الجزء الرابع عشر - ثم دخلت سنة ستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وملك الديار المصرية والشامية وما يتبع ذلك من الممالك الإسلامية الملك الناصر حسن بن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، وقضاته بمصرهم المذكورون في السنة التي قبلها، ونائبه بدمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها غير المالكي‏.‏

فإنه عزل جمال الدين المسلاتي بشرف الدين العراقي، وحاجب الحجاب الأمير شهاب الدين بن صبح، وخطباء البلد كانت أكثرها المذكورون‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء ثالث المحرم دخل الأمير علاء الدين أمير علي نائب السلطنة إلى دمشق من نيابة حلب، ففرح الناس به وتلقوه إلى أثناء الطريق، وحملت له العمامة الشجوع في طرقات البلد، وليس الأمير شهاب الدين بن صبح خلعة الحجابة الكبيرة بدمشق عوضاً عن نيابة صفد‏.‏

ووردت كتب الحجاج يوم السبت الثالث عشر منه مؤرخة سابع عشرين ذي الحجة من العلا وذكروا أن صاحب المدينة النبوية عدا عليه فداويان عند لبسه خلعة السلطان، وقت دخول المحمل إلى المدينة الشريفة فقتلاه، فعدت عبيده على الحجيج الذين هم داخل المدينة فنهبوا من أموالهم وقتلوا بعضهم وخرجوا، وكانوا قد أغلقوا أبواب المدينة دون الجيش فأحرق بعضها‏.‏ ‏

ودخل الجيش السلطاني فاستنقذوا الناس من أيدي الظالمين‏.‏

ودخل المحمل السلطاني إلى دمشق يوم السبت العشرين من هذا الشهر على عادته، وبين يدي المحمل الفداويان اللذان قتلا صاحب المدينة، وقد ذكرت عنه أمور شنيعة بشعة من غلوه في الرفض المفرط، ومن قوله إنه لو تمكن لأخرج الشيخين من الحجرة، وغير ذلك من عبارات مؤدية لعدم إيمانه إن صح عنه والله أعلم‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء سادس صفر مسك الأمير شهاب الدين بن صبح حاجب الحجاب وولداه الأميران وحبسوا في القلعة المنصورة، ثم سافر به الأمير ناصر الدين بن خاربك بعد أيام إلى الديار المصرية، وفي رجل ابن صبح قيد، وذكر أنه فك من رجله في أثناء الطريق‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث عشر صفر قدم نائب طرابلس الأمير سيف الدين عبد الغني فأدخل القلعة ثم سافر به الأمير علاء الدين بن أبي بكر إلى الديار المصرية محتفظاً به مضيقاً عليه، وجاء الخبر بأن منجك سافر من صفد على البريد مطلوباً إلى السلطان، فلما كان بينه وبين غزة بريد واحد دخل بمن معه من خدمه التيه فاراً من السلطان، وحين وصل الخبر إلى نائب غزة اجتهد في طلبه فأعجزه وتفارط الأمر، انتهى والله أعلم‏.‏

 مسك الأمير علي المارداني نائب الشام

وأصل ذلك أنه في صبيحة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رجب، ركب الجيش إلى تحت القلعة ملبسين وضربت البشائر في القلعة في ناحية الطارمة، وجاء الأمراء بالطبلخانات من كل جانب والقائم بأعباء الأمر الأمير سيف الدين بيدمر الحاجب، ونائب السلطنة داخل دار السعادة والرسل مرددة بينه وبين الجيش‏.‏

ثم خرج فحمل على سروج يسيرة محتاطاً عليه إلى ناحية الديار المصرية، واستوحش من أهل الشام عند باب النصر، فتباكى الناس رحمة له وأسفة عليه، لديانته وقلة أذيته وأذية الرعية وإحسانه إلى العلماء والفقراء والقضاة‏.‏

ثم في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين منه احتيط على الأمراء الثلاثة، وهم‏:‏ الأمير سيف الدين طيبفاحجي أحد مقدمي الألوف، والأمير سيف الدين فطليخا الدوادار أحد المقدمين أيضاً، والأمير علاء الدين أيدغمش المارداني أحد أمراء الطبلخانات‏.‏

وكان هؤلاء مممن حضر نائب السلطنة المذكور وهم جلساؤه وسماره، والذين بسفارته أعطوا الأجناد والطبلخانات والتقادم، فرفعوا إلى القلعة المنصورة معتقلين بها مع من بها من الأمراء، ثم ورد الخبر بأن الأمير علي رد من الطريق بعد مجاوزته غزة وأرسل إليه بتقليد نيابة صفد المحروسة، فتماثل الحال وفرح بذلك أصحابه وأحبابه‏.‏ ‏

وقدم متسلم دمشق الذي خلع عليه بنيابتها بالديار المصرية في يوم الخميس سادس عشر شهر رجب بعد أن استعفى من ذلك مراراً، وباس الأرض مراراً فلم يعفه السلطان، وهو الأمير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، الذي كان نائب الشام، وبنته اليوم زوجة السلطان‏.‏

قدم متسلمه إلى دمشق يوم الخميس سلخ الشهر فنزل في دار السعادة، وراح القضاة والأعيان للسلام عليه والتودد إليه، وحملت إليه الضيافات والتقادم، انتهى والله أعلم‏.‏

كائنة وقعت بقرية حوران فأوقع الله بهم بأساً شديداً في هذا الشهر الشريف

وذلك أنهم أشهر أهل قرية بحوران وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن ويقال لهم بنو لبسه وبني ناشى وهي حصينة منيعة يضوي إليها كل مفسد وقاطع ومارق ولجأ إليهم أحد شياطين رويمن العشير وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عدداً كثيرة ونهبوا ليغنموا العشير، وفي هذا الحين بدرهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليردهم ويهديهم، وطلب منهم عمر الدنيط فأبوا عليه وراموا مقاتلته‏.‏

وهم جمع كثير وجم غفير، فتأخر عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمده بجيش عوناً له عليهم وعلى أمثالهم، فجهز له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلما بغتهم في بلدهم تجمعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحجزوا بينهم وبين البلد‏.‏

فعند ذلك رمتهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، ففروا على أعقابهم، وأسر منهم والي الولاة نحواً من ستين رجلاً، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأسرى، ونهبت بيوت الفلاحين كلهم، وسلمت إلى مماليك نائب السلطنة لم يفقد منها ما يساوي ثلاثمائة درهم‏.‏

وكر راجعاً إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملة أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصه وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحه وتعليق رأسه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غير مرة حتى أنه قطع رأس شاب منهم وعلق رأسه على أبيه، شيخ كبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

حتى قدم بهم بصرى فشنكل طائفة من أولئك المأسورين وشنكل آخرين ووسط الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلق الرؤوس على أخشاب نصبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيل شديد لم يقع مثله في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كله سلط عليهم بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏انتهى‏.‏

 دخول نائب السلطة الأمير سيف الدين استدمر اليحياوي

في صبيحة يوم الاثنين حادي عشر شعبان من هذه السنة كان دخول الأمير سيف الدين استدمر اليحياوي نائباً على دمشق من جهة الديار المصرية، وتلقاه الناس واحتفلوا له احتفالاً زائداً وشاهدته حين ترجل لتقبيل العتبة، وبعضده الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان حاجب الحجاب وعين لنيابة حلب المحروسة‏.‏

فاستقبل القبلة وسجد عند القبلة، وقد بسط له عندها مفارش وصمدة هائلة، ثم إنه ركب فتعضده بيدمر أيضاً وسار نحو الموكب فأركب ثم عاد إلى دار السعادة على عادة من تقدمه من النواب‏.‏

وجاء تقليد الأمير سيف الدين بيدمر من آخر النهار لنيابة حلب المحروسة‏.‏

وفي آخر نهار الثلاثاء بعد العصر ورد البريد البشيري وعلى يديه مرسوم شريف بنفي القاضي بهاء الدين أبو البقاء وأولاده وأهله إلى طرابلس بلا وظيفة، فشق ذلك عليه وعلى أهليه ومن يليه، وتغمم له كثير من الناس، وسافر ليلة الجمعة وقد أذن له في الاستنابة في جهاته، فاستناب ولده الكبير عز الدين، واشتهر في شوال أن الأمير سيف الدين منجك الذي كان نائب السلطنة بالشام وهرب ولم يطلع له خبر‏.‏

فلما كان في هذا الوقت ذكر أنه مسك ببلد بحران من مقاطعة ماردين في زي فقير، وأنه احتفظ عليه وأرسل السلطان قراره، وعجب كثير من الناس من ذلك، ثم لم يظهر لذلك حقيقة وكان الذين رأوه ظنوا أنه هو، فإذا هو فقير من جملة الفقراء يشبهه من بعض الوجوه‏.‏

واشتهر في ذي القعدة أن الأمير عز الدين فياض بن مهنا ملك العرب، خرج عن طاعة السلطان وتوجه نحو العراق فوردت المراسيم السلطانية لمن بأرض الرحبة من العساكر الدمشقية وهم أربعة مقدمين في أربعة آلاف، وكذلك جيش حلب وغيره بتطلبه وإحضاره إلى بين يدي السلطان، فسعوا في ذلك بكل ما يقدرون عليه فعجزوا عن لحاقه والدخول وراءه إلى البراري، وتفارط الحال وخلص إلى أرض العراق فضاق النطاق وتعذر اللحاق‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستين وسبعمائة

استهلت وسلطان المسلمين الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الأمير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي‏.‏

وفي مستهل المحرم جاء الخبر بموت الشيخ صلاح الدين العلائي بالقدس الشريف ليلة الاثنين ثالث المحرم، وصلّي عليه من الغد بالمسجد الأقصى بعد صلاة الظهر‏.‏

ودفن بمقبرة نائب الرحبة، وله من العمر ست وستون سنة، وكان مدة مقامه بالقدس مدرساً المدرسة الصلاحية، وشيخاً بدار الحديث السكرية ثلاثين سنة، وقد صنّف وألف وجمع وخرج، وكانت له يد طولى بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الأجزاء والفوائد، وله مشاركة قوية في الفقه واللغة والعربية والأدب، وفي كتابته ضعف لكن مع صحة وضبط لما يشكل، وله عدة مصنفات، وبلغني أنه وقفها على الخانقاه السمساطية بدمشق، وقد ولى بعده التدريس بالصرخصية الخطيب برهان الدين بن جماعة والنظر بها، وكان معه تفويض منه متقدم التاريخ‏.‏

وفي يوم الخميس السادس من محرم احتيط على متولي البر ابن بهادر الشيرجي ورسم عليه بالعذراوية بسبب أنه اتهم بأخذ مطلب من نعمان البلقاء هو وكحلن الحاجب، وقاضي حسان، والظاهر أن هذه مرافعة من خصم عدو لهم، وأنه لم يكن من هذا شيء والله أعلم‏.‏

ثم ظهر على رجل يزور المراسيم الشريفة وأخذ بسببه مدرس الصارمية لأنه كان عنده في المدرسة المذكورة، وضرب بين يدي ملك الأمراء، وكذلك على الشيخ زين الدين زيد المغربي الشافعي، وذكر عنه أن يطلب مرسوماً لمدرسة الأكرية، وضرب أيضاً ورسم عليه في حبس السد، وكذلك حبس الأمير شهاب الدين الذي كان متولي البلد، لأنه كان قد كتب له مرسوماً شريفاً بالولاية، فلما فهم ذلك كاتب السر أطلع عليه نائب السلطنة فانفتح عليه الباب وحبسوا كلهم بالسد، وجاءت كتب الحجاج ليلة السبت الخامس عشر من المحرم وأخبرت بالخصب والرخص والأمن ولله الحمد والمنة‏.‏

ودخل المحمل بعد المغرب ليلة السبت الحادي والعشرين منه، ثم دخل الحجيج بعده في الطين والرمض وقد لقوا من ذلك من بلاد حوران عناء وشدة، ووقعت جمالات كثيرة وسبيت نساء كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحصل للناس تعب شديد‏.‏

ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين قطعت يد الذي زور المراسيم واسمه السراج عمر القفطي المصري، وهو شاب كاتب مطيق على ما ذكر، وحمل في قفص على جمل وهو مقطوع اليد، ولم يحسم بعد و الدم ينصب منها، وأركب معه الشيخ زين الدين زيد على جمل وهو منكوس وجهه، إلى ناحية دبر الجمل، وهو عريان مكشوف الرأس، وكذلك البدر الحمصي على جمل آخر، وأركب الوالي شهاب الدين على جمل آخر وعليه تخفيفه صغيرة، وخف وقباء، وطيف بهم في محال البلد، ونودي عليهم‏:‏ هذا جزاء من يزور على السلطان، ثم أودعوا حبس الباب الصغير وكانوا قبل هذا التعزير في حبس السد، ومنه أخذوا وأشهروا، فإنا لله وإنا إليه راجعون انتهى‏.‏

 مسك منجك وصفة الظهور و عليه وكان مختفياً بدمشق حوالي سنة

لما كان يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم جاء ناصح إلى نائب السلطنة الأمير سيف الدين استدمر فأخبره بأن منجك في دار الشرف الأعلى، فأرسل من فوره إلى ذلك المنزل الذي هو فيه بعض الحجبة ومن عنده من خواصه، فأحضر إلى بين يديه محتفظاً عليه جداً، بحيث إن بعضهم رزفه من ورائه واحتضنه، فلما واجهه نائب السلطنة أكرمه وتلقاه وأجلسه معه على مقعدته، وتلطف به وسقاه وأضافه، وقد قيل إنه كان صائماً فأفطر عنده، وأعطاه من ملابسه وقيده وأرسله إلى السلطان في ليلته - ليلة الجمعة - مع جماعة من الجند وبعض الأمراء، منهم‏:‏ حسام الدين أمير حاجب‏.‏

وقد كان أرسل نائب السلطنة ولده بسيف منجك من أوائل النهار، وتعجب الناس من هذه القضية جداً، وما كان يظن كثير من الناس إلا أنه قد عدم باعتبار أنه في بعض البلاد النائية، ولم يشعر الناس أنه في وسط دمشق وأنه يمشي بينهم متنكراً، وقد ذكر أنه كان يحضر الجمعات بجامع دمشق ويمشي بين الناس متنكراً في لبسه وهيئته‏.‏

ومع هذا لن يغني حذر من قدر، ولكل أجل كتاب، وأرسل ملك الأمراء بالسيف وبملابسه التي كان يتنكر بها، وبعث هو مع جماعة من الأمراء الحجبة وغيرهم وجيش كثيف إلى الديار المصرية مقيداً محتفظاً عليه، ورجع ابن ملك الأمراء بالتحف والهدايا والخلع والأنعام لوالده، ولحاجب الحجاب، ولبس ذلك الأمراء يوم الجمعة واحتفل الناس بالشموع وغيرها، ثم تواترت الأخبار بدخول منجك إلى السلطان وعفوه عفه وخلعته الكاملة عليه وإطلاقه له الحسام والخيول المسومة والألبسة المفتخرة، والأموال والأمان‏.‏

وتقديم الأمراء والأكابر له من سائر صنوف التحف وقدوم الأمير علي من صفد، قاصداً إلى حماة لنيابتها، فنزل القصر الأبلق ليلة الخميس رابع صفر وتوجه ليلة الأحد سابعه‏.‏

وفي يوم الخميس الثامن عشر من صفر قدم القاضي بهاء الدين أبو البقاء من طرابلس بمرسوم شريف أن يعود إلى دمشق على وظائفه المبقاة عليه، وقد كان ولده ولي الدين ينوب عنه فيها، فتلقاه كثير من الناس إلى أثناء الطريق، وبرز إليه قاضي القضاة تاج الدين إلى حرستا، وراح الناس إلى تهنئته إلى داره، وفرحوا برجوعه إلى وطنه‏.‏

ووقع مطر عظيم في أول هذا الشهر، وهو أثناء شهر شباط، وثلج عظيم، فرويت البساتين التي كانت لها عن الماء عدة شهور، ولا يحصل لأحد من الناس سقي إلا بكلفة عظيمة ومشقة، ومبلغ كثير، حتى كاد الناس يقتتلون عليه بالأيدي والدبابيس وغير ذلك من البذل الكثير، وذلك في شهور كانون الأول والثاني، وأول شباط، وذلك لقلة مياه الأنهار وضعفها‏.‏

وكذلك بلاد حوران أكثرهم يروون من أماكن بعيدة في هذه الشهور، ثم منّ الله تعالى فجرت الأودية وكثرت الأمطار والثلوج، وغزرت الأنهار ولله الحمد والمنة‏.‏

وتوالت الأمطار، فكأنه حصل السيل في هذه السنة من كانون إلى شباط فكان شباط هو كانون وكانون لم يسل فيه ميزاب واحد‏.‏

ووصل في هذا الشهر الأمير سيف الدين منجك إلى القدس الشريف ليبتني للسلطان مدرسة وخانقاه غربي المسجد الشريف، وأحضر الفرمان الذي كتب له بماء الذهب إلى دمشق وشاهده الناس ووقعت على نسخته وفيها تعظيم رائد ومدح وثناء له وشكر على متقدم، خدمة لهذه الدولة والعفو عما مضى من زلاته، وذكر سيرته بعبارة حسنة‏.‏

وفي أوائل شهر ربيع الآخر رسم على المعلم سنجر مملوك ابن هلال صاحب الأموال الجزيلة بمرسوم شريف قدم مع البريد وطلب منه ستمائة ألف درهم واحتيط على العمارة التي أنشاها عند باب النطافيين ليجعلها مدرسة، ورسم بأن يعمر مكانها مكتب للأيتام، وأن يوقف عليهم كتابتهم جارية عليهم، وكذلك رسم بأن يجعل في كل مدرسة من مدارس المملكة الكبار، وهذا مقصد جيد‏.‏

وسلم المعلم سنجر إلى شاد الدواوين يستخلص منه المبلغ المذكور سريعاً، فعاجل بحمل مائتي ألف، وسيرت مع أمير عشرة إلى الديار المصرية‏.‏

 الاحتياط على الكتبة والدواوين

وفي يوم الأربعاء خامس عشر ربيع الآخر ورد من الديار المصرية أمير معه مرسوم بالاحتياط على دواوين السلطان، بسبب ما أكلوا من الأموال المرتبة للناس من الصدقات السلطانية وغير ذلك فرسم عليهم بدار العدل البرانية وألزموا بأموال جزيلة كثيرة، بحيث احتاجوا إلى بيع أثاثهم وأقمشتهم وفرشهم وأمتعتهم وغيرها، حتى ذكر أن منهم من لم يكن له شيء يعطيه فأحضر بناته إلى الدكة ليبيعهن فتباكى الناس وانتحبوا رحمة ورقة لأبيهن، ثم أطلق بعضهم وهم الضعفاء منهم والفقراء الذين لا شيء معهم، وبقيت الغرامة على الكبراء منهم، كالصاحب والمستوفيين، ثم شددت عليهم المطالبة وضربوا ضرباً مبرحاً، وألزموا الصاحب بمال كثير بحيث إنه احتاج إلى أن سأل من الأمراء والأكابر والتجار بنفسه وبأوراقه، فأسعفوه بمبلغ كثير يقارب ما ألزم به، بعد أن عري ليضرب، ولكن ترك واشتهر أنه قد عين عوضه من الديار المصرية، انتهى‏.‏

 موت فياض بن مهنا

ورد الخبر بذلك يوم السبت الثامن عشر منه، فاستبشر بذلك كثير من الناس، وأرسل إلى السلطان مبشرين بذلك، لأنه كان قد خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات موتة جاهلية بأرض الشقاق والنفاق، وقد ذكرت عن هذا أشياء صدرت عنه من ظلم الناس، والإفطار في شهر رمضان بلا عذر، وأمره أصحابه وذويه بذلك في هذا الشهر الماضي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، جاوز السبعين انتهى‏.‏والله أعلم‏.‏

 كائنة عجيبة جداً هي المعلم سنجر مملوك بن هلال

في اليوم الرابع والعشرين من ربيع الآخر أطلق المعلم الهلالي بعد أن استوفوا منه تكميل ستمائة ألف درهم، فبات في منزله عند باب النطافيين سروراً بالخلاص، ولما أصبح ذهب إلى الحمام وقد ورد البريد من جهة السلطان من الديار المصرية بالاحتياط على أمواله وحواصله‏.‏

فأقبلت الحجبة ونقباء النقبة والأعوان من كل مكان، فقصدوا داره فاحتاطوا بها وعليها بما فيها ورسم عليه وعلى ولديه، وأخرجت نساؤه من المنزل في حالة صعبة، وفتشوا النساء وانتزعوا عنهن الحلي والجواهر والنفائس، واجتمعت العامة والغوغاء، وحضر بعض القضاة ومعه الشهود بضبط الأموال والحجج والرهون، وأحضروا المعلم ليستعلموا منه جلية ذلك، فوجدوا من حاصل الفضة أول يوم بإسطبل ألف وسبعين ألفاً، ثم صناديق أخرى لم تفتح، وحواصل لم يصلوا إليها لضيق الوقت‏.‏

ثم أصبحوا يوم الأحد في مثل ذلك، وقد بات الحرس على الأبواب والأسطحة لئلا يعدى عليها في الليل وبات هو وأولاده بالقلعة المنصورة محتفظاً عليهم، وقد رق له كثير من الناس لما أصابه من المصيبة العظيمة بعد التي قبلها سريعاً‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر توفي الأمير ناصر الدين محمد بن الدوادار السكري، كان ذا مكانة عند أستاذه، ومنزلة عالية، ونال من السعادة في وظيفته أقصاها، ثم قلب الله قلب أستاذه عليه فضربه وصادره وعزله وسجنه، ونزل قدره عند الناس، وآل به الحال إلى أنه كان يقف على أتباعه بفرسه ويشتري منهم ويحاككهم، ويحمل حاجته معه في سرجه، وصار مثلة بين الناس، بعد أن كان في غاية ما يكون فيه الدويدارية من العز والجاه والمال والرفعة في الدنيا، وحق على الله تعالى أن لا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد سابع عشره أفرج عن المعلم الهلالي وعن ولديه، وكانوا معتقلين بالقلعة المنصورة، وسلمت إليهم دورهم وحواصلهم، ولكن أخذ ما كان حاصلاً في داره، وهو ثلاثمائة ألف وعشرون ألفاً‏.‏ ‏‏

وختم على حججه ليعقد لذلك مجلس ليرجع رأس ماله منها عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 279‏]‏ ونودي عليه في البلد إنما فعل به ذلك لأنه لا يؤدي الزكاة ويعامل بالربا، وحاجب السلطان ومتولي البلد، وبقية المتعممين والمشاعلية تنادي عيه في أسواق البلد وأرجائها‏.‏

وفي اليوم الثامن والعشرين منه ورد المرسوم السلطاني الشريف بإطلاق الدواوين إلى ديارهم وأهاليهم، ففرح الناس بسبب ذلك لخلاصهم مما كانوا فيه من العقوبة والمصادرة البليغة، ولكن لم يستمر بهم في مباشراتهم‏.‏

وفي أواخر الشهر تكلم الشيخ شهاب الدين المقدسي الواعظ قدم من الديار المصرية تجاه محراب الصحابة، واجتمع الناس إليه وحضر من قضاة القضاة الشافعي والمالكي، فتكلم على تفسير آيات من القرآن‏.‏

وأشار إلى أشياء من إشارات الصوفية بعبارات طلقة معربة حلوة صادعة للقلوب فأفاد وأجاد، وودع الناس بعوده إلى بلده، ولما دعا استنهض الناس للقيام، فقاموا في حال الدعاء، وقد اجتمعت به بالمجلس فرايته حسن الهيئة والكلام والتأدب، فالله يصلحه وإيانا آمين‏.‏

وفي مستهل جمادى الآخرة ركب الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب القصد غزو بلاد سيس في جيش، لقاه الله النصر والتأييد‏.‏

وفي مستهل هذا الشهر أصبح أهل القلعة وقد نزل جماعة من أمراء الأعراب من أعالي مجلسهم في عمائم وحبال إلى الخندق وخاضوه وخرجوا من عند جسر الزلابية فانطلق اثنان وأمسك الثالث الذي تبقى في السجن، وكأنه كان يمسك لهم الحبال حتى تدلوا فيها‏.‏

