الكتاب الخامس: كتاب العلم والبيان - ألفاظ تقع في كتب الأمان

ألفاظ تقع في كتب الأمان

كتاب أمان هذا كتاب من فلان لفلان: إني أمنتُك على عَمك ومالك ومَوَاليك وأتباعك، لك ولهم ذمة الله المُوفَى بها، وعهده المسكونُ إليه، ثم ذمهُ الأنبياء الذين أرسلهم برسالته وأكرمهم بوحيه، ثم ذِمَمُ النجباء من خلائفه: بحقن عمك ومَنْ دخل اسمُه معك في هذا الكتاب، وسلامةِ مالك وأموالهم وكذا وكذاة فاقبلوا معروضه، واسكنوا إلى أمانه، وتعلّقوا بحبل ذمته، فإنه ليس بعد ما وَكد من ذلك مُتَوَثَق لداخِلٍ في أمان إلا وقد اعتلقتم بأوثق عُرَاه، ولجأتم إلى أحرز كهوف والسلام.

وفي كتاب آخر: هذا كتاب من فلان: إن أمير المؤمنين، لِمَا جعل اللّه عليه نيّته في إقالة العاثر واستصلاح الفاسد، رأى أن يتلافاك بعفوه، ويتغمد زَلّاتك برُحْمه، ويبسُط لك الأمانَ على ما خرجتَ إليه من الخلاف والمعصية: على دمك وشعرك وبَشَرك وأهلك وولدك ومالك وعَقَارك؛ فإن أنت أتيتَ وسَمِعت وأطعتَ، فأنت آمن بأمان اللّه على ما أمّنك عليه أمير المؤمنين، ولك بذلك ذمة الله وذمّة رسوله، إلا ما كان من حق قائم بعينه لمسلم أو معاهد، والله بذلك راع وكفيل، وكفى بالله وكيلا.

وفي كتاب آخر: إن فلاناً استوهب أميرَ المؤمنين ذنبَك، وسأله أن يَقبل توبتَك وإنابتك، ويؤمِّنك على دمك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك ومالك وعَقَاراتك، على أن تسمع وتًطيع وتُشايع، وتُوالي أولياءه وتُعادي أعداءه؛ فأجابه أمير المؤمنين إلى ذلك، لرأيه في العفو والصفح وما يحتسب في ذلك من الثواب والأجر، فأنت آمن بأمان الله على كذا لا تُؤخذ بشيء مما سلق من أحداثك، ولا تتبع فيه بمكروه ما أقمتَ على الوفاء ولم تُحدِث حَدَثاً تفسَخ به أمانَك وتجعل به سبيلاً على نفسك والله لك بذلك راع كفيل؛ وكفى به شهيداً.

ألفاظ تقع في كتب العهود

أمَرَه بتقوى الله فيما أسْندَ إليه وجعد بسبيله، وأن يُؤْثِرَ الله وطاعتَه آخذاً ومُعطياً، وأعلمه أن اللّه سائِلُه عمّا عَمِل به وجَازِيه عليه، وأنّه خارجٌ من دُنياه خُروجَه من بطن أمه إما مَغْبوطاً محموداً، وإمّا مذموماً مسلوباً. فليعتبر بمَنْ كان قبلَه من الوُلاَة الذينَ وَلُوا مثلَ مَا وَلي، أين صار بهم مَرُّ الليل والنهار، وما انقلبوا به من أعمالهمِ إلى قبورهم! ويتَزوَّد لنفسه الزادَ النافعَ الباقيَ "يَوْمِ تَجدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً".

وفي فصل أخر: وقد ولّاك أميرُ المؤمنين ما ولاّك من أمور رعيّته، وأشركك فيما أشركك فيه من أمانته، ثِقةً بك، رجاءً لمتابعتك وإيثارك الحق وأهلَه، ورفضِك الباطلَ وأهلَه؛ وعَهِدَ إليك في ذلك بما إن أخذتَ به أعانك الله وسددك، وإن خالفتَه خَذَلك وعاقبك.

وفي الحج: فإنّ أمير المؤمنين قد اختارك من إقامة الحج لوَفْد اللّه وزَوْر بيته، للأمر العظِيم قدرُه، الشريف منزلتُه، فعليك بتقوى الله؛ وإيثار مُراقبتِه، ولزوم الهُدى المحمودِ والطريقةِ المُثْلَى والسِّيرة الجميلة التي تُشْبِه حالَك.

