين تاسع شعبان عقد الأمير سيف الدين أبو بكر بن أرغون نائب السلطنة عقده على ابنة الناصر، وختن في هذا اليوم جماعة من أولاد الأمراء بين يديه، ومد سماطاً عظيماً، ونثرت الفضة على رؤوس المطهرين، وكان يوماً مشهوداً، ورسم السلطان في هذا اليوم وضع المكس عن المأكولات بمكة، وعوض صاحبها عن ذلك بإقطاع في بلد الصعيد.
وفي أواخر رمضان كملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين بن عليم بزقاق الماجية من قاسيون بالقرب من سكنه، وانتفع به أهل تلك الناحية ومن جاورهم.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس ثامن شوال وأميره سيف الدين بلبطي نائب الرحبة، وكان سكنه داخل باب الجابية بدرب ابن صبرة، وقاضيه شمس الدين بن النقيب قاضي حمص.
من الأعيان:
القاضي شمس الدين بن العز الحنفي
أبو عبد الله محمد بن الشيخ شرف الدين أبي البركات محمد بن الشيخ عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن كابن بن وهيب الأذرعي الحنفي، أحد مشايخ الحنفية وأئمتهم وفضلائهم في فنون من العلوم متعددة، حكم نيابة نحواً من عشرين سنة.
وكان سديد الأحكام محمود السيرة، جيد الطريقة كريم الأخلاق كثير البر والصلة والإحسان إلى أصحابه وغيرهم، وخطب في جامع الأفرم مدة، وهو أول من خطب به ودرس بالمعظمية واليغمورية والقليجية والظاهرية، وكان ناظر أوقافها، وأذن للناس بالإفتاء، وكان كبيراً معظماً مهيباً.
توفي بعد مرجعه من الحج بأيام قلائل، يوم الخميس سلخ المحرم، وصلّي عليه يومئذ بعد الظهر بجامع الأفرم، ودفن عند المعظمية عند أقاربه، وكانت جنازته حافلة، وشهد له الناس بالخير وغبطوه لهذه الموتة رحمه الله.
ودرس بعده في الظاهرية نجم الدين الفقجازي، وفي المعظمية والقليجية والخطابة الأفرم ابنه علاء الدين، وباشر بعده نيابة الحكم القاضي عماد الدين الطرسوسي، مدرس القلعة.
الشيخ الإمام العالم أبو إسحاق
بقية السلف رضي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي، إمام المقام أكثر من خمسين سنة، سمع الحديث من شيوخ بلده والواردين إليها ولم يكن له رحلة، وكان يفتي الناس من مدة طويلة، ويذكر أنه اختصر شرح السنة للبغوي.
توفي يوم السبت بعد الظهر ثامن ربيع الأول بمكة، ودفن من الغد، وكان من أئمة المشايخ.
شيخنا العلامة الزاهد ركن الدين
بقية السلف ركن الدين أبو يحيى زكريا بن يوسف بن سليمان بن حماد البجلي الشافعي، نائب الخطابة، ومدرس الطيبية والأسدية، وله حلقة للاشتغال بالجامع، يحضر بها عنده الطلبة، كان يشتغل في الفرائض وغيرها، مواظباً على ذلك، توفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى عن سبعين سنة، ودفن قريباً من شيخه تاج الدين الفزاري رحمهما الله.
نصير الدين
أبو محمد عبد الله بن وجيه الدين أبي عبد الله علي بن محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد بن معالي ابن محمد بن أبي بكر الربعي التغلبي التكريتي أحد صدور دمشق، قدم أبوه قبله إليها وعظم في أيام الظاهر وقبله، وكان مولده في حدود خمسين وستمائة، ولهم الأموال الكثيرة والنعمة الباذخة، توفي يوم الخميس عشرين رجب، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.
وفي يوم الأحد حادي عشر شوال توفي:
شمس الدين محمد بن المغربي
التاجر السفار، باني خان الصنمين الذي على جادة الطريق للسبيل رحمه الله وتقبل منه، وهو في أحسن الأماكن وأنفعها.
الشيخ الجليل نجم الدين
نجم الدين أبو عبد الله الحسين بن محمد بن إسماعيل القرشي المعروف بابن عنقود المصري، كانت له وجاهة وإقدام على الدولة، توفي بكرة الجمعة ثالث عشرين شوال، ودفن بزاويته، وقام بعده فيها ابن أخيه.
شمس الدين محمد بن الحسن
ابن الشيخ الفقيه محيي الدين أبو الهدى أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبي شامة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة فأسمعه أبوه على المشايخ وقرأ القرآن واشتغل بالفقه وكان ينسخ ويكثر التلاوة ويحضر المدارس والسبع الكبير، توفي في سابع عشرين شوال، ودفن عند والده بمقابر باب الفراديس.
الشيخ العابد جلال الدين
جلال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود بن محمد العقيلي المعروف بابن القلانسي، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، ورواه غير مرة، وسمع على غيره أيضاً، واشتغل بصناعة الكتابة والإنشاء ثم انقطع وترك ذلك كله وأقبل على العبادة والزهادة، وبنى له الأمراء بمصر زاوية وترددوا إليه.
وكان فيه بشاشة وفصاحة، وكان ثقيل السمع، ثم انتقل إلى القدس وقدم دمشق مرة فاجتمع به الناس وأكرموه، وحدث بها ثم عاد إلى القدس وتوفي بها ليلة الأحد ثالث ذي القعدة، ودفن بمقابر ماملي رحمه الله، وهو خال المحتسب عز الدين بن القلانسي، وهذا خال الصاحب تقي الدين بن مراحل.
الشيخ الإمام قطب الدين
محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي المصري، اختصر الروضة وصنف كتاب التعجيز ودرّس بالفاضلية وناب في الحكم بمصر، وكان من أعيان الفقهاء، توفي يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة عن سبعين سنة، وحضر بعده تدريس الفاضلية ضياء الدين المنادي، نائب الحكم بالقاهرة وحضر عنده ابن جماعة، والأعيان والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة
استهلت بيوم الأحد في كانون الأصم، والحكام هم المذكورون في التي قبلها، غير أن والي البر بدمشق هو الأمير علاء الدين علي بن الحسن المرواني، باشرها في صفر من السنة الماضية.
وفي صفر من هذه السنة باشر ولاية المدينة الأمير شهاب الدين بن يرق عوضاً عن صارم الدين الجوكنداري.
وفي صفر عوفي القاضي كريم الدين وكيل السلطان من مرض كان قد أصابه، فزينت القاهرة وأشعلت الشموع وجمع الفقراء بالمارستان المنصوري ليأخذوا من صدقته.
فمات بعضهم من الزحام في سلخ ربيع الأول، ودرّس الإمام العلاّمة المحدّث تقي الدين السبكي الشافعي بالمنصورية بالقاهرة عوضاً عن القاضي جمال الدين الزرعي، بمقتضى انتقاله إلى دمشق، وحضر عنده علاء الدين شيخ الشيوخ القونوي الشافعي عوضاً عن النجم ابن صصرى، في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى، فنزل العادلية وقد قدم على القضاة ومشيخة الشيوخ وقضاء العساكر وتدريس العادلية والغزالية والأتابكية.
وفي يوم الأحد مسك القاضي كريم الدين بن عبد الكريم بن هبة الله بن الشديد وكيل السلطان وكان قد بلغ من المنزلة والمكانة عند السلطان ما لم يصل إليه غيره من الوزراء الكبار واحتيط على أمواله وحواصله، ورسم عليه عند نائب السلطنة، ثم رسم له أن يكون بتربته التي بالقرافة، ثم نفي إلى الشوبك وأنعم عليه بشيء من المال، ثم أذن له بالإقامة بالقدس الشريف برباطه.
ومسك ابن أخيه كريم الدين الصغير ناظر الدواوين، وأخذت أمواله وحبس في البرج، وفرح العامة بذلك ودعوا للسلطان سبب مسكهما، ثم أخرج إلى صفد.
وطلب من القدس أمين الملك عبد الله فوليّ الوزارة بمصر وخلع عليه عوداً على بدء، وفرح العامة بذلك وأشعلوا له الشموع، وطلب الصاحب بدر الدين غبريال من دمشق فركب ومعه أموال كثيرة، ثم خوّل أموال كريم الدين الكبير، وعاد إلى دمشق مكرماً.
وقدم القاضي معين الدين بن الحشيشي على نظر الجيوش الشامية عوضاً عن القطب بن شيخ السلامية عزل عنها، ورسم عليه في العذراوية نحواً من عشرين يوماً ثم أذن له في الانصراف إلى منزله مصروفاً عنها.
وفي جمادى الأولى عزل طرقشي عن شد الدواوين وتولاها الأمير بكتمر.
وفي ثاني جمادى الآخرة باشر ابن جهبل نيابة الحكم عن الزرعي، وكان قد باشر قبلها بأيام نظر الأيتام عوضاً عن ابن هلال.
وفي شعبان أعيد الطرقشي إلى الشد وسافر بكتمر إلى نيابة الإسكندرية، وكان بها إلى أن توفي.
وفي رمضان قدم جماعة من حجاج الشرق وفيهم بنت الملك أبغا بن هولاكو، وأخت أرغون وعمة قازان وخربندا، فأكرمت وأنزلت بالقصر الأبلق، وأجريت عليها الإقامات والنفقات إلى أوان الحج، وخرج الركب يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلجا الأيوبكري، الذي بالقصاعين وقاضي الركب شمس الدين قاضي القضاة ابن مسلم الحنبلي.
وحج معهم جمال الدين المزي، وعماد الدين بن الشيرجي، وأمين الدين الوافي، وفخر الدين البعلبكي، وجماعة، وفوض الكلام في ذلك إلى شرف الدين بن سعد الدين بن نجيح.
كذا أخبرني شهاب الدين الظاهري.
ومن المصريين قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وولده عز الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وشمس الدين الحارثي، وشهاب الدين الأذرعي، وعلاء الدين الفارسي.
وفي شوال باشر تقي الدين السبكي مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة بعد زكي الدين المنادي ويقال له عبد العظيم بن الحافظ شرف الدين الدمياطي، ثم انتزعت من السبكي لفتح الدين بن سيد الناس اليعمري، باشرها في ذي القعدة.
وفي يوم الخميس مستهل ذي الحجة خلع على قطب الدين ابن شيخ السلامية وأعيد إلى نظر الجيش مصاحباً لمعين الدين بن الحشيشي، ثم بعد مدة مديدة استقل قطب الدين بالنظر وحده وعزل ابن حشيش.
