كتاب الملوك

ملوك اليمن

قال أبو محمد: كان يعرب بن قحطان صار إلى اليمن في ولده وأقام بها وهو أول من نطق بالعربية من ولد آدم وأول من حياه ولده بتحية الملوك: "أبيت اللعن وأنعم صباحاً"، واليمن كلها من ولده. وولد ليعرب يشجب بن يعرب وولد ليشجب سبأ بن يشجب، وكانت الملوك في ولده، ويقال: إنه سمي سبأ لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان، فأول الملوك من ولده حمير بن سبأ ملك حتى مات هرماً، ولم يزل الملك في ولد حمير لا يعد وملكهم اليمن ولا يغزو أحد منهم حتى مضت قرون وصار الملك إلى الحرث الرايش.

الحرث الرايش

وكان الحرث أول من غزا منهم وأصاب الغنائم وادخلها اليمن، وبين الرايش وبين حمير خمسة عشر أبا فيما يقال، وسمي الرايش لأنه أدخل اليمن الغنائم والأموال والسبى فراش الناس، وفي عصره مات لقمان صاحب النسور، ولقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم ليستسقي لها، فخير بقاء سبع بقرات سمر من أظب أو عفر في جبل وعر لا يحسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك منها نسر خلف من بعده نسر، فاختار أعمار النسور، فكان آخر نسوره لبد وقد ذكرته الشعراء، قال النابغة:

أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا

 

أخنى عليها الذي أخنى على لبـد.

وقال لبيد بن ربيعة العامري:

لما رأى لبد النسور تطـايرت

 

رفع القوادم كالفقير الأعزل.

والشعراء تنسبه إلى عاد، ويقال إنه عمر ألفي سنة وأربعمائة ونيفاً وخمسين سنسة، وكان أقصى أثر الرايش في غزوته الأول الهند، ثم غزا بعد ذلك الترك بأذربيجان وما يليها وسبى الذرية، ثم أقبل وقد ذكر الرايش نبينا صلى الله عليه وسلم في شعر له ذكر فيه من يملك منهم ومن غيرهم، فقال:

ويملك بعدهم رجل عظـيم

 

نبي لا يرخص في الحرام.

يسمى أحمداً يا لـيت أنـي

 

أعمر بعد مخرجه بعـام.

وكان ملكه مائة سنة وخمسا وعشرين سنة.

أبرهة بن الرايش

ثم ملك بعده ابنه أبرهة بن الرايش، وكان يقال له: ذو المنار لأنه أول من ضرب المنار على طريقه في مغازيه ليهتدي بها إذا رجع وكان ملكه مائة وثلاثاً وثمانين سنة.

أفريقيس بن أبرهة

ثم ملك بعده ابنه أفرقيس بن أبرهة بن الرايش، فغزا نحو المغرب في أرض بربر حتى انتهى إلى طنجة، ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وكانت البربر بقية من قتل يوشع بن نون، وأفريقيس هو الذي بنى أفريقية وبه سميت، وكان ملكه مائة وأربعاً وستين سنة.

العبد بن أبرهة

ثم ملك بعده أخوه العبد بن أبرهة وهو ذو الأذعار سمي بذلك لأنه غزا بلاد النسناس، فقتل منهم مقتلة عظيمة ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم في صدورهم، فذعر الناس منهم فسمي ذا الأذعار، وكان هذا في حياة أبيه، فلما ملك أصابه الفالج فذهب شقه قبل غزوه، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.

هداد بن شرحبيل

ثم ملك بعده هداد بن شرحبيل بن عمرو بن الرايش، وهو أبو بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، ويقال: إنه نكح امرأة من الجن فولدت له بلقيس، فلم يلبث إلا يسيراً حتى هلك، فلما حضرته الوفاة جعل الملك لها بعده.

بلقيس

فلما ملكت بلقيس وكانت من أجمل الناس في زمانها وأعقلهم وأحزمهم، فكان من أمرها وأمر سليمان عليه السلام ما قصه الله عز وجل في كتابه ويقال: إن سليمان تزوجها فولدت له داود بن سليمان ومات في حياة أبيه، ويقال: بل تزوجها رجل من المقاول وسرحها إلى ملكها، وكان يأتي بلدها في كل شهر، ويقال: إن مدة سليمان كانت في ملكه أربعين سنة، ويقال: أربعاً وعشرين سنة، وماتت بلقيس بعده بمدة يسيرة.

ياسر بن عمرو

ثم ملك بعدها ياسر بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن شرحبيل، ويعرف بياسر النعم لإنعامه على الناس ورد الملك إليهم بعد سليمان عليه السلام، وكان شديد السلطان قوياً في أمره، وخرج غازياً نحو المغرب حتى أتى وادي الرمل الجاري، فوجه جيشاً في الرمل فهلكوا فيه ولم يعد منهم أحد فأمر بصنم نحاس فعمل وكتب عليه بالمسند: ليس ورائي مذهب ورجع، وكان ملكه خمساً وثمانين سنة.

شمر بن أفريقيس

ثم ملك بعده شمر بن أفريقيس بن أبرهة بن الرايش، وهو الذي يدعي شمر يرعش وذلك لارتعاش كان به، وخرج في جيش عظيم حتى دخل أرض العراق ثم توجه يريد الصين، فأخذ على طريق فارس وسجستان خراسان فافتتح المدائن والقلاع وقتل وسبى ودخل مدينة الصغد فهدمها فسميت شمركند أي شمر أخربها وأعربها الناس فقالوا: سمرقند، ثم عاد وكان ملكه مائة وسبعاً وثلاثين سنة.

الأقرن بن شمر

ثم ملك بعده ابنه الأقرن بن شمر يرعش فغزا بلاد الروم وكان أهلها يومئذ يعبدون الأوثان ووغل فيها حتى بلغ وادي الياقوت فمات قبل أن يدخله، ودفن هناك وكان ملكه ثلاثاً وخمسين سنة.

تبع بن الأقرن

ثم ملك بعده ابنه تبع بن الأقرن بن شمر يرعش وهو تبع الأكبر، وأول التبابعة، فأقام عشرين سنة لا يغزو، وأتاه عن الترك ما كرهه فسار إليهم على جبلي طيء ثم على الأنبار، وهو الطريق الذي سلكه الرايش فلقيهم في حد أذربيجان فهزمهم وسبى ورجع، ثم غزا الصين ثم رجع، وخلف بالتبت جيشاً عظيماً فأعقابهم بالتبت يعرفون ذلك، وتبع هذا هو القائل:

منع البقاء تقلـب الـشـمـس

 

وطلوعها من حيث لا تمسي.

وطلوعها بـيضـاء صـافـية

 

وغروبها صفراء كالـورس.

تجري على كبد السماء كـمـا

 

يجري حمام الموت في النفس.

اليوم نعـلـم مـا يجـيء بـه

 

ومضى بفصل قضائه أمـس.

وبعض الرواة يذكرون أن هذا الشعر لأسقف نجران، وكان ملكه مائة وستين سنة.

كليكرب بن تبع الأكبر

ثم ملك بعده كليكرب بن تبع الأكبر، وكان ضعيفاً صغير الهمة لم يغز حتى مات، وكان ملكه خمساً وثلاثين سنة.

تبع بن كليكرب

ثم ملك بعده ولده تبع بن كليكرب وهو أسعد أبو كرب وهو تبع الأوسط، فأكثر الغزو ولم يدع سلكه آباؤه إلا سلكه، وكان يغزو بالنجوم ويسير بها ويمضي أموره بدلالتها، وطالت مدته واشتدت وطأته وملته حمير وثقل عليهم ما كان يأخذهم به من الغزو، فسألوا ابنه حسان بن تبع أن يمالئهم على قتله ويملكوه فأبى ذلك عليهم فقتلوه ثم ندموا على قتله، فاختلفوا فيمن يملكون بعده حتى اضطرتهم الأمور إلى أن يملكوا ابنه حساناً، فملكوه وأخذوا عليه موثقاً أن لا يؤاخذهم بما كان منهم في أبيه، ويقال: إن تبعاً هذا هو الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

شهدت على أحـمـد أنـه

 

رسول من الله باري النسم.