فصل: فإن اللّه نَزه الإسلام عن كل قبيحة، وأكرمه عن كل رذيلة، ورفعه عن كل دنيّة، وشرفه بكل فضيلة، وجعل سيماء أهلِه الوقارَ والسكينةَ.

فصل: وإن أحقّ الناس بالازدياد في طاعته ومناصحته وأداءِ الأمانة في عمله مَنْ عَظُم حق الأمير عليه في الخاصّة بفضل الصنيعة من الأمير عنده، مع حق الله عليه في العامّة بحقَ الولاية.

فصل: وكنتَ سيفاً من سيوف الله، ويكْلاً من أنكاله لأهل الشقاق، وشَجًى لمن ابتغى غيرَ سبيل المؤمنين، قد أحكمتك التجارِبُ وضَرستك الأمور، وفُرِرْتَ عن الذكاء وحَلَبْتَ الدهرَ أشطُرَه.

فصل: أنت ابن الحرّية والمروّة، ومن لا يلحَقه عارُ أبوة ولا بُنُوة.

فصل: قد التمستُ مواجهتك بشكرك ووصفِ ما أجِن لك وأخلص من وفك وأجِلّ من قدرك وأعتدّ من إحسانك فَلَفتني عن ذلك تَعَذُّر الخَلْوة مع انقباضٍ وحشمة.

فصل: قد أغنى الله بكرمك عن ذَرِيعةٍ إليك؛ وما تُنازِعني نفسي إلى استعانةٍ عليك إلا أبى ذلك حسنُ الظنّ بالله فيك، وتأميلُ نُجْح الرغبةِ إليك دون الشفعاء عندك.

فصل: مثلك تقرّب إلى الله بالتواضُع لنعمته، والإغاثة لمستغيثه، والعائدةِ على راجيه بفضله.

فصل: تَباً لمن يأتي رأيك! وقبحاً لعُزُوب عقلك، وأفن تدبيرك! ما أبعدَ مذهبَك في الخطأ، وأسوأ أثَرِك على السلطان، وأقصَرَ باعَك عن النهوض! جزالة تقدك، ومَهَانةٌ تُضْرِعك وزَهْوٌ يعلُوك، ونحْوة يشمخَ لها عِرْنينك. لقد انصرف رأيُ أمير المؤمنين عنك، ودعوتَ له عَتْبَك، وكشفتَ له عن قِنَاع سترك، واجتررتَ إليك سَخْطته وعَطَفْتَ نحوَك مَوْجِدَته، وكنتَ على نصيبك منه والضنّ بمنزلتك عنده أولى تقدُّماً وأقربَ رُشْداً. واللّه الغني الحميد.

أصناف أصحاب السلطان أصحاب السلطان ثلاثة: رجلٌ يجعل الدنيا نُصْبَ عينه، ينصِب فيها للخاصّة مَكَايد ويرفَع عن مصلحة العامّة همّتِه، يُذهله عن التقوى الهوى، وتُنسيه أيامُ القدرة العثرةَ، حتى تنصرِم مدّتُه وتنقضيَ دولتُه، لم يرتهن بدنياه شُكْراً ولا قَدّم بها إلى مَعَاده ذُخراً. ورجلٌ لا يَحْفِل مع صَلاح الخاصّة ما دخل من الخلل في أمور العامّة، ولا مع وفور حظه ما أدخل النقص في حظ رعيته. ورجل حاول في ولايته إرضاءَ من وَلي له وعليه، وأعانته النيّة وخَذَلته الكفاية. وقد جمع الله لك الثقة والرضا ممن فوقك، والانقيادَ والمحبة ممن عونك، وأعاد إلى الناس بك عهدَ السلف الماضي وعَمَر بك آثارهم، حتى كأنهم بك أحياء لم تحترمهم منية وجميعٌ لم تنصدِعْ بينهم فُرْقة، فليَهْنِئْك أن مَنْ تقدمك من أهل الفضل في السيرة غيرُ متقدم لك، ومن معك مُقَصِّر عنك، ومن دونك مُقتفٍ لأثرك. فلا زالت الأيام لك، ولا زالت النعم عنك، ولا انتقلت عُرَى الأمور وأزِمّتها عن يدك.