من الأعيان:
الإمام المؤرخ كمال الدين الفوطي
أبو الفضل عبد الرزاق أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي عمر بن أبي المعالي الشيباني البغدادي، المعروف بابن الفوطي، وهو جده لأمه، ولد سنة اثنتين وأربعين وستمائة ببغداد، وأسر في واقعة التتار ثم تخلص من الأسر، فكان مشارفاً على الكتب بالمستنصرية، وقد صنف تاريخاً في خمس وخمسين مجلداً، وآخر في نحو عشرين، وله مصنفات كثيرة، وشعر حسن، وقد سمع الحسن من محيي الدين بن الجوزي، توفي ثالث المحرم ودفن بالشونيزية.
قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى
أبو العباس أحمد بن العدل عماد الدين بن محمد بن العدل أمين الدين سالم بن الحافظ المحدث بهاء الدين أبي المواهب بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن صصرى التغلبي الربعي الشافعي قاضي القضاة بالشام، ولد في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة.
وسمع الحديث واشتغل وحصل وكتب عن القاضي شمس الدين بن خلكان وفيات الأعيان، وسمعها عليه، وتفقه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النحو، وكان له يد في الإنشاء وحسن العبارة، ودرذس بالعادلية الصغيرة سنة ثنتين وثمانين، وبالأمينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين.
وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابن جماعة حين طلب لقضاء مصر، بعد ابن دقيق العيد.
ثم أضيف إليه مشيخة الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والأتابكية، وكلها مناصب دنيوية انسلخ منها وانسلخت منه، ومضى عنها وتركها لغيره، وأكبر أمنيته بعد وفاته أنه لم يكن تولاها وهي متاع قليل من حبيب مفارق، وقد كان رئيساً محتشماً وقوراً كريماً جميل الأخلاق، معظماً عند السلطان والدولة.
توفي فجأة ببستانه بالسهم ليلة الخميس سادس عشر ربيع الأول وصلّي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان، وكانت جنازته حافلة ودفن بتربتهم عند الركنية.
علاء الدين علي بن محمد
ابن عثمان بن أحمد بن أبي المنى بن محمد بن نحلة الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة وقرأ (المحرر)، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي ودرّس بالدولعية والركنية، وناظر بيت المال، وابتنى داراً حسنة إلى جانب الركنية، ومات وتركها في ربيع الأول، ودرّس بعده بالدولعية القاضي جمال الدين بن جملة، وبالركنية القاضي ركن الدين الخراساني.
وفي ربيع الأول قتل:
الشيخ ضياء الدين
عبد الله الزربندي النحوي، كان قد اضطرب عقله فسافر من دمشق إلى القاهرة فأشار شيخ الشيوخ القونوي فأودع بالمارستان فلم يوافق ثم دخل إلى القلعة وبيده سيف مسلول فقتل نصرانياً، فحمل إلى السلطان وظنوه جاسوساً فأمر بشنقه فشنق، وكنت ممن اشتغل عليه في النحو.
الشيخ الصالح المقري الفاضل
شهاب الدين أحمد بن الطبيب بن عبيد الله الحلي العزيزي الفوارسي المعروف بابن الحلبية، سمع من خطيب مرداو ابن عبد الدائم، واشتغل وحصل وأقرأ الناس، وكانت وفاته في ربيع الأول عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالسفح.
شهاب الدين أحمد بن محمد
ابن قطنية الذرعي التاجر المشهور بكثرة الأموال والبضائع والمتاجر، قيل بلغت زكاة ماله في سنة قازان خمسة وعشرين ألف دينار، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بتربته التي بباب بستانه المسمى بالمرفع عند ثورا، في طريق القابون، وهي تربة هائلة، وكانت له أملاك.
القاضي الإمام جمال الدين
أبو بكر بن عباس بن عبد الله الخابوري، قاضي بعلبك، وأكبر أصحاب الشيخ تاج الدين الفزاري، قدم من بعلبك ليلتقي بالقاضي الذرعي فمات بالمدرسة البادرائية ليلة السبت السابع جمادى الأولى ودفن بقاسيون، وله من العمر سبعون سنة أضغاث حلم.
الشيخ المعمر المسن جمال الدين
عمر بن إلياس بن الرشيد البعلبكي التاجر، ولد سنة ثنتين وستمائة، وتوفي في ثاني عشر جمادى الأولى عن مائة وعشرين سنة، ودفن بمطحا رحمه الله.
الشيخ الإمام المحدث صفي الدين القرافي
صفي الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر بن محمد الحسني بن يحيى بن الحسين الأرموي، الصوفي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وكتب الكثير، وذيل على (النهاية) لابن الأثير، وكان قد قرأ (التنبيه) واشتغل في اللغة فحصل منها طرفاً جيداً.
ثم اضطرب عقله في سنة سبع وسبعين وغلبت عليه السوداء، وكان يفيق منها في بعض الأحيان فيذاكر صحيحاً ثم يعترضه المرض المذكور، ولم يزل كذلك حتى توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة في المارستان النوري، ودفن بباب الصغير.
الخاتون المصونة
خاتون بنت الملك الصالح إسماعيل ابن العادل بن أبي بكر بن أيوب بن شادي بدارها، وتعرف بدار كافور، وكانت رئيسة محترمة، ولم تتزوج قط، وليس في طبقتها من بني أيوب غيرها في هذا الحين، توفيت يوم الخميس الحادي والعشرين من شعبان، ودفنت بتربة أم الصالح رحمهما الله.
شيخنا الجليل المعمر الرحلة بهاء الدين
بهاء الدين أبو القاسم ابن الشيخ بدر الدين أبي غالب المظفر بن نجم الدين بن أبي الثناء محمود ابن الإمام تاج الأمناء أبي الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الدمشقي الطبيب المعمر، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة، سمع حضوراً وسماعاً على الكثير من المشايخ، وقد خرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة سمعناها عليه في سنة وفاته، وكذلك خرج له الحافظ صلاح الدين العلائي عوالي من حديثه، وكتب له المحدث المفيد ناصر الدين بن طغربك مشيخة في سبع مجلدات تشتمل على خمسمائة وسبعين شيخاً، سماعاً وإجازة وقرئت عليه فسمعها الحافظ وغيرهم.
قال البرزالي: وقد قرأت عليه ثلاثاً وعشرين مجلداً بحذف المكررات، ومن الأجزاء خمسمائة وخمسين جزء بالمكررات.
قال: وكان قد اشتغل بالطب، وكان يعالج الناس بغير أجرة، وكان يحفظ كثيراً من الأحاديث والحكايات والأشعار، وله نظم وخدم من عدة جهات الكتابة، ثم ترك ذلك ولزم بيته، وإسماع الحديث وتفرد في آخر عمره في أشياء كثيرة، وكان سهلاً في التسميع، ووقف آخر عمره داره دار حديث، وخص الحافظ البرزالي والمزي بشيء من بره، وكانت وفاته يوم الاثنين وقت الظهر خامس وعشرين شعبان، ودفن بقاسيون رحمه الله.
الوزير ثم الأمير نجم الدين
حمد بن الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي القاسم البصراوي الحنفي، درس ببصرى بعد عمه القاضي صدر الدين الحنفي، ثم ولي الحسبة بدمشق ونظر الخزانة، ثم ولي الوزارة، ثم سأل الإقالة منها فعوض بإمرية عشرة عنها بإقطاع هائل، وعومل في ذلك معاملة الوزراء في حرمته ولبسته، حتى كانت وفاته ببصرى يوم الخميس ثامن عشرين شعبان، ودفن هناك، وكان كريماً ممدحاً وهاباً نهاباً كثير الصدقة والإحسان إلى الناس، ترك أموالاً وأولاداً ثم تفانوا كلهم بعده وتفرقت أمواله، ونكحت نساؤه وسكنت منازله.
الأمير صارم الدين بن قراسنقر الجوكندار
مشد الخاص، ثم ولي بدمشق ولاية ثم عزل عنها قبل موته بستة أشهر، توفي تاسع رمضان ودفن بتربته المشرفة المبيضة شرقي مسجد النارنج كان قد أعدها لنفسه.
الشيخ أحمد الأعقف الحريري
شهاب الدين أحمد بن حامد بن سعيد التنوخي الحريري، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل في صباه على الشيخ تاج الدين الفزاري في التنبيه، ثم صحب الحريرية وخدمهم ولزم مصاحبة الشيخ نجم الدين بن إسرائيل، وسمع الحديث، وحج غير مرة، وكان مليح الشكل كثير التودد إلى الناس، حسن الأخلاق، توفي يوم الأحد ثالث عشرين رمضان بزاويته بالمزة، ودفن بمقبرة المزة، وكانت جنازته حافلة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرين رمضان صلّي بدمشق على غائب وهو الشيخ هارون المقدسي، توفي ببعلبك في العشر الأخير من رمضان، وكان صالحاً مشهوراً عند الفقراء، وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة توفي:
الشيخ المقري أبو عبد الله
محمد بن إبراهيم بن يوسف بن غصن الأنصاري القصري ثم السبتي بالقدس، ودفن بماملي، وكانت له جنازة حافلة حضرها كريم الدين والناس مشاة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وكان شيخاً مهيباً أحمر اللحية من الحناء، اجتمعت به وبحثت معه في هذه السنة حين زرت القدس الشريف، وهي أول زيارة زرته، وكان مالكي المذهب، قد قرأ الموطأ في ثمانية أشهر، وأخذ النحو عن أبي الربيع شارح المجمل للزجاجي من طريق شريح.
شيخنا الأصيل شمس الدين
شمس الدين أبو نصر بن محمد بن عماد الدين أبي الفضل محمد بن شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الشيرازي، مولده في شوال سنة تسع وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع وأفاد في علية شيخنا المزي تغمده الله برحمته، قرأ عليه عدة أجزاء بنفسه أثابه الله وكان شيخاً حسناً خيراً مباركاً متواضعاً، يذهب الربعات والمصاحف، له في ذلك يد طولى، ولم يتدنس بشيء من الولايات، ولا تدنس بشيء من وظائف المدارس ولا الشهادات، إلى أن توفي في يوم عرفة ببستانه من المزة، وصلّي عليه بجامعها ودفن بتربتها رحمه الله.
الشيخ العابد أبو بكر
أبو بكر بن أيوب بن سعد الذرعي الحنبلي، قيم الجوزية، كان رجلاً صالحاً متعبداً قليل التكلف، وكان فاضلاً، وقد سمع شيئاَ من دلائل النبوة عن الرشيدي العامري، توفي فجأة ليلة الأحد تاسع عشر ذي الحجة بالمدرسة الجوزية، وصلّي عليه بعد الظهر بالجامع، ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيراً رحمه الله، وهو والد العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية.
