الجزء الرابع عشر - ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة المباركة وسلطان المسلمين الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور قلاوون، وهو مقيم بالكرك، قد حاز الحواصل السلطانية من قلعة الجبل إلى قلعة الكرك، ونائبه الديار المصرية الأمير سيف الدين آقسنقر السلاري، الذي كان نائباً بغزة، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في السنة الماضية، سوى القاضي الحنفي‏.‏ ‏

وأما دمشق فليس لها نائب إلى حينئذ غير أن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب كان استنابه الفخري بدمشق نائب غيبته، فهو الذي يسد الأمور مع الحاجب ألمش، وتمر المهمندار، والأمير سيف الدين الملقب بحلاوة، والي البر، والأمير ناصر الدين بن ركباس متولي البلد، هؤلاء الذين يسدون الأشغال والأمور السلطانية، والقضاة هم الذين ذكرناها في السنة الخالية، وخطيب البلد تاج الدين عبد الرحيم بن القاضي جلال الدين القزويني، وكاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله‏.‏

واستهلت هذه السنة والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نازل بقصر تنكز بطريق داريا، وكتب السلطان واردة في كل وقت بالاحتياط عليه والقبض، وأن يمسك ويرسل إلى الكرك، هذا والأمراء يتوانون في أمره ويسوفون المراسيم، وقتاً بعد وقت، وحيناً بعد حين، ويحملهم على ذلك أن الأحمدي لا ذنب له، ومتى مسكه تطرف إلى غيره، مع أن السلطان يبلغهم عنه أحوال لا نرضيهم من اللعب والاجتماع مع الأراذل والأطراف ببلد الكرك، مع قتله الفخري وطشتمر قتلاً فظيعاً وسلبه أهلهما وسلبه لما على الحريم من الثياب والحلي، وإخراجهم في أسوأ حال من الكرك، وتقريبه النصارى وحضورهم عنده‏.‏

فحمل الأمراء هذه الصفات على أن بعثوا أحدهم يكشف أمره، فلم يصل إليه، ورجع هارباً خائفاً، فلما رجع وأخبر الأمراء انزعجوا وتشوشوا كثيراً، واجتمعوا بسوق الخيل مراراً وضربوا مشورة بينهم، فاتفقوا على أن يخلعوه، فكتبوا إلى المصريين بذلك، وأعلموا نائب حلب أيدغمش ونواب البلاد، وبقوا متوهمين من هذا الحال كثيراً ومترددين‏.‏

ومنهم من يصانع في الظاهر وليس معهم في الباطن، وقالوا لا سمع له ولا طاعة حتى يرجع إلى الديار المصرية، ويجلس على سرير المملكة، وجاء كتابه إليهم يعيبهم ويعنفهم في ذلك، فلم يفد‏.‏

وركب الأحمدي في الموكب وركبوا عن يمينه وشماله وراحوا إليه إلى القصر، فسلموا عليه وخدموه، وتفاقم الأمر وعظم الخطب، وحملوا هموماً عظيمة خوفاً من أن يذهب إلى الديار المصرية فيلف عليه المصريون فيتلف الشاميين، فحمل الناس همهم فالله هو المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

فلما كان يوم الأحد السادس والعشرين من المحرم ورد مقدم البريدية ومعه كتب المصريين بأنه لم بلغهم خبر الشاميين كان عندهم من أمر السلطان أضعاف ما حصل عند الشاميين، فبادروا إلى ما كانوا عزموا عليه، ولكن ترددوا خوفاً من الشاميين أن يخالفوهم فيه ويتقدموا في صحبة السلطان لقتالهم‏.‏

فلما أطمأنوا من جهة الشاميين صمموا على عزمهم فخلعوا الناصر أحمد وملكوا عليهم أخاه الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن المنصور، جعله الله مباركاً على المسلمين، وأجلسوه على السرير يوم الثلاثاء العشرين من المحرم المذكور، وجاء كتابه مسلماً على أمراء الشام ومقدميه‏.‏ ‏

وجاءت كتب الأمراء على الأمراء بالسلام والأخبار بذلك ففرح المسلمون وأمراء الشام والخاصة والعامة بذلك فرحاً شديداً، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة يومئذ، ورسم بتزيين البلد فزين الناس صبيحة الثلاثاء السابع والعشرين منه، ولما كان يوم الجمعة سلخ المحرم خطب بدمشق للملك الصالح عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور‏.‏

وفي يوم الخميس سادس صفر درّس بالصدرية صاحبنا الإمام العلاّمة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الذرعي إمام الجوزية، وحضر عنده الشيخ عز الدين بن المنجا الذي نزل له عنها، وجماعة من الفضلاء‏.‏

وفي يوم الاثنين سادس عشر صفر دخل الأمير سيف الدين تغردمر من الديار المصرية إلى دمشق ذاهباً إلى نيابة حلب المحروسة، فنزل بالقابون‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر صفر توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد عبد الله بن أبي الوليد المقري المالكي، إمام المالكية، هو وأخوه أبو عمرو، بالجامع الأموي بمحراب الصحابة‏.‏

توفي ببستان بقية السحف، وصلّي عليه بالمصلى ودفن عند أبيه رحمهما الله بمقابر باب الصغير، وحضر جنازته الأعيان والفقهاء والقضاة، وكان رجلاً صالحاً مجمعاً على ديانته وجلالته رحمه الله‏.‏

وفي يوم الخميس العشرين من صفر دخل الأمير إيدغمش نائب السلطنة بدمشق ودخل إليها من ناحية القابون قادماً من حلب، وتلقاه الجيش بكماله، وعليه خلعة النيابة، واحتفل الناس له وأشعلوا الشموع، وخرج أهل الذمة من اليهود والنصارى يدعون له ومعهم الشموع، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وصلى يوم الجمعة بالمقصورة، من الجامع الأموي، ومعه الأمراء والقضاة وقرئ تقليده هناك على السدة وعليه خلعته، ومعه الأمير سيف الدين ملكتم الرحولي، وعليه خلعة أيضاً‏.‏

وفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر دخل الأمير علم الدين الجاولي دمشق المحروسة ذاهباً إلى نيابة حماه المحروسة، وتلقاه نائب السلطنة والأمراء إلى مسجد القدم، وراح فنزل بالقابون، وخرج القضاة والأعيان إليه، وسمع عليه من مسند الشافعي فإنه يرويه، وله فيه عمل، ورتبه ترتيباً حسناً ورأيته، وشرحه أيضاً، وله أوقاف على الشافعية وغيرهم‏.‏

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه عقد مجلس بعد الصلاة بالشباك الكمالي من مشهد عثمان بسبب القاضي فخر الدين المصري، وصدر الدين عبد الكريم بن القاضي جلال الدين القزويني، بسبب العادلية الصغيرة، فاتفق الحال على أن نزل صدر الدين عن تدريسها، ونزل فخر الدين عن مائة وخمسين على الجامع‏.‏ ‏

وفي يوم الأحد سلخ الشهر المذكور حضر القاضي فخر الدين المصري ودرس بالعادلية الصغيرة وحضر الناس عنده على العادة، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وفي آخر شهر ربيع الأول جاء المرسوم من الديار المصرية بأن يخرج تجريدة من دمشق بصحبة الأمير حسام الدين السمقدار لحصار الكرك الذي تحصن فيه ابن السلطان أحمد، واستحوذ على ما عنده من الأموال التي أخذها من الخزائن من ديار مصر، وبرز المنجنيق من القلعة إلى قبل جامع القبيبات، فنصب هناك وخرج الناس للتفرج عليه ورمي به ومن نيتهم أن يستصحبوه معهم للحصار‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر قدم الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني من الديار المصرية على قاعدته وعادته‏.‏

وفي يوم الخميس عاشره دخل إلى دمشق الأميران الكبيران ركن الدين بيبرس الأحمدي من طرابلس، وعلم الدين الجاولي من حماه سحراً، وحضرا الموكب ووقفا مكتفين لنائب السلطنة‏:‏ الأحمدي عن يمينه والجاولي عن يساره، ونزلا ظاهر البلد، ثم بعد أيام يسيرة توجه الأحمدي إلى الديار المصرية على عادته وقاعدته رأس مشورة، وتوجه الجاولي إلى غزة المحروسة نائباً عليها، وكان الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير على إمرة الطبلخانات بدمشق‏.‏

وفي يوم الخميس رابع عشره خرجت التجريدة من دمشق سحراً إلى مدينة الكرك، والأمير شهاب الدين بن صبح والي الولاة بحوران مشد المجانيق، وخرج الأمير سيف الدين بهادر الشمس الملقب بحلاوة والي البر بدمشق إلى ولاية الولاة بحوران‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشره وقع بين النائب والقاضي الشافعي بسبب كتاب ورد من الديار المصرية فيه الوصايا بالقاضي السبكي المذكور ومعه التوقيع بالخطابة له مضافاً إلى القضاء وخلعة من الديار المصرية، فتغيظ عليه النائب لأجل أولاد الجلال، لأنهم عندهم عائلة كثيرة وهم فقراء، وقد نهاه عن السعي في ذلك، فتقدم إليه يومئذ أن لا يصلي عنده في الشباك الكمالي، فنهض من هناك وصلى في الغزالية‏.‏

وفي يوم الأحد العشرين منه دخل دمشق الأمير سيف الدين أريغا زوج ابنة السلطان الملك الناصر مجتازاً ذاهباً إلى طرابلس نائباً بها، في تجمل وأبهة ونجائب وجنائب، وعدة وسرك كامل‏.‏

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه دخل الأمير بدر الدين ابن الخطيري معزولاً عن نيابة غزة المحروسة فأصبح يوم الخميس فركب في الموكب وسير مع نائب السلطنة، ونزل في داره وراح الناس للسلام عليه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر زينت البلد لعافية السلطان الملك الصالح لمرض أصابه، ثم شفى منه‏.‏

وفي يوم الجمعة السادس عشرينه قبل العصر ورد البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تقي الدين السبكي إليها حاكمها بها، فذهب الناس للسلام عليه ولتوديعه، وذلك بعد ما أرجف الناس به كثيراً‏.‏

واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى الطنبغا وإلى الفخري، وكتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتيين فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، رأيت خطه عليها وحده بعد الصلاة، وسئلت في الإفتاء عليها فامتنعت، لما فيها من التشويش على الحاكم‏.‏

وفي أول مرسوم نائب السلطان أن يتأمل المفتون هذا السؤال ويفتوا بما يقتضيه حكم الشرع الشريف، وكانوا له في نية عجيبة ففرج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية، فسار إليها صحبة البريد ليلة الأحد، وخرج الكبراء والأعيان لتوديعه، وفي خدمته‏.‏

استهل جمادى الآخرة والتجريدة عمالة إلى الكرك والجيش المجردون من الحلقة قريب من ألف ويزيدون، ولما كان يوم الثلاثاء رابعه بعد الظهر مات الأمير علاء الدين أيدغمش نائب السلطنة بالشام المحروس في دار وحده في دار السعادة، فدخلوا عليه وكشفوا أمره وأحصروا وخشوا أن يكون اعتراه سكتة، ويقال إنه شفى فالله أعلم‏.‏

فانتظروا به إلى الغد احتياطاً، فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة عليه فصلّي عليه خارج باب النصر حيث يصلّى على الجنائز، وذهبوا به إلى نحو القبلة، ورام بعض أهله أن يدفن في تربة غبريال إلى جانب جامع القبيبات، فلم يمكن ذلك، فدفن قبلي الجامع على حافة الطريق، ولم يتهيأ دفنه إلا إلى بعد الظهر من يومئذ، وعملوا عنده ختمة ليلة الجمعة رحمه الله وسامحه‏.‏

واشتهر في أوائل هذا الشهر أن الحصار عمال على الكرك، وأن أهل الكرك خرجت طائفة منهم فقتل منهم خلق كثير، وقتل من الجيش واحد في الحصار، فنزل القاضي وجماعة ومعهم شيء من الجوهر، وتراضوا على أن يسلموا البلد‏.‏

فلما أصبح أهل الحصن تحصنوا ونصبوا المجانيق واستعدوا فلما كان بعد أيام رموا منجنيق الجيش فكسروا السهم الذي له، وعجزوا عن نقله فحرقوه برأي أمراء المقدمين، وجرت أمور فظيعة، فالله يحسن العاقبة‏.‏

ثم وقعت في أواخر هذا الشهر بين الجيش وأهل الكرك وقعة أخرى، وذلك أن جماعة من رجال الكرك خرجوا إلى الجيش ورموهم بالنشاب فخرج الجيش لهم من الخيام ورجعوا مشاة ملبسين بالسلاح فقتلوا من أهل الكرك جماعة من النصارى وغيرهم، وجرح من العسكر خلق، وقتل واحد أو اثنان وأسر الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص، وقتل أمير العرب، وأسر آخرون فاعتقلوا بالكرك، وجرت أمور منكرة‏.‏

ثم بعدها تعرض العسكر راجعين إلى بلادهم لم ينالوا مرادهم منها، وذلك أنهم رقهم البرد الشديد وقلة الزاد، وحاصروا أولئك شديداً بلا فائدة فإن البلد بريد متطاولة ومجانيق، ويشق على الجيش الإقامة هناك في كوانين، والمنجنيق الذي حملوه معهم كسر، فرجعوا ليتأهبوا لذلك‏.‏

ولما كان في يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه قدم من الديار المصرية على البريد القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتباً على السر عوضاً عن أخيه القاضي شهاب الدين، ومعه كتاب بالاحتياط على حواصل أخيه شهاب الدين، وعلى حواصل القاضي عماد الدين ابن الشيرازي المحتسب، فاحتيط على أموالهما وأخرج من في ديارهما من الحرم، وضربت الأخشاب على الأبواب، ورسم على المحتسب بالعذراوية، فسأل أن يحول إلى دار الحديث الأشرفية فحول إليها‏.‏

وأما القاضي شهاب الدين، فكان قد خرج ليلتقي الأمير سيف الدين تغردمر الحموي، الذي جاء تقليده بنيابة الشام بدمشق وكان بحلب، وجاء هذا الأمر وهو في أثناء الطريق، فرسم برجعته ليصادر هو والمحتسب، ولم يدر الناس ما ذنبهما‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن شهر رجب آخر النهار رجع قاضي القضاء تقي الدين السبكي إلى دمشق على القضاء، ومعه تقليد بالخطابة أيضاً، وذهب الناس إليه للسلام عليه‏.‏

ودخل نائب السلطنة الأمير سيف الدين تغردمر الحموي بعد العصر الخامس عشرينه من حلب، فتلقاه الأمراء إلى طريق القابون، ودعا له الناس دعاء كثيراً، وأحبوه لبغضهم النائب الذي كان قبله، وهو علاء الدين أيدغمش سامحه الله تعالى، فنزل بدار السعادة وحضر الموكب صبيحة يوم الاثنين‏.‏

واجتمع طائفة من العامة وسألوه أن لا يغير عليهم خطيبهم تاج الدين عبد الرحيم ابن جلال الدين، فلم يلتفت إليهم، بل عمل على تقليد القاضي تقي الدين السبكي الخطابة ولبس الخلعة، وأكثر العوام لما سمعوا بذلك الغوغاء، وصاروا يجتمعون حلقاً حلقاً بعد الصلوات ويكثرون الفرحة في ذلك، لما منع ابن الجلال، ولكن بقي هذا لم يباشر السبكي في المحراب‏.‏

واشتهر عن العوام كلام كثير وتوعدوا السبكي بالسفاهة عليه إن خطب، وضاق بذلك ذرعاً، ونهوا عن ذلك فلم ينتهوا، وقيل لهم ولكثير منهم‏:‏ الواجب عليكم السمع والطاعة لأولي الأمر، ولو أمر عليكم عبد حبشي‏.‏

فلم يرعووا، فلما كان يوم الجمعة العشرين منه اشتهر بين العامة بأن القاضي نزل عن الخطابة لابن الجلال، ففرح العوام بذلك وحشدوا في الجامع، وجاء نائب السلطنة إلى المقوصرة والأمراء معه، وخطب ابن الجلال على العادة، وفرح الناس بذلك وأكثروا من الكلام والهرج‏.‏

ولما سلم عليهم الخطيب حين صعد ردوا عليه رداً بليغاً، وتكلفوا في ذلك وأظهرا بغضة القاضي السبكي، وتجاهروا بذلك، وأسمعوه كلاماً كثيراً، ولما قضيت الصلاة قرئ تقليد النيابة على السدة، وخرج الناس فرحى بخطيبهم، لكونه استمر عليهم، واجتمعوا عليه يسلمون ويدعون له‏.‏ ‏

وفي يوم الأربعاء ثالث شعبان درّس القاضي برهان الدين بن عبد الحق بالمدرسة العذراوية بمرسوم سلطاني بتوليته وعزل القفجاري، وعقد لهما مجلس يوم الثلاثاء بدار العدل، فرجح جانب القاضي برهان الدين لحاجته وكونه لا وظيفة له‏.‏

وفي يوم الجمعة خامسه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن الجزري أحد المسندين المكثرين الصالحين، مات عن خمس وتسعين سنة رحمه الله، وصلّي عليه يوم الجمعة بالجامع المظفري ودفن بالرواحية‏.‏

وفي يوم الأربعاء السابع عشر منه توفي الشيخ الإمام العالم العابد الناسك الصالح الشيخ شمس الدين محمد بن الزرير خطيب الجامع الكريمي بالقبيبات، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ بالجامع المذكور، ودفن قبلي الجامع المذكور، إلى جانب الطريق من الشرق رحمه الله‏.‏

واشتهر في أوائل رمضان أن مولوداً ولد له رأسان وأربع أيد، وأحضر إلى بين يدي نائب السلطنة، وذهب الناس للنظر إليه في محلة ظاهر باب الفراديس، يقال لها حكى الوزير، وكنت فيمن ذهب إليه في جماعة من الفقهاء يوم الخميس ثالث الشهر المذكور بعد العصر، فأحضره أبوه - واسم أبيه سعادة - وهو رجل من أهل الجبل، فنظرت إليه فإذا هما ولدان مستقلان، فكل قد اشتبكت أفخاذهما بعضهما ببعض، وركب كل واحد منهما ودخل في الآخر والتحمت فصارت جثة واحدة وهما ميتان، فقالوا أحدهما ذكر الآخر أنثى وهما ميتان حال رؤيتي إليهما‏.‏

وقالوا إنه تأخر موت أحدهما عن الآخر بيومين أو نحوهما، وكتب بذلك محضر جماعة من الشهود‏.‏

وفي هذا اليوم احتيط على أربعة من الأمراء وهم أبناء الكامل صلاح الدين محمد، أمير طبلخانات، وغياث الدين محمد أمير عشرة، وعلاء الدين علي، وابن أيبك الطويل طبلخانات أيضاً، وصلاح الدين خليل بن بلبان طرنا طبلخانات أيضاً‏.‏

وذلك بسبب أنهم اتهموا على ممالأة الملك أحمد بن الناصر الذي في الكرك، ومكاتبته، والله أعلم بحالهم، فقيدوا وحملوا إلى القلعة المنصورة من باب اليسر مقابل باب دار السعادة الثلاث الطبلخانات والغياث من بابها الكبير وفرق بينهم في الأماكن‏.‏

وخرج المحمل يوم الخميس خمس عشرة ولبس الخطيب بن الجلال خلعة استقرار الخطابة في هذا اليوم، وركب بها مع القضاة على عادة الخطباء‏.‏

وفي هذا الشهر نصب المنجنيق الكبير على باب الميدان الأخضر وطول أكتافه ثمانية عشر ذراعاً، وطول سهمه سبعة وعشرون ذراعاً، وخرج الناس للفرجة عليه، ورمي به في يوم السبت حجراً زنته ستين رطلاً، فبلغ إلى مقابلة القصر من الميدان الكبير، وذكر معلم المجانيق أنه ليس في حصون الإسلام مثله، وأنه عمله الحاج محمد الصالحي ليكون بالكرك، فقدر الله أنه خرج ليحاصر به الكرك، فالله يحسن العاقبة‏.‏

وفي أواخره أيضاً مسك أربعة أمراء، وهم أقبغا عبد الواحد الذي كان مباشراً الاستدارية للملك الناصر الكبير، فصودر في أيام ابنه المنصور، وأخرج إلى الشام فناب بحمص فسار سيرة غير مرضية، وذمه الناس وعزل عنها وأعطي تقدمة ألف بدمشق، وجعل رأس الميمنة، فلما كان في هذه الأيام اتهم بممالأة السلطان أحمد بن الناصر الذي بالكرك، فمسك وحمل إلى القلعة ومعه الأمير سيف الدين بلو، والأمير سيف الدين سلامش، وكلهم بطبلخانات فرفعوا إلى القلعة المنصورة، فالله يحسن العاقبة‏.‏

وفي هذا الشهر خرج قضاء حمص عن نيابة دمشق بمرسوم سلطاني مجدد للقاضي شهاب الدين البارزي، وذلك بعد مناقشة كثيرة وقعت بينه وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وانتصر له بعض الدولة، واستخرج له المرسوم المذكور‏.‏

وفيه أيضاً أفرد قضاء القدس الشريف أيضاً باسم القاضي شمس الدين بن سالم الذي كان مباشرها مدة طويلة قبل ذلك نيابة، ثم عزل عنها وبقي مقيماً ببلده غزة، ثم أعيد إليها مستقلاً بها في هذا الوقت‏.‏

وفي هذا الشهر رجع القاضي شهاب الدين بن فضل الله من الديار المصرية ومعه توقيع بالمرتب الذي كان له أولاً كل شهر ألف درهم، وأقام بعمارته التي أنشأها بسفح قاسيون شرقي الصالحية بقرب حمام النحاس‏.‏

وفي صبيحة مستهل ذي القعدة خرج المنجنيق قاصداً إلى الكرك على الجمال والعجل، وصحبته الأمير صارم الدين إبراهيم المسبقي، أمير حاجب، كان في الدولة السكرية، هو المقدم عليه يحوطه ويحفظه ويتولى تسييره بطلبه وأصحابه، وتجهز الجيش للذهاب إلى الكرك، وتأهبوا أتم الجهاز، وبرزت أثقالهم إلى ظاهر البلد وضربت الخيام فالله يحسن العاقبة‏.‏

وفي يوم الاثنين رابعه توفي الطواشي شبل الدولة كافور السكري، ودفن صبيحة يوم الثلاثاء خامسه في تربته التي أنشأها قديماً ظاهر باب الجابية تجاه تربة الطواشي ظهير الدين الخازن بالقلعة، كان قبيل مسجد الدبان رحمه الله، وكان قديماً للصاحب تقي الدين توبة التكريتي، ثم اشتراه تنكز بعد مدة طويلة من ابني أخيه صلاح الدين وشرف الدين بمبلغ جيد وعوضهما إقطاعاً بزيادة على ما كان بأيديهما‏.‏

وذلك رغبة في أمواله التي حصلها من أبواب السلطنة، وقد تعصب عليه أستاذه تنكز رحمه الله في وقت وصودر وجرت عليه فصول، ثم سلم بعد ذلك، ولما مات ترك أموالاً جزيلة وأوقافاً رحمه الله‏.‏

وخرجت التجريدة يوم الأربعاء سادسه والمقدم عليها الأمير بدر الدين بن الخطير ومعه مقدم آخر وهو الأمير علاء الدين بن قراسنقر‏.‏

وفي يوم السبت سلخ هذا الشهر توفي الشاب الحسن شهاب الدين أحمد بن فرج المؤذن بمئذنة العروس، وكان شهيراً بحسن الصوت ذا حظوة عظيمة عند أهل البلد، وكان رحمه الله كما في النفس وزيادة في حسن الصوت الرخيم المطرب، وليس في القراء ولا في المؤذنين قريب منه ولا من يدانيه في وقته، وكان في آخر وقته على طريقة حسنة، وعمل صالح، وانقطاع عن الناس، وإقبال على شأن نفسه فرحمه الله، وأكرم مثواه، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ ودفن عند أخيه بمقبرة الصوفية‏.‏

وفي يوم الخميس خامس ذي الحجة توفي الشيخ بدر الدين بن نصحان شيخ القراء السبع في البلد الشهير بذلك، وصلّي عليه بالجامع بعد الظهر يومئذ، ودفن بباب الفراديس رحمه الله‏.‏