فلو مد عمري إلى عمـره

 

لكنت وزيراً له وابن عم.

وأنه هو كسا البيت ويقال بل تبع الآخر فعل ذلك، وكان ملك تبع الأوسط ثلاثمائة وعشرين سنة.

حسان بن تبع

ثم تبع ملك ابنه حستن بن تبع وهو الذي بعث إلى جديس باليمامة فأبادها، وكانت طسم وجديس تنزل اليمامة، وكان لها ملك من طسم قد ساءت سيرته وكانوا لا يزوجون امرأة من جديس إلا بعث بها إليه ليلة إهدائها، فافترعها قبل زوجها، فوثبت جديس على طسم وهي غارة، فقتلت منها مقتلة عظيمة وقتلت ذلك الملك، ومضى رجل من طمس إلى حسان بن تبع يستصرخه فوجه حسان جيشاً إلى اليمامة، واسم اليمامة يومئذ جو وبها امرأة قال لها اليمامة تبصر الركب من مسيرة ثلاثة أيام وباسمها سميت جو اليمامة، فلما خافوا أن تبصرهم قطعوا الشجر وجعل كل رجل منهم بين يديه شجرة، فنظرت اليمامة فقالت: يا معشر جديس، لقد سار إليكم الشجر ولقد أتتكم حمير! قالوا: ما ذاك؟ قالت: أرى في الشجر رجلاً معه كتف يأكلها أو نعل يخصمها فكذبوها فصبحتم حمير و أوقعت بهم وقعة أفنتهم. إلا يسيراً، وقد ذكرت الشعراء قصة المرأة، قال الأعشى:

ما نظرت ذات أسفار كما نظرت

 

يوماً ولا نظر الدبي إذ شجـعـا.

قالت أرى رجلاً في كفه كـتـف

 

أو يخصف النعل لهفي إنه صنعا.

فكذبوها بما قالت فصـبـحـهـم

 

ذو آل حسان يزجي السم والسلعا.

فاستنزلوا أهل جو من مساكنهـم

 

وهدموا يافع البنيان فاتضـعـا.

ولم يزل حسان بن تبع يتجنى على قتلة أبيه فقتلهم واحداً واحداً وأخذهم بالغزو واشتد عليهم، فأتوا أخاه عمرو بن تبع فبايعهم وبايعوه على قتل أخيه وتمليكه بعده خلا رجلاً من أشرافهم يقال له ذو رعين فإنه نهاه عن ذلك وحذره سوء العاقبة. وأعلمه أنه إن فعل ذلك منع منه النوم، فلم يقبل منه، فقتل أخاه حساناً.

عمرو بن تبع

وملك عمرو بن تبع فمنع منه النوم فشكا ذلك فقيل له إن النوم لا يأتيك أو تقتل قتلة أخيك، فنادى في جميع أهل مملكته، إن الملك يريد أن يعهد عهداً غداً، فاجتمعوا وأقام لهم الرجال وقعد في مجلس الملك، ثم أمرهم أن يدخلوا خمسة خمسة وعشرة عشرة، فغذا دخلوا عدل بهم فقتلوا حتى أتى على عامة القوم، وأدخل ذو رعين فلما رآه أذكره ما كان قال له أنشد شعراً له يقول فيه:

ألا من يشتري سهراً بنـوم

 

سعيد من يبيت قرير عين.

فإن تك حمير غدرت وخانت

 

فمعذرة الإله لذي رعـين.

فأمر بتخليته وأكرمه وقربه واختصه، فاضطربت عليه أموره وترك الغزو فسمي موثبان لقعوده، والوثاب: الفراش، أرادوا به لزم الفراش. وفي ملكه تزوج عمرو بن حجر الكندي جد امرئ القيس الشاعر بنت حسان بن تبع فولدت له الحرث بن عمرو بن حجر، وكان عمرو بن حجر سيد كندة وكان يخدم أباها حسان بن تبع، وفي زمانه انتقل عمرو بن عامر مزيقياء وولده ومن اتبعه من أرض اليمن حين أحس بسيل العرم، وعمرو بن عامر أخو خزاعة وأبو الأوس والخزرج، وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة.

عبد كلال بن مثوب

ثم ملك بعده عبد كلال بن مثوب، وكان مؤمناً على دين عيسى عليه السلام، ويسر إيمانه، وكان ملكه أربعاً وسبعين سنة.

تبع بن حسان

ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع بن كليكرب بن تبع بن الأقرن، وهو تبع الأصغر آخر التبابعة وكان مهيباً فبعث ابن أخته الحرث بن عمرو بن حجر الكندي وهو جد امرئ القيس الشاعر إلى معد وملكه عليهم، وسار إلى الشام وملوكها غسان فأعطته المقادة واعتذروا من دخولهم إلى النصرانية، وصاروا إلى ابن أخته الحرث بن عمرو وهو بالمشقر من ناحية هجر فأتاه قوم كانوا وقعوا إلى يثرب ممن خرج مع عمرو بن عامر مزيقياء، وخالفوا اليهود بيثرب فشكوا اليهود وذكروا سوء مجاورتهم لهم ونقضهم الشرط الذي شرطوه لهم عند نزولهم ومتوا إليه بالرحم، فأحفظه ذلك فسار إلى يثرب ونزل في سفح أحد وبعث إلى اليهود، فقتل منهم ثلاثمائة وخمسين رجلاً صبراً، وأراد إخرابها فقال إليه رجل من اليهود قد أتت له مائتان وخمسون سنة فقال له: أيها الملك لا تقبل على الغضب ولا تقبل قول الزور، وامرك أعظم من أن يطير برق أو تسرع بك لجاج، وإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية، قال: ولم؟ قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من عند هذه البنية يعني البيت الحرام فكف تبع عن ذلك ومضى يريد مكة ومعه هذا اليهودي ورجل آخر من اليهود عالم وهما: الحبران فأتى مكة وكسا البيت وأطعم الناس وهو القائل:

فكسونا البيت الذي حرم الله

 

ملاء معضـدا وبـرودا.

ويقول قوم: إن قائل هذا هو تبع الأوسط، ثم رجع إلى اليمن ومعه الحبران وقد دان بدينهما وآمن بموسى وما نزل في التوراة، وبلغ ذلك أهل اليمن فاختلفوا عيه وامتنعوا من متابعته على دينه فحاكمهم إلى النار بأن دخلها الحبران وقوم منهم فأحرقتهم، وسلم الحبران والتوراة فانقادوا له وتابعوه، فبذلك دخلت اليهودية اليمن. وتبع هذا هو الذي عقد الحلف بين اليمن وربيعة وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة.

مرئد بن عبد كلال

وهو أخو تبع لأمه وكان ذا رأي وبأس وجود، وبعد فرق ملك حمير فلم يعد ملكهم اليمن وأهلها وكان ملكه إحدى وأربعين سنة.

وليعة بن مرثد

ثم ملك بعده ولده وليعة بن مرثد، وكان عاقلاً حسن التدبير وكان ملكه سبعاً وثلاثين سنة.

أبرهة بن الصباح

ثم ملك أبرهة بن الصباح وكان عالماً جواداً، وكان يعلم أن الملك كائن في بني النضر بن كنانة، وكان يكرم معداً، وملك ثلاثاً وسبعين سنة.

حسان بن عمرو بن تبع

ثم ملك حسان بن عمرو، وهو الذي أتاه خالد بن جعفر بن كلاب العامري في أسارى قومه، فأطلقهم ومدحه خالد وكان ملكه سبعاً وخمسين سنة.