الأمير علاء الدين بن شرف الدين
محمود بن إسماعيل بن معبد البعلبكي أحد أمراء الطبلخانات، كان والده تاجراً ببعلبك فنشأ ولده هذا واتصل بالدولة، علت منزلته، حتى أعطي طبلخانة وباشر ولاية البريد بدمشق مع شد الأوقاف ثم صرف إلى ولاية الولاة بحوران، فاعترضه مرض، وكان سبط البدن عبله، فسأل أن يقال فأجيب فأقام ببستانه بالمزة إلى أن توفي في خامس عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه هناك، ودفن بمقبرة المزة، كان من خيار الأمراء وأحسنهم، مع ديانة وخير سامحه الله.
وفي هذا اليوم توفي:
الفقيه الناسك شرف الدين الحراني
شرف الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سعد الله بن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن عمر الحراني، المعروف بابن النجيح، توفي في وادي بني سالم، فحمل إلى المدينة فغسل وصلّي عليه في الروضة ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل، فغبطه الناس في هذه الموتة وهذا القبر، رحمه الله.
وكان ممن غبطه الشيخ شمس الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فمات بعده ودفن عنده وذلك بعده بثلاث سنين رحمهما الله.
وجاء يوم حضر جنازة الشيخ شرف الدين محمد المذكور شرف الدين بن أبي العز الحنفي قبل ذلك بجمعة، مرجعه من الحج بعد انفصاله عن مكة بمرحلتين، فغبط الميت المذكور بتلك الموتة فرزق مثلها بالمدينة.
وقد كان شرف الدين بن نجيح هذا قد صحب شيخنا العلام تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبة لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات، وكلما له في ازدياد محبة فيه وصبراً على أذى أعدائه.
وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيداً مشكور السيرة جيد العقل والفهم، عظيم الديانة والزهد، ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج، وصلّي عليه بروضة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن بالبقيع بقيع الفرقد بالمدينة النبوية، فختم له بصالح عمله، وقد كان كثير من السلف يتمنى أن يموت عقيب عمل صالح يعمله، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها: الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر، ونائبه بمصر سيف الدين أرغون ووزيره أمين الملك، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائبه بالشام تنكز، وقضاة الشام الشافعي جمال الدين الذرعي، والحنفي الصدر علي البصراوي، والمالكي شرف الدين الهمداني.
والحنبلي شمس الدين بن مسلم، وخطيب الجامع الأموي جلال الدين القزويني، ووكيل بيت المال جمال الدين بن القلانسي، ومحتسب البلد فخر الدين بن شيخ السلامية، وناظر الدواوين شمس الدين غبريال ومشد الدواوين علم الدين طرقشي، وناظر الجيش قطب الدين بن شيخ السلامية، ومعين الدين بن الخشيش، وكاتب السر شهاب الدين محمود، ونقيب الأشراف شرف الدين بن عدنان، وناظر الجامع بدر الدين بن الحداد، وناظر الخزانة عز الدين بن القلانسي، ووالي البر علاء الدين بن المرواني، ووالي دمشق شهاب الدين برق.
وفي خامس عشر ربيع الأول باشر عز الدين بن القلانسي الحسبة عوضاً عن ابن شيخ السلامية مع نظر الخزانة، وفي هذا الشهر حمل كريم الدين وكيل السلطان من القدس إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أخذت منه أموال وذخائر كثيرة، ثم نفي إلى الصعيد وأجري عليه نفقات سلطانية له ولمن معه من عياله، وطلب كريم الدين الصغير وصودر بأموال جمة.
وفي يوم الجمعة الحادي عشر من ربيع الآخر قرئ كتاب السلطان بالمقصورة من الجامع الأموي بحضرة نائب السلطنة والقضاة، يتضمن إطلاق مكس الغلة بالشام المحروس جميعه، فكثرت الأدعية للسلطان، وقدم البريد إلى نائب الشام يوم الجمعة خامس عشرين ربيع الآخر بعزل قاضي الشافعية الذرعي.
فبلغه ذلك فامتنع بنفسه من الحكم، وأقام بالعادلية بعد العزل خمسة عشر يوماً ثم انتقل منها إلى الأتابكية، واستمرت بيده مشيخة الشيوخ وتدريس الأتابكية، واستدعى نائب السلطان شيخنا الإمام الزاهد برهان الدين الفزاري، فعرض عليه القضاء فامتنع فألح عليه بكل ممكن فأبى وخرج من عنده فأرسل في أثره الأعيان إلى مدرسته فدخلوا عليه بكل حيلة فامتنع من قبول الولاية، وصمم أشد التصميم جزاه الله خيراً عن مروءته.
فلما كان يوم الجمعة جاء البريد فأخبر بتوليته قضاء الشام، وفي هذا اليوم خلع على تقي الدين سليمان بن مراجل بنظر الجامع عوضاً عن بدر الدين بن الحداد توفي، وأخذ من ابن مراجل نظر المارستان الصغير لبدر الدين بن العطار، وخسف القمر ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة بعد العشاء، فصلى الخطيب صلاة الكسوف بأربع سور: ق، واقتربت، والوقعة، والقيامة، ثم صلى العشاء ثم خطب بعدها ثم أصبح فصلى بالناس الصبح، ثم ركب على البريد إلى مصر فرزق من السلطان فتولاه وولاه بعد أيام القضاء، ثم كرّ راجعاً إلى الشام فدخل دمشق في خامس رجب على القضاء مع الخطابة وتدريس العادلية والغزالية، فباشر ذلك كله، وأخذت منه الأمينية فدرّس فيها جمال الدين بن القلانسي، مع وكالة بيت المال، وأضيف إليه قضاء العساكر وخوطب بقاضي القضاة جلال الدين القزويني.
وفيها: قدم ملك التكرور إلى القاهرة بسبب الحج في خامس عشرين رجب، فنزل بالقرافة ومعه من المغاربة والخدم نحو من عشرين ألفاً، ومعهم ذهب كثير بحيث إنه نزل سعر الذهب درهمين في كل مثقال، ويقال له الملك الأشرف موسى بن أبي بكر، وهو شاب جميل الصورة، له مملكة متسعة مسيرة ثلاث سنين.
ويذكر أن تحت يده أربعة وعشرين ملكاً، كل ملك تحت يده خلق وعساكر، ولما دخل قلعة الجبل ليسلم على السلطان أمر بتقبيل الأرض فامتنع من ذلك، فأكرمه السلطان، ولم يمكن من الجلوس أيضاً حتى خرج من بين يدي السلطان وأحضر له حصان أشهب بزناري أطلس أصفر، وهيئت له هجن وآلات كثيرة تليق بمثله.
وأرسل هو إلى السلطان أيضاً بهدايا كثيرة من جملتها أربعون ألف دينار، إلى النائب بنحو عشرة آلاف دينار، وتحف كثيرة.
وفي شعبان ورمضان زاد النيل بمصر زيادة عظيمة، لم ير مثلها من نحو مائة سنة أو أزيد منها ومكث على الأراضي نحو ثلاثة أشهر ونصف، وغرق أقصاباً كثيرة، ولكن كان نفعه أعظم من ضره.
وفي يوم الخميس ثامن عشر شعبان استناب القاضي جلال الدين القزويني نائبين في الحكم، وهما يوسف بن إبراهيم بن جملة المحجي الصالحي، وقد ولي القضاء فيما بعد ذلك كما سيأتي، ومحمد بن علي بن إبراهيم المصري، وحكما يومئذ، ومن الغد جاء البريد ومعه تقليد قضاء حلب للشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فاستدعاه نائب السلطنة وفاوضه في ذلك فامتنع.
فراجعه النائب ثم راجع السلطان فجاء البريد في ثاني عشر رمضان بإمضاء الولاية فشرع للتأهب لبلاد حلب، وتمادى في ذلك حتى كان خروجه إليها في بكرة يوم الخميس رابع عشر شوال.
ودخل حلب يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال فأكرم إكراماً زائداً، ودرّس بها وألقى علوماً أكبر من تلك البلاد، وحصل لهم الشرف بفنونه وفوائده، وحصل لأهل الشام الأسف على دروسه الأنيقة الفائقة، وما أحسن ما قال الشاعر وهو شمس الدين محمد الحناط في قصيدة له مطولة أولها قوله:
أسفت لفقدك جلق الفيحاء * وتباشرت بقدومك الشهباء
وفي ثاني عشر رمضان عزل أمين الملك عن وزارة مصر وأضيفت الوزارة إلى الأمير علاء الدين مغلطاي الحمالي، أستاذ دار السلطان.
وفي أواخر رمضان طلب الصاحب شمس الدين غبريال إلى القاهرة فولي بها نظر الدواوين عوضاً عن كريم الدين الصغير، وقدم كريم الدين المذكور إلى دمشق في شوال، فنزل بدار العدل من القصاعين.
وولى سيف الدين قديدار ولاية مصر، وهو شهم سفاك للدماء، فأراق الخمور وأحرق الحشيشة وأمسك الشطار، واستقامت به أحوال القاهرة ومصر، وكان هذا الرجل ملازماً لابن تيمية مدة مقامه بمصر.
وفي رمضان قدم إلى مصر الشيخ نجم الدين عبد الرحيم بن الشحام الموصلي من بلاد السلطان أزبك، وعنده فنون من علم الطب وغيره، ومعه كتاب بالوصية به فأعطي تدريس الظاهرية البرانية نزل له عنها جمال الدين بن القلانسي، فباشرها في مستهل ذي الحجة، ثم درّس بالجاروضية.
ثم خرج الركب في تاسع شوال وأميره كوكنجبار المحمدي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وممن خرج إلى الحج: برهان الدين الفزاري، وشهاب الدين قرطاي الناصري نائب طرابلس، وصاروحا وشهرى وغيرهم.
وفي نصف شوال زاد السلطان في عدة الفقهاء بمدرسته الناصرية، كان فيها من كل مذهب ثلاثون ثلاثون، فزادهم إلى أربعة وخمسين من كل مذهب، وزادهم في الجوامك أيضاً.
وفي الثالث والعشرين منه وجد كريم الدين الكبير وكيل السلطان قد شنق نفسه داخل خزانة له قد أغلقها عليه من داخل: ربط حلقه في حبل وكان تحت رجليه قفص فدفع القفص برجليه فمات في مدينة أسوان، وستأتي ترجمته.