فاشتد نكير نائب السلطنة على نائب القلعة، وضرب ابنيه النقيب وأخاه وسجنهما، وكاتب في هذه الكائنة إلى السلطان، فرود المرسوم بعزل نائب القلعة وإخراجه منها، وطلبه لمحاسبة ما قبض من الأموال السلطانية في مدة ست سني مباشرته، وعزل ابنه عن النقابة ابنه الآخر عن استدرائه السلطان، فنزلوا من عزهم إلى عزلهم‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع عشره جاء الأمير تاج الدين جبريل من عند الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب، وقد فتح بلدين من بلاد سيس، وهما طرسوس وأذنة، وأرسل مفاتيحهما صحبة جبريل المذكور إلى السلطان أيده الله، ثم افتتح حصوناً أخر كثيرة في أسرع مدة، وأيسر كلفة‏.‏

وخطب القاضي ناصر الدين كاتب السر خطبة بليغة حسنة، وبلغني في كتاب أن أبواب كنيسة أذنة حملت إلى الديار المصرية في المراكب‏.‏

قلت‏:‏ وهذه هي أبواب الناصرية التي بالسفح، أخذها سيس عام قازان، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة، فاستنفذت ولله الحمد في هذه السنة‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر بلغنا أن الشيخ قطب الدين هرماس الذي كان شيخ السلطان طرد عن جناب مخدومه، وضرب وصودر، وخربت داره إلى الأساس، ونفي إلى مصياف، فاجتاز بدمشق ونزل بالمدرسة الجليلة ظاهر باب الفرج، وزرته فيمن سلم عليه، فإذا هو شيخ حسن عنده ما يقال ويتلفظ معرباً جيداً، ولديه فضيلة، وعنده تواضع وتصوف، فالله يحسن عاقبته‏.‏ثم تحول إلى العذراوية‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت سابع شهر رجب توجه الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن قاضي الجبل الحنبلي إلى الديار المصرية مطلوباً على البريد إلى السلطان لتدريس الطائفة الحنبلية بالمدرسة التي أنشاها السلطان بالقاهرة المعزية، وخرج لتوديعه القضاة والأعيان إلى أثناء الطريق، كتب الله سلامته، انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

 مسك نائب السلطنة استدمر اليحياوي

وفي صبيحة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رجب قبض على نائب السلطنة الأمير سيف الدين استدمر، أخي يلبغا اليحياوي، عن كتاب ورد من السلطان صحبة الدوادار الصغير، وكان يومئذ راكباً بناحية ميدان ابن بابك، فلما رجع إلى عند مقابر اليهود والنصارى احتاط عليه الحاجب الكبير ومن معه من الجيش وألزموه بالذهاب إلى ناحية طرابلس‏.‏

فذهب من على طريق الشيخ رسلان، ولم يمكن من المسير، إلى دار السعادة، ورسم عليه من الجند من أوصله إلى طرابلس مقيماً بها بطالاً، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، يفعل ما يشاء‏.‏

وبقي البلد بلا نائب يحكم فيه الحاجب الكبير عن مرسوم السلطان، وعين للنيابة الأمير سيف الدين بيدمر النائب بحلب‏.‏

وفي شعبان وصل تقليد الأمير سيف الدين بيدمر بنيابة دمشق، ورسم له أن يركب في طائفة من جيش حلب ويقصد الأمير خيار بن مهنا ليحضره إلى خدمة السلطان، وكذلك رسم لنائب حماة وحمص أن يكونا عوناً للأمير سيف الدين بيدمر في ذلك‏.‏

فلما كان يوم الجمعة رابعه التقوا مع خيار عند سلمية، فكانت بينهم مناوشات، فأخبرني الأمير تاج الدين الدودار - وكان مشاهد الوقعة - أن الأعراب أحاطوا بهم من كل جانب، وذلك لكثرة العرب وكانوا نحو الثمانمائة‏.‏

وكانت الترك من حماة وحمص وحلب مائة وخمسين، فرموا الأعراب بالنشاب فقتلوا منهم طائفة كثيرة، ولم يقتل من الترك سوى رجل واحد، رماه بعض الترك ظاناً أنه من العرب بناشج فقتله‏.‏

ثم حجز بينهم الليل، وخرجت الترك من الدائرة، ونهبت أموال من الترك ومن العرب، وجرت فتنة وجردت أمراء عدة من دمشق لتدارك الحال، وأقام نائب السلطنة هناك ينتظر ورودهم‏.‏

وقدم الأمير عمر الملقب بمصمع بن موسى بن مهنا من الديار المصرية أميراً على الأعراب، وفي صحبته الأمير بدر الدين بن جماز أميران على الأعراب، فنزل مصمع بالقصر الأبلق، ونزل الأمير رملة بالتوزية على عادته ثم توجها إلى ناحية خيار بمن معها من عرب الطاعة ممن أضيف إليهم من تجريدة دمشق ومن يكون معهم من جيش حماة وحمص لتحصيل الأمير خيار، وإحضاره إلى الخدمة الشريفة فالله تعالى يحسن العاقبة‏.‏

دخول نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى دمشق

وذلك صبيحة يوم السبت التاسع عشر من شعبان، أقبل بجيشه من ناحية حلب وقد بات بوطأة برزة ليلة السبت، وتلقاه الناس إلى حماة ودونها، وجرت له وقعة مع العرب كما ذكرنا، فلما كان هذا اليوم دخل في أبهة عظيمة، وتجمل حافل، فقبّل العتبة على العادة، ومشى إلى دار السعادة‏.‏

ثم أقبلت جنائبه في لبوس هائلة باهرة، وعدد كثير وعدد ثمينة، وفرح المسلمون به لشهامته وصرامته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، والله تعالى يؤيده ويسدده‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان خطبت الحنابلة بجامع القبيبات وعزل عنه القاضي شهاب الدين قاضي العسكر الحنبلي، بمرسوم نائب السلطان لأنه كان يعرف أنه كان مختصراً بالحنابلة منذ عُين إلى هذا الحين‏.‏

وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان بن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول صلى الله عليه وسلم، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه‏.‏

وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه قتل محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي صلى الله عليه وسلم، ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي صلى الله عليه وسلم، فضربت عنقه أيضاً في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي ثالث عشر شوال خرج المحمل السلطاني وأميره الأمير ناصر الدين بن قراسنقر وقاضي الحجيج الشيخ شمس الدين محمد بن سند المحدث، أحد المفتيين‏.‏

وفي أواخر شهر شوال أخذ رجل يقال له حسن، كان خياطاً بمحلة الشاغور، ومن شأنه أن ينتصر لفرعون لعنه الله، ويزعم أنه مات على الإسلام ويحتج بأنه في سورة يونس حين أدركه الغرق قال‏:‏ ‏{‏آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ ولا يفهم معنى قوله‏:‏ ‏{‏آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ ولا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏ ولا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 16‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على أن فرعون أكفر الكافرين كما هو مجمع عليه بين اليهود والنصارى والمسلمين‏.‏

وفي صبيحة يوم الجمعة سادس القعدة قدم البريد بطلب نائب السلطنة إلى الديار المصرية في تكريم وتعظيم، على عادة تنكز، فتوجه النائب إلى الديار المصرية وقد استصحب معه تحفاً سنية وهدايا معظمة تصلح للإيوان الشريف‏.‏

في صبيحة السبت رابع عشره، خرج ومعه القضاة والأعيان من الحجبة والأمراء لتوديعه‏.‏

وفي أوائل ذي الحجة ورد كتاب من نائب السلطنة بخطه إلى قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يستدعيه إلى القدس الشريف، وزيارة قبر الخليل، ويذكر فيه ما عامله به السلطان من الإحسان والإكرام والاحترام والإطلاق والأنعام من الخيل والتحف والمال والغلات، فتوجه نحوه قاضي القضاة يوم الجمعة بعد الصلاة رابعه على ستة من خيل البريد، ومعه تحف وما يناسب من الهدايا، وعاد عشية يوم الجمعة ثامن عشره إلى بستانه‏.‏

ووقع في هذا الشهر والذي قبله سيول كثيرة جداً في أماكن متعددة، من ذلك ما شاهدنا آثاره في مدينة بعلبك، أتلف شيئاً كثيراً من الأشجار، واخترق أماكن كثيرة متعددة عندهم، وبقي آثار سيحه على أماكن كثيرة‏.‏

من ذلك سيل وقع بأرض جعلوص أتلف شيئاً كثيراً جداً، وغرق فيه قاضي تلك الناحية، ومع بعض الأخيار، كانوا وقوفاً على أكمة فدهمهم أمر عظيم، ولم يستطيعوا دفعه ولا منعه، فهلكوا‏.‏

ومن ذلك سيل وقع بناحية حسة جمال فهلك به شيء كثير من الأشجار والأغنام والأعناب وغيرها‏.‏

ومن ذلك سيل بأرض حلب هلك به خلق كثير من التركمان وغيرهم، رجالاً ونساء وأطفالاً وغنماً وإبلاً‏.‏

قرأته من كتاب من شاهد ذلك عياناً، وذكر أنه سقط عليهم برد وزنت الواحدة منه فبلغت زنتها سبعمائة درهم وفيه ما هو أكبر من ذلك وأصغر، انتهى‏.‏

الأمر بإلزام القلندرية بترك حلق لحاهم وحواجبهم وشواربهم وذلك محرم بالإجماع حسب ما حكاه ابن حازم وإنما ذكره بعض الفقهاء بالكراهية‏.‏

ورد كتاب من السلطان أيده الله إلى دمشق في يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، بإلزامهم بزي المسلمين وترك زي الأعاجم والمجوس، فلا يمكن أحد منهم من الدخول إلى بلاد السلطان حتى يترك هذا الزي المبتدع، واللباس المستشنع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعاً، ويقلع قراره قلعاً، وكان اللائق أن يؤمروا بترك أكل الحشيشة الخسيسة، وإقامة الحد عليهم بأكلها وسكرها، كما أفتى بذلك بعض الفقهاء‏.‏

والمقصود أنهم نودي عليهم بذلك في جميع أرجاء البلد ونواحيه في صبيحة يوم الأربعاء ولله الحمد والمنة‏.‏

وبلغنا في هذا الشهر وفاة الشيخ الصالح الشيخ أحمد بن موسى الزرعي بمدينة جبراص يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة، وكان من المبتلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في مصالح الناس عند السلطان والدولة، وله وجاهة عند الخاص والعام، رحمه الله‏.‏

والأمير سيف الدين كحلن بن الأقوس، الذي كان حاجباً بدمشق وأميراً، ثم عزل عن ذلك كله، ونفاه السلطان إلى طرابلس فمات هناك‏.‏

وقدم نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر عائداً من الديار المصرية، وقد لقي من السلطان إكراماً وإحساناً زائداً، فاجتاز في طريقه بالقدس الشريف فأقام به يوم عرفة والنحر، ثم سلك على طريق غابة أرصوف يصطاد بها فأصابه وعك منعه عن ذلك، فأسرع السير فدخل دمشق من صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه في أبهة هائلة، ورياسة طائلة، وتزايد وخرج العامة للتفرج عليه والنظر إليه في مجيئه هذا، فدخل وعليه قباء معظم ومطرز، وبين يديه ما جرت به العادة من الحوفية والشاليشية وغيرهم، ومن نيته الإحسان إلى الرعية والنظر في أحوال الأوقاف وإصلاحها على طريقة تنكز رحمه الله، انتهى والله أعلم‏.‏

 

ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة المباركة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك ويلتحق به الملك الناصر حسن بن الملك النصار محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب له بالديار المصرية، وقضاته بها هم المذكورون في العام الماضي، ووزيره القاضي ابن الخصيب، ونائب الشام بدمشق الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي، والقضاة والخطيب وبقية الأشراف وناظر الجيش والمحتسب هم المذكورون في العام الماضي‏.‏

والوزير ابن قروينة وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي، ووكيل بيت المال القاضي صلاح الدين الصفدي وهو أحد موقعي الدست الأربعة‏.‏

وشاد الأوقاف الأمير ناصر الدين بن فضل الله، وحاجب الحجاب اليوسفي، وقد توجه إلى الديار المصرية ليكون بها أمير جنهار، ومتولي البلد ناصر الدين، ونقيب النقباء ابن الشجاعي‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين سادس المحرم قدم الأمير على نائب حماة منها فدخل دمشق مجتازاً إلى الديار المصرية ونزل في القصر الأبلق ثم تحول إلى دار دويداره يلبغا الذي جدد فيها مساكن كثيرة بالقصاعين‏.‏

وتردد الناس إليه للسلام عليه، فأقام بها إلى صبيحة يوم الخميس تاسعه، فسار إلى الديار المصرية‏.‏

وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم أحضر حسن بن الخياط من محلة الشاغور إلى مجلس الحكم المالكي من السجن، وناظر في إيمان فرعون وادعى عليه بدعاوي لانتصاره لفرعون لعنه الله، وصدق ذلك باعترافه أولاً ثم بمناظرته في ذلك ثانياً وثالثاً، وهو شيخ كبير جاهل عامي ذا نص لا يقيم دليلاً ولا يحسنه، وإنما قام في مخيلته شبهة يحتج عليها بقوله إخباراً عن فرعون حين أدركه الغرق، وأحيط به ورأى بأس الله، وعاين عذابه الأليم، فقال حين الغرق إذاً ‏{‏آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏‏.‏

فاعتقد هذا العامي أن هذا الإيمان الذي صدر من فرعون والحالة هذه ينفعه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 84-86‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/316‏)‏

وقال تعالى ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ قال قد أجيبت دعوتكما الآية ‏[‏يونس‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

ثم حضر في يوم آخر وهو مصمم على ضلاله فضرب بالسياط، فأظهر التوبة ثم أعيد إلى السجن في زنجير، ثم أحضر يوماً ثالثاً وهو يستهل بالتوبة فيما يظهر فنودي عليه في البلد ثم أطلق‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء الرابع عشر طلع القمر خاسفاً كله ولكن كان تحت السحاب، فلما ظهر وقت العشاء وقد أخذ في الجلاء صلّى الخطيب صلاة الكسوف قبل العشاء، وقرأ في الأولى بسورة العنكبوت وفي الأخرى بسورة يس، ثم صعد المنبر فخطب ثم نزل بعد العشاء‏.‏

وقدمت كتب الحجاج يخبرون بالرخص والأمن، واستمرت زيادة الماء من أول ذي الحجة وقبلها إلى هذه الأيام من آخر هذا الشهر والأمر على حاله، وهذا شيء لم يعهد كما أخبر به عامة الشيوخ، وسببه أنه جاء ماء من بعض الجبال انهال في طريق النهر‏.‏

ودخل المحمل السلطاني يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من المحرم قبل الظهر، ومسك أمير الحاج شركتمر المارداني الذي كان مقيماً بمكة شرفها الله تعالى، وحماها من الأوغاد، فلما عادت التجريدة مع الحجاج إلى دمشق صحبة القراسنقر من ساعة وصوله إلى دمشق، فقيد وسير إلى الديار المصرية على البريد، وبلغنا أن الأمير سند أمير مكة غرر بجند السلطان الذين ساروا صحبة ابن قراسنقر وكبسهم وقتل من حواشيهم وأخذ خيولهم، وأنهم ساروا جرائد بغير شيء مسلوبين إلى الديار المصرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي أول شوال اشتهر فيه وتواتر خبر الفناء الذي بالديار المصرية بسبب كثيرة المستنقعات من فيض النيل عندهم، على خلاف المعتاد، فبلغنا أنه يموت من أهلها كل يوم فوق الألفين، فأما المرض فكثير جداً، وغلت الأسعار لقلة من يتعاطى الأشغال، وغلا السكر والأمياه والفاكهة جداً، وتبرز السلطان إلى ظاهر البلد وحصل له تشويش أيضاً، ثم عوفي بحمد الله‏.‏

وفي ثالث ربيع الآخر قدم من الديار المصرية ابن الحجاف رسول صاحب العراق لخطبة بنت السلطان، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يصدقها مملكة بغداد، وأعطاهم مستحقاً سلطانياً، وأطلق لهم من التحف والخلع والأموال شيئاً كثيراً، ورسم الرسول بمشترى قرية من بيت المال لتوقف على الخانقاه التي يريد أن يتخذها بدمشق قريباً من الطواويس، وقد خرج لتلقيه نائب الغيبة وهو حاجب الحجاب، والدولة والأعيان‏.‏

وقرأت في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر كتاباً ورد من حلب بخط الفقيه العدل شمس الدين العراقي من أهلها، ذكر فيه أنه كان في حضرة نائب السلطنة في دار العدل يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول وأنه أحضر رجل قد ولد له ولد عاش ساعة ومات، وأحضره معه وشاهده الحاضرون، وشاهده كاتب الكتاب، فإذا هو شكل سوي له على كل كتف رأس بوجه مستدير، والوجهان إلى ناحية واحدة فسبحان الخلاق العليم‏.‏

وبلغنا أنه في هذا الشهر سقطت المنارة التي بنيت للمدرسة السلطانية بمصر، وكانت مستجدة على صفة غريبة، وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبو الباب الذي للمدرسة المذكورة، فلما سقطت أهلكت خلقاً كثيراً من الصناع بالمدرسة والمارة والصبيان الذين في مكتب المدرسة، ولم ينج من الصبيان فيما ذكر شيء سوى ستة‏.‏

وكان جملة من هلك بسببها نحو بإسطبل نفس، وقيل أكثر وقيل أقل، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى الغيضة لإصلاحها وإزالة ما فيها من الأشجار والمؤذية والدغل يوم الاثنين التاسع والعشرين من الشهر، وكان سلخه، وخرج معه جميع الجيش من الأمراء وأصحابه، وأجناد الحلقة برمتهم لم يتأخر منهم أحد، وكلهم يعملون فيها بأنفسهم وغلمانهم، وأحضر إليهم خلق من فلاحي المرج والغوطة وغير ذلك، ورجع يوم السبت خامس الشهر الداخل وقد نظفوها من الغل والدغل والغش‏.‏

واتفقت كائنة غريبة لبعض السؤال، وهو أنه اجتمع جماعة منهم قبل الفجر ليأخذوا خبزاً من صدقة تربة امرأة ملك الأمراء تنكز عند باب الخواصين، فتضاربوا فيما بينهم فعمدوا إلى رجل منهم فخنقوه خنقاً شديداً، وأخذوا منه جراباً فيه نحو من أربعة آلاف درهم‏.‏

وشيء الذهب وذهبوا على حمية، وأفاق هو من الغشي فلم يجدهم، واشتكى أمره إلى متولي البلد فلم يظفر بهم إلى الآن، وقد أخبرني الذي أخذوا منه أنهم أخذوا منه ثلاثة آلاف درهم معاملة، وألف درهم بندقية ودينارين وزنهما ثلاثة دنانير‏.‏

كذا قال لي إن كان صادقاً‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت خامس جمادى الأولى طلب قاضي القضاة شرف الدين الحنفي للشيخ علي بن البنا، وقد كان يتكلم في الجامع الأموي على العوام، وهو جالس على الأرض شيء من الوعظيات وما أشبهها من صدره، فكأنه تعرض في غضون كلامه لأبي حنيفة رحمه الله، فأحضر فاستتيب من ذلك، ومنعه قاضي القضاة شرف الدين الكفري من الكلام على الناس وسجنه، وبلغني أنه حكم بإسلامه وأطلقه من يومه‏.‏

وهذا المذكور ابن البنا عنده زهادة وتعسف، وهو مصري يسمع الحديث ويقرؤه، ويتكلم بشيء من الوعظيات والرقائق، وضرب أمثال، وقد مال إليه كثير من العوام واستحلوه، وكلامه قريب إلى مفهومهم، وربما أضحك في كلامه، وحاضرته وهو مطبوع قريب إلى الفهم، ولكنه أشار فيما ذكر عنه في شطحته إلى بعض الأشياء التي لا تنبغي أن تذكر، والله الموفق‏.‏

ثم إنه جلس للناس في يوم الثلاثاء ثامنه فتكلم على عادته فتطلبه القاضي المذكور فيقال إن المذكور تعنت انتهى والله أعلم‏.‏

 سلطنة الملك المنصور صلاح الدين محمد

ابن الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي وزوال دولة عمه الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون‏.‏

لما كثر طمعه وتزايد شرهه، وساءت سيرته إلى رعيته، وضيق عليهم في معايشهم وأكسابهم، وبنى البنايات الجبارة التي لا يحتاج إلى كثير منها، واستحوذ على كثير من أملاك بيت المال وأمواله، واشترى منه قرايا كثيرة ومدناً أيضاً ورساتيق، وشق ذلك على الناس جداً، ولم يتجاسر أحد من القضاة ولا الولاة ولا العلماء ولا الصلحاء على الإنكار عليه، ولا الهجوم عليه، ولا النصيحة له بما هو المصلحة له وللمسلمين، انتقم الله منه فسلط عليه جنده وقلب قلوب رعيته من الخاصة والعامة عليه‏.‏

لما قطع من أرزاقهم ومعاليمهم وجوامكهم وأخبازهم، وأضاف ذلك جميعه إلى خاصته، فقلت الأمراء والأجناء والمقدمون والكتاب والموقعون، ومس الناس الضرر وتعدى على جوامكهم وأولادهم ومن يلوذ بهم، فعند ذلك قدر الله تعالى هلاكه على يد أحد خواصه وهو الأمير الكبير سيف الدين يلبغا الخاصكي‏.‏

وذلك أنه أراد السلطان مسكه فاعتد لذلك، وركب السلطان لمسكه فركب هو في جيش، وتلاقيا في ظاهر القاهرة حيث كانوا نزولاً في الوطاقات، فهزم السلطان بعد كل حساب، وقد قتل من الفريقين طائفة، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل، كلا ولا وزر، ولن ينجي حذر من قدر، فبات الجيش بكماله محدقاً بالقلعة، فهم بالهرب في الليل على هجن كان قد اعتدها ليهرب إلى الكرك‏.‏

فلما برز مسك واعتقل ودخل به إلى دار يلبغا الخاصكي المذكور، وكان آخر العهد به، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى من هذه السنة، وصارت الدولة والمشورة متناهية إلى الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، فاتفقت الآراء واجتمعت الكلمة وانعقدت البيعة للملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي‏.‏

وخطب الخطباء وضربت السكة، وسارت البريدية للبيعة باسمه الشريف، هذا وهو ابن ثنتي عشرة، وقيل أربع عشرة، ومن الناس من قال‏:‏ ست عشرة، ورسم في عود الأمور إلى ما كانت عليه في أيام والده الناصر محمد بن قلاوون، وأن يبطل جميع ما كان أخذه الملك الناصر حسن، وأن تعاد المرتبات والجوامك التي كان قطعها، وأمر بإحضار طاز وطاشتمر القاسمي من سجن إسكندرية إلى بين يديه ليكونا أتابكاً‏.‏

وجاء الخبر إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين بزلارشاد التربخاناة أحد أمراء الطبلخانات بمصر صبيحة يوم الأربعاء سادس عشر الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وطلبلخانات الأمراء على أبوابهم، وزين البلد بكماله، وأخذت البيعة له صبيحة يومه بدار السعادة وخلع عن نائب السلطنة تشريف هائل، وفرح أكثر الأمراء والجند والعامة ولله الأمر، وله الحكم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ووجد على حجر بالحميرية فقرئت للمأمون فإذا مكتوب‏:‏

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل النعيم من ملك * قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبداً * ليس بفانٍ ولا بمشترك

وروي عن سليمان بن عبد الملك بن مروان أنه خرج يوماً لصلاة الجمعة، وكان سوي الخلق حسنه، وقد لبس حلة خضراء، وهو شاب ممتلئ شباباً، وينظر في أعطافه ولباسه، فأعجبه ذلك من نفسه، فلم بلغ إلى صرحة الدار تلقته جنية في صورة جارية من حظاياه فأنشدته‏:‏