فصل: أبَى طبعُ الزمان أن يسمَحَ لنا بك، كما أبى ذلك في مثلك، فلم يزل حض اعْتَرَض بمكروهه دونك، وكم من نعمةٍ ذهلتْ عنها النفس حين أدبرت بخيرك، فإنّ تَعَلُق القلب بك على قَدْرك في مواهب الله وقدرِها عندك.

فصل: ولم تأت في جميع ما عدّدتُ من أياديك شيئاً، وإن كان متناهيَاً إلى الغاية، مختاراً كالأمنية، متجاوزاً للاستحقاق، إلا وأنت فوقه والمأمولُ للزيادة فيه.

وفي كتاب: إن كان ما خبّرني به فلان عن هَزْلَ فقد أحوجنا هزلُك إلى الجهد، ووَقَفَنا موقف المعتذرين من غير ذنب، وإن كان عن حقيقةٍ فقد ظهر لنا من ظُلمك وتحريفك ما دلّ على زُهْدك منا في مثل الذي رَغِبنا منك فيه.

فصل في كتاب العيد: كتابي إلى الأمير يوم كذا بعد خروجي فيه ومَنْ قِبَلي من المسلمين إلى المًصَلَى وقضائنا ما أوجب الله علينا من صلاة العيد، ونحن بخير حال اجتمع عليها فريق من المسلمين في عيد من أعيادهم ومَجْمعٍ من مجامعهم؛ وكان مَخْرَجُنا إلى المصلَّى أفضلَ مَخْرجٍ، ومُنصَرَفُنا عنه أفضل مُنصرَف، بما وهب الله من سكون العامة وهدوئها والفتها، واحتشاد الحند والشاكريّة بأحسنِ الزِّيّ والهيئة، وأظهرِ السلاح والعُدّة. فالحمد لله على كذا، وهَنَأ اللّه الأمير كذا.

فصل: القلب قرينُ وَلَهٍ حليفُ حَيْرة، أنظُر بعينٍ كليلةٍ وأحضُر بقلب غائب: إلى ورود كتابك بما تعتزمه. فأما النوم فلو مَثَل لعيني لنفَرَتْ إلفاً للسُّهاد.

فصل في كتاب بَيْعة: فبايِعُوا لأمير المؤمنين ولفلانٍ بعدَه على اسم الله وبركته وصُنعِ اللهّ وحُسن قضائه لدِينه وعِباده، بيعة منبسِطةً لها أكفُّكم، منشرحةً بها صدورُكم، سليمةَ فيها أهواؤكم، شاكرين لله على ما وفّق له أمير المؤمنين.

للأحنف يخاطب معاوية وقد عدّد عليه ذنوباً عدّد معاويةُ على الأحنف ذنوباً؛ فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين! لِمَ ترُدُّ الأمورَ على أعقابها! أما والله إنّ القلوبَ التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، وإن السيوفَ التي قاتلناك بها لعَلَى عَوَاتقنا، ولئن مددْتَ لنا بشبر من غدرٍ، لنمدُّنّ إليك باعاً من أختر ولئن شئت لتستسقينَ كَدرَ قلوبنا بصفو حلمك. قال معاوية: فإني أفعل.

بين سوار ورجل تقدم رجل إلى سوار، وكان سوّار له مُبغضاً، فقال سوار في بعض ما يكلمه به: ابن الإخناء! فقال: ذاك خَصْمي. فقال له الخصمِ: أعدني عليه. فقال له الرجل: خذ له بحقه وخذ لي بحقي. ففهم، وسأله أن يغفر له ما فرَط منه إليه، ففعل.

بين معاوية وخُرَيم بن فاتك الأوزاعي قال: دخل خُرَيْم بن فاتك على معاوية، فنظر إلى ساقَيْه فقال: أفي ساقين، لو كانتا على جاريةٍ عاتق فقال له خرَيم: في مثل عَجِيزتك يا أمير المؤمنين.

الخطب

خُطَب النبي صلى الله عليه وسلم

تتْبَعتُ خُطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ أوائلَ أكثرها: "الحمد نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مُضِل له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له". ووجدت في بعضها: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحدثُّكم على طاعته".

ووجدت في خطبة له بعد حمد اللّه والثناء عليه: "أيها الناس إن لكم مَعَالِمَ فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نِهايةً فانتهوُا إلي نهايتكم؛ إن المؤمنَ بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بَقِي لا يدري ما الله قاضٍ فيه؛ فليأخذِ العبدُ لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الموت؛ والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت مُسْتَعْتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار".