وفي سابع عشر ذي القعدة زينت دمشق بسبب عافية السلطان من مرض كان قد أشفى منه على الموت، وفي ذي القعدة درّس جمال الدين بن القلانسي بالظاهرية الجوانية عوضاً عن ابن الزملكاني، سافر على قضاء حلب، وحضر عنده القاضي القزويني، وجاء كتاب صادق من بغداد إلى المولى شمس بن حسان يذكر فيه أن الأمير جوبان أعطى الأمير محمد حسيناه قدحاً فيه خمر ليشربه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، فألح عليه وأقسم فأبى أشد الإباء.
فقال له: إن لم تشربها وإلا كلفتك أن تحمل ثلاثين توماناً، فقال: نعم أحمل ولا أشربها، فكتب عليه حجة بذلك، وخرج من عنده إلى أمير آخر يقال له: بكتي، فاستقرض منه ذلك المال ثلاثين توماناً فأبى أن يقرضه إلا بربح عشرة توامين، فاتفقا على ذلك، فبعث بكتي إلى جوبان يقول له: المال الذي طلبته من حسيناه عندي فإن رسمت حملته إلى الخزانة الشريفة، وإن رسمت تفرقه على الجيش.
فأرسل جوبان إلى محمد حسيناه فأحضره عنده فقال له: تزن أربعين توماناً ولا تشرب قدحاً من خمر؟ قال: نعم، فأعجبه ذلك منه ومزق الحجة المكتوبة عليه، وحظي عنده وحكمه في أموره كلها، وولاه ولايات كتابه، وحصل لجوبان إقلاع ورجوع عن كثير مما كان يتعاطاه، رحم الله حسيناه.
وفي هذه السنة كانت فتنة بأصبهان قتل بسببها ألوف من أهلها، واستمرت الحرب بينهم شهوراً.
وفيها: كان غلاء مفرط بدمشق، بلغت الغرارة مائتين وعشرين، وقلت الأقوات.
ولولا أن الله أقام للناس من يحمل لهم الغلة من مصر لاشتد الغلاء وزاد أضعاف ذلك، فكان مات أكثر الناس، واستمر ذلك مدة شهور من هذه السنة، وإلى أثناء سنة خمس وعشرين، حتى قدمت الغلات ورخصت الأسعار ولله الحمد والمنة.
توفي في مستهل المحرم:
بدر الدين بن ممدوح بن أحمد الحنفي
قاضي قلعة الروم بالحجاز الشريف، وقد كان عبداً صالحاً، حج مرات عديدة، وربما أحرم من قلعة الروم أو حرم بيت المقدس، وصلّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى شرف الدين بن العز، وعلى شرف الدين بن نجيح توفوا في أقل من نصف شهر كلهم بطريق الحجاز بعد فراغهم من الحج، وذلك أنهم غبطوا ابن نجيح صاحب الشيخ تقي الدين بن تيمية بتلك الموتة كما تقدم، فرزقوها فماتوا عقيب عملهم الصالح بعد الحج.
زوجة الملك الناصر، وقد كانت زوجة أخيه الملك الأشرف ثم هجرها الناصر وأخرجها من القلعة، وكانت جنازتها حافلة، ودفنت بتربتها التي أنشأتها.
ويقال له اللباد ويعرف بالمؤله، كان يقرئ الناس بالجامع نحواً من أربعين سنة، وقد قرأت عليه شيئاً من القراءات، وكان يعلم الصغار عقد الراء والحروف والمتقنة كالراء ونحوها، وكان متقللاً من الدنيا لا يقتني شيئاً، وليس له بيت ولا خزانة، إنما كان يأكل في السوق وينام في الجامع، توفي في مستهل صفر وقد جاوز السبعين، ودفن في باب الفراديس رحمه الله.
وفي هذا اليوم توفي بمصر:
وقد قارب المائة، أدرك الشيخ أبا السعود وكانت جنازته مشهودة.
ودفن بتربة شيخه بالقرافة وكتب عنه قاضي القضاة تقي الدين السبكي في حياته، وذكر الشيخ أبو بكر الرحبي أنه لم ير مثل جنازته بالقاهرة منذ سكنها رحمه الله.
أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعي، له تصانيف، وقرأ مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا، ثم إنه أقام بمصر.
وقد كان في جملة من ينكر على شيخ الإسلام ابن تيمية، أراد بعض الدولة قتله فهرب واختفى عنده كما تقدم لما كان ابن تيمية مقيماً بمصر، وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كدرة لاطمت بحراً عظيماً صافياً، أو رملة أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاء عليه، وقد أراد السلطان قتله فشفع فيه بعض الأمراء، ثم أنكر مرة شيئاً على الدولة فنفى من القاهرة إلى بلدة يقال لها: ديروط، فكان بها حتى توفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته مشهورة غير مشهودة، وكان شيخه ينكر عليه إنكاره على ابن تيمية، ويقول له أنت لا تحسن أن تتكلم.
الذي تنسب إليه الفرقة الضالة الباجريقية، والمشهور عنهم إنكار الصانع جل جلاله، وتقدست أسماؤه وقد كان والده جمال الدين بن عبد الرحيم بن عمر الموصلي رجلاً صالحاً من علماء الشافعية، ودرس في أماكن بدمشق، ونشأ ولده هذا بين الفقهاء واشتغل بعض شيء ثم أقبل على السلوك ولازم جماعة يعتقدونه ويزورونه ويرزقونه ممن هو على طريقه، وآخرون لا يفهمونه.
ثم حكم القاضي المالكي بإراقة دمه فهرب إلى الشرق، ثم إنه أثبت عداوة بينه وبين الشهود فحكم الحنبلي بحقن دمه فأقام بالقانون مدة سنين حتى كانت وفاته ليلة الأربعاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن بالقرب من مغارة الدم بسفح قاسيون في قبة في أعلى ذيل الجبل تحت المغارة، وله من العمر ستون سنة.
محي الدين أبو زكريا يحيى بن الفاضل جمال الدين إسحاق بن خليل بن فارس الشيباني الشافعي اشتغل على النواوي ولازم ابن المقدسي، وولي الحكم بزرع وغيرها، ثم قام بدمشق يشتغل في الجامع، ودرس في الصارمية وأعاد في مدارس عدة إلى أن توفي في سلخ ربيع الآخر ودفن بقاسيون، وقد قارب الثمانين رحمه الله، وسمع كثيراً، وخرج له الذهبي شيئاً وسمعنا عليه الدار قطني وغيره.
الفقيه الكبير الصدر الإمام العالم الخطيب بالجامع
بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمدي الحنبلي، سمع الحديث واشتغل وحفظ المحرر في مذهب أحمد وبرع على ابن حمدان وشرحه عليه في مدة سنين، وقد كان ابن حمدان يثني عليه كثيراً وعلى ذهنه وذكائه، ثم اشتغل بالكتابة ولزم خدمة الأمير قراسنقر بحلب، فولاه نظر الأوقاف وخطابة حلب بجامعها الأعظم.
ثم لما صار إلى دمشق ولاه خطابة الأموي فاستمر خطيباً فيها اثنين وأربعين يوماً، ثم أعيد إليها جلال الدين القزويني، ثم ولي نظر المارستان والحسبة ونظر الجامع الأموي، وعين لقضاء الحنابلة في وقت، ثم توفي ليلة الأربعاء سابع جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير رحمه الله.
أحمد بن مفضل بن فضل الله المصري، أخو محيي الدين كاتب تنكز، والد الصاحب علم الدين كان خبيراً بالكتابة وقد ولي استيفاء الأوقاف بعد أخيه، وكان أسن من أخيه، وهو الذي علّمه صناعة الكتابة وغيرها، توفي ليلة الاثنين ثاني رجب وعمل عزاؤه بالسميساطية، وكان مباشر أوقافها.
الأمير الكبير ملك العرب
محمد بن عيسى بن مهنا أخو مهنا، توفي بسلمية يوم السبت سابع رجب، وقد جاوز الستين كان مليح الشكل حسن السيرة عاملاً عارفاً رحمه الله.
وفي هذا الشهر وصل الخبر إلى دمشق بموت:
الوزير الكبير علي شاه بن أبي بكر التبريزي
وزير أبي سعيد بعد قتل سعد الدين الساوي، وكان شيخاً جليلاً فيه دين وخير، وحمل إلى تبريز فدفن بها في الشهر الماضي رحمه الله.
والي الولاة صاحب الأوقاف في بلدان شتى: من ذلك مدرسة بالصلب، وله درس بمدرسة أبي عمر وغير ذلك، توفي بالإسكندرية، وهو نائبها خامس رمضان رحمه الله.
محمد ابن الشيخ الإمام العلامة زين الدين بن المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الحنبلي، أخو قاضي القضاة علاء الدين، سمع الحديث ودرس وأفتى، وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان فيه دين ومودة وكرم وقضاء حقوق كثيرة، توفي ليلة الاثنين رابع شوال، وكان مولده في سنة خمس وسبعين وستمائة، ودفن بتربتهم بالصالحية.
كان يخالط النجاسات والقاذورات، ويمشي حافياً، وربما تكلم بشيء من الهذيانات التي تشبه علم المغيبات، وللناس فيه اعتقاد كما هو المعروف من أهل العمى والضلالات، مات في شوال.
كريم الدين الذي كان وكيل السلطان
عبد الكريم بن العلم هبة الله المسلماني، حصل له من الأموال والتقدم والمكانة الخطيرة عند السلطان ما لم يحصل لغيره في دولة الأتراك، وقد وقف الجامعين بدمشق أحدهما جامع القبيبات والحوض الكبير الذي تجاه باب الجامع، واشترى له نهر ماء بخمسين ألفاً فانتفع به الناس انتفاعاً كثيراً، ووجدوا رفقا، والثاني الجامع الذي بالقابون.
وله صدقات كثيرة تقبل الله منه وعفا عنه، وقد مسك في آخر عمره ثم صودر ونفي إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم الصعيد فخنق نفسه كما قيل بعمامته بمدينة أسوان، وذلك في الثالث والعشرين من شوال، وقد كان حسن الشكل تام القامة، ووجد له بعد موته ذخائر كثيرة سامحه الله.
الشيخ الإمام العالم علاء الدين
علي بن إبراهيم بن داود بن سليمان بن العطار، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية بالجامع، ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على الشيخ محيي الدين النواوي ولازمه حتى كان يقال له مختصر النواوي.