وفي يوم الأحد تاسعه وهو يوم عرفة حضر الإقراء بتربة أم الصالح عوضاً عن الشيخ بدر الدين بن نصحان القاضي شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي، وحضر عنده جماعة من الفضلاء وبعض القضاة، وكان حضوره بغتة، وكان متمرضاً، فألقى شيئاً من القراءات والإعراب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر غلا السعر جداً وقل الخبز وازدحم الناس على الأفران زحمة عظيمة، وبيع خبز الشعير المخلوط بالزيوان والنقارة، وبلغت الغرارة بمائة وستة وثمانين درهماً، وتقلص السعر جداً حتى بيع الخبز كل رطل بدرهم، وفوق ذلك بيسير، ودونه بحسب طيبه ورداءته، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكثر السؤال وجاع العيال، وضعف كثير من الأسباب والأحوال، ولكن لطف الله عظيم فإن الناس مترقبون مغلاً هائلاً لم يسمع بمثله من مدة سنين عديدة، وقد اقترب أوانه، وشرع كثير من البلاد في حصاد الشعير وبعض القمح مع كثرة الفول وبوادر التوت، فلولا ذلك لكان غير ذلك، ولكن لطف الله بعباده، وهو الحاكم المتصرف الفعال لما يريد لا إله إلا هو‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين الملك الناصر عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين آقسنقر السلاري، وقضاته هم هم المتقدم ذكرهم في العام الماضي، ونائبه بدمشق الأمير سيف الدين تغردمر الحموي، وقضاته هم المتقدم ذكرهم، وكذلك الصاحب والخطيب وناظر الجامع ولخزانة ومشد الأوقاف وولاية المدينة‏.‏

استهلت والجيوش المصرية والشامية محيطة بحصن الكرك محاصرون ويبالغون في أمره، والمنجنيق منصوب وأنواع آلات الحصار كثيرة، وقد رسم بتجريدة من مصر والشام أيضاً تخرج إليها‏.‏

وفي يوم الخميس عاشر صفر دخلت التجريدة من الكرك إلى دمشق واستمرت التجريدة الجديدة على الكرك ألفان من مصر وألفان من الشام، والمنجنيق منقوض موضوع عند الجيش خارج الكرك، والأمور متوقفة على وبرد الحصار بعد رجوع الأحمدي إلى مصر‏.‏

وفي يوم السبت ثاني ربيع الأول توفي السيد الشريف عماد الدين الخشاب بالكوشك في درب السيرجي جوار المدرسة العزية، وصلّي عليه ضحًى بالجامع الأموي، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وكان رجلاً شهماً كثير العبادة والمحبة للسنة وأهلها، ممن واظب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وانتفع به، وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي بعثه إلى صيدنايا مع بعض القسيسين فلوث يده بالعذرة وضرب اللحمة التي يعظمونها هنالك، وأهانها غاية الإهانة لقوة إيمانه وشجاعته رحمه الله وإيانا‏.‏

وفي يوم الخميس سابعه اجتمع الصاحب ومشد الدواوين ووكيل بيت المال، ومشد الأوقاف ومباشرو الجامع ومعهم العمالين بالقول والمعاول، يحفرون إلى جانب السارية عند باب مشهد علي تحت تلك الصخرة التي كانت هناك، وذلك عن قول رجل جاهل، زعم أن هناك مالاً مدفوناً فشاوروا نائب السلطنة فأمرهم بالحفر‏.‏

واجتمع الناس والعامة فأمرهم فأخرجوا وأغلقت أبواب الجامع كلها ليتمكنوا من الحفر، ثم حفروا ثانياً وثالثاً فلم يجدوا شيئاً إلا التراب المحض، واشتهر هذا الحفير في البلد وقصده الناس للنظر إليه والتعجب من أمره، وانفصل الحال على أن حبس هذا الزاعم لهذا المحال، وطم الحفير كما كان‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الأول قدم قاضي حلب ناصر الدين بن الخشاب على البريد مجتازاً إلى دمشق فنزل بالعادلية الكبيرة، وأخبر أنه صلى على المحدث البارع الفاضل الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي المصري يوم الجمعة ثامن هذا الشهر بحلب رحمه الله، ومولده سنة خمس عشرة وسبعمائة، وكان قد أتقن طرفاً جيداً في علم الحديث، وحفظ أسماء الرجال، وجمع وخرج‏.‏

وفي مستهل ربيع الآخر وقع حريق عظيم بسفح قاسيون احترق به سوق الصالحية الذي بالقرب من جامع المظفري، وكانت جملة الدكاكين التي احترقت قريباً من مائة وعشرين دكاناً، ولم ير حريق من زمان أكبر منه ولا أعظم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة سادسه رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مواذن البلد كما يذكر في مواذن الجامع، ففعل ذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشره طلب من القاضي تقي الدين السبكي قاضي قضاة الشافعية أن يقرض ديوان السلطان شيئاً من أموال الغياب التي تحت يده، فامتنع من ذلك امتناعاً كثيراً، فجاء شاد الدواوين وبعض حاشية نائب السلطنة ففتحوا مخزن الأيتام وأخذوا منه خمسين ألف درهم قهراً، ودفعوها إلى بعض العرب عما كان تأخر له في الديوان السلطاني، ووقع أمر كثير لم يعهد مثله‏.‏

وفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العلاّمة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته، مرض قريباً من ثلاثة أشهر بقرحة وحمى سل، ثم تفاقم أمره وأفرط به إسهال، وتزايد ضعفه إلى أن توفي يومئذ قبل أذان العصر‏.‏

فأخبرني والده أن آخر كلامه أن قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين‏.‏

فصلّي عليه يوم الخميس بالجامع المظفري وحضر جنازته قضاة البلد وأعيان الناس من العلماء والأمراء والتجار والعامة، وكانت جنازته حافلة مليحة، عليها ضوء ونور، ودفن بالروضة إلى جانب قبر السيف ابن المجد رحمهما الله تعالى‏.‏

وكان مولده في رجب سنة خمس وسبعمائة فلم يبلغ الأربعين، وحصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظاً جيداً لأسماء الرجال، وطرق الحديث، عارفاً بالجرح والتعديل، بصيراً بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيماً على طريقة السلف، واتباع الكتاب والسنة، مثابراً على فعل الخيرات‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سلخه درّس بمحراب الحنابلة صاحبنا الشيخ الإمام العلاّمة شرف الدين بن القاضي شرف الدين الحنبلي في حلقة الثلاثاء عوضاً عن القاضي تقي الدين بن الحافظ رحمه الله، وحضر عنده القضاء والفضلاء، وكان درساً حسناً أخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏، وخرج إلى مسألة تفضيل بعض الأولاد‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني شهر جمادى الأولى خرجت التجريدة إلى الكرك مقدمان من الأمراء، وهما الأمير شهاب الدين بن صبح، والأمير سيف الدين قلاوون، في أبهة عظيمة وتجمل وجيوش وبقارات، وإزعاج كثيرة‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض، شهد عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة تدل على كفره، وأنه رافضي جلد‏.‏

فمن ذلك تكفير الشيخين رضي الله عنهما، وقذفه أميّ المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد، وإنما كان مرسلاً إلى علي، وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة قبحه الله، وقد فعل‏.‏

وكان والده الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة والشيعة جيداً، وكانت له أسئلة على مذهب أهل الخير، ونظم في ذلك قصيدة أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام بن يتيمة رحمه الله، وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ أن السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه، وصار إلى قول أهل السنة فالله أعلم‏.‏

وأخبرت أن ولده حسناً هذا القبيح كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة‏.‏

وفي ليلة الاثنين خامس شهر رجب وصل بدن الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام كان إلى تربته التي إلى جانب جامعه الذي أنشأه ظاهر باب النصر بدمشق، نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعة ابنته زوجة الناصر عند ولده السلطان الملك الصالح، فأذن في ذلك وأرادوا أن يدفن بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يمكن، فجيء به إلى تربته بدمشق وعملت له الختم وحضر القضاة والأعيان رحمه الله‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان المبارك توفي صاحبنا الأمير صلاح الدين يوسف التكريتي ابن أخي الصاحب تقي الدين بن توبة الوزير، بمنزلة بالقصاعين، كان شاباً من أبناء الأربعين، ذا ذكاء وفطنة وكلام وبصيرة جيدة، وكان كثير المحبة إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، ولأصحابه خصوصاً، ولكل من يراه من أهل العلم عموماً‏.‏ ‏

وكان فيه إيثار وإحسان ومحبة الفقراء والصالحين، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله، وفي يوم السبت الخامس عشر منه جاءت زلزلة بدمشق لم يشعر بها كثير من الناس لخفتها ولله الحمد والمنة، ثم تواترت الأخبار بأنها شعثت في بلاد حلب شيئاً كثيراً من العمران حتى سقط بعض الأبراج بقلعة حلب، وكثير من دورها ومساجدها ومشاهدها وجدرانها، وأما في القلاع حولها فكثير جداً، وذكروا أن مدينة منبج لم يبق منها إلا القليل، وأن عامة السكانين بها هلكوا تحت الردم رحمهم الله‏.‏

وفي أواخر شهر شوال خرجت التجاريد إلى الكرك وهما أميران مقدمان الأمير علاء الدين فراسنقر، والأمير الحاج بيدمر، واشتهر في هذه الأيام أن أمر الكرك قد ضعف وتفاقم عليهم الأمر وضاقت الأرزاق عندهم جداً، ونزل منها جماعات من رؤسائها وخاصية الأمير أحمد بن الناصر مخامرين عليه، فسيروا من الصبح إلى قلاوون وصحبتهم مقدمون من الحلقة إلى الديار المصرية، وأخبروا أن الحواصل عند أحمد قد قلت جداً فالله المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

وفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة توفي القاضي الإمام العلاّمة برهان الدين بن عبد الحق شيخ الحنفية وقاضي القضاة بالديار المصرية مدة طويلة، بعد ابن الحريري‏.‏

ثم عزل وأقام بدمشق ودرّس في أيام تغردمر بالعذراوية لولده القاضي أمين الدين، فذكر بها الدرس يوم الأحد قبل وفاة والده بثلاثة أيام، وكان موت برهان الدين رحمه الله ببستانه من أراضي الأرزة بطريق الصالحية، ودفن من الغد بسفح قاسيون بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وصلّي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته القضاة والأعيان والأكبار رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والديار الشامية وما يتعلق بذلك الملك الصالح بن إسماعيل بن السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون في السنة المتقدمة، ونائبه بمصر الحاج سيف الدين ووزيره المتقدم ذكره، وناظر الخاص القاضي مكين الدين، وناظر الجيوش القاضي علم الدين ابن القطب، والمحتسب المتقدم‏.‏

وشاد الدواوين علم الدين الناصري، وشاد الأوقاف الأمير حسام الدين النجيبي، ووكيل بيت المال القاضي علاء الدين شرنوخ، وناظر الخزانة القاضي تقي الدين بن أبي الطيب، وبقية المباشرين وأنظارهم المتقدم ذكرهم، وكاتب السر القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتب السر، والقاضي أمين الدين بن القلانسي، والقاضي شهاب الدين بن القيسراني، والقاضي شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود والقاضي علاء الدين شرنوخ‏.‏

شهر المحرم أول السبت استهل والحصار واقع بقلعة الكرك، وأما البلد فأخذ واستنيب فيه الأمير سيف الدين قبليه، قدم إليها من الديار المصرية، والتجاريد من الديار المصرية ومن دمشق محيطون بالقلعة، والناصر أحمد بن الناصر ممتنع من التسليم، ومن الإجابة إلى الإنابة‏.‏

ومن الدخول في طاعة أخيه، وقد تفاقمت الأمور وطالت الحروب، وقتل خلق كثير بسبب ذلك، من الجيوش ومن أهل الكرك، وقد توجهت القضية إلى خير إن شاء الله‏.‏

وقبل ذلك بأيام يسيرة هرب من قلعة الكرك الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص الذي كان أسر في أوائل حصار الكرك، وجماعة من مماليك الناصر أحمد، كان اتهمهم بقتل الشهيب أحمد، الذي كان يعتنى به ويحبه، واستبشر الجيوش بنزول أبي بكر من عنده وسلامته من يده‏.‏

وجهز إلى الديار المصرية معظماً، وهذا والمجانيق الثلاثة مسلطة على القلعة من البلد تضرب عليها ليلاً ونهاراً، وتدمر في بنائها من داخل، فإن سورها لا يؤثر فيه شيء بالكلية، ثم ذكر أن الحصار فتر ولكن مع الاحتياط على أن لا يدخل إلى القلعة ميرة ولا شيء مما يستعينون به على المقام فيها، فالله المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر قدم البريد مسرعاً من الكرك فأخبر بفتح القلعة، وأن بابها أحرق، وأن جماعة الأمير أحمد بن الناصر استغاثوا بالأمان، وخرج أحمد مقيداً وسير على البريد إلى الديار المصرية، وذلك يوم الاثنين بعدا لظهر الثالث والعشرين من هذا الشهر، ولله عاقبة الأمور‏.‏

وفي صبيحة يوم الجمعة رابع ربيع الأول دقت البشائر بالقلعة، وزينت البلد عن مرسوم السلطان الملك الصالح سروراً بفتح البلد، واجتماع الكلمة عليه، واستمرت الزينة إلى يوم الاثنين سابعه، فرسم برفعها بعد الظهر فتشوش كثير من العوام، وأرجف بعض الناس بأن أحمد قد ظهر أمره وبايعه الأمراء الذين هم عنده، وليس لذلك حقيقة، ودخلت الأطلاب من الكرك صبيحة يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول بالطبلخانات والجيوش، واشتهر إعدام أحمد بن الناصر‏.‏

وفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول صلّي بالجامع الأموي على الشيخ أمين الدين أبي حيان النحوي، شيخ البلاد المصرية من مدة طويلة، وكانت وفاته بمصر عن تسعين سنة وخمسة أشهر‏.‏

ثم اشتهر في ربيع الآخر قتل السلطان أحمد وحز رأسه وقطع يديه، ودفن جثته بالكرك، وحمل رأسه إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل، وحضر بين يديه في الرابع والعشرين من هذا الشهر، ففرح الناس بذلك، ودخل الشيخ أحمد الزرعي على السلطان الملك الصالح فطلب منه أشياء كثيرة من تبطيل المظالم ومكوسات وإطلاق طبلخانات للأمير ناصر الدين بن بكتاش، وإطلاق أمراء محبوسين بقلعة دمشق وغير ذلك‏.‏

فأجابه إلى جميع ذلك، وكان جملة المراسيم التي أجيب فيها بضع وثلاثين مرسوماً، فلما كان آخر شهر ربيع الآخر قدمت المراسيم التي سألها الشيخ أحمد من الملك الصالح، فأمضيت كلها، أو كثير منها، وأفرج عن صلاح الدين بن الملك الكامل، والأمير سيف الدين بلو، في يوم الخميس سلخ هذا الشهر ثم روجع في كثير منها وتوقف حالها‏.‏

وفي هذا الشهر عملت منارة خارج باب الفرج وفتحت مدرسة كانت داراً قديمة فجعلت مدرسة للحنفية ومسجداً، وعملت طهارة عامة، ومصلى للناس، وكل ذلك منسوب إلى الأمير سيف الدين تقطم الخليلي أمير حاجب كان، وهو الذي جدد الدار المعروفة به اليوم بالقصاعين‏.‏

وفي ليلة الاثنين عاشر جمادى الآخرة توفي صاحبنا المحدث تقي الدين محمد بن صدر الدين سليمان الجعبري زوج بنت الشيخ جمال الدين المزي، والد شرف الدين عبد الله، وجمال الدين إبراهيم وغيرهم‏.‏

وكان فقيهاً بالمدارس، وشاهداً تحت الساعات وغيرها، وعنده فضيلة جيدة في قراءة الحديث وشيء من العربية، وله نظم مستحسن، انقطع يومين وبعض الثالث وتوفي في الليلة المذكورة في وسط الليل، وكنت عنده وقت العشاء الآخرة ليلتئذ، وحدثني وضاحكني، وكان خفيف الروح رحمه الله‏.‏

ثم توفي في بقية ليلته رحمه الله، وكان أشهدني عليه بالتوبة من جميع ما يسخط الله عز وجل، وأنه عازم على ترك الشهود أيضاً رحمه الله، صلّي عليه ظهر يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب الصغير عند أبويه رحمهم الله‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رجب خطب القاضي عماد الدين بن العز الحنفي بجامع تنكز خارج باب النصر عن نزول الشيخ نجم الدين علي بن داود القفجاري له عن ذلك، وأيضاً نائب السلطنة الأمير سيف الدين تغردمر وحضوره عنده في الجامع المذكور يومئذ‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشرين رجب توفي القاضي الإمام العالم جلال الدين أبو العباس أحمد ابن قاضي القضاة حسام الدين الرومي الحنفي، وصلّي عليه بعد صلاة الجمعة بمسجد دمشق، وحضره القضاة والأعيان ودفن بالمدرسة التي أنشأها إلى جانب الزردكاش قريباً في الخاتونية الجوانية، وكان قد ولي قضاء قضاة الحنفية في أيام ولاية أبيه الديار المصرية‏.‏ ‏

وكان مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقدم الشام مع أبيه فأقاموا بها، ثم لما ولي الملك المنصور لاجين ولى أباه قضاء الديار المصرية، وولده هذا قضاء الشام، ثم إنه عزل بعد ذلك واستمر على ثلاث مدراس من خيار مدارس الحنفية ثم حصل له صمم في آخر عمره، وكان ممتعاً بحواسه سواه وقواه، وكان يذاكر في العلم وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان توفي الشيخ نجم الدين علي بن داود القفجاري خطيب جامع تنكز، ومدرّس الظاهرية، وقد نزل عنها قبل وفاته بقليل للقاضي عماد الدين بن العز الحنفي، وصلّي عليه بالجامع المذكور بعد صلاة الظهر يومئذ، وعند باب النصر، وعند جامع جراح ودفن بمقبرة ابن الشيرجي عند والده، وحضره القضاة والأعيان، وكان أستاذاً في النحو وله علوم أخر، لكن كان نهاية في النحو والتصريف‏.‏

وفي هذا اليوم توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الشيخ عبد الله الضرير الزرعي، وصلّي عليه بعد الظهر بالجامع الأموي وبباب النصر وعند مقابر الصوفية، ودفن بها قريباً من الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، وكان كثير التلاوة حسنها وصحيحها، كثير العبادة، يقرئ الناس من دهر طويل ويقوم بهم العشر الأخير من رمضان، في محراب الحنابلة بالجامع الأموي رحمه الله‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان المعظم توفي الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد الورع أبو عمر بن أبي الوليد المالكي إمام محراب الصحابة الذي للمالكية، وصلّي عليه بعد الصلاة وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير، وتأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة، ودفن إلى جانب قبر أبيه وأخيه، إلى جانب قبر أبي الغندلاوي المالكي قريباً من مسجد التاريخ رحمه الله، وولي مكانه في المحراب ولده، وهو طفل صغير، فاستنيب له إلى حين صلاحيته، جبره الله ورحم أباه‏.‏

وفي صبيحة ليلة الثلاثاء سادس رمضان وقع ثلج عظيم لم ير مثله بدمشق من مدة طويلة، وكان الناس محتاجين إلى مطر، فلله الحمد والمنة، وتكاثف الثلج على الأسطحة، وتراكم حتى أعيى الناس أمره ونقلوه عن الأسطحة إلى الأزقة يحمل، ثم نودي بالأمر بإزالته من الطرقات فإنه سدها وتعطلت معايش كثير من الناس، فعوض الله الضعفاء بعملهم في الثلج، ولحق الناس كلفة كبيرة وغرامة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من رمضان صلّي بالجامع الأموي على نائب وهو الأمير علاء الدين الجاولي، وقد تقدم شيء من ترجمته رحمه الله‏.‏

وفي أول شوال يوم عيد الفطر وقع فيه ثلج عظيم بحيث لم يتمكن الخطيب من الوصول إلى المصلّى، ولا خرج نائب السلطنة، بل اجتمع الأمراء والقضاة بدار السعادة، وحضر الخطيب فصلّى بهم العيد بها، وكثير من الناس صلوا العيد في البيوت‏.‏

وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة درّس قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالشامية البرانية عن الشيخ شمس الدين ابن النقيب رحمه الله، وحضر عنده القضاة والأعيان والأمراء وخلق من الفضلاء، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ وما بعدها‏.‏

وفي ذي الحجة استفتي في قتل كلاب البلد فكتب جماعة من أهل البلد في ذلك، فرسم بإخراجهم يوم الجمعة من البلد الخامس والعشرين منه، لكن إلى الخندق ظاهر باب الصغير، وكان الأولى قتلهم بالكلية وإحراقهم لئلا تنتن بريحهم على ما أفتى به الإمام مالك بن أنس من جواز قتل الكلاب ببلدة معينة للمصلحة، إذا رأى الإمام ذلك، ولا يعارض ذلك النهي عن قتل الكلاب، ولهذا كان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين بالديار المصرية والشامية والحرمين والبلاد الحلبية وأعمال ذلك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون أيضاً‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس عشر محرم كملت عمارة الجامع الذي بالمزة الفوقانية الذي جدده وأنشأه الأمير بهاء الدين المرجاني، الذي بنى والده مسجد الخيف بمنى وهو جامع حسن متسع فيه روح وانشراح، تقبل الله من بانيه، وعقدت فيه الجمعة بجمع كثير وجم غفير من أهل المزة، ومن حضر من أهل البلد، وكنت أنا الخطيب - يعني الشيخ عماد الدين المصنف تغمده الله برحمته - ولله الحمد والمنة‏.‏

ووقع كلام وبحث في اشتراط المحلل في المسابقة، وكان سببه أن الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صنف فيه مصنفاً من قبل ذلك، ونصر فيه ما ذهب إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في ذلك‏.‏

ثم صار يفتى به جماعة من الترك ولا يعزوه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فاعتقد من اعتقد أنه قوله وهو مخالف للأئمة الأربعة، فحصل عليه إنكار في ذلك، وطلبه القاضي الشافعي، وحصل كلام في ذلك، وانفصل الحال على أن أظهر الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية الموافقة للجمهور‏.‏

 وفاة الملك الصالح إسماعيل

في يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر من هذه السنة أظهر موت السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر بن المنصور آخر النهار، وكان قد عهد بالأمر إلى أخيه لأبويه الملك الكامل سيف الدين أبي الفتوح شعبان، فجلس على سرير المملكة يوم الخميس رابعه، وكان يوماً مشهوداً، ثم قدم الخبر إلى دمشق عشية الخميس ليلة الجمعة الثاني عشر منه‏.‏

وكان البريد قد انقطع عن الشام نحو عشرين يوماً للشغل بمرض السلطان، فقدم الأمير سيف الدين معزا للبيعة للملك الكامل، فركب عليه الجيش لتلقيه، فلما كان صبيحة الجمعة أخذت البيعة من النائب والمقدمين وبقية الأمراء والجند للسلطان الملك الكامل بدار السعادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب الخطباء يومئذ للملك الكامل، جعله الله وجهاً مباركاً على المسلمين‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الآخر درّس القاضي جمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالمدرسة الشامية البرانية، نزل له أبوه عنها، واستخرج له مرسوماً سلطانياً بذلك، فحضر عنده القضاة والأعيان وجماعة من الأمراء والفقهاء، وجلس بين أبيه والقاضي الحنفي، وأخذ في الدرس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الآيات ‏[‏النمل‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وتكلم الشريف مجد الدين المتكلم في الدرس بكلام فيه نكارة وبشاعة، فشنع عليه الحاضرون، فاستنيب بعد انقضاء الدرس وحكم بإسلامه، وقد طلب إلى الديار المصرية نائب دمشق الأمير سيف الدين تغردمر وهو متمرض، انقطع عن الجمعة بسبب المرض مرات، والبريد يذهب إلى حلب لمجيء نائبها الأمير سيف الدين يلبغا لنيابة دمشق، وذكر أن الحاج أرقطيه تعين لنيابة حلب‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى خرجت أثقال الأمير سيف الدين تغردمر النائب وخيوله وهجنه ومواليه وحواصله وطبلخاناته وأولاده في تجمل عظيم، وأبهة هائلة جداً، وخرجت المحافل والكحارات والمحفات لنسائه وبناته وأهله في هيبة عجيبة، هذا كله وهو بدار السعادة‏.‏

فلما كان من وقت السحر في يوم السبت خامسه خرج الأمير سيف الدين تغردمر بنفسه إلى الكسوة في محفة لمرضه مصحوباً بالسلامة، فلما طلعت الشمس من يومئذ قدم من حلب أستاذ دار الأمير سيف الدين يلبغا البحتاوي فتسلم دار السعادة، وفرح الناس بهم، وذهب الناس للتهنئة والتودد إليهم‏.‏ ‏

