الجزء الرابع عشر - ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة

في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه كما ستأتي ترجمة وفاته في الوفيات إن شاء الله تعالى‏.‏

استهلت هذه السنة وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها سوى نائب مصر وقاضي حلب‏.‏وفي يوم الأربعاء ثاني المحرم دّرس بحلقة صاحب حمص الشيخ الحافظ صلاح الدين العلائي، نزل له عنها شيخنا الحافظ المزي، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والأعيان، وذكر درساً حسناً مفيداً‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع المحرم حضر قاضي القضاة علاء الدين القونوي مشيخة الشيوخ بالسمساطية عوضاً عن القاضي المالكي شرف الدين، وحضر عنده الفقهاء والصوفية على العادة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن عشر صفر درّس بالمسرورية تقي الدين عبد الرحمن بن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضاً عن جمال الدين بن الشريشي بحكم انتقاله إلى قضاء حمص، وحضر الناس عنده وترحموا على والده‏.‏

وفي يوم الأحد خامس عشرين صفر وصل إلى دمشق الأمير الكبير صاحب بلاد الروم تمرتاش ابن جوبان، قاصداً إلى مصر، فخرج نائب السلطنة والجيش إلى تلقيه، وهو شاب حسن الصورة تام الشكل مليح الوجه‏.‏

ولما انتهى إلى السلطان بمصر أكرمه وأعطاه تقدمة ألف، وفرق أصحابه على الأمراء وأكرموا إكراماً زائداً، وكان سبب قدومه إلى مصر أن صاحب العراق الملك أبا سعيد كان قد قتل أخاه جواجا رمشتق في شوال من السنة الماضية، فهمّ والده جوبان بمحاربة السلطان أبي سعيد فلم يتمكن من ذلك، وكان جوبان إذ ذاك مدبر الممالك، فخاف تمرتاش هذا عند ذلك من السلطان ففر هارباً بدمه إلى السلطان الناصر بمصر‏.‏

وفي ربيع الأول توجه نائب الشام سيف الدين تنكز إلى الديار المصرية لزيارة السلطان فأكرمه واحترمه واشترى في هذه السفرة دار الفلوس التي بالقرب من البزوريين والجوزية، وهي شرقيها، وقد كان سوق البزورية اليوم يسمى سوق القمح، فاشترى هذه الدار وعمرها داراً هائلة ليس بدمشق دار أحسن منها‏.‏

وسماها دار الذهب، وهدم حمام سويد تلقاءها وجعله دار قرآن وحديث في غاية الحسن أيضاً، ووقف عليها أماكن ورتب فيه المشايخ والطلبة كما سيأتي تفصيله في موضعه، واجتاز برجوعه من مصر بالقدس الشريف وزاره وأمر ببناء حمام به، وبناء دار حديث أيضاً به، وخانقاه كما يأتي بيانه‏.‏

وفي آخر ربيع الأول وصلت القناة إلى القدس التي أمر بعمارتها وتجديدها سيف الدين تنكز قطلبك، فقام بعمارتها مع ولاة تلك النواحي، وفرح المسلمون بها ودخلت حتى إلى شط المسجد الأقصى، وعمل به بركة هائلة، وهي مرخمة ما بين الصخرة والأقصى، وكان ابتداء عملها من شوال من السنة الماضية‏.‏

وفي هذه المدة عمر سقوف شرافات المسجد الحرام وإيوانه، وعمرت بمكة طهارة ما يلي باب بني شيبة‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي هذا الشهر كملت عمارة الحمام الذي بسوق باب توما، وله بابان‏.‏

وفي ربيع الآخر نقض الترخيم الذي بحائط جامع دمشق القبلي من جهة الغرب مما يلي باب الزيادة، فوجدوا الحائط متجافياً فخيف من أمره، وحضر تنكز بنفسه ومعه القضاة وأرباب الخبرة، فاتفق رأيهم على نقضه وإصلاحه‏.‏

وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين ربيع الآخر وكتب نائب السلطنة إلى السلطان يعلمه بذلك ويستأذنه في عمارته، فجاء المرسوم بالإذن بذلك، فشرع في نقضه يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الأولى، وشرعوا في عمارته يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة، وعمل محراب فيما بين الزيادة ومقصورة الخطابة يضاهي محراب الصحابة‏.‏

ثم جدوا ولازموا في عمارته، وتبرع كثير من الناس بالعمل فيه من سائر الناس، فكان يعمل فيه كل يوم أزيد من مائة رجل، حتى كملت عمارة الجدار وأعيدت طاقاته وسقوفه في العشرين من رجب وذلك بهمة تقي الدين بن مراجل‏.‏

وهذا من العجب فإنه نقض الجدار وما يسامته من السقف، وأعيد في مدة لا يتخيل إلى أحد أن عمله يفرغ فيما يقارب هذه المدة جزماً، وساعدهم على سرعة الإعادة حجارة وجدوها في أساس الصومعة الغربية التي عند الغزالية، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة كما في الغربية والشرقية القبلتين منه، فأبيدت الشماليتين قديماً ولم يبق منهما من مدة ألوف من السنين سوى أس هذه المئذنة الغربية الشمالية، فكانت من أكبر العون على إعادة هذا الجدار سريعاً‏.‏

ومن العجب أن ناظر الجامع ابن مراجل لم ينقص أحداً من أرباب المرتبات على الجامع شيئاً مع هذه العمارة‏.‏

وفي ليلة السبت خامس جمادى الأولى وقع حريق عظيم بالقرايين واتصل بالرماحين، واحترقت القيسارية والمسجد الذي هناك، وهلك للناس شيء كثير من الفرا والجوخ والأقمشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة عاشره بعد الصلاة صلّي على القاضي شمس الدين بن الحريري قاضي قضاة الحنفية بمصر، وصلّي عليه صلاة الغائب بدمشق‏.‏ ‏

وفي هذا اليوم قدم البريد يطلب برهان الدين بن عبد الحق الحنفي إلى مصر ليلي القضاء بها بعد ابن الحريري، فخرج مسافراً إليها، ودخل مصرفي خامس عشرين جمادى الأولى، واجتمع بالسلطان فولاه القضاء وأكرمه وخلع عليه وأعطاه بغلة بزناري، وحكم بالمدرسة الصالحية بحضرة القضاة والحجاب، ورسم له بجميع جهات ابن الحريري‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وكانت نحو ستين مجلداً، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان رد عليه التقي ابن الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الاخنائي إلى السلطان، وشكاه فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك وكان ما كان، كما ذكرنا‏.‏

وفي أواخره رسم لعلاء الدين بن القلانسي في الدست، مكان أخيه جمال الدين توقيراً لخاطره عن المباشرة، وأن يكون معلومة على قضاء العساكر والوكالة، وخلع عليهما بذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين رجب رسم للأئمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من الأموي، فعين المحراب الجديد الذي بين الزيادة والمقصورة للإمام الحنفي، وعين محراب الصحابة للمالكي وعين محراب مقصورة الخضر الذي كان يصلي فيه المالكي للحنبلي، وعوض إمام محراب الصحابة بالكلاسة، وكان قبل ذلك في حال العمارة قد بلغ محراب الحنفية من المقصورة المعروفة بهم‏.‏

ومحراب الحنابلة من خلفهم في الرواق الثالث الغربي وكانا بين الأعمدة، فنقلت تلك المحاريب وعوضوا بالمحاريب المستقرة بالحائط القبلي واستقر الأمر كذلك‏.‏

وفي العشرين من شعبان مسك الأمير تمرتاش بن جوبان الذي أتى هارباً إلى السلطان الناصر بمصر وجماعة من أصحابه، وحبسوا بقلعة مصر، فلما كان ثاني شوال أظهر موته، يقال إنه قتله السلطان وأرسل رأسه إلى أبي سعيد صاحب العراق ابن خربندا ملك التتار‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني شوال خرج الركب الشامي وأميره فخر الدين عثمان بن شمس الدين لؤلؤ الحلبي أحد أمراء دمشق، وقاضيه قاضي قضاة الحنابلة عز الدين بن التقي سليمان‏.‏

وممن حج‏:‏ الأمير حسام الدين الشبمقدار، والأمير قبجق، والأمير حسام الدين بن النجيبي، وتقي الدين بن السلعوس، وبدر الدين بن الصائغ، وابنا جهبل والفخر المصري، والشيخ علم الدين البرزالي، وشهاب الدين الطاهري‏.‏

وقبل ذلك بيوم حكم القضاي المنفلوطي الذي كان حاكماً ببعلبك بدمشق نيابة عن شيخه قاضي القضاة علاء الدين القونوي، وكان مشكور السيرة تألم أهل بعلبك لفقده، فحكم بدمشق عوضاً عن القونوي بسبب عزمه على الحج، ثم لما رجع الفخر من الحج عاد إلى الحكم واستمر المنفلوطي يحكم أيضاً، فصاروا ثلاث نواب‏:‏ ابن جملة، والفخر المصري، والمنفلوطي‏.‏

وسافر ابن الحشيشي في ثاني عشرين شوال إلى القاهرة لينوب عن القاضي فخر الدين كاتب المماليك إلى حين رجوعه من الحجاز، فلما وصل ولي حجابة ديوان الجيش، واستمر هناك، واستقل قطب الدين ابن شيخ السلامية بنظر الجيش بدمشق على عادته‏.‏

وفي شوال خلع على أمين الملك بالديار المصرية وولي نظر الدواوين فباشره شهراً ويومين وعزل عنه‏.‏

 وفاة شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه‏:‏ وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي العقدة توفي الشيخ الإمام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرؤا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله‏.‏

فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ الجامع أيضاً وصحته والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلّي عليه أولاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولاً الشيخ محمد بن تمام، ثم صلّي عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر‏.‏

وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزياد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلّي عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له‏.‏ ‏‏

وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الأبواب الأربعة‏:‏ باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية‏.‏

وعظم الأمر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، فلما قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله‏.‏

وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الأسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل‏.‏

وأما الرجال فحزروا بستين ألفاً إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف، وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهماً، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهماً‏.‏

وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرع وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً يبيتون عنده ويصبحون، ورؤية له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة‏.‏

وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق، وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان، والشيخ شمس بن الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والشيخ جمال الدين البغدادي، والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان وابن أبي بكر اليهودي، والكمال عبد الرحيم، والفخر علي وابن شيبان والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث، وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والإثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أن سمع شيئاً إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم، وكان ذكياً كثير المحفوظ فصار إماماً في التفسير وما يتعلق به، عارفاً بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالماً باختلاف العلماء، عالماً في الأصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفاً به متقناً له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظاً له مميزاً بين صحيحه وسقيه، عارفاً برجاله متضلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، كمل منها جملة وبيضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها وجملة كملها ولم تبيّض إلى الآن‏.‏

وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال‏:‏ اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولي في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات

ماذا يقول الواصفون له * وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة * هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية في الخلق ظاهرة * أنوارها أربت على الفجر

وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو الثلاثين سنة، وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو سنة، وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا الكتاب‏.‏

ولما مات كنت غائباً عن دمشق بطريق الحجاز، ثم بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يوماً لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى‏.‏

هذا لفظه في هذا الموضع من تاريخه‏.‏

ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الإمام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني‏:‏ سمعت أبا عبد الرحمن السيوفي يقول‏:‏ حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدار قطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال‏:‏ سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول‏:‏ قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال‏:‏ ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه‏.‏

والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعاً لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها‏.‏

هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوساً من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان فضلاً عن أهل الإسلام‏.‏وهذه كانت جنازته‏.‏ ‏

قال‏:‏ وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الأبرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة‏.‏

وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون على، مثل ليلى يقتل المرء نفسه، وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه‏.‏

وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 54- 55‏]‏‏.‏

فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى‏.‏

ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين‏.‏

وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح‏:‏ هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة‏.‏

وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصاً لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جو الجامع، وبرى الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، وقوي خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماماً، وهو الشيخ علاء الدين الخراط‏.‏ ‏

ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم‏.‏

وبالجملة كان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريباً من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات، وما علمت أحداً من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس‏:‏ وهم ابن جملة، والصدر، والقفجاري‏.‏

وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث إنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الأيام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكباً على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله‏.‏

وعملت له ختمات كثيرة، ورؤية له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة جداً‏.‏

وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها‏.‏

وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضاً مغفور له كما في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجراً وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏)‏ فهو مأجور‏.‏

وقال الإمام مالك بن أنس‏:‏ كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر‏.‏

وفي سادس عشرين ذي القعدة نقل تنكز حواصله وأمواله من دار الذهب داخل باب الفراديس إلى الدار التي أنشأها، وتعرف بدار فلوس، فسميت دار الذهب، وعزل خزنداره ناصر الدين محمد بن عيسى، وولي مكانه مملوكه أباجي‏.‏

وفي ثاني عشرين القعدة جاء إلى مدينة عجلون سيل عظيم من أول النهار إلى وقت العصر، فهدم من جامعها وأسواقها ورباعها ودورها شيئاً كثيراً، وغرق سبعة نفر وهلك للناس شيء كثير من الأموال والغلات والأمتعة والمواشي ما يقارب قيمته ألف ألف درهم والله أعلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏‏

وفي يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة ألزم القاضي الشافعي الشيخ علاء الدين القونوي جماعة الشهود بسائر المراكز أن يرسلوا في عمائمهم العذبات ليتميزوا بذلك عن عوام الناس، ففعلوا ذلك أياماً ثم تضرروا من ذلك فأرخص لهم في تركها، ومنهم من استمر بها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أفرج عن الشيخ الإمام العالم العلاّمة أبي عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية، وكان معتقلاً بالقلعة أيضاً، من بعد اعتقال الشيخ تقي الدين بأيام من شعبان سنة ست وعشرين إلى هذا الحين، وجاء الخبر بأن السلطان أفرج عن الجاولي والأمير فرج بن قراسنقر، ولاجين المنصوري، وأحضروا بعد العيد بين يديه، وخلع عليهم‏.‏

وفيه‏:‏ وصل الخبر بموت الأمير الكبير جوبان نائب السلطان أبي سعيد على تلك البلاد، ووفاة قراسنقر المنصوري أيضاً كلاهما في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

وجوبان هذا هو الذي ساق القناة الواصلة إلى المسجد الحرام، وقد غرم عليها أموالاً جزيلة كثيرة، وله تربة بالمدينة النبوية، ومدرسة مشهورة، وله آثار حسنة، وكان جيد الإسلام له همة عالية وقد دبر الممالك في أيام أبي سعيد مدة طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مسكة فتخلص من ذلك كما ذكرنا‏.‏

ثم إن أبا سعيد قتل ابنه خواجا دمشق في السنة الماضية ففر ابنه الآخر تمرتاش هارباً إلى سلطان مصر، فآواه شهراً ثم ترددت الرسل بين الملكين في قتله فقتله صاحب مصر فيما قيل وأرسل برأسه إليه، ثم توفي أبوه بعده بقليل، والله أعلم بالسرائر‏.‏

وأما قراسنقر المنصوري فهو من جملة كبار أمراء مصر والشام، وكان من جملة من قتل الأشرف خليل بن المنصور كما تقدم، ثم ولي نيابة مصر مدة، ثم صار إلى نيابة دمشق ثم إلى نيابة حلب، ثم فر إلى التتر هو والأفرم والزركاشي فآواهم ملك التتار خربندا وأكرمهم وأقطعهم بلاداً كثيرة، وتزوج قراسنقر بنت هولاكو ثم كانت وفاته بمراغة بلده التي كان حاكماً بها في هذه السنة، وله نحو تسعين سنة والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

شيخ الإسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية كما تقدم ذكر ذلك في الحوادث وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى‏.‏

 الشريف العالم عز الدين

عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن العلوي الحسيني العراقي الإسكندري الشافعي، سمع الكثير وحفظ ‏(‏الوجيز‏)‏ في الفقه، و‏(‏الإيضاح‏)‏ في النحو، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا وبلغ تسعين سنة وعقله وعلمه وذهنه ثابت متيقظ، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الجمعة خامس المحرم، ودفن بالإسكندرية بين المادين رحمه الله‏.‏ ‏

 الشمس محمد بن عيسى التكريدي

كانت فيه شهامة وحزامة، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين بن تيمية كالمنفذ لما يأمر به وينهى عنه‏.‏

ويرسله الأمراء وغيرهم في الأمور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه توفي في الخامس من صفر بالقبيبات، ودفن عند الجامع الكريمي رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ أبو بكر الصالحالي

أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمان الصالحي، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وسمع الكثير صحبة الشيخ تقي الدين بن تيمية والمزي، وكان ممن يحب الشيخ تقي الدين، وكان معهما كالخادم لهما، وكان فقيراً ذا عيال يتناول من الزكاة والصدقات ما يقوم بأوده‏.‏

وأقام في آخر عمره بحمص، وكان فصيحاً مفوهاً، له تعاليق وتصانيف في الأصول وغيرها، وكان له عبادة وفيه خير وصلاح، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه‏.‏

وقد اجتمعت بأمره صحبة شيخنا المزي حين قدم من حمص فكان قوي العبارة فصيحها متوسطاً بالعلم، له ميل إلى التصوف والكلام في الأحوال والأعمال والقلوب وغير ذلك، وكان يكثر ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية‏.‏

توفي بحمص في الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، وقد كان الشيخ يحض الناس على الإحسان إليه، وكان يعطيه ويرفده‏.‏

 ابن الدواليبي البغدادي

الشيخ الصالح العالم العابد الرحلة المسند المعمر عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن ابن أبي الحسين بن عبد الغفار البغدادي الأرجي الحنبلي المعروف بابن الدواليبي، شيخ دار الحديث المستنصرية‏.‏

ولد في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الكثير، وله إجازات عالية، واشتغل بحفظ الخرقي، وكان فاضلاً في النحو وغيره، وله شعر حسن، وكان رجلاً صالحاً جاوز التسعين وصار رحلة العراق، وتوفي يوم الخميس رابع جمادى الأولى ودفن بمقبرة الإمام أحمد مقابر الشهداء رحمه الله، وقد أجازني فيمن أجاز من مشايخ بغداد ولله الحمد‏.‏

 قاضي القضاة شمس الدين ابن الحريري

أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمر وعثمان بن أبي الحسن عبد الوهاب الأنصاري الحنفي‏.‏ ‏

ولد سنة ثلاث وخسمين، وسمع الحديث واشتغل وقرأ ‏(‏الهداية‏)‏، وكان فقيهاً جيداً، ودرّس بأماكن كثيرة بدمشق، ثم ولي القضاء بها، ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية فاستمر بها مدة طويلة محفوظ العرض، لا يقبل من أحد هدية ولا تأخذه في الحكم لومة لائم، وكان يقول إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن‏؟‏

وقال لبعض أصحابه‏:‏ أتحب الشيخ تقي الدين‏؟‏

قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ والله لقد أحببت شيئاً مليحاً‏.‏

توفي رحمه الله يوم السبت رابع جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وكان قد عين لمنصبه القاضي برهان الدين بن عبد الحق فنفذت وصيته بذلك، وأرسل إليه إلى دمشق فأحضر فباشر الحكم بعده وجميع جهاته‏.‏

 الشيخ الإمام العالم المقري

شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام تقي الدين محمد بن جبارة بن عبد الولي بن جبارة المقدسي المرداوي الحنبلي، شارح الشاطبية، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وعني بفن القراءات فبرز فيه، وانتفع الناس به، وقد أقام بمصر مدة واشتغل بها على الفزاري في أصول الفقه، وتوفي بالقدس رابع رجب رحمه الله، كان يعد من الصلحاء الأخيار، سمع عن خطيب مردا وغيره‏.‏

 ابن العاقولي البغدادي

الشيخ الإمام العلاّمة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن حماد بن تائب الواسطي العاقولي ثم البغدادي الشافعي، مدرّس المستنصرية مدة طويلة نحواً من أربعين سنة، وباشر نظر الأوقاف وعين لقضاء القضاة في وقت‏.‏

ولد ليلة الأحد عاشر رجب سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وبرع واشتغل وأفتى من سنة سبع وخمسين إلى أن مات، وذلك مدة إحدى وسبعين سنة، وهذا شيء غريب جداً، وكان قوي النفس له وجاهة في الدولة، فكم كشف كربة عن الناس بسعيه وقصده‏.‏

توفي ليلة الأربعاء رابع عشرين شوال، وقد جاوز التسعين سنة، ودفن بداره، وكان قد وقفها على شيخ وعشرة صبيان يسمعون القرآن ويحفظونه، ووقف عليها أملاكه كلها‏.‏

تقبل الله منه ورحمه، ودرّس بعده بالمستنصرية قاضي القضاة قطب الدين‏.‏

 الشيخ الصالح شمس الدين السلامي

شمس الدين محمد بن داود بن محمد بن ساب، السلامي البغدادي، أحد ذوي اليسار، وله بر تام بأهل العلم، ولا سيما أصحاب الشيخ تقي الدين‏.‏ ‏‏

وقد وقف كتباً كثيرة، وحج مرات، وتوفي ليلة الأحد رابع عشرين ذي القعدة بعد وفاة الشيخ تقي الدين بأربعة أيام، وصلّي عليه بعد صلاة الجمعة ودفن بباب الصغير رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي هذه الليلة توفيت الوالدة مريم بنت فرج بن علي من قرية كان الوالد خطيبها، وهي مجيدل القرية سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وصلّي عليها بعد الجمعة ودفنت بالصوفية شرقي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمها الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة

استهلت والخليفة والحاكم هم المباشرون في التي قبلها، غير أن قطب الدين ابن شيخ السلامية اشتغل بنظر الجيش‏.‏

وفي المحرم طلب القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب سر دمشق وولده شهاب الدين، وشرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى مصر على البريد، فباشر القاضي الصدر الكبير محيي الدين المذكور كتابة السر بها عوضاً عن علاء الدين بن الأثير لمرض اعتراه، وأقام عنده ولده شهاب الدين، وأقبل شرف الدين الشهاب محمود إلى دمشق على كتابة السر عوضاً عن ابن فضل الله‏.‏

وفيه‏:‏ ذهب ناصر الدين مشد الأوقاف ناظراً على القدس والخليل، فعمر هنالك عمارات كثيرة لملك الأمراء تنكز، وفتح في الأقصى شباكين عن يمين المحراب وشماله وجاء الأمير نجم الدين داود بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن يوسف بن الزيبق من شد الدواوين بحمص إلى شدها بدمشق‏.‏

وفي الحادي والعشرين من صفر كمل ترخيم الحائط القبلي من جامع دمشق وبسط الجامع جميعه، وصلى الناس الجمعة به من الغد، وفتح باب الزيادة، وكان له أياماً مغلقاً وذلك في مباشرة تقي الدين بن مراجل‏.‏

وفي ربيع الآخر قدم من مصر أولاد الأمير شمس الدين قراسنقر إلى دمشق فسكنوا في دار أبيهم داخل باب الفراديس، في دهليز المقدمية، وأعيدت عليهم أملاكهم المخلفة عن أبيهم، وكانت تحت الحوطة، فلما مات في تلك البلاد أفرج عنها أو أكثرها‏.‏

وفي يوم الجمعة آخر شهر ربيع الآخر أنزل الأمير جوبان وولده من قلعة المدينة النبوية وهما ميتان مصبران في توابيتهما، فصلّي عليهما بالمسجد النبوي، ثم دفنا بالبقيع عن مرسوم السلطان، وكان مراد جوبان أن يدفن في مدرسته فلم يمكن من ذلك‏.‏

وفي هذا اليوم صلّي بالمدينة النبوية على الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وعلى القاضي نجم الدين البالسي المصري صلاة الغائب‏.‏

وفي يوم الاثنين منتصف جمادى الآخرة درّس القاضي شهاب الدين أحمد بن جهبل بالمدرسة البادرائية عوضاً عن شيخنا برهان الدين الفزاري توفي إلى رحمة الله تعالى، وأخذ مشيخة دار الحديث منه الحافظ شمس الدين الذهبي، وحضرها في يوم الأربعاء سابع عشرة، ونزل عن خطابة بطنا للشيخ جمال الدين الملاتي المالكي، فخطب بها يوم الجمعة تاسع عشره‏.‏ ‏

وفي أواخر هذا الشهر قدم نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون إلى دمشق قاصداً باب السلطان، فتلقاه نائب دمشق وأنزله بداره التي عند جامعه، ثم سار نحو مصر فغاب نحواً من أربعين يوماً، ثم عاد راجعاً إلى نيابة حلب‏.‏

وفي عاشر رجب طلب الصاحب تقي الدين بن عمر بن الوزير شمس الدين بن السلعوس إلى مصر فولي نظر الدواوين بها حتى مات عن قريب‏.‏

وخرج الركب يوم السبت تاسع شوال وأميره سيف الدين بلطي، وقاضيه شهاب الدين القيمري وفي الحجاج زوجة ملك الأمراء تنكز، وفي خدمتها الطواشي شبل الدولة وصدر الدين المالكي، وصلاح الدين ابن أخي الصاحب تقي الدين توبة، وأخوه شرف الدين، والشيخ علي المغربي، والشيخ عبد الله الضرير وجماعة‏.‏

وفي بكرة الأربعاء ثالث شوال جلس القاضي ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة للحكم بالعادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة القونوي، وعوضاً عن الفخر المصري بحكم نزوله عن ذلك وإعراضه عنه تاسع عشر رمضان من هذه السنة‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس ذي القعدة بعد أذان الجمعة صعد إلى منبر جامع الحاكم بمصر شخص من مماليك الجاولي يقال له أرصى، فادعى أنه المهدي وسجع سجعات يسيرة على رأي الكهان، فأنزل في شرخيبة، وذلك قبل حضور الخطيب بالجامع المذكور‏.‏