ذو شناتر

ثم ملك بعده رجل ليس من أهل بيت الملك، ولكنه من أبناء المقاول يقال له: ذو شناتر، وكان غليظاً فظاً قتالاً ولا يسمع بغلام قد نشأ من أبناء الملوك إلا بعث إليه فأفسده، وأنه بعث إلى غلام منهم يقال له: ذو نواس، وكانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه بها سمي ذا نواس فأدخل عليه ومعه سكين لطيفة فلما دنا منه يريده على الفاحشة شق بطنه واحتز رأسه، وكان ملك ذي شناتر سبعاً وعشرين سنة.

ذو نواس

ولما بلغ حمير ما فعل ذو نواس قالوا: ما نرى أحداً هو أحمق بهذا الأمر منه، إذ أراحنا منه، فملكوا ذا نواس وهو صاحب الأخدود الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وكان على اليهودية، فبلغه عن أهل نجران أنهم قد دخلوا في النصرانية برجل أتاهم من قبل آل جفنة ملوك غسان، فعلمهم إياها فسار إليهم بنفسه حتى عرضهم على أخاديد احتفرها في الأرض وملأها جمراً فمن تابعه على دينه خلى عنه ومن أقام على النصرانية قذفه فيها، حتى أتى بامرأة معها صبي له سبعة أشهر فقال لها: يا أمت امضي علي دينك فلا نار بعدها فرمى بالمرأة وابنها في النار وكف. ومضى رجل من اليمن يقال له ذو ثعلبان في البحر إلى ملك الحبشة وهو على النصرانية فخبره بما فعل ذو نواس بأهل دينه، فكتب ملك الحبشة إلى قيصر يعلمه ذلك ويستأذنه في التوجه إلى اليمن، فكتب إليه يأمره بأن يسير إليها وأعلمه أنه سيظهر عليها وأمره أن يولي ذا ثعلبان أمر قومه ويقيم له ذو نواس وحاربهم فهزموه وقتلوا بشراً كثيراً من أصحابه ومضى منهزماً وهو في أثره حتى أتى البحر فاقتحم فيه فغرق هو وبقية أصحابه، وكان آخر العهد ثم أقام مكانه ذو جدن الحميري فقاتلوه وهزموه أيضاً حتى ألجؤه إلى البحر فاقتحم فيه فغرق ومن تبعه من أصحابه وكان ملك ذي نواس ثمانياً وستين سنة.

ملك الحبشة باليمن

وأقامت الحبشة باليمن مع أبرهة الأشرم وهو الذي أراد هدم الكعبة، فسار إليها ومعه الفيل فأهلك الله جيشه بالطير الأبابيل، ووقعت في جسده الأكلة فحمل إلى اليمن فهلك بها، وفي ذلك العصر ولد النبي صلى الله عليه وسلم.

يكسوم بن أبرهة

وملك بعده يكسوم بن أبرهة، وساءت سيرة الحبشة في اليمن وركبوا منهم العظائم، فخرج سيف بن ذي يزن حتى أتى كسرى أنوشروان بن قباذ في آخر أيام ملكه، هكذا تقول الأعاجم في سيرها. وأنا أحسبه هرمز بن أنوشروان على ما وجدت في التاريخ. فشكا إليه ما هم فيه من الحبشة وسأله أن يبعث معه جنداً لمحاربتهم، فوجه معه قائداً يقال له وهرز في سبعة آلاف وخمسمائة رجل، فساروا نحوهم في البحر، وسمع أهل اليمن بمسيرتهم فأتاهم منهم خلق كثير فحاربوا الحبشة فهزموهم وقتلوهم ومزقوهم، ولم يرجع منهم أحد إلى أرضهم وسبوا نساءهم وذراريهم، واختلفوا في مكث الحبشة في اليمن اختلافاً متفاوتاً.

سيف بن ذي يزن

فأقام سيف ملكاً من قبل كسرى يكاتبه ويصدر في الأمور عن رأيه إلى أن قتل، وكان سبب قتله أنه كان اتخذ من أولئك الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً وهو في متصيد له فزرقوه بحرابهم فقتلوه، وهربوا في رؤوس الجبال وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً، وانتشر الأمر باليمن ولم يملكوا أحداً، غير أن أهل كل ناحية ملكوا عليهم رجلاً من حمير فكانوا ملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام، ويقال إنها لم تزل في أيدي ملوك فارس، وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وباذان عامل أبرويز عليها ومعه قائدان من قواد أبرويز يقال لهما فيروز وذادويه فأسلموا.

ملوك الشام

قال أبو محمد: أول من دخل الشام من العرب سليح وهو من غسان، ويقال: من قضاعة، فدانت بالنصرانية وملك عليها ملك الروم رجلاً منهم يقال له: النعمان بن عمرو بن مالك، ثم ملك بعده ابنه مالك، ثم ابنه عمرو، ثم عمرو، ولم يملك غير هؤلاء الثلاثة.

فلما خرج عمرو بن عامر مزيقياء من اليمن في ولده وقاربته ومن تبعه من الأزد، أتوا بلاد عك وملكهم سلمقة وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا من يرتاد لهم المنازل ويرجعوا إليهم، فأدنوا لهم، فوجه عمرو بن عامر ثلاثة من ولده الحرث بن عمرو، ومالك بن عمرو، وحارثة بن عمرو ووجه غيرهم رواداً، فمات عمرو بن عامر بأرض عك قبل أن يرجع إليه ولده ورواده، واستخلف ابنه ثعلبة بن عمرو، وأن رجلاً من الأزد يقال له: جذع بن سنان احتال في قتل سلمقة، ووقعت الحرب بينهم فقتلت عك أبرح، قتل وخرجوا هاربين، فعظم ذلك على ثعلبة بن عمرو فحلف أن لا يقيم، فسار ومن اتبعه حتى انتهوا إلى مكة، وأهلها يومئذ جرهم وهم ولاة البيت، فنزلوا بطن مر وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام معهم، فقاتلتهم جرهم فنصرت الأزد عليهم فأجلوهم عن مكة. ووليت خزاعة البيت، فلم يزالوا ولاته، واشتدت شوكتهم وعظم سلطانهم حتى أحدثوا أحداثاً ونصبوا أصناماً، ثم صار قصي إلى مكة فحارب خزاعة بمن تبعه وأعانه قيصؤ عليها، وصارت ولاية البيت له ولولده، فجمع قريشاً وكانت في الأطراف والجوانب فسمي مجمعاً، وأقامت الأزد زماناً فلما رأوا ضيق العيش بمكة شخصوا وانخزعت عنها خزاعة لولاية البيت، فصار بعضهم إلى السواد فملكوا بها منهم جذيمة بن مالك الأبرش ومن تبعه، وصار قوم إلى عمان، وصار قوم إلى الشام فهم آل جفنة ملوك الشام، وصار جذع بن سنان قاتل سلمقة إلى الشام أيضاً وبها سليح، فكتب ملك سليح إلى قيصر يستأذنه في إنزالهم فأذن له على شرط شرطها لهم، وأن عامل قيصر قدم عليهم ليجبيهم فطالبهم وفيهم جذع، فقال له جذع: خذ هذا السيف رهناً أن نعطيك. فقال له العامل: أجعله في كذا وكذا من أمك. فاستل جذع السيف فضرب به عنقه، فقال بعض القوم: خذ من جذع ما أعطاك، فذهبت مثلاً.

فمضى كاتب العامل إلى قيصر فأعلمه، فوجه إليهم ألف رجل وجمع له جذع من الأزد من أطاعه فقاتلوهم فهزموا الروم وأخذوا سلاحهم وتقووا بذلك ثم انتقلوا إلى يثرب، وأقام بنو جفنة بالشام وتنصروا ولما صار جذع إلى يثرب وبها اليهود حالفوهم وأقاموا بينهم على شروط، فلما نقضت اليهود الشروط أتوا تبعاً الآخر فشكوا إليه ذلك فسار نحو اليهود حتى قتل منهم، وقد تقدم ذكر هذا وخرجت طيء من بلاد اليمن بعد عمرو بن عامر بمدة يسيرة فنزلت الجبلين أجأ وسلمى وحالفتها بنو أسد بعد إذلال من طيء لها وقهر.