أنت نعم لو كنت تبقى * غير أن لا حياة للإنسانِ

ليس فيما علمت فيك عيـ * ـب يذكر غير أنك فانِ

فصعد المنبر الذي في جامع دمشق وخطب الناس، وكان جهوري الصوت يسمع أهل الجامع وهو قائم على المنبر، فضعف صوته قليلاً قليلاً حتى لم يسمعه أهل المقصورة، فلما فرغ من الصلاة حمل إلى منزله فاستحضر تلك الجارية التي تبدت تلك الجنية على صورتها، وقال‏:‏ كيف أنشدتيني تينك البيتين‏؟‏ فقالت‏:‏ ما أنشدتك شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ الله أكبر نعيت والله إلي نفسي‏.‏

فأوصى أن يكون الخليفة من بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏.‏

وقدم نائب طرابلس المعزول عليلاً والأمير سيف الدين استدمر الذي كان نائب دمشق وكانا مقيمان بطرابلس جميعاً، في صبيحة يوم السبت السادس والعشرين منه، فدخلا دار السعادة فلم يحتفل بهما نائب السلطنة‏.‏

وتكامل في هذا الشهر تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين إصلاحاً بدرابزيناته وتبييضاً لجدرانه ومحراب فيه، وجعل له شبابيك في الدرابزينات، ووقف فيه قراءة قرآن بعد المغرب، وذكروا أن شخصاً رأى مناماً فقصه على نائب السلطنة فأمر بإصلاحه‏.‏

وفيه‏:‏ نهض بناء المدرسة التي إلى جانب هذا المكان من الشباك، وقد كان أسسها أولاً علم الدين بن هلال، فلما صودر أخذت منه وجعلت مضافة إلى السلطان، فبنوا فوق الأساسات وجعلوا لها خمسة شبابيك من شرقها، وباباً قبلياً، ومحراباً وبركة وعراقية، وجعلوا حائطها بالحجارة البيض والسود، وكملوا عاليها بالأجر، وجاءت في غاية الحسن، وقد كان السلطان الناصر حسن قد رسم بأن تجعل مكتباً للأيتام فلم يتم أمرها حتى قتل كما ذكرنا‏.‏

واشتهر في هذا الشهر أن بقرة كانت تجيء من ناحية باب الجابية تقصد جراء لكلبة قد ماتت أمهم، وهي في ناحية كنيسة مريم في خرابة، فتجيء إليهم فتنسطح على شقها فترضع أولئك الجراء منها، تكرر هذا منها مراراً، وأخبرني في المحدث المفيد التقي نور الدين أحمد بن المقصوص بمشاهدته ذلك‏.‏

وفي العشر الأوسط من جمادى الآخرة نادى منادٍ من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد أن النساء يمشين في تستر ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهم، ولا يظهرن زينة ولا يداً، فامتثلن ذلك ولله الحمد والمنة‏.‏

وقدم أمير العرب جبار بن مهنا في أبهة هائلة، وتلقاه نائب السلطنة إلى أثناء الطريق، وهو قاصد إلى الأبواب الشريفة‏.‏

وفي أواخر رجب قدم الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة حاجب الحجاب بدمشق، وعلى مقدمة رأس الميمنة، وأطلق نائب السلطنة مكوسات كثيرة، مثل مكس الحداية والخزل المرددن الحلب والطبابي‏.‏

وأبطل ما كان يؤخذ من المحتسبين زيادة على نصف درهم، وما يؤخذ من أجرة عدة الموتى كل ميت بثلاثة ونصف، وجعل العدة التي في القيسارية للحاجة مسبلة لا تنحجر على أحد في تغسيل ميت، وهذا حسن جداً، وكذلك منع التحجر في بيع البلح المختص به، وبيع مثل بقية الناس من غير طرحان فرخص على الناس في هذه السنة جداً، حتى قيل إنه بيع القنطار بعشرة، وما حولها‏.‏

وفي شهر شعبان قدم الأمير جبار بن مهنا من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق وتلقاه نائب السلطنة وأكرم كل منهما الآخر، ثم ترحل بعد أيام قلائل، وقدم الأمراء الذين كانوا بحبس الإسكندرية في صبيحة يوم الجمعة سابعه، وفيهم الأمير شهاب الدين بن صبح وسيف الدين طيدمر الحاجب، وطيبرف ومقدم ألف، وعمرشاه، وهذا ونائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر أعزه الله يبطل المكوسات شيئاً بعد شيء مما فيه مضرة بالمسلمين‏.‏

وبلغني عنه أن من عزمه أن يبطل جميع ذلك إن أمكنه الله من ذلك، آمين انتهى‏.‏ ‏

 تنبيه على واقعة غريبة وإتقان عجيب

نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر فيما بلغنا في نفسه عتب على أتابك الديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا الحاصكي مدبر الدولة بها‏.‏

وقد توسم وتوهم منه أنه يسعى في صرفه عن الشام، وفي نفس نائبنا قوة وصرامة شديدة، فتنسم منه ببعض الآباء عن طاعة يلبغا، مع استمراره على طاعة السلطان، وأنه إن اتفق عزل من قبل يلبغا أنه لا يسمع ولا يطيع‏.‏

فعمل أعمالاً واتفق في غضون هذا الحال موت نائب القلعة المنصورة بدمشق وهو الأمير سيف الدين برناق الناصري، فأرسل نائب السلطنة من أصحابه وحاشيته من يتسلم القلعة برمتها، ودخل هو بنفسه إليها، وطلب الأمير زين الدين زبالة الذي كان فقيهاً ثم نائبها وهو من أخبر الناس بها وبخطاتها وحواصلها، فدار معه فيها وأراه حصونها وبروجها ومفاتحها وأغلاقها ودورها وقصورها وعددها وبركتها، وما هو معد فيها ولها‏.‏

وتعجب الناس من هذا الاتفاق في هذا الحال، حيث لم يتفق ذلك لأحد من النواب قبله قط، وفتح الباب الذي هو تجاه دار السعادة وجعل نائب السلطنة يدخل منه إلى القلعة ويخرج بخدمه وحشمه وأبهته يكشف أمرها وينظر في مصالحها أيده الله‏.‏

ولما كان يوم السبت خامس عشر شعبان ركب في الموكب على العادة واستدعى الأمير سيف الدين استدمر الذي كان نائب الشام، وهو في منزله كالمعتقل فيه، لا يركب ولا يراه أحد، فأحضره إليه وركب معه‏.‏

وكذلك الأمراء الذين قدموا من الديار المصرية‏:‏ طبترق، وهو أحد أمراء الألوف وطيدمر الحاجب، كان، وأما ابن صبح وعمرشاه فإنهما كانا قد سافرا يوم الجمعة عشية النهار، والمقصود أنه سيرهم وجميع الأمراء بسوق الخيل‏.‏

ونزل بهم كلهم إلى دار السعادة فتعاهدوا وتعاقدوا واتفقوا على أن يكونوا كلهم كتفاً واحداً، وعصبة واحدة على مخالفة من أرادهم بسوء وأنهم يد على من سواهم ممن أراد عزل أحد منهم أو قتله، وأن من قاتلهم قاتلوه‏.‏

وأن السلطان هو ابن أستاذهم الملك المنصور بن حاجي بن الناصر بن المنصور قلاوون، فطاوعوا كلهم لنائب السلطنة على ما أراد من ذلك، وحلفوا له وخرجوا من عنده على هذا الحلف، وقام نائب السلطنة على عادته في عظمة هائلة، وأبهة كثيرة، والمسؤول من الله حسن العاقبة‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد سادس عشر شعبان أبطل ملك الأمراء المكس الذي يؤخذ من الملح وأبطل مكس الأفراح، وأبطل أن لا تغني امرأة لرجال، ولا رجل لنساء، وهذا في غاية ما يكون من المصلحة العظيمة الشامل نفعها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره شرع نائب السلطنة سيف الدين بيدمر في نصف مجانيق على أعالي بروج القلعة، فنصبت أربع مجانيق من جهاتها الأربع، وبلغني أنه نصب آخر في أرضها عند البحرة‏.‏

ثم نصب آخر وآخر حتى شاهد الناس ستة مجانيق على ظهور الأبرجة، وأخرج منها القلعية وأسكنها خلقاً من الأكراد والتركمان وغيرهم من الرجال الأنجاد، ونقل إليها من الغلات والأطعمة والأمتعة وآلات الحرب شيئاً كثيراً، واستعد للحصار إن حوصر فيها بما يحتاج إليه من جميع ما يرصد من القلاع، بما يفوت الحصر‏.‏

ولما شاهد أهل البساتين المجانيق قد نصبت في القلعة انزعجوا وانتقل أكثرهم من البساتين إلى البلد، ومنهم من أودع عند أهل البلد نفائس أموالهم وأمتعتهم، والعاقبة إلى خير إن شاء الله تعالى‏.‏

وجاءتني فتيا صورتها‏:‏ ما تقول السادة العلماء في ملك اشترى غلاماً فأحسن إليه وأعطاه وقدمه، ثم إنه وثب على سيده فقتله وأخذ ماله ومنع ورثته منه، وتصرف في المملكة، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله، فهل له الامتناع منه‏؟‏ وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيداً أم لا‏؟‏

وهل يثاب الساعي في خلاص حق ورثة الملك المقتول من القصاص والمال‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فقلت للذي جاءني بها من جهة الأمير‏:‏ إن كان مراده خلاص ذمته فيما بينه وبين الله تعالى فهو أعلم بينته في الذي يقصده، ولا يسعى في تحصيل حق معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة على ذلك، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقة، وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة والأمراء عليه، فلا بد أن يكتب عليها كبار القضاة والمشايخ أولاً، ثم بعد ذلك بقية المفتيين بطريقه والله الموفق للصواب‏.‏

هذا وقد اجتمع على الأمير نائب السلطنة جميع أمراء الشام، حتى قيل إن فيهم من نواب السلطنة سبعة عشر أميراً، وكلهم يحضر معه المواكب الهائلة، وينزلون معه إلى دار السعادة، ويمد لهم الأسمطة ويأكل معهم‏.‏

وجاء الخبر بأن الأمير منجك الطرجاقسي المقيم ببيت المقدس قد أظهر الموافقة لنائب السلطنة، فأرسل له جبريل ثم عاد فأخبر بالموافقة، وأنه قد استحوذ إلى غزة ونائبه، وقد جمع وحشد واستخدم طوائف، ومسك على الجادة فلا يدع أحداً يمر إلا أن يفتش ما معه، لاحتمال إيصال كتب من ها هنا إلى ها هنا‏.‏

ومع هذا كله فالمعدلة ثابتة جداً، والأمن حاصل هناك، فلا يخاف أحده وكذلك بدمشق وضواحيها، لا يهاج أحد ولا يتعدى أحد على أحد، ولا ينهب أحد لأحد شيئاً ولله الحمد‏.‏

غير أن بعض أهل البساتين توهموا وركبوا إلى المدينة وتحولوا، وأودع بعضهم نفائس ما عندهم، وأقاموا بها على وجل، ذلك لما رأوا المجانيق الستة منصوبة على رؤوس قلال الأبراج التي للقلعة‏.‏

ثم أحضر نائب السلطنة القضاة الأربعة والأمراء كلهم وكتبوا مكتوباً سطره بينهم كاتب السر، أنهم راضون بالسلطان كارهون ليلبغا، وأنهم لا يريدونه ولا يوافقون على تصرفه في المملكة، وشهد عليهم القضاة بذلك، وأرسلوا المكتوب مع مملوك للأمير طيبغا الطويل، نظير يلبغا بالديار المصرية، وأرسل منجك إلى نائب السلطنة يستحثه في الحضور إليه في الجيش ليناجزوا المصريين‏.‏

فعين نائب الشام من الجيش طائفة يبرزون بين يديه، وخرجت التجريدة ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان صحبة استدمر الذي كان نائب الشام مدداً للأمير منجك في ألفين، ويذكر الناس أن نائب السلطنة بمن بقي من الجيش يذهبون على إثرهم، ثم خرجت أخرى بعدها ثلاثة آلاف، ليلة الثلاثاء الثامن من رمضان كما سيأتي‏.‏

وتوفي الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري بها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، ودفن من الغد بالريدانية، وقد كتب الكثير وصنف وجمع، وكانت عنده كتب كثيرة رحمه الله‏.‏

وفي مستهل رمضان أحضر جماعة من التجار إلى دار العدل ظاهر باب النصر ليباع شيء عليهم من القند والفولاذ والزجاج مما هو في حواصل يلبغا، فامتنعوا من ذلك خوفاً من استعادته منهم على تقدير، فضرب بعضهم، منهم شهاب الدين بن الصواف بين يدي الحاجب، وشاد الدواوين، ثم أفرج عنهم في اليوم الثاني ففرج الله بذلك‏.‏

وخرجت التجريدة ليلة الثلاثاء بعد العشاء صحبة ثلاثة مقدمين منهم عراق ثم ابن صبح ثم ابن طرغية، ودخل نائب طرابلس الأمير سيف الدين تومان إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء عاشر رمضان، فتلقاه ملك الأمراء سيف الدين بيدمر إلى الأقصر‏.‏

ودخلا معا في أبهة عظيمة، فنزل تومان في القصر الأبلق، وبرز من معه من الجيوش إلى عند قبة يلبغا، هذا والقلعة منصوب عليها المجانيق، وقد ملئت حرساً شديداً ونائب السلطنة في غاية التحفظ‏.‏

ولما أصبح يوم الخميس صمم تومان تمر على ملك الأمراء في الرحيل إلى غزة ليتوافى هو وبقية من تقدمه من الجيش الشامي، ومنجك ومن معه هنالك، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏.‏

فأجابه إلى ذلك وأمر بتقدم السبق بين يديه في هذا اليوم، فخرج السبق وأغلقت القلعة بابها المسلوك الذي عند دار الحديث، فاستوحش الناس من ذلك، والله يحسن العاقبة‏.‏

 خروج ملك الأمراء بيدمر من دمشق إلى غزة

صلى الجمعة بالمقصورة الثاني عشر من رمضان نائب السلطنة، ونائب طرابلس، ثم اجتمعا بالخطبة في مقصورة الخطابة، ثم راح لدار السعادة ثم خرج طلبه في تجمل هائل على ما ذكر بعد العصر، وخرج معهم فاستعرضهم ثم عاد إلى دار السعادة فبات إلى أن صلّى الصبح، ثم ركب خلف الجيش هو ونائب طرابلس، وخرج عامة من بقي من الجيش من الأمراء وبقية الحلقة، وسلمهم الله‏.‏

وكذلك خرج القضاة، وكذا كاتب السر ووكيل بيت المال وغيرهم من كتاب الدست، وأصبح الناس يوم السبت وليس أحد من الجند بدمشق، سوى نائب الغيبة الأمير سيف الدين بن حمزة التركماني، وقريبه والي البر، ومتولي البلد الأمير بدر الدين صدقة بن أوحد، ومحتسب البلد ونواب القضاة والقلعة على حالها، والمجانيق منصوبة كما هي‏.‏

ولما كان صبح يوم الأحد رجع القضاة بكرة ثم رجع ملك الأمراء في أثناء النهار هو وتومان تمر، وهم كلهم في لبس وأسلحة تامة، وكل منهما خائف من الآخر أن يمكسه، فدخل هذا دار السعادة وراح الآخر إلى القصر الأبلق‏.‏

ولما كان بعد العصر قدم منجك واستدمر كان نائب السلطنة بدمشق، وهما مغلولان قد كسرهما من كان قدم على منجك من العساكر التي جهزها بيدمر إلى منجك وقوة له على المصريين‏.‏

وكان ذلك على يدي الأمير سيف الدين تمر حاجب الحجاب ويعرف بالمهمندار، قال لمنجك‏:‏ كلنا في خدمة من بمصر، ونحن لا نطيعك على نصرة بيدمر، فتقاولا ثم تقاتلا فهزم منجك وذهب تمر ومنجك ومن كان معهما كابن صبح وطيدمر‏.‏

ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين خامس عشر لم يوجد لتومان تمر وطبترق ولا أحد من أمراء دمشق عين ولا أثر، قد ذهبوا كلهم إلى طاعة صاحب مصر، ولم يبق بدمشق من أمرائها سوى ابن قراسنقر من الأمراء المتقدمين، وسوى بيدمر ومنجك واستدمر‏.‏

والقلعة قد هيئت والمجانيق منصوبة على حالها، والناس في خوف شديد من دخول بيدمر إلى القلعة، فيحصل بعد ذلك عند قدوم الجيش المصري حصار وتعب ومشقة على الناس، والله يحسن العاقبة‏.‏

ولما كان في أثناء نهار الاثنين سادس عشره دقت البشائر في القلعة وأظهر أن يلبغا الخاصكي قد نفاه السلطان إلى الشام، ثم ضربت وقت الغرب ثم بعد العشاء في صبيحة يوم الثلاثاء أيضاً‏.‏

وفي كل ذلك يركب الأمراء الثلاثة منجك وبيدمر واستدمر ملبسين، ويخرجون إلى خارج البلد، ثم يعودون، والناس فيما يقال ما بين مصدق ومكذب، ولكن قد شرع إلى تستير القلعة وتهيئ الحصار فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم تبين أن هذه البشائر لا حقيقة لها، فاهتم في عمل ستائر القلعة وحمل الزلط والأحجار إليها، الأغنام والحواصل، وقد وردت الأخبار بأن الركاب الشريف السلطاني وصحبته يلبغا في جميع جيش مصر قد عدا غزة‏.‏

فعند ذلك خرج الصاحب وكاتب السر والقاضي الشافعي وناظر الجيش ونقباؤه ومتولي البلد وتوجهوا تلقاء حماة لتلقي الأمير على الذي قد جاءه تقليد دمشق، وبقي البلد شاغراً عن حاكم فيها سوى المحتسب وبعض القضاة، والناس كغنم لا راعي لهم‏.‏

ومع هذا الأحوال صالحة والأمور ساكنة، لا يعدو أحد على أحد فيما بلغنا، هذا وبيدمر ومنجك واستدمر في تحصين القلعة وتحصيل العدد والأقوات فيها، والله غالب على أمره أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة الستائر تعمل فوق الأبرجة‏.‏

وصلى الأمير بيدمر صلاة الجمعة تاسع عشر الشهر في الشباك الكمالي، في مشهد عثمان، وصلّى عنده منجك إلى جانبه داخل موضع القضاة، وليس هناك أحد من الحجبة ولا النقباء‏.‏

وليس في البلد أحد من المباشرين بالكلية، ولا من الجند إلا القليل، وكلهم قد سافروا إلى ناحية السلطان، والمباشرون إلى ناحية حماة لتلقي الأمير على نائب الشام المحروس، ثم عاد إلى القلعة ولم يحضر الصلاة استدمر، لأنه قيل كان منقطعاً أو قد صلّى في القلعة‏.‏

وفي يوم السبت العشرين من الشهر وصل البريد من جهة السلطان من أبناء الرسول إلى نائب دمشق يستعلم طاعته أو مخالفته، وبعث عليه فيما اعتمده من استحوذ على القلعة ويخطب فيها، وادخار الآلات والأطعمات فيها، وعدم المجانيق والستائر عليها، وكيف تصرف في الأموال السلطانية تصرف الملك والملوك‏.‏

فتنصل ملك الأمراء من ذلك، وذكر أنه إنما أرصد في القلعة جنادتها وأنه لم يدخلها، وأن أبوابها مفتوحة، وهي قلعة السلطان‏.‏

وإنما له غريم بينه وبينه الشرع والقضاة الأربعة - يعني بذلك يلبغا - وكتب الجواب وأرسله صحبة البريدي وهو كتكلدي مملوك بقطبة الدويدار، وأرسل في صحبته الأمير صارم الدين أحد أمراء العشرات من يوم ذلك‏.‏

وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان تصبح أبواب البلد مغلقة إلى قريب الظهر، وليس ثم مفتوح سوى باب النصر والفرج، والناس في حصر شديد وانزعاج، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولكن قد اقترب وصول السلطان والعساكر المنصورة‏.‏

وفي صبيحة الأربعاء أصبح الحال كما كان وأزيد، ونزل الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي بقبة يلبغا، وامتد طلبه من سيف داريا إلى القبة المذكورة في أبهة عظيمة، وهيئة حسنة، وتأخر الركاب الشريف بتأخره عن الصميين بعد، ودخل بيدمر في هذا اليوم إلى القلعة وتحصن بها‏.‏

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين منه استمرت الأبواب كلها مغلقة سوى باب النصر والفرج، وضاق النطاق وانحصر الناس جداً، وقطع المصريون نهر بانياس والفرع الداخل إليها وإلى دار السعادة من القنوات‏.‏

واحتاجوا لذلك أن يقطعوا القنوات ليسدوا الفرع المذكور، فانزعج أهل البلد لذلك وملأوا ما في بيوتهم من برك المدراس، وبيعت القربة بدرهم، والحق بنصف‏.‏

ثم أرسلت القنوات وقت العصر من يومئذ ولله الحمد والمنة، فانشرح الناس لذلك، وأصبح الصباح يوم الجمعة والأبواب مغلقة ولم يفتح باب النصر والفرج إلى بعد طلوع الشمس بزمان‏.‏

فأرسل يلبغا من جهته أربعة أمراء وهم الأمير زين الدين زبالة الذي كان نائب القلعة، والملك صلاح الدين بن الكامل، والشيخ علي الذي كان نائب الرحبة من جهة بيدمر، وأمير آخر، فدخلوا البلد وكسروا أقفال أبواب البلد، وفتحوا الأبواب، فلما رأى بيدمر ذلك أرسل مفاتيح البلد إليهم انتهى‏.‏ ‏

 وصول السلطان الملك المنصور إلى المصطبة غربي عقبة سجورا

كان ذلك في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان في جحافل عظيمة كالجبال، فنزل عند المصطبة المنسوبة إلى عم ابنته الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، وجاءت الأمراء ونواب البلاد لتقبيل يده والأرض بين يديه‏.‏

كنائب حلب، ونائب حماة، وهو الأمير علاء الدين المارداني، وقد عين لنيابة دمشق، وكتب بتقليده بذلك، وأرسل إليه وهو بحماة‏.‏

فلما كان يوم السبت السابع والعشرين منه خلع على الأمير علاء الدين علي المرداني بنيابة دمشق، وأعيد إليها عوداً على بدء، ثم هذه الكرة الثالثة، وقبّل يد السلطان وركب عن يمينه، وخرج أهل البلد لتهنئته، هذا والقلعة محصنة بيد بيدمر، وقد دخلها ليلة الجمعة واحتمى بها، هو ومنجك واستدمر ومن معه من الأعوان بها، ولسان حال القدر يقول‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

ولما كان يوم الأحد طلب قضاة القضاة وأرسلوا إلى بيدمر وذويه بالقلعة ليصالحوه على شيء ميسور يشترطونه، وكان ما ستذكره انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

 سبب خروج بيدمر من القلعة وصفة ذلك

لما كان يوم الأحد الثامن والعشرين منه أرسل قضاة القضاة ومعهم الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، والشيخ سراج الدين الهندي الحنفي، قاضي العسكر المصري للحنفية، إلى بيدمر ومن معه ليتكلموا معهم في الصلح لينزلوا على ما يشترطون قبل أن يشرعوا في الحصار والمجانيق التي قد استدعى بها من صفد وبعلبك‏.‏

واحضر من رجال النقاعين نحو من ستة آلاف رامٍ فلما اجتمع به القضاة ومن معهم وأخبروه عن السلطان وأعيان الأمراء بأنهم قد كتبوا له أماناً إن أناب إلى المصالحة، فطلب أن يكون بأهله ببيت المقدس، وطلب أن يعطى منجك كذا بناحية بلاد سيس ليسترزق هنالك‏.‏

وطلب استدمر أن يكون بشمقدارا للأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي فرجع القضاة إلى السلطان ومعهم الأمير زين الدين جبريل الحاجب كان، فأخبروا السلطان والأمراء بذلك، فأجيبوا إليه، وخلع السلطان والأمراء على جبريل خلعاً فرجع في خدمة القضاة ومعهم الأمير استبغا بن الأيوبكري، فدخلوا القلعة وباتوا هنالك كلهم، وانتقل الأمير بيدمر بأهله وأثاثه إلى داره بالمطرزين‏.‏

فلما أصبح يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرج الأمراء الثلاثة من القلعة ومعهم جبريل، فدخل القضاة وسلموا القلعة بما فيها من الحواصل إلى الأمير استبغا بن الأيوبكري انتهى‏.‏