وفي ذي القعدة وما قبله وما بعده من أواخر هذه السنة وأوائل الأخرى وسعت الطرقات والأسواق داخل دمشق وخارجها، مثل سوق السلاح والرصيف والسوق الكبير وباب البريد ومسجد القصب إلى الزنجبيلية، وخارج باب الجباية إلى مسجد الدبان، وغير ذلك من الأماكن التي كانت تضيق عن سلوك الناس، وذلك بأمر تنكز، وأمر بإصلاح القنوات، واستراح الناس من ترتيش الماء عليهم بالنجاسات‏.‏

ثم في العشر الأخير من ذي الحجة رسم بقتل الكلاب فقتل منهم شيء كثير جداً، ثم جمعوا خارج باب الصغير مما يلي باب كيسان في الخندق، وفرق بين الذكور منهم والإناث ليموتوا سريعاً، ولا يتوالدوا، وكانت الجيف والميتات تنقل إليهم فاستراح الناس من النجاسة من الماء والكلاب، وتوسعت لهم الطرقات‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة حضر مشيخة الشيوخ بالسمساطية قاضي القضاة شرف الدين المالكي بعد وفاة قاضي القضاة القونوي الشافعي، وقرئ تقليده بالسبحة بها وحضره الأعيان وأعيد إلى ما كان عليه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

الإمام العالم نجم الدين

 نجم الدين أبو عبد الله محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن عقيل البالسي الشافعي، شارح ‏(‏التنبيه‏)‏، ولد سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه وغيره من فنون العلم، فبرع فيها ولازم ابن دقيق العيد وناب عنه في الحكم، ودرس بالمغربية والطيبرسية وجامع مصر، وكان مشهوراً بالفضيلة والديانة وملازمة الاشتغال‏.‏

توفي ليلة الخميس رابع عشر المحرم ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة، رحمه الله‏.‏

الأمير سيف الدين قطلوبك التشنكير الرومي

كان من أكابر الأمراء وولي الحجوبية في وقت، وهو الذي عمر القناة بالقدس، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول ودفن بتربته شمال باب الفراديس، وهي مشهورة حسنة، وحضر جنازته بسوق الخيل النائب والأمراء‏.‏

محدث اليمن

 شرف الدين أحمد بن فقيه زبيد أبي الحسين بن منصور الشماخي المذحجي، روى عن المكيين وغيرهم، وبلغت شيوخه خمسمائة أو أزيد، وكان رحلة تلك البلاد ومفيدها الخير، وكان فاضلاً في صناعة الحديث والفقه وغير ذلك، توفي في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

 

 نجم الدين أبو الحسن

علي بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الواحد أبو محمد بن المسلم أحد رؤساء دمشق المشهورين، له بيت كبير ونسب عريق، ورياسة باذخة وكرم زائد، باشر نظر الأيتام مدة، وسمع الكثير وحدّث، وكانت لديه فضائل وفوائد، وله الثروة الكثيرة، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، ومات يوم الاثنين ضحوة خامس ربيع الآخر، وصلّي عليه بعد الظهر بالأموي، ودفن بسفح قاسيون بتربة أعدها لنفسه، وقبران عنده، وكتب على قبره‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، وسمعنا عليه ‏(‏الموطأ‏)‏ وغيره‏.‏ ‏

 الأمير بكتمر الحاجب

صاحب الحمام المشهور خارج باب النصر في طريق مقابر الصوفية من ناحية الميدان، كانت وفاته بالقاهرة في عشرين ربيع الآخر، ودفن بمدرسته التي أنشأها إلى جانب داره هناك‏.‏

الشيخ شرف الدين عيسى بن محمد بن قراجا بن سليمان

السهروردي الصوفي الواعظ، له شعر ومعرفة بالألحان والأنغام، ومن شعره قوله‏:‏

بشراك يا سعد هذا الحي قد بانا * فحلها سيبطل الإبل والبانا

منازل ما وردنا طيب منزلها * حتى شربنا كؤوس الموت أحيانا

متنا غراماً وشوقاً في المسير لها * فمنذوا في نسيم القرب أحيانا

توفي في ربيع الآخر‏.‏

 شيخنا العلامة برهان الدين الفزاري

هو الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ المذهب وعلمه ومفيد أهله، شيخ الإسلام مفتي الفرق بقية السلف برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ العلامة تاج الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام المقري المفتي برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المصري الشافعي‏.‏

ولد في ربيع الأول سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على أبيه وأعاد في حلقته وبرع وساد أقرانه، وسائر أهل زمانه من أهل مذهبه في دراية المذهب ونقله وتحريره، ثم كان في منصب أبيه في التدريس بالبادرائية، وأشغل الطلبة بالجامع الأموي فانتفع به المسلمون‏.‏

وقد عرضت عليه المناصب الكبار فأباها، فمن ذلك أنه باشر الخطابة بعد عمه العلامة شرف الدين مدة ثم تركها وعاد إلى البادرائية، وعرض عليه قضاء قضاة الشام بعد ابن صصرى وألح نائب الشام عليه بنفسه وأعوانه من الدولة فلم يقبل، وصمم وامتنع أشد الامتناع، وكان مقبلاً على شأنه عارفاً بزمانه مستغرقاً أوقاته في الاشتغال والعبادة ليلاً ونهاراً، كثير المطالعة وإسماع الحديث، وقد سمعنا عليه صحيح مسلم وغيره‏.‏

وكان يدرس بالمدرسة المذكورة، وله تعليق كثير على ‏(‏التنبيه‏)‏، فيه من الفوائد ما ليس يوجد في غيره، وله تعليق على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وله مصنفات في غير ذلك كبار‏.‏

وبالجملة فلم أر شافعياً من مشايخنا مثله، وكان حسن الشكل عليه البهاء والجلالة والوقار، حسن الأخلاق، فيه حدث ثم يعود قريباً، وكرمه زائد وإحسانه إلى الطلبة كثير، وكان لا يقتني شيئاً ويصرف مرتبه وجامكية مدرسته في مصالحه‏.‏

وقد درّس بالبادرائية من سنة سبعين وستمائة إلى عامه هذا، توفي بكرة يوم الجمعة سابع جمادى الأولى بالمدرسة المذكورة، وصلّي عليه عقب الجمعة بالجامع وحملت جنازته على الرؤوس وأطراف الأنامل، وكانت حافلة، ودفن عند أبيه وعمه وذويه بباب الصغير رحمه الله تعالى‏.‏

الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع

 مجد الدين إسماعيل الحراني الحنبلي، ولد سنة ثمان وأربعين وستمائة، وقرأ القراءات وسمع الحديث في دمشق حين انتقل مع أهله إليها سنة إحدى وسبعين، واشتغل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولازمه وانتفع به، وبرع في الفقه وصحة النقل وكثرة الصمت عما لا يعنيه، ولم يزل مواظباً على جهاته ووظائفه لا ينقطع عنها إلا من عذر شرعي، إلى أن توفي ليلة الأحد تاسع جمادى الأولى ودفن بباب الصغير رحمه الله تعالى‏.‏

وفي هذا الحين توفي‏:‏

 الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الله

الذي كان ناظر الدواوين بحلب، ثم انتقل إلى نظرها بطرابلس‏.‏

توفي بحماه، وكان محباً للعلماء وأهل الخير، وفيه كرم وإحسان، وهو والد القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق، وقاضي العساكر الحلبية ومشيخة الشيوخ بالسمساطية، ومدرس الأسدية بحلب، والناصرية والشامية الجوانية بدمشق‏.‏

 القاضي معين الدين

هبة الله بن علم الدين مسعود بن أبي المعالي عبد الله بن أبي الفضل بن الخشيشي الكاتب وناظر الجيش بمصر في بعض الأحيان، ثم بدمشق مدة طويلة مستقلاً ومشاركاً لقطب الدين ابن شيخ السلامية، وكان خبيراً بذلك يحفظه على ذهنه، وكانت له يد جيدة في العربية والأدب والحساب وله نظم جيد، وفيه تودد وتواضع‏.‏

توفي بمصر في نصف جمادى الآخرة ودفن بتربة الفخر كاتب المماليك‏.‏ ‏

 قاضي القضاة علاء الدين القونوي

علاء الدين القونوي، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي التبريزي الشافعي، ولد بمدينة قونية في سنة ثمان وستين وستمائة تقريباً واشتغل هناك، وقد دمشق سنة ثلاث وتسعين، وهو معدود من الفضلاء فازداد بها اشتغالاً، وسمع الحديث وتصدر للاشتغال بجامعها ودرّس بالإقبالية، ثم سافر إلى مصر فدرّس بها في عدة مدارس كبار، وولي مشيخة الشيوخ بها وبدمشق، ولم يزل يشتغل بها وينفع الطلبة إلى أن قدم دمشق قاضياً عليها في سنة سبع وعشرين، وله تصانيف في الفقه وغيره، وكان يحرز علوماً كثيرة منها النحو والتصريف والأصلان والفقه، وله معرفة جيدة ‏(‏بكشاف‏)‏ الزمخشري، وفهم الحديث، وفيه إنصاف كثير وأوصاف حسنة، وتعظيم لأهل العلم، وخرجت له مشيخة سمعناها عليه، وكان يتواضع لشيخنا المزي كثيراً، توفي ببستانه بالسهم يوم سبت بعد العصر رابع عشر ذي القعدة، وصلّي عليه من الغد، ودفن بسفح قاسيون سامحه الله‏.‏

 الأمير حسام الدين لاجين المنصور الحسامي

ويعرف بلاجين الصغير، ولي البر بدمشق مدة، ثم نيابة غزة ثم نيابة البيرة، وبها مات في ذي القعدة، ودفن هناك، وكان ابتني تربة لزوجته ظاهر باب شرقي فلم يتفق دفنه بها ‏{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏‏.‏

 الصاحب عز الدين أبو يعلى

حمزة بن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين أبي غالب المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي بن أسعد بن العميد أبي يعلى بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، أحد رؤساء دمشق الكبار، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الحديث من جماعة، ورواه وسمعنا عليه‏.‏

وله رياسة باذخة وأصالة كثيرة وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا ولم يزل معه صناعة للوظائف إلى أن ألزم بوكالة بيت السلطان، ثم بالوزارة في سنة عشرة كما تقدم، ثم عزل، وقد صودر في بعض الأحيان، وكانت له مكارم على الخواص والكبار، وله إحسان إلى الفقراء والمحتاجين‏.‏

ولم يزل معظماً وجيهاً عند الدولة من النواب والملوك والأمراء وغيرهم إلى أن توفي ببستانه ليلة السبت سادس الحجة، وصلّي عليه من الغد، ودفن بتربته بسفح قاسيون، وله في الصالحية رباط حسن بمئذنة، وفيه دار حديث وبر وصدقة رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاثون وسبعمائة

استهلت بالأربعاء والحكام بالبلاد هم المذكورون بالتي قبلها سوى الشافعي فإنه توفي وولي مكانه في رابع المحرم منها علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السبكي الاخنائي الشافعي‏.‏

وقدم دمشق في الرابع والعشرين منه صحبة نائب السلطنة تنكز، وقد زار القدس وحضر معه تدريس التنكزية التي أنشأها بها‏.‏

ولما قدم دمشق نزل بالعادلية الكبيرة على العادة، ودرّس بها وبالغزالية، واستمر بنيابة المنفلوطي، ثم استناب زين الدين بن المرحل، وفي صفر باشر شرف الدين محمود بن الخطيري شد الأوقاف وانفصل عنها نجم الدين بن الزيبق إلى ولاية نابلس‏.‏

وفي ربيع الآخر شرع بترخيم الجانب الشرقي من الأموي نسبة الجانب الغربي، وشاور ابن مراجل النائب والقاضي على جمع الفصوص من سائر الجامع في الحائط القبلي، فرسما له بذلك‏.‏

وفي يوم الجمعة أقيمت الجمعة في إيوان الشافعية بالمدرسة الصالحية بمصر، وكان الذي أنشأ ذلك الأمير جمال الدين نائب الكرك، بعد أن استفتى العلماء في ذلك‏.‏

وفي ربيع الآخر تولى القضاء بحلب شمس الدين بن النقيب عوضاً عن فخر الدين بن البازري، توفي، وولي شمس الدين بن مجد البعلبكي قضاء طرابلس عوضاً عن ابن النقيب‏.‏

وفي آخر جمادى الأولى باشر نيابة الحكم عن الاخنائي محيي الدين بن جميل عوضاً عن المنفلوطي توفي‏.‏

وفي هذا الشهر وقف الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الناصري مدرسة على الحنفية وفيها صوفية أيضاً، ودرّس بها القاضي علاء الدين بن التركماني، وسكنها الفقهاء‏.‏

وفي جمادى الآخرة زينت البلاد المصرية والشامية ودقت البشائر بسبب عافية السلطان من وقعة انصدعت منها يده، وخلع على الأمراء والأطباء بمصر، وأطلقت الحبوس‏.‏

وفي جمادى الآخرة قدم على السلطان رسل من الفرنج يطلبون منه بعض البلاد الساحلية فقال لهم‏:‏ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ثم سيرهم إلى بلادهم خاسئين‏.‏

وفي يوم الأحد سادس رجب حضر الدرس الذي أنشأه القاضي فخر الدين كاتب المماليك على الحنفية بمحرابهم بجامع دمشق، ودرّس به الشيخ شهاب الدين ابن قاضي الحصين، أخو قاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق بالديار المصرية‏.‏

وحضر عنده القضاة والأعيان، وانصرفوا من عنده إلى عند ابن أخيه صلاح الدين بالجوهرية، درّس بها عوضاً عن حموه شمس الدين بن الزكي نزل له عنها‏.‏ ‏

وفي آخر رجب خطب بالجامع الذي أنشأه الأمير سيف الدين ألماس الحاجب ظاهر القاهرة بالشارع، وخطب بالجامع الذي أنشأه قوصون بين جامع طولون والصالحية، يوم الجمعة حادي عشر رمضان وحضر السلطان وأعيان الأمراء الخطبة، خطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني الشافعي، وخلع عليه خلعة سنية، واستقل في خطابته بدر الدين بن شكري‏.‏

وخرج الركب الشامي يوم السبت حادي عشر شوال وأميره سيف الدين المرساوي صهر بلبان البيري، وقاضيه شهاب الدين ابن المجد عبد الله مدرّس الإقبالية، ثم تولى قضاء القضاة كما سيأتي‏.‏

وممن حج في هذه السنة‏:‏ رضي الدين بن المنطيقي، والشمس الأردبيلي شيخ الجاروخية، وصفي الدين بن الحريري، وشمس الدين ابن خطيب بيروذ، والشيخ محمد النيرباني وغيرهم، فلما قضوا مناسكهم رجعوا إلى مكة لطواف الوداع، فبينما هم في سماع الخطبة إذ سمعوا جلبة الخيل من بني حسن وعبيدهم، قد حطموا على الناس في المسجد الحرام، فثار إلى قتالهم الأتراك فاقتتلوا فقتل أمير من الطبلخانات بمصر‏.‏

يقال له سيف الدين جخدار وابنه خليل، ومملوك له، وأمير عشيرة يقال له الباجي، وجماعة من الرجال والنساء ونهبت أموال كثيرة، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وتهارب الناس إلى منازلهم بأبيار الزاهر، وما كادوا يصلون إليها وما أكملت الجمعة إلا بعد جهد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

واجتمعت الأمراء كلهم على الرجعة إلى مكة للأخذ بالثأر منهم، ثم كروا راجعين وتبعهم العبيد حتى وصلوا إلى مخيم الحجيج، وكادوا ينهبون الناس عامة جهرة، وصار أهل البيت في آخر الزمان يصدون الناس عن المسجد الحرام، وبنو الأتراك هم الذين ينصرون الإسلام وأهله ويكفون الأذية عنهم بأنفسهم وأموالهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 علاء الدين بن الأثير

كاتب السر بمصر، علي بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبي الأصل، ثم المصري، كانت له حرمة ووجاهة وأموال وثروة ومكانة عند السلطان، حتى ضربه الفالج في آخر عمره فانعزل عن الوظيفة وباشرها ابن فضل الله في حياته‏.‏ ‏

 الوزير العالم أبو القاسم

محمد بن محمد بن سهل بن محمد بن سهل الأزدي الغرناطي الأندلسي، من بيت الرياسة والحشمة ببلاد المغرب، قدم علينا إلى دمشق في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين، وهو بعزم الحج، سمعت بقراءته ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ في تسعة مجالس على الشيخ نجم الدين بن العسقلاني، قراءة صحيحة‏.‏

ثم كانت وفاته في القاهرة في ثاني عشرين المحرم، وكانت له فضائل كثيرة في الفقه والنحو والتاريخ والأصول، وكان عالي الهمة شريف النفس محترماً ببلاده جداً، بحيث إنه يولي الملوك ويعزلهم، ولم يلِ هو مباشرة شيء ولا أهل بيته، وإنما كان يلقب بالوزير مجازاً‏.‏

شيخنا الصالح العابد الناسك الخاشع

 شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح العابد شرف الدين أبي الحسن بن حسين بن غيلان البعلبكي الحنبلي، إمام مسجد السلالين بدار البطيخ العتيقة، سمع الحديث وأسمعه، وكان يقرئ القرآن طرفي النهار، وعليه ختمت القرآن في سنة أحد عشر وسبعمائة‏.‏

وكان من الصالحين الكبار، والعباد الأخيار، توفي يوم السبت سادس صفر وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة‏.‏

وفي هذا الشهر - أعني صفر- كانت وفاة والي القاهرة القديدار وله آثار غريبة ومشهورة‏.‏

بهادرآص الأمير الكبير

رأس ميمنة الشام، سيف الدين بهادرآص المنصوري أكبر أمراء دمشق، وممن طال عمره في الحشمة والثروة، وهو ممن اجتمعت فيه الآية الكريمة ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقد كان محبباً إلى العامة، وله بر وصدقة وإحسان، توفي ليلة الثلاثاء ودفن بتربته خارج باب الجابية، وهي مشهورة أيضاً‏.‏

 الحجار ابن الشحنة

الشيخ الكبير المسند المعمر الرحلة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن بن علي بن بيان الديرمقرني، ثم الصالحي الحجار المعروف بابن الشحنة، سمع البخاري علي الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة بقاسيون، وإنما ظهر سماعه سنة ست وسبعمائة ففرح بذلك المحدثون وأكثروا السماع عليه، فقرئ البخاري عليه نحواً من ستين مرة وغيره‏.‏

وسمعنا عليه بدار الحديث الأشرفية في أيام الشتويات نحواً من خمسمائة جزء بالإجازات والسماع، وسماعه من الزبيدي وابن التي، وله إجازة من بغداد فيها مائة وثمانية وثلاثون شيخاً من العوالي المسندين، وقد مكث مدة مقدم الحجارين نحواً من خمس وعشرين سنة، ثم كان يخيط في آخر عمره، واستقرت عليه جامكيته لما اشتغل بإسماع الحديث‏.‏

وقد سمع عليه السلطان الملك الناصر، وخلع عليه وألبسه الخلعة بيده، وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أمم لا يحصون كثرة، وانتفع الناس بذلك، وكان شيخاً حسناً بهي المنظر سليم الصدر ممتعاً بحواسه وقواه، فإنه عاش مائة سنة محققاً، وزاد عليها، لأنه سمع البخاري من الزبيدي في سنة ثلاثين وستمائة وأسمعه هو في سنة ثلاثين وسبعمائة في تاسع صفر بجامع دمشق، وسمعنا عليه يومئذ ولله الحمد‏.‏

ويقال إنه أدرك موت المعظم عيسى بن العادل لما توفي، والناس يسمعهم يقولون مات المعظم، وقد كانت وفاة المعظم في سنة أربع وعشرين وستمائة، وتوفي الحجار يوم الاثنين خامس عشرين صفر من هذه السنة، وصلّي عليه بالمظفري يوم الثلاثاء ودفن بتربة له عند زاوية الدومي، بجوار جامع الأفرم‏.‏

وكانت جنازته حافلة رحمه الله‏.‏

 الشيخ نجم الدين بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن

أبي نصر المحصل المعروف بابن الشحام، اشتغل ببلده ثم سافر وأقام بمدينة سراي من مملكة إربل، ثم قدم دمشق في سنة أربع وعشرين فدرّس بالظاهرية البرانية ثم بالجاروخية، وأضيف إليه مشيخة رباط القصر، ثم نزل عن ذلك لزوج ابنته نور الدين الأردبيلي، توفي في ربيع الأول وكان يعرف طرفاً من الفقه والطب‏.‏

 الشيخ إبراهيم الهدمة

أصله كردي من بلاد المشرق، فقدم الشام، وأقام بين القدس والخليل، في أرض كانت مواتاً فأحياها وغرسها وزرع فيها أنواعاً، وكان يقصد للزيارة، ويحكي الناس عنه كرامات صالحة، وقد بلغ مائة سنة، وتزوج في آخر عمره ورزق أولاداً صالحين، توفي في جمادى الآخرة رحمه الله‏.‏

الست صاحبة التربة بباب الخواصين الخوندة المعظمة المحجبة المحترمة‏:‏

 ستيته بنت الأمير سيف الدين

كركاي المنصوري، زوجة نائب الشام تنكز، توفيت بدار الذهب، وصلّي عليها بالجامع ثالث رجب، ودفنت بالتربة التي أمرت بإنشائها بباب الخواصين، وفيها مسجد وإلى جانبها رباط للنساء ومكتب للأيتام‏.‏

وفيها صدقات وبر وصلات، وقراء عليها، كل ذلك أمرت به، وكانت قد حجت في العام الماضي رحمها الله‏.‏

 قاضي قضاة طرابلس

شمس الدين محمد بن عيسى بن محمود البعلبكي المعروف بابن المجد الشافعي، اشتغل ببلده وبرع في فنون كثيرة، وأقام بدمشق مدة يدرّس بالقوصية وبالجامع، ويؤم بمدرسة أم الصالح، ثم انتقل إلى قضاء طرابلس فأقام بها أربعة أشهر، ثم توفي في سادس رمضان وتولاها بعده ولده تقي الدين وهو أحد الفضلاء المشهورين، ولم تطل مدته حتى عزل عنها وأخرج منها‏.‏

الشيخ الصالح

عبد الله بن أبي القاسم بن يوسف بن أبي القاسم الحوراني، شيخ طائفتهم وإليه مرجع زاويتهم بحوران، كان عنده تفقه بعض شيء، وزهادة ويزار، وله أصحاب يخدمونه، وبلغ السبعين سنة، وخرج لتوديع بعض أهله إلى ناحية الكرك من ناحية الحجاز فأدركه الموت هناك، فمات في أول ذي القعدة‏.‏

 الشيخ حسن بن علي

ابن أحمد الأنصاري الضرير كان بفرد عين أولاً ثم عمي جملة، وكان يقرأ القرآن ويكثر التلاوة ثم انقطع إلى المنارة الشرقية، وكان يحضر السماعات ويستمع ويتواجد، ولكثير من الناس فيه اعتقاد على ذلك، ولمجاورته في الجامع وكثرة تلاوته وصلاته والله يسامحه، توفي يوم السبت في العشر الأول من ذي الحجة بالمئذنة الشرقية، وصلّي عليه بالجامع، ودفن بباب الصغير‏.‏

 محيي الدين أبو الثناء محمود

ابن الصدر شرف الدين القلانسي، توفي في ذي الحجة ببستانه، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون وهو جد الصدر جلال الدين بن القلانسي، وأخيه علاء، وهم ثلاثتهم رؤساء‏.‏

الشاب الرئيس

 صلاح الدين يوسف بن القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية، ناظر الجيش أبوه، نشأ هذا الشاب في نعمة وحشمة وترفه وعشرة واجتماع بالأصحاب، توفي يوم السبت تاسع عشرين ذي الحجة فاستراح من حشمته وعشرته إن لم تكن وبالاً عليه، ودفن بتربتهم تجاه الناصرية بالسفح، وتأسف عليه أبواه ومعارفه وأصحابه سامحه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد ذكرنا ما كان من عبيد مكة إلى الحجاج، وأنه قتل من المصريين أميران، فلما بلغ الخبر السلطان عظم عليه ذلك، وامتنع من الأكل على السماط فيما يقال أياماً، ثم جرد ستمائة فارس وقيل ألفاً، والأول أصح، وأرسل إلى الشام أن يجرد مقدماً آخر، فجرد الأمير سيف الدين الجي بغا العادلي‏.‏

وخرج من دمشق يوم دخلها الركب في سادس عشرين المحرم، وأمر أن يسير إلى إيلة ليجتمع مع المصريين، وأن يسيروا جميعاً إلى الحجاز‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور إلى مدينة حلب، وخرج نائب حلب أرغون ومعه الأمراء مشاة إليه في تهليل وتكبير وتحميد، يتلقون هذا النهر، ولم يكن أحد من المعالي ولا غيرهم أن يتكلم بغير ذكر الله تعالى‏.‏

وفرح الناس بوصوله إليهم فرحاً شديداً، وكانوا قد وسعوا في تحصيله من أماكن بعيدة احتاجوا فيها إلى نقب الجبال، وفيها صخور ضخام وعقدوا له قناطر على الأودية، وما وصل إلا بعد جهد جهيد، وأمر شديد، فلله الحمد وحده لا شريك له‏.‏

وحين رجع نائب حلب أرغون مرض مرضاً شديداً ومات رحمه الله‏.‏

وفي سابع صفر وسع تنكز الطرقات بالشام ظاهر باب الجابية، وخرب كل ما يضيق الطرقات‏.‏