فأول: من ملك الشام من آل جفنة الحرث بن عمرو محرق، وقد اختلف النساب فيما بعد عمرو من نسبه، وسمي محرقاً لأنه من حوق العرب في ديارهم، فهم يدعون آل محرق وهو الحرث الأكبر ويكنى أبا شمر.

الحرث بن أبي شمر

ثم ملك بعده الحرث بن أبي شمر وهو الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر وأمه مارية ذات القرطين، وكان خير ملوكهم وأيمنهم طائراً وأبعدهم مغاراً وأشدهم مكيدة، وكان غزا خيبر فسبى من أهلها ثم أعتقهم بعدما قدم الشام. وكان سار غليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف فوجه إليهم مائة رجل فيهم لبيد الشاعر وهو غلام وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته فأحاطوا برواقه فقتلوه وقتلوا من معه في الرواق وركبوا خيلهم فنحجا بعضهم وقتل بعض. وحملت خيل الغسانين على عسكر المنذر فهزمرهم وكانت له بنت يقال لها حليمة كانت تطيب أولئك الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع، وفيها جرى المثل: ما يوم حليمة بسر. وكان فيمن أسر يومئذ أسارى من بني أسد فأتاه النابغة الذبياني فسأله إطلاقهم فأطلقهم، وأتاه علقمة بن عبدة في أسارى من بني تميم وفي أخيه شاش بن عبدة فأطلقهم، وفيه يقول علقمة:

إلى الحرث الوهاب أعملت ناقتي

 

بكلكلها والقصـريين وجـيب.

وفي كل حي قد خبطت بنعـمة

 

فحق لشاش من نـداك ذنـوب.

الحرث بن الحرث بن الحرث

ثم ملك بعده الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر، وكان له أخوة منهم النعمان بن الحرث وهو الذي قال فيه النابغة:

هذا غـلام حـسـن وجـهــه

 

مستقبل الخير سريع الـتـمـام.

للحرث الأكبر والحـرث الأص

 

غر والحرث الأعرج خير الأنام.

وله يقول النابغة أيضاً وكان خرج غازياً:

إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج

 

ويأتي معداً ملكها وربيعهـا.

ويرجع إلى غسان ملك سؤدد

 

وتلك المنى لو أننا نستطيعها.

وكان للنعمان بن الحرث ثلاثة بنين: حجر بن النعمان وبه كان يكنى، والنعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان، وفيهم يقول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:

من يغر الدهر أو يأمـنـه

 

من قتيل بعد عمرو وحجر.

ملكاً من جبل الثلـج إلـى

 

جانبي أيله من عبد وحـر.

ومن ولد الحرث الأعرج أيضاً عمرو بن الحرث الذي كان النابغة صار إليه حين فارق النعمان بن المنذر، وله يقول النابغة:

علي لعمرو نعمة بعد نعمة

 

لوالده ليست بذات العقارب.

وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر. ومن ولده: المنذر بن الحرث والأيهم بن الحرث هذا أبو جبلة بن الأيهم، وجبلة آخر ملوك غسان وكان طوله اثني عشر شبراً، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض، وأدرك الإسلام فأسلم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم تنصر بعد ذلك ولحق بالروم وكان سبب تنصره أنه مر في سوق دمشق فأوطأ رجلاً فرسه فوثب الرجل فلطمه فأخذه الغسانيون فأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا، فقال أبو عبيدة بن الجراح، البينة أن هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة؟ قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل. قال: لا. قال: ولا تقطع يده. قال: لا، إنما أمر الله بالقصاص فهي لطمة بلطمة. فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر، ولم يزل هناك إلى أن هلك.

ملوك الحيرة

أول ملوك الحيرة

مالك بن فهم

بن غنم بن دوس من الأزد: كان خرج من اليمن مع عمرو بن عامر مزيقياء حين أحسوا بسيل العرم، فلما صارت الأزد إلى مكة وغلبوا جرهم على ولاية البيت أقاموا زماناً ثم خرجوا إلى خزاعة، فإنها أقامت على ولاية البيت فصار مالك بن فهم إلى العراق، فأقام مالكاً على العراق عشرين سنة ثم هلك.

جذيمة بن مالك الأبرش

وملك بعده ابنه جذيمة، وكان يقال له: الأبرش والوضاح لبرص كان به، وكان ينزل الأنبار ويأتي الحيرة ثم يرجع، وكان لا ينادم أحداً ذهاباً بنفسه وينادم الفرقدين، فإذا شرب قدحاً صب لهذا قدحاً ولهذا قدحاً وهو أول من عمل المنجنيق وأول من حذيت له النعال، وأول من رفع له الشمع. وكانت له أخت يقال لها: أم عمرو، وكان أخص خدمه به وأقربهم منه فتى من لخم يقال له: عدي بن نصر بن ربيعة اللخمي، ويقال: إن نصراً أباه هو نصر بن الساطرون ملك السريانيين صاحب الحصن، وهو جرمقاني من أهل الموصل من رستاق يدعى باجرمي، وكان جبير بن مطعم يذكر أنه من بني قنص بن معد بن عدنان وأنه زوج عدي بن نصر أخته أم عمرو وهو سكران وأدخله عليها فوطئها، فلما صحا ندم على ذلك وأمر بعدي فضربت عنقه، وحملت أخته بعمرو بن عدي فأحبه وعطف عليه، وأن الجن قد استهوته فعظم فقده عليه وجعل لمن أتاه به حكمه، فرده إليه بعد زمان مالك وعقيل واحتكما منادمته، فيقال: إنهما نادماه أربعين سنة وحدثاه فما أعادا عليه، فلما رداه طوقته أمه بطوق، فلما رأى خاله الطوق واللحية قال: شب عمرو عن الطوق، فذهبت مثلاً. وخطب جذيمة الزباء وكانت بنت ملك الجزيرة وملكت بعد زوجها فأجابته، فأقبل إليها فلما دخل عليها قتلته فطلب عمرو ابن أخته وقصير غلامه بثأره فقتلاها وخلفا في بلدها رجلاً ورجعا بالغنائم، فذلك أول سبي قسم في العرب من غنائم الروم، وكان ملك جذيمة ستين سنة.

عمرو بن عدي

وملك بعده عمرو بن عدي ابن أخته فعظمته الملوك وهابته لما كان من حيلته في الطلب بثأر خاله، حتى أدركه وكان ملكه نيفاً وستين سنة.

امرؤ القيس

وملك امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، ويقال: بل ملك الحرث بن عمرو بن عدي. ويقال: إنه هو الذي يدعى محرقاً، وفيهم يقول الشاعر الأسود ابن يعفر:

ماذا أؤمل بـعـد آل مـحـرق

 

تركوا منازلـهـم وبـعـد أياد.

أرض الخورنق والسدير وبـارق

 

والقصر ذي الشرفات من سنداد.

النعمان بن امرئ القيس

ثم ملك بعده النعمان بن امرئ القيس وكان أعور، هو الذي بني الخورنق وهو النعمان الأكبر. ويقال: أنوشروان بن قباذ هو الذي ملكه وأشرف يوماً على الخورنق فنظر إلى ما حوله فقال أكل ما أرى إلى فناه وزوال، قالوا: نعم. قال: فأي خير فيما يفنى لأطلبن عيشاً لا يزول، فانخلع من ملكه ولبس المسوح وساح في الأرض وهو الذي ذكره عدي بن زيد فقال:

وتدبر رب الـخـورنـق إذ

 

أشرف يوماً وللهدى تفكير.