دخول السلطان محمد بن الملك أمير حاج بن الملك محمد ابن الملك قلاوون إلى دمشق في جيشه وأمرائه

لما كان صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة رجع القضاة إلى الوطاق الشريف، وفي صحبتهم الأمراء الذين كانوا بالقلعة، وقد أعطوا الأمان من جهة السلطان ومن معهم وذويهم، فدخل القضاة وحُجب الأمراء المذكورون‏.‏

فخلع على القضاة الأربعة وانصرفوا راجعين مجبورين، وأما الأمراء المذكورون فإنهم أركبوا على خيل ضعيفة، وخلف كل واحد منهم وساقي أخذ بوسطه قبل، وفي يد كل واحد من الوساقية خنجر كبير مسلول لئلا يستنقذه منه أحد فيقتله بها، فدخل جهرة بين الناس ليروهم ذلتهم التي قد لبستهم، وقد أحدق الناس بالطريق من كل جانب‏.‏

فقام كثير من الناس، الله أعلم بعدتهم، إلا أنهم قد يقاربون المائة ألف أو يزيدون عليها، فرأى الناس منظراً فظيعاً، فدخل بهم الوساقية إلى الميدان الأخضر الذي فيه القصر، فاجلسوا هنالك وهم ستة نفر‏:‏ الثلاثة النواب وجبريل وابن استدمر وسادس، وظن كل منهم أن يفعل بهم فاقرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وأرسلت الجيوش داخلة إلى دمشق أطلاباً في تجمل عظيم، ولبس الحرب بنهر النصر وخيول وأسلحة ورماح، ثم دخل السلطان في آخر ذلك كله بعد العصر بزمن، وعليه من أنواع الملابس قباز بخاري، والقبة والطبر يحملهما على رأسه الأمير سيف الدين تومان تمر، الذي كان نائب طرابلس، والأمراء مشاة بين يديه، والبسط تحت قدمي فرسه، والبشائر تضرب خلفه فدخل القلعة المنصورة المنصورية لا البدرية‏.‏

ورأى ما قد أرصد بها من المجانيق والأسلحة، فاشتد حنقه على بيدمر وأصحابه كثيراً، ونزل الطارمة، وجلس على سرير المملكة ووقف الأمراء والنواب بين يديه، ورجع الحق إلى نصابه، وقد كان بين دخوله ودخول عمه الصالح صالح في أول يوم من رمضان، وهذا في التاسع والعشرين منه، وقد قيل إنه سلخه والله أعلم‏.‏

وشرع الناس في الزينة‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء سلخ الشهر نقل الأمراء المغضوب عليهم الذين ضلّ سعيهم فيما كانوا أبرموه من ضمير سوء للمسلمين إلى القلعة فأنزلوا في أبراجها مهانين مفرقاً بينهم، بعد ما كانوا بها آمنين حاكمين، أصبحوا معتقلين مهانين خائفين، فجاروا بعد ما كانوا رؤساء، وأصبحوا بعد عزهم أذلاء‏.‏ ‏

ونقبت أصحاب هؤلاء ونودي عليهم في البلد، ووعد من دل على أحد منهم بمال جزيل، وولاية إمرة بحسب ذلك، ورسم في هذا اليوم على الرئيس أمين الدين ابن القلانسي كاتب السر، وطلب منه ألف ألف درهم، وسلم إلى الأمير زين الدين زبالة نائب القلعة، وقد أعيد إليها وأُعطي تقدمة ابن قراسنقر، وأمره أن يعاقبه إلى أن يزن هذا المبلغ‏.‏

وصلّى السلطان وأمراؤه بالميدان الأخضر صلاة العيد، ضرب له خام عظيم وصلى به خطيباً القاضي تاج الدين الساوي الشافعي، قاضي العسكر المنصورة للشافعية‏.‏

ودخل الأمراء مع السلطان للقلعة من باب المدرسة، ومد لهم سماطاً هائلاً أكلوا منه ثم رجعوا إلى دورهم وقصورهم، وحمل الطبر في هذا اليوم على رأس السلطان الأمير على نائب دمشق، وخلع عليه خلعة هائلة‏.‏

وفي هذا اليوم مسك الأمير تومان تمر الذي كان نائب طرابلس، ثم قدم على بيدمر، فكان معه، ثم قفل إلى المصريين واعتذر إليهم فعذروه فيما يبدو للناس‏.‏

ودخل وهو حامل الخبز على رأس السلطان يوم الدخول، ثم ولوه نيابة حمص، فصغروه وحقروه، ثم لما استمر ذاهباً إليها فكان عند القابون أرسلوا إليه فأمسكوه وردوه، وطلب منه المائة ألف التي كان قبضها من بيدمر، ثم ردوه إلى نيابة حمص‏.‏

وفي يوم الخميس اشتهر الخبر بأن طائفة من الجيش بمصر من طواشية وخاصكية ملكوا عليهم حسين الناصر، ثم اختلفوا فيما بينهم واقتتلوا، وأن الأمر قد انفصل ورد حسين للمحل الذي كان معتقلاً فيه، وأطفأ الله شر هذه الطائفة ولله الحمد‏.‏

وفي آخر هذا اليوم لبس القاضي ناصر الدين بن يعقوب خلعة كتابة السر الشريفية، والمدرستين، ومشيخة الشيوخ عوضاً عن الرئيس علاء الدين بن القلانسي، عزل وصودر، وراح الناس لتهنئته بالعود إلى وظيفته كما كان‏.‏

وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث شوال مسك جماعة من الأمراء الشاميين منهم الحاجبان صلاح الدين وحسام الدين والمهمندار ابن أخي الحاجب الكبير، تمر، وناصر الدين بن الملك صلاح الدين بن الكامل، وابن حمزة والطرخاني واثنان أخوان وهما طيبغا زفر وبلجات، كلهم طبلخانات، وأخرجوا خير وتمر حاجب الحجاب، وكذلك الحجوبية أيضاً لقاربي أحد أمراء مصر‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سابع شوال مسك ستة عشر أميراً من أمراء العرب بالقلعة المنصورة، منهم عمر بن موسى بن مهنا الملقب المصمع، الذي كان أمير العرب في وقت، ومعيقل بن فضل بن مهنا وآخرون، وذكروا أن سبب ذلك أن طائفة من آل فضل عرضوا للأمير سيف الدين الأحمدي الذي استاقوه على حلب، وأخذوا منه شيئاً من بعض الأمتعة، وكادت الحرب تقع بينهم‏.‏

وفي ليلة الخميس بعد المغرب حمل تسعة عشر أميراً من الأتراك والعرب على البريد مقيدين في الأغلال أيضاً إلى الديار المصرية، منهم بيدمر، ومنجك، واستدمر، وجبريل، وصلاح الدين الحاجب، وحسام الدين أيضاً، وبلجك وغيرهم‏.‏

ومعهم نحو من مائتي فارس ملبسين بالسلاح متوكلين بحفظهم، وساروا بهم نحو الديار المصرية، وأمروا جماعة من البطالين منهم أولاد لاقوش، وأطلق الرئيس أمين الدين بن القلانسي من المصادرة والترسيم بالقلعة، بعد ما وزن بعض ما طلب منه، وصار إلى منزله، وهنأه الناس‏.‏

 خروج السلطان من دمشق قاصداً مصر

ولما كان يوم الجمعة عاشر شهر شوال خرج طلب يلبغا الخاصكي صبيحته في تجمل عظيم لم ير الناس في هذه المدد مثله، من نجائب وجنائب ومماليك وعظمة هائلة، وكانت عامة الأطلاب قد تقدمت قبله بيوم، وحضر السلطان إلى الجامع الأموي قبل أذان الظهر، فصلى في مشهد عثمان و ومن معه من أمراء المصريين، ونائب الشام‏.‏

‏(‏يتبع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

‏(‏تابع‏.‏‏.‏‏.‏ 1‏)‏‏:‏ استهلت هذه السنة المباركة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والشامية‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

وخرج من فوره من باب النصر ذهباً نحو الكسوة والناس في الطرقات والأسطحة على العادة، وكانت الزينة قد بقي أكثرها في الصاغة والخواصين وباب البريد إلى هذا اليوم، فاستمرت نحو العشرة أيام‏.‏

وفي يوم السبت حادي عشر شوال خلع على الشيخ علاء الدين الأنصاري بإعادة الحسبة إليه وعزل عماد الدين بن السيرجي، وخرج المحمل يوم الخميس سادس عشر شوال على العادة، والأمير مصطفى البيري‏.‏

وتوفي يوم الخميس ويوم الجمعة أربعة أمراء بدمشق، وهم طشتمر وفر وطيبغا الفيل، ونوروز أحد مقدمي الألوف، وتمر المهمندار، وقد كان مقدم ألف، وحاجب الحجاب وعمل نيابة غزة في وقت، ثم تعصب عليه المصريون فعزلوه عن الإمرة‏.‏

وكان مريضاً فاستمر مريضاً إلى أن توفي يوم الجمعة، ودفن يوم السبت بتربته التي أنشأها بالصوفية، لكنه لم يدفن فيها بل على بابها كأنه مودع أو ندم على بنائها فوق قبور المسلمين رحمه الله‏.‏

وتوفي الأمير ناصر الدين بن لاقوش يوم الاثنين العشرين من شوال ودفن بالقبيبات، وقد ناب ببعلبك وبحمص، ثم قطع خبره هو وأخوه كحلن ونفوا عن البلد إلى بلدان شتى‏.‏

ثم رضي عنهم الأمير يلبغا وأعاد عليهم أخباراً بطبلخانات، فلما لبث ناصر الدين إلا يسيراً حتى توفي إلى رحمة الله تعالى، وقد أثر آثاراً حسنة كثيرة منها عند عقبة الرمانة خان مليح نافع، وله ببعلبك جامع وحمام وخان وغير ذلك، وله من العمر ست وخمسون سنة‏.‏

وفي يوم الأحد السادس والعشرين منه درّس القاضي نور الدين محمد بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء الشافعي بالمدرسة الأتابكية، نزل له عنها والده بتوقيع سلطاني، وحضر عنده القضاة والأعيان، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏‏.‏

وفي هذا اليوم درّس القاضي نجم الدين أحمد بن عثمان النابلسي الشافعي المعروف بابن الجابي بالمدرسة العصرونية استنزل له عنها القاضي أمين الدين بن القلانسي في مصادراته‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من شوال درّس القاضي ولي الدين عبد الله بن القاضي بهاء الدين أبي البقاء بالمدرستين الرواحية ثم القيمرية، نزل له عنهما والده المذكور بتوقيع سلطاني، وحضر عنده فيهما القضاة والأعيان‏.‏

وفي صبيحة يوم الخميس سلخ شوال شهر الشيخ أسد ابن الشيخ الكردي على جمل وطيف به في حواضر البلد ونودي عليه‏:‏ هذا جزاء من يخامر على السلطان ويفسد ثواب السلطان‏.‏

ثم أنزل عن الجمل وحمل على حمار وطيف به في البلد ونودي عليه بذلك، ثم ألزم السجن وطلب منه مال جزيل وقد كان المذكور من أعوان بيدمر المتقدم ذكره وأنصاره، وكان هو المتسلم للقلعة في أيامه‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة خلع على قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح بقضاء العسكر الذي كان متوفراً عن علاء الدين بن شمرنوخ، وهنأه الناس بذلك وركب البغلة بالزناري مضافاً إلى ما بيده من نيابة الحكم والتدريس‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن عشره أعيد تدريس الركنية بالصالحية إلى قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي، استرجعها بمرسوم شريف سلطاني، من يد القاضي عماد الدين بن العز، وخلع على الكفري، وذهب الناس إليه للتهنئة بالمدرسة المذكورة‏.‏

وفي شهر ذي الحجة أشتهر وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون، وأنهم اقتتلوا فقتل من الفريقين اليمني والقيسي طائفة، وأن عين حيتا التي هي شرقي عجلون دمرت وخربت، وقطع أشجارها ودمرت بالكلية‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة لم تفتح أبواب دمشق إلى ما بعد طلوع الشمس، فأنكر الناس ذلك، وكان سببه الاحتياط على أمير يقال له كسبغا، كان يريد الهرب إلى بلاد الشرق، فاحتيط عليه حتى أمسكوه‏.‏ ‏

وفي ليلة الأربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة قدم الأمير سيف الدين طاز من القدس فنزل بالقصر الأبلق، وقد عمي من الكحل حين كان مسجوناً بالإسكندرية، فأطلق كما ذكرنا، ونزل ببيت المقدس مدة‏.‏

ثم جاءه تقليد بأنه يكون ظرخاناً ينزل حيث شاء من بلاد السلطان، غير أنه لا يدخل ديار مصر، فجاء فنزل بالقصر الأبلق، وجاء الناس إليه على طبقاتهم - نائب السلطنة فمن دونه - يسلمون عليه وهو لا يبصر شيئاً، وهو على عزم أن يشتري أو يستكري له داراً بدمشق يسكنها‏.‏

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما والاهما من الممالك الإسلامية السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر أمير حاج بن الملك المنصور قلاوون، وهو شاب دون العشرين، ومدبر الممالك بين يديه الأمير يلبغا، ونائب الديار المصرية طشتمر، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

والوزير سيف الدين قزوينه، وهو مريض مدنف ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين المارداني، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك الخطيب، ووكيل بيت المال، والمحتسب علاء الدين الأنصاري، عاد إليها في السنة المنفصلة، وحاجب الحجاب قماري، والذي يليه السليماني وآخر من مصر أيضاً‏.‏

وكاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب الحلبي، وناظر الجامع القاضي تقي الدين بن مراجل وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي أنه جدد في أول هذه السنة قاضي حنفي بمدينة صفد المحروسة مع الشافعي، فصار في كل من حماة وطرابلس وصفد قاضيان شافعي وحنفي‏.‏

وفي ثاني المحرم قدم نائب السلطنة بعد غيبة نحو من خمسة عشر يوماً، وقد أوطأ بلاد فرير بالرعب، وأخذ من مقدميهم طائفة فأودعهم الحبس، وكان قد اشتهر أنه قصد العشيرات المواسين ببلاد عجلون، فسألته عن ذلك حين سلمت عليه فأخبرني أنه لم يتعد ناحية فرير، وأن العشيرات قد اصطلحوا واتفقوا، وأن التجريدة عندهم هناك‏.‏

قال‏:‏ وقد كبس الأعراب من حرم الترك فهزمهم الترك وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم ظهر للعرب كمين فلجأ الترك إلى وادي صرح فحصروهم هنالك، ثم ولت الأعراب فراراً ولم يقتل من الترك أحد، وإنما جرح منهم أمير واحد فقط، وقتل من الأعراب فوق الخمسين نفساً‏.‏ ‏

وقدم الحجاج يوم الأحد الثاني والعشرين من المحرم، ودخل المحمل السلطاني ليلة الاثنين بعد العشاء، ولم يحتفل لدخوله كما جرت به العادة، وذلك لشدة ما نال الركب في الرجعة من بريز إلى هنا من البرد الشديد، بحيث إنه قد قيل إنه مات منهم بسبب ذلك نحو المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولكن أخبروا برخص كثير وآمن، وبموت نفسة أخي عجلان صاحب مكة، وقد استبشر بموته أهل تلك البلاد لبغية على أخيه عجلان العادل فيهم انتهى والله أعلم‏.‏

 منام غريب جداً

ورأيت - يعني المصنف - في ليلة الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له‏:‏ يا سيدي الشيخ لم لا أدخلت في شرحك المهذب شيئاً من مصنفات ابن حزم ‏؟‏

فقال ما معناه‏:‏ إنه لا يحبه‏.‏

فقلت له‏:‏ أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه، أما هو في الفروع فظاهري جامد يابس، وفي الأصول تول مائع قرمطة القرامطة وهرس الهرائسة، ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم، ثم أشرت له إلى أرض خضرا ء تشبه النخيل بل هي أردأ شكلاً منه، لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي‏.‏

فقلت له‏:‏ هذه أرض ابن حزم التي زرعها‏.‏

قال‏:‏ أنظر هل ترى فيها شجراً مثمراً أو شيئا ينتفع به‏.‏

فقلت‏:‏ إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر‏.‏

فهذا حاصل ما رأيته، ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرت للشيخ محي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكت لا يتكلم‏.‏

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر خلع على القاضي عماد الدين بن الشيرجي بعود الحسبة إليه بسبب ضعف علاء الدين الأنصاري عن القيام بها لشغله بالمرض المدنف، وهنأه الناس على العادة‏.‏

وفي يوم السادس والعشرين من صفر توفي الشيخ علاء الدين الأنصاري المذكور بالمدرسة الأمينية، وصلّي عليه الظهر بالجامع الأموي، ودفن بمقابر باب الصغير خلف محراب جامع جراح، في تربة هنالك، وقد جاوز الأربعين سنة، ودرّس في الأمينية وفي الحسبة مرتين وترك أولاداً صغاراً وأموالاً جزيلة سامحه الله ورحمه، ووليّ المدرسة بعده قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي بمرسوم كريم شريف‏.‏

وفي العشر الأخير من صفر بلغنا وفاة قاضي قضاة المالكية الأخنائي بمصر وتولية أخيه برهان الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي الشافعي أبوه قاضياً مكان أخيه، وقد كان على الحسبة بمصر مشكور السيرة فيها، وأضيف إليه نظر الخزانة كما كان أخوه‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول كان ابتداء حضور قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين بن الحسن بن عبد الكافي السبكي الشافعي تدريس الأمينية عوضاً عن الشيخ علاء الدين المحتسب، بحكم وفاته رحمه الله كما ذكرنا‏.‏

وحضر عنده خلق من العلماء والأمراء والفقهاء والعامة، وكان درساً حافلاً، أخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏ الآية وما بعدها‏.‏

فاستنبط أشياء حسنة، وذكر ضرباً من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة، أخذ، ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج ولا تكلف فأجاد وأفاد، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم حتى قال بعض الأكابر‏:‏ إنه لم يسمع درساً مثله‏.‏

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين منه توفي الصدر برهان الدين بن لؤلؤ الحوضي، في داره بالقصاعين ولم يمرض إلا يوماً واحداً، وصلّي عليه من الغد بجامع دمشق بعد صلاة الظهر، وخرجوا به من باب النصر، فخرج نائب السلطنة الأمير علي فصلّى عليه إماماً خارج باب النصر‏.‏

ثم ذهبوا به فدفنوه بمقابرهم بباب الصغير، فدفن عند أبيه رحمه الله، كان رحمه الله فيه مروءة وقيام مع الناس، وله وجاهة عند الدولة وقبول عند نواب السلطنة وغيرهم، ويحب العلماء وأهل الخير، ويواظب على سماع مواعيد الحديث والخير، وكان له مال وثروة ومعروف، قارب الثمانين رحمه الله‏.‏

وجاء البريد من الديار المصرية فأخبر بموت الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش المصري بها، وكان واعظاً باهراً، وفصيحاً ماهراً، ونحوياً شاعراً، له يد طولى في فنون متعددة، وقدرة على نسج الكلام، ودخول على الدولة وتحصيل الأموال، وهو من أبناء الأربعين رحمه الله‏.‏

وأخبر البريد بولاية قاضي القضاة شرف الدين المالكي البغدادي، الذي كان قاضياً بالشام للمالكية، ثم عزل بنظر الخزانة بمصر، فإنه رتب له معلوم وافر يكفيه ويفضل عنه، ففرح بذلك من يحبه‏.‏

وفي يوم الأحد السابع عشر من ربيع الآخر توفي الرئيس أمين الدين محمد بن الصدر جمال الدين أحمد بن الرئيس شرف الدين محمد بن القلانسي، أحد من بقي من رؤساء البلد وكبرائها‏.‏

وقد كان باشر مباشرات كبار كأبيه وعمه علاء الدين، ولكن فاق هذا على أسلافه فإنه باشر وكالة المال مدة، وولي قضاء العساكر أيضاً، ثم ولي كتابة السر مع مشيخة الشيوخ وتدريس الناصرية والشامية الجوانية، وكان قد درّس في العصرونية من قبل سنة ست وثلاثين‏.‏

ثم لما قدم السلطان في السنة الماضية عزل عن مناصبه الكبار، وصودر بمبلغ كثير يقارب مائتي ألف، فباع كثيراً من أملاكه وما بقي بيده من وظائفه شيء، وبقي خاملاً مدة إلى يومه هذا، فتوفي بغتة، وكان قد تشوش قليلاً لم يشعر به أحد، وصلّي عليه العصر بجامع دمشق، وخرجوا به من باب الناطفانيين إلى تربتهم التي بسفح قاسيون رحمه الله‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين ثامن عشره، خلع على القاضي جمال الدين بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي‏.‏

وجعل مع أبيه شريكاً في القضاء ولقب في التوقيع الوارد صحبة البريد من جهة السلطان قاضي القضاة فلبس الخلعة بدار السعادة وجاء ومعه قاضي القضاة تاج الدين السبكي إلى النورية فقعد في المسجد ووضعت الربعة فقرئت وقرئ القرآن ولم يكن درساً، وجاءت الناس للتهنئة بما حصل من الولاية له مع أبيه‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الجامع فتح الدين بن الشيخ زين الدين الفارقي، إمام دار الحديث الأشرفية، وخازن الأثر بها، ومؤذن في الجامع‏.‏

وقد أتت عليه تسعون سنة في خير وصيانة وتلاوة وصلاة كثيرة وانجماع عن الناس، صلّي عليه صبيحة يومئذ، وخرج به من باب النصر إلى نحو الصالحية رحمه الله‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين عاشر جمادى الأولى ورد البريد وهو قرابغا دوادار نائب الشام الصغير ومعه تقليد بقضاء قضاة الحنفية للشيخ جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، بمقتضى نزول أبيه له عن ذلك، ولبس الخلعة بدار السعادة وأجلس تحت المالكي‏.‏

ثم جاؤوا إلى المقصورة من الجامع وقرئ تقليده هنالك، قرأه شمس الدين بن السبكي نائب الحسبة، واستناب اثنين من أصحابهم وهما شمس الدين بن منصور، وبدر الدين بن الخراش، ثم جاء معه إلى النورية فدرّس بها ولم يحضره والده بشيء من ذلك انتهى والله أعلم‏.‏

 

موت الخليفة المعتضد بالله

كان ذلك في العشر الأوسط من جمادى الأولى بالقاهرة، وصلّي عليه يوم الخميس، أخبرني بذلك قاضي القضاة تاج الدين الشافعي، عن كتاب أخيه الشيخ بهاء الدين رحمهما الله‏.‏

 خلافة المتوكل على الله

ثم بويع بعده ولده المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر أبي الفتح بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد رحم لله أسلافه‏.‏

وفي جمادى الأولى توجه الرسول من الديار المصرية ومعه صناجق خليفية وسلطانية وتقاليد وخلع وتحف لصاحبي الموصل وسنجار من جهة صاحب مصر ليخطب له فيهما‏.‏

وولىّ قاضي القضاة تاج الدين الشافعي السبكي الحاكم بدمشق لقاضيهما من جهته تقليدين، حسب ما أخبرني بذلك، وأرسلا مع ما أرسل به السلطان إلى البلدين، وهذا أمر غريب لم يقع مثله فيما تقدم فيما أعلم والله أعلم‏.‏

وفي جمادى الآخرة خرج نائب السلطنة إلى مرج الفسولة ومعه حجبته ونقباء النقباء، وكاتب السر وذووه، ومن عزمهم الإقامة مدة، فقدم من الديار المصرية أمير على البريد فأسرعوا الأوبة فدخلوا في صبيحة الأحد الحادي والعشرين منه، وأصبح نائب السلطنة فحضر الموكب على العادة وخلع على الأمير سيف الدين يلبغا الصالحي‏.‏

وجاء النص من الديار المصرية بخلعة دوادار عوضاً عن سيف الدين كحلن، وخلع في هذا اليوم على الصدر شمس الدين بن مرقي بتوقيع الدست، وجهات أخر، قدم بها من الديار المصرية، فانتشر الخبر في هذا اليوم بإجلاس قاضي القضاة شمس الدين الكفري الحنفي، فوق قاضي القضاة المالكية، لكن لم يحضر في هذا اليوم، وذلك بعد ما قد أمر بإجلاس المالكي فوقه‏.‏