وفي ثاني ربيع الأول لبس علاء الدين القلانسي خلعة سنية لمباشرة نظر الدواوين ديوان ملك الأمراء، وديوان نظر المارستان، عوضاً عن ابن العادل، ورجع ابن العادل إلى حجابة الديوان الكبير‏.‏

وفي يوم ثاني ربيع الأول لبس عماد الدين بن الشيرازي خلعة نظر الأموي عوضاً عن ابن مراجل عزل عنه لا إلى بدل عنه، وباشر جمال الدين بن القويرة نظر الأسرى بدلاً عن ابن الشيرازي‏.‏

وفي يوم الخميس آخر ربيع الأول لبس القاضي شرف الدين بن عبد الله بن شرف الدين حسن ابن الحافظ أبي موسى عبد الله ابن الحافظ عبد الغني المقدسي خلعة قضاء الحنابلة عوضاً عن عز الدين بن التقي سليمان، توفي رحمه الله، وركب من دار السعادة إلى الجامع، فقرئ تقليده تحت النسر بحضرة القضاة والأعيان، ثم ذهب إلى الجوزية، فحكم بها ثم إلى الصالحية وهو لابس الخلعة، واستناب يومئذ ابن أخيه النقي عبد الله بن شهاب الدين أحمد‏.‏

وفي سلخ ربيع الآخر اجتاز الأمير علاء الدين الطنبغا بدمشق وهو ذاهب إلى بلاد حلب نائباً عليها، عوضاً عن أرغون، توفي إلى رحمة الله، وقد تلقاه النائب والجيش‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى حضر الأمير الشريف رميثة بن أبي نمي إلى مكة، فقرئ تقليده بإمرة مكة من جهة السلطان، صحبة التجريدة، وخلع عليه وبايعه الأمراء المجردون من مصر والشام داخل الكعبة، وقد كان وصول التجاريد إلى مكة في سابع ربيع الأول، فأقاموا بباب المعلى، وحصل لهم خير كثير من الصلاة والطواف، وكانت الأسعار رخيصة معهم‏.‏

وفي يوم السبت سابع ربيع الآخر خلع على القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة بوكالة السلطان ونظر جامع طولون ونظر الناصرية، وهنأه الناس عوضاً عن التاج ابن إسحاق عبد الوهاب، توفي ودفن بالقرافة‏.‏

وفي هذا الشهر تولى عماد الدين ابن قاضي القضاة الاخنائي تدريس الصارمية وهو صغير بعد وفاة النجم هاشم بن عبد الله البعلبكي الشافعي، وحضرها في رجب وحضر عنده الناس خدمة لأبيه‏.‏

وفي حادي عشرين جمادى الآخرة رجعت التجريدة من الحجاز صحبة الأمير سيف الدين الجي بغا، وكانت غيبتهم خمسة أشهر وأياماً وأقاموا بمكة شهراً واحداً ويوماً واحداً وحصل للعرب منهم رعب شديد، وخوف أكيد، وعزلوا عن مكة عطية، وولوا أخاه رميثة وصلّوا وطافوا واعتمروا، ومنهم من أقام هناك ليحج‏.‏

وفي ثاني رجب خلع على ابن أبي الطيب بنظر ديوان بيت المال عوضاً عن ابن الصاين توفي‏.‏

وفي أوائل شعبان حصل بدمشق هواء شديد مزعج كسر كثيراً من الأشجار والأغصان، وألقى بعض الحيطان والجدران، وسكن بعد ساعة بإذن الله، فلما كان يوم تاسعه سقط برد كبار مقدار بيض الحمام، وكسر بعض جامات الحمام‏.‏

وفي شهر شعبان هذا خطب بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل أنشأها الأمير سيف الدين طغزدمر، أمير مجلس الناصري، وكان الخطيب عز الدين عبد الرحيم بن الفرات الحنفي‏.‏

وفي نصف رمضان قدم الشيخ تاج الدين عمر بن علي بن سالم الملحي ابن الفاكهاني المالكي، نزل عند القاضي الشافعي، وسمع عليه شيئاً من مصنفاته، وخرج إلى الحج عامئذ مع الشاميين، وزار القدس قبل وصوله إلى دمشق‏.‏

وفي هذا الشهر وطأ سوق الخيل وركبت في حصبات كثيرة، وعمل فيه نحو من أربعمائة نفس في أربعة أيام حتى ساووه وأصلحوه، وقد كان قبل ذلك يكون فيه مياه كثيرة، وملقات‏.‏

وفيه‏:‏ أصلح سوق الدقيق داخل باب الجابية إلى الثابتية وسقف عليه السقوف‏.‏ ‏

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره عز الدين أيبك، أمير علم، وقاضيه شهاب الدين الظاهري‏.‏

وممن حج فيه‏:‏ شهاب الدين بن جهبل، وأبو النسر، وابن جملة، والفخر المصري، والصدر المالكي، وشرف الدين الكفوي الحنفي، والبهاء ابن إمام المشهد، وجلال الدين الأعيالي ناظر الأيتام، وشمس الدين الكردي، وفخر الدين البعلبكي، ومجد الدين ابن أبي المجد، وشمس الدين ابن قيم الجوزية، وشمس الدين ابن خطيب بيرة، وشرف الدين قاسم العلجوني، وتاج الدين ابن الفاكهاني، والشيخ عمر السلاوي، وكاتبه إسماعيل بن كثير، وآخرون من سائر المذاهب‏.‏

حتى كان الشيخ بدر الدين يقول‏:‏ اجتمع في ركبنا هذا أربعمائة فقيه وأربع مدارس وخانقاه، ودار حديث، وقد كان معنا من المتفتيين ثلاثة عشر نفساً، وكان في المصريين جماعة من الفقهاء منهم قاضي المالكية تقي الدين الأخنائي، وفخر الدين النويري، وشمس الدين بن الحارثي، ومجد الدين الأقصرائي، وشيخ الشيوخ الشيخ محمد المرشدي‏.‏

وفي ركب العراق الشيخ أحمد السروجي أشد، وكان من المشاهير‏.‏

وفي الشاميين الشيخ علي الواسطي صحبة ابن المرجاني، وأمير المصريين مغلطاي الجمالي الذي كان وزيراً في وقت، وكان إذ ذاك مريضاً، ومررنا بعين تبوك وقد أصلحت في هذه السنة، وصينت من دوس الجمال والجمالين، وصار ماؤها في غاية الحسن والصفاء والطيب، وكانت وقفة الجمعة ومطرنا بالطواف، وكانت سنة مرخصة آمنة‏.‏

وفي نصف ذي الحجة رجع تنكز من ناحية قلعة جعبر، وكان في خدمته أكثر الجيش الشامي، وأظهر أبهة عظيمة في تلك النواحي‏.‏

وفي سادس عشر ذي الحجة وصل توقيع القاضي علاء الدين بن القلانسي بجميع جهات أخيه جمال الدين بحكم وفاته مضافاً إلى جهاته، فاجتمع له من المناصب الكبار ما لم يجتمع لغيره من الرؤساء في هذه الأعصار، فمن ذلك‏:‏

وكالة بيت المال، وقضاء العسكر، وكتابة الدست، ووكالة ملك الأمراء، ونظر البمارستان، ونظر الحرمين، ونظر ديوان السعيد، وتدريس الأمينية والظاهرية والعصرونية وغير ذلك انتهى‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 قاضي القضاة عز الدين المقدسي

عز الدين أبو عبد الله بن محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي‏.‏

ولد سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على والده واستنابه في أيام ولايته، فلما ولي ابن مسلم لزم بيته يحضر درس الجوزية ودار الحديث الأشرفية بالجبل ويأوي إلى بيته‏.‏

فلما توفي ابن مسلم ولي قضاء الحنابلة بعده نحواً من أربع سنين، وكان فيه تواضع وتودد وقضاء لحوائج الناس، وكانت وفاته يوم الأربعاء تاسع صفر، وكان يوماً مطيراً، ومع هذا شهد الناس جنازته، ودفن بتربتهم رحمهم الله، وولي بعده نائبه شرف الدين ابن الحافظ، وقد قارب الثمانين‏.‏

وفي نصف صفر توفي‏:‏

 الأمير سيف الدين قجليس

سيف النعمة، وقد كان سمع على الحجار و وزيره بالقدس الشريف‏.‏

وفي منتصف صفر توفي الأمير الكبير سيف الدين أرغون بن عبد الله الدويدار الناصري، وقد عمل على نيابة مصر مدة طويلة، ثم غضب عليه السلطان فأرسله إلى نيابة حلب، فمكث بها مدة ثم توفي بها في سابع عشر ربيع الأول، ودفن بتربة اشتراها بحلب، وقد كان عنده فهم وفقه، وفيه ديانة وأتباع للشريعة‏.‏

وقد سمع البخاري على الحجار وكتبه جميعه بخطه، وأذن له بعض العلماء في الإفتاء، وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وهو بمصر، توفي ولم يكمل الخمسين سنة، وكان يكره اللهو رحمه الله‏.‏

ولما خرج يلتقي نهر الساجور خرج في ذل ومسكنة، وخرج معه الأمراء كذلك مشاة في تكبير وتهليل وتحميد، ومنع المغاني ومن اللهو واللعب في ذلك رحمه الله‏.‏

القاضي ضياء الدين

 أبو الحسن علي بن سليم بن ربيع بن سليمان الأزرعي الشافعي، تنقل في ولاية الأقضية بمدارس كثيرة مدة ستين سنة، وحكم بطرابلس وعجلون وزرع وغيرها، وحكم بدمشق نيابة عن القونوي نحواً من شهر، وكان عنده فضيلة وله نظر كثير‏.‏

نظم ‏(‏التنبيه‏)‏ في نحو ست عشرة ألف بيت، وتصحيحها في ألف وثلاثمائة بيت، وله مدائح ومواليا وأزجال وغير ذلك، ثم كانت وفاته بالرملة يوم الجمعة ثالث عشرين ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة رحمه الله، وله عدة أولاد منهم عبد الرزاق أحد الفضلاء، وهو ممن جمع بين علمي الشريعة والطبيعة‏.‏ ‏‏

 أبو دبوس عثمان بن سعيد المغربي

تملك في وقت بلاد قابس، ثم تغلب عليه جماعة فانتزعوها منه، فقصد مصر فأقام بها وأقطع إقطاعا، وكان يركب مع الجند في زي المغاربة متقلداً سيفاً، وكان حسن الهيئة يواظب على الخدمة إلى أن توفي في جمادى الأولى‏.‏

الإمام العلامة ضيا الدين أبو العباس

 أحمد بن قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي، مدرّس الحسامية ونائب الحكم بمصر، وأعاد في أماكن كثيرة، وتفقه على والده، توفي في جمادى الآخرة وتولى الحسامية بعده ناصر الدين التبريزي‏.‏

 الصدر الكبير تاج الدين الكارمي

المعروف بابن الرهايلي، كان أكبر تجار دمشق الكارمية وبمصر، توفي في جمادى الآخرة، يقال إنه خلف مائة ألف دينار غير البضائع والأثاث والأملاك‏.‏

الإمام العلاّمة فخر الدين

 عثمان بن إبراهيم بن مصطفى بن سليمان بن المارداني التركماني الحنفي شرح فخر الدين هذا الجامع وألقاه دروساً في مائة كراس، توفي في رجب وله إحدى وسبعون سنة، كان شجاعاً عالماً فاضلاً، وقوراً فصيحاً حسن المفاكهة، وله نظم حسن، وولي بعده المنصورية ولده تاج الدين‏.‏

 

 

 تقي الدين عمر ابن الوزير شمس الدين

محمد بن عثمان بن السلعوس، كان صغيراً لما مات أبوه تحت العقوبة، ثم نشأ في الخدم ثم طلبه السلطان في آخر وقت فولاه نظر الدواوين بمصر‏.‏

فباشره يوماً واحداً وحضر بين يدي السلطان يوم الخميس، ثم خرج من عنده وقد اضطرب حاله فما وصل إلى منزله إلا في محفة، ومات بكرة يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه بجامع عمرو بن العاص، ودفن عند والده بالقرافة، وكانت جنازته حافلة‏.‏

 جمال الدين أبو العباس

أحمد بن شرف الدين بن جمال الدين محمد بن أبي الفتح نصر الله بن أسد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، قاضي العساكر ووكيل بيت المال ومدرّس الأمينية وغيرها حفظ ‏(‏التنبيه‏)‏ ثم ‏(‏المحرر‏)‏ للرافعي، وكان يستحضره، واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وتقدم لطلب العلم والرئاسة، وباشر جهات كباراً‏.‏

ودرّس بأماكن وتفرد في وقته بالرياسة والبيت والمناصب الدينية والدنيوية، وكان فيه تواضع وحسن سمت وتودد وإحسان وبر بأهل العلم والفقراء والصالحين، وهو ممن أذن له في الإفتاء وكتب إنشاء ذلك وأنا حاضر على البديهة فأفاد وأجاد، وأحسن التعبير وعظم في عيني‏.‏

توفي يوم الاثنين ثامن عشرين ذي القعدة، ودفن بتربتهم بالسفح، وقد سمع الحديث على جماعة من المشايخ وخرج له فخر الدين البعلبكي مشيخة سمعناها عليه رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتي وثلاثين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم هم، وفي أولها فتحت القيسارية التي كانت مسبك الفولاذ جوّا باب الصغير حولها ننكز قيسارية ببركة‏.‏

وفي يوم الأربعاء ذكر الدرس بالأمينية والظاهرية علاء الدين بن القلانسي عوضاً عن أخيه جمال الدين، وذكر ابن أخيه أمين الدين محمد بن جمال الدين الدرس في العصرونية، تركها له عمه، وحضر عندهما جماعة من الأعيان‏.‏

وفي تاسع المحرم جاء إلى حمص سيل عظيم غرق بسببه خلق كثير وجم غفير، وهلك للناس أشياء كثيرة‏.‏

وممن مات فيه نحو مائتي امرأة بحمام النائب، كن مجتمعات على عروس أو عروسين فهلكن جميعاً‏.‏

وفي صفر أمر تنكز ببياض الجدران المقابلة لسوق الخيل إلى باب الفراديس، وأمر بتجديد خان الظاهر، فغرم عليه نحواً من سبعين ألفاً‏.‏

وفي هذا الشهر وصل تابوت لاجين الصغير من البيرة فدفن بتربته خارج باب شرقي‏.‏

وفي تاسع ربيع الآخر حضر الدرس بالقيمازية عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضاً عن الشيخ رضي الدين المنطيقي، توفي وحضر عنده القضاة والأعيان‏.‏

وفي أول ربيع الآخر خلع على الملك الأفضل محمد بن الملك المؤيد صاحب حماه وولاه السلطان الملك الناصر مكان أبيه بحكم وفاته، وركب بمصر بالعصائب والشبابة والغاشية أمامه‏.‏

وفي نصف هذا الشهر سافر الشيخ شمس الدين الأصفهاني شارح المختصر ومدرّس الرواحية إلى الديار المصرية على خيل البريد، وفارق دمشق وأهلها واستوطن القاهرة‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب بالجامع الذي أنشأه الأمير سيف الدين آل ملك، واستقر فيه خطيباً نور الدين علي بن شبيب الحنبلي‏.‏

وفيه‏:‏ أرسل السلطان جماعة من الأمراء إلى الصعيد فأحاطوا على ستمائة رجل ممن كان يقطع الطريق فأتلف بعضهم‏.‏

وفي جمادى الآخرة تولى شد الدواوين بدمشق نور الدين بن الخشاب عوضاً عن الطرقشي‏.‏

وفي يوم الأربعاء حادي عشر رجب خلع على قاضي القضاة علاء الدين بن الشيخ زين الدين بن المنجا بقضاء الحنابلة عوضاً عن شرف الدين بن الحافظ، وقرئ تقليده بالجامع، وحضر القضاة والأعيان‏.‏

وفي اليوم الثاني استناب برهان الدين الزرعي‏.‏

وفي رجب باشر شمس الدين موسى بن التاج إسحاق نظر الجيوش بمصر عوضاً عن فخر الدين كاتب المماليك توفي، وباشر ألنشو مكانه في نظر الخاص، وخلع عليه بطرحة، فلما كان في شعبان عزل هو وأخوه العلم ناظر الدواوين وصودروا وضربوا ضرباً عظيماً، وتولى نظر الجيش المكين بن قروينة، ونظر الدواوين أخوه شمس الدين بن قرونية‏.‏

وفي شعبان كان عرس أنوك، ويقال كان اسمه محمد بن السلطان الملك الناصر، على بنت الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، وكان جهازها بألف ألف دينار، وذبح في هذا العرس من الأغنام والدجاج والإوز والخيل والبقر نحو من عشرين ألفاً، وحملت حلوى بنحو ثمانية عشر ألف قنطار، وحمل له من الشمع ثلاثة آلاف قنطار، قاله الشيخ أبو بكر، وكان هذا العرس ليلة الجمعة حادي عشر شعبان‏.‏

وفي شعبان هذا حوّل القاضي محي الدين بن فضل الله من كتابة السر بمصر إلى كتابة السر بالشام، ونقل شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة السر بمصر، وأقيمت الجمعة بالشامية البرانية في خامس عشر شعبان، وحضرها القضاة والأمراء، وخطب بها الشيخ زين الدين عبد النور المغربي وذلك بإشارة الأمير حسام الدين اليشمقدار الحاجب بالشام، ثم خطب عنه كمال الدين بن الزكي‏.‏

وفيه‏:‏ أمر نائب السلطنة بتبييض البيوت من سوق الخيل إلى ميدان الحصا، ففعل ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ زادت الفرات زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها، واستمرت نحواً من اثني عشر يوماً، فأتلفت بالرحبة أموالاً كثيرة، وكسرت الجسر الذي عند دير بسر، وغلت الأسعار هناك فشرعوا في إصلاح الجسر، ثم انكسر مرة ثانية‏.‏

وفي يوم السبت تاسع شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين أوزان، وقاضيه جمال الدين بن الشريشي، وهو قاضي حمص الآن‏.‏

وحج السلطان في هذه السنة وصحبته قاضي القضاة القزويني وعز الدين بن جماعة، وموفق الدين الحنبلي، وسبعون أميراً‏.‏

وفي ليلة الخميس حادي عشرين شوال رسم على الصاحب عز الدين غبريال بالمدرسة النجيبية الجوانية، وصودر وأخذت منه أموال كثيرة، وأفرج عنه في المحرم من السنة الآتية‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ عبد الرحمن بن أبي محمد بن محمد

ابن سلطان القرامذي، أحد المشاهير بالعبادة والزهادة وملازمة الجامع الأموي، وكثرة التلاوة والذكر، وله أصحاب يجلسون إليه، وله مع هذا ثروة وأملاك، توفي في مستهل المحرم عن خمس أوست وثمانين سنة، ودفن بباب الصغير، وكان قد سمع الحديث واشتغل بالعلم ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة إلى أن مات‏.‏

 الملك المؤيد صاحب حماه

عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كانت له فضائل كثيرة في علوم متعددة من الفقه والهيئة والطب وغير ذلك، وله مصنفات عديدة منها ‏(‏تاريخ حافل‏)‏ في مجلدين كبيرين، وله نظم ‏(‏الحاوي‏)‏ وغير ذلك، وكان يجب العلماء ويشاركهم في فنون كثيرة، وكان من فضلاء بني أيوب، ولي ملك حماه من سنة إحدى وعشرين إلى هذا الحين، وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه، وولي بعده ولده الأفضل علي، توفي في سحر يوم الخميس ثامن عشرين المحرم، ودفن ضحوة عند والديه بظاهر حماه‏.‏

 القاضي الإمام تاج الدين السعدي

تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض بن سنان بن عبد الله السعدي الفقيه الشافعي‏.‏

‏سمع الكثير وخرج لنفسه معجماً في ثلاث مجلدات، وقرأ بنفسه الكثير، وكتب الخط الجيد، وكان متقناً عارفاً بهذا الفن، يقال إنه كتب بخطه نحواً من خمسمائة مجلد، وقد كان شافعياً مفتياً، ومع هذا ناب في وقت عن القاضي الحنبلي، وولي مشيخة الحديث بالمدرسة الصاحبية، وتوفي بمصر في مستهل ربيع الأول عن ثنتين وثمانين سنة، رحمه الله‏.‏

 الشيخ رضي الدين بن سليمان

المنطقي الحنفي، أصله من أب كرم، من بلاد قونية، وأقام بحماه ثم بدمشق‏.‏

ودرس بالقيمازية، وكان فاضلاً في المنطق والجدل، واشتغل عليه جماعة في ذلك، وبلغ من العمر ستاً وثمانين سنة، وحج سبع مرات، توفي ليلة الجمعة سادس عشرين ربيع الأول، وصلّي عليه بعد الصلاة، ودفن بالصوفية‏.‏

وفي ربيع الأول توفي‏:‏

 الإمام علاء الدين طيبغا

ودفن بتربته بالصالحية‏.‏

وكذلك الأمير سيف الدين زولاق، ودفن بتربته أيضاً‏.‏

 قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد

عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نيابة ابن مسلم مدة، ثم ولي القضاء في السنة الماضية، ثم كانت وفاته فجأة في مستهل جمادى الأولى ليلة الخميس ودفن من الغد بتربة الشيخ أبي عمر‏.‏

 الشيخ ياقوت الحبشي

الشاذلي الإسكندراني، بلغ الثمانين، وكان له اتباع، وأصحاب منهم شمس الدين بن اللبان الفقيه الشافعي، وكان يعظمه ويطريه وينسب إليه مبالغات الله أعلم بصحتها وكذبها، توفي في جماد وكانت جنازته حافلة جداً‏.‏

 النقيب ناصح الدين

محمد بن عبد الرحيم بن قاسم بن إسماعيل الدمشقي، نقيب المتعممين، تتلمذ أولاً للشهاب المقري، ثم كان بعده في المحافل العزاء والهناء، وكان يعرف هذا الفن جيداً، وكان كثير الطلب من الناس، ويطلبه الناس لذلك، ومع هذا مات وعليه ديون كثيرة، توفي أواخر رجب‏.‏

 القاضي فخر الدين كاتب المماليك

وهو محمد بن فضل الله ناظر الجيوش بمصر، أصله قبطي فأسلم وحسن إسلامه، وكانت له أوقاف كثيرة، وبر وإحسان إلى أهل العلم، وكان صد‏'‏اً معظماً، حصل له من السلطان حظ وافر، وقد جاوز السبعين وإليه تنسب الفخرية بالقدس الشريف، توفي في نصف رجب واحتيط على أمواله وأملاكه بعد وفاته رحمه الله‏.‏

 الأمير سيف الدين الجاي الدويدار الملكي الناصري

كان فقيهاً حنفياً فاضلاً، كتب بخطه ربعة وحصل كتباً كثيرة معتبرة، وكان كثير الإحسان إلى أهل العلم، توفي في سلخ رجب رحمه الله‏.‏

الطبيب الماهر الحاذق الفاضل

 أمين الدين سليمان بن داود بن سليمان، كان رئيس الأطباء بدمشق ومدرسهم مدة، ثم عزل بجمال الدين بن الشهاب الكحال مدة قبل موته لأمر تعصب عليه فيه نائب السلطنة، توفي يوم السبت سادس عشرين شوال ودفن بالقبيبات‏.‏

الشيخ الإمام العالم المقري شيخ القراء

 برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري، ثم الخليلي الشافعي، صاحب المصنفات الكثيرة في القراءات وغيرها، ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة يقرئ الناس، وشرح الشاطبية وسمع الحديث، وكانت له إجازة من يوسف بن خليل الحافظ، وصنف بالعربية والعروض والقراءات نظماً ونثراً وكان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة والعفة والصيانة، توفي يوم الأحد خامس شهر رمضان، ودفن ببلد الخليل تحت الزيتونة، وله ثنتان وتسعون سنة رحمه الله‏.‏

قاضي القضاة علم الدين

 أبو عبد الله محمد بن القاضي شمس الدين أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الأخنائي السعدي المصري الشافعي الحاكم بدمشق وأعمالها، كان عفيفاً نزهاً ذكياً سار العبارة محباً للفضائل، معظماً لأهلها كثير لإسماع الحديث في العادلية الكبيرة، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة، ودفن بسفح قاسيون عند زوجته تجاه تربة العادل كتبغا من ناحية الجبل‏.‏

 قطب الدين موسى

ابن أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية ناظر الجيوش الشامية، كانت له ثروة وأموال كثيرة، وله فضائل وأفضال وكرم وإحسان إلى أهل الخير، وكان مقصداً في المهمات، توفي يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة وقد جاوز السبعين، ودفن بتربته تجاه الناصرية بقاسيون، وهو والد الشيخ الإمام العلاّمة عز الدين حمزة مدرّس الحنبلية‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة

استهلت يوم الأربعاء والحاكم هم المذكورون في التي قبلها، وليس للشافعية قاضٍ، وقاضي الحنفية عماد الدين الطرسوسي، وقاضي المالكية شرف الدين الهمداني، وقاضي الحنابلة علاء الدين بن المنجا، وكاتب السر محيي الدين بن فضل الله، وناظر الجامع عماد الدين بن الشيرازي‏.‏

وفي ثاني المحرم قدم البشير بسلامة السلطان من الحجاز وباقتراب وصوله إلى البلاد، فدقت البشائر وزينت البلد‏.‏

وأخبر البشير بوفاة الأمير سيف الدين بكتمر الساقي وولده شهاب الدين أحمد وهما راجعان في الطريق، بعد أن حجا قريباً من مصر‏:‏ الوالد أولاً، ثم من بعده ابنه بثلاثة أيام بعيون القصب، ثم نقلا إلى تربتهما بالقرافة، ووجد لبكتمر من الأموال والجواهر واللآلي والقماش والأمتعة والحواصل شيء كثير، لا يكاد ينحصر ولا ينضبط‏.‏