سره ماله وكثرة مـا يمـل

 

لك والبحر معرضاً والسدير.

فارعوى قلبه وقال فما غـب

 

طة حي إلى الممات يصير.

المنذر بن امرئ القيس

وملك أنوشروان بعده المنذر بن امرئ القيس أخاه وكانت أم المنذر من النمر بن قاسط يقال لها ماء السماء لجمالها وحسنها وأبوها عوف بن جشم. فأما ماء السماء من الأزد فهو عامر أبو عمرو بن عامر الخارج من المن وسمي عامر ماء السماء لأنه كان إذا قحط القطر أحتبى فأقام ماله مقام القطر فسمي ماء السماء إذ أقام ماله مقامه، وقيل لابنه عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق كل يوم حليتن يلبسهما ويكره أن يعود فيهما ويأنف أن يلبسهما غيره. قال: وذكرت هذا في هذا الموضع ليفرق بين ماء السماء الذي هو امرأة وماء السماء الذي هو رجل، وكانت تحت المنذر بن امرئ القيس.

هند بنت الحرث

بن عمرو الكندي آكل المرار

وهي التي يقول فيها القائل: يا ليت هنداً ولدت ثلاثة. وولدت هند ثلاثة متتابعين: عمرو بن هند مضرط الحجارة، وقابوساً قينة العرس، وكان فيه لين، والمنذر بن المنذر. ولم يزل المنذر بن امرئ القيس على الحيرة إلى أن غزا الحرث بن أبي شمر الغساني وهو الحرث الأعرج فقتله الحرث الأعرج بالحيار.

المنذر بن المنذر

بن امرئ القيس

ثم ملك ابنه المنذر بعده وخرج يطلب دم أبيه فقتله الحرث أيضاً بعين أباغ، وقد سمعت أيضاً من يذكر أن قاتله مرة بن كلثوم التغلبي أخو عمرو بن كلثوم.

عمرو بن هند

ثم ملك عمرو بن هند مضرط الحجارة سمي بذلك لشدة وطأته وصرامته، وهو محرق أيضاً سمي بذلك لأنه أحرق ثمانية وتسعين رجلاً من بني دارم بالنار وكملهم مائة برجل من البراجم وبمرأة نهشلية ولهذا قيل. إن الشقي وافد البراجم. وكان رجلاً منهم قتل ابناً له خطأ وهو صاحب طرفة والمتلمس، وكان كتب لهما إلى عامله بالبحرين كتاباً أوهمهما أنه أمر لهما فيه بصلة، وكتب إليه يأمره بقتلهما.

فأما المتلمس فإنه دفع صحيفته إلى رجل من أهل الحيرة فقرأها فلما عرف ما فيها نبذها في نهر بقرب الحيرة ورجع فقيل: صحيفة المتلمس.

وأما طرفة فمضى بصحيفته حتى أوصلها إلى العامل فقتله، وقد ذكرت قصتهما في كتاب الشعراء بطولها وكمالها.

النعمان بن المنذر

ثم ملك بعده النعمان بن المنذر بن امرئ القيس، وكان يكنى أبا قابوس وهو صاحب النابغة الذبياني وصاحب الغرايين وهما طربالان يغريهما بدم من يقتله إذا ركب يوم بؤسه، وكان له يومان: يوم بؤس ويوم نعيم.

وقتل عبيد بن الأبرص الشاعر يوم بؤسه، وكان أتاه يمتدحه ولم يعلم أنه يوم بؤسه، وهو قاتل عدي بن زيد العبادي الشاعر، وكان عدي ترجمان أبرويز وكاتبه بالعربية، وهو وصف له النعمان وأشار عليه بتوليته واحتال في ذلك حتى ولاه من بين أخوته، وكان أذمهم وأقبحهم، ثم اتهمه النعمان فاحتال عليه حتى صار في يده فحبسه.

وكان عدي يقول الشعر في الحبس ثم قتله وتوصل ابنه زيد بن عدي إلى أبرويز بالجمال محل أبيه، فذكر زيد بن عدي لأبرويز نساء المنذر ووصفهن بالجمال والأدب، فكتب أبرويز يخطب إلى النعمان أخته أو ابنته، فلما قرأ النعمان الكتاب قال: وما يصنع الملك بنسائنا؟ وأين هو عن مهاء السواد. والمهاء البقر! يريد أين هو عن نساء السواد اللواتي كأنهن المهاء والعرب تشبه النساء بالمهاء؟ فحرف زيد القول عنده وقال: أين هو عن البقر لا ينكحهن؟ فطلب أبرويز النعمان فهرب النعمان منه حيناً، ثم بدا له أن يأتيه فأتاه بالمدائن فصف له أبرويز ثمانية آلاف جارية صفين، فلما صار بينهن قلن له: أما للملك فينا غناء عن بقر السواد؟ فعلم النعمان أنه غير ناج منه، فأمر به كسرى فحبسه بساباط ثم ألقي تحت أرجل الفيلة فوطأته حتى مات. قال الأعشى يذكر أبرويز:

هو المدخل النعمان بيتاً سمـاؤه

 

نحور الفيول بعد بيت مسردق.

إياس بن قبيصة

ثم خرج الملك عن آل المنذر وولى كسرى إياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر، واضطرب أمر كسرى وشغلوا، وجاء الله بالإسلام، ومات إياس بن قبيصة بعين التمر، وفيه يقول زيد الخيل:

فإن يك رب العين خلى مكانه

 

فكل نعيم لا مـحـالة زائل.

الردافة

قال: ولم يكن في العرب أكثر غارة على ملوك الحيرة من بني يربوع من تميم، فصالحوهم على أن يجعلوا لهم الردافة ويكفوا عن أهل العراق الغارة، وكانت الردافة أن يجلس الملك ويجلس الردف عن يمينه، فإذا شرب الملك شرب الردف قبل الناس وإذا غزا الملك جلس الردف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف وإذا غارت كتيبة أخذ الردف المرباع وكان جرير يذكر ذلك وهو من بني يربوع ويقول:

ربعنا ورادفنا الملوك وظللـوا

 

وطاب الأحاليب الثمام المنزعا.

وكان أول من ردف منهم عتاب بن هرمى بن رباح اليربوعي ثم ابنه عوف بن عتاب ثم ابنه يزيد بن عوف على عهد المنذر بن ماء السماء، فبعث المنذر بن ماء السماء جيشاً إلى بني يربوع عليه قابوس وحسان ابناه، ويقال: إن حساناً أخوه لانتزاع الردافة منهم فحاربتهم بنو يربوع وكان ملتقاهم بطخفة، فهزمت بنو يربوع جيش المنذر وأسروا ابنيه، فبعث المنذر إليهم بألفي بعير فداء ابنيه وأقر الردافة فيهم. قال جرير:

ويوم أبي قابوس لم نعطه المنـى

 

ولكن صدعنا البيض حتى تهزما.

ملوك العجم

قرأت في كتب سير العجم أن الملوك الذين كانوا قبل ملوك الطوائف كان بعضهم ينزل بلخ من خراسان، وكان بعضهم ينزل بابل وكان بعضهم ينزل فارس.

فممن نزل فارس

جم

وكان ملكه تسعمائة وستين سنة، وهو عندهم سليمان النبي عليه السلام.


ومنهم

طهمورث

ملك ألف سنة.

ومنهم

بيوراسف

ملك ألف سنة، وقالوا: هو الضحاك الحميري.


وممن نزل خراسان

كشتاسف

هو الذي أتاه زرادشت بكتاب المجوس، وكان ملكه تسعين سنة.

ومنهم

بهمن بن أسفنديار

وهو الذي كان على عهد موسى عليه السلام، فلما بلغه أن بناحية المغرب في أرض أوراسلم قوماً أحدثوا ديناً، بعث إليهم قائداً من قواده يقال له: بختنرسى وهو عندهم بختنصر، وأمره بقتلهم وسبي ذراريهم، ففعل ذلك ونفاهم عن بيت المقدس وبددهم في البلاد.

حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي، قال: أهل مرو من أولاد الملوك الذين كانوا قبل الفرس بخراسان وقيل لكسرىك أما ترى جمالهم وهيئتهم نجهم عنك، فأنزلهم مرو. ولم يزل الأمر مستقيماً حتى انتهى إلى دارا بن دارا، وكان ينزل بابل فخرج الإسكندر الرومي عليه وغضب ملكه وقتله ثم دخل أرض فارس فأكثر من القتل والسبي والأخراب وأمر بإحراق كتب دينهم، وأمر بهدم بيوت نيرانهم وخلف على كل ناحية وطائفة ملكاً ممن كان أسر من أشراف أهل فارس، فامتنع كل امرئ منهم وحمى حوزته، فهم ملوك الطوائف ولم يزل الأمر كذلك أربعمائة وخمساً وستين سنة.

وكان أردشير بن بابك بن ساسان أحد ملوك الطوائف على أرض اصطخر وهم من أولاد الملوك المتقدمين قبل ملوك الطوائف، فرأى أنه وارث ملكهم، فكتب إلى من كان بقربه من ملوك فارس ومن نأى عنه من ملوك الطوائف يخبرهم بالذي أجمع عليه من الطلب بالملك، لما فيه من صلاح الرعية وأقامه الدين والسنة، وكتب كتاباً صدره بسم الله ولي الرحمة من أردشير بابكان المستأثر دونه بحقه المغلوب على تراث آبائه الداعي إلى قوام دين الله وسنته المستنصر بالله الذي وعد المحقين الفلح وجعل لهم العواقب إلى من بلغه كتابي هذا من أولاد الطوائف سم عليكم بقدر ما تستوجبون من معرفة الحق وإنكار الباطل والجور. فمنهم من أقر له بالطاعة ومنهم من تربص به حتى قدم عليه، ومنهم من عصاه فصار عاقبة أمره إلى القتل والهلاك حتى استوثق أمره، وهو الذي افتتح الحصن وهو بازاء مسكن، وكان ملك السواد متحصناً فيه والعرب تسميه الساطرون قال أبو داود:

وأرى الموت قد تدلى من الحص

 

ن على رب أهله الساطـرون.

وكانت ابنته هويت أردشير فدلته على عورة في حصن المدينة، وبنى مدينة جور بفارس، ومدينة أردشير بفارس، وبهمن أردشير وهي فرات البصرة، واستاراباذ وهي كرخ ميسان وهي كورة دجلة، ومدينة سوق الأهواز ومدينة الأبلة وغير ذلك، وكانت مدة ملكه أربع عشرة سنة وستة أشهر.

سابور بن أردشير

ثم ملك بعده ابنه سابور بن أردشير فأخذ بسيرة أبيه وبمذهبه في الصرامة والحزم، وسار إلى نصيبين وفيها عدد كثير من جنود قيصر فحاصرهم حتى افتتحها، ثم وغل في أرض الروم فافتتح من الشام: مدائن. ثم انصرف إلى مملكته وفرق ما كان معه من السبي في ثلاث مدائن: جندي سابور، وسابور التي بفارس، وتستر التي بالأهواز، ولما حضرته الوفاة دعا ابنه هرمز فاستخلفه على ملكه وعهد إليه، وكان جميع ملكه ثلاثين سنة وشهراً واحداً.

هرمز بن سابور

 وملك بعده هرمز ابنه وهو الذي يقال له هرمز البطل وكان شبيهاً بأردشير في صورته وجسمه، ومضى جنانه غير أنه لم يكن له من إصابة الرأي ما كان لآبائه، فسار بسيرة حسنة عادلة وبنى المدينة التي في دسكرة الملك وكان ملكه سنة وعشرة أشهر.

بهرام بن هرمز

ثم ملك بعده ابنه بهرام فقام في ملكه بأوفق سياسة واتبع آثار آبائه، وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر.

بهرام بن بهرام

ثم ملك بعده ابنه بهرام وهو الذي يقال له شاهان شاه، وكان ملكه أربعة أشهر.

نرسي بن بهرام

ثم ملك بعده نرسي أخو بهرام فأحسن السيرة، وكان من أحب ملوكهم إليهم، وكانت مدة ملكه تسع سنين.

هرمز بن نرسي

ثم ملك بعده هرمز بن نرسي ابنه، وكانت فيه غلطة وفظاعة قبل أن يملك، فلما ملك نزع عن ذلك، فلبث في ملكه سبع سنين وخمسة أشهر.

سابور بن هرمز

ذو الأكتاف

ولما هلك هرمز ولم يكن له ولد يجعلونه مكانه شق ذلك على الناس ثم سألوه عن نسائه فذكر لهم أن لبعضهن حملاً، فأرسلوا إليها أيتها المرأة، إن المرأة التي قد قاست الحمل وتدبرت أمور النساء قد تعرف علامات الذكران وعلامات الإناث، فاعلمينا التي يقع عليها ظنك فيما في بطنك. فأرسلت إليهم: إني أرى من نضارة لوني وتحرك الجنين في شقي الأيمن مع يسير الحمل وخفته، على ما أرجو أن يكون الجنين مع ذلك ذكراً. فاستبشروا بذلك، وعقدوا التاج على بطن تلك المرأة ولم يزالوا يتلومون حتى ولدت غلاماً، فسمي سابور وهو الملقب بذي الأكتاف، ولم يزل الوزراء يدبرون أمر المملكة وينفذون الكتب إلى العمال ويجبون الخراج ويمضون الأعمال على ما كانت تجري عليه وسابور طفل، وذاع الخبر في أطراف الأرض بذلك وطمع فيهم وأقبل من كان يليهم من العرب من نواحي عبد القيس وكاظمة والبحرين فتغلبوا على أرض أسياف فارس ونخلها وشجرها وأكثروا الفساد، وتواكل الفرس فيما بينهم فلم يوجهوا إليهم أحداً ولم يزل ملكهم يزداد ضياعاً حتى طمع فيهم جميع أعدائهم.

فبينما سابور ذات ليلة نائم وقد أثغر وأيفع، انتبه بأصوات الناس وضجتهم، فسأل خدمه عن ذلك فأعلموه ان تلك أصوات من على الجسر من الناس، وما يصرخ به المقبل منهم إلى المدبر ليتنحى له عن الطريق. فقال: وما دعاهم على احتمال هذه المشقة وهم يقدرون على حسم ذلك بأيسر المؤنة ألا يجعلون لهم جسرين فيكون أحدهما للمقبلين والآخر للمدبرين يعني الراجعين فلا يزحم الناس بعضهم بعضاً؟ فسر من حضر بمقالته ولطف فطنته على صغر سنه وعقدوا جسراً آخر.