وفي ثاني رجب توفي القاضي الإمام العالم شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، نائب مشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي، وزوج ابنته، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث، وكان بارعاً فاضلاً متفنناً في علوم كثيرة، ولا سيما علم الفروع‏.‏

كان غاية في نقل مذهب الإمام أحمد، وجمع مصنفات كثيرة منها كتاب ‏(‏المقنع‏)‏ نحواً من ثلاثين مجلداً كما أخبرني بذلك عنه قاضي القضاة جمال الدين، وعلق على محفوظة أحكام الشيخ مجد الدين بن تيمية مجلدين، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات رحمه الله‏.‏

توفي عن نحو خمسين سنة، وصلّي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري، ودفن بمقبرة الشيخ الموفق، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلهم، وخلق من الأعيان رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت رابع رجب ضرب نائب السلطنة جماعة من أهل قبر عاتكة أساءوا الأدب على النائب ومماليكه، بسبب جامع للخطبة جدد بناحيتهم، فأراد بعض الفقراء أن يأخذ ذلك الجامع ويجعله زاوية للرقاصين، فحكم القاضي الحنبلي بجعله جامعاً قد نصب فيه منبر‏.‏

وقد قدم شيخ الفقراء على يديه مرسوم شريف بتسليمه إليه، فأنفت أنفس أهله تلك الناحية من عوده زاوية بعد ما كان جامعاً، وأعظموا ذلك، فتكلم بعضهم بكلام سيئ، فاستحضر نائب السلطنة طائفة منهم وضربهم بالمقارع بين يديه‏.‏

ونودي عليهم في البلد، فأراد بعض العامة إنكاراً لذلك، وحدد ميعاد حديث يقرأ بعد المغرب تحت قبة النسر على الكرسي الذي يقرأ عليه المصحف، رتبه أحد أولاد القاضي عماد الدين بن الشيرازي‏.‏

وحدث فيه الشيخ عماد الدين بن السراج، واجتمع عنده خلق كثير وجم غفير، وقرأ في السيرة النبوية من خطي، وذلك في العشر الأول من هذا الشهر‏.‏

 أعجوبة من العجائب

وحضر شاب عجمي من بلاد تبريز وخراسان يزعم أنه يحفظ ‏(‏البخاري‏)‏ و‏(‏مسلماً‏)‏ و‏(‏جامع المسانيد‏)‏ و‏(‏الكشاف‏)‏ للزمخشري وغير ذلك من محاضيرها، في فنون أخر‏.‏

فلما كان يوم الأربعاء سلخ شهر رجب قرأ في الجامع الأموي بالحائط الشمالي منه، عند باب الكلاسة من أول ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ إلى أثناء كتاب العلم منه، من حفظه وأنا أقابل عليه من نسخة بيدي، فأدى جيداً، غير أنه يصحف بعضاً الكلمات لعجم فيه، وربما لحن أيضاً في بعض الأحيان‏.‏

واجتمع خلق كثير من العامة والخاصة وجماعة من المحدثين، فأعجب ذلك جماعة كثيرين، وقال آخرون منهم إن سرد بقية الكتاب على هذا المنوال لعظيم جداً‏.‏

فاجتمعنا في اليوم الثاني وهو مستهل شعبان في المكان المذكور، وحضر قاضي القضاة الشافعي وجماعة من الفضلاء، واجتمع العامة محدقين فقرأ على العادة غير أنه لم يطول كأول يوم، وسقط عليه بعض الأحاديث، وصحف ولحن في بعض الألفاظ‏.‏

ثم جاء القاضيان الحنفي والمالكي فقرأ بحضرتهما أيضاً بعض الشيء، هذا والعامة محتفون به متعجبون من أمره، ومنهم من يتقرب بتقبيل يديه، وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة، وقال‏:‏ أنا ما خرجت من بلادي إلا إلى القصد إليك، وأن تجيزني، وذكرك في بلادنا مشهور، ثم رجع إلى مصر ليلة الجمعة وقد كارمه القضاة والأعيان بشيء من الدراهم يقارب الألف‏.‏

 عزل الأمير علي عن نيابة دمشق

في يوم الأحد حادي عشر شعبان ورد البريد من الديار المصرية وعلى يديه مرسوم شريف بعزل الأمير علي عن نيابة دمشق، فأحضر الأمراء إلى دار السعادة وقرئ المرسوم الشريف عليهم بحضوره، وخلع عليه خلعة وردت مع البريد، ورسم له بقرية دومة وأخرى في بلاد طرابلس على سبيل الراتب، وأن يكون في أي البلاد شاء من دمشق أو القدس أو الحجاز‏.‏

فانتقل من يومه من دار السعادة وبباقي أصحابه ومماليكه، واستقر نزوله في دار الخليلي بالقصاعين التي جددها وزاد فيها دويداره يلبغا، وهي دار هائلة، وراح الناس للتأسف عليه والحزن له انتهى‏.‏

طلب قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي الشافعي إلى الديار المصرية

ورد البريد بطلبه من آخر نهار الأحد بعد العصر الحادي عشر من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة، فأرسل إليه حاجب الحجاب قماري وهو نائب الغيبة أن يسافر من يومه، فاستنظرهم إلى الغد فأمهل‏.‏

وقد ورد الخبر بولاية أخيه الشيخ بهاء الدين بن السبكي بقضاء الشام عوضاً عن أخيه تاج الدين، وأرسل يستنيب ابن أختهما قاضي القضاة تاج الدين في التأهب والسير‏.‏

وجاء الناس إليه ليودعوه ويستوحشون له، وركب من بستانه بعد العصر يوم الاثنين ثاني عشر شعبان، متوجهاً على البريد إلى الديار المصرية، وبين يديه قضاة القضاة والأعيان، حتى قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي، حتى ردهم قريباً من الجسورة ومنهم من جاوزها والله المسؤول في حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة، انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

 أعجوبة أخرى غريبة

لما كان يوم الثلاثاء العشرين من شعبان دعيت إلى بستان الشيخ العلامة كمال الدين بن الشريشي شيخ الشافعية وحضر جماعة الأعيان منهم الشيخ العلامة شمس الدين بن الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة صلاح الدين الصفدي، وكيل بيت المال‏.‏

والشيخ الإمام العلامة شمس الدين الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي من ذرية الشيخ أبي إسحق الفيروزابادي، من أئمة اللغويين، والخطيب الإمام العلامة صدر الدين بن العز الحنفي أحد البلغاء الفضلاء، والشيخ الإمام العلامة نور الدين علي بن الصارم أحد القراء المحدثين البلغاء‏.‏

وأحضروا نيفاً وأربعين مجلداً من كتاب ‏(‏المنتهى‏)‏ في اللغة للتميمي البرمكي، وقف الناصرية وحضر ولد الشيخ كمال الدين بن الشريشي، وهو العلامة بدر الدين محمد، واجتمعنا كلنا عليه، وأخذ كل منا مجلداً بيده من تلك المجلدات، ثم أخذنا نسأله عن بيوت الشعر المستشهد عليها بها، فينشر كلاً منها ويتكلم عليه بكلام مبين مفيد، فجزم الحاضرون والسامعون أنه يحفظ جميع شواهد اللغة ولا يشذ عنه منها إلا القليل الشاذ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الأعراب‏.

 دخول نائب السلطنة سيف الدين تشتمر

وذلك في أوائل رمضان يوم السبت ضحى والحجبة بين يديه والجيش بكماله، فتقدم إلى سوق الخيل فأركب فيه ثم جاء ونزل عند باب السر، وقبّل العتبة ثم مشى إلى دار السعادة والناس بين يديه‏.‏

وكان أول شيء حكم فيه أن أمر بصلب الذي كان قتل بالأمس والي الصالحية، وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة، ثم هرب فتبعه الناس فقتل منهم آخر وجرح آخرين ثم تكاثروا عليه فمسك، ولما صلب طافوا به على حمل إلى الصالحية فمات هناك بعد أيام، وقاسى أمراً شديداً من العقوبات، وقد ظهر بعد ذلك على أنه قتل خلقاً كثيراً من الناس قبحه الله‏.‏

قدوم قاضي القضاة بهاء الدين أحمد بن تقي الدين عوضاً عن أخيه قاضي القضاة تاج الدين بن عبد الوهاب

قدم يوم الثلاثاء قبل العصر فبدأ بملك الأمراء فسلم عليه، ثم مشى إلى دار الحديث فصلّى هناك ثم مشى إلى المدرسة الركنية فنزل بها عن ابن أخيه قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، قاضي العساكر، وذهب الناس للسلام عليه وهو يكره من يلقبه بقاضي القضاة، وعليه تواضع وتقشف، ويظهر عليه تأسف على مفارقة بلده ووطنه وولده وأهله، والله المسؤول المأمول أن يحسن العاقبة‏.‏

وخرج المحمل السلطاني يوم الخميس ثامن عشر شوال، وأمير الحاج الملك صلاح الدين بن الملك الكامل بن السعيد العادل الكبير، وقاضيه الشيخ بهاء الدين بن سبع مدرّس الأمينية ببعلبك وفي هذا الشهر وقع الحكم بما يخص المجاهدين من وقف المدرسة التقوية إليهم، وأذن القضاة الأربعة إليهم بحضرة ملك الأمراء في ذلك‏.‏

وفي ليلة الأحد ثالث شهر ذي القعدة توفي القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب كاتب السر، وشيخ الشيوخ ومدرّس الناصرية الجوانية والشامية الجوانية بدمشق، ومدرّس الأسدية بحلب‏.‏

وقد باشر كتابة السر بحلب أيضاً، وقضاء العساكر وأفتى بزمان ولاية الشيخ كمال الدين الزملكاني قضاء حلب، أذن له هنالك في حدود سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ومولده سنة سبع وسبعمائة، وقد قرأ ‏(‏التنبيه‏)‏ و‏(‏مختصر ابن الحاجب‏)‏ في الأصول، وفي العربية، وكان عنده نباهة وممارسة للعلم، وفيه جودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه، وليس يتوسم منه سوء‏.‏

وفيه ديانة وعفة حلف لي في وقت بالأيمان المغلظة أنه لم يمكن قط منه فاحشة اللواط ولا خطر له ذلك، ولم يزن ولم يشرب مسكراً ولا أكل حشيشة، فرحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

صلّي عليه بعد الظهر يومئذ وخرج بالجنازة من باب النصر فخرج نائب السلطنة من دار السعادة فحضر الصلاة عليه هنالك، ودفن بمقبرة لهم بالصوفية وتأسفوا عيه وترحموا، وتزاحم جماعة من الفقهاء بطلب مدارسه انتهى‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والشامية والحجازية وما يتبعهما من الأقاليم والرساتيق الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المنصور المظفري حاجي بن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ومدير الممالك بين يديه، وأتابك العساكر سيف الدين يلبغا، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

غير أن ابن جماعة قاضي الشافعية وموفق الدين قاضي الحنابلة في الحجاز الشريف، ونائب دمشق الأمير سيف الدين قشتمر المنصوري، وقاضي قضاة الشافعية الشيخ بهاء الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وأخوه قاضي القضاة تاج الدين مقيم بمصر، وقاضي قضاة الحنفية الشيخ جمال الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري‏.‏

آثره والده بالمنصب وأقام على تدريس الركنية يتعبد ويتلو ويجمع على العبادة، وقاضي قضاة المالكية جمال الدين المسلاتي، وقاضي قضاة الحنابلة الشيخ جمال الدين المرداوي محمود بن جملة، ومحتسب البلد الشيخ عماد الدين الشيرجي، وكاتب السر جمال الدين عبد الله بن الأثير‏.‏

قدم من الديار المصرية عوضاً عن ناصر الدين بن يعقوب، وكان قدومه يوم سلخ السنة الماضية، وناظر الدواوين بدر الدين حسن بن النابلسي، وناظر الخزانة القاضي تقي الدين بن مراجل‏.‏

ودخل المحمل السلطاني يوم الجمعة الثاني والعشرين من المحرم بعد العصر خوفاً من المطر، وكان وقع مطر شديد قبل أيام، فتلف منه غلات كثيرة بحوران وغيرها، ومشاطيخ وغير ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي ليلة الأربعاء السابع والعشرين منه بعد عشاء الآخرة قبل دقة القلعة دخل فارس من ناحية باب الفرج إلى ناحية باب القلعة الجوانية، ومن ناحية الباب المذكور سلسلة، ومن ناحية باب النصر أخرى جددتا لئلا يمر راكب على باب القلعة المنصورة، فساق هذا الفارس المذكور على السلسلة الواحدة فقطعها‏.‏

ثم مر على الأخرى فقطعها وخرج من باب النصر ولم يعرف لأنه ملثم‏.‏

وفي حادي عشر صفر وقبله بيوم قدم البريد من الديار المصرية بطلب الأمير سيف الدين زبالة أحد أمراء الألوف إلى الديار المصرية مكرماً، وقد كان عزل عن نيابة القلعة بسبب ما تقدم، وجاء البريد أيضاً ومعه التواقيع التي كانت بأيدي ناس كثير، زيادات على الجامع، ردت إليهم وأقروا على ما بأيديهم من ذلك‏.‏

وكان ناظر الجامع الصاحب تقي الدين بن مراجل قد سعى برفع ما زيد بعد التذكرة التي كانت في أيام صرغتمش، فلم يف ذلك، وتوجه الشيخ بهاء الدين بن السبكي قاضي قضاة الشام الشافعي من دمشق إلى الديار المصرية يوم الأحد سادس عشر صفر من هذه السنة، وخرج القضاة والأعيان لتوديعه‏.‏ ‏

وقد كان أخبرنا عند توديعه بان أخاه قاضي القضاة تاج الدين قد لبس خلعة القضاء بالديار المصرية، وهو متوجه إلى الشام عند وصوله إلى ديار مصر، وذكر لنا أن أخاه كاره للشام‏.‏

وأنشدني القاضي صلاح الدين الصفدي ليلة الجمعة رابع عشره لنفسه فيما عكس عن المتنبي في يديه من قصيدته وهو قوله‏:‏

إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا * فأيسرُ ما يمر به الوصولُ

وقال‏:‏

دخول دمشق يكسبنا نحولاً * كأن لها دخولاً في البرايا

إذا اعتاد الغريب الخوض فيها * فأيسر ما يمر به المنايـا

وهذا شعر قوي، وعكس جلي، لفظاً ومعنىً‏.‏

وفي ليلة الجمعة الحادي والعشرين من صفر عملت خيمة حافلة بالمارستان الدقاقي جوار الجامع، سبب تكامل تجديده قريب السقف مبنياً باللبن، حتى قناطره الأربع بالحجارة البلق، وجعل في أعاليه قمريات كبار مضيئة، وفتق في قبلته إيواناً حسناً زاد في أعماقه أضعاف ما كان، وبيضه جميعه بالجص الحسن المليح‏.‏

وجددت فيه خزائن ومصالح، وفرش ولحف جدد، وأشياء حسنة، فأثابه الله وأحسن جزاءه آمين، وحضر الخيمة جماعات من الناس من الخواص والعوام، ولما كانت الجمعة الأخرى دخله نائب السلطنة بعد الصلاة فأعجبه ما شاهده من العمارات، وأخبره بما كانت عليه حاله قبل هذه العمارة، فاستجاد ذلك من صنيع الناظر‏.‏

وفي أول ربيع الآخر قدم قاضي القضاة تاج الدين السبكي من الديار المصرية على قضاء الشام عوداً على بدء يوم الثلاثاء رابع عشره فبدأ بالسلام على نائب السلطنة بدار السعادة‏.‏

ثم ذهب إلى دار الأمير علي بالقصاعين فسلم عليه، ثم جاء إلى العادلية قبل الزوال، ثم جاءه الناس من الخاص والعام يسلمون عليه ويهنونه بالعود، وهو يتودد ويترحب بهم‏.‏

ثم لما كان صبح يوم الخميس سادس عشره لبس الخلعة بدار السعادة ثم جاء في أبهة هائلة لابسها إلى العادلية فقرئ تقليده بها بحضرة القضاة والأعيان وهنأه الناس والشعراء والمداح‏.‏

وأخبر قاضي القضاة تاج الدين بموت حسين بن الملك الناصر، ولم يكن بقي من بنيه لصلبه سواه، ففرح بذلك كثير من الأمراء وكبار الدولة، لما كان فيه من حدة وارتكاب أمور منكرة‏.‏

وأخبر بموت القاضي فخر الدين سليمان بن القاضي عماد الدين بن الشيرجي، وقد كان اتفق له من الأمر أنه قلد حسبة دمشق عوضاً عن أبيه، نزل له عنها باختياره لكبره وضعفه‏.‏ ‏

وخلع عليه بالديار المصرية، ولم يبق إلا أن يركب على البريد فتمرض يوماً وثانياً وتوفي إلى رحمة الله تعالى، فتألم والده بسبب ذلك تألماً عظيماً، وعزاه الناس فيه ووجدته صابراً محتسباً باكياً مسترجعاً موجعاً انتهى‏.‏

 بشارة عظيمة بوضع الشطر من مكس الغنم

مع ولاية سعد الدين ماجد بن التاج إسحاق من الديار المصرية على نظر الدواوين قبله، ففرح الناس بولاية هذا وقدومه، وبعزل الأول وانصرافه عن البلد فرحاً شديداً، ومع مرسوم شريف بوضع نصف مكس الغنم، وكان عبرته أربعة دراهم ونصف، فصار إلى درهمين وربع درهم‏.‏

وقد نودي بذلك في البلد يوم الاثنين العشرين من شهر ربيع الآخر، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، ولله الحمد والمنة‏.‏

وتضاعفت أدعيتهم لمن كان السبب في ذلك، وذلك أنه يكثر الجلب برخص اللحم على الناس، ويأخذ الديوان نظيراً ما كان يأخذ قبل ذلك، وقدر الله تعالى قدوم وفود وقفول بتجائر متعددة، وأخذ منها الديوان السلطاني في الزكاة والوكالة، وقدم مراكب كثيرة فأخذ منها في العشر أضعاف ما أطلق من المكس، ولله الحمد والمنة‏.‏

ثم قرئ على الناس في يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة قبل العصر‏.‏

وفي يوم الاثنين العشرين منه ضرب الفقيه شمس الدين بن الصفدي بدار السعادة بسبب خانقاه الطواويس، فإنه جاء في جماعة منهم يتظلمون من كاتب السر الذي هو شيخ الشيوخ‏.‏

وقد تكلم معهم فيما يتعلق بشرط الواقف مما فيه مشقة عليهم، فتكلم الصفدي المذكور بكلام فيه غلظ، فبطح ليضرب فشفع فيه، ثم تكلم فشفع فيه، ثم بطح الثالثة فضرب ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرج بعد ليلتين أو ثلاثة‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين منه درّس قاضي القضاة الشافعي بمدارسه، وحضر درس الناصرية الجوانية بمقتضى شرط الواقف الذي أثبته أخوه بعد موت القاضي ناصر الدين كاتب السر، وحضر عنده جماعة من الأعيان وبعض القضاة، وأخذ في سورة الفتح، قرئ عليه من تفسير والده في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً‏}‏ ‏[‏سورة الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى يوم الجمعة بعد صلاة الفجر مع الإمام الكبير صلّي على القاضي قطب الدين محمد بن الحسن الحاكم بحمص، جاء إلى دمشق لتلقي أخي زوجته قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي، فتمرض من مدة ثم كانت وفاته بدمشق، فصلّي عليه بالجامع كما ذكرنا، وخارج باب الفرج، ثم صعدوا به إلى سفح جبل قاسيون، وقد جاوز الثمانين بسنتين، وقد حدث وروى شيئاً يسيراً رحمه الله‏.‏ ‏

وفي يوم الأحد ثالثه قدم قاضيا الحنفية والحنابلة بحلب والخطيب بها والشيخ شهاب الدين الأذرعي، والشيخ زين الدين الباريني وآخرون معهم‏.‏

فنزلوا بالمدرسة الإقبالية وهم وقاضي قضاتهم الشافعي، وهو كمال الدين المصري مطلوبون إلى الديار المصرية، فتحرر ما ذكروه عن قاضيهم وما نقموه عليه من السيرة السيئة فيما يذكرون في المواقف الشريفة بمصر، وتوجهوا إلى الديار المصرية يوم السبت عاشره‏.‏

وفي يوم الخميس قدم الأمير زين الدين زبالة نائب القلعة من الديار المصرية على البريد في تجمل عظيم هائل، وتلقاه الناس بالشموع في أثناء الطريق، ونزل بدار الذهب، وراح الناس للسلام عليه وتهنئته بالعود إلى نيابة القلعة، على عادته، وهذه ثالث مرة وليها لأنه مشكور السيرة فيها، وله فيها سعي محمود في أوقات متعددة‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين صلّى نائب السلطنة والقاضيان الشافعي والحنفي وكاتب السر وجماعة من الأمراء والأعيان بالمقصورة، وقرئ كتاب السلطان على السدة بوضع مكس الغنم إلى كل رأس بدرهمين، فتضاعفت الأدعية لولي الأمر، ولمن كان السبب في ذلك‏.‏

 غريبة من الغرائب وعجيبة من العجائب

وقد كثرت المياه في هذا الشهر وزادت الأنهار زيادة كثيرة جداً، بحيث إنه فاض الماء في سوق الخيل من نهر بردى حتى عم جميع العرصة المعروفة بموقف الموكب، بحيث إنه أجريت فيه المراكب بالكلك، وركبت فيه المارة من جانب إلى جانب، واستمر ذلك جمعاً متعددة، وامتنع نائب السلطنة والجيش من الوقوف هناك، وربما وقف نائب السلطنة بعض الأيام تحت الطارمة تجاه باب الإسطبل السلطاني، وهذا أمر لم يعهد مثله ولا رأيته قط في مدة عمري، وقد سقطت بسبب ذلك بنايات ودور كثيرة، وتعطلت طواحين كثيرة غمرها الماء‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى توفي الصدر شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ عز الدين بن منجى التنوخي بعد العشاء الآخرة، وصلّي عليه بجامع دمشق بعد صلاة الظهر، ودفن بالسفح‏.‏

وفي صبيحة هذا اليوم توفي الشيخ ناصر الدين محمد بن أحمد القونوي الحنفي، خطيب جامع يلبغا، وصلّي عليه عقيب صلاة الظهر أيضاً، ودفن بالصوفية، وقد باشر عوضه الخطابة والإمامة قاضي القضاة كمال الدين الكفري الحنفي‏.‏

وفي عصر هذا اليوم توفي القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين بن القاضي شمس الدين بن الشهاب محمود الحلبي، أحد موقعي الدست بدمشق، وصلّي عليه يوم الأربعاء ودفن بالسفح‏.‏

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين منه خطب قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي بجامع يلبغا عوضاً عن الشيخ ناصر الدين بن القونوي رحمه الله تعالى، وحضر عنده نائب السلطنة الأمير سيف الدين قشتمر، وصلى معه قاضي القضاة تاج الدين الشافعي بالشباك الغربي القبلي منه، وحضر خلق من الأمراء والأعيان، وكان يوماً مشهوداً، وخطب ابن نباتة بأداء حسن وفصاحة بليغة، هذا مع علم أن كل مركب صعب‏.‏

وفي يوم السبت خامس عشر جمادى الآخرة توجه الشيخ شرف الدين القاضي الحنبلي إلى الديار المصرية بطلب الأمير سيف الدين يلبغا في كتاب كتبه إليه يستدعيه ويستحثه في القدوم عليه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثاني شهر رجب سقط اثنان سكارى من سطحٍ بحارة اليهود، أحدهما مسلم والآخر يهودي، فمات المسلم من ساعته وانقلعت عين اليهودي وانكسرت يده لعنه الله، وحمل إلى نائب السلطنة فلم يحر جواباً‏.‏