وأفرج عن الصاحب شمس الدين غبريال في المحرم، وطلب في صفر إلى مصر فتوجه على خيل البريد، واحتيط على أهله بعد مسيره وأخذت منهم أموال كثيرة لبيت المال‏.‏ ‏

وفي أواخر صفر قدم الصاحب أمين الملك على نظر الدواوين بدمشق عوضاً عن غبريال، وبعده بأربعة أيام قدم القاضي فخر الدين بن الحلي على نظر الجيش بعد وفاة قطب الدين ابن شيخ السلامية‏.‏

وفي نصف ربيع الأول لبس ابن جملة خلعة القضاء للشافعية بدمشق بدار السعادة، ثم جاء إلى الجامع وهي عليه، وذهب إلى العادلية وقرىء تقليده بها بحضرة الأعيان، ودرّس بالعادلية والغزالية يوم الأربعاء ثاني عشر الشهر المذكور‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه حضر ابن أخيه جمال الدين محمود إعادة القيمرية نزل له عنها، ثم استنابه بعد ذلك في المجلس، وخرج إلى العادلية فحكم بها، ثم لم يستمر بعد ذلك، عزل عن النيابة بيومه، واستناب بعده جمال الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن يوسف الحسباني، وله همة وعنده نزاهة وخبرة بالأحكام‏.‏

وفي ربيع الأول ولي شهاب قرطاي نيابة طرابلس وعزل عنها طينال إلى نيابة غزة وتولى نائب غزة حمص، وحصل للذي جاء بتقاليدهم مائة ألف درهم منهم، وفي ربيع الآخر أعيد القاضي محيي الدين بن فضل الله وولده إلى كتابة سر مصر، ورجع شرف الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة سر الشام كما كان‏.‏

وفي منتصف هذا الشهر ولي نقابة الأشراف عماد الدين موسى الحسيني عوضاً عن أخيه شرف الدين عدنان توفي في الشهر الماضي ودفن بتربتهم عند مسجد الدبان‏.‏

وفيه درّس الفخر المصري بالدولعية عوضاً عن ابن جملة بحكم ولايته القضاء‏.‏

وفي خامس عشرين رجب درّس بالبادرائية القاضي علاء الدين علي بن شريف ويعرف بابن الوحيد، عوضاً عن ابن جهبل توفي في الشهر الماضي، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكنت إذ ذاك بالقدس أنا والشيخ شمس الدين بن عبد الهادي وآخرون، وفيه رسم السلطان الملك الناصر بالمنع من رمي البندق، وأن لا تباع قسيها ولا تعمل، وذلك لإفساد رماة البندق أولاد الناس، وأن الغالب على من تعاناه اللواط والفسق وقلة الدين، ونودي بذلك في البلاد المصرية والشامية‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لإفسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، ثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي‏.‏

وفي أول رمضان وصل البريد بتولية الأمير فخر الدين بن الشمس لؤلؤ ولاية البر بدمشق بعد وفاة شهاب الدين بن المرواني، ووصل كتاب من مكة إلى دمشق في رمضان يذكر فيه أنها وقعت صواعق ببلاد الحجاز فقتلت جماعة متفرقين في أماكن شتى، وأمطار كثيرة جداً‏.‏

وجاء البريد في رابع رمضان بتولية القاضي محيي الدين بن جميل قضاء طرابلس فذهب إليها، ودرّس ابن المجد عبد الله بالرواحية عوضاً عن الأصبهاني بحكم إقامته بمصر‏.‏

وفي آخر رمضان أفرج عن الصاحب علاء الدين وأخيه شمس الدين موسى بن التاج إسحاق بعد سجنهما سنة ونصفاً‏.‏

وخرج الركب الشامي يوم الخميس عاشر شوال وأميره بدر الدين بن معبد وقاضيه علاء الدين ابن منصور مدرّس الحنفية بمدرسة تنكز، وفي الحجاج صدر الدين المالكي، وشهاب الدين الظهيري، ومحيي الدين ابن الأعقف وآخرون‏.‏

وفي يوم الأحد ثالث عشره درّس بالأتابكية ابن جملة عوضاً عن ابن جميل تولى قضاء طرابلس‏.‏

وفي يوم الأحد عشرينه حكم القاضي شمس الدين محمد بن كامل التدرمي، الذي كان في خطابه الخليل بدمشق نيابة عن ابن جملة، وفرح الناس بدينه وفضيلته‏.‏

وفي ذي القعدة مسك تنكز دواداره ناصر الدين محمد، وكان عنده بمكانة عظيمة جداً، وضربه بين يديه ضرباً مبرحاً، واستخلص منه أموالاً كثيرة‏.‏

ثم حبسه بالقلعة ثم نفاه إلى القدس، وضرب جماعة من أصحابه منهم علاء الدين بن مقلد حاجب العرب، وقطع لسانه مرتين، ومات وتغيرت الدولة وجاءت دولة أخرى مقدمها عنده حمزة الذي كان سميره وعشيره في هذه المدة الأخيرة، وانزاحت النعمة عن الدوادار ناصر الدين وذويه ومن يليه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة ركّب على الكعبة باب حديد أرسله السلطان مرصعاً من السبط الأحمر كأنه آبنوس، مركب عليه صفائح من فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفاً وثلاثمائة وكسر، وقلع الباب العتيق، وهو من خشب الساج، وعليه صفائح تسلمها بنو شيبة، وكان زنتها ستين رطلاً فباعوها كل درهم بدرهمين، لأجل التبرك‏.‏ ‏

وهذا خطأ وهو ربا وكان ينبغي أن يبيعوها بالذهب لئلا يحصل ربا بذلك - وترك خشب الباب العتيق داخل الكعبة، وعليه اسم صاحب اليمن في الفردتين، واحدة عليها‏:‏ الله يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر بن علي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ العالم تقي الدين محمود علي

ابن محمود بن مقبل الدقوقي أبو الثناء البغدادي محدث بغداد منذ خمسين سنة، يقرأ لهم الحديث وقد ولي مشيخة الحديث بالمستنصرية، وكان ضابطاً محصلاً بارعاً، وكان يعظ ويتكلم في الأعزية والأهنية‏.‏

وكان فرداً في زمانه وبلاده رحمه الله، توفي في المحرم وله قريب السبعين سنة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بتربة الإمام أحمد، ولم يخلف درهماً واحداً، وله قصيدتان رثا بهما الشيخ تقي الدين بن تيمية كتب بهما إلى الشيخ الحافظ البرزالي رحمه الله تعالى‏.‏

الشيخ الإمام العالم عز القضاة

 فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير المالكي الإسكندري، أحد الفضلاء المشهورين، له تفسير في ست مجلدات، وقصائد في رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنة، وله في كان وكان، وقد سمع الكثير وروى، توفي في جماد الأولى عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن بالإسكندرية رحمه الله‏.‏

 ابن جماعة قاضي القضاة

العالم شيخ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الأصل، ولد ليلة السبت رابع ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة بحماه، وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوماً متعددة، وتقدم وساد أقرانه‏.‏

وباشر تدريس القيمرية، ثم ولي الحكم والخطابة بالقدس الشريف، ثم نقل منه إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية، ثم باشر تداريس كباريها في ذلك الوقت، ثم ولي قضاء الشام وجمع له معه الخطابة مشيخة الشيوخ وتدريس العادلية وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسة والديانة والصيانة والورع، وكف الأذى، وله التصانيف الفائقة النافعة‏.‏

وجمع له خطباً كان يخطب بها في طيب صوت فيها وفي قراءته في المحراب وغيره، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يزل حاكماً بها إلى أن أضر وكبر وضعفت أحواله‏.‏

فاستقال فأقيل وتولي مكانه القزويني، وبقيت معه بعض الجهات ورتبت له الرواتب الكثيرة الدارّة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الأولى، وقد أكمل أربعاً وتسعين سنة وشهراً وأياماً، وصلّي عليه من الغد قبل الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة هائلة رحمه الله‏.‏

الشيخ الإمام الفاضل مفتي المسلمين

 شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محيي الدين يحيى بن تاج الدين إسماعيل بن طاهر بن نصر الله بن جهبل الحلبي الأصل ثم الدمشقي الشافعي، كان من أعيان الفقهاء، ولد سنة سبعين وستمائة واشتغل بالعلم ولزم المشايخ ولازم الشيخ الصدر بن الوكيل‏.‏

ودرس بالصلاحية بالقدس، ثم تركها وتحول إلى دمشق فباشر مشيخة دار الحديث الظاهرية مدة، ثم ولي مشيخة البادرائية فترك الظاهرية وأقام بتدريس البادرائية إلى أن مات، ولم يأخذ معلوماً من واحدة منهما، توفي يوم الخميس بعد العصر تاسع جمادى الآخرة، وصلّي عليه بعد الصلاة ودفن بالصوفية، وكانت جنازته حافلة‏.‏

 تاج الدين عبد الرحمن بن أيوب

مغسل الموتى في سنة ستين وستمائة، يقال إنه غسل ستين ألف ميت، وتوفي في رجب وقد جاوز الثمانين‏.‏

 الشيخ فخر الدين أبو محمد

عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطي الشافعي، كان مباشراً شهادة الخزانة، وناب في الحكم عند باب النصر ودفن بالقرافة‏.‏

الإمام الفاضل مجموع الفضائل

 شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الوهاب البكري، نسبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان لطيف المعاني ناسخاً مطيقاً يكتب في اليوم ثلاث كراريس، وكتب البخاري ثماني مرات ويقابله ويجلده ويبيع النسخة من ذلك بألف ونحوه، وقد جمع تاريخاً في ثلاثين مجلداً، وكان ينسخه ويبيعه أيضاً بأزيد من ألف، وذكر أن له كتاباً سماه ‏(‏منتهى الأرب في علم الأدب‏)‏ في ثلاثين مجلداً أيضاً، وبالجملة كان نادراً في وقته، توفي يوم الجمعة عشرين رمضان رحمه الله‏.‏

الشيخ الصالح الزاهد الناسك

 الكثير الحج علي بن الحسن بن أحمد الواسطي المشهور بالخير والصلاح، وكثرة العبادة والتلاوة والحج، يقال إنه حج أزيد من أربعين حجة، وكانت عليه مهابة ولديه فضيلة، توفي وهو محرم يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة، وقد قارب الثمانين رحمه الله‏.‏

 الأمير عز الدين إبراهيم بن عبد الرحمن

ابن أحمد بن القواس، كان مباشراً الشد في بعض الجهات السلطانية، وله دار حسنة بالعقبية الصغيرة، فلما جاءت الوفاة أوصى أن تجعل مدرسة، ووقف عليها أوقافاً، وجعل تدريسها للشيخ عماد الدين الكردي الشافعي، توفي يوم الأربعاء عشرين ذي الحجة‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الأحد وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني ربيع الأول أقيمت الجمعة بالخاتونية البرانية، وخطب بها شمس الدين النجار المؤذن المؤقت بالأموي، وترك خطابة جامع القابون‏.‏

وفي مستهل هذا الشهر سافر الأمير شمس الدين محمد التدمري إلى القدس حاكماً به، وعزل عن نيابة الحكم بدمشق‏.‏

وفي ثالثه قدم من مصر زين الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بخطابة القدس، فخلع عليه من دمشق ثم سافر إليها‏.‏

وفي آخر ربيع الأول باشر الأمير ناصر الدين بن بكتاش الحسامي شد الأوقاف عوضاً عن شرف الدين محمود بن الخطيري، سافر بأهله إلى مصر أميراً نيابة بها عن أخيه بدر الدين مسعود‏.‏

وعزل القاضي علاء الدين بن القلانسي، وسائر الدواوين والمباشرين الذين في باب ملك الأمراء تنكز وصودروا بمائتي ألف درهم، واستدعي من غزة ناظرها جمال الدين يوسف صهر السني المستوفي، فباشر نظر ديوان النائب ونظر المارستان النوري أيضاً على العادة‏.‏

وفي شهر ربيع الأول أمر تنكز بإصلاح باب توما فشرع فيه فرفع بابه عشرة أذرع، وجددت حجارته وحديده في أسرع وقت، وفي هذا الوقت حصل بدمشق سيل خرّب بعض الجدران ثم تناقص‏.‏

وفي أوائل ربيع الآخر قدم من مصر جمال الدين آقوش نائب الكرك مجتازاً إلى طرابلس نائبها عوضاً عن قرطاي توفي‏.‏

وفي جمادى الأولى طلب القاضي شهاب الدين ابن المجد عبد الله إلى دار السعادة فولي وكالة بيت المال عوضاً عن ابن القلانسي، ووصل تقليده من مصر بذلك، وهنأه الناس‏.‏

وفيه‏:‏ طلب الأمير نجم الدين بن الزيبق من ولاية نابلس فولي شد الدواوين بدمشق، وقد شغر منصبه شهوراً بعد ابن الخشاب‏.‏

وفي رمضان خطب الشيخ بدر الدين أبو اليسر بن الصائغ بالقدس عوضاً عن زين الدين بن جماعة لإعراضه عنها واختياره العود إلى بلده‏.‏

 قضية القاضي ابن جملة

لما كان في العشر الأخير من رمضان وقع بين القاضي ابن جملة وبين الشيخ الظهير شيخ ملك الأمراء - وكان هو السفير في تولية ابن جملة القضاء - فوقع بينهما منافسة ومحاققة في أمور كانت بينه وبين الدوادار المتقدم ذكره ناصر الدين، فحلف كل واحد منهما على خلاف ما حلف به الآخر عليه، وتفاصلا من دار السعادة في المسجد‏.‏

فلما رجع القاضي إلى منزله بالعادلية أرسل إليه الشيخ الظهير ليحكم فيه بما فيه المصلحة، وذلك عن مرسوم النائب، وكأنه كان خديعة في الباطن وإظهاراً لنصرة القاضي عليه في الظاهر، فبدر به القاضي بادي الرأي فعزره بين يديه، ثم خرج من عنده فتسلمه أعوان ابن جملة فطافوا به البلد على حمار يوم الأربعاء سابع عشرين رمضان، وضربوه ضرباً عنيفاً‏.‏

ونادوا عليه‏:‏ هذا جزاء من يكذب ويفتات على الشرع، فتألم الناس له لكونه في الصيام‏.‏

وفي العشر الأخير من رمضان، ويوم سبع وعشرين، وهو شيخ كبير صائم، فيقال‏:‏ إنه ضرب يومئذ ألفين ومائة وإحدى وسبعين درة والله أعلم، فما أمسى حتى استفتى على القاضي المذكور وداروا على المشايخ بسبب ذلك عن مرسوم النائب‏.‏

فلما كان يوم تاسع عشرين رمضان عقد نائب السلطنة بين يديه بدار السعادة مجلساً حافلاً بالقضاة وأعيان المفتيين من سائر المذاهب، وأحضر ابن جملة قاضي الشافعية والمجلس قد احتفل بأهله، ولم يأذنوا لابن جملة في الجلوس، بل قام قائماً ثم أجلس بعد ساعة جيدة في طرف الحلقة، إلى جانب المحفة التي فيها الشيخ الظهير‏.‏

وادعى عليه عند بقية القضاة أنه حكم فيه لنفسه، واعتدى عليه في العقوبة، وأفاض الحاضرون في ذلك، وانتشر الكلام وفهموا من نفس النائب الحط على ابن جملة، والميل عنه بعد أن كان إليه، فما انفصل المجلس حتى حكم القاضي شرف الدين المالكي بفسقه وعزله وسجنه، فانفض المجلس على ذلك، ورسم على ابن جملة بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة جزاء وفاقاً والحمد لله وحده‏.‏

وكان له في القضاء سنة ونصف إلا أياماً وكان يباشر الأحكام جيداً، وكذا الأوقاف المتعلقة به، وفيه نزاهة وتمييز الأوقاف بين الفقهاء والفقراء، وفيه صرامة وشهامة وإقدام، لكنه أخطأ في هذه الواقعة وتعدى فيها فآل أمره إلى هذا‏.‏

وخرج الركب يوم الاثنين عاشر شوال وأميره الجي بغا وقاضيه مجد الدين ابن حيان المصري‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه درس بالإقبالية الحنفية نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضاً عن شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الأصبهاني بن العجمي الحبطي، ويعرف بابن الحنبلي‏.‏

وكان فاضلاً ديناً متقشفاً كثير الوسوسة في الماء جداً، وأما المدرّس مكانه وهو نجم الدين بن الحنفي فإنه ابن خمس عشرة سنة، وهو في النباهة والفهم، وحسن الاشتغال والشكل والوقار، بحيث غبط الحاضرون كلهم أباه على ذلك، ولهذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه، نزل له عنه وحمدت سيرته وأحكامه‏.‏

وفي هذا الشهر أثبت محضر في حق الصاحب شمس الدين غبريال المتوفي هذه السنة أنه كان يشتري أملاكاً من بيت المال ويوقفها ويتصرف فيها تصرف الملاّك لنفسه، وشهد بذلك كمال الدين الشيرازي وابن أخيه عماد الدين وعلاء الدين القلانسي وابن خاله عماد الدين القلانسي، وعز الدين بن المنجا، وتقي الدين بن مراجل، وكمال الدين بن الغويرة، وأثبت على القاضي برهان الدين الزرعي الحنبلي ونفذه بقية القضاة، وامتنع المحتسب عز الدين بن القلانسي من الشهادة فرسم عليه بالعذراوية قريباً من شهر، ثم أفرج عنه وعزل عن الحسبة، واستمر على نظر الخزانة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة حملت خلعة القضاء إلى الشيخ شهاب الدين بن المجد وكيل بيت المال يومئذ، فلبسها وركب إلى دار السعادة، وقرئ تقليده بحضرة نائب السلطنة والقضاة ثم رجع إلى مدرسته الإقبالية فقرئ بها أيضاً وحكم بين خصمين، وكتب على أوراق السائلين، ودرّس بالعادلية والغزالية والأتابكيتين مع تدريس الإقبالية عوضاً عن ابن جملة‏.‏

وفي يوم الجمعة حضر الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى وفي صحبته صاحب حماه الأفضل، فتلقاهما تنكز وأكرمهما، وصلّيا الجمعة عند النائب ثم توجها إلى مصر، فتلقاهما أعيان الأمراء وأكرم السلطان مهنا بن عيسى وأطلق له أموالاً جزيلة كثيرة، من الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى ورسم له بالعود إلى أهله، ففرح الناس بذلك‏.‏

قالوا‏:‏ وكان جميع ما أنعم به عليه السلطان قيمة مائة ألف دينار، وخلع عليه وعلى أصحابه مائة وسبعين خلعة‏.‏

وفي يوم الأحد سادس ذي الحجة حضر درس الرواحية الفخر المصري عوضاً عن قاضي القضاة ابن المجد وحضر عنده القضاة الأربعة وأعيان الفضلاء‏.‏ ‏

وفي يوم عرفة خلع على نجم الدين بن أبي الطيب بوكالة بيت المال، عوضاً عن ابن المجد، وعلى عماد الدين بن الشيرازي بالحسبة عوضاً عن عز الدين بن القلانسي وخرج الثلاثة من دار السعادة بالطرحات‏.‏

 

 

 

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ الأجل التاجر بدر الدين

بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله عتيق النقيب شجاع الدين إدريس، وكان رجلاً حسناً يتجر في الجوخ، مات فجأة عصر يوم الخميس خامس محرم، وخلّف أولاداً وثروة، ودفن بباب الصغير، وله بر وصدقة ومعروف، وسبع بمسجد ابن هشام‏.‏

 الصدر أمين الدين

محمد بن فخر الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن أبي العيش الأنصاري الدمشقي باني المسجد المشهور بالربوة، على حافة بردى، والطهارة الحجارة إلى جانبه، والسوق الذي هناك، وله بجامع النيرب ميعاد‏.‏

ولد سنة ثمان وخسمين وستمائة، وسمع البخاري وحدث به، وكان من أكابر التجار ذوي اليسار، توفي بكرة الجمعة سادس المحرم ودفن بتربته بقاسيون رحمه الله‏.‏

الخطيب الإمام العالم

 عماد الدين أبو حفص عمر الخطيب، ظهير الدين عبد الرحيم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، خطيب القدس، وقاضي نابلس مدة طويلة، ثم جمع له بين خطابة القدس وقضائها، وله اشتغال وفي فضيلة‏.‏

وشرح ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ في مجلدات، وكان سريع الحفظ سريع الكتابة، توفي ليلة الثلاثاء عاشر المحرم، ودفن بماملا رحمه الله‏.‏

 الصدر شمس الدين

محمد بن إسماعيل بن حماد التاجر بقيسارية الشرب، كتب ‏(‏المنسوب‏)‏ وانتفع به الناس، وولي التجار لأمانته وديانته، وكانت له معرفة ومطالعة في الكتب، توفي تاسع صفر عن نحو ستين سنة‏.‏

ودفن بقاسيون رحمه الله‏.‏ ‏

 جمال الدين قاضي القضاة الزرعي

هو أبو الربيع سليمان بن الخطيب مجد الدين عمر بن سالم بن عمر بن عثمان الأذرعي الشافعي، ولد سنة خمس وأربعين وستمائة بأذرعات، واشتغل بدمشق فحصّل، وناب في الحكم بزرع مدة فعرف بالزرعي لذلك، وإنما هو من أذرعات وأصله من بلاد المغرب‏.‏

ثم ناب بدمشق ثم انتقل إلى مصر فناب في الحكم بها، ثم استقل بولاية القضاء بها نحواً من سنة، ولي قضاء الشام مدة مع مشيخة الشيوخ نحواً من سنة، ثم عزل وبقي على مشيخة الشيوخ نحواً من سنة مع تدريس الأتابكية، ثم تحول إلى مصر فولي بها التدريس وقضاء العسكر‏.‏

ثم توفي بها يوم الأحد سادس صفر وقد قارب السبعين رحمه الله، وقد خرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه وهو بدمشق عن اثنين وعشرين شيخاً‏.‏

الشيخ الإمام العالم الزاهد

 زين الدين أبو محمد عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي، أحد فضلاء الحنابلة، ومن صنف في الحديث والفقه والتصوف وأعمال القلوب وغير ذلك، كان فاضلاً له أعمال كثيرة، وقد وقعت له كائنة في أيام الظاهر أنه أصيب في عقله أو زوال فكره، أو قد عمل على الرياضة فاحترق باطنه من الجوع، فرأى خيالات لا حقيقة لها فاعتقد أنها أمر خارجي، وإنما هو خيال فكري فاسد‏.‏

وكانت وفاته في نصف صفر ببعلبك، ودفن بباب سطحا ولم يكمل الستين، وصلّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى القاضي الزرعي معاً‏.‏

 الأمير شهاب الدين

نائب طرابلس له أوقاف وصدقات، وبر وصلات، توفي بطرابلس يوم الجمعة ثامن عشر صفر ودفن هناك رحمه الله‏.‏

الشيخ عبد الله بن يوسف بن أبي بكر الاسعردي الموقت

كان فاضلاً في صناعة الميقات وعلم الاصطرلاب وما جرى مجراه، بارعاً في ذلك، غير أنه لا ينفع به لسوء أخلاقه وشراستها، ثم إنه ضعف بصره فسقط من قيسارية بحسى عشية السبت عاشر ربيع الأول، ودفن بباب الصغير‏.‏ ‏

 الأمير سيف الدين بلبان

طرفا بن عبد الله الناصري، كان من المقدمين بدمشق، وجرت له فصول يطول ذكرها، ثم توفي بداره عند مئذنة فيروز ليلة الأربعاء حادي عشرين ربيع الأول، ودفن بتربة اتخذها إلى جانب داره، ووقف عليها مقرئين، وبنى عندها مسجداً بإمام ومؤذن‏.‏

شمس الدين محمد بن يحيى بن محمد بن قاضي حران

ناظر الأوقاف بدمشق، مات الليلة التي مات فيها الذي قبله، ودفن بقاسيون، وتولى مكانه عماد الدين الشيرازي‏.‏

 الشيخ الإمام ذو الفنون

تاج الدين أبو حفص عمر بن علي بن سالم بن عبد الله اللخمي الإسكندراني، المعروف بابن الفاكهاني، ولد سنة أربع وخسمين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه على مذهب مالك، وبرع وتقدم بمعرفة النحو وغيره، وله مصنفات في أشياء متفرقة‏.‏

قدم دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة في أيام الاخنائي، فأنزله في دار السعادة وسمعنا عليه ومعه، وحج من دمشق عامئذ وسمع عليه في الطريق، ورجع إلى بلاده، توفي ليلة الجمعة سابع جمادى الأولى، وصلّي عليه بدمشق حين بلغهم خبر موته‏.‏

 الشيخ الصالح العابد الناسك أيمن

أمين الدين أيمن بن محمد، وكان يذكر أن اسمه محمد بن محمد إلى سبع عشر نفساً كلهم اسمه محمد، وقد جاور بالمدينة مدة سنين إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ربيع الأول، ودفن بالبقيع وصلّي عليها بدمشق صلاة الغائب‏.‏

 الشيخ نجم الدين القباني الحموي

عبد الرحمن بن الحسن بن يحيى اللخمي القبابي، قرية من قرى أشمون الرمان، أقام بحماه في زاوية بزار ويلتمس دعاؤه، وكان عابداً ورعاً زاهداً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، حسن الطريقة إلى أن توفي بها آخر نهار الاثنين رابع عشر رجب، عن ست وستين سنة‏.‏

وكانت جنازته حافلة هائلة جداً، ودفن شمالي حماه، كان عنده فضيلة، واشتغل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وله كلام حسن يؤثر عنه رحمه الله‏.‏