ووجدتُ كلّ خطبة مفتاحها الحمدً إلا خطبة العيد فإن مفتاحها التكبير. وتكبير الإمام في أن يَنزِل عن المِنْبر أربع عشرة تكبيرة.

خطبة لأبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه

حدثني أبو سَهْل قال: حدثني الطًنَافِسي عن محمد بن فُضَيلْ قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن عُكَيْم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحدَه وأن تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وتَخْلِطوا الرغبةَ بالرهبة، والإلحافَ بالمسألة؛ فإن اللّه أثنى على زكريا وأهله بيته فقال: "إنهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً". ثم اعلموا أن الله قد ارتهن بحقِّه أنفسَكم، وأخَذَ على ذلك مواثيقَكم، واشترى منكم القليلَ الفانيَ بالكثير الباقي. هذا كتابُ الله فيكم لا تَفْنَى عجائبُه ولا يُطفأ نورُه، فصدِّقوه وانتصِحُوه واستضِيئوا منه ليوم الظُّلمة. ثم اعلموا أنكم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غُيِّبَ علمُه عنكم، فإن استطعتم ألا ينقضَ إلا وأنتم في عملٍ لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا باللّه. فسابقوا في مَهَل؛ فإن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم ونسُوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالَهم، والوَحَا الوَحَا، والنجاءَ النجاءَ! فإن من ورائكم طالباً حثيثاً مَرّه، سريعاً سيره.

وفي غير هذه الرواية: أين مَنْ تعرِفون من إخوانكم! قد انتهت عنهم الأعمال، ووروا على ما قدموا وحلوا عليهم بالشْقوَة والسّعادة. أينَ الجَبّارون الني بَنَوا المدائنَ وحصَّنوها بالحوائط! قد صاروا تحتَ الصَخْر والآكام.

خطبة لأبي بكر أيضَاً رضي اللّه عنه

رواها إبراهيم بن محمد من ولد أبي زيد القارئ.

حَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن أشْقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسَهم؛ فقِال: ما لكم يا معشرَ الناس إنكم لطَعانون عَجِلون، إن المَلِك زهده اللّه فيما في يده، ورَغَبه فيما في يديْ غيره، وانتقصه شطرَ أجله، وأشرب قلبَه الإشفاقَ، فهو يحسد على القليل، ويتسخْط الكثير، ويسأم الرخاءَ، وتنقطع عنه لذة البهاء، لا يستعمِل العِبْرة ولا يسكُن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسِىّ والسّراب الخادع، جَذْل الظاهر حزين الباطن، فإذا وَجَبَتْ نفسُه ونَضَب عمرُه وضَحَا ظِلُّه، حاسَبَه اللّه فأشدّ حِسابَه وأقل عفَوه ألا إنّ الفقراء هم المرحومون، وخير الملوك من آمن باللّه، وحَكَم بكتاب اللّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوّة، ومَفْرِق مَحَجّة، وسَتَروْن بَعْدي مُلْكاً عضوضاً، وآفةً شَعَاعاً ودماً مُفَاحاً. فإن كانت للباطل نَزْوَة، ولأهل الحق جَوْلة؛ يعفو لها الأثَر، وتموت السُّنن فالزَمُوا المساجد، واستشِيروا القرآن، والزموا الجماعة. وليكن الإبرامُ بعد التشاوًر، والصفقة بعد طُول التناظُر، أي بلادكم خرسة فإن الله سيفتح عليكم أقصاها كما فتح أدناها.

 خطبة أبي بكر رضي اللّه عنه يوم سقيفة بني ساعدة

أراد عُمَر الكلامِ، فقال له أبو بكر: على رِسْلِك. نحنُ المهاجرون أوّلُ الناس إسلاماً، وأوْسَطُهم داراً، وأكرمُهم أحساباً، وأحسنُهم وُجوهاً، وأكثرُ الناس وِلايةً في العرب وأمسُّهم رَحِماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمَنا قبلكم، وقُدِّمْنا في القرآن عليكم، فأنتم إخوانُنا في الدِّين، وشركاؤنا في الفَيْء، وأنصارُنا على العَدُوّ، اويْتُم وواسَيْتُم، فجزاكم اللّه خيراً؛ نحن الأمَراءُ، وأنتم الوزراء لا تَدِينُ العربُ إلا لهذا الحَي من قرَيش، وأنتم محقوقون ألا تَنْفَسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم.