فلما أتت له ست عشرة سنة أمرهم أن يختاروا له ألف رجل من أهل النجدة ففعلوا، فأعطاهم الأرزاق ثم سار بهم إلى نواحي العرب الذين كانوا يعيثون في أرضهم فقتل من قدؤ عليهم ونزع أكتافهم وغور مياههم ولم يأخذ منهم مالاً ولا سلباً، فلما فرغ من ذلك قال لمن معه من الجمود: إني أريد الدخول إلى أرض الروم سراً لأعرفها ولأعرف قدر قوتهم وعدتهم ومسالك بلادهم فإذا بلغت من ذلك حاجتي انصرفت إلى بلدي، فسرت إليهم بالجنود، فحذروه التغرير بنفسه فلم يقبل قولهم وردهم. وانطلق متنكراً حتى دخل أرضهم فلبث فيها حيناً، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن ابن قيصر أولم وليمة وأمر بالمساكين أن يجمعوا ليطعموا فانطلق سابور فتزيا بزي السؤال ثم شهد المجمع وحضر الطعام فأتى قيصر بإناء من آنية سابور منقوش فيه تمثال سابور فجعل خدمه يسقون به، فلما انتهى الإناء إلى رجل من عظمائهم كان يعرف الفراسة نظر التمثال الذي فيه وقد كان قبل ذلك نظر إلى وجه سابور فأمسك الإناء وقال: إني لأرى معجباً؟ فقال قيصر: وما ذاك؟ قال: إني أرى الجلساء صاحب هذه الصورة، وأومأ إلى سابور، فأمر قيصر بإدناء سابور منه فسأله عن أمره فاعتل عليه بضروب من العلل، فقال لهم المتفرس: لا تقبلوا منه فلم يزالوا به حتى أقر بأنه سابور، فأمر به قيصر فجعل في تمثال بقرة أجوف من جلود البقر ثم أطبق عليه وسار بجنوده إلى أرض فارس وهو معهم فأكثر القتل فيهم والخراب حتى انتهى إلى جندي سابور فوضع المجانيق عليها وثلم سورها. وغفل المتوكلون بحراسة سابور عنه ليلة فلم يغلقوا الباب الذي كان يلقى فيه طعامه فخرج في جوف الليل واحتال في حل وثاقة والخروج إلى باب المدينة فلما رآه الحرس صرخوا فأشار إليهم أن يصمتوا وأخبرهم باسمه ففتحوا له باب المدينة ودخلها فاشتد سرورهم وقويت ظهورهم وقال لهم سابور: استعدوا فإذا سمعتم صوت ناقوس الروم فاركبوا خيولكم، فإذا ضربوا الثانية فاحملوا عليهم ففعلوا ذلك فقتلوا الروم أبرح قتل وأخذ قيصر أسيراً واسباحوا عسكره وأمواله، فقال له سابور: إني مكافئك بما أوليتني ومستحييك بما استحييتني وآخذك بصلاح ما أفسدت فلم يفارقه حتى حمل التراب من أرض الشام فبنى به ما هدم فكان ما بني ما ثلم من سور جندي سابور فصار بعض السور بلبن وبعضه بآجر وجص وغرس مكان كل نخلة عقرها زيتونة ولم يكن في أرض فارس زيتون ثم أطلقه.

وسار سابور إلى أرض الروم فقتل وسبى ثم بنى بالسوس مدينة فسماها فيروز سابور وبنى نيسابور وبنى مدينة بالسند وأخرى بسجستان سوى أنهاراً حفرها، وعقد قناطر وأنشأ قرى وعجل عليه الهرم وكثرت به العلل فبعث إلى ملك الهند يسأله أن يبعث إليه طبيباً فعالجه حتى اشتد عصبه وجلده وقوي بصره وهش للنساء وأطاق فأحسن إلى ذلك الطبيب وأمره أن يتخير من بلاده بلداً ينزله، فاختار مدينة السوس حتى هلك فورث طبه أهل السوس فصاروا أطباء فارس، لذلك ولما ورثوا عمن سكنها من سبي الروم وكان جميع ما ملك سابور اثنتين وسبعين سنة وهو باني الإيوان بالمدائن.

أردشير بن هرمز

ثم ملك بعده أردشير بن هرمز أخوه وكان ابنه سابور بن سابور يومئذ صغيراً فلم يزل حسن السيرة مرضى الولاية، وكان ملكه أربع سنين.

سابور بن سابور

ثم ملك بعده سابور بن سابور بن هرمز وكان حسن السيرة عادلاً على رعيته، وكان ملكه خمس سنين وأربعة أشهر.

بهرام بن سابور

ثم ملك بعده بهرام بن سابور الذي يدعى كرمان شاه فقام في ملكه بسيرة قاصدة ونية حسنة، وبنى مدينة كرمان، وكان ملكه إحدى عشرة سنة.

يزدجرد بن بهرام

ثم ملك بعده يزدجرد بن بهرام وكان فظاً خشن الجانب شديد الكبر فعسف وخبط ولك يشاور في أموره، فاجتمعوا ودعوا الله عليه وشكوا إليه ما هم فيه من الجور والظلم وسألوه تعجيل الفرج لهم منه، فذكروا أنهم رأوا فرساً أقبل حتى وقف على بابه فأطاف الناس به متعجبين من حسن صورته وأخبره صاحبه بذلك فقام ينظر إليه فأعجب به وأمر بإسراجه، فلما أسرج مسح وجهه وناصيته واستدار حوله فرمحه رمحة أصاب بها فؤاده فقتله ثم ملأ الفرس فروجه فلم يدرك. وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً.

بهرام بن يزدجرد

ثم ملكوا ابنه بعده بهرام جور بعد كراهة له ومحن كثيرة امتحنوه بها، فأثر آثاراً حسنة نعش بها الضعيف وعم نفعها ودخل أرض الهند متنكراً فمكث حيناً لا يعرف حتى بلغه أن فيلاً هائجاً قد ظهر بها قد قطع السبيل وأهلك الناس فسألهم أن يدلوه عليه ليريحهم منه، فرفع أمره إلى الملك وأرسل معه رسولاً يدله عليه، فلما انتهى إليه أوفى الرسول على شجرة لينظر إلى ما يصنع بهرام فصرخ بالفيل فخرج إليه فرماه رمية ثبتت بين عينيه وتابع عليه بالسهام حتى أثبته، ثم دنا منه فأخذ بمشفره فاجتذبه حتى خر واحتز رأسه وأقبل به إلى الملك فحباه الملك وسأله عن خبره فأعلمه أنه من أهل فارس لجأ إليه لأمر أحدثه، فسخط عليه الملك. وكان لذلك الملك عدو من حوله سار إليه فاشتد منه وجله. فقال بهرام: لا يهولنك أكره فإني كافيه بإذن الله تعالى. فركب بهرام في سلاحه وقال لأساورة الهند: احترسوا ظهري ثم انظروا إلى عملي فيما امامي، وكانوا قوماً لا يحسنون الرمي وأكثرهم رجالة، فحمل عليهم حملة هدهم، ثم جعل يأتي الرجل فيضربه على رأسه فيقطعه بنصفين، ويأتي الفيل ثم يذبحه على قربوس سرجه، ويتناول الإثنين فيضرب أحدهما بالآخر حتى يقتلهما، ويرمي فلا تسقط نشابه، فولوا منهزمين مرعوبين. وحمل أصحاب بهرام عليهم فأكثروا القتل فيهم وغنموا أموالهم، فانصرف ملك الهند فأنكحه ابنته ونحله الديبل ومكران وملكها وما يليه من أرض السند وأشهد له بذلك، ثم انصرف بهرام إلى مملكته ولم يزل تحمل إليه أموال تلك البلاد إلى فارس ثم لقي ملك الترك في عدد كثير فاستباح بهرام عسكره على قلة من جنوده وولى أخاه نرسي خراسان وملك ثلاثاً وعشرين سنة.

يزدجرد بن بهرام

ثم ملكوا بعده يزدجرد بن بهرام وكان محموداً، وملك ثماني عشرة سنة وخمسة أشهر غير أيام، فلما هلك يزدجرد تنازع الملك بعده ابناه فيروز وهرمز ونشب الحرب بينهما حتى قتل هرمز وثلاثة نفر من أهل بيته وغلب فيروز على الملك.