ولما كان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى خرج الجيش بكماله لتلقي نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا فدخل في تجمل عظيم، ثم جاء فنزل عند باب السر، وقبل العتبه على العادة ثم مشى إلى دار السعادة‏.‏

وفي عشية يوم الاثنين رابع عشرة قطع نائب السلطنة ممن وجب قطعه في الحبس ثلاثة عشر رجلاً وأضاف إلى قطع اليد قطع الرجل من كل منهم، لما بلغه أنه تكرر من جناياتهم، وصلب ثلاثة بالمسامير ممن وجب قتله، ففرح الناس بذلك لقمعه المفسدين وأهل الشرور، والعيث والفساد‏.‏

واشتهر في العشر الأوسط من جمادى الآخرة وفاة الأمير سيف الدين تغردمر بعد وصلوه إلى الديار المصرية بأيام، وكان ذلك ليلة الخميس مستهل هذا الشهر، وذكر أنه رسم على ولده وأستاذ داره، وطلب منهم مال جزيل، فالله أعلم‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشره توفي القاضي علاء الدين بن العز الحنفي نائب الحكم ببستانه بالصالحية ودفن بها، وذلك بعد عود المدرسة الظاهرية إليه، وأخذه إياها من عمه القاضي عماد الدين إسماعيل، كما قدمنا، ولم يدرس فيها إلا يوماً واحداً، وهو متمرض، ثم عاد إلى الصالحية فتمادى به مرضه إلى أن مات رحمه الله‏.‏

وخرج الركب إلى الحجاز الشريف يوم السبت حادي عشر شوال، وخرج ناس كثير من البلد، ووقع مطر عظيم جداً، ففرح الناس به من جهة أن المطر كان قليلاً جداً في شهر رمضان، وهو كانون الأصم، فلما وقع هذا استبشروا به وخافوا على الحجاج ضرره، ثم تداول المطر وتتابع ولله الحمد والمنة، لكن ترحل الحجاج في أوحال كثيرة وزلق كثير، والله المسلم والمعين والحامي‏.‏

ولما استقل الحجيج ذاهبين وقع عليهم مطر شديد بين الصمين فعوقهم أياماً بها، ثم تحاملوا إلى زرع فلم يصلوها إلا بعد جهد جهيد وأمر شديد، ورجع كثير منهم وأكثرهم، وذكروا أشياء عظيمة حصلت لهم من الشدة وقوة الأمطار وكثرة الأوحال، ومنهم من كان تقدم إلى أرض بصرى، فحصل لهم رفق بذلك والله المستعان‏.‏

وقيل إن نساء كثيرة من المخدرات مشين حفاة فيما بين زرع والصميين وبعد ذلك، وكان أمير الحاج سيف الدين ملك آص وقاضيه شهاب الدين بن الشجرة الحاكم بمدينة بعلبك يومئذ والله المستعان، انتهى‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وليس له بمصر نائب، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائب دمشق الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

إلا أن قاضي القضاة عماد الدين بن إسماعيل الحنفي نزل عن القضاء لولده قاضي القضاة نجم الدين، واستقل بالولاية وتدريس النورية، وبقي والده على تدريس الريحانية‏.‏ ‏‏

وفي يوم الجمعة السادس عشر من المحرم من هذه السنة توفي الشيخ تقي الدين الشيخ الصالح محمد بن الشيخ محمد بن قوام بزاويتهم بالسفح، وصُلّي عليه الجمعة بجامع الأفرم، ثم دفن بالزاوية وحضره القضاة والأعيان وخلق كثير، وكان بينه وبين أخيه ستة أشهر وعشرون يوماً، وهذا أشد من ذلك‏.‏

وفتحت في أول السنة القيسارية التي أنشأها الأمير سيف الدين يلبغا نائب السلطنة ظاهر باب الفرج وضمنت ضماناً باهراً بنحو من سبعة آلاف كل شهر، وداخلها قيسارية تجارة في وسطها بركة ومسجد، وظاهرها دكاكين وأعاليها بيوت للسكن‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول‏:‏ عقد مجلس بمشهد عثمان للنور الخراساني، وكان يقرأ القرآن في جامع تنكز، ويعلم الناس أشياء من فرائض الوضوء والصلاة، ادُّعي عليه فيه أنه تكلم في بعض الأئمة الأربعة، وأنه تكلم في شيء من العقائد ويطلق عبارات زائدة على ما ورد به الحديث، وشهد عليه ببعض أشياء متعددة، فاقتضى الحال أن عزّر في هذا اليوم، وطيف به في البلد، ثم رد إلى السجن معتقلاً‏.‏

فلما كان يوم الخميس الثاني عشرين منه شفع فيه الأمير أحمد بن مهنا ملك العرب عند نائب السلطنة فاستحضره بين يديه وأطلقه إلى أهله وعياله‏.‏

ولما كان تاريخ يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى صلّى نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي الناصري بجامع تنكز ظاهر دمشق برا باب النصر، وصلّى عنده القاضي الشافعي والمالكي وكبار الأمراء‏.‏

ولما أقيمت الصلاة صلّى وقعد بعض ممالكيه عن الصلاة ومعه السلاح حراسة له، ثم لما انصرف من الصلاة اجتمع بالأمراء المذكورين وتشاوروا طويلاً، ثم نهض النائب إلى دار السعادة‏.‏

فلما كان آخر النهار برز بخدمه ومماليكه وحشمه ووطاقه وسلاحه وحواصله، ونزل قبلي مسجد القدم وخرج الجند والأمراء في آخر النهار وانزعج الناس، واتفق طلوع القمر خاسفاً‏.‏

ثم خرج الجيش ملبساً تحت الثياب وعليه التراكيس بالنشاب والخيول والجنابات، ولا يدري الناس ما الخبر، وكان سبب ذلك أن نائب السلطنة بلغه أن نائب صفد قد ركب إليه ليقبض عليه، فانزعج لذلك وقال‏:‏ لا أموت إلا على ظهر أفراسي، لا على فراشي‏.‏

وخرج الجند والأمراء خوفاً من أن يفوتهم بالفرار، فنزلوا يمنة ويسرة، فلم يذهب من تلك المنزلة بل استمر بها يعمل النيابة ويجتمع بالأمراء جماعة وفرادى، ويستميلهم إلى ما هو فيه من الرأي، وهو خلع الملك الكامل شعبان لأنه يكثر من مسك الأمراء بغير سبب، ويفعل أفعالاً لا تليق بمثله‏.‏

وذكروا أموراً كثيرة، وأن يولوا أخاه أمير حاجبي بن الناصر لحسن شكالته وجميل فعله، ولم يزل يفتلهم في الذروة والغارب حتى أجابوه إلى ذلك، ووافقوه عليه، وسلموا له ما يدعيه، وتابعوا على ما أشار إليه وبايعوه‏.‏

ثم شرع في البعث إلى نواب البلاد يستميلهم إلى ما مالأ عليه الدمشقيون وكثير من المصريين‏.‏

وشرع أيضاً في التصرف في الأمور العامة الكلية، وأخرج بعض من كان الملك الكامل اعتقله بالقلعة المنصورة، ورد إليه إقطاعه بعد ما بعث الملك الكامل إلى من أقلعه منشورة، وعزل وولىّ وأخذ وأعطى‏.‏

وطلب التجار يوم الأربعاء ثامن عشرة ليباع عليهم غلال الحواصل السلطانية فيدفعوا أثمانها في الحال، ثم يذهبوا فيتسلموها من البلاد البرانية، وحضر عنده القضاة على العادة والأمراء والسادة، وهذا كله وهو مخيم بالمكان المذكور، لا يحصره بلد ولا يحويه سور‏.‏

وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة خرجت تجريدة نحو عشرة طليعة لتلقي من يقدم من الديار المصرية من الأمراء وغيرهم، ببقاء الأمر على ما كان عليه، فلم يصدقهم النائب، وربما عاقب بعضهم، ثم رفعهم إلى القلعة، وأهل دمشق ما بين مصدق باختلاف المصريين وما بين قائل السلطان الكامل قائم الصورة مستمر على ما كان عليه، والتجاريد المصرية واصلة قريباً، ولا بد من وقوع خبطة عظيمة‏.‏

وتشوشت أذهان الناس وأحوالهم بسبب ذلك، والله المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

وحاصل القضية أن العامة ما بين تصديق وتكذيب، ونائب السلطنة وخواصه من كبار الأمراء على ثقة من أنفسهم، وأن الأمراء على خلاف شديد في الديار المصرية بين السلطان الكامل شعبان وبين أخيه أمير حاجي، والجمهور مع أخيه أمير حاجي‏.‏

ثم جاءت الأخبار إلى النائب بأن التجاريد المصرية خرجت تقصد الشام ومن فيه من الجند لتوطد الأمر، ثم إنه تراجعت رؤوس الأمراء في الليل إلى مصر واجتمعوا إلى إخوانهم ممن هو ممالىء لهم على السلطان، فاجتمعوا ودعوا إلى سلطنة أمير حاجي وضربت الطبلخانات وصارت باقي النفوس متجاهرة على نية تأييده، ونابذوا السلطان الكامل، وعدّوا عليه مساويه، وقتل بعض الأمراء، وفر الكامل وأنصاره فاحتيط عليه‏.‏ ‏

وخرج أرغون العلائي زوج ابنته واستظهر أيضاً أمير حاجي فأجلسوه على السرير ولقبوه بالملك المظفر، وجاءت الأخبار إلى النائب بذلك، فضربت البشائر عنده، وبعث إلى نائب القلعة فامتنع من ضربها‏.‏

وكان قد طلب إلى الوطاق فامتنع من الحضور، وأغلق باب القلعة، فانزعج الناس واختبط البلد، وتقلص وجود الخير، وحصنت القلعة ودعوا للكامل بكرة وعشية على العادة، وأرجف العامة بالجيش على عادتهم في كثرة فصولهم، فحصل لبعضهم أذية‏.‏

فلما كان يوم الاثنين ثامن الشهر قدم نائب حماه إلى دمشق مطيعاً لنائب السلطنة في تجمل وأبهة، ثم أجريت له عادة أمثاله‏.‏

وفي هذا اليوم‏:‏ وقعت بطاقة بقدوم الأمير سيف الدين بيغرا حاجب الحجاب بالديار المصرية لأجل البيعة للسلطان الملك المظفر، فدقت البشائر بالوطاق، وأمر بتزيين البلد، فزين الناس وليسوا منشرحين، وأكثرهم يظن أن هذا مكر وخديعة، وأن التجاريد المصرية واصلة قريباً‏.‏

وامتنع نائب القلعة من دق البشائر وبالغ في تحصين القلعة، وغلق بابها، فلا يفتح إلا الخوخة البرانية والجوانية، وهذا الصنيع هو الذي يشوش خواطر العامة، يقولون‏:‏ لو كان ثم شيء له صحة كان نائب القلعة يطلع على هذا قبل الوطاق‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء بعد الزوال، قدم الأمير سيف الدين بيغرا إلى الوطاق، وقد تلقوه وعظموه، ومعه تقليد النيابة من المظفر إلى الأمير سيف الدين يلبغا نائب السلطنة، وكتاب إلى الأمراء بالسلام‏.‏

ففرحوا بذلك وبايعوه وانضمت الكلمة ولله الحمد‏.‏

وركب بيغرا إلى القلعة فترجل وسل سيفه ودخل إلى نائب القلعة فبايعه سريعاً، ودقت البشائر في القلعة بعد المغرب، حين بلغه الخبر، وطابت أنفس الناس، ثم أصبحت القلعة في الزينة وزادت الزينة في البلد وفرح الناس‏.‏

فلما كان يوم الخميس حادي عشر الشهر دخل نائب السلطنة من الوطاق إلى البلد والأطلاب بين يديه في تجمل وطبلخانات على عادة العرض، وقد خرج أهل البلد إلى الفرجة، وخرج أهل الذمة بالتوراة، وأشعلت الشموع، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وقد صلى في شهر رمضان من هذه السنة بالشامية البرانية صبي عمره ست سنين، وقد رأيته وامتحنته فإذا هو يجيد الحفظ والأداء، وهذا من أغرب ما يكون‏.‏

وفي العشر الأول من هذا الشهر فرغ من بناء الحمامين الذي بناهما نائب السلطنة بالقرب من الثابتية في خان السلطان العتيق، وما حولها من الرباع والقرب وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الأحد حادي عشره اجتمع نائب السلطنة والقضاة الأربعة ووكيل بيت المال والدولة عند تل المستقين، من أجل أن نائب السلطنة قد عزم على بناء هذه البقعة جامعاً بقدر جامع تنكز‏.‏

فاشتوروا هنالك، ثم انفصل الحال على أن يعمل والله ولي التوفيق‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة صلّي على الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن تيمية، أخو الشيخ تقي الدين رحمهما الله تعالى‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشرة توفي الشيخ علي القطناني بقطنا، وكان قد اشتهر أمره في هذه السنين، واتبعه جماعة من الفلاحين والشباب المنتمين إلى طريقة أحمد ابن الرفاعي، وعظم أمره وسار ذكره، وقصده الأكابر للزيارة مرات‏.‏

وكان يقيم السماعات على عادة أمثاله، وله أصحاب يظهرون إشارة باطلة، وأحوالاً مفتعلة، وهذا مما كان ينقم عليه بسببه، فإنه إن لم يكن يعلم بحالهم فجاهل، وإن كان يقرهم على ذلك فهو مثلهم، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر - أعني ذي الحجة من العيد وما بعده - اهتم ملك الأمراء في بناء الجامع الذي بناه تحت القلعة وكان تل المستقين، وهدم ما كان هناك من أبنية، وعملت العجل وأخذت أحجار كثيرة من أرجاء البلد‏.‏

وأكثر ما أخذت الأحجار من الرحبة التي للمصريين، من تحت المئذنة التي في رأس عقبة الكتاب، وتيسر منها أحجار كثيرة، والأحجار أيضاً من جبل قاسيون وحمل على الجمال وغيرها‏.‏

وكان سلخ هذه السنة - أعني سنة سبع وأربعين وسبعمائة - قد بلغت غرارة القمح إلى مائتين فما دونها، وربما بيعت بأكثر من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك المظفر أمير حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين أرقطية، وقضاة مصر هم الذين كانوا في الماضية بأعيانهم، ونائبه بالشام المحروسة سيف الدين يلبغا الناصري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها بأعيانهم، غير أن القاضي عماد الدين الحنفي نزل لولده قاضي القضاة نجم الدين، فباشر في حياة أبيه، وحاجب الحجاب فخر الدين إياس‏.‏

واستهلت هذه السنة ونائب السلطنة في همة عالية في عمارة الجامع الذي قد شرع في بنائه غربي سوق الخيل، بالمكان الذي كان يعرف بالتل المستقين‏.‏

وفي ثالث المحرم توفي قاضي القضاة شرف الدين محمد بن أبي بكر الهمداني المالكي، وصلّي عليه بالجامع، ودفن بتربته بميدان الحصا، وتأسف الناس عليه لرياسته وديانته وأخلاقه وإحسانه إلى كثير من الناس رحمه الله‏.‏

وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من المحرم وصل تقليد قضاء المالكية للقاضي جمال الدين المسلاتي الذي كان نائباً للقاضي شرف الدين قبله، وخلع عليه من آخر النهار‏.‏

وفي شهر ربيع الأول أخذوا لبناء الجامع المجدد بسوق الخيل، أعمدة كثيرة من البلد، فظاهر البلد يعلقون ما فوقه من البناء ثم يأخذونه ويقيمون بدله دعامة، وأخذوا من درب الصيقل وأخذوا العمود الذي كان بسوق العلبيين الذي في تلك الدخلة على رأسه مثل الكرة فيها حديد‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر‏:‏ أنه كان فيه طلسم لعسر بول الحيوان إذا داروا بالدابة ينحل أراقيها‏.‏

فلما كان يوم الأحد السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة قلعوه، من موضعه بعد ما كان له في هذا الموضع نحواً من أربعة آلاف سنة والله أعلم‏.‏

وقد رأيته في هذا اليوم وهو ممدود في سوق العلبيين على الأخشاب ليجروه إلى الجامع المذكور من السوق الكبير، ويخرجوا به من باب الجابية الكبير، فلا إله إلا الله‏.‏

وفي أواخر شهر ربيع الأخر ارتفع بناء الجامع الذي أنشأه النائب وجفت العين التي كانت تحت جداره حين أسسوه ولله الحمد‏.‏

وفي سلخ ربيع الآخر وردت الأخبار من الديار المصرية بمسك جماعة من أعيان الأمراء كالحجازي وآقسنقر الناصري، ومن لف لفهما، فتحرك الجند بالشام ووقعت خبطة، ثم استهل شهر جمادى الأولى والجند في حركة شديدة، ونائب السلطنة يستدعي الأمراء إلى دار السعادة بسبب ما وقع بالديار المصرية، وتعاهد هؤلاء على أن لا يؤذي أحد، وأن يكونوا يداً واحدة‏.‏

وفي هذا اليوم تحول ملك الأمراء من دار السعادة إلى القصر الأبلق واحترز لنفسه، وكذلك حاشيته‏.‏

وفي يوم الأربعاء الرابع عشر منه قدم أمير من الديار المصرية على البريد ومعه كتاب من السلطان فيه التصريح بعزل ملك الأمراء يلبغا نائب الشام، فقرئ عليه بحضرة الأمراء بالقصر الأبلق، فتغمم لذلك وساءه‏.‏

وفيه طلبه إلى الديار المصرية على البريد ليوليّ نيابة الديار المصرية، والظاهر أن ذلك خديعة له، فأظهر الامتناع، وأنه لا يذهب إلى الديار المصرية أبداً، وقال‏:‏ إن كان السلطان قد استكثر عليّ ولاية دمشق فيوليني أي البلاد شاء، فأنا راضٍ بها‏.‏

ورد الجواب بذلك، ولما أصبح من الغد وهو يوم الخميس وهو خامس عشره، ركب فخيم قريباً من الجسورة في الموضع الذي خيم فيه عام أول‏.‏

وفي الشهر أيضاً كما تقدم، فبات ليلة الجمعة وأمر الأمراء بنصب الخيام هنالك على عادتهم عام أول‏.‏

فلما كان يوم الجمعة سادس عشره بعد الصلاة ما شعر الناس إلا والأمراء، قد اجتمعوا تحت القلعة وأحضروا من القلعة سنجقين سلطانيين أصفرين، وضربوا الطبول حربياً، فاجتمعوا كلهم تحت السنجق السلطاني، ولم يتأخر منهم سوى النائب وذويه كابنيه وإخوته وحاشيته، والأمير سيف الدين قلاوون أحد مقدمي الألوف وخبره أكبر أخبار الأمراء بعد النيابة‏.‏

فبعث إليه الأمراء أن هلم إلى السمع والطاعة للسلطان، فامتنع من ذلك وتكررت الرسل بينهم وبينه فلم يقبل، فساروا إليه في الطبلخانات والبوقات ملبسين لأمة الحرب‏.‏

فلما انتهوا إليه وجدوه قد ركب خيوله ملبساً واستعد للهرب، فلما واجههم هرب هو ومن معه وفروا فرار رجل واحد، وساق الجند وراءه فلم يكتنفوا له غباراً، وأقبل العامة وتركمان القبيبات، فانتهبوا ما بقي في معسكره من الشعير والأغنام والخيام، حتى جعلوا يقطعون الخيام والأطناب قطعاً قطعاً، فعدم له ولأصحابه من الأمتعة ما يساوي ألف ألف درهم، وانتدب لطلبه والمسير وراءه الحاجب الكبير الذي قدم من الديار المصرية قريباً شهاب الدين بن صبح، أحد مقدمي الألوف فسار على طريق الأشرفية ثم عدل إلى ناحية القريتين‏.‏

ولما كان يوم الأحد، قدم الأمير فخر الدين إياس نائب صفد فيها فتلقاه الأمراء والمقدمون، ثم جاء فنزل القصر وركب من آخر النهار في الجحافل، ولم يترك أحداً من الجند بدمشق إلا ركب معه وساق وراء يلبغا فانبرا نحو البرية‏.‏

فجعلت الأعراب يعترضونه من كل جانب، وما زالوا يكفونه حتى سار نحو حماه، فخرج نائبها وقد ضعف أمره جداً، هو وكل ومن معه من كثرة السوق ومصاولة الأعداء من كل جانب، فأُلقيَ بيده وأخذ سيفه وسيوف من معه واعتقلوا بحماه، وبعث بالسيوف إلى الديار المصرية‏.‏

وجاء الخبر إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء رابع عشر هذا الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وعلى باب الميادين على العادة، وأحدقت العساكر بحماه من كل جانب ينتظرون ما رسم به السلطان من شأنه، وقام إياس بجيش دمشق على حمص، وكذلك جيش طرابلس، ثم دخلت العساكر راجعة إلى دمشق يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر‏.‏

وقدم يلبغا وهو مقيد على كديش هو وأبوه وحوله الأمراء الموكلون به ومن معه من الجنود، فدخلوا به بعد عشاء الآخرة فاجتازوا به فم السبعة بعد ما غلقت الأسواق، وطفئت السرج، وغلقت الطاقات، ثم مروا على الشيخ رسلان والباب الشرقي على باب الصغير، ثم من عند مسجد الديان على المصلّى، واستمروا ذاهبين نحو الديار المصرية‏.‏

وتواترت البريدية من السلطان بما رسم به في أمره وأصحابه الذين خرجوا معه من الاحتياط على حواصلهم وأموالهم وأملاكهم وغير ذلك‏.