ورجع الشيخ شرف الدين بن قاضي الجبل بعد ما قارب غزة لما بلغه من الوباء بالديار المصرية فعاد إلى القدس الشريف، ثم رجع إلى وطنه فأصاب السنة، وقد وردت كتب كثيرة تخبر بشدة الوباء والطاعون بمصر، وأنه يضبط من أهلها في النهار نحو الألف، وأنه مات جماعة ممن يعرفون كولدي قاضي القضاة تاج الدين المناوي، وكاتب الحكم ابن الفرات، وأهل بيته أجمعين، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وجاء الخبر في أواخر شهر رجب بموت جماعة بمصر منهم أبو حاتم ابن الشيخ بهاء الدين السبكي المصري بمصر، وهو شاب لم يستكمل العشرين، وقد درّس بعدة جهات بمصر وخطب، ففقده والده وتأسف الناس عليه وعزوا فيه عمه قاضي القضاة تاج الدين السبكي قاضي الشافعية بدمشق، وجاء الخبر بموت قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الرباجي المالكي، كان بحلب وليها مرتين ثم عزل فقصد مصر واستوطنها مدة ليتمكن من السعي في العودة فأدركته منيته في هذه السنة من الفناء وولدان له معه أيضاً‏.‏

وفي يوم السبت سادس شعبان توجه نائب السلطنة في صحبة جمهور الأمراء إلى ناحية تدمر لأجل الأعراب من أصحاب خيار بن مهنا، ومن التف عليه منهم، وقد دمر بعضهم بلد تدمر وحرقوا كثيراً من أشجارها، ورعوها وانتهبوا شيئاً كثيراً، وخرجوا من الطاعة، وذلك بسبب قطع إقطاعاتهم وتملك أملاكهم والحيلولة عليهم‏.‏

فركب نائب السلطنة بمن معه كما ذكرنا، لطردهم عن تلك الناحية، وفي صحبتهم الأمير حمزة بن الخياط، أحد أمراء الطبلخانات، وقد كان حاجباً لخيار قبل ذلك، فرجع عنه وألب عليه عند الأمير الكبير يلبغا الخاصكي، ووعده إن هو أمره وكبره أن يظفره بخيار وأن يأتيه برأسه، ففعل معه ذلك، فقدم إلى دمشق ومعه مرسوم بركوب الجيش معه إلى خيار وأصحابه‏.‏

فساروا كما ذكرنا، فوصلوا إلى تدمر، وهربت الأعراب من بين يدي نائب الشام يميناً وشمالاً، ولم يواجهوه هيبة له، ولكنهم يتحرفون على حمزة بن الخياط، ثم بلغنا أنهم بيتوا الجيش فقتلوا منه طائفة وجرحوا آخرين وأسروا آخرين، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 سلطنة الملك الأشرف ناصر الدين

شعبان بن حسين بن الملك النصر محمد بن قلاوون في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان

لما كان عشية السبت تاسع عشر شعبان من هذه السنة - أعني سنة أربع وستين وسبعمائة - قدم أمير من الديار المصرية فنزل بالقصر الأبلق، وأخبر بزوال مملكة الملك المنصور بن المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومسك واعتقل‏.‏

وبويع للملك الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون، وله من العمر قريب العشرين، فدقت البشائر بالقلعة المنصورة، وأصبح الناس يوم الأحد في الزينة‏.‏

وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين والصاحب سعد الدين ماجد ناظر الدواوين، أنه لما كان يوم الثلاثاء الخامس عشر من شعبان عزل الملك المنصور وأودع منزله وأجلس الملك الأشرف ناصر الدين شعبان على سرير الملك، وبويع لذلك‏.‏

وقد وقع رعد في هذا اليوم ومطر كثير، وجرت المزاريب، فصار غدراناً في الطرقات، وذلك في خامس حزيران، فتعجب الناس من ذلك، هذا وقد وقع وباء في مصر في أول شعبان، فتزايد وجمهوره في اليهود، وقد وصلوا إلى الخمسين في كل يوم وبالله المستعان‏.‏

وفي يوم الاثنين سابعه اشتهر الخبر عن الجيش بأن الأعراب اعترضوا التجريدة القاصدين إلى الرحبة وواقفوهم وقتلوا منهم ونهبوا وجرحوا، وقد سار البريد خلف النائب والأمراء ليقدموا إلى البلد لأجل البيعة للسلطان الجديد‏.‏‏

جعله الله مباركاً على المسلمين، ثم قدم جماعة من الأمراء المنهزمين من الأعراب في أسوأ حال وذلة، ثم جاء البريد من الديار المصرية بردهم إلى العسكر الذي مع نائب السلطنة على تدمر، متوعدين بأنواع العقوبات، وقطع الإقطاعات‏.‏

وفي شهر رمضان تفاقم الحال بسبب الطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجمهوره في اليهود لعله قد فقد منهم من مستهل شعبان إلى مستهل رمضان نحو الألف نسمة خبيثة، كما أخبرني بذلك القاضي صلاح الدين الصفدي وكيل بيت المال، ثم كثر ذلك فيهم في شهر رمضان جداً، وعدة العدة من المسلمين والذمة بالثمانين‏.‏

وفي يوم السبت حادي عشره صلينا بعد الظهر على الشيخ المعمر الصدر بدر الدين محمد بن الرقاق المعروف بابن الجوجي، وعلى الشيخ صلاح الدين محمد بن شاكر الليثي، تفرد في صناعته وجمع تاريخاً مفيداً نحواً من عشر مجلدات، وكان يحفظ ويذاكر ويفيد رحمه الله وسامحه، انتهى‏.‏

 وفاة الخطيب جمال الدين محمود بن جمله ومباشرة تاج الدين بعده

كانت وفاته يوم الاثنين بعد الظهر قريباً من العصر، فصلى بالناس بالمحراب صلاة العصر قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي عوضاً عنه، وصلّى بالناس الصبح أيضاً، وقرأ بآخر المائدة من قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏‏.‏

ثم لما طلعت الشمس وزال وقت الكراهة صلى على الخطيب جمال الدين عند باب الخطابة، وكان الجمع في الجامع كثيراً، وخرج بجنازته من باب البريد، وخرج معه طائفة من العوام وغيرهم، وقد حضر جنازته بالصالحية على ما ذكر جم غفير وخلق كثير‏.‏

ونال قاضي القضاة الشافعي من بعض الجهلة إساءة أدب، فأخذ منهم جماعة وأدبوا، وحضر هو بنفسه صلاة الظهر يومئذ، وكذا باشر الظهر والعصر في بقية الأيام، يأتي للجامع في محفل من الفقهاء والأعيان وغيرهم، ذهاباً وإياباً، وخطب عنه يوم الجمعة الشيخ جمال الدين بن قاضي القضاة، ومنع تاج الدين من المباشرة، حتى يأتي التشريف‏.‏

وفي يوم الاثنين بعد العصر صلّي على الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله البعلبكي، المعروف بابن النقيب، ودفن بالصوفية وقد قارب السبعين وجاوزها، وكان بارعاً في القراءات والنحو والتصريف والعربية، وله يد في الفقه وغير ذلك، وولّي مكانه مشيخة الإقراء بأم الصالح شمس الدين محمد بن اللبان، وبالتربة الأشرفية الشيخ أمين الدين عبد الوهاب بن السلار، وقدم نائب السلطنة من ناحية الرحبة وتدمر وفي صحبته الجيش الذين كانوا معه بسبب محاربته إلى أولاد مهنا وذويهم من الأعراب في يوم الأربعاء سادس شوال‏.‏

وفي ليلة الأحد عاشره توفي الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك، وكيل بيت المال، وموقع الدست، وصلّي عليه صبيحة الأحد بالجامع، ودفن بالصوفية، وقد كتب الكثير من التاريخ واللغة والأدب، وله الأشعار الفائقة، والفنون المتنوعة، وجمع وصنف وألّف، وكتب ما يقارب مئين من المجلدات‏.‏

وفي يوم السبت عاشره جمع القضاة والأعيان بدار السعادة وكتبوا خطوطهم بالرضى بخطابة قاضي القضاة تاج الدين السبكي بالجامع الأموي، وكاتب نائب السلطنة في ذلك‏.‏

وفي يوم الأحد حادي عشره استقر عزل نائب السلطنة سيف الدين قشتمر عن نيابة دمشق وأمر بالمسير إلى نيابة صفد فأنزل أهله بدار طيبغا حجي من الشرق الأعلى، وبرز هو إلى سطح المزة ذاهباً إلى ناحية صفد‏.‏

وخرج المحمل صحبة الحجيج وهم جم غفير وخلق كثير يوم الخميس رابع عشر شوال‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شوال توفي القاضي أمين الدين أبو حيان ابن أخي قاضي القضاة تاج الدين المسلاتي المالكي، وزوج ابنته ونائبه في الحكم مطلقاً وفي القضاة والتدريس في غيبته فعاجلته المنية‏.‏

ومن غريب ما وقع في أواخر هذا الشهر أنه اشتهر بين النساء وكثير من العوام أن رجلاً رأى مناماً فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم عند شجرة توتة عند مسجد ضرار خارج باب شرقي‏.‏

فتبادر النساء إلى تخليق تلك التوتة، وأخذوا أوراقها للاستشفاء من الوباء، ولكن لم يظهر صدق ذلك المنام، ولا يصح عمن يرويه‏.‏

وفي يوم الجمعة سابع شهر ذي القعدة خطب بجامع دمشق قاضي القضاة تاج الدين السبكي خطبة بليغة فصيحة أداها أداء حسناً، وقد كان يحس من طائفة من العوام أن يشوشوا فلم يتكلم أحد منهم بل ضجوا عند الموعظة وغيرها، وأعجبهم الخطيب وخطبته وأداؤه وتبليغه ومهابته، واستمر يخطب هو بنفسه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره توفي الصاحب تقي الدين سليمان بن مراجل ناظر الجامع الأموي وغيره، وقد باشر نظر الجامع في أيام تنكز، وعمر الجانب الغربي من الحائط القبلي، وكمل رخامه كله، وفتق محراباً للحنفية في الحائط القبلي، ومحراباً للحنابلة فيه أيضاً في غربيه‏.‏

وأثر أشياء كثيرة فيه، وكانت له همة وينسب إلى أمانة وصرامة ومباشرة مشكورة مشهورة، ودفن بتربة أنشأها تجاه داره بالقبيبات رحمه الله، وقد جاوز الثمانين‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره توفي الشيخ بهاء الدين عبد الوهاب الأخميمي المصري، إمام مسجد درب الحجر، وصلّي عليه بعد العصر بالجامع الأموي‏.‏

ودفن بقصر ابن الحلاج عند الطيوريين بزاوية لبعض الفقراء الخزنة هناك، وقد كان له يد في أصول الفقه، وصنف في الكلام كتاباً مشتملاً على أشياء مقبولة وغير مقبولة، انتهى‏.‏

 دخول نائب السلطنة منكلي بغا

في يوم الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة دخل نائب السلطنة منكلي بغا من حلب إلى دمشق نائباً عليها في تجمل هائل، ولكنه مستمرض في بدنه بسبب ما كان ناله من التعب في مصابرة الأعراب، فنزل دار السعادة على العادة‏.‏

وفي يوم الاثنين مستهل ذي الحجة خلع على قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي للخطابة بجامع دمشق، واستمر على ما كان عليه يخطب بنفسه كل جمعة وفي يوم الثلاثاء ثانيه قدم القاضي فتح الدين بن الشهيد ولبس الخلعة وراح الناس لتهنئته‏.‏

وفي يوم الخميس حضر القاضي فتح الدين بن الشهيد كاتب السر مشيخة السميساطية، وحضر عنده القضاة والأعيان بعد الظهر، وخلع عليه لذلك أيضاً، وحضر فيها من الغد على العادة، وخلع في هذا اليوم على وكيل بيت المال الشيخ جمال الدين بن الرهاوي وعلى الشيخ شهاب الدين الزهري بفتيا دار العدل، انتهى‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين وما يتبع ذلك الملك الأشرف ناصر الدين شعبان بن سيدي حسين بن السلطان الملك الناصر محمد بن المنصور و قلاوون الصالحي‏.‏

وهو في عمر عشر سنين، ومدبر الممالك بين يديه الأمير الكبير نظام الملك سيف الدين يلبغا الخاصكي، وقضاة مصر هم المذكورون في السنة التي قبلها، ووزيرها فخر الدين بن قزوينة، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي، وهو مشكور السيرة‏.‏

وقضاتها هم المذكورون في السنة التي قبلها، وناظر الدواوين بها الصاحب سعد الدين ماجد، وناظر الجيش علم الدين داود، وكاتب السر القاضي فتح الدين بن الشهيد، ووكيل بيت المال القاضي جمال الدين بن الرهاوي‏.‏

استهلت هذه السنة وداء الفناء موجود في الناس، إلا أنه خف وقلّ ولله الحمد‏.‏

وفي يوم السبت توجه قاضي القضاة - وكان بهاء الدين أبو البقاء السبكي - إلى الديار المصرية مطلوباً من جهة الأمير يلبغا وفي الكتاب إجابته له إلى مسائل، وتوجه بعده قاضي القضاة تاج الدين الحاكم بدمشق وخطيبها يوم الاثنين الرابع عشر من المحرم، على خيل البريد‏.‏

وتوجه بعدهما الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، مطلوباً إلى الديار المصرية، وكذلك توجه الشيخ زين الدين المنفلوطي مطلوباً‏.‏

وتوفي في العشر الأوسط من المحرم صاحبنا الشيخ شمس الدين العطار الشافعي، كان لديه فضيلة واشتغال، وله فهم وعلق بخطه فوائد جيدة، وكان إماماً بالسجن من مشهد علي بن الحسين بجامع دمشق، ومصدراً بالجامع، وفقيهاً بالمدارس، وله مدرسة الحديث الوادعية، وجاوز الخمسين بسنوات، ولم يتزوج قط‏.‏

وقدم الركب الشامي إلى دمشق في اليوم الرابع والعشرين من المحرم، وهم شاكرون مثنون في كل خير بهذه السنة أمناً ورخصاً ولله الحمد‏.‏

وفي يوم الأحد حادي عشر صفر درّس بالمدرسة الفتحية صاحبنا الشيخ عماد الدين إسماعيل بن خليفة الشافعي، وحضر عنده جماعة من الأعيان والفضلاء، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وفي يوم الخميس خامس عشره نودي في البلد على أهل الذمة بإلزامهم بالصغار وتصغير العمائم، وأن لا يستخدموا في شيء من الأعمال، وأن لا يركبوا الخيل ولا البغال، ويركبون الحمير بالأكف بالعرض، وأن يكون في رقابهم ورقاب نسائهم في الحمامات أجراس، وأن يكون أحد النعلين أسود مخالفاً للون الأخرى، ففرح بذلك المسلمون ودعوا للآمر بذلك‏.‏

وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول قدم قاضي القضاة تاج الدين من الديار المصرية مستمراً على القضاة والخطابة، فتلقاه الناس وهنئوه بالعود والسلام‏.‏

وفي يوم الخميس سابعه لبس القاضي الصاحب البهنسي الخلعة لنظر الدواوين بدمشق، وهنأه الناس، وباشر بصرامة واستعمل في غالب الجهات من أبناء السبيل‏.‏ ‏

وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح على خيل البريد إلى الديار المصرية لتولية قضاء قضاة الشافعية بدمشق، عن رضا من خاله قاضي القضاة تاج الدين، ونزوله عن ذلك‏.‏

وفي يوم الخميس خامس ربيع الأول احترقت الباسورة التي ظاهر باب الفرج على الجسر، ونال حجارة الباب شيء من حريقها فاتسعت، وقد حضر طفيها نائب السلطنة والحاجب الكبير، ونائب القلعة وغيرهم‏.‏

وفي صبيحة هذا اليوم زاد النهر زيادة عظيمة سبب كثرة الأمطار وذلك في أوائل كانون الثاني، وركب الماء سوق الخيل بكماله، ووصل إلى ظاهر باب الفراديس، وتلك النواحي، وكسر جسر الخشب الذي عند جامع يلبغا، وجاء فصدم به جسر الزلابية فكسره أيضاً‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشره صرف حاجب الحجاب قماري عن المباشرة بدار السعادة، وأخذت القضاة من يده وانصرف إلى داره في أقل من الناس، واستبشر بذلك كثير من الناس، لكثرة ما كان يفتات على الأحكام الشرعية‏.‏

وفي أواخره اشتهر موت القاضي تاج الدين المناوي بديار مصر وولاية قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء السبكي مكانه بقضاء العساكر بها، ووكالة السلطان أيضاً، ورتب له مع ذلك كفايته‏.‏

وتولى في هذه الأيام الشيخ سراج الدين البلقيني إفتاء دار العدل مع الشيخ بهاء الدين أحمد بن قاضي القضاة السبكي بالشام، وقد وليّ هو أيضاً القضاء بالشام كما تقدم، ثم عاد إلى مصر موفراً مكرماً وعاد أخوه تاج الدين إلى الشام، وكذلك ولوا مع البلقيني إفتاء دار العدل الحنفي شيخاً يقال له الشيخ شمس الدين بن الصائغ، وهو مفتي حنفي أيضاً‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول توفي الشيخ نور الدين محمد بن الشيخ أبي بكر قوام بروايتهم بسفح جبل قاسيون، وغدا الناس إلى جنازته‏.‏

وقد كان من العلماء الفضلاء الفقهاء بمذهب الشافعي، درّس بالناصرية البرانية مدة سنين بعد أبيه، وبالرباط الدويداري داخل باب الفرج، وكان يحضر المدارس، ونزل عندنا بالمدرسة النجيبية، وكان يحب السنة ويفهمها جيداً رحمه الله‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى وليّ قاضي القضاة تاج الدين الشافعي مشيخة دار الحديث بالمدرسة التي فتحت بدرب القبلي، وكانت داراً لوافقها جمال الدين عبد الله بن محمد بن عيسى التدمري، الذي كان أستاذاً للأمير طاز‏.‏

وجعل فيها درس للحنابلة، وجعل المدرس لهم الشيخ برهان الدين إبراهيم بن قيم الجوزية، وحضر الدرس وحضر عنده بعض الحنابلة بالدرس، ثم جرت أمور يطول بسطها‏.‏

واستحضر نائب السلطنة شهود الحنابلة بالدرس واستفرد كلاً منهم يسأله كيف شهد في أصل الكتاب - المحضر- الذي أثبتوا عليهم، فاضطروا في الشهادات فضبط ذلك عليهم، وفيه مخالفة كبيرة لما شهدوا به في أصل المحضر، وشنع عليهم كثير من الناس، ثم ظهرت ديون كثيرة لبيت طاز على جمال الدين التدمري الواقف، وطلب من القاضي المالكي أن يحكم بإبطال ما حكم به الحنبلي، فتوقف في ذلك‏.‏

وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه، قرئ كتاب السلطان بصرف الوكلاء من أبواب القضاة الأربعة فصرفوا‏.‏

وفي شهر جمادى الآخرة توفي الشيخ شمس الدين شيخ الحنابلة بالصالحية ويعرف بالبيري يوم الخميس ثامنه، صلّي عليه بالجامع المظفري بعد العصر ودفن بالسفح، وقد قارب الثمانين‏.‏

وفي الرابع عشر منه عقد بدار السعادة مجلس حافل اجتمع فيه القضاة الأربعة وجماعة من المفتيين، وطلبت فحضرت معهم بسبب المدرسة التدمرية وقرابة الواقف ودعواهم أنه وقف عليهم الثلث، فوقف الحنبلي في أمرهم ودافعهم عن ذلك أشد الدفاع‏.‏

وفي العشر الأول من رجب وجد جراد كثير منتشر، ثم تزايد وتراكم وتضاعف وتفاقم الأمر بسببه، وسد الأرض كثرة وعاث يميناً وشمالاً، وأفسد شيئاً كثيراً من الكروم والمقاني والزروعات النفيسة، وأتلف للناس شيئاً كثيراً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث شعبان توجه القضاة ووكيل بيت المال إلى باب كيسان فوقفوا عليه وعلى هيئته ومن نية نائب السلطنة فتحه ليتفرج الناس به‏.‏

وعدم للناس غلات كثيرة وأشياء من أنواع الزروع بسبب كثرة الجراد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏‏

 فتح باب كيسان بعد غلقه نحواً من مائتي سنة

وفي يوم الأربعاء السادس والعشرين من شعبان اجتمع نائب السلطنة والقضاة عند باب كيسان، وشرع الصناع في فتحه عن مرسوم السلطان الوارد من الديار المصرية، وأمر نائب السلطنة وإذن القضاة في ذلك، واستهل رمضان وهم في العمل فيه‏.‏

وفي العشر الأخير من شعبان توفي الشريف شمس الدين محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني المحدّث المحصّل، المؤلف لأشياء مهمة، وفي الحديث قرأ وسمع وجمع وكتب أسماء رجال ‏(‏بمسند الإمام أحمد‏)‏، واختصر كتاباً في أسماء الرجال مفيداً، وولّي مشيخة الحديث التي وقفها في داره بهاء الدين القاسم بن عساكر، داخل باب توما، وختمت البخاريات في آخر شهر رمضان‏.‏

ووقع بين الشيخ عماد الدين بن السراج قارئ البخاري عند محراب الصحابة، وبين الشيخ بدر الدين بن الشيخ جمال الدين الشريشي، وتهاترا على رؤوس الأشهاد بسبب لفظة يبتز بمعنى يدخر، وفي نسخة يتير، فحكى ابن السراج عن الحافظ المزي أن الصواب يبتز من قول العرب عزبز، وصدق في ذلك، فكأن منازعه خطأ ابن المزي‏.‏

فانتصر الآخر للحافظ المزي، فقاد منه بالقول ثم قام والده الشيخ جمال الدين المشار إليه فكشف رأسه على طريقة الصوفية، فكأن ابن السراج لم يلتفت إليه، وتدافعوا إلى القاضي الشافعي فانتصر للحافظ المزي، وجرت أمور، ثم اصلطحوا غير مرة وعزم أولئك على كتب محضر على ابن السراج، ثم انطفأت تلك الشرور‏.‏

وكثر الموت في أثناء شهر رمضان وقاربت العدة المائة، وربما جاوزت المائة، وربما كانت أقل منها وهو الغالب، ومات جماعة من الأصحاب والمعارف، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكثر الجراد في البساتين وعظم الخطب بسببه، وأتلف شيئاً كثيراً من الغلات والثمار والخضراوات، وغلت الأسعار وقلت الثمار، وارتفعت قيم الأشياء فبيع الدبس بما فوق المائتين القنطار، والرز بأزيد من ذلك وتكامل فتح باب كيسان وسموه الباب القبلي، ووضع الجسر منه إلى الطريق السالكة، وعرضه أزيد من عشرة أذرع بالنجاري لأجل عمل الباسورة جنبتيه، ودخلت المارة عليه من المشاة والركبان‏.‏

وجاء في غاية الحسن، وسلك الناس في حارات اليهود، وانكشف دخلهم وأمن الناس من دخنهم وغشهم ومكرهم وخبثهم، وانفرج الناس بهذا الباب المبارك‏.‏

واستهل شوال والجراد قد أتلف شيئاً كثيراً من البلاد ورعى الخضروات والأشجار، وأوسع أهل الشام في الفساد، وغلت الأسعار، واستمر الفناء وكثر الضجيج والبكاء، وفقدنا كثيراً من الأصحاب والأصدقاء، فلان مات‏.‏ ‏

وقد تناقص الفناء في هذه المدة وقلّ الوقع وتناقص للخمسين‏.‏

وفي شهر ذي القعدة تقاصر الفناء ولله الحمد، ونزل العدد إلى العشرين فما حولها، وفي رابعه دخل بالفيل والزرافة إلى مدينة دمشق من القاهرة، فأنزل في الميدان الأخضر قريباً من القصر الأبلق، وذهب الناس للنظر إليهما على العادة‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسعه صلّي على الشيخ جمال الدين عبد الصمد بن خليل البغدادي، المعروف بابن الخضري، محدث بغداد وواعظها، كان من أهل السنة والجماعة رحمه الله انتهى‏.‏

 تجديد خطبة ثانية داخل سور دمشق منذ فتوح الشام

اتفق ذلك في يوم الجمعة الثالث، ثم تبين أنه الرابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة بالجامع الذي جدد بناءه نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، بدرب البلاغة قبلي مسجد درب الحجر، داخل باب كيسان المجدد فتحه في هذا الحين كما تقدم، وهو معروف عند العامة بمسجد الشاذوري، وإنما هو في تاريخ ابن عساكر مسجد الشهرزوري‏.‏