وله مصنفات وفوائد ومجاميع وتخاريج، وباشر مشيخة النورية من سنة أربع وتسعين إلى هذه السنة، مدة ثلاثين سنة، توفي يوم الاثنين منها مستهل ذي الحجة فولي بعده النورية علم الدين البرزالي، وتولى الغوصية شهاب الدين بن حرز الله وصلّي عليه بالجامع، ودفن بقاسيون رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة
استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وأولها يوم الأربعاء.
وفي خامس صفر منها: قدم إلى دمشق الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني بعد مرجعه من الحج وزيارة القدس الشريف وهو رجل فاضل له مصنفات منها: شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح التجريد وغير ذلك، ثم إنه شرح الحاجبية أيضاً وجمع له تفسيراً بعد صيرورته إلى مصر، ولما قدم إلى دمشق أكرم واشتغل عليه الطلبة، وكان حظياً عند القاضي جلال الدين القزويني، ثم إنه ترك الكل وصار يتردد إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وسمع عليه من مصنفاته ورده على أهل الكلام، ولازمه مدة فلما مات الشيخ تقي الدين تحول إلى مصر وجمع التفسير.
وفي ربيع الأول جرد السلطان تجريدة نحو خمسة آلاف إلى اليمن لخروج عمه عليه، وصحبتهم خلق كثير من الحجاج، منهم الشيخ فخر الدين النويري.
وفيها: منع شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر، على طريقة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة، وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء، ثم سفر إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات رحمه الله كما سنذكره.
وفي ربيع الآخر عاد نائب الشام من مصر وقد أكرمه السلطان والأمراء.
وفي جمادى الأولى وقع بمصر مطر لم يسمع بمثله بحيث زاد النيل بسببه أربع أصابع، وتغير أياماً.
وفيه: زادت دجلة ببغداد حتى غرقت ما حول بغداد وانحصر الناس بها ستة أيام لم تفتح أبوابها، وبقيت مثل السفينة في وسط البحر، وغرق خلق كثير من الفلاحين وغيرهم، وتلف للناس ما لا يعمله إلا الله، وودع أهل البلد بعضهم بعضاً، ولجأوا إلى الله تعالى وحملوا المصاحف على رؤوسهم في شدة الشوق في أنفسهم حتى القضاة والأعيان، وكان وقتاً عجيباً، ثم لطف الله بهم فغيض الماء وتناقص، وتراجع الناس إلى ما كانوا عليه من أمورهم الجائرة وغير الجائرة.
وذكر بعضهم انه غرق بالجانب الغربي نحو من ستة آلاف وستمائة بيت، وإلى عشرة سنين لا يرجع ما غرق.
وفي أوائل جمادى الآخرة فتح السلطان خانقاه سرياقوس التي أنشأها وساق إليها خليجاً وبنى عندها محلة، وحضر السلطان بها ومعه القضاة والأعيان والأمراء وغيرهم.
ووليها مجد الدين الأقصرائي، وعمل السلطان بها وليمة كبيرة، وسمع على قاضي القضاة ابن جماعة عشرين حديثاً بقراءة ولده عز الدين بحضرة الدولة منهم أرغون النائب، وشيخ الشيوخ القونوي وغيرهم، وخلع على القارئ عز الدين وأثنوا عليه ثناء زائداً، وأجلس مكرماً، وخلع أيضاً على والده ابن جماعة وعلى المالكي وشيخ الشيوخ، وعلى مجد الدين الأقصرائي شيخ الخانقاه المذكورة، وغيرهم.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر رجب درس بقبة المنصورية في الحديث الشيخ زين الدين بن الكتاني الدمشقي، بإشارة نائب الكرك وأرغون، وحضر عنده الناس، وكان فقيهاً جيداً، وأما الحديث فليس من فنه ولا من شغله.
وفي أواخر رجب قدم الشيخ زين الدين بن عبد الله بن المرحل من مصر على تدريس الشامية البرانية، وكانت بيد ابن الزملكاني فانتقل إلى قضاء حلب، فدرّس بها في خامس شعبان وحضر القاضي الشافعي وجماعة.
وفي سلخ رجب قدم القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة من مصر ومعه ولده، وفي صحبته الشيخ جمال الدين الدمياطي وجماعة من الطلبة بسبب سماع الحديث، فقرأ بنفسه وقرأ الناس له واعتنوا بأمره، وسمعنا معهم وبقراءته شيئاً كثيراً، نفعهم الله بما قرأوا وبما سمعوا، ونفع بهم.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر شوال درس الشيخ شمس الدين بن الأصبهاني، بالرواحية بعد ذهاب ابن الزملكاني إلى حلب، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجرى يومئذ بحث في العام إذا خص، وفي الاستثناء بعد النفي ووقع إنتشار وطال الكلام في ذلك المجلس، وتكلم الشيخ تقي الدين كلاماً أبهت الحاضرين.
وتأخر ثبوت عيد الفطر إلى قريب الظهر يوم العيد، فلما ثبت دقت البشائر وصلى الخطيب العيد من الغد بالجامع، ولم يخرج الناس إلى المصلى، وتغضب الناس على المؤذنين وسجن بعضهم.
وخرج الركب في عاشره وأميره صلاح الدين بن أيبك الطويل، وفي الركب صلاح الدين بن أوحد، والمنكورسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهر.
وفي سابع عشره درس بالرباط الناصري بقاسيون حسام الدين القزويني الذي كان قاضي طرابلس، قايضه بها جمال الدين بن الشريشني إلى تدريس المسرورية، وكان قد جاء توقيعه بالعذراوية والظاهرية فوقف في طريقه قاضي القضاة جمال الدين ونائباه ابن جملة والفخر المصري.
وعقد له ولكمال الدين بن الشيرازي مجلساً، ومعه توقيع بالشامية البرانية، فعطل الأمر عليهما لأنهما لم يظهرا استحقاهما في ذلك المجلس، فصارت المدرستان العذراوية والشامية لابن المرحل كما ذكرنا.
وعظم القزويني بالمسرورية فقايض منها لابن الشريشي إلى الرباط الناصري، فدرّس به في هذا اليوم وحضر عنده القاضي جلال الدين، ودرّس بعده ابن الشريشي بالمسرورية وحضر عنده الناس أيضاً.
وفيه: عادت التجريدة اليمنية وقد فقد منهم خلق كثير من الغلمان وغيرهم، فحبس مقدمهم الكبير ركن الدين بيبرس لسوء سيرته فيهم.
من الأعيان:
الشيخ إبراهيم الصباح
وهو إبراهيم بن منير البعلبكي، كان مشهوراً بالصلاح مقيماً بالمئذنة الشرقية، توفي ليلة الأربعاء مستهل المحرم ودفن بالباب الصغير، وكانت جنازته حافلة، حمله الناس على رؤوس الأصابع، وكان ملازماً لمجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية.
إبراهيم الموله
الذي يقال له القميني لإقامته بالقمامين خارج باب شرقي، وربما كاشف بعض العوام، ومع هذا لم يكن من أهل الصلاة، وقد استتابه الشيخ تقي الدين بن تيمية وضربه على ترك الصلوات ومخالطة القاذورات، وجمع النساء والرجال حوله في الأماكن النجسة.
توفي كهلاً في هذا الشهر.
الشيخ عفيف الدين
محمد بن عمر بن عثمان بن عمر الصقلي ثم الدمشقي، إمام مسجد الرأس، آخر من حدث عن ابن الصلاح ببعض سنن البيهقي، سمعنا عليه شيئاً منها، توفي في صفر.
الشيخ الصالح العابد الزاهد الناسك
عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري، الذي كان مقيماً بزاوية أبي بكر من جامع دمشق، كان من الصالحين الكبار مباركاً خيراً، عليه سكينة ووقار.
وكانت له مطالعة كثيرة، وله فهم جيد وعقل جيد، وكان من الملازمين لمجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان ينقل من كلامه أشياء كثيرة ويفهمها يعجز عنها كبار الفقهاء.
توفي يوم الاثنين سادس عشرين صفر، وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة محمودة.
الشيخ الصالح الكبير المعمر
الرجل الصالح تقي الدين بن الصائغ المقري المصري، الشافعي، آخر من بقي من مشايخ القراء وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي، توفي في صفر ودفن بالقرافة وكانت جنازته حافلة، قارب التسعين ولم يبق له منها سوى سنة واحدة، وقد قرأ عليه غير واحد وهو ممن طال عمره وحسن عمله.
الشيخ الإمام صدر الدين
أبو زكريا يحيى بن علي بن تمام بن موسى الأنصاري السبكي الشافعي، سمع الحديث وبرع في الأصول والفقه، ودرّس بالسيفية وباشرها بعده ابن أخيه تقي الدين السبكي الذي تولى قضاء الشام فيما بعد.
الشهاب محمود هو الصدر الكبير الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ صناعة الإنشاء الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صنعة الإنشاء، وله خصائص ليست للفاضل من كثرة النظم والقصائد المطولة الحسنة البليغة، فهو شهاب الدين أبو الثنا محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي.
ولد سنة أربع وأربعين وستمائه بحلب، وسمع الحديث وعني باللغة والأدب والشعر وكان كثير الفضائل بارعاً في علم الإنشاء نظماً ونثراً، وله في ذلك كتب ومصنفات حسنة فائقة، وقد مكث في ديوان الإنشاء نحواً من خمسين سنة.
ثم ولي كتابة السر بدمشق نحواً من ثمان سنين إلى أن توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان في منزله قرب باب النطفانيين وهي دار القاضي الفاضل، وصلّي عليه بالجامع ودفن بتربة له أنشأها بالقرب من اليغمورية وقد جاوز الثمانين رحمه الله.
شيخنا عفيف الدين الأمدي
عفيف الدين إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل الأمدي، ثم الدمشقي الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية.
ولد في حدود الأربعين وستمائة، وسمع الحديث على جماعة كثيرين، منهم يوسف بن خليل ومجد الدين بن تيمية، وكان شيخاً حسناً بهي المنظر سهل الإسماع يحب الرواية ولديه فضيلة، توفي ليلة الاثنين ثاني عشرين رمضان، ودفن بقاسيون، وهو والد فخر الدين ناظر الجيوش والجامع.
وقبله بيوم توفي الصدر معين الدين يوسف بن زغيب الرحبي أحد كبار التجار الأمناء.
وفي رمضان توفي...
البدر العوام
وهو محمد بن علي البابا الحلبي، وكان فرداً في العوم، وطيب الأخلاق، انتفع به جماعة من التجار في بحر اليمن كان معهم فغرق بهم المركب، فلجأوا إلى صخرة في البحر، وكانوا ثلاثة عشر، ثم إنه غطس فاستخرج لهم أموالاً من قرار البحر بعد أن أفلسوا وكادوا أن يهلكوا.