 الشيخ فتح الدين بن سيد الناس

الحافظ العلامة البارع، فتح الدين بن أبي الفتح محمد بن الإمام أبي عمرو محمد بن الإمام الحافظ الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الربعي اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري، ولد في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة‏.‏

وسمع الكثير وأجاز له الرواية عنهم جماعات من المشايخ، ودخل دمشق سنة تسعين فسمع من الكندي وغيره، واشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربية، وعلم السير والتواريخ وغير ذلك من الفنون‏.‏

وقد جمع سيرة حسنة في مجلدين، وشرح قطعة حسنة من أول ‏(‏جامع الترمذي‏)‏، رأيت منها مجلداً بخطه الحسن، وقد حرر وحبر وأفاد وأجاد، ولم يسلم من بعض الانتقاد، وله الشعر الرائق الفائق، والنثر الموافق، والبلاغة التامة، وحسن الترصيف والتصنيف، وجودة البديهة، وحسن الطوية، وله ‏(‏العقيدة السالفية‏)‏ الموضوعة على الآي والأخبار والآثار والاقتفاء بالآثار النبوية، ويذكر عنه سوء أدب في أشياء أخر سامحه الله فيها‏.‏

وله مدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم حِسان، وكان شيخ الحديث بالظاهرية بمصر، وخطب بجامع الخندق‏.‏

ولم يكن في مصر في مجموعة مثله في حفظ الأسانيد والمتون والعلل والفقه والملح والأشعار والحكايات، توفي فجأة يوم السبت حادي عشر شعبان، وصلّي عليه من الغد، وكانت جنازته حافلة، ودفن عند ابن أبي جمرة رحمه الله‏.‏

 القاضي مجد الدين بن حرمي

ابن قاسم بن يوسف العامري الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرّس الشافعي وغيره، كانت له همة ونهضة، وعلت سنه وهو مع ذلك يحفظ ويشغل ويشتغل، ويلقي الدروس من حفظه إلى أن توفي ثاني ذي الحجة‏.‏

وولي تدريس الشافعي بعده شمس الدين بن القماح، والقطبية بهاء الدين بن عقيل، والوكالة نجم الدين الأسعردي المحتسب، وهو كان وكيل بيت الظاهر‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الجامع عز الدين بن المنجا، والمحتسب عماد الدين الشيرازي وغيرهم‏.‏

وفي مستهل المحرم يوم الخميس درّس بأم الصالح الشيخ خطيب تبرور عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وحضر عنده القضاة والأعيان‏.‏

وفي سادس المحرم رجع مهنا بن عيسى من عند السلطان فتلقاه النائب والجيش، وعاد إلى أهله في عز وعافية‏.‏

‏وفيه‏:‏ أمر السلطان بعمارة جامع القلعة وتوسيعه، وعمارة جامع مصر العتيق‏.‏

وقدم إلى دمشق القاضي جمال الدين محمد بن عماد الدين بن الأثير كاتب سر بها عوضاً عن ابن الشهاب محمود‏.‏

ووقع في هذا الشهر والذي بعده موت كثير في الناس بالخانوق‏.‏

وفي ربيع الأول مسك الأمير نجم الدين بن الزيبق مشد الدواوين، وصودر وبيعت خيوله وحواصله، وتولاه بعده سيف الدين تمر مملوك بكتمر الحاجب، وهو مشد الزكاة‏.‏

وفيه‏:‏ كملت عمارة حمام الأمير شمس الدين حمزة الذي تمكن عند تنكز بعد ناصر الدين الدوادار، ثم وقعت الشناعة عليه بسبب ظلمه في عمارة هذا الحمام فقابله النائب على ذلك وانتصف للناس منه، وضربه بين يديه وضربه بالبندق بيده في وجهه، وسائر جسده، ثم أودعه القلعة ثم نقله إلى بحيرة طبرية فغرقه فيها، وعزل الأمير جمال الدين نائب الكرك عن نيابة طرابلس حسب سؤاله في ذلك، وراح إليها طيغال وقدم نائب الكرك إلى دمشق وقد رسم له بالإقامة في سلخد، فلما تلقاه نائب السلطنة والجيش نزل في دار السعادة وأخذ سيفه بها ونقل إلى القلعة، ثم نقل إلى صفد ثم إلى الإسكندرية ثم كان آخر العهد به‏.‏

وفي جمادى الأولى احتيط على دار الأمير بكتمر الحاجب الحسامي بالقاهرة، ونبشت وأخذ منها شيء كثير جداً، وكان جد أولاده نائب الكرك المذكور‏.‏

وفي يوم السبت تاسع جمادى الآخرة باشر حسام الدين أبو بكر ابن الأمير عز الدين أيبك النجيبي شد الأوقاف عوضاً عن ابن بكتاش، اعتقل، وخلع على المتولي وهنأه الناس‏.‏

وفي منتصف هذا الشهر علّق الستر الجديد على خزانة المصحف العثماني، وهو من خز طوله ثمانية أذرع وعرضه أربعة أذرع ونصف، غرم عليه أربعة آلاف وخمسمائة، وعمل في مدة سنة ونصف‏.‏

وخرج الركب الشامي يوم الخميس تاسع شوال وأميره علاء الدين المرسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري‏.‏

وفيه‏:‏ رجع جيش حلب إليها وكانوا عشرة آلاف سوى من تبعهم من التركمان، وكانوا في بلاد أذنة وطرسوس وإياس، وقد خربوا وقتلوا خلقاً كثيراً، ولم يعدم منهم سوى رجل واحد غرق بنهر جاهان، ولكن كان قتل الكفار من كان عندهم من المسلمين نحواً من ألف رجل، يوم عيد الفطر فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيه‏:‏ وقع حريق عظيم بحماه فاحترق منه أسواق كثيرة، وأملاك وأوقاف، وهلكت أموال لا تحصر، وكذلك احترق أكثر مدينة إنطاكية، فتألم المسلمون لذلك‏.‏ ‏

وفي ذي الحجة خرب المسجد الذي كان في الطريق بين باب النصر وبين باب الجابية، عن حكم القضاة بأمر نائب السلطنة، وبني غربيه مسجد حسن أحسن وأنفع من الأول‏.‏

 وتوفي فيها من الأعيان‏:‏

 الشيخ الصالح المعمر رئيس المؤذنين بجامع دمشق

برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد الواني، ولد سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وسمع الحديث، وروى، وكان حسن الصوت والشكل، محبباً إلى العوام، توفي يوم الخميس سادس صفر ودفن بباب الصغير، وقام من بعده في الرياسة ولده أمين الدين محمد الواني المحدث المفيد، وتوفي بعده ببضع وأربعين يوماً رحمهما الله‏.‏

الكاتب المطبق المجود المحرر

 بهاء الدين محمود ابن خطيب بعلبك محيي الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب السلمي، ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة، واعتنى بهذه الصناعة فبرع فيها، وتقدم على أهل زمانه قاطبة في النسخ وبقية الأقلام، وكان حسن الشكل طيب الأخلاق، طيب الصوت حسن التودد، توفي في سلخ ربيع الأول، ودفن بتربة الشيخ أبي عمر رحمه الله‏.‏

 علاء الدين السنجاري

واقف دار القرآن عند باب الناطفانيين شمالي الأموي بدمشق، علي بن إسماعيل بن محمود كان أحد التجار الصدق الأخيار، ذوي اليسار المسارعين إلى الخيرات، توفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن عند قبر القاضي شمس الدين بن الحريري‏.‏

 العدل نجم الدين التاجر

عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الرحمن الرحبي باني التربة المشهورة بالمزة، وقد جعل لها مسجداً ووقف عليها أوقافاً دارّة، وصدقات هناك، وكان من أخيار أبناء جنسه، عدل مرضى عند جميع الحكام، وترك أولاداً وأموالاً جمة، وداراً هائلة، وبساتين بالمزة، وكان وفاته يوم الأربعاء سابع عشرين جمادى الآخرة ودفن بتربته المذكورة بالمزة رحمه الله‏.‏ ‏

 الشيخ الإمام الحافظ قطب الدين

أبو محمد عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم بن علي بن عبد الحق بن عبد الصمد بن عبد النور الحلبي الأصل ثم المصري، أحد مشاهير المحدثين بها، والقائمين بحفظ الحديث وروايته وتدوينه وشرحه والكلام عليه، ولد سنة أربع وستين وستمائة بحلب، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث وقرأ الشاطبية والألفية، وبرع في فن الحديث‏.‏

وكان حنفي المذهب وكتب كثيراً وصنف شرحاً لأكثر البخاري، وجمع تاريخاً لمصر ولم يكملهما، وتكلم على السيرة التي جمعها الحافظ عبد الغني وخرج لنفسه أربعين حديثاً متباينة الإسناد‏.‏

وكان حسن الأخلاق مطرحاً للكلفة طاهر اللسان كثير المطالعة والاشتغال، إلى أن توفي يوم الأحد سلخ رجب، ودفن من الغد مستهل شعبان عند خاله نصر المنبجي، وخلف تسعة أولاد رحمه الله‏.‏

 القاضي الإمام زين الدين أبو محمد

عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف السبكي، قاضي المحلة، ووالده العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، سمع من ابن الأنماطي وابن خطيب المزة، وحدث وتوفي تاسع شعبان، وتبعته زوجته ناصرية بنت القاضي جمال الدين إبراهيم بن الحسين السبكي، ودفنت بالقرافة، وقد سمعت من ابن الصابوني شيئاً من سنن النسائي، وكذلك ابنتها محمدية، وقد توفيت قبلها‏.‏

 تاج الدين علي بن إبراهيم

ابن عبد الكريم المصري، ويعرف بكاتب قطلبك، وهو والد العلامة فخر الدين شيخ الشافعية ومدرّسهم في عدة مدارس، ووالده هذا لم يزل في الخدمة والكتابة إلى أن توفي عنده بالعادلية الصغيرة ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان، وصلّي عليه من الغد بالجامع، ودفن بباب الصغير‏.‏

 الشيخ الصالح عبد الكافي

ويعرف بعبيد بن أبي الرجال بن حسين بن سلطان بن خليفة المنيني، ويعرف بابن أبي الأزرق، مولده في سنة أربع وأربعين وستمائة بقريته من بلاد بعلبك، ثم أقام بقرية منين، وكان مشهوراً بالصلاح وقرئ عليه شيء من الحديث وجاوز التسعين‏.‏

 الشيخ محمد بن عبد الحق

ابن شعبان بن علي الأنصاري، المعروف بالسياح، له زاوية بسفح قاسيون بالوادي الشمالي، مشهورة به، كان قد بلغ التسعين، وسمع الحديث وأسمعه، كانت له معرفة بالأمور وعنده بعض مكاشفة، وهو رجل حسن، توفي أواخر شوال من هذه السنة‏.‏

 الأمير سلطان العرب

حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا، أمير العرب بالشام، وهم يزعمون أنهم من سلالة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، من ذرية الولد الذي جاء من العباسة أخت الرشيد فالله أعلم‏.‏

وقد كان كبير القدر محترماً عند الملوك كلهم، بالشام ومصر والعراق، وكان ديناً خيراً متحيزاً للحق، وخلف أولاداً وورثة وأموالاً كثيرة، وقد بلغ سناً عالية‏.‏

وكان يحب الشيخ تقي الدين بن تيمية حباً زائداً، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلونه، وهو الذي نهاهم أن يَغير بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، وله في ذلك مصنف جليل‏.‏

وكانت وفاة مهنا هذا ببلاد سلمية في ثامن عشر ذي القعدة، ودفن هناك رحمه الله‏.‏

 الشيخ الزاهد فضل العلجوني

فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي المقيم بالمسمارية، أصله من بلاد حبراحي، كان متقللاً من الدنيا يلبس ثياباً طوالاً وعمامة هائلة، وهي بأرخص الأثمان، وكان يعرف تعبير الرؤيا ويُقصد لذلك، وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وقد عرضت عليه وظائف بجوامك كثيرة فلم يقبلها، بل رضي بالرغيد الهني من العيش الخشن إلى أن توفي في ذي الحجة، وله نحو تسعين سنة، ودفن بالقرب من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهما الله، وكانت جنازته حافلة جداً‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الجمعة والحكام هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي أول يوم منها ركب تنكز إلى قلعة جعبر ومعه الجيش والمناجنيق فغابوا شهراً وخمسة أيام وعادوا سالمين‏.‏

وفي ثامن صفر فتحت الخانقاه التي أنشأها سيف الدين قوصون الناصري خارج باب القرافة، وتولى مشيختها الشيخ شمس الدين الأصبهاني المتكلم‏.‏

وفي عاشر صفر خرج ابن جملة من السجن بالقلعة وجاءت الأخبار بموت ملك التتار أبي سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكيز خان، في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدار السلطنة بقراباغ، وهي منزلهم في الشتاء، ثم نقل إلى تربته بمدينته التي أنشأها قريباً من السلطانية مدينة أبيه، وقد كان من خيار ملوك التتار وأحسنهم طريقة وأثبتهم على السنة وأقومهم بها‏.‏

وقد عز أهل السنة بزمانه وذلت الرافضة، بخلاف دولة أبيه، ثم من بعده لم يقم للتتار قائمة، بل اختلفوا فتفرقوا شذر مذر إلى زماننا هذا، وكان القائم من بعده بالأمر ارتكاوون من ذرية أبغا، ولم يستمر له الأمر إلا قليلاً‏.‏

وفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى درّس بالناصرية الجوانية بدر الدين الأردبيلي عوضاً عن كمال الدين بن الشيرازي توفي، وحضر عنده القضاة‏.‏

وفيه‏:‏ درّس بالظاهرية البرانية الشيخ الإمام المقري سيف الدين أبو بكر الحريري عوضاً عن بدر الدين الأردبيلي، تركها لما حصلت له الناصرية الجوانية، وبعده بيوم درس بالنجيبية كاتبه إسماعيل بن كثير عوضاً عن الشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني تركها حين تعين له تدريس الظاهرية الجوانية‏.‏

وحضر عنده القضاة والأعيان كان درساً حافلاً أثنى عليه الحاضرون وتعجبوا من جمعه وترتيبه، وكان ذلك في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ وانساق الكلام إلى مسألة ربا الفضل‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشره ذكر الدرس بالظاهرية المذكورة ابن قاضي الزبداني عوضاً عن علاء الدين بن القلانسي توفي، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان يوماً مطيراً‏.‏

وفي أول جمادى الآخرة وقع غلاء شديد بديار مصر واشتد ذلك إلى شهر رمضان، وتوجه خلق كثير في رجب إلى مكة نحواً من ألفين وخمسمائة، منهم عز الدين بن جماعة، وفخر الدين النويري وحسن السلامي، وأبو الفتح السلامي، وخلق‏.‏

وفي رجب كملت عمارة جسر باب الفرج وعمل عليه باشورة ورسم باستمرار فتحه إلى بعد العشاء الآخرة كبقية سائر الأبواب، وكان قبل ذلك يغلق من المغرب‏.‏ ‏

وفي سلخ رجب أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه نجم الدين بن خيلخان تجاه باب كيسان من القبلة، وخطب فيه الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية‏.‏

وفي ثاني شعبان باشر كتابة السر بدمشق القاضي علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد بن مفضل، عوضاً عن كمال الدين ابن الأثير، عزل وراح إلى مصر‏.‏

وفي يوم الأربعاء رابع رمضان ذكر الدرس بالأمينية الشيخ بهاء الدين ابن إمام المشهد عوضاً عن علاء الدين بن القلانسي‏.‏

وفي العشرين منه خلع على الصدر نجم الدين بن أبي الطيب بنظر الخزانة مضافاً إلى ما بيده من وكالة بيت المال، بعد وفاة ابن القلانسي بشهور‏.‏

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلودمر الخليلي‏.‏

وممن حج فيه‏:‏ قاضي طرابلس محيي الدين بن جهبل، والفخر المصري، وابن قاضي الزبداني، وابن العز الحنفي، وابن غانم، والسخاوي، وابن قيم الجوزية، وناصر الدين بن البربوه الحنفي، وجاءت الأخبار بوقعة جرت بين التتار قتل فيها خلق كثير منهم، وانتصر على باشا وسلطانه الذي كان قد أقامه، وهو موسى كاوون على ارباكاوون وأصحابه، فقتل هو ووزيره ابن رشيد الدولة، وجرت خطوب كثيرة طويلة، وضربت البشائر بدمشق‏.‏

وفي ذي القعدة خلع على ناظر الجامع الشيخ عز الدين بن المنجا بسب إكماله البطائن في الرواق الشمالي والغربي والشرقي، ولم يكن قبل ذلك له بطائن‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع الحجة ذكر الدرس بالشبلية القاضي نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وهو ابن سبع عشرة سنة، وحضر عنده القضاة والأعيان، وشكروا من فضله ونباهته، وفرحوا لأبيه فيه‏.‏

وفيها‏:‏ عزل ابن النقيب عن قضاء حلب ووليها ابن خطيب جبرين، وولي الحسبة بالقاهرة ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد خطيب بيت الأبار، خلع عليه السلطان‏.‏

وفي ذي القعدة رسم السلطان باعتقال الخليفة المستكفي وأهله، وأن يمنعوا من الاجتماع، فآل أمرهم كما كان أيام الظاهر والمنصور‏.‏ ‏

 من الأعيان‏:‏

 السلطان أبو سعيد ابن خربندا

وكان آخر من اجتمع شمل التتار عليه، ثم تفرقوا من بعده‏.‏

 الشيخ البندنيجي

شمس الدين علي بن محمد بن ممدود بن عيسى البندنيجي الصوفي، قدم علينا من بغداد شيخنا كبيراً راوياً لأشياء كثيرة، فيها ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ و‏(‏الترمذي‏)‏ وغير ذلك، وعنده فوائد، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، وكان والده محدثاً فأسمعه أشياء كثيرة على مشايخ عدة، وكان موته بدمشق رابع المحرم‏.‏

قاضي قضاة بغداد

 قطب الدين أبو الفضائل محمد بن عمر بن الفضل التبريزي الشافعي المعروف بالأحوس، سمع شيئاً من الحديث واشتغل بالفقه والأصول والمنطق والعربية والمعاني والبيان، وكان بارعاً في فنون كثيرة ودرّس بالمستنصرية بعد العاقولي‏.‏

وفي مدارس كبار، وكان حسن الخلق كثير الخير على الفقراء والضعفاء، متواضعاً يكتب حسناً أيضاً، توفي في آخر المحرم ودفن بتربة له عند داره ببغداد رحمه الله‏.‏

 الأمير صارم الدين

إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم بن أبي الزهر، المعروف بالمغزال، كانت له مطالعة وعنده شيء من التاريخ، ويحاضر جيداً، ولما توفي يوم الجمعة وقت الصلاة السادس والعشرين من المحرم دفن بتربة له عند حمام العديم‏.‏

 الأمير علاء الدين مغلطاي الخازن

نائب القلعة وصاحب التربة تجاه الجامع المظفري من الغرب، كان رجلاً جيداً، له أوقاف وبر وصدقات، توفي يوم الجمعة بكرة عاشر صفر، ودفن بتربته المذكورة‏.‏

 القاضي كمال الدين

أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن هبة الله بن الشيرازي الدمشقي، ولد سنة سبعين، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري، والشيخ زين الدين الفارقي، وحفظ مختصر ‏(‏المزني‏)‏ ودرّس في وقت بالبادرائية، وفي وقت بالشامية البرانية‏.‏

ثم ولي تدريس الناصرية الجوانية مدة سنين إلى حين وفاته، وكان صدراً كبيراً، ذكر لقضاء قضاة دمشق غير مرة، وكان حسن المباشرة والشكل، توفي في ثالث صفر ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله‏.‏

 الأمير ناصر الدين

محمد بن الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح إسماعيل بن العادل، كان شيخاً مسناً قد اعتنى ‏(‏بصحيح البخاري‏)‏ يختصره، وله فهم جيد ولديه فضيلة، وكان يسكن المزة وبها توفي ليلة السبت خامس عشرين صفر، وله أربع وسبعون سنة، ودفن بتربتهم بالمزة رحمه الله‏.‏

 علاء الدين

علي بن شرف الدين محمد بن القلانسي قاضي العسكر ووكيل بيت المال، وموقع الدست، ومدرّس الأمينية والظاهرية وغير ذلك من المناصب، ثم سلبها كلها سوى التدريسين، وبقي معزولاً إلى حين أن توفي بكرة السبت خامس وعشرين صفر، ودفن بتربتهم‏.‏

 عز الدين أحمد بن الشيخ زين الدين

محمد بن أحمد بن محمود العقيلي، ويعرف بابن القلانسي، محتسب دمشق وناظر الخزانة، كان محمود المباشرة، ثم عزل الحسبة واستمر بالخزانة إلى أن توفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى ودفن بقاسيون‏.‏

 الشيخ علي بن أبي المجد بن شرف بن أحمد الحمصي

ثم الدمشقي مؤذن البربوة خمساً وأربعين سنة، وله ديوان شعر وتعاليق وأشياء كثيرة مما ينكر أمرها، وكان محلولاً في دينه، توفي جمادى الأولى أيضاً‏.‏

 الأمير شهاب الدين بن برق

متولي دمشق، شهد جنازته خلق كثير، توفي ثاني شعبان ودفن بالصالحية وأثنى عليه الناس‏.‏

 الأمير فخر الدين ابن الشمس لؤلؤ

متولي البر، كان مشكوراً أيضاً، توفي رابع شعبان، وكان شيخاً كبيراً، توفي ببستانه ببيت لهيا ودفن بتربته هناك وترك ذرية كثيرة رحمه الله‏.‏

 عماد الدين إسماعيل

ابن شرف الدين محمد بن الوزير فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن صغير بن القيسراني‏.‏

أحد كتاب الدست، وكان من خيار الناس محبباً إلى الفقراء والصالحين، وفيه مروءة كثيرة، وكتب بمصر ثم صار إلى حلب كاتب سرها، ثم انتقل إلى دمشق فأقام بها إلى أن مات ليلة الأحد ثالث عشر القعدة، وصلّي عليه من الغد بجامع دمشق، ودفن بالصوفية عن خمس وستين سنة، وقد سمع شيئاً من الحديث على الأبرقوهي وغيره‏.‏

وفي ذي القعدة توفي شهاب الدين ابن القديسة المحدث بطريق الحجاز الشريف‏.‏

وفي ذي الحجة توفي الشمس محمد المؤذن المعروف بالنجار ويعرف بالبتي، وكان يتكلم وينشد في المحافل والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الجمعة والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس، ونائب الشام تنكز بن عبد الله الناصري، والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب السر فإنه علم الدين بن القطب، ووالي البر الأمير بدر الدين بن قطلوبك بن شنشنكير، ووالي المدينة حسام الدين طرقطاي الجوكنداري‏.‏

وفي أول يوم منها يوم الجمعة وصلت الأخبار بأن علي باشا كسر جيشه، وقيل إنه قتل‏.‏

ووصلت كتب الحجاج في الثاني والعشرين من المحرم تصف مشقة كثيرة حصلت للحجاج من موت الجمال وإلقاء الأحمال ومشي كثير من النساء والرجال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله على كل حال‏.‏

وفي آخر المحرم قدم إلى دمشق القاضي حسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وكان والوزير نجم الدين محمود بن علي بن شروان الكردي، وشرف الدين عثمان بن حسن البلدي فأقاموا ثلاثة أيام ثم توجهوا إلى مصر فحصل لهم قبول تام من السلطان، فاستقضى الأول على الحنفية كما سيأتي، واستوزر الثاني وأمّر الثالث‏.‏

وفي يوم عاشوراء أحضر شمس الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين بن اللبان الفقيه الشافعي إلى مجلس الحكم الجلالي، وحضر معه شهاب الدين بن فضل الله مجد الدين الأقصرائي شيخ الشيوخ، وشهاب الدين الأصبهاني، فادّعى عليه بأشياء منكرة من الحلول والاتحاد والغلو في القرمطة وغير ذلك، فأقر ببعضها فحكم عليه بحقن دمه ثم توسط في أمره وأبقيت عليه جهاته، ومنع من الكلام على الناس، وقام في صفه جماعة من الأمراء والأعيان‏.‏

وفي صفر احترق بقصر حجاج حريق عظيم أتلف دوراً ودكاكين عديدة‏.‏

وفي ربيع الأول ولد للسلطان ولد فدقت البشائر وزينت البلد أياماً‏.‏

وفي منتصف ربيع الآخر أمر الأمير صارم الدين إبراهيم الحاجب الساكن تجاه جامع كريم الدين طبلخاناه، وهو من كبار أصحاب الشيخ تقي الدين رحمه الله، وله مقاصد حسنة صالحة، وهو في نفسه رجل جيد‏.‏

وفيه‏:‏ أفرج عن الخليفة المستكفي وأطلق من البرج في حادي عشرين ربيع الآخر ولزم بيته‏.‏

وفي يوم الجمعة عشرين جمادى الآخرة أقيمت الجمعة في جامعين بمصر، أحدهما أنشأه الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله الخطيري، ومات بعد ذلك باثني عشر يوماً رحمه الله، والثاني أنشأته امرأة يقال لها الست حدق دادة السلطان الناصر عند قنطرة السباع‏.‏

وفي شعبان سافر القاضي شهاب الدين أحمد بن شرف بن منصور النائب في الحكم بدمشق إلى قضاء طرابلس، وناب بعده الشيخ شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي‏.‏

وفيه‏:‏ خلع على عز الدين بن جماعة بوكالة بيت المال بمصر، وعلى ضياء الدين ابن خطيب بيت الأبار بالحسبة بالقاهرة، مع ما بيده من نظر الأوقاف وغيره‏.‏