وكان المسجد رث الهيئة قد تقادم عهده مدة دهر، وهجر فلا يدخله أحد من الناس إلا قليل، فوسعه من قبليه وسقفه جديداً، وجعل له صرحة شمالية مبلطة، ورواقات على هيئة الجوامع، والداخل بأبوابه على العادة، وداخل ذلك رواق كبير له جناحان شرقي وغربي، بأعمدة وقناطر‏.‏

وقد كان قديماً كنيسة فأخذت منهم قبل الخمسمائة، وعملت مسجداً، فلم يزل كذلك إلى هذا الحين، فلما كمل كما ذكرنا وسيق إليه الماء من القنوات، ووضع فيه منبر مستعمل كذلك‏.‏

فيومئذ ركب نائب السلطنة ودخل البلد من باب كيسان وانعطف على حارة اليهود حتى انتهى إلى الجامع المذكور، وقد استكف الناس عنده من قضاة وأعيان وخاصة وعامة، وقد عين لخطابته الشيخ صدر الدين بن منصور الحنفي، مدرّس الناجية وإمام الحنفية بالجامع الأموي‏.‏

فلما أذن الأذان الأول تعذر عليه الخروج من بيت الخطابة، قيل لمرض عرض له، وقيل لغير ذلك من حصر أو نحوه، فخطب الناس يومئذ قاضي القضاة جمال الدين الحنفي الكفري، خدمة لنائب السلطنة‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة وقد رفع الله الوباء عن دمشق وله الحمد والمنة‏.‏

وأهل البلد يموتون على العادة ولا يمرض أحد بتلك العلة، ولكن المرض المعتاد، انتهى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة والسلطان الملك الأشرف ناصر الدين شعبان، والدولة بمصر والشام هم هم، ودخل المحمل السلطاني صبيحة يوم الاثنين الرابع والعشرين منه، وذكروا أنهم نالهم في الرجعة شدة شديدة من الغلاء وموت الجمال وهرب الجمالين، وقدم مع الركب ممن خرج من الديار المصرية قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، وقد سبقه التقليد بقضاء القضاة مع خالد تاج الدين يحكم فيما يحكم فيه مستقلاً معه ومنفرداً بعده‏.‏ ‏

وفي شهر الله المحرم رسم نائب السلطنة بتخريب قريتين من وادي التيم وهم مشغرا وتلبتاثا، وسبب ذلك أنهما عاصيان وأهلهما مفسدان في الأرض، والبلدان والأرض حصينان لا يصل إليهما إلا بكلفة كثيرة لا يرتقي إليهما إلا فارس فارس‏.‏

فخربتا وعمر بدلهما في أسفل الوادي، بحث يصل إليهما حكم الحاكم والطلب بسهولة، فأخبرني الملك صلاح الدين ابن الكامل أن بلدة تلبتاثا عمل فيها ألف فارس، ونقل نقضها إلى أسفل الوادي خمسمائة حمار عدة أيام‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس صفر بعد الصلاة صلّي على قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن أقضى القضاة ابن الحسين المزي الحنفي، وكانت وفاته ليلة الجمعة المذكورة بعد مرض قريب من شهر، وقد جاوز الأربعين بثلاث من السنين‏.‏

وليّ قضاء قضاة الحنفية، وخطب بجامع يلبغا، وأحضر مشيخة النفيسية، ودرّس بأماكن من مدارس الحنفية، وهو أول من خطب بالجامع المستجد داخل باب كيسان بحضرة نائب السلطنة‏.‏

وفي صفر كانت وفاة الشيخ جمال الدين عمر بن القاضي عبد الحي بن إدريس الحنبلي محتسب بغداد، وقاضي الحنابلة بها، فتعصبت عليه الروافض حتى ضرب بين يدي الوزارة ضرباً مبرحاً، كانت سبب موته سريعاً رحمه الله‏.‏

وكان من القائمين بالحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من أكبر المنكرين على الروافض وغيرهم من أهل البدع رحمه الله، وبل بالرحمة ثراه‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع صفر حضر مشيخة النفيسية الشيخ شمس الديب بن سند، وحضر عنده قاضي القضاة تاج الدين وجماعة من الأعيان، وأورد حديث عبادة بن الصامت ‏(‏‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏‏)‏ أسنده عن قاضي القضاة المشار إليه‏.‏

وجاء البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تاج الدين إلى هناك، فسير أهله قبله على الجمال، وخرجوا يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول جماعة من أهل بيتهم لزيارة أهاليهم هناك، فأقام هو بعدهم إلى أن قدم نائب السلطنة من الرحبة وركب على البريد‏.‏

وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة رجع قاضي القضاة تاج الدين السبكي من الديار المصرية على البريد وتلقاه الناس إلى أثناء الطريق، واحتفلوا للسلام عليه وتهنئته بالسلامة انتهى‏.‏والله أعلم‏.‏

 

 

قتل الرافض الخبيث

وفي يوم الخميس سابع عشره أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنتهما، فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال‏:‏ لا إله إلا الله علي ولي الله‏.‏

ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر، فالتهمه العامة فأوسعوه ضرباً مبرحاً بحيث كاد يهلك، فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك، فجعل الرافضي يسب ويعلن الصحابة، وقال‏:‏ كانوا على الضلال، فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله‏:‏ بأنهم كانوا على الضلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله‏.‏

وكان ممن يقرأ بمدرسة أبي عمر، ثم ظهر عليه الرفض فسجنه الحنبلي أربعين يوماً، فلم ينفع ذلك، وما زال يصرح في كل موطن يأمر فيه بالسب حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع، وكان سبب قتله قبحه الله كما قبح من كان قبله، وقتل بقتله في سنة خمس وخسمين‏.‏

استنابه ولي الدين ابن أبي البقاء السبكي

وفي آخر هذا اليوم - أعني يوم الخميس ثامن عشره - حكم أقضى القضاة ولي الدين بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء بالمدرسة العادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين مع استنابة أقضى القضاة شمس الدين العزي‏.‏

وأقضى القضاة بدر الدين بن وهيبة، وأما قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح فهو نائب أيضاً، ولكنه بتوقيع شريف أنه يحكم مستقلاً مع قاضي القضاة تاج الدين‏.‏

وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين منه استحضر نائب السلطنة الأمير ناصر الدين بن العاوي متولي البلد ونقم عليه أشياء، وأمر بضربه فضرب بين يديه على أكتافه ضرباً ليس بمبرح، ثم عزله واستدعى بالأمير علم الدين سليمان أحد الأمراء العشراوات ابن الأمير صفي الدين بن أبي القاسم البصراوي، أحد أمراء الطبلخانات‏.‏

كان قد ولي شد الدواوين ونظر القدس والخليل وغير ذلك من الولايات الكبار، وهو ابن الشيخ فخر الدين عثمان بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم التميمي الحنفي‏.‏

وبأيديهم تدريس الأمينية التي ببصرى والحكيمية أزيد من مائة سنة، فولاه البلد على تكره منه، فألزمه بها وخلع عليه، وقد كان وليها قبل ذلك فأحسن السيرة وشكر سعيه لديانته وأمانته وعفته، وفرح الناس ولله الحمد‏.‏

ولاية قاضي القضاة بهاء الدين السبكي قضاء مصر بعد عزل عز الدين بن جماعة نفسه

ورد الخبر مع البريد من الديار المصرية بأن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة عزل نفسه عن القضاء يوم الاثنين السادس عشر من هذا الشهر، وصمم على ذلك، فبعث الأمير الكبير يلبغا إليه الأمراء يسترضونه فلم يقبل، فركب إليه بنفسه ومع القضاة والأعيان فتلطفوا به فلم يقبل وصمم على الانعزال‏.‏

فقال له الأمير الكبير‏:‏ فعين لنا من يصلح بعدك‏.‏

قال‏:‏ ولا أقول لكم شيئاً غير أنه لا يتولى رجل واحد، ثم ولوا من شئتم، فأخبرني قاضي القضاة تاج الدين السبكي أنه قال‏:‏ لا تولوا ابن عقيل، فعين الأمير الكبير قاضي القضاة بهاء الدين أبا البقاء فقيل‏:‏ إنه أظهر الامتناع، ثم قبل ولبس الخلعة وباشر يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة قاضي القضاة الشيخ بهاء الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي قضاء العساكر الذي كان بيد أبي البقاء‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع رجب توفي الشيخ علي المراوحي خادم الشيخ أسد المرواحي البغدادي‏.‏

وكان فيه مروءة كثيرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدخل على النواب ويرسل إلى الولاة فتقبل رسالته، وله قبول عند الناس، وفيه بر وصدقة وإحسان إلى المحاويج، وبيده مال جيد يتجر له فيه تعلل مدة طويلة ثم كانت وفاته في هذا اليوم فصلّي عليه الظهر بالجامع، ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان نائب الشام فنزل بداره عند مئذنة فيروز، وذهب الناس للسلام عليه بعد ما سلم على نائب السلطنة بدار السعادة، وقد رسم له بطبلخانتين وتقدمة ألف وولاية الولاة من غزة إلى أقصى بلاد الشام، وأكرمه ملك الأمراء إكراماً زائداً، وفرحت العامة بذلك فرحاً شديداً بعوده إلى الولاية‏.‏

وختمت البخاريات بالجامع الأموي وغيره في عدة أماكن من ذلك ستة مواعيد تقرأ على الشيخ عماد الدين ابن كثير في اليوم، أولها بمسجد ابن هشام بكرة قبل طلوع الشمس، ثم تحت النسر، ثم بالمدرسة النورية، وبعد الظهر بجامع تنكز، ثم بالمدرسة العزية، ثم بالكوشك لأم الزوجة الست أسماء بنت الوزير ابن السلعوس، إلى أذان العصر‏.‏

ثم من بعد العصر بدار ملك الأمراء أمير علي بمحلة القضاعين إلى قريب الغروب، ويقرأ ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ بمحراب الحنابلة داخل باب الزيارة بعد قبة النسر وقبل النورية، والله المسئول وهو المعين الميسر المسهل‏.‏

وقد قرئ في هذه الهيئة في عدة أماكن أخر من دور الأمراء وغيرهم، ولم يعهد مثل هذا في السنين الماضية، فلله الحمد والمنة‏.‏ ‏

وفي يوم الثلاثاء عاشر شوال توفي الشيخ نور الدين علي من أبي الهيجاء الكركي الشوبكي، ثم الدمشقي الشافعي، كان معنا في المقري والكتاب، وختمت أنا وهو في سنة إحدى عشرة، ونشأ في صيانة وعفاف، وقرأ على الشيخ بدر الدين بن سيحان للسبع، ولم يكمل عليه ختمة‏.‏

واشتغل في ‏(‏المنهاج‏)‏ للنووي فقرأ كثيراً منه أو أكثر، وكان ينقل منه ويستحضر، وكان خفيف الروح تحبه الناس لذلك ويرغبون في عشرته لذلك رحمه الله، وكان يستحضر المتشابه في القرآن استحضاراً حسناً متقناً كثير التلاوة له، حسن الصلاة يقوم الليل، وقرأ على ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ بمشهد ابن هشام عدة سنين، ومهر فيه‏.‏

وكان صوته جهورياً فصيح العبارة، ثم وليّ مشيخة الحلبية بالجامع وقرأ في عدة كراسي بالحائط الشمالي، وكان مقبولاً عند الخاصة والعامة، وكان يداوم على قيام العشر الأخير في محراب الصحابة مع عدة قراء يبتون فيه ويحيون الليل‏.‏

ولما كان في هذه السنة أحيا ليلة العيد وحده بالمحراب المذكور ثم مرض خمسة أيام، ثم مات بعد الظهر يوم الثلاثاء عاشر شوال بدرب العميد صلّي عليه العصر بالجامع الأموي، ودفن بمقابر الباب الصغير عنده والده في تربة لهم، وكانت جنازته حافلة وتأسف الناس عليه، رحمه الله وبل بالرحمة ثراه‏.‏

وقد قارب خمساً وستين سنة، وترك بنتا سباعية اسمها عائشة، وقد أقرأها شيئاً من القرآن إلى تبارك، وحفظها الأربعين النووية جبرها ربها ورحم أباها آمين‏.‏

وخرج المحمل الشامي والحجيج يوم الخميس ثاني عشرة، وأميرهم الأمير علاء الدين علي بن علم الدين الهلالي، أحد أمراء الطبلخانات‏.‏

وتوفي الشيخ عبد الله الملطي يوم السبت رابع عشرة، وكان مشهوراً بالمجاورة بالكلاسة في الجامع الأموي، له أشياء كثيرة من الطراريح والآلات الفقرية، ويلبس على طريقة الحريرية وشكله مزعج، ومن الناس من كان يعتقد فيه الصلاح، وكنت ممن يكرهه طبعاً وشرعاً أيضاً‏.‏

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة قدم البريد من ناحية المشرق ومعهم قماقم ماء من عين هناك من خاصيته إنه يتبعه طير يسمى السمرمر أصفر الريش قريب من شكل الخطاف من شأنه إذا قدم الجراد إلى البلد الذي هو فيه أنه يفنيه ويأكله أكلاً سريعاً، فلا يلبث الجراد إلا قليلاً حتى يرحل أو يؤكل على ما ذكر، ولم أشاهد ذلك‏.‏

وفي المنتصف من ذي الحجة كمل بناء القيسارية التي كانت معملاً بالقرب من دار الحجارة، قبلي سوق الدهشة الذي للرجال، وفتحت وأكريت دهشة لقماش النساء، وذلك كله بمرسوم ملك الأمراء ناظر الجامع المعمور رحمه الله‏.‏

وأخبرني الصدر عز الدين الصيرفي المشارف بالجامع أنه غرم عليها من مال الجامع قريب ثلاثين ألف درهم انتهى‏.‏

 طرح مكس القطن المغزول البلدي والمجلوب

وفي أواخر هذا الشهر جاء المرسوم الشريف بطرح مكس القطن المغزول البلدي والجلب أيضاً، ونودي بذلك في البلد، فكثرت الدعوات لمن أمر بذلك، وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً ولله الحمد والمنة‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين وسبعمائة

استهلت وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك من الأقاليم الملك الأشرف بن الحسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعمره عشر سنين فما فوقها، وأتابك العساكر ومدبر ممالكه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، وقاضي قضاة الشافعية بمصر بهاء الدين أبو البقاء السبكي، وبقية القضاة هم المذكورون في السنة الماضية، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا‏.‏

وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي فإنه الشيخ جمال الدين بن السراج شيخ الحنفية، والخطابة بيد قاضي القضاة تاج الدين الشافعي، وكاتب السر وشيخ الشيوخ القاضي فتح الدين بن الشهيد، ووكيل بيت المال الشيخ جمال الدين بن الرهاوي‏.‏

ودخل المحمل السلطاني يوم الجمعة بعد العصر قريب الغروب، ولم يشعر بذلك أكثر أهل البلد، وذلك لغيبة النائب في السرحة مما يلي ناحية الفرات، ليكون كالرد للتجريدة التي تعينت لتخريب الكبيسات التي هي إقطاع خيار بن مهنا من زمن السلطان أويس ملك العراق انتهى‏.‏

 استيلاء الفرنج لعنهم الله على الإسكندرية

وفي العشر الأخير من شهر الله المحرم احتيط على الفرنج بمدينة دمشق وأودعوا في الحبوس في القلعة المنصورة، واشتهر أن سبب ذلك أن مدينة الإسكندرية محاصرة بعدة شواين، وذكر أن صاحب قبرص معهم، وأن الجيش المصري صمدوا إلى حراسة مدينة الإسكندرية حرسها الله تعالى وصانها وحماها‏.‏

وسيأتي تفصيل أمرها في الشهر الأتي، فإنه وضح لنا فيه، ومكث القوم بعد الإسكندرية بأيام فيما بلغنا، بعد ذلك حاصرها أمير من التتار يقال له مامية، واستعان بطائفة من الفرنج ففتحوها قسراً، وقتلوا من أهلها خلقاً وغنموا شيئاً كثيراً واستقرت عليها يد مامية ملكاً عليها‏.‏

وفي يوم الجمعة سلخ هذا الشهر توفي الشيخ برهان الدين إبراهيم بن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية ببستانه بالمزة، ونقل إلى عند والده بمقابر باب الصغير، فصلّي عليه بعد صلاة العصر بجامع جراح، وحضر جنازته القضاة والأعيان وخلق من التجار والعامة‏.‏ ‏‏

وكانت جنازته حافلة، وقد بلغ من العمر ثمانياً وأربعين سنة، وكان بارعاً فاضلاً في النحو والفقه وفنون أخر على طريقة والده رحمهما الله تعالى، وكان مدرّساً بالصدرية والتدمرية، وله تصدير بالجامع، وخطابة بجامع ابن صلحان، وترك مالاً جزيلاً يقارب المائة ألف درهم انتهى‏.‏

ثم دخل شهر صفر وأوله الجمعة، أخبرني بعض علماء السير أنه اجتمع في هذا اليوم - يوم الجمعة مستهل هذا الشهر - الكواكب السبعة سوى المريخ في برجا العقرب، ولم يتفق مثل هذا من سنين متطاولة، فأما المريخ فإنه كان قد سبق إلى برج القوس فيه ووردت الأخبار بما وقع من الأمر الفظيع بمدينة الإسكندرية من الفرنج لعنهم الله‏.‏

وذلك أنهم وصلوا إليها في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر الله المحرم، فلم يجدوا بها نائباً ولا جيشاً، ولا حافظاً للبحر ولا ناصراً، فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار بعد ما حرقوا أبواباً كبيرة منها، وعاثوا في أهلها فساداً، يقتلون الرجال ويأخذون الأموال ويأسرون النساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير المتعال‏.‏

وأقاموا بها يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، فلما كان صبيحة يوم الأربعاء قدم الشاليش المصري، فأقلعت الفرنج لعنهم الله عنها، وقد أسروا خلقاً كثيراً يقاومون الأربعة آلاف، وأخذوا من الأموال ذهباً وحريراً وبهاراً وغير ذلك ما لا يحد ولا يوصف‏.‏

وقدم السلطان والأمير الكبير يلبغا ظهر يومئذ، وقد تفارط الحال وتحولت الغنائم كلها إلى الشوائن بالبحر، فسمع للأسارى من للعويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين، ما قطع الأكباد وذرفت له العيون وأصم الأسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شق عليهم ذلك جداً، وذكر ذلك الخطيب يوم الجمعة على المنبر فتباكى الناس كثيراً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعاً‏.‏

وقد طلبت يوم السبت السادس عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة، وكان اجتمعنا بعد العصر يومئذ بعد الفراغ من لعب الكرة، فرأيت منه أنساً كثيراً، ورأيته كامل الرأي والفهم، حسن العبارة كريم المجالسة، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى‏.‏

فقال‏:‏ إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك‏.‏

فقلت له‏:‏ هذا مما لا يسوغ شرعاً، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية ملتزمين بالذلة والصغار، وأحكام الملة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد - الفرد - فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير‏.‏

فقال‏:‏ كيف أصنع وقد ورد المرسوم بذلك ولا يمكنني أن أخالفه‏؟‏

وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام‏:‏ ائتوني بالسكين أشقه نصفين كما هو الحديث مبسوط في الصحيحين، فجعل يعجبه هذا جداً‏.‏

وذكر أن هذا كان في قلبه وأني كاشفته بهذا، وأنه كتب به مطالعة إلى الديار المصرية، وسيأتي جوابها بعد عشرة أيام، فتجيء حتى تقف على الجواب، وظهر منه إحسان وقبول وإكرام زائد رحمه الله‏.‏

ثم اجتمعت به في دار السعادة في أوائل شهر ربيع الأول فبشرني أنه قد رسم بعمل الشواني والمراكب لغزو الفرنج ولله الحمد والمنة‏.‏

ثم في صبيحة يوم الأحد طلب النصارى الذين اجتمعوا في كنيستهم إلى بين يديه وهم قريب من أربعمائة فحلفهم كم أموالهم وألزمهم بأداء الربع من أموالهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد أمروا إلى الولاة بإحضار من في معالمتهم، ووالي البر قد خرج إلى القرايا بسبب لك، وجردت أمراء إلى النواحي لاستخلاص الأموال من النصارى في القدس وغير ذلك‏.‏

وفي أول شهر ربيع الأول كان سفر قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي إلى القاهرة‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس ربيع الأول اجتمعت بنائب السلطنة بدار السعادة وسألته عن جواب المطالعة، فذكر لي أنه جاء المرسوم الشريف السلطاني بعمل الشواني والمراكب لغزو قبرص، وقتال الفرنج ولله الحمد والمنة‏.‏

وأمر نائب السلطنة بتجهيز القطاعين والنشارين من دمشق إلى الغابة التي بالقرب من بيروت، وأن يشرع في عمل الشواني في آخر يوم من هذا الشهر، وهو يوم الجمعة، وفتحت دار القرآن التي وقفها الشريف التعاداني إلى جانب حمام الكلس، شمالي المدرسة البادرائية، وعمل فيها وظيفة حديث وحضر واقفها يومية قاضي القضاة تاج الدين السبكي انتهى والله أعلم‏.‏ ‏‏

 عقد مجلس بسبب قاضي القضاة تاج الدين السبكي

ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول عقد مجلس حافل بدار السعادة بسبب ما رمى به قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكنت ممن طلب إليه فحضرته فيمن حضر‏.‏

وقد اجتمع فيه القضاة الثلاثة، وخلق من المذاهب الأربعة، وآخرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، وكان قد سافر هو إلى الديار المصرية إلى الأبواب الشريفة، واستنجز كتاباً إلى نائب السلطنة لجمع هذا المجلس ليسأل عنه الناس‏.‏

وكان قد كتب فيه محضران متعاكسان أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خط القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعة آخرين، وفيه عظائم وأشياء منكرة جداً ينبو السمع عن استماعه‏.‏

وفي الآخر خطوط جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خطي بأني ما رأيت فيه إلا خيراً‏.‏

ولما اجتمعوا أمر نائب السلطنة بأن يمتاز هؤلاء عن هؤلاء في المجالس، فصارت كل طائفة وحدها، وتحاذوا فيما بينهم، وتأصل عنه نائبه القاضي شمس الدين الغزي، والنائب الآخر بدر الدين بن وهبة وغيرهما، وصرح قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي بأنه قد ثبت عنده ما كتب به خطه فيه، وأجابه بعض الحاضرين منهم بدائم النفوذ‏.‏

فبادر القاضي الغزي فقال للحنبلي‏:‏ أنت قد ثبتت عداوتك لقاضي القضاة تاج الدين، فكثر القول وارتفعت الأصوات وكثر الجدال والمقال، وتكلم قاضي القضاة جمال الدين المالكي أيضاً بنحو ما قال الحنبلي، فأجيب بمثل ذلك أيضاً‏.‏

وطال المجلس فانفصلوا على مثل ذلك، ولما بلغت الباب أمر نائب السلطنة برجوعي إليه، فإذا بقية الناس من الطرفين والقضاة الثلاثة جلوس، فأشار نائب السلطنة بالصلح بينهم وبين قاضي القضاة تاج الدين - يعني وأن يرجع القاضيان عما قالا - فأشار الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضاً بذلك فلان المالكي وامتنع الحنبلي، فقمنا والأمر باقٍ على ما تقدم‏.‏

ثم اجتمعنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنة عن طلبه فتراضوا كيف يكون جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة، ففعل ذلك وسار البريد بذلك إلى الديار المصرية، ثم اجتمعنا أيضاً يوم الجمعة بعد الصلاة التاسع عشر من ربيع الآخر بدار السعادة‏.‏

وحضر القضاة الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائب السلطنة على الصلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو بمصر، فحصل خلف وكلام طويل، ثم كان الأمر أن سكنت أنفس جماعة منهم إلى ذلك على ما سنذكره في الشهر الآتي‏.‏