وقدم البريد من الديار المصرية يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة، فأخبر بقتل يلبغا فيما بين قاقون وغبرة، وأخذت رؤوسهما إلى السلطان وكذلك قتل بغبرة الأمراء الثلاثة الذين خرجوا من مصر وحاكم الوزير ابن سرد ابن البغدادي، والدوادار طغيتمر وبيدمر البدري، أحد المقدمين، كان قد نقم عليه السلطان ممالأة يلبغا، فأخرجهم من مصر مسلوبين جميع أموالهم وسيرهم إلى الشام‏.‏

فلما كانوا بغزة لحقهم البريد بقتلهم حيث وجدهم، وكذلك رسم بقتل يلبغا حيث التقاه من الطريق، فلما انفصل البريد من غزة التقى يلبغا في طريق وادي فحمة فخنقه ثم احتز رأسه وذهب به إلى السلطان‏.‏

وقدم أميران من الديار المصرية بالحوطة على حوصال يلبغا وطواشي من بيت المملكة، فتسلم مصاغاً وجواهر نفيسة جداً، ورسم ببيع أملاكه وما كان وقفه على الجامع الذي كان قد شرع بعمارته بسوق الخيل، وكان قد اشتهر أنه وقف عليه القيسارية التي كان أنشأها ظاهر باب الفرج، والحمامين المتجاورين ظاهر باب الجابية غربي خان السلطان العتيق، وخصصا في قرايا أخرى كان قد استشهد على نفسه بذلك قبل ذلك فالله أعلم‏.‏

ثم طلب بقية أصحابه من حماه فحملوا إلى الديار المصرية وعدم خبرهم، فلا يدري على أي صفة هلكوا‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة دخل الأمير سيف الدين أرغون شاه دمشق المحروسة نائباً عليها، وكان قدومه من حلب، انفصل عنها وتوجه إليها الأمير فخر الدين إياس الحاجب، فدخلها أرغون شاه في أبهة وعليه خلعة وعمامة بطرفين، وهو قريب الشكل

من تنكز رحمه الله فنزل دار السعادة وحكم بها، وفيه صرامة وشهامة‏.‏

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين منه صلّي على الأمير قراسنقر بالجامع الأموي وظاهر باب النصر، وحضر القضاة والأعيان والأمراء، ودفن بتربته بميدان الحصا بالقرب من جامع الكريمي‏.‏

وعملت ليلة النصف على العادة من إشعال القناديل ولم يشعل الناس لما هم فيه من الغلاء وتأخر المطر وقلة الغلة، كل رطل إلا وقية بدرهم، وهو متغير، وسائر الأشياء غالية‏.‏ والزيت كل رطل بأربعة ونصف، ومثله الشيرج والصابون والأرز والعنبريس كل رطل بثلاثة، وسائر الأطعمات على هذا النحو، وليس شيء قريب الحال سوى اللحم بدرهمين وربع، ونحو ذلك‏.‏

وغالب أهل حوران يردون من الأماكن البعيدة ويجلبون القمح للمؤنة والبدار من دمشق، وبيع عندهم القمح المغربل كل مد بأربعة دراهم، وهم في جهد شديد، والله هو المأمول المسئول‏.‏

وإذا سافر أحد يشق عليه تحصيل الماء لنفسه ولفرسه ودابته، لأن المياه التي في الدرب كلها نفذت، وأما القدس فأشد حالاً وأبلغ في ذلك‏.‏

ولما كان العشر الأخير من شعبان من هذه السنة منّ الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على عباده بإرسال الغيث المتدارك الذي أحيى العباد والبلاد، وتراجع الناس إلى أوطانهم لوجود الماء في الأودية والغدران، وامتلأت بركة زرع بعد أن لم يكن فيها قطرة‏.‏

وجاءت بذلك البشائر إلى نائب السلطنة، وذكر أن الماء عم البلاد كلها، وأن الثلج على جبل بني هلال كثير، وأما الجبال التي حول دمشق فعليها ثلوج كثيرة جداً، واطمأنت القلوب وحصل فرج شديد ولله الحمد والمنة، وذلك في آخر يوم بقي من تشرين الثاني‏.‏

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رمضان توفي الشيخ عز الدين محمد الحنبلي بالصالحية، وهو خطيب الجامع المظفري، وكان من الصالحين المشهورين رحمه الله، وكان كثيراً ما يلقن الأموات بعد دفنهم، فلقنه الله حجته وثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏.‏

 مقتل المظفر وتولية الناصر حسن بن الناصر

وفي العشر الأخير من رمضان جاء البريد من نائب غزة إلى نائب دمشق بقتل السلطان الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد، وقع بينه وبين الأمراء فتحيزوا عنه إلى قبة النصر فخرج إليهم في طائفة قليلة فقتل في الحال وسحب إلى مقبرة هناك، ويقال‏:‏ قطع قطعاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما كان يوم الجمعة آخر النهار ورد من الديار المصرية أمير للبيعة لأخيه السلطان الناصر حسن بن السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فدقت البشائر في القلعة المنصورة، وزين البلد بكماله ولله الحمد في السعة الراهنة من أمكن من الناس، وما أصبح صباح يوم السبت إلا زين البلد بكماله ولله الحمد على انتظام الكلمة، واجتماع الألفة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال قدم الأمير فخر الدين إياس نائب حلب محتاطاً عليه، فاجتمع بالنائب في دار السعادة، ثم أُدخل القلعة مضيقاً عليه، ويقال‏:‏ إنه قد فوض أمره إلى نائب دمشق، فمهما فعل فيه فقد أمضى له، فأقام بالقلعة المنصورة نحواً من جمعة، ثم أركب على البريد ليسار به إلى الديار المصرية، فلم يدر ما فعل به‏.‏

وفي ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، توفي الشيخ الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام وشيخ المحدثين شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي بتربة أم الصالح، وصلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودفن بباب الصغير، وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله‏.‏

وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة حضرت تربة أم الصالح رحم الله واقفها عوضاً عن الشيخ شمس الدين الذهبي، وحضر جماعة من أعيان الفقهاء وبعض القضاة، وكان درساً مشهوداً ولله الحمد والمنة‏.‏

أوردت فيه حديث أحمد‏:‏ عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إنما نسمة المؤمن طائر معلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره أمر نائب السلطنة بجماعة انتهبوا شيئاً من الباعة فقطعوا أحد عشر منهم، وسمر عشرة تسميراً تعزيراً وتأديباً انتهى والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة

استهلت وسلطان البلاد المصرية والشامية الملك الناصر ناصر الدين حسن بن الملك المنصور ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا، ووزيره منجك، وقضاته عز الدين بن جماعة الشافعي وتقي الدين الأخنائي المالكي، وعلاء الدين بن التركماني الحنفي، وموفق الدين المقدسي الحنبلي‏.‏

وكاتب سره القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله العمري، ونائب الشام المحروس بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وحاجب الحجاب الأمير طيردمر الإسماعيلي، والقضاة بدمشق قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، وقاضي القضاة نجم الدين الحنفي، وقاضي القضاة جلال الدين المسلاتي المالكي، وقاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي‏.‏

وكاتب سره القاضي ناصر الدين الحلبي الشافعي، وهو قاضي العساكر بحلب، ومدّرس الأسدية بها أيضاً، مع إقامته بدمشق المحروسة، وتواترت الأخبار بوقوع البلاء في أطراف البلاد، فذكر عن بلاد القرم أمر هائل وموتان فيهم كثير‏.‏

ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الفرنج حتى قيل‏:‏ إن أهل قبرص مات أكثرهم أو يقارب ذلك‏.‏

وكذلك وقع بغزة أمر عظيم، وقد جاءت مطالعة نائب غزة إلى نائب دمشق أنه مات من يوم عاشوراء إلى مثله من شهر صفر نحو من بضعة عشر ألفاً، وقرئ البخاري في يوم الجمعة بعد الصلاة سابع ربيع الأول في هذه السنة، وحضر القضاة وجماعة من الناس، وقر أربعة بعد ذلك المقرؤن، ودعا الناس برفع الوباء عن البلاد‏.‏

وذلك أن الناس لما بلغهم من حلول هذا المرض في السواحل، وغيرها من أرجاء البلاد يتوهمون ويخافون وقوعه بمدينة دمشق، حماها الله وسلمها مع أنه قد مات جماعة من أهلها بهذا الداء‏.‏ ‏

وفي صبحية يوم تاسعه‏:‏ اجتمع الناس بمحراب الصحابة وقرأوا متوزعين سورة نوح ثلاثة آلاف مرة وثلاثمائة وثلاثة وستين مرة، عن رؤيا رجل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشده إلى قراءة ذلك كذلك‏.‏

وفي هذا الشهر أيضاً‏:‏ كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين وزاد الأموات كل يوم على المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم، ولكنه بالنظر إلى كثرة أهل البلد قليل‏.‏

وقد توفي في هذه الأيام من هذا الشهر خلقٌ كثير وجمٌ غفير، ولا سيما من النساء، فإن الموت فيهن أكثر من الرجال بكثير كثير، وشرع الخطيب في القنوت بسائر الصلوات والدعاء برفع الوباء من المغرب ليلة الجمعة سادس شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وحصل للناس بذلك خضوع وخشوع وتضرع وإنابة‏.‏

وكثرت الأموات في هذا الشهر جداً، وزادوا على المائتين في كل يوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وتضاعف عدد الموتى منهم، وتعطلت مصالح الناس، وتأخرت الموتى عن إخراجهم، وزاد ضمان الموتى جداً فتضرر الناس ولا سيما الصعاليك، فإنه يؤخذ على الميت شيءٌ كثير جداً، فرسم نائب السلطنة بإبطال ضمان النعوش والمغسلين والحمالين، ونودي بإبطال ذلك في يوم الاثنين سادس عشر ربيع الآخر، ووقف نعوش كثيرة في أرجاء البلد واتسع الناس بذلك، ولكن كثرت الموتى، فالله المستعان‏.‏

وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين منه نودي في البلد أن يصوم الناس ثلاثة أيام وأن يخرجوا في اليوم الرابع وهو يوم الجمعة إلى عند مسجد القدم يتضرعون إلى الله ويسألونه في رفع الوباء عنهم، فصام أكثر الناس ونام الناس في الجامع، وأحيوا الليل كما يفعلون في شهر رمضان‏.‏

فلما أصبح الناس يوم الجمعة السابع والعشرين منه خرج الناس يوم الجمعة من كل فجٍ عميق، واليهود والنصارى والسامرة، والشيوخ والعجائز والصبيان، والفقراء والأمراء والكبراء والقضاة من بعد صلاة الصبح، فما زالوا هنالك يدعون الله تعالى حتى تعالى النهار جداً، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى‏:‏ صلى الخطيب بعد صلاة الظهر على ستة عشر ميتاً جملة واحدة، فتهول الناس من ذلك وانذعروا، وكان الوباء يومئذٍ كثيراً، ربما يقارب الثلاثمائة بالبلد وحواضره، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وصلى بعد صلاة على خمسة عشر ميتاً بجامع دمشق، وصلى على إحدى عشر نفساً رحمهم الله‏.‏

وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه رسم نائب السلطنة بقتل الكلاب من البلد، وقد كانت كثيرة بأرجاء البلد وربما ضرت الناس وقطعت عليهم الطرقات في أثناء الليل، أما تنجيسها الأماكن فكثير، قد عم الابتلاء به وشق الاحتراز منه‏.‏

وقد جمعت جزءاً من الأحاديث الواردة في قتلهم، واختلاف الأئمة في نسخ ذلك‏.‏

وقد كان عمر رضي الله عنه يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب، ونص مالك في رواية ابن وهب‏:‏ على جواز قتل كلاب بلدة بعينها، إذا أذن الإمام في ذلك للمصلحة‏.‏

وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه توفي زين الدين عبد الرحمن بن شيخنا الحافظ المزي، بدار الحديث النورية وهو شيخها، ودفن بمقابر الصوفية على والده‏.‏

وفي منتصف شهر جمادى الآخرة قوي الموت وتزايد وبالله المستعان، ومات خلائق من الخاصة والعامة ممن نعرفهم وغيرهم رحمهم الله وأدخلهم جنته، وبالله المستعان‏.‏

وكان يصلي في أكثر الأيام في الجامع على أزيد من مائة ميت فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع، وأما حول البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله عز وجل رحمهم الله آمين‏.‏

وفي يوم الاثنين السابع والعشرين منه توفي الصدر شمس الدين بن الصباب التاجر السفّارباتي المدرسة الصابية، التي هي دار قرآن بالقرب من الظاهرية، وهي قبلي العادلية الكبيرة، وكانت هذه البقعة برهة من الزمان خربة شنيعة، فعمرها هذا الرجل وجعلها دار قرآن ودار حديث للحنابلة، ووقف هو وغيره عليها أوقافاً جيدة رحمه الله تعالى‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن شهر رجب صلّي بعد الجمعة بالجامع الأموي على غائب‏:‏ على القاضي علاء الدين ابن قاضي شهبة، ثم صلّي على إحدى وأربعين نفساً جملة واحدة، فلم يتسع داخل الجامع لصفهم بل خرجوا ببعض الموتى إلى ظاهر باب السر، وخرج الخطيب والنقيب فصلى عليهم كلهم هناك، وكان وقتاً مشهوداً، وعبرة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي هذا اليوم توفي التاجر المسمى‏:‏ بافريدون، الذي بنى المدرسة التي بظاهر باب الجابية تجاه تربة بهادرآص، حائطها من حجارة ملونة، وجعلها داراً للقرآن العظيم ووقف عليها أوقافاً جيدة، وكان مشهوراً مشكوراً رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي يوم السبت ثالث رجب صلّي على الشيخ علي المغربي أحد أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية بالجامع الأفرمي بسفح قاسيون، ودفن بالسفح رحمه الله، وكانت له عبادة وزهادة وتقشف وورع ولم يتول في هذه الدنيا وظيفة بالكلية ولم يكن له مال؛ بل كان يأتي بشيء من الفتوح يستنفقه قليلاً قليلاً، وكان يعاني التصوف، وترك زوجة وثلاثة أولاد رحمه الله‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع رجب صلّي على القاضي زين الدين بن النجيح نائب القاضي الحنبلي، بالجامع المظفري، ودفن بسفح قاسيون، وكان مشكوراً في القضاء، لديه فضائل كثيرة، وديانة وعبادة، وكان من أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان قد وقع بينه وبين القاضي الشافعي مشاجرات بسبب أمور، ثم اصطلحا فيما بعد ذلك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشره بعد أذان الظهر حصل بدمشق وما حولها ريح شديدة أثارت غباراً شديداً اصفر الجو منه ثم اسود حتى أظلمت الدنيا، وبقي الناس في ذلك نحواً من ربع ساعة يستجيرون الله ويستغفرون ويبكون، مع ما هم فيه من شدة الموت الذريع، ورجا الناس أن هذا الحال يكون ختام ما هم فيه من الطاعون، فلم يزدد الأمر إلا شدة، وبالله المستعان‏.‏

وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين، وأكثر من ذلك، خارجاً عمن لا يؤتى بهم إليه من أرجاء البلد وممن يموت من أهل الذمة، وأما حواضر البلد وما حولها فأمر كثير، يقال إنه بلغ ألفاً في كثير من الأيام، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وصلّي بعد الظهر من هذا اليوم بالجامع المظفري على الشيخ إبراهيم بن المحب، الذي كان يحدث في الجامع الأموي وجامع تنكز، وكان مجلسه كثير الجمع لصلاحه وحسن ما كان يؤديه من المواعيد النافعة، ودفن بسفح قاسيون، وكانت جنازته حافلة رحمه الله‏.‏

وعملت المواعيد بالجامع الأموي ليلة سبع وعشرين من رجب، يقولون ليلة المعراج، ولم يجتمع الناس فيه على العادة لكثرة من مات منهم، ولشغل كثير من الناس بمرضاهم وموتاهم‏.‏

واتفق في هذه الليلة أنه تأخر جماعة من الناس في الخيم ظاهر البلد فجاؤوا ليدخلوا من باب النصر على عادتهم في ذلك، فكأنه اجتمع خلق منهم بين البابين فهلك كثير منهم كنحو ما يهلك الناس في هذا الحين على الجنائز، فانزعج نائب السلطنة فخرج فوجدهم فأمر بجمعهم‏.‏

فلما أصبح الناس أمر بتسميرهم، ثم عفا عنهم وضرب متولي البلد ضرباً شديداً، وسمر نائبه في الليل، وسمر البواب بباب النصر، وأمر أن لا يمشي أحد بعد عشاء الآخرة، ثم تسمح لهم في ذلك‏.‏

واستهل شهر شعبان والفناء في الناس كثير جداً، وربما أنتنت البلد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وتوفي الشيخ شمس الدين بن الصلاح مدرّس القيمرية الكبيرة بالمطرزيين، يوم الخميس ثالث عشر شعبان‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان صُلّي بعد الصلاة على جماعة كثيرة، منهم القاضي عماد الدين بن الشيرازي، محتسب البلد، وكان من أكابر رؤساء دمشق، وولي نظر الجامع مدة، وفي بعض الأوقات نظر الأوقاف، وجمع له في وقت بينهما، ودفن بسفح قاسيون‏.‏

وفي العشر الأخير من شهر شوال توفي الأمير قرابغا دويدار النائب، بداره غربي حكر السماق، وقد أنشأ له إلى جانبها تربة ومسجداً، وهو الذي أنشأ السويقة المجددة عند داره، وعمل لها بابين شرقياً وغربياً، وضمنت بقيمة كثيرة بسبب جاهه، ثم بارت وهجرت لقلة الحاجة إليها‏.‏

وحضر الأمراء والقضاة والأكابر جنازته، ودفن بتربته هناك، وترك أموالاً جزيلة وحواصل كثيرة جداً، أخذه مخدومة نائب السلطنة‏.‏ ‏

وفي يوم الثلاثاء سابع شهر ذي القعدة توفي خطيب الجامع، الخطيب تاج الدين عبد الرحيم ابن القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحيم القزويني، بدار الخطابة، مرض يومين وأصابه ما أصاب الناس من الطاعون، وكذلك عامة أهل بيته من جواريه وأولاده، وتبعه أخوه بعد يومين صدر الدين عبد الكريم‏.‏

وصلّي على الخطيب تاج الدين بعد الظهر يومئذ عند باب الخطابة ودفن بتربتهم بالصوفية عند أبيه وأخويه بدر الدين محمد، وجمال الدين عبد الله رحمهم الله‏.‏

وفي يوم الخميس تاسعه اجتمع القضاة وكثير من الفقهاء المفتيين عند نائب السلطنة بسبب الخطابة، فطلب إلى المجلس الشيخ جمال الدين بن محمود بن جملة فولاه إياها نائب السلطنة، وانتزعت من يده وظائف كان يباشرها، ففرقت على الناس فولى القاضي بهاء الدين أبو البقاء تدريس الظاهرية البرانية، وتوزع الناس بقية جهاته، ولم يبق بيده سوى الخطابة، وصلى بالناس يومئذ الظهر، ثم خلع عليه في بكرة نهار الجمعة، وصلى بالناس يومئذ وخطبهم على قاعدة الخطباء‏.‏

وفي يوم عرفه، وكان يوم السبت، توفي القاضي شهاب الدين بن فضل الله كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية، والبلاد الشامية، ثم عزل عن ذلك ومات وليس يباشر شيئاً من ذلك من رياسة وسعادة وأموال جزيلة، وأملاك ومرتبات كثيرة، وعمَّر داراً هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية شرقيها ليس بالسفح مثلها‏.‏

وقد انتهت إليه رياسة الإنشاء، وكان يشبه بالقاضي الفاضل في زمانه، وله مصنفات عديدة بعبارات سعيدة، وكان حسن المذاكرة، سريع الاستحضار، جيد الحفظ، فصيح اللسان، جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء، ولم يجاوز الخمسين، توفي بدارهم داخل باب الفراديس، وصلّي عليه بالجامع الأموي، ودفن بالسفح مع أبيه وأخيه بالقرب من اليغمورية سامحه الله وغفر له‏.‏

وفي هذا اليوم توفي الشيخ عبد الله بن رشيق المغربي، كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية، كان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة لا بأس به، ديناً عابداً كثير التلاوة، حسن الصلاة، له عيال وعليه ديون رحمه الله وغفر له آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك من البلاد الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائب الديار المصرية ومدير ممالكه، والأتابك سيف الدين يلبغا، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك أرباب الوظائف سوى الخطيب وسوى المحتسب‏.‏

وفي هذه السنة ولله الحمد تقصار أمر الطاعون جداً، ونزل ديوان المواريث إلى العشرين وما حولها بعد أن بلغ الخمسمائة في أثناء سنة تسع وأربعين، ثم تقدم ولكن لم يرتفع بالكلية‏.‏

فإن في يوم الأربعاء رابع شهر المحرم توفي الفقيه شهاب الدين أحمد بن الثقة هو وابنه وأخوه في ساعة واحدة بهذا المرض، وصُلّي عليهم جميعاً، ودفنوا في قبر واحد رحمهم الله تعالى‏.‏

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الناسك الخاشع ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر بن الصائغ الشافعي، مدرّس العمادية كان رحمه الله لديه فضائل كثيرة على طريقة السلف الصالح، وفيه عبادة كثيرة وتلاوة وقيام ليل وسكون حسن، وخلق حسن، جاوز الأربعين بنحو من ثلاث سنين، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث صفر باشر تقي الدين بن رافع المحدث مشيخة دار الحديث النورية، وحضر عنده جماعة من الفضلاء والقضاة والأعيان، انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

مسك نائب السلطنة أرغون شاه

وفي ليلة الخميس الثالث والعشرين من ربيع الأول مُسك نائب السلطنة بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه، وكان قد انتقل إلى القصر الأبلق بأهله، فما شعر بوسط الليل إلا ونائب طرابلس الأمير سيف الدين ألجي بغا المظفري الناصري، ركب إليه في طائفة من الأمراء الألوف وغيرهم، فأحاطوا به ودخل عليه من دخل وهو مع جواريه نائم، فخرج إليهم فقبضوا عليه وقيدوه ورسموا عليه‏.‏

وأصبح الناس أكثرهم لا يشعر بشيء مما وقع، فتحدث الناس بذلك واجتمعت الأتراك إلى الأمير سيف الدين ألجي بغا المذكور، ونزل بظاهر البلد، واحتيط على حواصل أرغون شاه، فبات عزيزاً وأصبح ذليلاً، وأمسى علينا نائب السلطنة فأصبح وقد أحاط به الفقر والمسكنة فسبحان من بيده الأمر مالك الملك‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏26‏]‏‏.‏

وهذا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏97 -99‏]‏‏.‏ ‏

ثم لما كان ليلة الجمعة الرابع والعشرين من ربيع الأول أصبح مذبوحاً فأثبت محضر بأنه ذبح نفسه فالله تعالى أعلم‏.‏

 كائنة عجيبة غريبة جداً

ثم لما كان يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمسين وسبعمائة وقع اختلاف بين جيش دمشق وبين الأمير سيف الدين ألجي بغا، نائب طرابلس، الذي جاء فأمسك نائب دمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، ليلة الخميس وقتله ليلة الجمعة كما تقدم، وأقام بالميدان الأخضر يستخلص أمواله وحواصله، ويجمعها عنده فأنكر عليه الأمراء الكبار، وأمروه أن يحمل الأموال إلى قلعة السلطان فلم يقبل منهم، فاتهموه في أمره، وشكوا في الكتاب على يده من الأمر بمسكه وقتله‏.‏

وركبوا ملبسين تحت القلعة وأبواب الميادين، وركب هو في أصحابه وهم في دون المائة، وقائل يقول‏:‏ هم ما بين السبعين إلى الثمانين والتسعين، جعلوا يحملون على الجيش حمل المستقتلين، إنما يدافعهم مدافعة المتبرئين، وليس معهم مرسوم بقتلهم ولا قتالهم، فلهذا ولى أكثرهم منهزمين‏.‏

فخرج جماعة الجيش حتى بعض الأمراء المقدمين، وهو الأمير الكبير سيف الدين ألجي بغا العادلي، فقطعت يده اليمنى، وقد قارب التسعين، وقتل آخرون من أجناد الحلقة والمستخدمين‏.‏

ثم انفصل الحال على أن أخذ ألجي بغا المظفري من خيول أرغون شاه المرتبطة في إسطبله ما أراد، ثم انصرف من ناحية المزة صاغراً على عقبيه، ومعه الأموال التي جمعها من حواصل أرغون شاه، واستمر ذاهباً، ولم يتبعه أحد من الجيش، وصحبته الأمير فخر الدين إياس، الذي كان حاجباً، وناب في حلب في العام الماضي، فذهبا بمن معهما إلى طرابلس‏.‏

وكتب أمراء الشام إلى السلطان يعلمونه بما وقع، فجاء البريد بأنه ليس عند السلطان علم بما وقع بالكلية، وأن الكتاب الذي جاء على يديه مفتعل، وجاء الأمر لأربعة آلاف من الجيش الشامي أن يسيروا وراءه ليمسكوه، ثم أضيف نائب صفد مقدماً على الجميع، فخرجوا في العشر الأول من ربيع الآخر‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر خرجت العساكر في طلب سيف الدين ألجي بغا العادلي في المعركة وهو أحد أمراء الألوف المقدمين‏.‏

ولما كانت ليلة الخميس سابعه نودي بالبلد على من يقربها من الأجناد أن لا يتأخر أحد عن الخروج بالغد، فأصبحوا في سرعة عظيمة واستنيب في البلد نيابة عن النائب الراتب الأمير بدر الدين الخطير، فحكم بدار السعادة على عادة النواب‏.‏

وفي ليلة السبت بين العشاءين سادس عشره دخل الجيش الذين خرجوا في طلب ألجي بغا المظفري، وهو معهم أسير ذليل حقير، وكذلك الفخر إياس الحاجب مأسور معهم، فأودعا في القلعة مهانين من جسر باب النصر الذي تجاه دار السعادة، وذلك بحضور الأمير بدر الدين الخطير نائب الغيبة، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، ولله الحمد والمنة‏.‏

فلما كان يوم الاثنين الثامن عشر منه خرجا من القلعة إلى سوق الخيل فوسطا بحضرة الجيش، وعلقت جثتهما على الخشب ليراهما الناس، فمكثا أياماً ثم أُنزلا فدفنا بمقابر المسلمين‏.‏

وفي أوائل شهر جمادى الآخرة جاء الخبر بموت نائب حلب سيف الدين قطلبشاه ففرح كثير من الناس بموته، وذلك لسوء أعماله في مدينة حماه في زمن الطاعون، وذكر أنه كان يحتاط على التركة وإن كان فيها ولد ذكر أو غيره، ويأخذ من أموال الناس جهرة، حتى حصل له منها شيء كثير‏.‏

ثم نقل إلى حلب بعد نائبها الأمير سيف الدين أرقطيه الذي كان عين لنيابة دمشق بعد موت أرغون شاه، وخرج الناس لتلقيه فما هو إلا أن برز منزلة واحدة من حلب فمات بتلك المنزلة، فلما صار قطلبشاه إلى حلب لم يقم بها إلا يسيراً حتى مات، ولم ينتفع بتلك الأموال التي جمعها لا في دنياه ولا في أخراه‏.‏