وفيه‏:‏ أمر الأمير ناظر القدس بطبلخاناه ثم عاد إلى القدس‏.‏

وفي عاشر رمضان قدمت من مصر مقدمتان ألفان إلى دمشق سائرة إلى بلاد سيس، وفيهم علاء الدين، فاجتمع به أهل العلم وهو من أفاضل الحنفية، وله مصنفات في الحديث وغيره‏.‏

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره بهادر قبجق، وقاضية محيي الدين الطرابلسي مدرّس الحمصية، وفي الركب تقي الدين شيخ الشيوخ، وعماد الدين بن الشيرازي، ونجم الدين الطرسوسي، وجمال الدين المرداوي، وصاحبه شمس الدين بن مفلح، والصدر المالكي والشرف بن القيسراني، والشيخ خالد المقيم عند دار الطعم، وجمال الدين بن الشهاب محمود‏.‏

وفي ذي القعدة وصلت الأخبار بأن الجيش تسلموا من بلاد سيس سبع قلاع، وحصل لهم خير كثير ولله الحمد، وفرح المسلمون بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ كانت وقعة هائلة بين التتار انتصر فيها الشيخ وذووه‏.‏

وفيها‏:‏ نفي السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليفة وأهله وذويه، وكانوا قريباً من مائة نفس إلى بلاد قوص، ورتب لهم هناك ما يقوم بمصالحهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ علاء الدين بن غانم

أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن علي المقدسي أحد الكبار المشهورين بالفضائل وحسن الترسل، وكثرة الأدب والأشعار والمروءة التامة، مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وحفظ القرآن و‏(‏التنبيه‏)‏، وباشر الجهات، وقصده الناس في الأمور المهمات وكان كثير الإحسان إلى الخاص والعام‏.‏

توفي مرجعه في الحج في منزلة تبوك يوم الخميس ثالث عشر المحرم، ودفن هناك رحمه الله، ثم تبعه أخوه شهاب الدين أحمد في شهر رمضان، وكان أصغر منه سناً بسنة، وكان فاضلاً أيضاً بارعاً كثير الدعابة‏.‏ ‏

 الشرف محمود الحريري

المؤذن بالجامع الأموي، بنى حماماً بالنيرب، ومات في آخر المحرم‏.‏

 الشيخ الصالح العابد

ناصر الدين محمد بن الشيخ إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد بن مالك الجعبري ثم المصري، ولد سنة خمسين وستمائة بقلعة جعبر، وسمع ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ وغيره، وكان يتكلم على الناس ويعظهم ويستحضر أشياء كثيرة من التفسير وغيره، كان فيه صلاح وعبادة، توفي في الرابع والعشرين من المحرم، ودفن بزاويتهم عند والده خارج باب النصر‏.‏

 الشيخ شهاب الدين عبد الحق الحنفي

أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن يوسف بن قاضي الحنفيين ويعرف بابن عبد الحق الحنفي، شيخ المذهب ومدرّس الحنفية وغيرها، وكان بارعاً فاضلاً ديناً، توفي في ربيع الأول‏.‏

 الشيخ عماد الدين

إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي الإمام العالم العابد شيخ الحنابلة بها وفقيههم من مدة طويلة، توفي في ربيع الأول‏.‏

الشيخ الإمام العابد الناسك

 محب الدين عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، سمع الكثير وقرأ بنفسه، وكتب الطباق وانتفع الناس به، وكانت له مجالس وعظ من الكتاب والسنة في الجامع الأموي وغيره، وله صوت طيب بالقراءة جداً، وعليه روح وسكينة ووقار‏.‏

وكانت مواعيده مفيدة ينتفع بها الناس، وكان شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية يحبه ويحب قراءته، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول، وكانت جنازته حافلة، ودفن بقاسيون وشهد الناس له بخير، رحمه الله تعالى، وبلغ خمساً وخسمين سنة‏.‏ ‏

المحدث البارع المحصل المفيد المخرج المجيد

 ناصر الدين محمد بن طغربل بن عبد الله الصيرفي أبوه، الخوارزمي الأصل، سمع الكثير وقرأ بنفسه، وكان سريع القراءة، وقرأ الكتب الكبار والصغار، وجمع وخرج شيئاً كثيراً، وكان بارعاً في هذا الشأن، رحل فأدركته منيته بحماه يوم السبت ثاني ربيع الأول، ودفن من الغد بمقابر طيبة رحمه الله‏.‏

شيخنا الإمام العالم العابد

 شمس الدين أبو محمد عبد الله بن العفيف محمد بن الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي، إمام مسجد الحنابلة بها، ولد سنة سبع وأربعين وستمائة‏.‏

وسمع الكثير وكان كثير العبادة حسن الصوت، عليه البهاء والوقار وسحن الشكل والسمت، قرأت عليه عام ثلاث وثلاثين وسبعمائة مرجعنا من القدس كثيراً من الأجزاء والفوائد، وهو والد صاحبنا الشيخ جمال الدين يوسف أحد مفتية الحنابلة وغيرهم، والمشهورين بالخير والصلاح، توفي يوم الخميس ثاني عشرين ربيع الآخر ودفن هناك رحمه الله‏.‏

 الشيخ محمد بن عبد الله بن المجد

إبراهيم المرشدي المقيم بمنية مرشد، يقصده الناس للزيارة، ويضيف الناس على حسب مراتبهم وينفق نفقات كثيرة جداً، ولم يكن يأخذ من أحد شيئاً فيما يبدو للناس، والله أعلم بحاله‏.‏

وأصله من قرية دهروط، وأقام بالقاهرة مدة واشتغل بها، ويقال إنه قرأ ‏(‏التنبيه‏)‏ في الفقه، ثم انقطع بمنية مرشد واشتهر أمره في الناس وحج مرات، وكان إذا دخل القاهرة يزدحم عليه الناس، ثم كانت وفاته يوم الخميس ثامن رمضان ودفن بزاويته، وصلّي عليه بالقاهرة ودمشق وغيرها‏.‏

 

 الأمير أسد الدين

عبد القادر بن المغيث عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن العادل، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان يأتي كل سنة من مصر إلى دمشق ويكرم أهل الحديث، ولم يبق من بعده من بني أيوب أعلا سناً منه، توفي بالرملة في سلخ رمضان رحمه الله‏.‏

الشيخ الصالح الفاضل

 حسن بن إبراهيم بن حسن الحاكي الحكري إمام مسجد هناك، ومذكّر الناس في كل جمعة، ولديه فضائل، وفي كلامه نفع كثير إلى أن توفي في العشرين من شوال، ولم ير الناس مثل جنازته بديار مصر رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الأربعاء والخليفة المستكفي منفي ببلاد قوص، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن الملك المنصور، ولا نائب بديار مصر ولا وزير، ونائبه بدمشق تنكز، وقضاة البلاد ونوابها ومباشروها هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي ثالث ربيع الأول رسم السلطان بتسفير علي ومحمد ابني داود بن سليمان بن داود بن العاضد آخر خلفاء الفاطميين إلى الفيوم يقيمون به‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر عزل القاضي علم الدين بن القطب عن كتابة السر وضرب وصودر، ونكب بسببه القاضي فخر الدين المصري، وعزل عن مدرسته الدولعية وأخذها ابن جملة، والعادلية الصغيرة باشرها ابن النقيب، ورسم عليه بالعذراوية مائة يوم، وأخذ شيء من ماله‏.‏

وفي ليلة الأحد ثالث عشرين ربيع الأول بعد المغرب هبت ريح شديدة بمصر وأعقبها رعد وبرق وبرد بقدر الجوز، وهذا شيء لم يشاهدوا مثله من أعصار متطاولة بتلك البلاد‏.‏

وفي عاشر جمادى الأولى استهل الغيث بمكة من أول الليل، فلما انتصف الليل جاء سيل عظيم هائل لم ير مثله من دهر طويل، فخّرب دوراً كثيرة نحواً من ثلاثين أو أكثر، وغرق جماعة وكسر أبواب المسجد، ودخل الكعبة وارتفع فيها نحواً من ذراع أو أكثر، وجرى أمر عظيم حكاه الشيخ عفيف الدين الطبري‏.‏

وفي سابع عشرين من جمادى الأولى عزل القاضي جلال الدين عن قضاء مصر، واتفق وصول خبر موت قاضي الشام ابن المجد بعد أن عزل بيسير، فولاه السلطان قضاء الشام فسار إليها راجعاً عوداً على بدء‏.‏

ثم عزل السلطان برهان الدين بن عبد الحق قاضي الحنفية، وعزل قاضي الحنابلة تقي الدين، ورسم على ولده صدر الدين بأداء ديون الناس إليهم، وكانت قريباً من ثلاثمائة ألف، فلما كان يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة بعد سفر جلال الدين بخمسة أيام طلب السلطان أعيان الفقهاء إلى بين يديه فسألهم عن من يصلح للقضاء بمصر فوقع الاختيار على القاضي عز الدين بن جماعة‏.‏

فولاه في الساعة الراهنة، وولى قضاء الحنفية لحسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وخرجا من بين يديه إلى المدرسة الصالحية، وعليهما الخلع، ونزل عز الدين بن جماعة من دار الحديث الكاملية لصاحبه الشيخ عماد الدين الدمياطي، فدرّس فيها وأورد حديث ‏(‏‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏‏)‏‏.‏بسنده، وتكلم عليه‏.‏

وعزل أكثر نواب الحكم واستمر بعضهم، واستمر بالمنادي الذي أشار بتوليته‏.‏ ‏

ولما كان يوم خامس عشرين منه ولي قضاء الحنابلة الإمام العالم موفق الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الملك المقدسي عوضاً عن المعزول، ولم يبق من القضاة سوى الاخنائي المالكي‏.‏

وفي رمضان فتحت الصبابية التي أنشأها شمس الدين بن تقي الدين بن الصباب التاجر دار قرآن ودار حديث، وقد كانت خربة شنيعة قبل ذلك‏.‏

وفي رمضان باشر علاء الدين علي ابن القاضي محيي الدين بن فضل الله كتابة السر بمصر بعد وفاة أبيه كما سيأتي ترجمته، وخلع عليه وعلى أخيه بدر الدين، ورسم لهما أن يحضرا مجلس السلطان، وذهب أخوه شهاب الدين إلى الحج‏.‏

وفي هذا الشهر سقط بالجانب الغربي من مصر بَرَد كالبيض وكالرمان، فأتلف شيئاً كثيراً، ذكر ذلك البرزالي ونقله من كتاب ‏(‏الشهاب الدمياطي‏)‏‏.‏

وفي ثالث عشرين رمضان درّس بالقبة المنصورية بمشيخة الحديث شهاب الدين العسجدي عوضاً عن زين الدين الكناني توفي، فأورد حديثاً من مسند الشافعي بروايته عن الجاولي بسنده، ثم صرف عنها بالحجة بالشيخ أثير الدين أبي حيان، فساق حديثاً عن شيخه ابن الزبير ودعا للسلطان وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان مجلساً حافلاً‏.‏

وفي ذي القعدة حضر تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب عوضاً عن القاضي جمال الدين بن جملة توفي، وحضر خلق كثير من الفقهاء والأعيان، وكان مجلساً حافلاً‏.‏

وفي ثاني ذي الحجة درّس بالعادلية الصغيرة تاج الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني عوضاً عن الشيخ شمس الدين بن النقيب بحكم ولايته الشامية البرانية، وحضر عنده القضاة والأعيان‏.‏

وفي هذا الشهر درّس القاضي صدر الدين بن القاضي جلال الدين بالأتابكية، وأخوه الخطيب بدر الدين بالغزالية والعادلية نيابة عن أبيه‏.‏

انتهى والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير الكبير بدر الدين محمد بن فخر الدين عيسى بن التركماني

باني جامع المقياس بديار مصر في أيام وزارته بها، ثم عزل أميراً إلى الشام، ثم رجع إلى مصر إلى أن توفي بها في خامس ربيع الآخر، وتوفي بالحسينية، وكان مشكوراً رحمه الله، انتهى‏.‏

 قاضي القضاة شهاب الدين

محمد بن المجد بن عبد الله بن الحسين بن علي الرازي الأربلي الأصل، ثم الدمشقي الشافعي، قاضي الشافعية بدمشق‏.‏

ولد سنة ثنتين وستين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل وأفتى سنة ثلاث وتسعين، ودرّس بالإقبالية ثم الرواحية وتربة أم الصالح، وولي وكالة بيت المال، ثم صار قاضي قضاة الشام إلى أن توفي بمستهل جمادى الأولى بالمدرسة العادلية، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله‏.‏

الشيخ الإمام العالم ابن المرحل

 زين الدين محمد بن عبد الله بن الشيخ زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد بن المرحل مدرّس الشامية البرانية والعذراوية بدمشق، وكان قبل ذلك بمشهد الحسين، وكان فاضلاً بارعاً فقيهاً أصولياً مناظراً، حسن الشكل طيب الأخلاق ديناً صيناً، وناب في وقت بدمشق عن علم الدين الأخنائي فحمدت سيرته‏.‏

وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع عشر رجب، ودفن من الغد عند مسجد الديان في تربة لهم هناك، وحضر جنازته القاضي جلال الدين، وكان قد قدم من الديار المصرية له يومان فقط، وقدم بعده القاضي برهان الدين عبد الحق بخمسة أيام، هو وأهله وأولاده أيضاً‏.‏

وباشر بعده تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة جمال الدين بن جملة، ثم كانت وفاته بعده بشهور، وذلك يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة‏.‏

وهذه ترجمته في تاريخ الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏

 قاضي القضاة جمال الدين الصالحي

جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم بن جملة بن مسلم بن همام بن حسين بن يوسف الصالحي الشافعي المحجي والده، بالمدرسة السرورية وصلّي عليه عقيب الظهر يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة، ودفن بسفح قاسيون، ومولده في أوائل سنة ثنتين وثمانين وستمائة‏.‏

وسمع من ابن البخاري وغيره، وحدّث وكان رجلاً فاضلاً في فنون، اشتغل وحصّل وأفتى وأعاد ودرّس، وله فضائل جمة ومباحث وفوائد وهمة عالية وحرمة وافرة، وفيه تودد وإحسان وقضاء للحقوق، وولي القضاء بدمشق نيابة واستقلالاً، ودرّس بمدارس كبار، ومات وهو مدّرس الشامية البرانية، وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان رحمه الله‏.‏ ‏

 شيخ الإسلام قاضي القضاة ابن البارزي

شرف الدين أبو القاسم هبة الله بن قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن القاضي شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله الجهيني الحموي، المعروف بابن البارزي قاضي القضاة بحماه، صاحب التصانيف الكثيرة المفيدة في الفنون العديدة‏.‏

ولد في خامس رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وحصّل فنوناً كثيرة، وصنف كتباً جما كثيرة، وكان حسن الأخلاق كثير المحاضرة حسن الاعتقاد في الصالحين، وكان معظماً عند الناس، وأذن لجماعة من البلد في الإفتاء، وعمي في آخر عمره وهو يحكم مع ذلك مدة‏.‏

ثم نزل عن المنصب لحفيده نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم، وهو في ذلك لا يقطع نظره عن المنصب، وكانت وفاته ليلة الأربعاء العشرين من ذي القعدة بعد أن صلى العشاء والوتر، فلم تفته فريضة ولا نافلة، وصلّي عليه من الغد ودفن بعقبة نقيرين، وله من العمر ثلاث وتسعون سنة‏.‏

الشيخ الإمام العالم

 شهاب الدين أحمد بن البرهان شيخ الحنفية بحلب، شارح ‏(‏الجامع الكبير‏)‏، وكان رجلاً صالحاً منقطعاً عن الناس، وانتفع الناس به، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن والعشرين من رجب، وكانت له معرفة بالعربية والقراءات، ومشاركات في علوم أخر رحمه الله، والله أعلم‏.‏

 القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب السر

هو أبو المعالي يحيى بن فضل الله بن المحلي بن دعجان بن خلف العدوي العمري، ولد في حادي عشر شوال سنة خمس وأربعين وستمائة بالكرك، وسمع الحديث وأسمعه‏.‏

وكان صدراً كبيراً معظماً في الدولة في حياة أخيه شرف الدين وبعده، وكتب السر بالشام وبالديار المصرية، وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع رمضان بديار مصر، ودفن من الغد بالقرافة وتولى المنصب بعده ولده علاء الدين، وهو أصغر أولاده الثلاثة المعينين لهذا المنصب‏.‏

 الشيخ الإمام العلامة ابن الكتاني

زين الدين بن الكتاني، شيخ الشافعية بديار مصر، وهو أبو حفص عمر بن أبي الحزم بن عبد الرحمن بن يونس الدمشقي الأصل، ولد بالقاهرة في حدود سنة ثلاث خمسين وستمائة‏.‏

واشتغل بدمشق ثم رحل إلى مصر واستوطنها وتولى بها بعض الأقضية بالحكر، ثم ناب عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فحمدت سيرته، ودرّس بمدارس كبار، ولي مشيخة دار الحديث بالقبة المنصورية، وكان بارعاً فاضلاً، عنده فوائد كثيرة جداً، غير أنه كان سيئ الأخلاق منقبضاً عن الناس، لم يتزوج قط‏.‏

وكان حسن الشكل بهي المنظر، يأكل الطيبات ويلبس اللين من الثياب، وله فوائد وفرائد وزوائد على ‏(‏الروضة‏)‏ وغيرها، وكان فيه استهتار لبعض العلماء فالله يسامحه، وكانت وفاته يوم الثلاثاء المنتصف من رمضان، ودفن بالقرافة رحمه الله انتهى‏.‏

 الشيخ الإمام العلامة ابن القويع

ركن الدين بن القريع أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الجليل الوسي الهاشمي الجعفري التونسي المالكي، المعروف بابن القويع، كان من أعيان الفضلاء وسادة الأذكياء، ممن جمع الفنون الكثيرة والعلوم الأخروية الدينية الشرعية الطيبة‏.‏

وكان مدرّساً بالمنكود مرية، وله وظيفة في المارستان المنصوري، وبها توفي في بكرة السابع عشر من ذي الحجة، وترك مالاً وأثاثاً ورثه بيت المال‏.‏

وهذا آخر ما أرخه شيخنا الحافظ علم الدين البرزالي في كتابه الذي ذيل به على تاريخ الشيخ شهاب الدين أبي شامة المقدسي، وقد ذيلت على تاريخه إلى زماننا هذا، وكان فراغي من الانتقاء من تاريخه في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها آمين‏.‏

وإلى هنا انتهى ما كتبته من لدن خلق آدم إلى زماننا هذا ولله الحمد والمنة‏.‏

وما أحسن ما قال الحريري‏:‏

وإن تجد عيباً فسد الخللا * فجلّ من لا عيب فيهِ وعلا

كتبه إسماعيل بن كثير بن صنو القرشي الشافعي عفا الله تعالى عنه آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة

استهلت وسلطان الإسلام والمسلمين بالديار المصرية وما والاها والديار الشامية وما والاها والحرمين الشريفين الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، ولا نائب له ولا وزير أيضاً بمصر، وقضاة مصر‏.‏

أما الشافعي فقاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة، وأما الحنفي فقاضي القضاة حسام الدين الغوري، حسن بن محمد، وأما المالكي فتقي الدين الأخنائي، وأما الحنبلي فموفق الدين بن نجا المقدسي، ونائب الشام الأمير سيف الدين تنكز وقضاته جلال الدين القزويني الشافعي المعزول عن الديار المصرية، والحنفي عماد الدين الطرسوسي، والمالكي شرف الدين الهمداني، والحنبلي علاء الدين بن المنجا التنوخي‏.‏

ومما حدث في هذه السنة إكمال دار الحديث السكرية وباشر مشيخة الحديث بها الشيخ الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام محمد بن شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، وقرر فيها ثلاثون محدثاً لكل منهم جراية وجامكية كل شهر سبعة دراهم ونصف رطل خبز‏.‏

وقرر للشيخ ثلاثون رطل خبز، وقرر فيها ثلاثون نفراً يقرأون القرآن لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام وقارئ حديث ونواب، ولقارئ الحديث عشرون درهماً وثمان أواق خبز، وجاءت في غاية الحسن في شكالاتها وبنائها، وهي نجاه دار الذهب التي أنشأها الواقف الأمير تنكز‏.‏

ووقف عليها عدة أماكن‏:‏ منها سوق القشاشيين بباب الفرج، طوله عشرون ذراعاً شرقاً وغرباً، سماه في كتاب ‏(‏الوقف‏)‏، وبندر زيدين، وحمام بحمص وهو الحمام القديم، ووقف عليها حصصاً في قرايا أخر، ولكنه تغلب على ما عدا القشاشيين، وبندر زيدين، وحمام حمص‏.‏

وفيها‏:‏ قدم القاضي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي من الديار المصرية حاكماً على دمشق وأعمالها، وفرح الناس به، ودخل الناس يسلمون عليه لعلمه وديانته وأمانته، ونزل بالعادلية الكبيرة على عادة من تقدمه، ودرّس بالغزالية والأتابكية‏.‏

واستناب ابن عمه القاضي بهاء الدين أبو البقاء، ثم استناب ابن عمه أبا الفتح، وكانت ولايته الشام بعد وفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحيم القزويني الشافعي، على ما سيأتي بيانه في الوفيات من هذه السنة‏.‏

 من الأعيان في المحرم سنة تسع وثلاثين وسبعمائة‏:‏

 العلامة قاضي القضاة فخر الدين

عثمان بن الزين علي بن عثمان الحلبي، ابن خطيب جبرين الشافعي، ولي قضاء حلب وكان إماماً صنف شرح ‏(‏مختصر ابن الحاجب‏)‏ في الفقه، وشرح ‏(‏البديع‏)‏ لابن الساعاتي، وله فوائد غزيرة ومصنفات جليلة، تولى حلب بعد عزل الشيخ ابن النقيب، ثم طلبه السلطان فمات هو وولده الكمال وله بضع وسبعون سنة‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏

 قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن

القزويني الشافعي، قدم هو وأخوه أيام التتر من بلادهم إلى دمشق، وهما فاضلان، بعد التسعين وستمائة فدرس إمام الدين في تربة أم الصالح وأعاد جلال الدين بالبادرائية عند الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين شيخ الشافعية‏.‏

ثم تقلبت بهم الأحوال إلى أن ولي إمام الدين قضاء الشافعية بدمشق، انتزع له من يد القاضي بدر الدين بن جماعة، ثم هرب سنة قازان إلى الديار المصرية مع الناس فمات هنالك، وأعيد ابن جماعة إلى القضاء، وخلت خطابة البلد سنة ثلاث وسبعمائة، فوليها جلال الدين المذكور‏.‏

ثم ولي القضاء بدمشق سنة خمس وعشرين مع الخطابة، ثم انتقل إلى الديار المصرية سنة سبع وعشرين بعد أن عجز قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بسبب الضرر في عينيه فلما كان في سنة ثمان وثلاثين تعصب عليه السلطان الملك الناصر بسبب أمور يطول شرحها، ونفاه إلى الشام، واتفق موت قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد عبد الله كما تقدم‏.‏

فولاه السلطان قضاء الشام عوداً على بدء، فاستناب ولده بدر الدين على نيابة القضاء الذي هو خطيب دمشق، كانت وفاته في أواخر هذه السنة، ودفن بالصوفية، وكانت له يد طولى في المعاني والبيان، ويفتي كثيراً، وله مصنفات في المعاني مصنف مشهور اختصر فيه ‏(‏المفتاح‏)‏ للسكاكي، وكان مجموع الفضائل، مات وكان عمره قريباً من السبعين أو جاوزها‏.‏

رابع ذي الحجة يوم الأحد‏:‏

 الشيخ الإمام الحافظ ابن البرزالي

علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن البرزالي مؤرخ الشام الشافعي، ولد سنة وفاة الشيخ ابن أبي شامة سنة خمس وستين وستمائة‏.‏

وقد كتب تاريخاً ذيل به على الشيخ شهاب الدين، من حين وفاته ومولد البرزالي إلى أن توفي في هذه السنة، وهو محرم، فغسل وكفن ولم يستر رأسه، وحمله الناس على نعشه وهم يبكون حوله، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وسمع الكثير أزيد من ألف شيخ، وخرج له المحدث شمس الدين بن سعد مشيخة لم يكملها، وقرأ شيئاً كثيراً، وأسمع شيئاً كثيراً وكان له خط حسن، وخلق حسن، وهو مشكور عند القضاة ومشايخه أهل العلم، سمعت العلامة ابن تيمية يقول‏:‏ نقل البرزالي نقر في حجر‏.‏

وكان أصحابه من كل الطوائف يحبونه ويكرمونه، وكان له أولاد ماتوا قبله، وكتبت ابنته فاطمة البخاري في ثلاثة عشر مجلداً فقابله لها، كان يقرأ فيه على الحافظ المزي تحت القبة، حتى صارت نسختها أصلاً معتمداً يكتب منها الناس‏.‏

وكان شيخ حديث بالنورية وفيها وقف كتبه بدار الحديث السنية، وبدار الحديث القوصية وفي الجامع وغيره وعلى كراسي الحديث، وكان متواضعاً محبباً إلى الناس، متودداً إليهم، توفي عن أربع وسبعين سنة رحمه الله‏.‏

 المؤرخ شمس الدين

محمد بن إبراهيم الجوزي، جمع تاريخاً حافلاً، كتب فيه أشياء يستفيد منها الحافظ كالمزي، والذهبي، والبرزالي يكتبون عنه ويعتمدون على نقله، وكان شيخاً قد جاوز الثمانين، وثقل سمعه وضعف خطه، وهو والد الشيخ ناصر الدين محمد وأخوه مجد الدين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين الملك الناصر، وولاته وقضاته المذكورون في التي قبلها إلا الشافعي بالشام فتوفي القزويني وتولى العلامة السبكي‏.‏