وفي مستهل ربيع الآخر كانت وفاة المعلم داود الذي كان مباشراً لنظارة الجيش، وأضيف إليه نظر الدواوين إلى آخر وقت‏.‏

فاجتمع له هاتان الوظيفتان ولم يجتمعا لأحد قبله كما في علمي، وكان من أخبر الناس بنظر الجيش وأعلمهم بأسماء رجاله، ومواضع الإقطاعات، وقد كان والده نائباً لنظار الجيوش، وكان يهودياً قرائياً، فأسلم ولده هذا قبل وفاة نفسه بسنوات عشر أو نحوها‏.‏

وقد كان ظاهره جيداً والله أعلم بسره وسريرته، وقد تمرض قبل وفاته بشهر أو نحوه، حتى كانت وفاته في هذا اليوم فصلّي عليه بالجامع الأموي تجاه النسر بعد العصر، ثم حمل إلى تربة له أعدها في بستانه بحوش، وله من العمر قريب الخمسين‏.‏

وفي أوائل هذا الشهر ورد المرسوم الشريف السلطاني بالرد على نساء النصارى ما كان أخذ منهن مع الجباية التي كان تقدم أخذها منهن، وإن كان الجميع ظلماً، ولكن الأخذ من النساء أفحش وأبلغ في الظلم، والله أعلم‏.‏

وفي يوم الاثنين الخامس عشر منه أمر نائب السلطنة أعزه الله بكبس بساتين أهل الذمة فوجد فيها من الخمر المعتصر من الخوابي والحباب فأريقت عن آخرها ولله الحمد والمنة، بحيث جرت في الأزقة والطرقات، وفاض نهر توزا من ذلك، وأمر بمصادرة أهل الذمة الذين وجد عندهم ذلك بمال جزيل، وهم تحت الجباية‏.‏

وبعد أيام نودي في البلد بأن نساء أهل الذمة لا تدخل الحمامات مع المسلمات، بل تدخل حمامات تختص بهن، ومن دخل من أهل الذمة الرجال مع الرجال المسلمين يكون في رقاب الكفار علامات يعرفون بها من أجراس وخواتيم ونحو ذلك‏.‏

وأمر نساء أهل الذمة بأن تلبس المرأة خفيها مخالفين في اللون، بأن يكون أحدهما أبيض والآخر أصفر أو نحو ذلك‏.‏

ولما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر - أعني ربيع الآخر - طلب القضاة الثلاثة وجماعة من المفتيين‏:‏ فمن ناحية الشافعي نائباه، وهما القاضي شمس الدين الغزي والقاضي بدر الدين بن وهبة، والشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني، والمصنف الشيخ عماد الدين بن كثير، والشيخ بدر الدين حسن الزرعي، والشيخ تقي الدين الفارقي‏.‏

ومن الجانب الآخر قاضيا القضاة جمال الدين المالكي والحنبلي، والشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، والشيخ جمال الدين ابن الشريشي، والشيخ عز الدين بن حمزة بن شيخ السلامية الحنبلي، وعماد الدين الحنائي‏.‏

فاجتمعت مع نائب السلطنة بالقاعة التي في صدر إيوان دار السعادة، وجلس نائب السلطنة في صدر المكان، وجلسنا حوله، فكان أول ما قال‏:‏ كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا، فصرنا نحن إذا اختلفت العلماء واختصموا فيمن يصلح بينهم‏؟‏

وشرع في تأنيب من شنع على الشافعي بما تقدم ذكره من تلك الأقوال والأفاعيل التي كتبت في تلك الأوراق وغيرها، وأن هذا يشفّي الأعداء بنا، وأشار بالصلح بين القضاة بعضهم من بضع فصمم بعضهم وامتنع، وجرت مناقشات من بعض الحاضرين فيما بينهم، ثم حصل بحث في مسائل ثم قال نائب السلطنة أخيراً‏:‏ أما سمعتم قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

فلانت القلوب عند ذلك وأمر كاتب السر أن يكتب مضمون ذلك في مطالعة إلى الديار المصرية، ثم خرجنا على ذلك انتهى والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/362‏)‏

 عودة قاضي القضاة السبكي إلى دمشق

في يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم من ناحية الكسوة وقد تلقاه جماعة من الأعيان إلى الصمين وما فوقها، فلما وصل إلى الكسوة كثر الناس جداً وقاربها قاضي قضاة الحنفية الشيخ جمال الدين بن السراج، فلما أشرف من عقبة شحورا تلقاه خلائق لا يحصون كثرة وأشعلت الشموع حتى مع النساء، والناس في سرور عظيم‏.‏

فلما كان قريباً من الجسورة تلقته الخلائق الخليفيين مع الجوامع، والمؤذنون يكبرون، والناس في سرور عظيم، ولما قرب باب النصر وقع مطر عظيم والناس معه لا تسعهم الطرقات، يدعون له ويفرحون بقدومه، فدخل دار السعادة وسلم على نائب السلطنة، ثم دخل الجامع بعد العصر ومعه شموع كثيرة، والرؤساء أكثر من العامة‏.‏

ولما كان يوم الجمعة ثاني شهر جمادى الآخرة ركب قاضي القضاة السبكي إلى دار السعادة وقد استدعى نائب السلطنة بالقاضيين المالكي والحنبلي، فأصلح بينهم، وخرج من عنده ثلاثتهم يتماشون إلى الجامع، فدخلوا دار الخطابة فاجتمعوا هناك، وضيفهما الشافعي‏.‏

ثم حضرا خطبته الحافلة البليغة الفصيحة، ثم خرجوا ثلاثتهم من جوا إلى دار المالكي، فاجتمعوا هنالك وضيفهم المالكي هنالك ما تيسر‏.‏والله الموفق للصواب‏.‏

وفي أوائل هذا الشهر وردت المراسيم الشريفة السلطانية من الديار المصرية بأن يجعل للأمير من إقطاعه النصف خاصاً له، وفي النصف الآخر يكون لأجناده، فحصل بهذا رفق عظيم بالجند، وعدل كثير ولله الحمد، وأن يتجهز الأجناد ويحرصوا على السبق والرمي بالنشاب، وأن يكونوا مستعدين متى استنفروا نفروا‏.‏

فاستعدوا لذلك وتأهبوا لقتال الفرنج كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏60‏]‏‏.‏

وثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا إن القوة الرمي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏‏(‏ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي يوم الاثنين بعد الظهر عقد مجلس بدار السعادة للكشف على قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي بمقتضى مرسوم شريف ورد من الديار المصرية بذلك، وذلك بسبب ما يعتمده كثير من شهود مجلسه من بيع أوقاف لم يستوف فيها شرائط المذهب، وإثبات إعسارات أيضاً كذلك وغير ذلك انتهى‏.‏

 الوقعة بين الأمراء بالديار المصرية

وفي العشر الأخير من جمادى الآخرة ورد الخبر بأن الأمير الكبير يلبغا الخاصكي خرج عليه جماعة من الأمراء مع الأمير سيف الدين طيبغا الطويل، فبرز إليهم إلى قبة القصر فالتقوا معه هنالك، فقتل جماعة وجرح آخرين، وانفصل الحال على مسك طيبغا الطويل وهو جريح، ومسك أرغون السعردي الدويدار، وخلق من أمراء الألوف والطبلخانات‏.‏

وجرت خبطة عظيمة استمر فيها الأمير الكبير يلبغا على عزه وتأييده ونصره ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي ثاني رجب يوم السبت توجه الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان نائب دمشق إلى الديار المصرية بطلب الأمير يلبغا ليؤكد أمره في دخول البحر لقتال الفرنج وفتح قبرص إن شاء الله، انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

 مما يتعلق بأمر بغداد

أخبرني الشيخ عبد الرحمن البغدادي أحد رؤساء بغداد وأصحاب التجارات، والشيخ شهاب الدين العطار - السمسار في الشرب بغدادي أيضاً - أن بغداد بعد أن استعادها أويس ملك العراق وخراسان من يد الطواشي مرجان، واستحضره فأكرمه وأطلق له، فاتفقا أن أصل الفتنة من الأمير أحمد أخو الوزير، فأحضره السلطان إلى بين يديه وضربه بسكين في كرشه فشقه‏.‏

وأمر بعض الأمراء فقتله، فانتصر أهل السنة لذلك نصرة عظيمة، وأخذ خشبته أهل باب الأزج فأحرقوه وسكنت الأمور وتشفوا بمقتل الشيخ جمال الدين الأنباري الذي قتله الوزير الرافضي فأهلكه الله بعده سريعاً انتهى‏.‏

 وفاة قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن حاتم الشافعي

وفي العشر الأول من شهر شعبان قدم كتاب من الديار المصرية بوفاة قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة بمكة شرفها الله، في العاشر من جمادى الآخرة ودفن في الحادي عشر في باب المعلي وذكروا أنه توفي وهو يقرأ القرآن‏.‏

وأخبرني صاحب الشيخ محيي الدين الرحبي حفظه الله تعالى أنه كان يقول كثيراً‏:‏ أشتهي أن أموت وأنا معزول، وأن تكون وفاتي بأحد الحرمين، فأعطاه الله ما تمناه‏:‏ عزل نفسه في السنة الماضية، وهاجر إلى مكة، ثم قدم المدينة لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم عاد إلى مكة وكانت وفاته بها في الوقت المذكور فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه‏.‏ ‏

وقد كان مولده في سنة أربع وتسعين، فتوفي عن ثلاث وسبعين سنة، وقد نال العز عزاً في الدنيا ورفعة هائلة، ومناصب وتداريس كبار، ثم عزل نفسه وتفرغ للعبادة والمجاورة بالحرمين الشريفين، فيقال له ما قلته في بعض المراثي‏:‏

فكأنك قد أُعلمت بالموت حتى * تزودت له من خيار الزاد

وحضر عندي في يوم الثلاثاء تاسع شوال البترك بشارة الملقب بميخائيل، وأخبرني أن المطارنة بالشام بايعوه على أن جعلوه بتركاً بدمشق عوضاً عن البترك بإنطاكية، فذكرت له أن هذا أمر مبتدع في دنيهم، فإنه لا تكون البتاركة إلا أربعة بالإسكندرية وبالقدس وبإنطاكية وبرومية، فنقل بترك رومية إلى استنبول وهي القسطنطينية‏.‏

وقد أنكر عليهم كثير منهم إذ ذاك، فهذا الذي ابتدعوه في هذا الوقت أعظم من ذلك‏.‏

لكن اعتذر بأنه في الحقيقة هو عن إنطاكية، وإنما أذن له في المقام بالشام الشريف لأجل أنه أمره نائب السلطنة أن يكتب عنه وعن أهل ملتهم إلى صاحب قبرص، يذكر له ما حل بهم من الخزي والنكال والجناية بسبب عدوان صاحب قبرص على مدينة الإسكندرية‏.‏

وأحضر لي الكتب إليه وإلى ملك استنبول وقرأها عليّ من لفظه لعنه الله ولعن المكتوب إليهم أيضاً‏.‏

وقد تكلمت معه في دينهم ونصوص ما يعتقده كل من الطوائف الثلاثة، وهم الملكية واليعقوبية ومنهم الإفرنج والقبط والنسطورية، فإذا هو يفهم بعض الشيء، ولكن حاصله أنه حمار من أكفر الكفار لعنه الله‏.‏

وفي هذا الشهر بلغنا استعادة السلطان أويس ابن الشيخ حسن ملك العراق وخراسان لبغداد من يد الطواشي مرجان الذي كان نائبه عليهما، وامتنع من طاعة أويس، فجاء إليه في جحافل كثيرة فهرب مرجان ودخل أويس إلى بغداد دخولاً هائلاً، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي يوم السبت السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر من الديار المصرية على البريد أمير مائة مقدم ألف، وعلى نيابة يلبغا في جميع دواوينه بدمشق وغيرها، وعلى إمارة البحر وعمل المراكب، فلما قدم أمر بجمع جميع النشارين والنجارين والحدادين وتجهزيهم لبيروت لقطع الأخشاب، فسيروا يوم الأربعاء ثاني رمضان وهو عازم على اللحاق بهم إلى هنالك وبالله المستعان‏.‏

ثم أتبعوا بآخرين من نجارين وحدادين وعتالين وغير ذلك، وجعلوا كل من وجدوه من ركاب الحمير ينزلونه ويركبوا إلى ناحية البقاع، وسخروا لهم من الصناع وغيرهم، وجرت خطبة عظيمة وتباكى عوائلهم وأطفالهم، ولم يسلفوا شيئاً من أجورهم، وكان من اللائق أن يسلفوه حتى يتركوه إلى أولادهم‏.‏

وخطب برهان الدين المقدسي الحنفي بجامع يلبغا عن تقي الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، بمرسوم شريف ومرسوم نائب صفد استدمر أخي يلبغا، وشق ذلك عليه وعلى جده وجماعتهم، وذلك يوم الجمعة الرابع من رمضان، هذا وحضر عنده خلق كثير‏.‏

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه قرئ تقليد قاضي القضاة شرف الدين بن قاضي الجبل لقضاء الحنابلة، عوضاً عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي، عزل هو والمالكي معه أيضاً، بسبب أمور تقدم نسبتها لهما وقرئ التقليد بمحراب الحنابلة، وحضر عنده الشافعي والحنفي‏.‏

وكان المالكي معتكفاً بالقاعة من المنارة الغربية، فلم يخرج إليهم لأنه معزول أيضاً برأي قاضي حماه، وقد وقعت شرور وتخبيط بالصالحية وغيرها‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء الثلاثين من شهر رمضان خلع على قاضي القضاة سري الدين إسماعيل المالكي، قدم من حماه على قضاء المالكية، عوضاً عن قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، عزل عن المنصب، وقرئ تقليده بمقصورة المالكية من الجامع، وحضر عنده القضاة والأعيان‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع شوال قدم الأمير حيار بن مهنا إلى دمشق سامعاً مطيعاً، بعد أن جرت بينه وبين الجيوش حروب متطاولة، كل ذلك ليطأ البساط، فأبى خوفاً من المسك والحبس أو القتل، فبعد ذلك كله قدم هذا اليوم قاصداً الديار المصرية ليصطلح مع الأمير الكبير يلبغا، فتلقاه الحجبة والمهمندارية والخلق‏.‏

وخرج الناس للفرجة، فنزل القصر الأبلق، وقدم معه نائب حماه عمرشاه فنزل معه، وخرج معه ثاني يوم إلى الديار المصرية‏.‏

وأقرأني القاضي ولي الدين عبد الله وكيل بيت المال كتاب والده قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية، أن الأمير الكبير جدد درساً بجامع ابن طولون فيه سبعة مدرسين للحنفية، وجعل لك فقيه منهم في الشهر أربعين درهماً، وأردب قمح، وذكر فيه أن جماعة من غير الحنفية انتقلوا إلى مذهب أبي حنيفة لينزلوا في هذا الدرس‏.‏

 درس التفسير بالجامع الأموي

وفي صبيحة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال سنة سبع وستين وسبعمائة، حضر الشيخ العلامة الشيخ عماد الدين بن كثير درس التفسير الذي أنشأه ملك الأمراء نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكلي بغا رحمه الله تعالى من أوقاف الجامع الذي جددها في حال نظره عليه أثابه الله‏.‏

وجعل من الطلبة من سائر المذاهب خمسة عشر طالباً لكل طالب في الشهر عشرة دراهم، وللمعيد عشرون، ولكاتب الغيبة عشرون، وللمدرّس ثمانون، وتصدق حين دعوته لحضور الدرس، فحضر واجتمع القضاة والأعيان، وأخذ في أول تفسير الفاتحة، وكان يوماً مشهوداً ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعفة انتهى‏.‏‏.‏‏.‏

قضاة الحنابلة الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن قاضي الجبل المقدسي، وناظر الدواوين سعد الدين بن التاج إسحاق؛ وكاتب السر فتح الدين بن الشهيد، وهو شيخ الشيوخ أيضاً، وناظر الجيوش الشامية برهان الدين بن الحلي، ووكيل بيت المال القاضي ولي الدين بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء‏.‏انتهى‏.‏

 سفر نائب السلطنة إلى الديار المصرية

لما كانت ليلة الحادي والعشرين قدم طشتمر دويدار يلبغا على البريد، فنزل بدار السعادة، ثم ركب هو ونائب السلطنة بعد العشاء الأخيرة في المشاعل، والحجبة بين أيديهما والخلائق يدعون لنائبهم، واستمروا كذلك ذاهبين إلى الديار المصرية فأكرمه يلبغا وأنعم عليه وسأله أن يكون ببلاد حلب، فأجابه إلى ذلك وعاد فنزل بدار سنجر الإسماعيلي، وارتحل منها إلى حلب‏.‏

وقد اجتمعت به هنالك وتأسف الناس عليه، وناب في الغيبة الأمير سيف الدين زبالة، إلى أن قدم النائب المعز السيفي قشتمر عبد الغني على ما سيأتي‏.‏

وتوفي القاضي شمس الدين بن منصور الحنفي الذي كان نائب الحكم رحمه الله يوم السبت السادس والعشرين من المحرم، ودفن بالباب الصغير، وقد قارب الثمانين‏.‏

وفي هذا اليوم أو الذي بعده توفي القاضي شهاب الدين أحمد ابن الوزوازة ناظر الأوقاف بالصالحية‏.‏

وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث صفر نودي في البلد أن لا يتخلف أحد من أجناد الحلقة عن السفر إلى بيروت، فاجتمع الناس لذلك فبادر الناس والجيش ملبسين إلى سطح المزة، وخرج ملك الأمراء أمير على كان نائب الشام من داره داخل باب الجابية في جماعته ملبسين في هيئة حسن وتجمل هائل‏.‏

وولده الأمير ناصر الدين محمد وطلبه معه، وقد جاء نائب الغيبة والحجبة إلى بين يديه إلى وطاقه وشاوروه في الأمر، فقال‏:‏ ليس لي ها هنا أمر، ولكن إذا حضر الحرب والقتال فلي هناك أمر، وخرج خلق من الناس متبرعين، وخطب قاضي القضاة تاج الدين الشافعي بالناس يوم الجمعة على العادة، وحرض الناس على الجهاد، وقد ألبس جماعة من غلمانه اللأمة والخوذ وهو على عزم المسير مع الناس إلى بيروت ولله الحمد والمنة‏.‏

ولما كان من آخر النهار رجع الناس إلى منازلهم وقد ورد الخبر بأن المراكب التي رُؤيت في البحر إنما هي مراكب تجار لا مراكب قتال، فطابت قلوب الناس، ولكن ظهر منهم استعداد عظيم ولله الحمد‏.‏

وفي ليلة الأحد خامس صفر قدم بالأمير سيف الدين شرشي الذي كان إلى آخر وقت نائب حلب محتاطاً عليه بعد العشاء الآخرة إلى دار السعادة بدمشق، فسير معزولاً عن حلب إلى طرابلس بطالاً، وبعث في سرجين صحبة الأمير علاء الدين بن صبح‏.‏

وبلغنا وفاة الشيخ جمال الدين بن نابتة حامل لواء شعراء زمانه بديار مصر بمرستان الملك المنصور قلاوون، وذلك يوم الثلاثاء سابع صفر من هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

وفي ليلة ثامنه هرب أهل حبس السد من سجنهم وخرج أكثرهم فأرسل الولاة صبيحة يومئذ في أثرهم فمسك كثير ممن هرب فضربوهم أشد الضرب، وردوهم إلى شر المنقلب‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس عشره نودي بالبلدان أن لا يعامل الفرنج بالبنادقة والحبوبة والكيتلان واجتمعت في آخر هذا اليوم بالأمير زين الدين زبالة نائب الغيبة النازل بدار الذهب فأخبرني أن البريدي أخبره أن صاحب قبرص رأى في النجوم أن قبرص مأخوذة، فجهز مركبين من الأسرى الذي عنده من المسلمين إلى يلبغا‏.‏

ونادى في بلاده أن من كتم مسلماً صغيراً أو كبيراً قتل، وكان من عزمه أن لا لا يبقى أحداً من الأسارى إلا أرسله‏.‏

وفي آخر نهار الأربعاء خامس عشره قدم من الديار المصرية قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي الذي كان قاضي المالكية فعزل في أواخر رمضان من العام الماضي، فحج ثم قصد الديار المصرية فدخلها لعله يستغيث فلم يصادفه قبول، فادّعى عليه بعض الحجاب وحصل له ما يسوءه، ثم خرج إلى الشام فجاء فنزل في التربة الكاملية شمالي الجامع‏.‏

ثم انتقل إلى منزل ابنته متمرضاً والطلابات والدعاوى والمصالحات عنه كثيرة جداً، فأحسن الله عاقبته‏.‏

وفي يوم الأحد بعد العصر دخل الأمير سيف الدين طيبغا الطويل من القدس الشريف إلى دمشق فنزل بالقصر الأبلق، ورحل بعد يومين أو ثلاثة إلى نيابة حماه حرسها الله بتقليد من الديار المصرية، وجاءت الأخبار بتولية الأمير سيف الدين منكلي بغا نيابة حلب عوضاً عن نيابة دمشق وأنه حصل له من التشريف والتكريم والتشاريف بديار مصر شيء كثير ومال جزيل وخيول وأقمشة وتحف يشق حصرها‏.‏

وأنه قد استقر بدمشق الأمير سيف الدين اقشتمر عبد الغني، الذي كان حاجب الحجاب بمصر، وعوض عنه في الحجوبية الأمير علاء الدين طبغا أستاذ دار يلبغا وخلع على الثلاثة في يوم واحد‏.‏

وفي يوم الأحد حادي عشر ربيع الأول اشتهر في البلد قضية الفرنج أيضاً بمدينة الإسكندرية وقدم بريدي من الديار المصرية بذلك، واحتيط على من كان بدمشق من الفرنج وسجنوا بالقلعة وأخذت حواصلهم، وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يومئذ أن أصل ذلك أن سبعة مراكب من التجار من البنادقة من الفرنج قدموا إلى الإسكندرية فباعوا بها واشتروا‏.‏ ‏

وبلغ الخبر إلى الأمير الكبير يلبغا أن مركباً من هذه السبعة إلى صاحب قبرص، فأرسل إلى الفرنج يقول لهم‏:‏ أن يسلموا هذه المركب فامتنعوا من ذلك وبادروا إلى مراكبهم، فأرسل في آثارهم ستة وشواني مشحونة بالمقاتلة، فالتقوا هم والفرنج في البحر فقتل من الفريقين خلق ولكن من الفرنج أكثر وهربوا فارين بما معهم من البضائع‏.‏

فجاء الأمير علي الذي كان نائب دمشق أيضاً في جيش مبارك ومعه ولده ومماليكه في تجمل هائل، فرجع الأمير علي واستمر نائب السلطة حتى وقف على بيروت ونظر في أمرها، وعاد سريعاً‏.‏

وقد بلغني أن الفرنج جاؤوا طرابلس غزاة وأخذوا مركباً للمسلمين من المينا وحرقوه، والناس ينظرون ولا يستطيعون دفعهم ولا منعهم؛ وأن الفرنج كروا راجعين، وقد أسروا ثلاثة من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ انتهى والله أعلم‏.‏

 مقتل يلبغا الأمير الكبير

جاء الخبر بقتله إلينا بدمشق في ليلة الاثنين السابع عشر من ربيع الآخر مع أسيرين جاءا على البريد من الديار المصرية، فأخبرا بمقتله في يوم الأربعاء ثاني عشر هذا الشهر‏:‏ تمالأ عليه مماليكه حتى قتلوه يومئذ، وتغيرت الدولة ومسك من أمراء الألوف والطبلخانات جماعة كثيرة، واختبطت الأمور جداً، وجرت أحوال صعبة، وقام بأعباء القضية الأمير سيف الدين طيتمر النظامي وقوي جانب السلطان ورشد، وفرح أكثر الأمراء بمصر بما وقع‏.‏

وقدم نائب السلطنة إلى دمشق من بيروت فأمر بدق البشائر، وزينت البلد ففعل ذلك، وأطلقت الفرنج الذين كانوا بالقلعة المنصورة فلم يهن ذلك على الناس‏.‏

وهذا آخر ما وجد من التاريخ والحمد لله وحده، وصلواته على نبينا محمد وآله‏.‏