فيروز بن يزدجرد

وولي فيروز الأمر فأسنت الناس في أول ولايته سبع سنين وقحطوا حتى أشرفوا على الهلاك ثم انتاشهم الله برحمته، ولما استوثق له الامر بنى بكسكر مدينتين منسوبتين إليه، ثم سار بجنوده نحو خراسان لغزو اخشنوار ملك الهياطلة ببلخ، فاحتال له ملك الهياطلة بمكيدة حتى ظفر به على حال غرة وضعف منه ومن جنوده فسأله أن يطلقه على أن يعطيه موثقاً على أن لا يغزوه أبداً ولا يغزو بلاده أبداً، ففعل ذلك ملك الهياطلة فلما عاد إلى فارس أخذته الحمية فجمع له وغزاه غادراً به فظفر ملك الهياطلة بعسكره فاستباحه وقتل رجاله وأسر من أولاده وقرابته، وهلك فيروز فيمن هلك وكان على سجستان رجل من أردشير يقال له: شوخرا، فشخص فيمن معه من أساورته نحو الهياطلة وجمع إليه فلال جمود فيروز، ثم بعث إلى ملك الهياطلة يخيره بين الحرب وبين التخيلة عمن في يده من أسارى فارس، فخلاهم ملك الهياطلة فشرفت منزلة شوخرا وانصرف إلى المدائن وكان ملك فيروز سبعاً وعشرين سنة. ثم تنازع الملك ابنا فيروز قباذ وبلاش فغلب بلاش عليه ونفاه عنه فهرب قباذ إلى خراسان ليسأل خاقان ملك الترك أن يعينه ويمده.

بلاش بن فيروز

وملك بلاش ولم يزل حسن السيرة حريصاً على العمارة وكانت مدة ملكه إلى أن مات أربع سنين، وكان قباذ حين سار إلى خراسان نزل في طريقه على رجل من الأساورة وقد كانت نفسه تاقت إلى النساء فخطب بنت صاحب البيت فزوجه وهو لا يعرفه فبات بالمرأة فحملت منه. ثم سار قباذ إلى خاقان واستمده فدافعه بذلك أربع سنين، ثم وجه معه جيشاً فلما انصرف مر بالمنزل الذي كانت به المرأة فوجدها قد ولدت غلاماً فانطلق بها وبالغلام وهو ابن ثلاث سنين، فلما وصل المدائن لقي أخاه قد هلك.

قباذ بن فيروز

فملك قباذ وبنى فيما بين فارس والأهواز مدينة أرجان فأسكن فيها سبى همذان وبنى مدينة حلوان مما يلي الماهان وبنى مدينة يقال لها قباذخرد، وكان ضعيفاً في ولايته مهيناً فوثب مردق وأصحاب له فقالوا: إن الله تعالى جعل الأرض للعباد بالسوية، فتظالم الناس واستأثر بعضهم على بعض فنحن قاسمون بين الناس ورادون على الفقراء حقوقهم في أموال الأغنياء، فجعلوا يدخلون على الرجل فيغلبونه في منزله ونسائه وأمواله، وأراد بعضهم قباذ على نسائه وبعضهم على دمه ليظهره وحملوه على قتل شوخرا فوثب ابن شوخرا بمن تابعه من الأشراف فقتل مردق وخلقاً كثيراً من أصحابه وأعاد قباذ إلى ملكه ثم سعى به وعزمته حتى قتله قباذ فانتشر أمره وأدبر ولم تبق ناصية إلا خرج فيها خارج وهلك على ذلك، وكان ملكه ثلاثاً وأربعين سنة.

كسرى أنوشروان بن قباذ

ثم كلك بعده كسرى أنوشروان وهو ابن المرأة التي ولدت له في طريقه إلى خراسان، وكان رجلاً شديداً فأعاد الأمور إلى أحوالها ونفى رؤوس المرادقة وعمل بسيرة أردشير وافتتح أنطاكية وكان فيها عظم جنود قيصر، وبنى رومية بناحية المدائن على صورة أنطاكية وأنزل فيها السبي وافتتح مدينة هرقل والإسكندرية، وملك آل المنذر على العرب وسار نحو الهياطلة واستعان عليهم بخاقان وكان قد صاهره حتى أدرك بوتر فيروز، وانزل جنوده بفرغاته، فلما انصرف من خراسان قدم عليه ابن ذي يزن يستنصره على الحبشة، فبعث قائداً من قواده يقال له وهرز في جند من الديلم فافتتحوا اليمن ونفوا السودان وأقاموا هناك، وكان ملكه سبعاً وأربعين سنة وسبعة أشهر.

هرمز بن كسرى

ثم ملك ابنه هرمز فحاد وعسف فخرج عليه خاقان ملك الترك فبعث إليها بهرام شوبينة في اثني عشر ألف رجل فقتل خاقان واستباح عسكره ثم خالفه وخلع يده من طاعته لما يذكر من سوء مذهبه، فوثب من كان بالعراق من جنود بهرام فسملوا عينيه ثم قتل، وكانت مدة ملكه إحدى عشرة سنة وسبعة أشهر، وكان لهرمز ابن يقال له ابرويز بأدربيجان فلما بلغه خبر أبيه صار إلى الروم واستعان بقيصر فقبله وأنكحه ابنته، وبعث معه جنداً فأقبل وسار إليه بهرام شوبينة فاقتتلوا فهزم شوبينة فلحق بالترك فلم يزل يدس عليه ويحتال حتى قتل هناك.

ابرويز بن هرمز

يعرف بكسرى

ثم ملك أبرويز فأقبل على رعيته بالعسف والخبط وقتل قتلة أبيه وموبذ وأمسك عن الإنفاق وغزا الشام وبلغ مصر وحاصر ملك الروم بقسطنطينية، فحمل ذلك الملك خزائنه إلى البحر فعصفت الريح فألقاها بالإسكندرية فظفر بها أصحابه فسماها خزائن الريح، وطالت مدته به حتى ضجر الناس منه فخلعوه بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكه.

شيرويه بن أبرويز

ثم جعلوا مكانه ابنه شيرويه وهو ابن بنت قيصر فأمر بأبيه فسلمت عيناه وقتل من أخوته ثمانية عشر رجلاً وهرب بقية أهل بيته وخفف المؤنة على الناس، ورفع الخراج، وظهر الطاعون فهلك فيمن هلك وكان ملك لخمس سنين وأشهر من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان ملكه سبعة أشهر.

أردشير بن شيرويه

ثم ملك ابنه أردشير بن شيرويه وكان ابن سبع سنين فقتل وكان ملكه خمسة شهور.

خرهان

ثم ملك بعده رجل لم يكن من أهل بيت الملك، فاحتالت له امرأة من أهل بيت الملك يقال لها بوران فقتلته، وكان ملكه اثنين وعشرين يوماً.

كسرى بن قباذ

ثم ملك بعده من ولد هرمز رجل يقال له كسرى بن قباذ، وكان ولد بأرض الترك، فقدم عندما بلغه من الاختلاف، فوثب عليه ملك خراسان فقتله وكان ملكه ثلاثة أشهر.

بوران

ثم ملكت بوران بنت كسرى سنة وستة أشهر فلم تجب الخراج وفرقت الأموال بين الجند والأشراف، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فقال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.

ثم ملك بعدها رجل من بني عم كسرى شهرين ثم قتل.

ثم ملكت أرزميدخت بنت كسرى فسمت ثم ماتت، وكان ملكها أربعة أشهر. ثم ملك بعدها رجل آخر شهراً ثم قتل.

فلما رأى أهل فارس ما هم فيه من الانتشار طلبوا ابن ابن كسرى يقال له يزدجرد بن شهريار فملكوه عليهم وهو ابن خمس عشرة سنة، فأقام بالمدائن على الانتشار ثماني سنين ووافى سعد بن أبي وقاص العذيب فأمر بأمواله وخزائنه أن تنقل إلى الصين، وأقام في عدة يسيرة من الجنود وقلة من الأموال بنهاوند وخلف بالمدائن أخاً لرستم وسرح رستم لقتال سعد فنزل القادسية وأقام بها حتى قتل، وبلغ ذلك يزدجرد وعلم أن مدتهم قد تصرمت فسار إلى فارس ثم هرب إلى مرو في طريق سجستان فقتل هناك، وكان جميع ملكه عشرين سنة.

تم الكتاب:

بحمد الله وفضله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين آمين.