وكان فيه ديانة وصيانة، وقد قرأ القرآن وحج عشر مرات، وعاش ثماناً وثمانين سنة رحمه الله، وكان يسمع الشيخ تقي الدين بن تيمية كثيراً.
وفيه توفي:
الشهاب أحمد بن عثمان الأمشاطي
الأديب في الأزجال والموشحات والمواليا والدوبيت والبلاليق، وكان أستاذ أهل هذه الصناعة مات في عشر الستين.
القاضي الإمام العالم الزاهد
صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح بن خصيب الجعفري الشافعي المعروف بخطيب داريا، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، بقرية بسرا من عمل السواد، وقدم مع والده فقرأ بالصالحية القرآن على الشيخ نصر بن عبيد، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري.
وتولى خطابة داريا وأعاد بالناصرية، وتولى نيابة القضاء لابن صصرى مدة، وكان متزهداً لا يتنعم بحمام ولا كتان ولا غيره، ولم يغير ما اعتاده في البر، وكان متواضعاً، وهو الذي استسقى بالناس في سنة تسع عشرة فسقوا كما ذكرنا.
وكان يذكر له نسباً إلى جعفر الطيار، بينه وبينه عشرة آباء، ثم ولي خطابة العقيبية فترك نيابة الحكم وقال هذه تكتفي إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ذي القعدة، ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله، وتولى بعده الخطابة ولده شهاب الدين.
أحمد بن صبيح المؤذن
الرئيس بالعروس بجامع دمشق مع البرهان بدر الدين أبو عبد الله محمد بن صبيح بن عبد الله التفليسي مولاهم المقري المؤذن، كان مع أحسن الناس صوتاً في زمانه، وأطيبهم نغمة، ولد سنة ثنتين وخمسين وستمائة تقريباً، وسمع الحديث في سنة سبع وخمسين، وممن سمع عليه ابن عبد الدائم وغيره من المشايخ، وحدّث وكان رجلاً حسناً، أبوه مولى لامرأة اسمها شامة بنت كامل الدين التفليسي، امرأة فخر الدين الكرخي، وباشر مشارفة الجامع وقراءة المصحف، وأذن عند نائب السلطنة مدة، وتوفي في ذي الحجة بالطواويس، وصلّي عليه بجامع العقيبية، ودفن بمقابر باب الفراديس.
خطاب باني خان خطاب
الذي بين الكسوة وغباغب.
الأمير الكبير عز الدين خطاب بن محمود بن رتقش العراقي، كان شيخاً كبيراً له ثروة من المال كبيرة، وأملاك وأموال، وله حمام بحكر السماق، وقد عمر الخان المشهور به بعد موته إلى ناحية الكتف المصري، مما يلي غباغب، وهو برج الصفر، وقد حصل لكثير من المسافرين به رفق، توفي ليلة سبع عشرة ربيع الآخر ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى.وفي ذي القعدة منها توفي رجل آخر اسمه:
ركن الدين خطاب بن الصاحب كمال الدين
أحمد ابن أخت ابن خطاب الرومي السيواسي، له خانقاه ببلده بسيواس، عليها أوقاف كثيرة وبر وصدقة، توفي وهو ذاهب إلى الحجاز الشريف بالكرك، ودفن بالقرب من جعفر وأصحابه بمؤتة رحمه الله.
وفي العشر الأخير من ذي القعدة توفي:
بدر الدين أبو عبد الله
محمد بن كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سليمان بن فتيان الشيباني المعروف بابن العطار، ولد سنة سبعين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وكتب الخط المنسوب واشتغل بالتنبيه ونظم الشعر، وولي كتابه الدرج، ثم نظر الجيش ونظر الأشراف، وكانت له حظوة في أيام الأفرم، ثم حصل له خمول قليل، وكان مترفاً منعماً له ثروة ورياسة وتواضع وحسن سيرة، ودفن بسفح قاسيون بتربتهم رحمه الله.
القاضي محيي الدين
أبو محمد بن الحسن بن محمد بن عمار بن فتوح الحارثي، قاضي الزبداني مدة طويلة، ثم ولي قضاء الكرك وبها مات في العشرين من ذي الحجة، وكان مولده سنة خمس وأربعين وستمائة، وقد سمع الحديث واشتغل، وكان حسن الأخلاق متواضعاً، وهو والد الشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني مدرس الظاهرية رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب سر دمشق شهاب الدين محمود فإنه توفي، وولي المنصب من بعده ولده الصدر شمس الدين.
وفيها: تحول التجار في قماش النساء المخيط من الدهشة التي للجامع إلى دهشة سوق علي.
وفي يوم الأربعاء ثمان المحرم باشر مشيخة الحديث الظاهرية الشيخ شهاب الدين بن جهبل بعد وفاة العفيف إسحاق وترك تدريس الصلاحية بالقدس الشريف، واختار دمشق، وحضر عنده القضاة والأعيان.
وفي أولها فتح الحمام الذي بناه الأمير سيف الدين جوبان بجوار داره بالقرب من دار الجالق، وله بابان أحدهما إلى جهة مسجد الوزير، وحصل به نفع.
وفي يوم الاثنين ثاني صفر قدم الصاحب غبريال من مصر على البريد متولياً نظر الدواوين بدمشق على عادته، وانفصل عنها الكريم الصغير، وفرح الناس به.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم إنحلال وزندقة مشهور بها بين الناس.
قال الشيخ علم الدين الرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن.
قال: وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة.
قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ (التنبيه)، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، وكان منزلاً في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام وذلاً للزنادقة وأهل البدع.
قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك.
وفي شهر ربيع الأول رسم في إخراج الكلاب من مدينة دمشق فجعلوا في الخندق من جهة باب الصغير من ناحية باب شرقي، الذكور على حدة والإناث على حده، وألزم أصحاب الدكاكين بذلك، وشددوا في أمرهم أياماً.
وفي ربيع الأول ولي الشيخ علاء الدين المقدسي معيد البادرانية مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف، وسافر إليها.
وفي جمادى الآخرة عزل قرطاي عن ولاية طرابلس ووليها طينال، وأقر قرطاي على خبز القرماني بدمشق بحكم سجن القرماني بقلعة دمشق.
قال البرزالي: وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان اعتقل الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين بن تيمية بقلعة دمشق، حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشداً الأوقاف، وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوباً ليركبه، وأظهر السرور والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتظراً لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعاً من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة وأجرى إليها الماء ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له ما يقوم بكفايته.
قال البرزالي: وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا، وهذه الواقعة سببها فتيا وجدت بخطه في السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبور الصالحين.
قال: وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له فيه، فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه حبس بالقلعة، وسكتت القضية.
قال: وفي أول رمضان وصلت الأخبار إلى دمشق أنه أجريت عين ماء إلى مكة شرفها الله وانتفع الناس بها انتفاعاً عظيماً، وهذه العين تعرف قديماً بعين باذان، أجراها جوبان من بلاد بعيدة حتى دخلت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصفا وباب إبراهيم، واستقى الناس منها فقيرهم وغنيهم وضعيفهم وشريفهم، كلهم فيها سواء، وارتفق أهل مكة بذلك رفقا كثيراً ولله الحمد والمنة.وكانوا قد شرعوا في حفرها وتجديدها في أوائل هذه السنة إلى العشر الأخر من جمادى الأولى، واتفق أن في هذه السنة كانت الآبار التي بمكة قد يبست وقل ماؤها، وقل ماء زمزم أيضاً، فلولا أن الله تعالى لطف بالناس بإجراء هذه القناة لنزح عن مكة أهلها، أو هلك كثير مما يقيم بها.
وأما الحجيج في أيام الموسم فحصل لهم بها رفق عظيم زائد عن الوصف، كما شاهدنا ذلك في سنة إحدى وثلاثين عام حججنا.
وجاء كتاب السلطان إلى نائبه بمكة بإخراج الزيديين من المسجد الحرام، وأن لا يكون لهم فيه إمام ولا مجتمع، ففعل ذلك.
وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان درّس بالشامية الجوانية شهاب الدين أحمد بن جهبل، وحضر عنده القاضي القزويني الشافعي وجماعة عوضاً عن الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدر إمام مسجد ابن هشام توفي، ثم بعد أيام جاء توقيع بولاية القاضي الشافعي فباشرها في عشرين رمضان.
وفي عاشر شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين جوبان، وحج عامئذ القاضي شمس الدين بن مسلم قاضي قضاة الحنابلة، وبدر الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ومعه تحف وهدايا وأمور تتعلق بالأمير سيف الدين أرغون نائب مصر، فإنه حج في هذه السنة ومعه أولاده وزوجته بنت السلطان، وحج فخر الدين ابن شيخ السلامية، وصدر الدين المالكي، وفخر الدين البعلبكي وغيره.
وفي يوم الأربعاء عاشر القعدة درّس بالحنبلية برهان الدين أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وحضر عنده القاضي الشافعي وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشيخ تقي الدين، وكان ابن الخطيري الحاجب قد دخل على الشيخ تقي الدين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة.
ثم يوم الخميس دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: وإنما المحز جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعاً بها.
فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك.
ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول:
((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة))، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا يخفى عليه خافية، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
وفي يوم الأحد رابع القعدة فتحت المدرسة الحمصية تجاه الشامية الجوانية، ودرّس بها محيي الدين الطرابلسي قاضي هكار، وتلقب بأبي رباح، وحضر عنده القاضي الشافعي.
وفي ذي القعدة سافر القاضي جمال الدين الزرعي من الأتابكية إلى مصر، ونزل عن تدريسها لمحيي الدين بن جهبل.
وفي ثاني عشر ذي الحجة درس بالنجيبية ابن قاضي الزبداني عوضاً عن الدمشقي نائب الحكم مات بالمدرسة المذكورة.
من الأعيان:
ابن المطهر الشيعي جمال الدين
أبو منصور حسن بن يوسف بن مطهر الحلبي العراقي الشيعي، شيخ الروافض بتلك النواحي، وله التصانيف الكثيرة، يقال تزيد على مائة وعشرين مجلداً، وعدتها خمسة وخمسون مصنفاً، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض وغير ذلك من كبار وصغار.
وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، وليس بذاك الفائق، ورأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والأحكام، فلا بأس بها فإنها مشتملة على نقل كثير وتوجيه جيد.
وله كتاب (منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة)، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامة.
وقد انتدب في الرد عليه الشيخ الإمام العلاّمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية في مجلدات أتى فيها بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وهو كتاب حافل.