ولما كان يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة دخل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري من الديار المصرية إلى دمشق نائباً عليها، وبين يديه الجيش على العادة، فقّبل العتبة ولبس الحياصة والسيف، وأُعطي تقليده ومنشوره هنالك‏.‏

ثم وقف في الموكب على عادة النواب، ورجع إلى دار السعادة وحكم، وفرح الناس به، وهو حسن الشكل تام الخلقة، وكان الشام بلا نائب مستقل قريباً من شهرين ونصف‏.‏

وفي يوم دخوله حبس أربعة أمراء من الطبلخانات، وهم‏:‏ القاسمي وأولاد آل أبو بكر اعتقلهم في القلعة لممالأتهم ألجي بغا المظفري، على أرغون شاه نائب الشام‏.‏

وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة حكم القاضي نجم الدين بن القاضي عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وذلك بتوقيع سلطاني وخلعة من الديار المصرية‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي وبين الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق‏.‏

وفي يوم الجمعة السادس والعشرين منه‏:‏ نقلت جثة الأمير سيف الدين أرغون شاه من مقابر الصوفية إلى تربته التي أنشأها تحت الطارمة، وشرع في تكميل التربة والمسجد الذي قبلها، وذلك أنه عاجلته المنية على يدي ألجي بغا المظفري قبل إتمامهما، وحين قتلوه ذبحاً ودفنوه ليلاً في مقابر الصوفية، قريباً من قبر الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، ثم حول إلى تربته في الليلة المذكورة‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشر رجب أذن المؤذنون للفجر قبل الوقت بقريب من ساعة، فصلى الناس في الجامع الأموي على عادتهم في ترتيب الأئمة، ثم رأوا الوقت باقياً فأعاد الخطيب الفجر بعد صلاة الأئمة كلهم، وأقيمت الصلاة ثانياً وهذا شيء لم يتفق مثله‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن شهر شعبان توفي قاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي بالمسمارية، وصُلّي عليه الظهر بالجامع الأموي، ثم بظاهر باب النصر، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله‏.‏

وفي يوم الاثنين رمضان بكرة النهار استدعي الشيخ جمال الدين المرداوي من الصالحية إلى دار السعادة، وكان تقليد القضاء لمذهبه قد وصل إليه قبل ذلك بأيام، فأحضرت الخلعة بين يدي النائب والقضاة الباقين، وأريد على لبسها وقبول الولاية فامتنع فألحوا عليه فصمم وبالغ في الامتناع، وخرج وهو مغضب فراح إلى الصالحية فبالغ الناس في تعظيمه‏.‏

وبقي القضاة يوم ذلك في دار السعادة، ثم بعثوا إليه بعد الظهر فحضر من الصالحية فلم يزالوا به حتى قبل ولبس الخلعة وخرج إلى الجامع، فقرئ تقليده بعد العصر، واجتمع معه القضاة وهنأه الناس، وفرحوا به لديانته وصيانته وفضيلته وأمانته‏.‏

وبعد هذا اليوم بأيام حكم الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي، وابن مفلح زوج ابنته‏.‏

وفي العشر الأخير من ذي القعدة حضر الفقيه الإمام المحدث المفيد أمين الدين الأيجي الملكي مشيخة دار الحديث بالمدرسة الناصرية الجوانية، نزل له عنها الصدر أمين الدين بن القلانسي، وكيل بيت المال، وحضر عنده الأكابر والأعيان‏.‏

وفي أواخر هذه السنة تكامل بناء التربة التي تحت الطارمة المنسوبة إلى الأمير سيف الدين أرغون شاه، الذي كان نائب السلطنة بدمشق، وكذلك القبلي منها، وصلى فيها الناس، وكان قبل ذلك مسجداً صغيراً فعمره وكبره، وجاء كأنه جامع تقبل الله منه انتهى‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة

استهلت وسلطان الشام ومصر الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين يلبغا وأخوه سيف الدين منجك الوزير، والمشارون جماعة من المقدمين بديار مصر، وقضاة مصر وكاتب السر هم الذين كانوا في السنة الماضية، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرتيمش الناصري، والقضاة هم القضاة سوى الحنبلي فإنه الشيخ جمال الدين يوسف المرداوي‏.‏

وكاتب السر، وشيخ الشيوخ تاج الدين، وكاتب الدست هم المتقدمون، وأضيف إليهم شرف الدين عبد الوهاب بن القاضي علاء الدين بن شمرنوخ، والمحتسب القاضي عماد الدين بن العزفور، وشاد الأوقاف الشريف، وناظر الجامع فخر الدين بن العفيف، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة رحمه الله‏.‏

وفي يوم السبت عاشر المحرم نودي بالبلد من جهة نائب السلطان عن كتاب جاءه من الديار المصرية أن لا تلبس النساء الأكمام الطوال العرض، ولا الُبرد الحرير، ولا شيئاً من اللباسات والثياب الثمينة، ولا الأقمشة القصار، وبلغنا أنهم بالديار المصرية شددوا في ذلك جداً، حتى قيل‏:‏ إنهم غرقوا بعض النساء بسبب ذلك فالله أعلم‏.‏

وجددت وأكملت في أول هذه السنة دار قرآن قبلي تربة امرأة تنكز، بمحلة باب الخواصين حولها، وكانت قاعة صورة مدرسة الطواشي صفي الدين عنبر، مولى ابن حمزة، وهو أحد الكبار الأجواد، تقبل الله منه‏.‏

وفي يوم الأحد خامس شهر جمادى الأولى فتحت المدرسة الطيبانية التي كانت داراً للأمير سيف الدين طيبان بالقرب من الشامية الجوانية، بينها وبين أم الصالح، اشتريت من ثلثه الذي وصى به‏.‏

وفُتحت مدرسة وحوّل لها شباك إلى الطريق في ضفتها القبلية منها، وحضر الدرس بها في هذا اليوم الشيخ عماد الدين بن شرف الدين ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بوصية الواقف له بذلك، وحضر عنده قاضي القضاة السبكي والمالكي وجماعة من الأعيان، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏:‏2‏]‏‏.‏

واتفق في ليلة الأحد السادس والعشرين من جمادى الأولى أنه لم يحضر أحد من المؤذنين على السدة في جامع دمشق وقت إقامة الصلاة للمغرب سوى مؤذن واحد، فانتظر من يقيم معه الصلاة فلم يجيء أحد غيره مقدار درجة أو أزيد منها، فأقام هو الصلاة وحده‏.‏

فلما أحرم الإمام بالصلاة تلاحق المؤذنون في أثناء الصلاة حتى بلغوا دون العشرة، وهذا أمر غريب من عدة ثلاثين مؤذن أو أكثر، لم يحضر سوى مؤذن واحد، وقد أخبر خلق من المشايخ أنهم لم يروا نظير هذه الكائنة‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة اجتمع القضاة بمشهد عثمان، وكان الفاضل الحنبلي قد حكم في دار المعتمد الملاصقة لمدرسة الشيخ أبي عمر يلبغا، وكانت وقفاً، لتضاف إلى دار القرآن، ووقف عليها أوقاف للفقراء، فمنعه الشافعي من ذلك، من أجل أنه يؤول أمرها أن تكون دار حديث ثم فتحوا باباً آخر وقالوا‏:‏ هذه الدار لم يستهدم جميعها، وما صادف الحكم محلاً، لأن مذهب الإمام أحمد أن الوقف يباع إذا استهدم بالكلية، ولم يبق ما ينتفع به، فحكم القاضي الحنفي بإثباتها وقفاً كما كانت، ونفذه الشافعي والمالكي، وانفصل الحال على ذلك، وجرت أمور طويلة وأشياء عجيبة‏.‏

وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة أصبح بواب المدرسة المستجدة التي يقال لها‏:‏ الطيبانية إلى جانب أم الصالح مقتولاً مذبوحاً، وقد أخذت من عنده أموال من المدرسة المذكورة ولم يطلع على فاعل ذلك، وكان البواب رجلاً صالحاً مشكوراً رحمه الله‏.‏

 ترجمة الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية

وفي ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقت أذان العشاء توفي صاحبنا الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، إمام الجوزية، وابن قيمها، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير رحمه الله‏.‏

ولد في سنة إحدى وتسعين وستمائة، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين‏.‏

ولما عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علماً جماً، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلاً ونهاراً، وكثرة الابتهال‏.‏

وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جداً ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله‏.‏

وله من التصانيف الكبار والصغار شيءٌ كثير، وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف، وبالجملة كان قليل النصير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة، سامحه الله ورحمه‏.‏

وقد كان متصدياً للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين بن تيمية، وجرت بسببها فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره، وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه، وكمل له من العمر ستون سنة رحمه الله‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية عوضاً عن أبيه رحمه الله فأفاد وأجاد، وسرد طرفاً صالحاً في فضل العلم وأهله، انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة‏.‏

وفرح أهل العلم بذلك، وأهل الديانة، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك النصار محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه‏.‏

وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيماً في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك والله الحمد والمنة‏.‏

وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه، وقاضٍ، ومفتٍ، وعالم، وعابد، وأمير، وزاهد، ونائب سلطنة وغيرهم ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسؤول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال‏.‏

وفي مستهل شهر رمضان اتفق أمر غريب لم يتفق مثله من مدة متطاولة، فيما يتعلق بالفقهاء والمدارس، وهو أنه كان قد توفي ابن الناصح الحنبلي بالصالحية، وكان بيده نصف تدريس الضاحية التي للحنابلة بالصالحية، والنصف الآخر للشيخ شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق، فاستنجز مرسوماً بالنصف الآخر‏.‏

وكانت بيده ولاية متقدمة من القاضي علاء الدين بن المنجا الحنبلي، فعارضه في ذلك قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي، وولى فيها نائبه شمس الدين بن مفلح، ودرّس بها قاضي القضاة في صدر هذا اليوم، فدخل القضاة الثلاثة الباقون ومعهم الشيخ شرف الدين المذكور إلى نائب السلطنة، وأنهوا إليه صورة الحال، فرسم له بالتدريس‏.‏

فركب القضاة المذكورون وبعض الحجاب في خدمته إلى المدرسة المذكورة، واجتمع الفضلاء والأعيان، ودرس الشيخ شرف الدين المذكور، وبث فضائل كثيرة، وفرح الناس‏.‏

وفي شوال كان في جملة من توجه إلى الحج في هذا العام نائب الديار المصرية ومدبر ممالكها الأمير سيف الدين يلبغا الناصري، ومعه جماعة من الأمراء، فلما استقل الناس ذاهبين نهض جماعة من الأمراء على أخيه الأمير سيف الدين منجك، وهو وزير المملكة، وأستاذ دار الاستادارية، وهو باب الحوائج في دولتهم، وإليه يرحل ذوو الحاجات بالذهب والهدايا، فأمسكوه وجاءت البريدية إلى الشام في أواخر هذا الشهر بذلك‏.‏

وبعد أيام يسيرة وصل الأمير سيف الدين شيخون، وهو من أكابر الدولة المصرية تحت الترسيم، فأدخل إلى قلعة دمشق، ثم أخذ منها بعد ليلة فذهب به إلى الإسكندرية فالله أعلم‏.‏

وجاء البريد بالاحتياط على ديوانه وديوان منجك بالشام وأيس من سلامتهما، وكذلك وردت الأخبار بمسك يلبغا في أثناء الطريق، وأرسل سيفه إلى السلطان، وقدم أمير من الديار المصرية فحلف الأمراء بالطاعة إلى السلطان، وكذلك سار إلى حلب فحلف من بها من الأمراء ثم عاد راجعاً إلى الديار المصرية، وحصل له من الأموال شيءٌ كثير من النواب والأمراء‏.‏

وفي يوم الخميس العشرين من ذي القعدة مسك الأميران الكبيران الشاميان المقدمان‏:‏ شهاب الدين أحمد بن صبح، وملك آص، من دار السعادة بحضرة نائب السلطنة والأمراء ورفعا إلى القلعة المنصورة، سير بهما ماشيين من دار السعادة إلى باب القلعة من ناحية دار الحديث، وقيدا وسجنا بها، وجاء الخبر بأن السلطان استوزر بالديار المصرية القاضي علم الدين زينور، وخلع عليه خلعة سنية، لم يسمع بمثلها من أعصار متقادمة، وباشر وخلع على الأمراء والمقدمين، وكذلك خلع على الأمير سيف الدين طسبغا وأعيد إلى مباشرة الدويدارية بالديار المصرية، وجعل مقدماً‏.‏

وفي أوائل شهر ذي الحجة اشتهر أن نائب صفد، شهاب الدين أحمد بن مشد الشربخانات طلب إلى الديار المصرية فامتنع من إجابة الداعي، ونقض العهد، وحصن قلعتها، وحصل فيها عدداً ومدداً، وادخر أشياء كثيرة بسبب الإقامة بها والامتناع فيها، فجاءت البريدية إلى نائب دمشق بأن يركب هو وجميع جيش دمشق إليه، فتجهز الجيش لذلك وتأهبوا، ثم خرجت الأطلاب على راياتها، فلما برز منها بعض بدا لنائب السلطنة فردهم وكان له خبرة عظيمة، ثم استقر الحال على تجريد أربعة مقدمين بأربعة آلاف إليه‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشره وقعت كائنة غريبة بمنى وذلك أنه اختلف الأمراء المصريون والشاميون مع صاحب اليمن الملك المجاهد، فاقتتلوا قتالاً شديداً قريباً من وادي محسر، ثم انجلت الوقعة عن أسر صاحب اليمن الملك المجاهد فحمل مقيداً إلى مصر، كذلك جاءت بها كتب الحجاج، وهم أخبروا بذلك‏.‏ ‏

واشتهر في أواخر ذي الحجة‏:‏ أن نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، قد خرج عنها بمماليكه وأصحابه، فرام الجيش الحلبي رده، فلم يستطيعوا ذلك، وجرح منهم جراحات كثيرة، وقتل جماعة فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

واستمر ذاهباً وكان في أمله فيما ذكر أن يتلقى سيف الدين يلبغا في أثناء طريق الحجاز فيتقدم معه إلى دمشق، وإن كان نائب دمشق قد اشتغل في حصار صفد أن يهجم عليها بغتة فيأخذها، فلما سار بمن معه وأخذته القطاع من كل جانب ونهبت حواصله وبقي تجريدة في نفر يسير من مماليكه، فاجتاز بحماه ليهربه نائبها فأبى عليه، فلما اجتاز بحمص وطن نفسه على المسير إلى السلطان بنفسه، فقدم به نائب حمص وتلقاه بعض الحجاب وبعض مقدمين الألوف، ودخل يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين الشهر، وهو في أبهة، فنزل بدار السعادة في بعض قاعات الدويدارية‏.‏انتهى‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد الشامية والديار المصرية والحرمين الشريفين و ما يلحق بذلك من الأقاليم والبلدان، الملك الناصر حسن بن السلطان، الملك محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا الملقب بحارس الطير، وهو عوضاً عن الأمير سيف الدين يلبغا أروش الذي راح إلى بلاد الحجاز، ومعه جماعة من الأمراء بقصد الحج الشريف، فعزله السلطان في غيبته وأمسك على شيخون واعتقله، وأخذ منجك الوزير، وهو أستاذ دار ومقدم ألف، مصطفى أمواله، واعتاض عنه وولى مكانه في الوزارة القاضي علم الدين بن زينور، واسترجع إلى وظيفة الدويدارية الأمير سيف الدين طسبغا الناصري، وكان أميراً بالشام، مقيماً منذ عزل إلى أن أعيد في أواخر السنة كما تقدم‏.‏

وأما كاتب السر بمصر وقضاتها فهم المذكورون في التي قبلها‏.‏

واستهلت هذه السنة ونائب صفد قد حصن القلعة وأعد فيها عدتها وما ينبغي لها من الأطعمات والذخائر والعدد والرجال، وقد نابذ المملكة وحارب، وقد قصدته العساكر من كل جانب من الديار المصرية ودمشق وطرابلس وغيرها، والأخبار قد ضمنت عن يلبغا ومن معه ببلاد الحجاز ما يكون من أمره، ونائب دمشق في احتراز وخوف من أن يأتي إلى بلاد الشام فيدهمها بمن معه، والقلوب وجلة من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها ورد الخبر أن صاحب اليمن حج في هذه السنة فوقع بينه وبين صاحب مكة عجلان بسبب أنه أراد أن يولي عليها أخاه بعيثة، فاشتكى عجلان ذلك إلى أمراء المصريين وكبيرهم إذ ذاك الأمير سيف الدين بزلار ومعهم طائفة كثيرة، وقد أمسكوا أخاهم يلبغا وقيدوه، فقوي رأسه عليهم واستخف بهم، فصبروا حتى قضى الحج وفرغ الناس من المناسك‏.‏

فلما كان يوم النفر الأول يوم الخميس تواقفوا هم وهو فقتل من الفريقين خلقُ كثير، والأكثر من اليمنيين، وكانت الوقعة قريبة من وادي محسر، وبقي الحجيج خائفين أن تكون الدائرة على الأتراك فتنهب الأعراب أموالهم وربما قتلوهم، ففرج الله ونصر الأتراك على أهل اليمن ولجأ الملك المجاهد إلى جبل، فلم يعصمه من الأتراك بل أسروه ذليلاً حقيراً، وأخذوه مقيداً أسيراً وجاءت عوام الناس إلى اليمنيين فنهبوا شيئاً كثيراً، ولم يتركوا لهم جليلاً ولا حقيراً، ولا قليلاً ولا كثيراً‏.‏

واحتاط الأمراء على حواصل الملك وأمواله وأمتعته وأثقاله، وساروا بخيله وجماله، وأدلوا على صنديد من رحله ورجاله، واستحضروا معهم طفيلاً الذي كان حاصر المدينة النبوية في العام الماضي وقيدوه أيضاً، وجعلوا الغل في عنقه، واستاقوه كما يستاق الأسير في وثاقه مصحوباً بهمه وحتفه، وانشمروا عن تلك البلاد إلى ديارهم راجعين، وقد فعلوا فعلة تذكر بعدهم إلى حين‏.‏

ودخل الركب الشامي إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من المحرم، على العادة المستمرة، والقاعدة المستقرة‏.‏

وفي هذا اليوم قدمت البريدية من تلقاء مدينة صفد مخبرة بأن الأمير شهاب الدين أحمد بن مشد الشرنجاتاه، الذي كان قد تمرد بها وطغى وبغى حتى استحوز عليها وقطع سببها وقتل الفرسان والرجالة، وملأها أطعمة وأسلحة، ومماليكه ورجاله، فعندما تحقق مسك يلبغا أروش خضعت تلك النفوس، وخمدت ناره وسكن شراره وحار بثاره، ووضح قراره، وأناب إلى التوبة والإقلاع، ورغب إلى السلامة والخلاص، وخشع ولات حين مناص‏.‏

وأرسل سيفه إلى السلطان، ثم توجه بنفسه على البريد إلى حضرة الملك الناصر، والله المسؤول أن يحسن عليه وأن يقبل بقلبه إليه‏.‏

وفي يوم الأحد خامس صفر قدم من الديار المصرية الأمير سيف الدين أرغون الكاملي معاداً إلى نيابة حلب، وفي صحبته الأمير سيف الدين طشبغا الدوادار بالديار المصرية، وهو زوج ابنة نائب الشام، فتلقاه نائب الشام وأعيان الأمراء، ونزل طشبغا الدوادار عند زوجته بدار منجى في محلة مسجد القصب التي كانت تعرف‏:‏ بدار حنين بن حندر، وقد جددت في السنة الماضية، وتوجها في الليلة الثانية من قدومها إلى حلب‏.‏ ‏

وفي يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول اجتمع القضاة الثلاثة وطلبوا الحنبلي ليتكلموا معه فيما يتعلق بدار المعتمد التي بجوار مدرسة الشيخ أبي عمر، التي حكم بنقض وقفها وهدم بابها وإضافتها إلى دار القرآن المذكورة، وجاء مرسوم السلطان يوفق ذلك، وكان القاضي الشافعي قد أراد منعه من ذلك، فلما جاء مرسوم السلطان اجتمعوا لذلك، فلم يحضر القاضي الحنبلي، قال‏:‏ حتى يجيء نائب السلطنة‏.‏

ولما كان يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول حضر القاضي حسين - ولد قاضي القضاة تقي الدين السبكي - عن أبيه مشيخة دار الحديث الأشرفية وقرئ عليه شيء كان قد خرجه له بعض المحدثين، وشاع في البلد أنه نزل له عنها، وتكلموا في ذلك كلاماً كثيراً، وانتشر القول في ذلك، وذكر بعضهم أنه نزل له عن الغزالية والعادلية، واستخلفه في ذلك، فالله أعلم‏.‏

وفي سحر ليلة الخميس خامس شهر جمادى الآخرة وقع حريق عظيم بالجوانيين في السوق الكبير، واحترقت دكاكين الفواخرة والمناجليين، وفرجة الغرابيل، وإلى درب القلى، ثم إلى قريب درب العميد، وصارت تلك الناحية دكاً بلقعاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وجاء نائب السلطنة بعد الأذان إلى هناك ورسم بطفي النار، وجاء المتولي والقاضي الشافعي والحجاب، وشرع الناس في طفي النار، ولو تركوها لأحرقت شيئاً كثيراً، ولم يفقد فيما بلغنا أحد من الناس، ولكن هلك للناس شيءٌ كثير من المتاع والأثاث والأملاك وغير ذلك، واحترق للجامع من الرباع في هذا الحريق ما يساوي مائة ألف درهم‏.‏انتهى‏.‏والله أعلم‏.‏

 كائنة غريبة جداً

وفي يوم الأحد خامس عشر جمادى الأولى استسلم للقاضي الحنبلي جماعة من اليهود كان قد صدر منهم نوع استهزاء بالإسلام وأهله، فإنهم حملوا رجلاً منهم صفة ميت على نعش ويهللون كتهليل المسلمين أمام الميت ويقرأون‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1-4‏]‏‏.‏

فسمع بهم من بِحارتهم من المسلمين، فأخذوهم إلى ولي الأمر نائب السلطنة فدفعهم إلى الحنبلي فاقتضى الحال استسلامهم فأسلم يومئذ منهم ثلاثة، وتبع أحدهم ثلاثة أطفال، وأسلم في اليوم الثاني ثمانية آخرون فأخذهم المسلمون وطافوا بهم في الأسواق يهللون ويكبرون، وأعطاهم أهل الأسواق شيئاً كثيراً وراحوا بهم إلى الجامع فصلوا ثم أخذوهم إلى دار السعادة فاستطلقوا لهم شيئاً، ورجعوا وهم في ضجيج وتهليل وتقديس، وكان يوماً مشهوداً ولله الحمد والمنة‏.‏انتهى‏.‏والله أعلم‏.‏‏

 مملكة السلطان الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي

في العشر الأوسط من شهر رجب الفرد وردت البريدية من الديار المصرية بعزل السلطان الملك الناصر حسن بن الناصر بن قلاوون لاختلاف الأمراء عليه، واجتماعهم على أخيه الملك الصالح، وأمه صالحة بنت ملك الأمراء تنكز الذي كان نائب الشام مدة طويلة، وهو ابن أربع عشرة سنة، وجاءت الأمراء للحلف، فدقت البشائر، وزين البلد على العادة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الملك الناصر حسن خنق ورجعت الأمراء الذين كانوا بإسكندرية مثل‏:‏ شيخون ومنجك وغيرهما، أرسلوا إلى يلبغا فجيء به من الكرك، وكان مسجوناً بها من مرجعه من الحج، فلما عاد إلى الديار المصرية شفع في صاحب اليمن الملك المجاهد الذي كان مسجوناً في الكرك فأخرج وعاد إلى الديار الحجازية‏.‏

وأما الأمراء الذين كانوا من ناحية السلطان حين مسك معارضة أمير أخوروميكلي بغا الفخري وغيرهما، فاحتيط عليهم وأرسلوا إلى الإسكندرية، وخطب للملك الصالح بجامع دمشق يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب وحضر نائب السلطنة والأمراء والقضاة للدعاء له بالمقصورة على العادة‏.‏

وفي أثناء العشر الأخير من رجب‏:‏ عزل نائب السلطنة سيف الدين أيتمش عن دمشق مطلوباً إلى الديار المصرية فسار إليها يوم الخميس‏.‏

وفي يوم الاثنين حادي عشر شعبان‏:‏ قدم الأمير سيف الدين أرغون الكاملي الذي كان نائباً على الديار الحلبية من هناك، فدخل دمشق في هذا اليوم في أبهة عظيمة، وخرج الأمراء والمقدمون وأرباب الوظائف لتلقيه إلى أثناء الطريق، منهم من وصل إلى حلب وحماه وحمص‏.‏