ومما وقع الحوادث العظيمة الهائلة أن جماعة من رؤوس النصارى اجتمعوا في كنيستهم وجمعوا من بينهم مالاً جزيلاً فدفعوه إلى راهبين قدما عليها من بلاد الروم، يحسنان صنعة النفط، اسم أحدهما ملاني والآخر عازر فعملا كحطاً من نفط، وتلطفا حتى عملاه لا يظهر تأثيره لا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوضعا في شقوق دكاكين التجار في سوق الرجال عند الدهشة في عدة دكاكين من آخر النهار، بحيث لا يشعر أحد بهما، وهما في زي المسلمين‏.‏

فلما كان في أثناء الليل لم يشعر الناس إلا والنار قد عملت في تلك الدكاكين حتى تعلقت في درابزينات المأذنة الشرقية المتجهة للسوق المذكور، وأحرقت درابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء أمراء الألوف، وصعدوا المنارة وهي تشعل ناراً، واحترسوا عن الجامع فلم ينله شيء من الحريق ولله الحمد والمنة‏.‏

وأما المئذنة فإنها تفجرت أحجارها واحترقت السقالات التي تدل السلالم فهدمت وأعيد بناؤها بحجارة جدد، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديث أنه ينزل عليها عيسى ابن مريم كما سيأتي الكلام عليه في نزول عيسى عليه السلام والبلد محاصر بالدجال‏.‏

والمقصود أن النصارى بعد ليال عمدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالها، وبما فيها من الأقواس والعدد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وتطاير شرر النار إلى ما حول القيسارية من الدور والمساكن والمدارس، واحترق جانب من المدرسة الأمينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودهم إلا وصول النار إلى معبد المسلمين، فحال الله بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائب السلطنة والأمراء وحالوا بين الحريق والمسجد، جزاهم الله خيراً‏.‏

ولما تحقق نائب السلطنة أن هذا من فعلهم أمر بمسك رؤوس النصارى فأمسك منهم نحواً من ستين رجلاً، فأخذوا بالمصادرات والضرب والعقوبات وأنواع المثلات، ثم بعد ذلك صلب منهم أزيد من عشرة على الجمال، وطاف بهم في أرجاء البلاد وجعلوا يتماوتون واحداً بعد واحد، ثم أحرقوا بالنار حتى صاروا رماداً لعنهم الله، انتهى والله أعلم‏.‏

سبب مسك تنكز

لما كان يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي الحجة جاء الأمير طشتمر من صفد مسرعاً وركب جيش دمشق ملبساً، ودخل نائب السلطنة من قصره مسرعاً إلى دار السعادة، وجاء الجيش فوقفوا على باب النصر، وكان أراد أن يلبس ويقابل فعذلوه في ذلك‏.‏

وقالوا‏:‏ المصلحة الخروج إلى السلطان سامعاً مطيعاً، فخرج بلا سلاح، فلما برز إلى ظاهر البلد التف عليه الفخري وغيره، وأخذوه وذهبوا به إلى ناحية الكسوة، فلما كان عند قبة يلبغا نزلوا وقيدوه وخصاياه من قصره، ثم ركب البريد وهو مقيد وساروا به إلى السلطان‏.‏

فلما وصل أمر بمسيره إلى الإسكندرية، وسألوا عن ودائعه فأقر ببعض، ثم عوقب حتى أقر بالباقي، ثم قتلوه ودفنوه بالإسكندرية، ثم نقلوه إلى تربته بدمشق رحمه الله، وقد جاوز الستين، وكان عادلاً مهيباً عفيف الفرج واليد، والناس في أيامه في غاية الرخص والأمن والصيانة فرحمه الله، وبل بالرحمة ثراه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/219‏)‏

وله أوقاف كثيرة من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار حديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وفتح شباكاً في المسجد‏.‏

انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أمير المؤمنين المستكفي بالله

أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله بن العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن علي بن أمير المؤمنين المسترشد بالله الهاشمي العباسي، البغدادي الأصل والمولد، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة أو في التي قبلها‏.‏

وقرأ واشتغل قليلاً، وعهد إليه أبوه بالأمر وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبعمائة، وفوض جميع ما يتعلق به من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر، وسار إلى غزو التتر فشهد مصاف شقحب‏.‏

ودخل دمشق في شعبان سنة اثنتين وسبعمائة وهو راكب مع السلطان، وجميع كبراء الجيش مشاة، ولما أعرض السلطان عن الأمر وانعزل بالكرك التمس الأمراء من المستكفي أن يسلطن من ينهض بالملك، فقلد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعقد له اللواء وألبسه خلعة السلطنة‏.‏

ثم عاد الناصر إلى مصر وعذر الخليفة في فعله، ثم غضب عليه وسيره إلى قوص فتوفي في هذه السنة في قوص في مستهل شعبان‏.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة

استهلت يوم الأربعاء وسلطان المسلمين الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، وليس في دمشق نائب سلطنة، وإنما الذي يسد الأمور الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر، الذي جاء بالقبض على الأمير سيف الدين تنكز، ثم جاء المرسوم بالرجوع إلى صفد فركب من آخر النهار وتوجه إلى بلده، وحواصل الأمير تنكز تحت الحوطة كما هي‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت رابع المحرم من السنة المذكورة قدم من الديار المصرية خمسة أمراء الأمير سيف الدين بشتك الناصري ومعه برصبغا الحاجب، وطاشار الدويدار وبنعرا وبطا‏.‏

فنزل بشتاك بالقصر الأبلق والميادين، وليس معه من مماليكه إلا القليل، وإنما جاء لتجديد البيعة إلى السلطان لما توهموا من ممالأة بعض الأمراء لنائب الشام المنفصل، وللحوطة على حواصل الأمير سيف الدين تنكز المنفصل عن نيابة الشام وتجهيزها للديار المصرية‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين سادسه دخل الأمير علاء الدين الطنبغا إلى دمشق نائباً، وتلقاه الناس وبشتك والأمراء المصريون، ونزلوا إلى عتبته فقبلوا العتبة الشريفة، ورجعوا معه إلى دار السعادة، وقرئ تقليده‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث عشرة مسك من الأمراء المقدمين أميران كبيران الجي بغا العادلي، وطنبغا الحجي، ورفعا إلى القلعة المنصورة واحتيط على حواصلهما‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تحملوا بيت ملك الأمراء سيف الدين تنكز وأهله وأولاده إلى الديار المصرية‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس عشرة ركب نائب السلطنة الأمير علاء الدين طنبغا ومعه الأمير سيف الدين بشتك الناصري، الحاجة رقطية، وسيف الدين قطلوبغا الفخري وجماعة من الأمراء المقدمين واجتمعوا بسوق الخيل واستدعوا بمملوكي الأمير سيف الدين تنكز وهما جغاي وطغاي‏.‏

فأمر بتوسيطهما فوسطا وعلقا على الخشب ونودي عليهما‏:‏ هذا جزاء من تجاسر على السلطان الناصر‏.‏

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من هذا الشهر كانت وفاة الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام بقلعة إسكندرية، قيل مخنوقاً وقيل مسموماً وهو الأصح، وقيل غير ذلك، وتأسف الناس عليه كثيراً، وطال حزنهم عليه، وفي كل وقت يتذكرون ما كان منه من الهيبة والصيانة والغيرة على حريم المسلمين ومحارم الإسلام، ومن إقامته على ذوي الحاجات وغيرهم، ويشتد تأسفهم عليه رحمه الله‏.‏

وقد أخبر القاضي أمين الدين بن القلانسي رحمه الله شيخنا الحافظ العلامة عماد الدين بن كثير رحمه الله أن الأمير سيف الدين تنكز مسك يوم الثلاثاء، ودخل مصر يوم الثلاثاء، ودخل الإسكندرية يوم الثلاثاء، وتوفي يوم الثلاثاء وصلّي عليه بالإسكندرية، ودفن بمقبرتها في الثالث والعشرين من المحرم بالقرب من قبر القباري وكانت له جنازة جيدة‏.‏

وفي يوم الخميس سابع شهر صفر قدم الأمير سيف الدين طشتمر الذي مسك تنكز إلى دمشق فنزل بوطأة برزة بجيشه ومن معه، ثم توجه إلى حلب المحروسة نائباً بها عوضاً عن الطنبغا المنفصل عنها‏.‏

وفي صبيحة يوم الخميس ثالث عشر ربيع الأول نودي في البلد بجنازة الشيخ الصالح العابد الناسك القدوة الشيخ محمد بن تمام توفي بالصالحية، فذهب الناس إلى جنازته إلى الجامع المظفري، واجتمع الناس على صلاة الظهر فضاق الجامع المذكور عن أن يسعهم، وصلّى الناس في الطرقات وأرجاء الصالحية‏.‏

وكان الجمع كثيراً جداً لم يشهد الناس جنازة بعد جنازة الشيخ تقي الدين بن تيمية مثلها، لكثرة من حضرها من الناس رجالاً ونساء، وفيهم القضاة والأعيان والأمراء وجمهور الناس يقاربون عشرين ألفاً‏.‏

وانتظر الناس نائب السلطنة فاشتغل بكتاب ورد عليه من الديار المصرية، فصلّى عليه الشيخ بعد صلاة الظهر بالجامع المظفري، ودفن عند أخيه في تربة بين تربة الموفق وبين تربة الشيخ أبي عمر رحمهم الله وإيانا‏.‏

وفي أول شهر جمادى الأولى توفيت الشيخة العابدة الصالحة العالمة قارئة القرآن أم فاطمة عائشة بنت إبراهيم بن صديق زوجة شيخنا الحافظ جمال الدين المزي عشية يوم الثلاثاء مستهل هذا الشهر وصلّي عليها بالجامع صبيحة يوم الأربعاء ودفنت بمقابر الصوفية غربي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهم الله‏.‏

كانت عديمة النظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح، يعجز كثير من الرجال عن تجويده، وختمت نساء كثيراً، وقرأ عليها من النساء خلق وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا، وتقللها منها، مع طول العمر بلغت ثمانين سنة أنفقتها في طاعة الله صلاة وتلاوة‏.‏

وكان الشيخ محسناً إليها مطيعاً، لا يكاد يخالفها لحبه لها طبعاً وشرعاً فرحمها الله وقدس روحها، ونور مضجعها بالرحمة آمين‏.‏

وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين منه درّس بمدرسة الشيخ أبي عمر بسفح قاسيون الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، في التدريس البكتمري عوضاً عن القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر عنده المقادسة وكبار الحنابلة، ولم يتمكن أهل المدينة من الحضور لكثرة المطر والوحل يومئذ‏.‏

وتكامل عمارة المنارة الشرقية في الجامع الأموي في العشر الأخير من رمضان، واستحسن الناس بناءها وإتقانها، وذكر بعضهم أنه لم يبن في الإسلام منارة مثلها ولله الحمد‏.‏

ووقع لكثير من الناس في غالب ظنونهم أنها المنارة البيضاء الشرقية التي ذكرت في حديث النواس بن سمعان في نزول عيسى ابن مريم على المنارة البيضاء في شرقي دمشق، فلعل لفظ الحديث انقلب على بعض الرواة، وإنما كان على المنارة الشرقية بدمشق، وهذه المنارة مشهورة بالشرقية بمقابلتها أختها الغربية، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة وحضرته يومئذ واجتمع القضاة والأعيان على العادة وأحضر يومئذ عثمان الدكاكي قبحه الله تعالى، وادّعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن الحلاج ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البيّنة بدعوى الإلهية لعنه الله، وأشياء أخر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الريب من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية عليهم لعائن الله‏.‏ ‏

ووقع منه في المجلس من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضاً، فادّعى أن له دوافع وقوادح في بعض الشهود، فرد إلى السجن مقيداً مغلولاً مقبوحاً، أمكن الله منه بقوته وتأييده‏.‏

ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أحضر عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة وأقيم إلى بين يدي الأمراء والقضاة وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك فتوجه عليه الحكم، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه‏:‏ هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية‏.‏

وكان يوماً مشهوداً بدار السعادة، حضر خلق من الأعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي الحافظ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحرضا في القضية جداً، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين بن تيمية، وخرجا القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه في المجلس فحضورا قتل المذكور وكنت مباشراً لجميع ذلك من أوله إلى آخره‏.‏

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي القعدة أفرج عن الأميرين العقيلين بالقلعة وهما طنبغا حجا والجي بغا، وكذلك أفرج عن خزاندارية تنكز الذين تأخروا بالقلعة، وفرح الناس بذلك‏.‏

 ذكر وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون

في صبيحة يوم الأربعاء السابع والعشرين من ذي الحجة قدم إلى دمشق الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري فخرج نائب السلطنة وعامة الأمراء لتلقيه، وكان قدومه على خيل البريد، فأخبر بوفاة السلطان الملك الناصر، كانت وفاته يوم الأربعاء آخره‏.‏

وأنه صلّي عليه ليلة الجمعة بعد العشاء ودفن مع أبيه الملك المنصور على ولده أنوك، وكان قبل موته أخذ العهد لابنه سيف الدين أبي بكر ولقبه بالملك المنصور‏.‏

فلما دفن السلطان يلية الجمعة حضره من الأمراء قليل، وكان قد ولي عليه الأمير علم الدين الجاولي، ورجل آخر منسوب إلى الصلاح يقال له الشيخ عمر بن محمد بن إبراهيم الجعبري، وشخص آخر من الجبارية، ودفن كما ذكرنا ولم يحضر ولده ولي عهده دفنه، ولم يخرج من القلعة ليلتئذ عن مشورة الأمراء لئلا يتخبط الناس‏.‏

وصلّى عليه القاضي عز الدين بن جماعة إماماً، والجاولي وايدغمش وأمير آخر والقاضي بهاء الدين بن حامد ابن قاضي دمشق السبكي، وجلس الملك المنصور سيف الدنيا والدين أبو المعالي أبو بكر على سرير المملكة‏.‏

وفي صبيحة يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، بايعه الجيش المصري، وقدم الفخري لأخذ البيعة من الشاميين، ونزل بالقصر الأبلق وبايع الناس للملك المنصور بن الناصر بن المنصور‏.‏

ودقت البشائر بالقلعة المنصورة بدمشق صبيحة يوم الخميس الثامن والعشرين منه، وفرح الناس بالملك الجديد، وترحموا على الملك ودعوا له وتأسفوا عليه رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة

استهلت بيوم الأحد وسلطان الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية وما والاها الملك المنصور سيف الدين أبو بكر بن الملك السلطان الناصر ناصر الدين محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائب الشام الأمير علاء الدين طنبغا وقضاة الشام ومصر هم المذكورون في التي قبلها، وكذا المباشرون سوى الولاة‏.‏

شهر الله المحرم‏:‏

 ولاية الخليفة الحاكم بأمر الله

وفي هذا اليوم بويع بالخلافة أمير المؤمنين أبو القاسم أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي ولبس السواد وجلس مع الملك المنصور على سرير المملكة، وألبسه خلعة سوداء أيضاً، فجلسا وعليهما السواد، وخطب الخليفة يومئذ خطبة بليغة فصيحة مشتملة على أشياء من المواعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وخلع يومئذ على جماعة من الأمراء والأعيان، وكان يوماً مشهوداً، وكان أبو القاسم هذا قد عهد إليه أبوه بالخلافة، ولكن لم يمكنه الناصر من ذلك، وولى أبا إسحاق إبراهيم ابن أخي أبي الربيع، ولقبه الواثق بالله، وخطب به بالقاهرة جمعة واحدة فعزله المنصور وقرر أبا القاسم هذا، وأمضى العهد ولقبه المستنصر بالله كما ذكرنا‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن المحرم مسك الأمير سيف الدين بشتك الناصري آخر النهار، وكان قد كتب تقليده بنيابة الشام وخلع عليه بذلك وبرز ثقله، ثم دخل على الملك المنصور ليودعه فرحب به وأجلسه وأحضر طعاماً وأكلاً، وتأسف الملك على فراقه، وقال‏:‏ تذهب وتتركني وحدي‏.‏

ثم قام لتوديعه وذهب بشتك من بين يديه ثماني خطوات أو نحوها، ثم تقدم إليه ثلاثة نفر فقطع أحدهم سيفه من وسطه بسكين، ووضع الآخر يده على فمه وكتفه الآخر، وقيدوه وذلك كله بحضرة السلطان، ثم غيب ولم يدر أحد إلى أين صار، ثم قالوا لمماليكه‏:‏ اذهبوا أنتم فائتوا بمركوب الأمير غداً، فهو بائت عند السلطان‏.‏ ‏

وأصبح السلطان وجلس على سرير المملكة وأمر بمسك جماعة من الأمراء وتسعة من الكبار، واحتاطوا على حواصله وأمواله وأملاكه، فيقال إنه وجد عنده من الذهب ألف ألف دينار، وسبعمائة ألف دينار‏.‏

 وفاة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي

تمرض أياماً يسيرة مرضاً لا يشغله عن شهود الجماعة، وحضور الدروس، وإسماع الحديث‏.‏

فلما كان يوم الجمعة حادي عشر صفر أسمع الحديث إلى قريب وقت الصلاة، ثم دخل منزله ليتوضأ ويذهب للصلاة فاعترضه في باطنه مغص عظيم، ظن أنه قولنج، وما كان إلا طاعون، فلم يقدر على حضور الصلاة، فلما فرغنا من الصلاة أخبرت بأنه منقطع، فذهبت إليه فدخلت عليه فإذا هو يرتعد رعدة شديدة من قوة الألم الذي هو فيه، فسألته عن حاله فجعل يكرر الحمد الله، ثم أخبرني بما حصل له من المرض الشديد، وصلى الظهر بنفسه، ودخل إلى الطهارة وتوضأ على البركة، وهو في قوة الوجع ثم اتصل به هذا الحال إلى الغد من يوم السبت‏.‏

فلما كان وقت الظهر لم أكن حاضره إذ ذاك، لكن أخبرتنا بنته زينب زوجتي أنه لما أذن الظهر تغير ذهنه قليلاً، فقالت‏:‏ يا أبة أذن الظهر، فذكر الله وقال‏:‏ أريد أن أصلي فتيمم وصلى ثم اضطجع فجعل يقرأ آية الكرسي حتى جعل لا يفيض بها لسانه ثم قبضت روحه بين الصلاتين، رحمه الله يوم السبت ثاني عشر صفر، فلم يمكن تجهيزه تلك الليلة‏.‏

فلما كان من الغد يوم الأحد ثالث عشر صفر صبيحة ذلك اليوم، غسل وكفن وصلّي عليه بالجامع الأموي، وحضر القضاة والأعيان وخلائق لا يحصون كثرة، وخرج بجنازته من باب النصر، وخرج نائب السلطنة الأمير علاء الدين طنبغا ومعه ديوان السلطان، والصاحب وكاتب السر وغيرهم من الأمراء، فصلوا عليه خارج باب النصر، أمهم عليه القاضي تقي الدين السبكي الشافعي، وهو الذي صلّى عليه بالجامع الأموي‏.‏

ثم ذهب به إلى مقابر الصوفية فدفن هناك إلى جانب زوجته المرأة الصالحة الحافظة لكتاب الله، عائشة بن إبراهيم بن صديق، غربي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهم الله أجمعين‏.‏

 كائنة غريبة جداً

قدم يوم الأربعاء الثلاثين من صفر أمير من الديار المصرية ومعه البيعة للملك الأشرف علاء الدين كجك بن الملك الناصر، وذلك بعد عزل أخيه المنصور، لما صدر عنه من الأفعال التي ذكر أنه تعاطاها من شرب المسكر وغشيان المنكرات، وتعاطي ما لا يليق به، ومعاشرة الخاصكية من المردان وغيرهم‏.‏

فتمالأ على خلعه كبار الأمراء لما رأوا الأمر تفاقم إلى الفساد العريض فأحضروا الخليفة الحاكم بأمر الله أبي الربيع سليمان فأثبت بين يديه ما نسب إلى الملك المنصور المذكور من الأمور فحينئذ خلعه وخلعه الأمراء الكبار وغيرهم، واستبدلوا مكانه أخاه هذا المذكور، وسيروه إذ ذاك إلى قوص مضيقاً عليه ومع إخوة له ثلاثة، وقيل أكثر‏.‏ ‏

وأجلسوا الملك الأشرف هذا على السرير، وناب له الأمير سيف الدين قوصون الناصري، واستمرت الأمور على السداد وجاءت إلى الشام فبايعه الأمراء يوم الأربعاء المذكور، وضربت البشائر عشية الخميس مستهل ربيع الأول وخطب له بدمشق يوم الجمعة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والأمراء‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول حضر بدار الحديث الأشرفية قاضي القضاة تقي الدين السبكي عوضاً عن شيخنا الحافظ جمال الدين المزي، ومشيخة دار الحديث النورية عوضاً عن ابنه رحمه الله‏.‏

وفي شهر جمادى الأولى اشتهر أن نائب حلب الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر قائم في نصرة ابن السلطان الأمير أحمد الذي بالكرك، وأنه يستخدم لذلك ويجمع الجموع فالله أعلم‏.‏

وفي العشر الثاني منه وصلت الجيوش صحبة الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري إلى الكرك في طلب ابن السلطان الأمير أحمد‏.‏

وفي هذا الشهر كثر الكلام في أمر الأمير أحمد بن الناصر الذي بالكرك، بسبب محاصرة الجيش الذي صحبة الفخري له، واشتهر أن نائب حلب الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر قائم بجنب أولاد السلطان الذين أخرجوا من الديار المصرية إلى الصعيد، وفي القيام بالمدافعة عن الأمير أحمد، ليصرف عنه الجيش، وترك حصاره وعزم بالذهاب إلى الكرك لنصرة أحمد ابن أستاذه‏.‏

وتهيأ له نائب الشام بدمشق، ونادى في الجيش لملتقاه ومدافعته عما يريد من إقامة الفتنة وشق العصا، واهتم الجند لذلك، وتأهبوا واستعدوا، ولحقهم في ذلك كلفة كثيرة، وانزعج الناس بسبب ذلك وتخوفوا أن تكون فتنة، وحسبوا إن وقع قتال بينهم أن تقوم العشيرات في الجبال وحوران، وتتعطل مصالح الزراعات وغير ذلك‏.‏

ثم قدم من حلب صاحب السلطان في الرسلية إلى نائب دمشق الأمير علاء الدين الطنبغا ومع مشافهة، فاستمع لها فبعث معه صاحب الميسرة أمان الساقي، فذهبا إلى حلب ثم رجعا في أواخر جمادى الآخرة وتوجها إلى الديار المصرية، واشتهر أن الأمر على ما هو عليه حتى توافق على ما ذكر من رجوع أولاد الملك الناصر إلى مصر، ما عدا المنصور، وأن يخلي عن محاصرة الكرك‏.‏

وفي العشر الأخير من جمادى الأولى توفي مظفر الدين موسى بن مهنا ملك العرب ودفن بتدمر، وفي صبيحة يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة عند طلوع الشمس توفي الخطيب بدر الدين محمد بن القاضي جلال الدين القزويني بدار الخطابة بعد رجوعه من الديار المصرية كما قدمنا، فخطب جمعة واحدة وصلى بالناس إلى ليلة الجمعة الأخرى‏.‏

ثم مرض فخطب عنه أخوه تاج الدين عبد الرحيم على العادة ثلاثة جمع، وهو مريض إلى أن توفي يومئذ، وتأسف الناس عليه لحسن شكله وصباحة وجهه وحسن ملتقاه وتواضعه، واجتمع الناس للصلاة عليه للظهر فتأخر تجهيزه إلى العصر فصلى عليه بالجامع قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وخرج به الناس إلى الصوفية، وكانت جنازته حافلة جداً، فدفن عند أبيه بالتربة التي أنشأها الخطيب بدر الدين هناك رحمه الله‏.‏‏

وفي يوم الجمعة خامس الشهر بعد الصلاة خرج نائب السلطنة الأمير علاء الدين الطنبغا وجميع الجيش قاصدين للبلاد الحلبية للقبض على نائب حلب الأمير سيف الدين طشتمر، لأجل ما أظهر من القيام مع ابن السلطان الأمير أحمد الذي في الكرك، وخرج الناس في يوم شديد المطر كثير الوحل، وكان يوماً مشهداً عصيباً، أحسن الله العقابة‏.‏

وأمر القاضي تقي الدين السبكي الخطيب المؤذنين بزيادة أذكار على الذي كان سنه فيهم الخطيب بدر الدين من التسبيح والتحميد والتهليل الكثير ثلاثاً وثلاثين، فزادهم السبكي قبل ذلك‏:‏ استغفر الله العظيم ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام‏.‏

ثم أثبت ما في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ بعد صلاتي الصبح والمغرب‏:‏ اللهم أجرنا من النار سبعاً، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً، وكانوا قبل تلك السنوات قد زادوا بعد التأذين الآية ليلة الجمعة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبتدئ الرئيس منفرداً ثم يعيد عليه الجماعة بطريقة حسنة، وصار ذلك سبباً لاجتماع الناس في صحن الجامع لاستماع ذلك‏.‏

وكلما كان المتبدىء حسن الصوت كانت الجماعة أكثر اجتماعاً، ولكن طال بسبب ذلك الفصل، وتأخرت الصلاة عن أول وقتها انتهى‏.‏