 خطبة لأبي بكر رضي اللّه عنه

الهيثم عن مُجالد عن الشِّعْبيّ قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه، صَعِد المنبرِ فنزل مَرْقاةً من مَقْعَد النبيّ صلى الله عليه وسلم فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني وَليتُ أمرَكُم ولست بخيرِكم، ولكنه نزل القرآن وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. اعلموا أيها الناس أن أكيس الكَيْس التُقَى، وأن أحمقَ الحُمْق الفُجُور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخُذَ له بحقه، وأضعفَكم عندي القويُ حتى آخذَ منه الحقّ، إنما أنا متبع ولست بمبتدِع، فإن حسنتُ فأعِينوني، وإن زُغْتُ فقوَموني. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

 خطبة لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

قال: ولما وَلي عمر صعِد المنبر وقال:

ما كان اللُه ليراني أرى نفسي أهلًا لمجلس أبي بكر، ثم نزل عن مجلسه مَرْقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اقرأوا القرآن تُعْرَفوا به، واعمَلوا به تكونوا من أهله. إنه لم يبلُغ حق ذي حقً أن يُطاعَ في معصيةِ الله. ألا وإني أنزلتُ نفسي من مال الله بمنزلة وَالي اليتيم: إن استغنَيْتُ عَفَفتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف تَقرمَ البَهْمَةِ الأعرابية: القَضْمَ لا الخَضْمَ.

خطبة لعثمان بن عفّان رضي اللّه عنه

قال: ولما وَلي عثمان صعِد المنبر فقال: رحمهما الله، لو جلسا هذا المجلس ما كان بذلك مِن بأس، فجلس على فِرْوة المنبر فرماه الناسُ بأبصارهم، فقال: إن أولَ مركب صعبٌ، وإن مع اليوم أياماً، وما كُنا خُطَباء، وإن نعشْ لكم تأتكم الخطبةُ على وجهها إن شاءً الله تعالى.

 خطبة لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه

خطب فقال: أما بعدُ، فإن الدنيا قد أدْبرتْ وآذنتْ بوَدَاع، وإن الآخرةَ قد أقبلتْ فأشرفتْ باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق. ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجَل، فمن قصر في أيام أمله بل حضور أجله فقد خَسِرَ عمله. ألاَ فاعمَلوا لله في الرغْبة كما تعمَلون له في الرهْبَة. ألا وإِنَي لم أرَ كالجنة نامَ طالبُها، ولا كالنار نام هاربُها. ألا وإنه مَن لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقِم به الهُدَى جارَ به الضلال. ألا وإنكم قد أمِرتم بالظعْن، ودُلِلتم على الزاد؛ وإن أخوفَ ما خافُ عليكم اتباعُ الهوى وطولُ الأمل.

 

خطبة عليّ عليه السلام بعد مقتل عثمان رضي اللّه عنه

أيها الناس، كتابَ الله وسنّةَ نبيكم. لا يذعي مدع إلا على نفسه. شُغِلَ مَن الجنة والنارُ أمَامَه. ساعٍ نَجا، وطالب يرجو، ومقَصَر في النار: ثلاثة؛ واثنان: مَلَكٌ طارَ بجَناحَيْه، ونبيّ أخذ اللّه بيديه، لا سادِسَ. هَلَك مَن اقتحم، ورَديَ مَن هوَى. اليمينُ والشِّمالُ مَضَلَّة، والوسْطى الجادَّةُ: مَنْهَج عليه باقي الكتاب وآثارُ النبوّة. إن اللهّ أدّب هذه الأمةً بأدبين: السوطِ والسيفِ فلا هَوَادَةَ فيهما عند الإمام. فاستتِروا ببيوتكم، واصْلحوا ذاتَ بَيِنْكم؛ والتوبة من ورائكم. مَن أبدى صَفْحته للحق هَلَك. قد كانت أمور مِلْتُم عليّ فيها مَيْلَةً لم تكونوا عندي محمودين ولا مًصيبين. واللِّه أن لو أشاءُ أن أقول لقلتُ. عفا الله عمّا سَلَف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكِروا. وإن عَرَفتم فارْوُوا. حق وباطل، ولكُل أهل. والله لئن أمِّرَ الباطلُ لَقَدِيماً فعل؛ ولئن أمَرَ الحق لَرب ولعل. ما أدبر شيءٌ فأقبل.