وجرى في هذا اليوم عجائب لم تر من دهور، واستبشر الناس به لصرامته وشهامته وحدته، وما كان من لين الذي قبله ورخاوته، فنزل دار السعادة على العادة‏.‏

وفي يوم السبت‏:‏ وقف في موكب هائل قيل‏:‏ إنه لم ير مثله من مدة طويلة، ولما سير إلى ناحية باب الفرج اشتكى إليه ثلاث نسوة على أمير كبير يقال له‏:‏ الطرخاين، فأمر بإنزاله عن فرسه فأنزل وأوقف معهن في الحكومة‏.‏

واستمر بطلان الوقيد في الجامع الأموي في هذا العام أيضاً كالذي قبله، حسب مرسوم السلطان الناصر حسن رحمه الله، ففرح أهل الخير بذلك فرحاً شديداً، وهذا شيء لم يعهد مثله من نحو ثلاثمائة سنة،ولله الحمد والمنة‏.‏

ونودي في البلد في هذا اليوم والذي بعده عن النائب‏:‏ من وجد جندياً سكراناً فلينزله عن فرسه وليأخذ ثيابه، ومن أحضره من الجند إلى دار السعادة فله خبزه، ففرح الناس بذلك واحتجر على الخمارين والعصارين، ورخصت الأعتاب، وجادت الأخباز واللحم بعد أن كان بلغ كل رطل أربعة ونصفاً، فصار بدرهمين ونصف وأقل وأصلحت المعايش من هيبة النائب، وصار له صيت حسن، وذكر جميل في الناس بالعدل وجودة القصد وصحة الفهم وقوة العدل والإدراك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن عشر شعبان‏:‏ وصل الأمير أحمد بن شاد الشريخاناه الذي كان قد عصى في صفد، وكان من أمره ما كان، فاعتقل بالإسكندرية ثم أخرج في هذه الدولة وأعطي نيابة حماه، فدخل دمشق في هذا اليوم سائراً إلى حماه، فركب مع النائب مع الموكب، وسير عن يمينه، ونزل في خدمته إلى دار السعادة ورحل بين يديه‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين منه‏:‏ دخل الأمير سيف الدين يلبغا الذي كان نائباً بالديار المصرية، ثم مسك بالحجاز وأودع الكرك، ثم أخرج في هذه الدولة وأعطى نيابة حلب، فتلقاه نائب السلطنة وأنزل دار السعادة حين أضافه‏.‏

ونزل وطاقه بوطأة برزة وضربت له خيمة بالميدان الأخضر‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك الملك الصالح صلاح الدين، صالح بن السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، والخليفة الذي يدعى له المعتضد بأمر الله، ونائب الديار المصرية الأمير سيف الدين قبلاي، وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها‏.‏

والوزير القاضي ابن زنبور، وأولوا الأمر الذين يدبرون المملكة، فلا تصدر الأمور إلا عن آرائهم لصغر السلطان المذكور جماعة من أعيانهم ثلاثة‏:‏ سيف الدين شيخون، وطاز وحر عيمش، ونائب دمشق الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

ونائب البلاد الحلبية الأمير سيف الدين يلبغا أروش، ونائب طرابلس الأمير سيف الدين بكلمش، ونائب حماه الأمير شهاب الدين أحمد بن مشد الشريخانة، ووصل بعض الحجاج إلى دمشق في تاسع الشهر - وهذا نادر - وأخبروا بموت المؤذن شمس الدين بن سعيد بعد منزلة العلاء في المدابغ‏.‏

وفي ليلة الاثنين سادس عشر صفر في هذه السنة وقع حريق عظيم عند باب جيرون شرقيه فاحترق به دكان القفاعي الكبيرة المزخرفة وما حولها، واتسع اتساعاً فظيعاً، واتصل الحريق بالباب الأصفر من النحاس، فبادر ديوان الجامع إليه فكشطوا ما عليه من النحاس، ونقلوه من يومه إلى خزانة الحاصل، بمقصورة الحلبية، بمشهد علي‏.‏

ثم عدوا عليه يكسرون خشبه بالفؤوس الحداد والسواعد الشداد، وإذا هو من خشب الصنوبر الذي في غاية ما يكون من القوة والثبات، وتأسف الناس عليه لكونه كان من محاسن البلد ومعالمه‏.‏

وله في الوجود ما ينيف عن أربعة آلاف سنة انتهى والله أعلم‏.‏

 ترجمة باب جيرون المشهور بدمشق

الذي كان هلاكه وذهابه وكسره في هذه السنة، وهو باب سر في جامع دمشق لم ير باب أوسع ولا أعلى منه، فيما يعرف من الأبنية في الدنيا، وله علمان من نحاس أصفر بمسامير نحاس أصفر أيضاً بارزة، من عجائب الدنيا، ومحاسن دمشق ومعالمها، وقد تم بناؤها‏.‏

وقد ذكرته العرب في أشعارها والناس وهو منسوب إلى ملك يقال له جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهو الذي بناه، وكان بناؤه له قبل الخليل عليه السلام، بل قبل ثمود وهود أيضاً، على ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه وغيره‏.‏

وكان فوقه حصن عظيم، وقصر منيف، ويقال بل هو منسوب إلى اسم المارد الذي بناه لسليمان عليه السلام، وكان اسم ذلك المارد جيرون، والأول أظهر وأشهر، فعلى الأول‏:‏ يكون لهذا الباب من المدد المتطاولة ما يقارب خمسة آلاف سنة‏.‏

ثم كان انجعاف هذا الباب لا من تلقاء نفسه بل بالأيدي العادية عليه، بسبب ما ناله من شوط حريق اتصل إليه حريق وقع من جانبه في صبيحة ليلة الاثنين السادس عشر من صفر، سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فتبادر ديوان الجامعية ففرقوا شمله وقضعوا ثمله، وعروا جلده النحاس عن بدنه الذي هو من خشب الصنوبر، الذي كأن الصانع قد فرغ منه يومئذ‏.‏

وقد شاهدت الفؤوس تعمل فيه ولا تكاد تحيل فيه إلا بمشقة، فسبحان الذي خلق الذين بنوه أولاً، ثم قدر أهل هذا الزمان على أن هدموه بعد هذه المدد المتطاولة، والأمم المتداولة، ولكن لكل أجل كتاب، ولا إله إلا رب العباد‏.‏

بيان تقدم مدة هذا الباب وزيادتها على مدة أربعة آلاف سنة بل يقارب الخمسة

ذكر الحافظ ابن عساكر في أول تاريخه‏:‏ باب بناء دمشق بسنده عن القاضي يحيى بن حمزة التبلهي الحاكم بها في الزمن المتقدم، وقد كان هذا القاضي من تلاميذ ابن عمر والأوزاعي، قال‏:‏ لما فتح عبد الله بن علي دمشق بعد حصارها - يعني وانتزعها من أيدي بني أمية وسلبهم ملكهم - هدموا سور دمشق فوجدوا حجراً مكتوباً عليه باليونانية‏.‏

فجاء راهب فقرأه لهم، فإذا هو مكتوب عليه‏:‏ ويك أرم الجبابرة من رأمك بسوء قصمه الله، إذا وهي منك جيرون الغربي من باب البريد وتلك من خمسة أعين ينقض سورك على يديه، بعد أربعة آلاف سنة تعيشين رغداً، فإذا وهى منك جيرون الشرقي أؤمل لك ممن يعوض لك‏.‏

قال‏:‏ فوجدنا الخمسة أعين عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، عين بن عين بن عين بن عين بن عين، فهذا يقتضي أنه كان بسورها سنيناً إلى حين إخرابه على يد عبد الله بن علي أربعة آلاف سنة، وقد كان إخرابه له في سنة ثنتين وثلاثين ومائة كما ذكرنا في التاريخ الكبير، فعلى هذا يكون لهذا الباب إلى يوم خرب من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائة - أربعة آلاف وستمائة وإحدى وعشرين سنة، والله أعلم‏.‏

وقد ذكر ابن عساكر عن بعضهم أن نوحاً عليه السلام هو الذي أسس دمشق بعد حران وذلك بعد مضي الطوفان، وقيل‏:‏ بناها دمسغس غلام ذي القرنين عن إشارته، وقيل‏:‏ عاد الملقب بدمشيق وهو غلام الخليل، وقيل‏:‏ غير ذلك من الأقوال، وأظهرها‏:‏ أنها من بناء اليونان، لأن محاريب معابدها كانت موجهة إلى القطب الشمالي‏.‏

ثم كان بعدهم النصارى فصلوا فيها إلى الشرق، ثم كان فيها بعدهم أجمعين أمة المسلمين فصلوا إلى الكعبة المشرفة‏.‏

وذكر ابن عساكر وغيره‏:‏ أن أبوابها كانت سبعة كل منها يتخذ عنده عيد لهيكل من الهياكل السبعة، فباب القمر‏:‏ باب السلامة، وكانوا يسمونه باب الفراديس الصغير، ولعطارد‏:‏ باب الفراديس الكبير، وللزهرة‏:‏ باب توما، وللشمس‏:‏ الباب الشرقي، وللمريخ‏:‏ باب الجابية، وللمشتري‏:‏ باب الجابية الصغير، ولزحل‏:‏ باب كيسان‏.‏

وفي أوائل شهر رجب الفرد اشتهر أن نائب حلب بيبغا أروش اتفق مع نائب طرابلس بكلمش، ونائب حلب أمير أحمد بن مشد الشريخانة على الخروج عن طاعة السلطان حتى يمسك شيخون وطاز، وهما عضدا الدولة بالديار المصرية، وبعثوا إلى نائب دمشق وهو الأمير سيف الدين أرغون الكاملي فأبى عليهم ذلك‏.‏

وكاتب إلى الديار المصرية بما وقع من الأمر، وانزعج الناس لذلك، وخافوا من غائلة هذا الأمر وبالله المتسعان‏.‏

ولما كان يوم الاثنين ثامن الشهر جمع نائب السلطنة الأمراء عنده بالقصر الأبلق واستحلفهم بيعة أخرى لنائب السلطنة الملك الصالح، فحلفوا واتفقوا على السمع والطاعة والاستمرار على ذلك‏.‏

وفي ليلة الأربعاء سابع عشر رجب جاءت الجبلية الذين جمعوهم من البقاع لأجل حفظ ثنية العقاب من قدوم العساكر الحلبية، ومن معهم من أهل طرابلس وحماه، وكان هؤلاء الجبلية قريباً من أربعة آلاف، فحصل بسببهم ضرر كثير على أهل برزة وما جاورهم من الثمار وغيرها‏.‏

وفي يوم السبت العشرين منه ركب نائب السلطنة سيف الدين أرغون ومعه الجيوش الدمشقية قاصدين ناحية الكسوة ليلاً يقاتلون المسلمين ولم يبق في البلد من الجند أحد، وأصبح الناس وليس لهم نائب ولا عسكر، وخلت الديار منهم، ونائب الغيبة الأمير سيف الدين الجي بغا العادلي‏.‏

وانتقل الناس من البساتين ومن طرف العقيبة وغيرها إلى المدينة، وأكثر الأمراء نقلت حواصلهم وأهاليهم إلى القلعة المنصورة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما اقترب دخول الأمير بيبغا بمن معه انزعج الناس وانتقل أهل القرى الذين في طريقه، وسرى ذلك إلى أطراف الصالحية والبساتين وحواضر البلد، وغلقت أبواب البلد إلى ما يلي القلعة، كباب النصر، وباب الفرج، وكذا باب الفراديس‏.‏

وخلت أكثر المحال من أهاليهم، ونقلوا حوائجهم وحواصلهم وأنعامهم إلى البلد على الدواب والحمالين، وبلغهم أن أطراف الجيش انتهبوا ما في القرايا في طريقهم من الشعير والتبن وبعض الأنعام للأكل‏.‏

وربما وقع فساد غير هذا من بعض الجهلة، فخاف الناس كثيراً وتشوشت خواطرهم انتهى‏.‏

 دخول بيبغا أروش إلى دمشق

ولما كان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب دخل الأمير سيف الدين بيبغا أروش نائب حلب إلى دمشق المحروسة بمن معه من العساكر الحلبية وغيرهم وفي صحبته نائب طرابلس الأمير سيف الدين بكلمش، ونائب حماه الأمير شهاب الدين أحمد، ونائب صفد الأمير علاء الدين طيبغا، ملقب برتاق‏.‏

وكان قد توجه قبله، قيل‏:‏ بيوم، ومعه نواب قلاع كثيرة من بلاد حلب وغيرها، في عدد كثير من الأتراك والتركمان، فوقف في سوق الخيل مكان نواب السلطان تحت القلعة، واستعرض الجيوش الذين وفدوا معه هنالك، فدخلوا في تجمل كثير، ملبسين، وكان عدة من كان معه من أمراء الطبلخانات قريباً من ستين أميراً أو يزيدون أو ينقصون، على ما استفاض عن غير واحد ممن شاهد ذلك‏.‏

ثم سار قريباً من الزوال للمخيم الذي ضرب له قبل مسجد القدم عند قبة يلبغا، عند الجدول الذي هنالك، وكان يوماً مشهوداً هائلاً، لما عاين الناس من كثرة الجيوش والعدد، وعذر كثير من الناس صاحب دمشق في ذهابه بمن معه لئلا يقابل هؤلاء‏.‏

فنسأل الله أن يجمع قلوبهم على ما فيه صلاح المسلمين‏.‏

وقد أرسل إلى نائب القلعة وهو الأمير سيف الدين إباجي يطلب منه حواصل أرغون التي عنده، فامتنع عليه أيضاً، وقد حصن القلعة وسترها وأرصد فيها الرجال والرماة والعدد، وهيأنها بعض المجانيق ليبعد بها فوق الأبرجة، وأمر أهل البلد أن لا يفتحوا الدكاكين ويغلقوا الأسواق، وجعل يغلق أبواب البلد إلا باباً أو بابين منها‏.‏

واشتد حنق العسكر عليه، وهموا بأشياء كثيرة من الشر، ثم يرعوون عن الناس والله المسلم، غير أن إقبال العسكر وأطرافه قد عاثوا فيما جاوروه من القرايا والبساتين والكروم والزروع فيأخذون ما يأكلون وتأكل دوابهم، وأكثر من ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ونهبت قرايا كثيرة وفجروا بنساء وبنات، وعظم الخطب، وأما التجار ومن يذكر بكثرة مال فأكثرهم مختفٍ لا يظهر لما يخشى من المصادرة، نسأل الله أن يحسن عاقبتهم‏.‏

واستهل شهر شعبان وأهل البلد من خوف شديد، وأهل القرايا والحواضر في نقلة أثاثهم وأبقارهم ودوابهم وأبنائهم ونسائهم، وأكثر أبواب البلد مغلقة سوى بابي الفراديس والجابية، وفي كل يوم نسمع بأمور كثيرة من النهب للقرايا والحواضر، حتى انتقل كثير من أهل الصالحية أو أكثرهم، وكذلك من أهل العقبية وسائر حواضر البلد، فنزلوا عند معارفهم وأصحابهم، ومنهم من نزل على قارعة الطريق بنسائهم وأولادهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

وقال كثير من المشايخ الذين أدركوا زمن قازان‏:‏ إن هذا الوقت كان أصعب من ذلك لما ترك الناس من ورائهم من الغلات والثمار التي هي عمدة قوتهم في سنتهم‏.‏

وأما أهل البلد ففي قلق شديد أيضاً لما يبلغهم عنهم من الفجور بالنساء، ويجعلون يدعون عقيب الصلوات عليهم يصرحون بأسمائهم ويعنون بأسماء أمرائهم وأتباعهم ونائب القلعة الأمير سيف الدين إباجي في كل وقت يسكن جأش الناس ويقوي عزمهم ويبشرهم بخروج العساكر المنصورة من الديار المصرية صحبة السلطان إلى بلاد غزة حيث الجيش الدمشقي، ليجيئوا كلهم في خدمته وبين يديه‏.‏

وتدق البشائر فيفرح الناس ثم تسكن الأخبار وتبطل الروايات فتقلق ويخرجون في كل يوم وساعة في تجمل عظيم ووعد وهيآت حسنة‏.‏

ثم جاء السلطان أيده الله تعالى وقد ترجل الأمراء بين يديه من حين بسط له عند مسجد الدبان إلى داخل القلعة المنصورة، وهو لابس قباء أحمر له قيمته على فرس أصيلة مؤدبة معلمة المشي على القوس لا تحيد عنه، وهو حسن الصورة مقبول الطلعة، عليه بهاء المملكة والرياسة، والخز فوق رأسه يحمله بعض الأمراء الأكابر‏.‏

وكلما عاينه من عاينه من الناس يبتلهون بالدعاء بأصوات عالية، والنساء بالزغرطة، وفرح الناس فرحاً شديداً، وكان يوماً مشهوداً، وأمراً حميداً، جعله الله مباركاً على المسلمين‏.‏ ‏

فنزل بالقلعة المنصورة، وقد قدم معه الخليفة المعتضد أبو الفتح بن أبي بكر المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، وكان راكباً إلى جانبه من ناحية اليسار، ونزل بالمدرسة الدماغية في أواخر هذا اليوم سائر الأمراء مع نائب الشام، ومقدمهم طاز وشيخون في طلب بيبغا ومن معه من البغاة المفسدين‏.‏

وفي يوم الجمعة ثانيه حضر السلطان أيده الله إلى الجامع الأموي وصلّى فيه الجمعة بالمشهد الذي يصلّي فيه نواب السلطان أيده الله، فكثر الدعاء والمحبة له ذاهباً وآيباً تقبل الله منه، وكذلك فعل الجمعة الأخرى وهي تاسع الشهر‏.‏

وفي يوم السبت عاشره اجتمعنا يقول الشيخ عماد الدين بن كثير المصنف رحمه الله، بالخليفة المعتضد بالله أبي الفتح بن أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد‏.‏

وسلمنا عليه وهو نازل بالمدرسة الدماغية، داخل باب الفرج وقرأت عنده جزءاً فيه ما رواه أحمد بن حنبل عن محمد بن إدريس الشافعي في مسنده، وذلك عن الشيخ عز الدين بن الضيا الحموي بسماعه من ابن البخاري، وزينب بنت مكي عن أحمد بن الحصين عن ابن المذهب عن أبي بكر بن مالك عن عبد الله بن أحمد عن أبيه فذكرهما، والمقصود أنه شاب حسن الشكل مليح الكلام متواضع جيد الفهم حلو العبارة رحم الله سلفه‏.‏

وفي رابع عشره قدم البريد من بلاد حلب بسيوف الأمراء الممسوكين من أصحاب بيبغا‏.‏

وفي يوم الخميس خامس عشره نزل السلطان الملك الصالح من الطارمة إلى القصر الأبلق في أبهة المملكة، ولم يحضر يوم الجمعة إلى الصلاة، بل اقتصر على الصلاة بالقصر المذكور‏.‏

وفي يوم الجمعة باكر النهار دخل الأمير سيف الدين شيخون وطار بمن معهما من العساكر من بلاد حلب، وقد فات تدارك بيبغا وأصحابه لدخولهم بلاد زلغادر التركماني بمن بقي معهم، وهم القليل، وقد أسر جماعة من الأمراء الذين كانوا معه، وهم في القيود والسلاسل صحبة الأميرين المذكورين، فدخلا على السلطان وهو بالقصر الأبلق فسلما عليه وقبّلا الأرض وهنآه بالعيد‏.‏

ونزل طاز بدار أيتمش بالشرق الشمالي، ونزل شيخون بدار إياس الحاجب بالقرب من الظاهرية البرانية، ونزل بقية الجيش في أرجاء البلد‏.‏

وأما الأمير سيف الدين أرغون فأقام بحلب نائباً عن سؤاله إلى ما ذكر، وخوطب في تقليده بألقاب هائلة، ولبس خلعة سنية، وعظم تعظيماً زائداً، ليكون هناك إلباً على بيبغا وأصحابه لشدة ما بينهما من العداوة‏.‏

ثم صلّى السلطان بمن معه من المصريين ومن انضاف إليهم من الشاميين صلاة عيد الفطر بالميدان الأخضر، وخطب بهم القاضي تاج الدين المناوي المصري، قاضي العسكر المصري بمرسوم السلطان وذويه، وخلع عليه‏.‏انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 قتل الأمراء السبعة من أصحاب بيبغا

وفي يوم الاثنين ثالث شوال قبل العصر ركب السلطان من القصر إلى الطارمة وعلى رأسه القبة والطير يحملهما الأمير بدر الدين بن الخطير، فجلس في الطارمة ووقف الجيش بين يديه تحت القلعة وأحضروا الأمراء الذين قدموا بهم من بلاد حلب، فجعلوا يوقفون الأمير منهم ثم يشاورون عليه فمنهم‏:‏ من يشفع فيه، ومنهم‏:‏ من يؤمر بتوسيطه، فوسّط سبعة‏:‏ خمس طبلخانات ومقدما ألف، منهم‏:‏ نائب صفد برناق وشفع في الباقين فردوا إلى السجن، وكانوا خمسة آخرين‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامسه مسك جماعة من أمراء دمشق سبعة وتحولت دول كثيرة، وتأمر جماعة من الأجناد وغيرهم انتهى‏.‏

 خروج السلطان من دمشق متوجهاً إلى بلاد مصر

وفي يوم الجمعة سابع شوال ركب السلطان في جيشه من القصر الأبلق قاصداً لصلاة الجمعة بالجامع الأموي، فلما انتهى إلى باب النصر ترجل الجيش بكماله بين يديه مشاة، وذلك في يوم شاتٍ كثير الوحل فصلّى بالمقصورة إلى جانب المصحف العثماني، وليس معه في الصف الأول أحد، بل بقية الأمراء خلفه صفوف، فسمع خطبة الخطيب‏.‏

ولما فرغ من الصلاة قرئ كتاب بإطلاق أعشار الأوقاف، وخرج السلطان بمن معه من باب النصر، فركب الجيش واستقل ذاهباً نحو الكسوة بمن معه من العساكر المنصورة، مصحوبين بالسلامة والعافية المستمرة‏.‏

وخرج السلطان وليس بدمشق نائب سلطنة، وبها الأمير بدر الدين بن الخطير هو الذي يتكلم في الأمور نائب غيبة، حتى يقدم إليها نائبها ويتعين لها، وجاءت الأخبار بوصول السلطان إلى الديار المصرية سالماً، ودخلها في أبهة عظيمة في أواخر ذي القعدة، وكان يوماً مشهوداً، وخلع على الأمراء كلهم ولبس خلعة نيابة الشام الأمير علاء الدين المارداني، ومسك الأمير علم الدين بن زنبور وتولية الوزارة الصاحب موفق الدين‏.‏ ‏

وفي صبيحة يوم السبت خامس ذي الحجة دخل الأمير علاء الدين علي الجمدار من الديار المصرية إلى دمشق المحروسة في أبهة هائلة، وموكب حافل مستولياً نيابة بها، وبين يديه الأمراء على العادة، فوقف عند تربة بهادرآص حتى استعرض عليه الجيش فلحقهم، فدخل دار السعادة فنزلها على عادة النواب قبله، جعله الله وجهاً مباركاً على المسلمين‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشره قدم دوادار السلطان الأمير عز الدين مغلطاي من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق، ومن عزمه الذهاب إلى البلاد الحلبية ليجهز الجيوش نحو بيبغا وأصحابه انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية والمملكة الحلبية وما والاها والحرمين الشريفين الملك الصالح صلاح الدين صالح بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين قبلاي، والمشار إليهم في تدبير المملكة الأمراء سيف الدين شيخون، وسيف الدين طاز، وسيف الدين صرغتمش الناصري‏.‏

وقضاة القضاة وكاتب السر هناك هم المذكورون في السنة الماضية، ونائب حلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، لأجل مقاتلة أولئك الأمراء الثلاثة بيبغا وأمير أحمد وبكلمش الذين فعلوا ما ذكرنا في رجب من السنة الماضية‏.‏

ثم لجأوا إلى بلاد البلبيسين في خفارة زلغادر التركماني، ثم إنه احتال عليهم من خوفه من صاحب مصر وأسلمهم إلى قبضة نائب حلب المذكور، ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، ولله الحمد والمنة، ونائب طرابلس الأمير سيف الدين أيتمش الذي كان نائب دمشق كما ذكرنا، تقلبت به الأحوال حتى استنيب في طرابلس حين كان السلطان بدمشق كما تقدم‏.‏