 كائنة غريبة جداً

وفي ليلة الأحد عشية السبت نزل الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري بظاهر دمشق بين الجسورة وميدان الحصى بالأطلاب الذين جاؤوا معه من البلاد المصرية لمحاصرة الكرك للقبض على ابن السلطان الأمير أحمد بن الناصر، فمكثوا على الثنية محاصرين مضيقين عليه إلى أن توجه نائب الشام إلى حلب، ومضت هذه الأيام المذكورة، فما درى الناس إلا وقد جاء الفخري وجموعه‏.‏

وقد بايعوا الأمير أحمد وسموه الناصر بن النصار وخلعوا بيعة أخيه الملك الأشرف علاء الدين كجك واعتلوا بصغره، وذكروا أن أتابكة الأمير سيف الدين قوصون الناصري قد عدى على ابني السلطان فقتلهما خنقاً ببلاد الصعيد‏:‏ جهز إليهما من تولى ذلك، وهما الملك المنصور أبو بكر ورمضان، فتنكر الأمير بسبب ذلك، قالوا‏:‏ هذا يريد أن يجتاح هذا البيت ليتمكن هو من أخذ المملكة‏.‏

فحموا لذلك وبايعوا ابن أستاذهم وجاؤوا في الذهاب خلف الجيش ليكونوا عوناً للأمير سيف الدين طشتمر نائب حلب ومن معه، وقد كتبوا إلى الأمراء يستميلونهم إلى هذا، ولما نزلوا بظاهر دمشق خرج إليهم من بدمشق من الأكابر والقضاة والمباشرين، مثل والي البر، ووالي المدينة، وابن سمندار، وغيرهم فلما كان الصباح خرج أهالي دمشق عن بكرة أبيهم، على عادتهم في قدوم السلاطين، ودخلو الحجاج، بل أكثر من ذلك من بعض الوجوه‏.‏

وخرج القضاة والصاحب والأعيان والولاة وغيرهم، ودخل الأمير سيف الدين قطلوبغا في دست نيابة السلطنة التي فوضها إليه الملك الناصر الجديد وعن يمينه الشافعي، وعن شماله الحنفي على العادة، والجيش كله محدق به في الحديد، والعقارات والبوقات والنشابة السلطانية والسناجق الخليفية والسلطانية تخفق، والناس في الدعاء والثناء للفخري، وهم في غاية الاستبشار والفرح، وربما نال بعض جهلة الناس من النائب الآخر الذي ذهب إلى حلب، ودخلت الأطلاب بعده على ترتيبهم‏.‏

وكان يوماً مشهوداً، فنزل شرقي دمشق قريباً من خان لاجين، وبعث في هذا اليوم فرسم على القضاة والصاحب، وأخذ من أموال الأيتام وغيرها خمسمائة ألف، وعوضهم عن ذلك بقرية من بيت المال، وكتب بذلك سجلات، واستخدم جيداً، وانضاف إليه من الأمراء الذين كانوا قد تخلفوا بدمشق جماعة منهم تمر الساقي مقدم، وابن قراسنقر، وابن الكامل، وابن المعظم، وابن البلدي وغيرهم‏.‏

وبايع هؤلاء كلهم مع مباشري دمشق للملك الناصر بن الناصر، وأقام الفخري على خان لاجين، وخرج المتعيشون بالصنائع إلى عندهم وضربت البشائر بالقلعة صبيحة يوم الثلاثاء سادس عشر الشهر، ونودي بالبلد إن سلطانكم الملك الناصر أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائبكم سيف الدين قطلوبغا الفخري، وفرح كثير من الناس بذلك، وانضاف إليه نائب صفد وبايعه نائب بعلبك، واستخدموا له رجالاً وجنداً، ورجع إليه الأمير سيف الدين سنجر الجمقدار رأس الميمنة بدمشق‏.‏

وكان قد تأخر في السفر عن تائب دمشق علاء الدين الطنبغا، بسبب مرض عرض له، فلما قدم الفخري رجع إليه وبايع الناصر بن الناصر، ثم كاتب نائب حماه تغردمر الذي ناب بمصر للملك المنصور، فأجابه إلى ذلك وقدم على العسكر يوم السبت السابع والعشرين من الشهر المذكور، في تجمل عظيم وخزائن كثيرة، وثقل هائل‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر المذكور كسفت الشمس قبل الظهر، وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من جمادى الآخرة، قدم نائب غزة الأمير آق سنقر في جيش غزة، وهو قريب من ألفين، فدخلوا دمشق وقت الفجر وغدوا إلى معسكر الفخري، فانضافوا إليهم ففرحوا بهم كثيراً، وصار في قريب من خمسة آلاف مقاتل أو يزيدون‏.‏

استهل شهر رجب الفرد والجماعة من أكابر التجار مطلوبون بسبب أموال طلبها منهم الفخري، يقوي بها جيشه الذي معه، ومبلغ ذلك الذي أراده منهم ألف ألف درهم، ومعه مرسوم الناصر بن الناصر ببيع أملاك الأمير سيف الدين قوصون، إتابك الملك الأشرف علاء الدين كجك، ابن الناصر التي بالشام، بسبب إبائه عن مبايعة أحمد بن الناصر، فأشار على الفخري من أشار بأن يباع للتجار من أملاك الخاص، ويجعل مال قوصون من الخاص، فرسم بذلك، وأن يباع للتجار قرية دوية قومت بألف ألف وخمسمائة ألف، ثم لطف الله وأفرج عنهم بعد ليلتين أو ثلاث، وتعوضوا عن ذلك بحواصل قوصون‏.‏ ‏

واستمر الفخري بمن معه ومن أضيف إليه من الأمراء والأجناد مقيمين بثنية العقاب، واستخدم من رجال البقاع جماعة كثيرة أكثر من ألف رامٍ، وأميرهم يحفظ أفواه الطرق، وأزف قدوم الأمير علاء الدين طنبغا بمن معه من عساكر دمشق، وجمهور الحلبيين وطائفة الطرابلسيين وتأهب هؤلاء لهم‏.‏

فلما كان الحادي من الشهر اشتهر أن الطنبغا وصل إلى القسطل وبعث طلائعه فالتقت بطلائع الفخري، ولم يكن بينهم قتال ولله الحمد والمنة وأرسل الفخري إلى القضاة ونوابهم وجماعة من الفقهاء فخرجوا ورجع الشافعي من أثناء الطريق، فلما وصلوا أمرهم بالسعي بينه وبين الطنبغا في الصلح، وأن يوافق الفخري في أمره، وأن يبايع الناصر بن الناصر، فأبى فردهم إليه غير مرة، وكل ذلك يمتنع عليهم‏.‏

فلما كان يوم الاثنين رابع عشرة عند العصر جاء بريد إلى متولي البلد عند العصر من جهة الفخري يأمره بغلق أبواب البلد، فغلقت الأبواب، وذلك لأن العساكر توجهوا وتواقفوا للقتال، فإنا لله وإنا أليه راجعون‏.‏

وذلك أن الطنبغا لما علم أن جماعة قطلوبغا على ثنية العقاب دار الذروة من ناحية المعيصرة، وجاء بالجيوش من هناك، فاستدار له الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري بجماعته إلى ناحيته، ووقف له في طريقه، وحال بينه وبين الوصول إلى البلد، وانزعج الناس انزعاجاً عظيماً، وغلقت القياسر والأسواق وخاف الناس بعضهم من بعض أن يكون نهب‏.‏

فركب متولي البلد الأمير ناصر الدين بن بكباشي ومعه أولاده ونوابه والرجالة، فسار في البلد وسكن الناس ودعوا له، فلما كان قريب المغرب فتح لهم باب الجابية ليدخل من هو من أهل البلد، فجرت في الباب على ما قيل زحمة عظيمة، وتسخط الجند على الناس في هذه الليلة، واتفق أنها ليلة الميلاد، وبات المسلمون مهمومون بسبب العسكر واختلافهم فأصبحت أبواب البلد مغلقة في يوم الثلاثاء سوى باب الجابية، والأمر على ما هو عليه‏.‏

فلما كان عشية هذا اليوم تقارب الجيشان واجتمع الطنبغا وأمراؤه، واتفق أمراء دمشق وجمهورهم الذين هم معه على أن لا يقاتلوا مسلماً ولا يسلوا في وجه الفخري وأصحابه سيفاً، وكان قضاة الشام قد ذهبوا إليه مراراً للصلح، فيأبى عليهم إلا الاستمرار على ما هو عليه، وقويت نفسه عليه انتهى‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

 عجيبة من عجائب الدهر

فبات الناس متقابلين في هذه الليلة وليس بين الجيشين إلا مقدار ميلين أو ثلاثة، وكانت ليلة مطيرة، فما أصبح الصبح إلا وقد ذهب من جماعة الطنبغا إلى الفخري خلق كثير من أجناد الحلفاء ومن الأمراء والأعيان، وطلعت الشمس وارتفعت قليلاً فنفذ الطنبغا القضاة وبعض الأمراء إلى الفخري يتهدده ويتوعده ويقوي نفسه عليه‏.‏

فما ساروا عنه قليلاً إلا ساقت العساكر من الميمنة والميسرة ومن القلب، ومن كل جانب مقفرين إلى الفخري، وذلك لما هم فيه من ضيق العيش وقلة ما بأيديهم من الأطعمة وعلف الدواب، وكثرة ما معهم من الكلف‏.‏

فرأوا أن هذا حال يطول عليهم، ومقتوا أمرهم غاية المقت، وتطايبت قلوبهم وقلوب أولئك مع أهل البلد على كراهته لقوة نفسه فيما لا يجدي عليه ولا عليهم شيئاً، فبايعوا على المخامرة عليه، فلم يبق معه سوى حاشيته في أقل من ساعة واحدة، فلما رأى الحال على هذه الصفة كر راجعاً هارباً من حيث جاء وصحبته الأمير سيف الدين رقطبة نائب طرابلس، وأميران آخران‏.‏

والتقت العساكر والأمراء، وجاءت البشارة إلى دمشق قبل الظهر ففرح الناس فرحاً شديداً جداً، الرجال والنساء والولدان، حتى من لانوبة له، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة، فأرسلوا في طلب من هرب، وجلس الفخري هنالك بقية اليوم يحلف الأمراء على أمره الذي جاء له، فحلفوا له‏.‏

ودخل دمشق عشية يوم الخميس في أبهة عظيمة، وحرمة وافرة، فنزل القصر الأبلق ونزل الأمير تغردمر بالميدان الكبير، ونزل عمارى بدار السعادة وأخرجوا الموساوي الذي كان معتقلاً بالقلعة، وجعلوه مشداً على حوطات حواصل الطنبغا وكان قد تغضب الفخري على جماعة من الأمراء منهم الأمير حسام الدين السمقدار، أمير حاجب بسبب أنه صاحب لعلاء الدين الطنبغا‏.‏

فلما وقع ما وقع هرب فيمن هرب، ولكن لم يأت الفخري، بل دخل البلد فتوسط في الأمر‏:‏ لم يذهب مع ذاك ولا جاء مع هذا، ثم إنه استدرك ما فاته فرجع من البار إلى الفخري، وقيل بل رسم عليه حين جاء وهو مهموم جداً، ثم إنه أعطي منديل الأمان، وكان معهم كاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله‏.‏

ثم أفرج عنهم، ومنهم الأمير سيف الدين حفطية كان شديد الحنق عليه، فأطلقه من يومه وأعاده إلى الحجوبية، وأظهر مكارم أخلاق عظيمة، ورياسة كبيرة، وكان للقاضي علاء الدين بن المنجا قاضي قضاة الحنابلة في هذه الكائنة سعى مشكور، ومراجعة كبيرة للأمير علاء الدين الطنبغا، حتى خيف عليه منه، وخاطر بنفسه معه، فأنجح الله مقصده وسلمه منه، وكبت عدوه ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي يوم السبت السادس والعشرين منه قلد قضاء العساكر المنصورة الشيخ فخر الدين بن الصائغ عوضاً عن القاضي الحنفي، الذي كان مع النائب المنفصل، وذلك أنهم نقموا عليه إفتاءه الطنبغا بقتال الفخري، وفرح بولايته أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وذلك لأنه من أخص من صحبه قديماً، وأخذ عنه فوائد كثيرة وعلوماً‏.‏ ‏

وفي يوم الأربعاء سلخ رجب آخر النهار قدم الأمير قماري من عند الملك الناصر بن الناصر من الكرك وأخبره بما جرى من أمرهم وأمر الطنبغا، ففرح بذلك وأخبر قماري بقدوم السلطان ففرح الناس بذلك واستعدوا له بآلات المملكة وكثرت مطالبته أرباب الأموال والذمة بالجزية‏.‏

وفي مستهل رجب من هذه السنة ركب الفخري في دست النيابة بالموكب المنصور، وهو أول ركوبه فيه، وإلى جانبه قماري وعلى قماري خلعة هائلة، وكثر دعاء الناس للفخري يومئذ، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي هذا اليوم خرج جماعة من المقدمين الألوف إلى الكرك بأخبار ابن السلطان بما جرى‏:‏ منهم تغردمر، وإقبغا عبد الواحد وهو الساقي، وميكلي بغا وغيرهم‏.‏

وفي يوم السبت ثالثه استدعى الفخري القاضي الشافعي وألح عليه في إحضار الكتب في سلة الحكم التي كانت أخذت من عند الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله من القلعة المنصورة في أيام جلال الدين القزويني، فأحضرها القاضي بعد جهد ومدافعة، وخاف على نفسه منه، فقبضها منه الفخري بالقصر وأذن له في الانصراف من عنده، وهو متغضب عليه، وربما همّ بعزله لممانعته إياها، وربما قال قائل هذه فيها كلام يتعلق بمسألة الزيارة، فقال الفخري‏:‏ كان الشيخ أعلم بالله وبرسوله منكم‏.‏

واستبشر الفخري بإحضارها إليه واستدعي بأخي الشيخ زين الدين عبد الرحمن، وبالشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن قيم الجوزية وكان له سعي مشكور فيها، فهنأهما بإحضاره الكتب، وبيّت الكتب تلك الليلة في خزانته للتبرك وصلى به الشيخ زين الدين أخو الشيخ صلاة المغرب بالقصر، وأكرمه الفخري إكراماً زائداً لمحبته الشيخ رحمه الله‏.‏

وفي يوم الأحد رابعه دقت البشائر بالقلعة وفي باب الميدان لقدوم بشير بالقبض على قوصون بالديار المصرية، واجتمع الناس لذلك واستبشر كثير منهم بذلك‏.‏

وأقبل جماعة من الأمراء إلى الكرك لطاعة الناصر بن الناصر، واجتمعوا مع الأمراء الشاميين عند الكرك، وطلبوا منه أن ينزل إليهم فأبى وتوهم أن هذه الأمور كلها مكيدة ليقبضوه ويسلموه إلى قوصون، وطلب منهم أن ينظر في أمره وردهم إلى دمشق‏.‏

وفي هذه الأيام وما قبلها وما بعدها أخذ الفخري من جماعة التجار بالأسواق وغيرها زكاة أموالهم سنة، فتحصل من ذلك زيادة على مائة ألف وسبعة آلاف، وصودر أهل الذمة بقريب من ذلك زيادة على الجزية التي أخذت منهم عن ثلاث سنين سلفاً وتعجيلاً‏.‏

ثم نودي في البلد يوم الاثنين الحادي والعشرين من الشهر مناداة صادرة من الفخري برفع الظلامات والطلبات وإسقاط ما تبقى من الزكاة والمصادرة، غير أنهم احتاطوا على جماعة من المشاة المكثرين ليشتروا منهم بعض أملاك الخاص، والبرهان بن بشارة الحنفي تحت المصادرة والعقوبة على طلب المال الذي وجده في طميرة وجدها فيما ذكر عنه والله أعلم‏.‏

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين منه بعد الصلاة دخل الأمراء الستة الذين توجهوا نحو الكرك لطلب السلطان أن يقدم إلى دمشق فأبى عليهم في هذا الشهر، ووعدهم وقتاً آخر فرجعوا، وخرج الفخري لتلقيهم، فاجتمعوا قبلي جامع القبيبات الكريمي، ودخلوا كلهم إلى دمشق في جمع كثير من الأتراك الأمراء والجند، وعليهم خمدة لعدم قدوم السلطان أيده الله‏.‏ ‏

وفي يوم الأحد قدم البريد خلف قماري وغيره من الأمراء يطلبهم إلى الكرك، واشتهر أن السلطان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يأمره بالنزول من الكرك وقبول المملكة، فانشرح الناس لذلك‏.‏

وتوفي الشيخ عمر بن أبي بكر بن اليثمي البسطي يوم الأربعاء التاسع والعشرين، كان رجلاً صالحاً كثير التلاوة والصلاة والصدقة، وحضور مجالس الذكر والحديث، له همة وصولة على الفقراء المتشبهين بالصالحين وليسوا منهم‏.‏

سمع الحديث من الشيخ فخر الدين بن البخاري وغيره وقرأت عليه عن ابن البخاري مختصر المشيخة، ولازم مجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وانتفع به، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وفي شهر رمضان المعظم أوله يوم الجمعة، كان قد نودي في الجيش‏:‏ آن الرحيل لملتقى السلطان في سابع الشهر، ثم تأخر ذلك إلى بعد العشر، ثم جاء كتاب من السلطان بتأخر ذلك إلى بعد العيد وقدم في عاشر الشهر علاء الدين بن تقي الدين الحنفي، ومع ولاية من السلطان الناصر بنظر البيمارستان النوري، ومشيخة الربوة ومرتب على الجهات السلطانية‏.‏

وكان قد قدم قبله القاضي شهاب الدين بن البارزي بقضاء حمص من السلطان أيده الله تعالى، ففرح الناس بذلك حيث تكلم السلطان في المملكة وباشر وأمر وولى ووقّع ولله الحمد‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشره دخل الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر من البلاد الحلبية إلى دمشق المحروسة، وتلقاه الفخري والأمراء والجيش بكماله، ودخل في أبهة حسنة ودعا له الناس وفرحوا بقدومه بعد شتاته في البلاد وهربه من بين يدي الطنبغا حين قصده إلى حلب كما تقدم ذكره‏.‏

وفي يوم الخميس رابع عشرة خرجت الجيوش من دمشق قاصدين إلى غزة لنظرة السلطان حين يخرج من الكرك السعيد، فخرج يومئذ مقدمان‏:‏ تغردمر واقبغا عبد الواحد فبرزا إلى الكسوة‏.‏

فلما كان يوم السبت خرج الفخري ومعه طشتمر وجمهور الأمراء، ولم يقم بعده بدمشق إلا من احتيج لمقامهم لمهمات المملكة، وخرج مع القضاة الأربعة، وقاضي العساكر والموقعين والمصاحب وكاتب الجيش وخلق كثير‏.‏

وتوفي الشيخ الصالح العابد الناسك أحمد بن‏.‏‏.‏ الملقب بالقصيدة ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان، وصلّي عليه بجامع شكر، ودفن بالصوفية قريباً من قبر الشيخ جمال الدين المزي، تغمدهما الله برحمته‏.‏

وكان فيه صلاح كثير، ومواظبة على الصلاة في جماعة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر مشكوراً عند الناس بالخير، وكان يكثر من خدمة المرضى بالمارستان وغيره، وفيه إيثار وقناعة وتزهد كثير، وله أحوال مشهورة رحمه الله وإيانا‏.‏

واشتهر في أواخر الشهر المذكور أن السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد خرج من الكرك المحروس صحبة جماعة من العرب والأتراك قاصداً إلى الديار المصرية، ثم تحرر خروجه منها في يوم الاثنين ثامن عشر الشهر المذكور فدخل الديار المصرية بعد أيام‏.‏

هذا والجيش صامدون إليه، فلما تحقق دخوله مصر حثوا في السير إلى الديار المصرية، وبعث يستحثهم أيضاً، واشتهر أنه لم يجلس على سرير الملك حتى يقدم الأمراء الشاميون صحبة نائبه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، ولهذا لم تدق البشائر بالقلاع الشامية ولا غيرها فيما بلغنا‏.‏

وجاءت الكتب والأخبار من الديار المصرية بأن يوم الاثنين عاشر شوال كان إجلاس السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد على سرير المملكة، صعد هو والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفي فوق المنبر، وهما لابسان السواد، والقضاة تحتهما على درج المنبر بحسب منازلهم، فخطب الخليفة، وخلع الأشرف كجك وولى هذا الناصر، وكان يوماً مشهوداً، وأظهر ولايته لطشتمر نيابة مصر، والفخري دمشق، وأيدغمش حلب فالله أعلم‏.‏

ودقت البشائر بدمشق ليلة الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور، واستمرت إلى يوم الاثنين مستهل ذي القعدة، وزينت البلد يوم الأحد ثالث عشرين منه، واحتفل الناس بالزينة‏.‏

وفي يوم الخميس المذكور دخل الأمير سيف الدين الملك أحد الرؤوس المشهورة بمصر إلى دمشق في طلب نيابة حماه حرسها الله تعالى، فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة ورد البريد من الديار المصرية فأخبر أن طشتمر الحمص الأخضر مسك، فتعجب الناس من هذه الكائنة كثيراً‏.‏

فخرج من بدمشق من أعيان الأمراء أمير الحج وغيره وخيم بوطأة برزة وخرج إلى الحج أمير فأخبره بذلك وأمروه عن مرسوم السلطان أن ينوب بدمشق حتى يأتي المرسوم بما يعتمد أمير الحج فأجاب إلى ذلك، وركب في الموكب يوم السبت السادس منه‏.‏

وأما الفخري فإنه لما تنسم هذا الخبر وتحققه وهو بالزعقة فرّ في طائفة من مماليكه قريب من ستين أو أكثر، فاحترق وساق سوقاً حثيثاً وجاءه الطلب من ورائه من الديار المصرية في نحو من ألف فارس، صحبة الأميرين‏:‏ الطنبغا المارداني، ويبلغا التحناوي، ففاتهما وسبق واعترض له نائب غزة في جنده فلم يقدر عليه، فسلطوا عليه العشيرات ينهبوه فلم يقدروا عليه إلا في شيء يسير‏.‏

وقتل منهم خلقاً، وقصد نحو صاحبه فيما يزعم الأمير سيف الدين إيدغمش نائب حلب راجياً منه أن ينصره وأن يوافقه على ما قام بنفسه، فلما وصل أكرمه وأنزله، وبات عنده، فلما أصبح قبض عليه وقيده ورده على البريد إلى الديار المصرية، ومعه التراسيم من الأمراء وغيرهم‏.‏ ‏

ولما كان يوم الاثنين سلخ ذي القعدة خرج السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن المنصور من الديار المصرية في طائفة من الجيش قاصداً إلى الكرك المحروس، ومعه أموال جزيلة، وحواصل وأشياء كثيرة‏.‏

فدخلها يوم الثلاثاء من ذي الحجة وصحبته طشتمر في محفة ممرضاً، والفخري مقيداً، فاعتقلا بالكرك المحروس، وطلب السلطان آلات من أخشاب ونحوها وحدادين وصناع ونحوها لإصلاح مهمات بالكرك، وطلب أشياء كثيرة من دمشق، فحملت إليه‏.‏

ولما كان يوم الأحد السابع والعشرين من ذي الحجة ورد الخبر بأن الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي النائب بصفد ركب في مماليكه وخدمه ومن أطاعه، وخرج منها فاراً بنفسه من القبض عليه، وذكر أن نائب غزة قصده ليقبض عليه بمرسوم السلطان ورد عليه من الكرك، فهرب الأحمدي بسبب ذلك‏.‏

ولما وصل الخبر إلى دمشق وليس بها نائب انزعج الأمراء لذلك، واجتمعوا بدار السعادة، وضربوا في ذلك مشورة ثم جردوا إلى ناحية بعلبك أميراً ليصدوه عن الذهاب إلى البرية‏.‏

فلما أصبح الصباح من يوم الاثنين جاء الخبر بأنه في نواحي الكسوة، ولا مانع من خلاصة، فركبوا كلهم ونادى المنادي‏:‏ من تأخر من الجند عن هذا النفير شنق، واستوثقوا في الخروج وقصدوا ناحية الكسوة وبعثوا الرسل إليه، فذكر اعتذاراً في خروجه وتخلص منهم، وذهب يوم ذلك، ورجعوا وقد كانوا ملبسين في يوم حار، وليس معهم من الأزواد ما يكفيهم سوى يومهم ذلك‏.‏

فلما كانت ليلة الثلاثاء ركب الأمراء في طلبه من ناحية ثنية العقاب، فرجعوا في اليوم الثاني وهو في صحبتهم، ونزل في القصور التي بناها تنكز رحمه الله، في طريق داريا، فأقام بها، وأجروا عليه مرتباً كاملاً من الشعير والغنم وما يحتاج إليه مثله، ومعه مماليكه وخدمه‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء سادس المحرم ورد كتاب من جهة السلطان فقرئ على الأمراء بدار السعادة يتضمن إكرامه واحترامه والصفح عنه لتقدم خدمة على السلطان الملك الناصر وابنه الملك المنصور‏.‏

ولما كان يوم الأربعاء سابع المحرم جاء كتاب إلى الأمير ركن الدين بيبرس نائب الغيبة ابن الحاجب ألمش بالقبض على الأحمدي، فركب الجيش ملبسين يوم الخميس وأوكبوا بسوق الخيل وراسلوه - وقد ركب في مماليكه بالعدد وأظهر الامتناع - فكان جوابه أن لا أسمع ولا أطيع إلا لمن هو ملك الديار المصرية، فأما من هو مقيم بالكرك ويصدر عنه ما يقال عنه من الأفاعيل التي قد سارت بها الركبان، فلا‏.‏

فلما بلغ الأمراء هذا توقفوا في أمره وسكنوا ورجعوا إلى منازلهم، ورجع هو إلى قصره‏.‏