ولد ابن المطهر الذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة، توفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغاله ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولما ترفض الملك خربندا حظي عنده ابن المطهر وساد جداً وأقطعه بلاداً كثيرة.
الشمس الكاتب
محمد بن أسد الحراني المعروف بالنجار، كان يجلس ليكتب الناس عليه بالمدرسة القليجية، توفي في ربيع الآخر ودفن بباب الصغير.
العز حسن بن أحمد بن زفر
الأربلي ثم الدمشقي، كان يعرف طرفاً صالحاً من النحو والحديث والتاريخ، وكان مقيماً بدويرة حمد صوفيا بها، وكان حسن المجالسة أثنى عليه البرزالي في نقله وحسن معرفته، مات بالمارستان الصغير في جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير عن ثلاث وستين سنة.
الشيخ الإمام أمين الدين سالم بن أبي الدر
عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقي الشافعي مدرس الشامية الجوانية، أخذها من ابن الوكيل قهراً وهو إمام مسجد ابن هشام، ومحدث الكرسي به، كان مولده في سنة خمس وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وأثنى عليه النووي وغيره، وأعاد وأفتى ودرّس، وكان خبيراً بالمحاكمات، وكان فيه مروءة وعصبية لمن يقصده، توفي في شعبان ودفن بباب الصغير.
الشيخ حماد
وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد حماد الحلبي القطان، كان كثير التلاوة والصلوات، مواظباً على الإقامة بجامع التوبة بالعقيبة بالزاوية الغربية الشمالية، يقرئ القرآن ويكثر الصيام ويتردد الناس إلى زيارته، مات وقد جاوز السبعين سنة على هذا القدم، توفي ليلة الاثنين عشرين شعبان ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
الشيخ قطب الدين اليونيني
وهو الشيخ الإمام العالم بقية السلف، قطب الدين أبو الفتح موسى ابن الشيخ الفقيه الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد البعلبكي اليونيني الحنبلي.
ولد سنة أربعين وستمائة بدار الفضل بدمشق، وسمع الكثير وأحضره والده المشايخ واستجاز له وبحث واختصر (مرآة الزمان) للسبط، وذيّل عليها ذيلاً حسناً مرتباً أفاد فيه وأجاد بعبارة حسنة سهلة، بإنصاف وستر، وأتى فيه بأشياء حسنة وأشياء فائقة رائقة.
وكان كثير التلاوة حسن الهيئة متقللاً في ملبسه ومأكله، توفي ليلة الخميس ثالث عشر شوال، ودفن بباب سطحا عند أخيه الشيخ شرف الدين رحمهما الله.
قاضي القضاة ابن مسلم
شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي، ولد سنة ستين وستمائة، ومات أبوه - وكان من الصالحين - سنة ثمان وستين، فنشأ يتيماً فقيراً لا مال له.
ثم اشتغل وحصل وسمع الكثير وانتصب للإفادة والاشتغال، فطار ذكره، فلما مات التقي سليمان سنة خمس عشرة ولي قضاء الحنابلة، فباشره أتم مباشرة، وخرجت له تخاريج كثيرة، فلما كانت هذه السنة خرج للحج فمرض في الطريق فورد المدينة النبوية على ساكنها رسول الله أفضل الصلاة والسلام، يوم الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة فزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى في مسجده وكان بالأشواق إلى ذلك.
وكان قد تمنى ذلك لما مات ابن نجيح، فمات في عشية ذلك اليوم يوم الثلاثاء وصلّي عليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروضة، ودفن بالبقيع إلى جانب قبر شرف الدين ابن نجيح، الذي كان قد غبطه بموته هناك سنة حج هو وهو قبل هذه الحجة شرقي قبر عقيل رحمهم الله، وولي بعده القضاء عز الدين بن التقي سليمان.
القاضي نجم الدين
أحمد بن عبد المحسن بن حسن بن معالي الدمشقي الشافعي، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل على تاج الدين الفزاري وحصل وبرع وولي الإعادة ثم الحكم بالقدس، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالنجيبية، وناب في الحكم عن ابن صصرى مدة، توفي بالنجيبية المذكورة يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه العصر بالجامع، ودفن بباب الصغير.
ابن قاضي شهبة
الشيخ الإمام العالم شيخ الطلبة ومفيدهم كمال الدين أبو محمد عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي الشهبي الشافعي، ولد بحوران في سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وقدم دمشق واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، ولازمه وانتفع به، وأعاد بحلقته، وتخرج به، وكذلك لازم أخاه الشيخ شرف الدين، وأخذ عنه النحو واللغة، وكان بارعاً في الفقه والنحو، له حلقة يشتغل فيها تجاه محراب الحنابلة.
وكان يعتكف جميع شهر رمضان، ولم يتزوج قط، وكان حسن الهيئة والشيبة، حسن العيش والملبس متقللاً من الدنيا، له معلوم يقوم بكفايته من إعادات وفقاهات وتصدير بالجامع، ولم يدرّس قط ولا أفتى، مع أنه كان ممن يصلح أن يأذن في الإفتاء، ولكنه كان يتورع عن ذلك.
وقد سمع الكثير: سمع المسند للإمام أحمد وغير ذلك، توفي بالمدرسة المجاهدية - وبها كانت إقامته - ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفيها كانت وفاة:
الشرف يعقوب بن فارس الجعبري
التاجر بفرجة ابن عمود، وكان يحفظ القرآن ويؤم بمسجد القصب، ويصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي نجم الدين الدمشقي، وقد حصل أموالاً وأملاكاً وثروة، وهو والد صاحبنا الشيخ الفقيه المفضل المحصل الزكي بدر الدين محمد، خال الولد عمر إن شاء الله.
وفيها توفي:
الحاج أبو بكر بن تيمراز الصيرفي
كانت له أموال كثيرة ودائرة ومكارم وبر وصدقات، ولكنه انكسر في آخر عمره، وكاد أن ينكشف فجبره الله بالوفاة رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة
استهلت بيوم الجمعة والحكام: الخليفة والسلطان والنواب والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنبلي كما تقدم.
وفي العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب مصر فمسك في حادي عشر وحبس، ثم أطلق أياماً وبعثه السلطان إلى نائب حلب فاجتاز بدمشق بكرة الجمعة ثاني عشرين المحرم، فأنزله نائب السلطنة بداره المجاورة لجامعه، فبات بها ثم سافر إلى حلب، وقد كان قبله بيوم قد سافر من دمشق الجاي الدوادار إلى مصر، وصحبته نائب حلب علاء الدين الطنبغا معزولاً عنها إلى حجوبية الحجاب بمصر.
وفي يوم الجمعة التاسع عشر ربيع الأول قرئ تقليد قاضي الحنابلة عز الدين محمد بن التقي سليمان بن حمزة المقدسي، عوضاً عن ابن مسلم بمقصورة الخطابة بحضرة القضاة والأعيان، وحكم وقرئ قبل ذلك بالصالحية.
وفي أواخر هذا الشهر وصل البريد بتولية ابن النقيب الحاكم بحمص قضاء القضاة بطرابلس، ونقل الذي بها إلى حمص نائباً عن قاضي دمشق، وهو ناصر بن محمود الزرعي.
وفي سادس عشر ربيع الآخر عاد تنكز من مصر إلى الشام، وقد حصل له تكريم من السلطان.
وفي ربيع الأول حصلت زلزلة بالشام وقى الله شرها.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى باشر نيابة الحنبلي القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر عنده جماعة من القضاة.
وفي يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة جاء البريد بطلب القاضي القزويني الشافعي إلى مصر، فدخلها في مستهل رجب فخلع عليه بقضاء قضاة مصر مع تدريس الناصرية والصالحية ودار الحديث الكاملية، عوضاً عن بدر الدين بن جماعة لأجل كبر سنه وضعف نفسه، وضرر عينيه، فجبروا خاطره فرتب له ألف درهم وعشرة أرادب قمح في الشهر، مع تدريس زاوية الشافعي.
وأرسل ولده بدر الدين إلى دمشق خطيباً بالأموي، وعلى تدريس الشامية البرانية، على قاعدة والده جلال الدين القزويني في ذلك، فخلع عليه في أواخر رجب ثامن عشرين وحضر عنده الأعيان.
وفي رجب كان عرس الأمير سيف الدين قوصون الساقي الناصري، على بنت السلطان، وكان وقتاً مشهوداً، خلع على الأمراء والأكابر.
وفي صبيحة هذه الليلة عقد الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير بكتمر الساقي، على بنت تنكز نائب الشام، وكان السلطان وكيل أبيها تنكز والعقاد ابن الحريري، وخلع عليه وأدخلت في ذي الحجة من هذه السنة في كلفة كثيرة.
وفي رجب جرت فتنة كبيرة بالإسكندرية في سابع رجب، وذلك أن رجلاً من المسلمين قد تخاصم هو ورجل من الفرنج، على باب البحر فضرب أحدهما الآخر بنعل، فرفع الأمر إلى الوالي فأمر بغلق باب البلد بعد العصر، فقال له الناس: إن لنا أموالاً وعبيداً ظاهر البلد، وقد أغلقت الباب قبل وقته.
ففتحه فخرج الناس في زحمة عظيمة، فقتل منهم نحو عشرة ونهبت عمائم وثياب وغير ذلك، وكان ذلك ليلة الجمعة فلما أصبح الناس ذهبوا إلى دار الوالي فأحرقوها وثلاث دور لبعض الظلمة.
وجرت أحوال صعبة، ونهبت أموال، وكسرت العامة باب سجن الوالي فخرج منه من فيه، فبلغ نائب السلطنة فاعتقد النائب أنه السجن الذي فيه الأمراء، فأمر بوضع السيف في البلد وتخريبه.
ثم إن الخبر بلغ السلطان فأرسل الوزير طيبغا الجمالي سريعاً فضرب وصادر، وضرب القاضي ونائبه وعزلهم، وأهان خلقاً من الأكابر وصادرهم بأموال كثيرة جداً، وعزل المتولي ثم أعيد، ثم تولى القضاء بهاء الدين علم الدين الأخنائي الشافعي الذي تولى دمشق فيما بعد، وعزل قضاة الإسكندرية المالكي ونائباه، ووضعت السلاسل في أعناقهم وأهينوا، وضرب ابن السني غير مرة.
وفي يوم السبت عشرين شعبان وصل إلى دمشق قاضي قضاة حلب ابن الزملكاني على البريد فأقام بدمشق أربعة أيام ثم سار إلى مصر ليتولى قضاء قضاة الشام بحضرة السلطان، فاتفق موته قبل وصوله إلى القاهرة {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54].