واستهلت هذه السنة وقد تواترت الأخبار بأن الأمراء الثلاثة بيبغا وبكلمش وأمير أحمد قد حصلوا في قبضة نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون، وهم مسجونون بالقلعة بها، ينتظر ما يرسم به فيهم، وقد فرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً‏.‏

وفي يوم السبت سابع عشر المحرم وصل إلى دمشق الأمير عز الدين مغلطاي الدويدار عائداً من البلاد الحلبية، وفي صحبته رأس بيبغا الباغي أمكن الله منه بعد وصول صاحبيه بكلمش الذي كان نائباً بطرابلس، وأمير أحمد الذي كان نائب حماه فقطعت رؤوسهما بحلب بين يدي نائبها سيف الدين أرغون الكاملي، وسيرت إلى مصر‏.‏

ولما وصل بيبغا بعدهما فعل به كفعلهما جهرة بعد العصر بسوق الخيل بين يدي نائب السلطنة والجيش برمته والعامة على الأحاجير يتفرجون ويفرحون بمصرعه، وسر المسلمون كلهم ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول أقيمت جمعة جديدة بمحلة الشاغور بمسجد هناك يقال له مسجد المزار، وخطب فيه جمال الدين عبد الله بن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية، ثم وقع في ذلك كلام فأفضى الحال أن أهل المحلة ذهبوا إلى سوق الخيل يوم موكبه، وحملوا سناجق خليفتين من جامعهم ومصاحف واشتملوا إلى نائب السلطنة وسألوا منه أن تستمر الخطبة عندهم، فأجابهم إلى ذلك في الساعة الراهنة، ثم وقع نزاع في جواز ذلك، ثم حكم القاضي الحنبلي لهم بالاستمرار، وجرت خطوب طويلة بعد ذلك‏.‏

وفي يوم الأحد سابع ربيع الآخر توفي الأمير الكبير سيف الدين ألجي بغا العادلي، ودفن بتربته التي كان أنشأها قديماً ظاهر باب الجابية، وهي مشهورة تعرف به، وكان له في الإمرة قريباً من ستين سنة، وقد كان أصابه في نوبة أرغون شاه وقضيته ضربة أصابت يده اليمنى، واستمر مع ذلك على إمرته وتقدمته محترماً معظماً إلى أن توفي رحمه الله تعالى عليه‏.‏

 ذكر أمر غريب جداً

لما ذهبت لتهنئة الأمير ناصر الدين بن الأقوس بنيابة بعلبك وجدت هنالك شاباً فذكر لي من حضر أن هذا هو الذي كان أنثى ثم ظهر له ذكر، وقد كان أمره اشتهر ببلاد طرابلس، وشاع بين الناس بدمشق وغير ذلك، وتحدث الناس به‏.‏

فلما رأيته وعليه قبعة تركية استدعيته إليّ وسألته بحضرة من حضر، فقلت له‏:‏ كيف كان أمرك‏؟‏ فاستحيى وعلاه خجل يشبه النساء، فقال‏:‏ كنت امرأة مدة خمس عشرة سنة، وزوجوني بثلاثة أزواج لا يقدرون عليّ، وكلهم يطلق ثم اعترضني حال غريب فغارت ثدياي وصغرت، وجعل النوم يعتريني ليلاً ونهاراً‏.‏

ثم جعل يخرج من محل الفرج شيء قليل قليلاً، ويتزايد حتى برز شبه ذكر وأنثيان، فسألته أهو كبير أم صغير‏؟‏ فاستحيى ثم ذكر أنه صغير بقدر الأصبع، فسألته هل احتلم‏؟‏ فقال‏:‏ احتلم مرتين منذ حصل له ذلك‏.‏

وكان له قريباً من ستة أشهر إلى حين أخبرني، وذكر أنه يحسن صنعة النساء كلها من الغزل والتطريز والزركاش وغير ذلك، فقلت له ما كان اسمك وأنت على صفة النساء‏؟‏ فقال‏:‏ نفيسة، فقلت‏:‏ واليوم‏؟‏ فقال عبد الله، وذكر أنه لما حصل له هذا الحال كتمه عن أهله حتى عن أبيه، ثم عزموا على تزويجه على رابع فقال لأمه‏:‏ إن الأمر ما صفته كيت وكيت‏.‏

فلما اطلع أهله على ذلك أعلموا به نائب السلطنة هناك، وكتب بذلك محضراً واشتهر أمره، فقدم دمشق ووقف بين يدي نائب السلطنة بدمشق، فسأله فأخبره كما أخبرني، فأخذه الحاجب سيف الدين كحلن بن الأقوس عنده وألبسه ثياب الأجناد، وهو شاب حسن، على وجهه وسمته ومشيته وحديثه أنوثة النساء، فسبحان الفعال لما يشاء، فهذا أمر لم يقع مثله في العالم إلا قليلاً جداً‏.‏

وعندي أن ذكره كان غائراً في جوزة طير فأفرخا ثم لما بلغ ظهر قليلاً قليلاً، حتى تكامل ظهوره فتبينوا أنه كان ذكراً، وذكر لي أن ذكره برز مختوناً فسمى ختان القمر، فهذا يوجد كثيراً والله أعلم‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس شهر رجب قدم الأمير عز الدين بقطية الدويدار من الديار الحلبية وخبر عما اتفق عليه العساكر الحلبية من ذهابهم مع نائبهم ونواب تلك الحصون وعساكر خلف بن زلغادر التركماني، الذي كان أعان بيبغا وذويه على خروجه على السلطان‏.‏

وقدم معه إلى دمشق وكان من أمره ما تقدم بسطه في السنة الماضية، وأنهم نهبوا أمواله وحواصله، وأسروا خلقاً من بنيه وذويه وحريمه، وأن الجيش أخذ شيئاً كثيراً من الأغنام والأبقار والرقيق والدواب والأمتعة وغير ذلك، وأنه لجأ إلى ابن أرطنا فاحتاط عليه واعتقله عنده، وراسل السلطان بأمره ففرح الناس براحة الجيش الحلبي وسلامته بعدما قاسوا شديداً وتعباً كثيراً‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشره كان قدوم الأمراء الذين كانوا مسجونين بالإسكندرية من لدن عود السلطان إلى الديار المصرية، ممن كان اتهم بممالأة بيبغا أو خدمته، كالأمير سيف الدين ملك أجي، وعلاء الدين علي السيمقدار، وساطلمس الجلالي ومن معهم‏.‏

وفي أول شهر رمضان اتفق أن جماعة من المفتيين أفتوا بأحد قولي العلماء، وهما وجهان لأصحابنا الشافعية وهو جواز استعادة ما استهدم من الكنائس، فتعصب عليهم قاضي القضاة تقي الدين السبكي فقرعهم في ذلك ومنعهم من الإفتاء، وصنف في ذلك مصنفاً يتضمن المنع من ذلك سماه ‏(‏الدسائس في الكنائس‏)‏‏.‏

وفي خامس شهر رمضان قدم بالأمير أبو الغادر التركماني الذي كان مؤازراً لبيبغا في العام الماضي على تلك الأفاعيل القبيحة، وهو مضيق عليه، فأحضر بين يدي النائب ثم أودع القلعة المنصورة في هذا اليوم‏.‏

 

 

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية وما يتبع ذلك والحرمين الشريفين وما والاهما من بلاد الحجاز وغيرها الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، وهو ابن بنت تنكز نائب الشام‏.‏

وكان في الدولة الناصرية، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين قبلاي الناصري، ووزيره القاضي موفق الدين، وقضاة مصر هم المذكورون في العام الماضي، ومنهم قاضي القضاة عز الدين بن جماعة الشافعي‏.‏

وقد جاور في هذه السنة في الحجاز الشريف، والقاضي تاج الدين المناوي يسد المنصب عنه، وكاتب السر القاضي علاء الدين بن فضل الله العدوي، ومدبرو المملكة الأمراء الثلاثة سيف الدين شيخون، وصرغتمش الناصري والأمير الكبير الدوادار عز الدين مغلطاي الناصري‏.‏ ‏

ودخلت هذه السنة والأمير سيف الدين شيخون في الأحداث من مدة شهر أو قريب ونائب دمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الدواوين الصاحب شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وكاتب السر القاضي ناصر الدين بن الشرف يعقوب، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة، ومحتسبه الشيخ علاء الدين الأنصاري، قريب الشيخ بهاء الدين بن إمام المشهد، وهو مدرّس الأمينية مكانه أيضاً‏.‏

وفي شهر ربيع الآخر قدم الأمير علاء الدين مغلطاي الذي كان مسجوناً بالإسكندرية ثم أفرج عنه، وقد كان قبل ذلك هو الدولة، وأمر بالمسير إلى الشام ليكون عند حمزة أيتمش نائب طرابلس‏.‏

وأما منجك الذي كان وزيره بالديار المصرية وكان معتقلاً بالإسكندرية مع مغلطاي، فإنه صار إلى صفد مقيماً بها بطالاً، كما أن مغلطاي أمر بالمقام بطرابلس بطالاً إلى حين يحكم الله عز وجل انتهى والله أعلم‏.‏

 نادرة من الغرائب

في يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق وهو يسب أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس ولا صلّى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس فأخذوه وإذا قاضي القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس‏.‏

فجئت إليه واستنطقته من الذي ظلم آل محمد‏؟‏ فقال‏:‏ أبو بكر الصديق، ثم قال جهرة والناس يسمعون‏:‏ لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين فأمر، به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرح بالسب واللعن والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي واسم هذا اللعين علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير قبحه الله وأخزاه‏.‏

ثم لما كان يوم الخميس سابع عشره عقد له مجلس بدار السعادة وحضر القضاة الأربعة وطلب إلى هنالك فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعاً فضرب عنقه تحت القلعة وحرقه العامة وطافوا برأسه البلد ونادوا عليه هذا جزء من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ناظرت هذا الجاهل بدار القاضي المالكي وإذا عنده شيء مما يقوله الرافضة الغلاة، وقد تلقى عن أصحاب ابن مطهر أشياء في الكفر والزندقة، قبحه الله وإياهم‏.‏

وورد الكتاب بإلزام أهل الذمة بالشروط العمرية‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشر رجب الفرد قرئ بجامع دمشق بالمقصورة بحضرة نائب السلطنة وأمراء الأعراب، وكبار الأمراء، وأهل الحل والعقد والعامة كتاب السلطان بإلزام أهل الذمة بالشروط العمرية‏.‏‏

وزيادات أخر‏:‏ منها أن لا يستخدموا في شيء من الدواوين السلطانية والأمراء ولا في شيء من الأشياء، وأن لا تزيد عمامة أحدهم عن عشرة أذرع ولا يركبوا الخيل ولا البغال ولكن الحمير بالأكف عرضاً، وأن لا يدخلوا إلا بالعلامات من جرس أو بخاتم نحاس أصفر، أو رصاص، ولا تدخل نساؤهم مع المسلمات الحمامات، وليكن لهن حمامات تختص بهن، وأن يكون إزار النصرانية من كتان أزرق، واليهودية من كتان أصفر، وأن يكون أحد خفيها أسود والآخر أبيض، وأن يحكم حكم مواريثهم على الأحكام الشرعية‏.‏

واحترقت باسورة باب الجابية في ليلة الأحد العشرين من جمادى الآخرة، وعدم المسلمون تلك الأطعمات والحواصل النافعة من الباب الجواني إلى الباب البراني‏.‏

وفي مستهل شهر رمضان عمل الشيخ الإمام العالم البارع شمس الدين - بن النقاش المصري الشافعي - ورد دمشق بالجامع الأموي تجاه محراب الصحابة، ميعاداً للوعظ واجتمع عنده خلق من الأعيان والفضلاء والعامة، وشكروا كلامه وطلاقة عبارته، من غير تلعثم ولا تخليط ولا توقف، وطال ذلك إلى قريب العصر‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد ثالثه صلّي بجامع دمشق بالصحن تحت النسر على القاضي كمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، ونائبه، وحضر نائب السلطنة الأمير علاء الدين علي، وقضاة البلد والأعيان والدولة كثير من العامة، وكانت جنازته محسودة، وحضر والده قاضي القضاة وهو يهادي بين رجلين، فظهر عليه الحزن والكآبة، فصلّى عليه إماماً، وتأسف الناس عليه لسماحة أخلاقه وانجماعه على نفسه لا يتعدى شره إلى غيره‏.‏

وكان يحكم جيداً نظيف العرض في ذلك، وكان قد درّس في عدة مدارس منها‏:‏ الشامية البرانية والعذراوية، وأفتى وتصدر، وكانت لديه فضيلة جيدة بالنحو والفقه والفرائض وغير ذلك، ودفن بسفح قاسيون في تربة معروفة لهم رحمهم الله‏.‏

عودة الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون

وذلك يوم الاثنين ثاني شهر شوال اتفق جمهور الأمراء مع الأمير شيخون وصرغتمش في غيبة طاز في الصيد على خلع الملك الصالح صالح بن الناصر، وأمه بنت تنكز، وإعادة أخيه الملك الناصر حسن‏.‏ ‏

وكان ذلك يومئذ وألزم الصالح بيته مضيقاً عليه، وسلم إلى أمه خوندة بنت الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام كان، وقطلبوطاز، وأمسك أخوه سنتم وأخو السلطان الصالح لأمه عمر بن أحمد بن بتكتمر الساقي، ووقعت خطبة عظيمة بالديار المصرية، ومع هذا فلم يقبل البريد إلى الشام وخبر البيعة إلا يوم الخميس الثالث عشر من هذا الشهر، قدم بسببها الأمير عز الدين أيدمر الشمسي وبايع النائب بعدما خلع عليه خلعة سنية، والأمراء بدار السعادة على العادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب له الخطيب يوم الجمعة على المنبر بحضرة نائب السلطنة والقضاة والدولة‏.‏

وفي صبيحة يوم الخميس تاسع عشر شوال دخل دمشق الأمير سيف الدين منجك على نيابة طرابلس ونزل القصر الأبلق مع الأمير عز الدين أيدمر فأقام أياماً عديدة ثم سار إلى بلده بعد أيام‏.‏

وفي صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين منه دخل الأمير سيف الدين طاز من الديار المصرية في جماعة من أصحابه مجتازاً إلى نيابة حلب المحروسة، فتلقاه نائب السلطنة إلى قريب من جامع كريم الدين بالقبيبات، وشيعه إلى قريب من باب الفراديس فسار ونزل بوطأة برزة فبات هنالك، ثم أصبح غادياً وقد كان نظير الأمير شيخون ولكن قوي عليه فسيره إلى بلاد حلب، وهو محبب إلى العامة لما له من السعي المشكور في أمور كبار كما تقدم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام والمسلمين السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، وليس بالديار المصرية نائب ولا وزير‏.‏

وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها، ونائب دمشق الأمير علي المارداني، والقضاة والحاجب والخطيب وكاتب السر هم المذكورون في التي قبلها، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز، ونائب طرابلس منجك، ونائب حماه استدمر العمري، ونائب صفد الأمير شهاب الدين بن صبح، ونائب حمص الأمير ناصر الدين بن الأقوس، ونائب بعلبك الحاج كامل‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسع صفر مسك الأمير أرغون الكاملي الذي ناب بدمشق مدة ثم بعدها ابن نور الدين علي بن غازي من قرية اللبوة من الكلام السيء الذي نال به من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره، فقتل لعنه الله يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس وشفى الله صدور قوم مؤمنين ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد رابع عشر شعبان درّس القاضي بهاء الدين أبو البقاء السبكي بالمدرسة القيمرية نزل له عنها ابن عمه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن قاضي القضاة تقي السبكي وحضر عنده القضاة والأعيان، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وصلّي في هذا اليوم بعد الظهر على الشيخ الشاب الفاضل المحصل جمال الدين عبد الله بن العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، ودفن عند أبيه بمقابر باب الصغير، وكانت جنازته حافلة، وكانت لديه علوم جيدة، وذهنه حاضر خارق، أفتى ودرّس وأعاد وناظر وحج مرات عديدة رحمه الله وبل بالرحمة ثراه‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسع عشر شوال وقع حريق هائل في سوق القطانين بالنهار، وذهب إليه نائب السلطنة والحجبة والقضاة حتى اجتهد الفعول والمتبرعون في إخماده وطفيه، حتى سكن شره وذهب بسببه دكاكين ودور كثيرة جداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد رأيته من الغد والنار كما هي عمالة والدخان صاعد والناس يطفونه بالماء الكثير الغمر والنار لا تخمد، لكن هدمت الجدران وخربت المساكن وانتقل السكان انتهى والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب ولا وزير بمصر، وإنما يرجع تدبير المملكة إلى الأمير سيف الدين شيخون، ثم الأمير سيف الدين صرغتمش، ثم الأمير عز الدين مغلطاي الدوايدار‏.‏

وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها سوى الشافعي فإنه ابن المتوفي قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز، وطرابلس الأمير سيف الدين منجك، وبصغد الأمير شهاب الدين بن صبح، وبحماة يدمر العمري، وبحمص علاء الدين بن المعظم، وببعلبك الأمير ناصر الدين الأقوس‏.‏

وفي العشر الأول من ربيع الأول تكامل إصلاح بلاط الجامع الأموي، وغسل فصوص المقصورة والقبة، وبسط بسطاً حسناً، وبيضت أطباق القناديل، وأضاء حاله جداً، وكان المستحث على ذلك الأمير علاء الدين أيدغمش أحد أمراء الطبلخانات، بمرسوم نائب السلطنة له في ذلك‏.‏ ‏

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة صلّي على الأمير سيف الدين براق أمير أرجو بجامع تنكز، ودفن بمقابر الصوفية، وكان مشكور السيرة كثير الصلاة والصدقة محباً للخير وأهله، من أكبر أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى‏.‏

وقد رسم لولديه ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر كل منهما بعشرة أرماح، ولناصر الدين بمكان أبيه في الوظيفة بإسطبل السلطان‏.‏

وفي يوم الخميس رابع شهر جمادى الأولى خلع على الأميرين الأخوين ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر ولدي الأمير سيف الدين براق رحمه الله تعالى، بأميرين عشرتين‏.‏

ووقع في هذا الشهر نزاع بين الحنابلة في مسألة المناقلة، وكان ابن قاضي الجبل الحنبلي يحكم بالمناقلة في قرار دار الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي حاجب الحجاب إلى أرض أخرى يجعلها وقفاً على ما كانت قرار داره عليه، ففعل ذلك بطريقة ونفذه القضاة الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي‏.‏

فغضب القاضي الحنبلي وهو قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي من ذلك، وعقد بسبب ذلك مجالس، وتطاول الكلام فيه، وادّعى كثير منهم أن مذهب الإمام أحمد في المناقلة إنما هو في حال الضرورة، وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف، فأما المناقلة لمجرد المصلحة والمنفعة الراجحة فلا، وامتنعوا من قبول ما قرره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ذلك‏.‏

ونقله عن الإمام أحمد من وجوه كثيرة من طريق ابنيه صالح وحرب وأبي داود وغيرهم، أنها تجوز للمصلحة الراجحة، وصنف في ذلك مسألة مفردة وقفت عليها - يعني الشيخ عماد الدين بن كثير - فرأيتها في غاية الحسن والإفادة، بحيث لا يتخالج من اطلع عليها ممن يذوق طعم الفقه أنها مذهب الإمام أحمد رحمه الله‏.‏

فقد احتج أحمد في ذلك في رواية ابنه صالح بما رواه عن يزيد بن عوف، عن المسعودي، عن القاسم بن محمد‏:‏ أن عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق، ففعل ذلك‏.‏

فهذا فيه أوضح دلالة على ما استدل به فيها من النقل بمجرد المصلحة فإنه لا ضرورة إلى جعل المسجد العتيق سوقاً، على أن الإسناد فيه انقطاع بين القاسم وبين عمر وبين القاسم وابن مسعود، ولكن قد جزم به صاحب المذهب، واحتج به وهو ظاهر واضح في ذلك، فعقد المجلس في يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر‏.‏

وفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى وقع حريق عظيم ظاهر باب الفرج احترق فيه بسببه قياسير كثيرة لطاز ويلبغا، وقيسرية الطوشاي لبنت تكز، وأخر كثيرة ودور ودكاكين، وذهب للناس شيء كثير من الأمتعة والنحاس والبضائع وغير ذلك، مما يقاوم ألف ألف وأكثر خارجاً عن الأموال، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد ذكر كثير من الناس أنه كان في هذه القياسير شر كثير من الفسق والربا والزغل وغير ذلك‏.‏

وفي السابع والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بأن الفرنج لعنهم الله استحوذوا على مدينة صفد‏:‏ قدموا في سبعة مراكب وقتلوا طائفة من أهلها ونهبوا شيئاً كثيراً وأسروا أيضاً، وهجموا على الناس وقت الفجر يوم الجمعة، وقد قتل منهم المسلمون خلقاً كثيراً، وكسروا مركباً من مراكبهم، وجاء الفرنج في عشية السبت قبل العصر، وقدم الوالي وهو جريح مثقل، وأمر نائب السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية فساروا تلك الليلة ولله الحمد‏.‏

وتقدمهم حاجب الحجاب وتحدر إليهم نائب صفد الأمير شهب الدين بن صبح، فسبق الجيش الدمشقي، ووجد الفرنج قد برزوا بما غنموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرة تلقاء صيدا في البحر، وقد أسر المسلمون منهم في المعركة شيخاً وشاباً من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذهاب، فراسلهم الجيش في إنفكاك الأساري من أيديهم فبادرهم عن كل رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفاً، ولم يبق معهم ولله الحمد أحد‏.‏

واستمر الصبي من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفع إليهم الشيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشاً شديداً، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدة، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرين بما معهم من الغنائم، وبعثت رؤوس جماعة من الفرنج ممن قتل في المعركة فنصبت على القلعة بدمشق‏.‏

وجاء الخبر في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيض وهم محاصرون القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقاً كثيراً من أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وذهب صاحب حلب في جيش كثيف نحوهم والله المسئول أن يظفرهم بحوله وقوته، وشاع بين العامة أيضاً أن الإسكندرية محاصرة ولم يتحقق ذلك إلى الآن، وبالله المستعان‏.‏

وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قدم رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضع وثلاثون رأساً، فنصبت على شرفات القلعة ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد‏.‏

وفي ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وقع حريق عظيم داخل باب الصغير من مطبخ السكر الذي عند السويقة الملاصقة لمسجد الشناشين، فاحترق المطبخ وما حوله إلى حمام أبي نصر، واتصل بالسويقة المذكورة وما هنالك من الأماكن، فكان قريباً أو أكثر من الحريق ظاهر باب الفرج فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحضر نائب السلطنة وذلك أنه كان وقت صلاة العشاء ولكن كان الريح قوياً، وذلك بتقدير العزيز العليم‏.‏

وتوفي الشيخ عز الدين محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي أحد مشايخ الرواة في ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، وصلّي عليه من الغد بالجامع الأموي بعد الظهر ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وكان مولده في ثاني ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة، فجمع الكثير وتفرد بالرواية عن جماعة في آخر عمره، وانقطع بموته سماع السنن الكبير للبيهقي، رحمه الله‏.‏

ووقع حريق عظيم ليلة الجمعة خامس عشر رجب بمحلة الصالحية من سفح قاسيون، فاحترق السوق القبلي من جامع الحنابلة بكماله شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً‏.‏فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة خامس شهر رمضان خطب بالجامع الذي أنشأه سيف الدين يلبغا الناصري غربي سوق الخيل، وفتح في هذا اليوم وجاء في غاية الحسن والبهاء، وخطب الشيخ ناصر الدين بن الربوة الحنفي‏.‏

وكان قد نازعه فيه الشيخ شمس الدين الشافعي الموصلي، وأظهر ولاية من واقفه يلبغا المذكور، ومراسيم شريفة سلطانية، ولكن قد قوي عليه ابن الربوة بسبب أنه نائب عن الشيخ قوام الدين الأتقاني الحنفي، وهو مقيم بمصر، ومعه ولاية من السلطان متأخرة عن ولاية الموصلي، فرسم لابن الربوة، فلبس يومئذ الخلعة السوداء من دار السعادة وجاؤوا بين يديه بالسناجق السود الخليفية‏.‏

والمؤذنون يكبرون على العادة، وخطب يومئذ خطبة حسنة أكثرها في فضائل القرآن، وقرأ في المحراب بأول سورة طه، وحضر كثير من الأمراء والعامة والخاصة، وبعض القضاة، وكان يوماً مشهوداً، وكنت ممن حضر قريباً منه‏.‏

والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس وفيه‏:‏ والمخدوم يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبال كلها ومات الوحوش كلها مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوش موضع يهربون فيه، وبقي الحريق عليه أياماً وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى - يعني الذي وقع في تشرين وذلك في ذي القعدة من هذه السنة - قال‏:‏ ومن العجب أن ورقة من شجرة وقعت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدرزية والرافضة‏.‏

نقلته من خط كاتبه محمد بن يلبان إلى صاحبه، وهما عندي بقبان فيالله العجب‏.‏

وفي هذا الشهر - يعني ذي القعدة - وقع بين الشيخ إسماعيل بن العز الحنفي وبين أصحابه من الحنفية مناقشة سبب اعتدائه على بعض الناس في محاكمة، فاقتضى ذلك إحضاره إلى مجلس الحكم ثلاثة أيام كمثل المتمرد عندهم، فلما لم يحضر فيها حكم عليه القاضي شهاب الدين الكفري نائب الحنفي بإسقاط عدالته، ثم ظهر خبره بأنه قصد بلاد مصر، فأرسل النائب في أثره من يرده فعنفه، ثم أطلقه إلى منزله، وشفع فيه قاضي القضاة الحنفي فاستحسن ذلك ولله الحمد والمنة‏.

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة والخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي، وسلطان الإسلام بالديار المصرية وما يتبعها وبالبلاد الشامية وما والاها والحرمين الشريفين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي ولي له بمصر نائب ولا وزير‏.‏

وإنما ترجع الأمور إصداراً وإيراداً إلى الأميرين الكبيرين سيف الدين شيخون وصرغتمش الناصريين، وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها انتهى‏.‏

 كائنة غريبة جداً

لما كان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة نهدت جماعة من مجاوري الجامع بدمشق من مشهد علي وغيره، واتبعهم جماعة من الفقراء والمغاربة، وجاؤوا إلى أماكن متهمة بالخمر وبيع الحشيش فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها وأتلفوا شيئاً كثيراً من الحشيش وغيره، ثم انتقلوا إلى حكر السماق وغيرهم فثار عليهم من البارذارية والكلابرية وغيرهم من الرعاع فتناوشوا‏.‏

وضربت عليهم ضرابات بالأيدي وغيرهم، وربما سل بعض الفساق السيوف عليهم كما ذكر، وقد رسم ملك الأمراء لوالي المدينة ووالي البر أن يكونوا عضداً لهم وعوناً على الخمارين والحشاشة، فنصروهم عليهم‏.‏

غير أنه كثر معهم الضجيج ونصبوا راية واجتمع عليهم خلق كثير، ولما كان في أواخر النهار تقدم جماعة من النقباء والخزاندارية ومعهم جنازير فأخذوا جماعة من مجاوري الجامع وضربوا بالمقارع وطيف بهم في البلد ونادوا عليهم‏:‏ هذا جزاء من يتعرض لما لا يعنيه تحت علم السلطان‏.‏

فتعجب الناس من ذلك وأنكروه حتى أنه أنكر اثنان من العامة على المنادية فضرب بعض الجند أحدهم بدبوس فقتله وضرب الآخر فيقال إنه مات أيضاً فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي شعبان من هذه السنة حكي عن جارية من عتيقات الأمير سيف الدين تمر المهمندار أنها حملت قريباً من سبعين يوماً ثم شرعت تطرح ما في بطنها فوضعت في قرب من أربعين يوماً في أيام متتالية ومتفرقة أربع عشرة بنتاً وصبياً بعدهن قل من يعرف شكل الذكر من الأنثى‏.‏

وجاء الخبر بأن الأمير سيف الدين شيخون مدبر الممالك بالديار المصرية والشامية ظفر عليه مملوك من مماليك السلطان فضربه بالسيف ضربات فجرحه في أماكن في جسده‏.‏

منها‏:‏ ما هو في وجهه، ومنها‏:‏ ما هو في يده، فحمل إلى منزله صريعاً طريحاً جريحاً، وغضب لذلك طوائف من الأمراء حتى قيل إنهم ركبوا ودعوا إلى المبارزة فلم يجيء إليهم وعظم الخطب بذلك جداً واتهمو به الأمير سيف الدين صرغتمش وغيره، وأن هذا إنما فعل عن ممالأة منهم فالله أعلم‏.‏

وفاة أرغون الكاملي باني البيمارستان بحلب

كانت وفاته بالقدس الشريف في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، ودفن بتربة أنشأها غربي المسجد بشماله، وقد ناب بدمشق مدة بعد حلب، ثم جرت الكائنة التي أصلها بيبغا قبحه الله في أيامه، ثم صار إلى نيابة حلب ثم سجن بالإسكندرية مدة، ثم أفرج عنه فأقام بالقدس الشريف إلى أن كانت وفاته كما ذكرنا في التاريخ المذكور عزّره الشريف ابن زريك، والله أعلم‏.‏

 وفاة الأمير شيخون

ورد الخبر من الديار المصرية بوفاة الأمير شيخون ليلة الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة ودفن من الغد بتربته، وقد ابتنى مدرسة هائلة وجعل فيها المذاهب الأربعة ودار للحديث وخانقاه للصوفية، ووقف عليها شيئاً كثيراً، وقرر فيها معاليم وقراءة دارة، وترك أموالاً جزيلة وحواصل كثيرة ودواوين في سائر البلاد المصرية والشامية، وخلّف بنات وزوجة، وورث البقية أولاد السلطان المذكور بالولاء، ومسك بعد وفاته أمراء كثيرون بمصر كانوا من حزبه، من أشهرهم عز الدين بقطاي والدوادار وابن قوصون وأمه أخت السلطان خلف عليها شيخون بعد قوصون انتهى والله أعلم‏.‏

 

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالبلاد المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي، وقد قوي جانبه وحاشيته بموت الأمير شيخون كما ذكرنا في سادس عشرين ذي القعدة من السنة الماضية‏.‏

وصار إليه من ميراثه من زهرة الحياة شيء كثير من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وكذلك من المماليك والأسلحة والعدة والبرك والمتاجر ما يشق حصره ويتعذر إحصاؤه ها هنا، وليس في الديار المصرية فيما بلغنا إلى الآن نائب ولا وزير، والقضاة هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وأما دمشق فنائبها وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي فإنه قاضي القضاة شرف الدين الكفري، عوضاً عن نجم الدين الطوسي‏.‏

توفي في شعبان من السنة الماضية، ونائب حلب سيف الدين طاز، وطرابلس منجك، وحماة استدمر العمري، وصفد شهاب الدين بن صبح، وبحمص صلاح الدين خليل بن خاض برك، وببعلبك ناصر الدين الأقوس‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين رابع عشر المحرم خرجت أربعة آلاف مع أربع مقدمين إلى ناحية حلب نصرة لجيش حلب على مسك طاز إن امتنع من السلطنة كما أمر‏.‏

ولما كان يوم الحادي والعشرين من المحرم نادى المنادي من جهة نائب السلطنة أن يركب من بقي من الجند في الحديد ويوافوه إلى سوق الخيل، فركب معهم قاصداً ناحية ثنية العقاب ليمنع الأمير طاز من دخول البلد، لما تحقق مجيئه في جيشه قاصداً إلى الديار المصرية‏.‏

فانزعج الناس لذلك وأخليت دار السعادة من الحواصل والحريم إلى القلعة، وتحصن كثير من الأمراء بدورهم داخل البلد، وأغلق باب النصر، فاستوحش الناس من ذلك بعض الشيء، ثم غلقت أبواب البلد كلها إلا بأبي الفراديس والفرج، وباب الجابية أيضاً لأجل دخول الحجاج، ودخل المحمل صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم ولم يشعر به كثير من الناس لشغلهم بما هم فيه من أمر طاز، وأمر العشير بحوران، وجاء الخبر بمسك الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب الكبير بأرض حوران‏.‏

وسجنه بقلعة صرخد، وجاء سيفه صحبة الأمير جمال الدين الحاجب، فذهب به إلى الوطاق عند الثنية، وقد وصل طاز بجنوده إلى باب القطيفة وتلاقى شاليشه بشاليش نائب الشام، ولم يكن منهم قتال ولله الحمد‏.‏ ‏‏

ثم تراسل هو والنائب في الصلح على أن يسلم طاز نفسه ويركب في عشرة سروج إلى السلطان وينسلخ مما هو فيه، ويكاتب فيه النائب وتلطفوا بأمره عند السلطان وبكل ما يقدر عليه‏.‏

فأجاب إلى ذلك وأرسل يطلب من يشهده على وصيته، فأرسل إليه نائب السلطنة القاضي شهاب الدين قاضي العسكر، فذهب إليه فأوصى لولده وأم ولده ولوالده نفسه، وجعل الناظر على وصيته الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة، وللأمير صرغتمش، ورجع النائب من الثنية عشية يوم السبت بين العشاءين الرابع والعشرين منه وتضاعفت الأدعية له وفرح الناس بذلك فرحاً شديداً‏.‏

ودعوا إلى الأمير طاز بسبب إجابته إلى السمع والطاعة، وعدم مقاتلته مع كثرة من كان معه من الجيوش، وقوة من كان يحرضه على ذلك من أخوته وذويه، وقد اجتمعت بنائب السلطنة الأمير علاء الدين أمير علي المارداني فأخبرني بملخص ما وقع منذ خرج إلى أن رجع‏.‏

ومضمون كلامه أن الله لطف بالمسلمين لطفاً عظيماً، إذ لم يقع بينهم قتال، فإنه قال‏:‏ لما وصل طاز إلى القطيفة وقد نزلنا نحن بالقرب من خان لاجين أرسلت إليه مملوكاً من مماليكي أقول له‏:‏ إن المرسوم الشريف قد ورد بذهابك إلى الديار المصرية في عشرة سروج فقط، فإذا جئت هكذا فأهلاً وسهلاً، وإن لم تفعل فأنت أصل الفتنة‏.‏

وركبت ليلة الجمعة طول الليل في الجيش وهو ملبس، فرجع مملوكي ومعه مملوكه سريعاً يقول‏:‏ إنه يسأل أن يدخل بطلبه كما خرج يطلبه من مصر، فقلت‏:‏ لا سبيل إلى ذلك إلا في عشرة سروج كما رسم السلطان، فرجع وجاءني الأمير الذي جاء من مصر بطلبه فقال‏:‏ إنه يطلب منك أن يدخل في مماليكه فإذا جاوز دمشق إلى الكسوة نزل جيشه هناك وركب هو في عشرة سروج كما رسم‏.‏

فقلت‏:‏ لا سبيل إلى أن يدخل دمشق ويتجاوز بطلبه أصلاً، وإن كان عنده خيل ورجال وعدة فعندي أضعاف ذلك، فقال لي الأمير‏:‏ يا خوند لا يكون تنسى قيمته، فقلت‏:‏ لا يقع إلا ما تسمع، فرجع فما هو إلا أن ساق مقدار رمية سهم وجاء بعض الجواسيس الذين لنا عندهم فقال‏:‏ ياخوندها قد وصل جيش حماة وطرابلس، ومن معهم من جيش دمشق الذين كانوا قد خرجوا بسببه، وقد اتفقوا هم وهو‏.‏

قال‏:‏ فحينئذ ركبت في الجيش وأرسلت طليعتين أمامي وقلت تراءوا للجيوش الذين جاؤوا حتى يروكم فيعلموا أنا قد أحطنا بهم من كل جانب‏.‏

فحينئذ جاءت البرد من جهته بطلب الأمان ويجهرون بالإجابة إلى أن يركب في عشرة سروج، ويترك طلبه بالقطيفة، وذلك يوم الجمعة، فلما كان الليل ركبت أنا والجيش في السلاح طول الليل وخشيت أن تكون مكيدة وخديعة، فجاءتنا الجواسيس فأخبرونا أنهم قد أوقدوا نشابهم ورماحهم وكثيراً من سلاحهم، فتحققنا عند ذلك طاعته وإجابته، لكل ما رسم به، فلما أصبح يوم السبت وصى وركب في عشرة سروج وسار نحو الديار المصرية ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر دخل حاجب الحجاب الذي كان سجن في قلعة صرخد مع البريدي الذي قدم بسبه من الديار المصرية، وتلقاه جماعة من الأمراء والكبراء، وتصدق بصدقات كثيرة في داره، وفرحوا به فرحاً شديداً، وهو والناس يقولون إنه ذاهب إلى الديار المصرية معظماً مكرماً على تقدمة ألف ووظائف هناك، فلما كان يوم الخميس السابع والعشرين منه لم يفجأ الناس إلا وقد دخل القلعة المنصورة معتقلاً بها مضيقاً عليه، فتعجب الناس من هذه الترحة من تلك الفرحة فما شاء الله كان‏.‏

وفي يوم الأربعاء رابع ربيع الأول عقد مجلس بسبب الحاجب بالمشهد من الجامع‏.‏

وفي يوم الخميس أحضر الحاجب من القلعة إلى دار الحديث، واجتمع القضاة هناك بسبب دعاوى يطلبون منه حق بعضهم‏.‏

ثم لما كان يوم الاثنين تاسعه قدم من الديار المصرية مقدم البريدية بطلب الحاجب المذكور فأخرج من القلعة السلطانية وجاء إلى نائب السلطنة فقبّل قدمه، ثم خرج إلى منزله وركب من يومه قاصداً إلى الديار المصرية مكرماً، وخرج بين يديه خلق من العوام والحرافيش يدعون له، وهذا أغرب ما أرّخ، فهذا الرجل نالته شدة عظيمة بسبب سجنه بصرخد، ثم أفرج عنه، ثم حبس في قلعة دمشق ثم أفرج عنه، وذلك كله في نحو شهر‏.‏

ثم جاءت الأخبار في يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى بعزل نائب السلطنة عن دمشق فلم يركب في الموكب يوم الاثنين، ولا حضر في دار العدل، ثم تحققت الأخبار بذلك وبذهابه إلى نيابة حلب، ومجيء نائب حلب إلى دمشق، فتأسف كثير من الناس عليه لديانته وجوده وحسن معاملته لأهل العلم، ولكن حاشيته لا ينفذون أوامره، فتولد بسبب ذلك فساد عريض وحموا كثيراً من البلاد‏.‏

فوقعت الحروب بين أهلها بسبب ذلك، وهاجت العشيرات فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين خرج الأمير علي المارداني من دمشق في طلبه مستعجلاً في أبهة النيابة، قاصداً إلى حلب المحروسة، وقد ضرب وطاقه بوطأة برزة، فخرج الناس للتفرج على طلبه‏.‏

وفي هذا اليوم بعد خروج النائب بقليل دخل الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب من الديار المصرية عائداً إلى وظيفة الحجوبية في أبهة عظيمة، وتلقاه الناس بالشموع، ودعوا له، ثم ركب من يومه إلى خدمة ملك الأمراء إلى وطأة برزة، فقبّل يده وخلع عليه الأمراء، واصطلحا‏.‏انتهى والله أعلم‏.‏

 

 

 دخول نائب السلطنة منجك إلى دمشق

كان ذلك في صبيحة يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من ناحية حلب وبين يديه الأمراء والجيش على العادة، وأوقدت الشموع وخرج الناس ومنهم من باب على الأسطحة وكان يوماً هائلاً‏.‏

وفي أواخر شهر رجب برز نائب السلطنة إلى الربوة وأحضر القضاة وولاة الأمور ورسم بإحضار المفتيين - وكنت فيمن طلب يومئذ إلى الربوة فركبت إليها - وكان نائب السلطنة عزم يومئذ على تخريب المنازل المبنية بالربوة وغلق الحمام من أجل هذه فيما ذكر أنها بنيت ليقضي فيها، وهذا الحمام أوساخه صائرة إلى النهر الذي يشرب منه الناس، فاتفق الحال في آخر الأمر على إبقاء المساكن ورد المرتفعات المسلطة على توره وناس، ويترك ما هو مسلط على بردى، فانكف الناس عن الذهاب إلى الربوة بالكلية، ورسم يومئذ بتضييق أكمام النساء وأن تزال الأجراس والركب عن الحمير التي للمكارية‏.‏

وفي أوائل شهر شعبان ركب نائب السلطنة يوم الجمعة بعد العصر ليقف على الحائط الرومي الذي بالرحبية، فخاف أهل الأسواق وغلقوا دكاكينهم عن آخرهم، واعتقدوا أن نائب السلطنة أمر بذلك، فغضب من ذلك وتنصل منه، ثم إنه أمر بهدم الحائط المذكور، وأن ينقل إلى العمارة التي استجدها خارج باب النصر في دار الصناعة التي إلى جانب دار العدل، أمر ببنائها خاناً ونقلت تلك الأحجار إليها، انتهى والله أعلم‏.‏

 عزل القضاة الثلاثة بدمشق

ولما كان يوم الثلاثاء تاسع شعبان قدم من الديار المصرية بريدي ومعه تذكرة - ورقة - فيها السلام على القضاة المستجدين، وأخبر بعزل القاضي الشافعي والحنفي والمالكي، وأنه ولى قضاة الشافعية القاضي بهاء الدين أبو البقا السبكي، وقضاء الحنفية الشيخ جمال الدين بن السراج الحنفي، وذهب الناس إلى السلام عليهم والتهنئة لهم واحتفلوا بذلك، وأخبروا أن القاضي المالكي سيقدم من الديار المصرية، ولما كان يوم السبت السابع والعشرين من شعبان وصل البريد من الديار المصرية ومعه تقليدان وخلعتان للقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، فلبسا الخلعتين وجاءا من دار السعادة إلى الجامع الأموي، وجلسا في محراب المقصورة، وقرأ تقليد قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء الشافعي، الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث على السدة تجاه المحراب‏.‏ ‏‏

وقرأ تقليد قاضي القضاة جمال الدين بن السراج الحنفي الشيخ عماد الدين بن السراج المحدث أيضاً على السدة، ثم حكما هنالك، ثم جاء أيضاً إلى الغزالية فدرس بها قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء، وجلس الحنفي إلى جانبه عن يمينه، وحضرت عنده فأخذ في صيام يوم الشك، ثم جاء معه إلى المدرسة النورية فدرس بها قاضي القضاة جمال الدين المذكور، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، وذكروا أنه أخذ في قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏}‏الآية ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

ثم انصرف بهاء الدين إلى المدرسة العادلية الكبيرة فدرس بها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء ثامن شهر رمضان دخل القاضي المالكي من الديار المصرية فلبس الخلعة يومئذ ودخل المقصورة من الجامع الأموي وقرئ تقليده هنالك بحضرة القضاة والأعيان، قرأه الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث، وهو قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن الشيخ شمس الدين محمد بن عسكر العراقي البغدادي‏.‏

قدم الشام مراراً ثم استوطن الديار المصرية بعد ما حكم ببغداد نيابة عن قطب الدين الأخوي، ودرّس بالمستنصرية بعد أبيه، وحكم بدمياط أيضاً ثم نقل إلى قضاء المالكية بدمشق، وهو شيخ حسن كثير التودد ومسدد العبارة حسن البشر عند اللقاء، مشكور في مباشرته عفة ونزاهة وكرم، الله يوفقه ويسدده‏.‏

 مسك الأمير طرغتمش أتابك الأمراء بالديار المصرية

ورد الخبر إلينا بمسكه يوم السبت الخامس والعشرين من رمضان هذا، وأنه قبض عليه بحضرة السلطان يوم الاثنين العشرين منه، ثم اختلفت الرواية عن قتله غير أنه احتيط على حواصله وأمواله، وصودر أصحابه وأتباعه، فكان فيمن ضرب وعصر تحت المصادرة القاضي ضياء الدين ابن خطيب بيت الأبار، واشتهر أنه مات تحت العقوبة‏.‏‏

وقد كان مقصداً للواردين إلى الديار المصرية، لا سيما أهل بلدة دمشق، وقد باشر عدة وظائف، وكان في آخر عمره قد فوّض إليه نظر جميع الأوقاف ببلاد السلطان، وتكلم في أمر الجامع الأموي، وغيره فحصل بسبب ذلك قطع أرزاق جماعات من الكتبة وغيرهم، ومالأ الأمير صرغتمش في أمور كثيرة خاصة وعامة، فهلك بسببه، وقد قارب الثمانين، انتهى‏.‏

 إعادة القضاة

وقد كان صرغتمش عزل القضاة الثلاثة بدمشق، وهم الشافعي والحنفي والمالكي كما تقدم، وعزل قبلهم ابن جماعة وولى ابن عقيل، فلما مسك صرغتمش رسم السلطان بإعادة القضاة على ما كانوا عليه‏.‏

ولما ورد الخبر بذلك إلى دمشق امتنع القضاة الثلاثة من الحكم، غير أنهم حضروا ليلة العيد لرؤية الهلال بالجامع الأموي، وركبوا مع النائب صبيحة العيد إلى المصلّى على عادة القضاة، وهم على وجل، وقد انتقلوا من مدارس الحكم فرجع قاضي القضاة أبو البقاء الشافعي إلى بستانه بالزعيفرية، ورجع قاضي القضاة ابن السراج إلى داره بالتعديل، وارتحل قاضي القضاة شرف الدين المالكي إلى الصالحية داخل الصمصامية، وتألم كثير من الناس بسببه، لأنه قد قدم غريباً من الديار المصرية وهو فقير ومتدين، وقد باشر الحكم جيداً‏.‏

ثم تبين بآخرة أنه لم يعزل وأنه مستمر كما سنذكره، ففرح أصحابه وأحبابه، وكثير من الناس بذلك‏.‏

فلما كان يوم الأحد رابع شوال قدم البريد وصحبته تقليد الشافعي قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي وتقليد الحنفي قاضي القضاة شرف الدين الكفري واستمر قاضي القضاة شرف الدين المالكي العراقي على قضاء المالكية، لأن السلطان تذكر أنه كان شافهه بولاية القضاء بالشام، وسيره بين يديه إلى دمشق، فحمدت سيرته كما حسنت سريرته‏.‏إن شاء الله، وفرح الناس له بذلك‏.‏

وفي ذي القعدة توفي المحدث شمس الدين محمد بن سعد الحنبلي يوم الاثنين ثالثه، ودفن من الغد بالسفح، وقد قارب الستين، وكتب كثيراً وخرّج، وكانت له معرفة جيدة بأسماء الأحرار، ورواتها من الشيوخ المتأخرين، وقد كتب للحافظ البرزالي قطعة كبيرة من مشايخه، وخرج له عن كل حديثاً أو أكثر، وأثبت له ما سمعه عن كل منهم، ولم يتم حتى توفي البرزالي رحمه الله‏.‏

وتوفي بهاء الدين بن المرجاني باني جامع الفوقاني، وكان مسجداً في الأصل فبناه جامعاً، وجعل فيه خطبة، وكنت أول من خطب فيه سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وسمع شيئاً من الحديث‏.‏

وبلغنا مقتل الأمير سيف الدين بن فضل بن عيسى بن مهنا أحد أمراء الأعراب الأجواد الأنجاد وقد ولي إمرة آل مهنا غير مرة كما وليها أبوه من قبله‏:‏ عدا عليه بعض بني عمه فقتله من غير قصد بقتله، كما ذكر، لكن لما حمل عليه السيف أراد أن يدفع عن نفسه وبنفسه فضربه بالسيف برأسه ففلقه فلم يعش بعده إلا أياماً قلائل ومات رحمه الله انتهى‏.‏

 عزل منجك عن دمشق

ولما كان يوم الأحد ثاني ذي الحجة قدم أمير من الديار المصرية ومعه تقليد نائب دمشق، وهو الأمير سيف الدين منجك بنيابة صفد المحروسة، فأصبح من الغد - وهو يوم عرفة - وقد انتقل من دار السعادة إلى سطح المزة قاصداً إلى صفد المحروسة فعمل العيد بسطح المزة‏.‏

ثم ترحل نحو صفد، وطمع كثير من المفسدين والخمارين وغيرهم وفرحوا بزواله عنهم‏.‏

وفي يوم العيد قرئ كتاب السلطان بدار السعادة على الأمراء وفيه التصريح باستنابة أميره علي المارداني عليهم، وعوده إليه والأمر بطاعته وتعظيمه واحترامه والشكر له والثناء عليه، وقدم الأمير شهاب الدين بن صبح من نيابة صفد ونزل بداره بظاهر البلد بالقرب من الشامية البرانية‏.‏

ووصل البريد يوم السبت الحادي والعشرين من ذي الحجة بنفي صاحب الحجاب طيدمر الإسماعيلي إلى مدينة حماة بطالاً من سرجين لا غير والله أعلم‏.‏