وفي يوم الجمعة سادس عشرين شعبان باشر صدر الدين المالكي مشيخة الشيوخ مضافاً إلى قضاء قضاة المالكية، وحضر الناس عنده، وقرئ تقليده بذلك بعد انفصال الزرعي عنها إلى مصر.
وفي نصف رمضان وصل قاضي الحنفية بدمشق لقضاء القضاة عماد الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي، الذي كان نائباً لقاضي القضاة صدر الدين علي البصروي، فخلفه بعده بالمنصب، وقرئ تقليده بالجامع، وخلع عليه وباشر الحكم، واستناب القاضي عماد الدين ابن العز، ودرس بالنورية مع القضاء، وشكرت سيرته.
وفي رمضان قدم جماعة من الأسارى مع تجار الفرنج فأنزلوا بالمدرسة العادلية الكبيرة، واستفكوا من ديوان الأسرى بنحو من ستين ألفاً، وكثرت الأدعية لمن كان السبب في ذلك.
وفي ثامن شوال خرج الركب الشامي إلى الحجاز وأميره سيف الدين بالبان المحمدي، وقاضيه بدر الدين محمد بن محمد قاضي حران.
وفي شوال وصل تقليد قضاء الشافعية بدمشق لبدر الدين ابن قاضي القضاة ابن عز الدين بن الصائغ والخلعة معه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وصمم، وألح عليه الدولة فلم يقبل وكثر بكاؤه وتغير مزاجه واغتاظ، فلما أصر على ذلك راجع تنكز السلطان في ذلك.
فلما كان شهر ذي القعدة اشتهر تولية علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي قضاء الشام، فسار إليها من مصر وزار القدس ودخل دمشق يوم الاثنين سابع عشرين ذي القعدة، فاجتمع بنائب السلطنة ولبس الخلعة وركب مع الحجاب والدولة إلى العادلية.
فقرئ تقليده بها وحكم بها على العادة، وفرح الناس به وبحسن سمته وطيب لفظه وملاحة شمائله وتودده، وولي بعده مشيخة الشيوخ بمصر مجد الدين الأقصرائي الصوفي شيخ سرياقوس.
وفي يوم السبت ثالث عشرين ذي القعدة لبس القاضي محيي الدين بن فضل الله الخلعة بكتابة السر عوضاً عن ابن الشهاب محمود، واستمر ولده شرف الدين في كتابة الدست.
وفي هذه السنة تولى قضاء حلب عوضاً عن ابن الزملكاني القاضي فخر الدين البازري.
وفي العشر الأول من ذي الحجة كمل ترخيم الجامع الأموي أعني حائطه الشمالي، وجاء تنكز حتى نظر إليه فأعجبه ذلك، وشكر ناظره تقي الدين بن مراجل.
وفي يوم الأضحى جاء سيل عظيم إلى مدينة بلبيس فهرب أهلها منها وتعطلت الصلاة والأضاحي فيها، ولم ير مثله من مدة سنين متطاولة، وخرب شيئاً كثيراً من حواضرها وبساتينها، فإنا الله وإنا إليه راجعون.
من الأعيان:
الأمير أبو يحيى
زكريا بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبي حفص الهنتاني الجياني المغربي، أمير بلاد المغرب.
ولد بتونس قبل سنة خمسين وستمائة، وقرأ الفقه والعربية، وكان ملوك تونس تعظمه وتكرمه، لأنه من بيت الملك والإمرة والوزارة.
ثم بايعه أهل تونس على الملك في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكان شجاعاً مقداماً، وهو أول من أبطل ذكر ابن التومرت من الخطبة، مع أن جده أبا حفص الهنتاني كان من أخص أصحاب ابن التومرت.
توفي في المحرم من هذه السنة بمدينة الإسكندرية رحمه الله.
الشيخ الصالح ضياء الدين
ضياء الدين أبو الفدا إسماعيل بن رضي الدين أبي الفضل المسلم بن الحسن بن نصر الدمشقي، المعروف بابن الحموي، كان هو وأبوه وجده من الكتاب المشهورين المشكورين، وكان هو كثير التلاوة والصلاة والصيام والبر والصدقة والإحسان إلى الفقراء والأغنياء.
ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث الكثير وخرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه، وكان من صدور أهل دمشق، توفي يوم الجمعة رابع عشر صفر، وصلّي عليه ضحوة يوم السبت، ودفن بباب الصغير، وحج وجاور وأقام بالقدس مدة.
مات وله ثنتان وسبعون سنة رحمه الله، وقد ذكر والده أنه حين ولد له فتح المصحف يتفاءل فإذا قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39]، فسماه إسماعيل.
ثم ولد له آخر فسماه إسحاق، وهذا من الاتفاق الحسن رحمهم الله تعالى.
الشيخ علي المحارفي
علي بن أحمد بن هوس الهلالي، أصل جده من قرية إيل البسوق، وأقام والده بالقدس، وحج هو مرة وجاور بمكة سنة ثم حج، وكان رجلاً صالحاً مشهوراً، ويعرف بالمحارفي، لأنه كان يحرف الأزقة ويصلح الرصفان لله تعالى.
وكان يكثر التهليل والذكر جهرة، وكان عليه هيبة ووقار، ويتكلم كلاماً فيه تخويف وتحذير من النار، وعواقب الردى، وكان ملازماً لمجالس ابن تيمية، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث عشرين ربيع الأول، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بالسفح، وكانت جنازته حافلة جداً رحمه الله.
الملك الكامل ناصر الدين
أبو المعالي محمد بن الملك السعيد فتح الدين عبد الملك بن السلطان الملك الصالح إسماعيل أبي الجيش ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب أحد أكابر الأمراء وأبناء الملوك، كان من محاسن البلد ذكاء وفطنة وحسن عشرة ولطافة كلام، بحيث يسرد كثيراً من الكلام بمنزلة الأمثال من قوة ذهنه وحذاقة فهمه، وكان رئيساً من أجواد الناس، توفي عشية الأربعاء عشرين جمادى الأولى، وصلّي عليه ظهر الخميس بصحن الجامع تحت النسر.
ثم أرادوا دفنه عند جده لأمه الملك الكامل فلم يتيسر ذلك فدفن بتربة أم الصالح سامحه الله، وكان له سماع كثير سمعنا عليه منه، وكان يحفظ تاريخاً جيداً، وقام ولده الأمير صلاح الدين مكانه في إمرة الطبلخانة، وجعل أخوه في عشرته ولبسا الخلع السلطانية بذلك.
الشيخ الإمام نجم الدين
أحمد بن محمد بن أبي الحزم القرشي المخزومي القمولي، كان من أعيان الشافعية، وشرح (الوسيط) وشرح (الحاجبية) في مجلدين، ودرّس وحكم بمصر، وكان محتسباً بها أيضاً، وكان مشكور السيرة فيها، وقد تولى بعده الحكم نجم الدين بن عقيل، والحسبة ناصر الدين بن قار السبقوق، توفي في رجب وقد جاوز الثمانين، ودفن بالقرافة رحمه الله.
الشيخ الصالح أبو القاسم
عبد الرحمن بن موسى بن خلف الحزامي، أحد مشاهير الصالحين بمصر، توفي بالروضة وحمل إلى شاطئ النيل، وصلّي عليه وحمل على الرؤوس والأصابع، ودفن عند ابن أبي حمزة، وقد قارب الثمانين، وكان ممن يقصد إلى الزيارة رحمه الله.
القاضي عز الدين
عبد العزيز بن أحمد بن عثمان بن عيسى بن عمر بن الخضر الهكاري الشافعي، قاضي المحلة، كان من خيار القضاة، وله تصنيف على حديث المجامع في رمضان، يقال إنه استنبط فيه ألف حكم.
توفي في رمضان، وقد كان حصل كتباً جيدة منها (التهذيب) لشيخنا المزي.
الشيخ كمال الدين بن الزملكاني
شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريساً وإفتاء ومناظرة، ويقال في نسبة السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة والله أعلم.
ولد ليلة الاثنين ثامن شوال سنة ست وستين وستمائة، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصول على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحو على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وبرع وحصل وساد أقرانه من أهل مذهبه، وحاز قصب السبق عليهم بذهنه الوقاد في تحصيل العلم الذي أسهره ومنعه الرقاد وعبارته التي هي أشهى من كل شيء معتاد، وخطه الذي هو أنضر من أزاهير الوهاد.
وقد درّس بعدة مدارس بدمشق، وباشر عدة جهات كبار، كنظر الخزانة ونظر المارستان النوري وديوان الملك السعيد، ووكالة بيت المال.
وله تعاليق مفيدة واختيارات حميدة سديدة ومناظرات سعيدة.
ومما علقه قطعة كبيرة من شرح (المنهاج) للنووي، ومجلد في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق وغير ذلك، وأما دروسه في المحافل فلم أسمع أحداً من الناس درس أحسن منها ولا أحلى من عبارته، وحسن تقريره، وجودة احترازاته، وصحة ذهنه وقوة قريحته وحسن نظمه.
وقد درّس بالشامية البرانية والعذراوية الجوانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كل واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسخ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله من حسنه وفصاحته، ولا يهيله تعداد الدروس وكثرة لفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمع أكثر والفضلاء أكبر كان الدرس أنضر وأبهر وأحلى وأنصح وأفصح.
ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملة مثلها، وأوسع بالفضيلة جميع أهلها، وسمعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم.
ثم طلب إلى الديار المصرية ليولى الشامية دار السنة النبوية فعاجلته المنية قبل وصوله إليها، فمرض وهو سائر على البريد تسعة أيام، ثم عقب المرض بحراق الحمام فقبضه هاذم اللذات، وحال بينه وبين سائر الشهوات والإرادات، والأعمال بالنيات.
ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متولياً أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه فلم يبلغ أمله ومراده، فتوفي في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة ودفن بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغمدها الله برحمته.
الحاج علي المؤذن المشهور بالجامع الأموي
الحاج علي بن فرج بن أبي الفضل الكتاني، كان أبوه من خيار المؤذنين، فيه صلاح ودين وله قبول عند الناس، وكان حسن الصوت جهوره، وفيه تودد وخدم وكرم، وحج غير مرة وسمع من أبي عمر وغيره، توفي ليلة الأربعاء ثالث القعدة وصلّي عليه غدوة، ودفن بباب الصغيرة.
وفي ذي القعدة توفي:
الشيخ فضل بن الشيخ الرجيحي التونسي
وأجلس أخوه يوسف مكانه بالزاوية.