خطبة أيضاً لعليّ رضي اللّه عنه

خطب عليّ حين قُتِلَ عاملُه بالأنْبار فقال في خطبته: يا عَجَباً من جِدَ هؤلاء في باطلهم وفَشَلِكم عن حَقِّكم! فقًبْحاً لكم وتَرَحاً حين صِرت غَرَضاً يُرْمَى، يُغارُ عليكم ولا تُغِيرون، وتُغزَون ولا تَغزون، ويُعصَى اللُه وتَرضون. إن أمرتُكم بالمسير إليهم في الحر قلتم: حَمَارَة القَيْظ، أمهلنا حتى يَنْسلِخَ الحر، وإن أمرتُكم بالمسير إليهم في الشتاء قلتم: أمهِلْنا حتى ينسلِخَ الشتاء هذا أوانُ قر؛ كل هذا فِراراً من الحرّ والقُر، فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباهَ الرجال ولا رجال! أحلام الأطفال وعقول رَبَّاتِ الحِجَال؛ أفسدتُم علي رأي بالعِصْيان والخِذْلان، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شُجاعٌ ولكن لا عِلْمَ له بالحرب. لله أبوهم! هل منهم أحدٌ أشدُّ لها مِرَاساً وأطولُ تَجْرِبةً منِّي! لقد نهضت فيها وما بلغتُ العشرين فها أنا الآن قد نيّفتُ على الستين، ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع.

خطبة لمعاوية رحمة اللّه

بلغني عن شُعَيْب بن صَفْوَان قال: خطب معاوية فقال:

أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دَهْر عَنُود، وزَمن شديد، يُعَدُّ فيه المحسِنُ مُسيئاً، ويزدادُ الظالمُ فيه عُتُواً، لا ننتفع بما عَلِمنا، ولا نَسأل عما جَهِلْنا، ولا نتخوَّف قارِعةً حتى تَحُل بنا. فالناس أربعة أصناف: منهم مَن لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مَهانةُ نفسِه وكَلال حدَه ونَضِيض وَفْره؛ ومنهم المُصلِت لسيفه والمُجلِب بخيله ورَجْلِه والمُعلِن بشرِّه، قد أشْرَط نفسَه وأوْبق دِينَه لحُطَامٍ يَنتهِزه أو مِقْنَب يقوده أو مِنْبر يَفْرَعُه، ولبئس المَتْجَران تراهما لنفسك ثمناً ومما عند اللّه عِوَضاً. ومنهم مَن يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامَنَ من شخصه وقارَبَ من خَطْوه، وشفَر من ثوبه، وزَخرَفَ نفسَه للأمانة، واتخذ سِتر الله ذَرِيعةً إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضُؤُولةٌ في نفسه وانقطاع من سببه، فقصَر به الحال عن أمله، فتحلى باسم القناعة وتزيّن بِلباس الزُهّاد، وليس من ذاك في مَرَاحٍ ولا مَغذًى. وبقي رجَالٌ غضّ أبصارَهم ذكرُ المَرْجِع، وأراقَ دموعهم خوفُ المَحْشر فهم بين شَرِيد نَاد، وخائفٍ مُنقَمِع، وساكتِ مَكْعُوم، وداعٍ مُخْلِص، ومُوجَع ثَكْلَان، قد أخملْتهم التقيّة، وشَمِلَتْهم الذَلَة، فهم في بَحر أجَاج، أفواهُهم ضامرة، وقلوبُهم ضامرة، وقلوبُهم قَرِحَةٌ، قد وُعِظُوا حتى مَلوا، وقُهِروا حتى ذَلُّوا، وقتِلوا حتى قَلُّوا. فلتكنِ الدنيا في أعينكم أصغرَ من حًثَالة القَرَظ وقُرَاضة الجَلَم، واتعِظُوا بمَن كان قبلكم قبل أن يَتَعِظ بكم مَن بعدكم، وارفضوها ذَميمةً، فإنها قد رَفضتْ مَن كان أشغفَ بها منِكم.

خطبة ليزيد بن معاوية بعد موت معاوية

خَطَبَ فقال: إن معاوية كان حَبْلاً من حِبال الله، مده ما شاء أن يَمُده، ثم قطعه حينَ شاء أن يَقطَعه؛ وكان دونَ مَن قَبْله وهو خيرٌ ممن بعده، ولا أزَكًيه عند ربه وقد صار إليه فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبْه فبذنبه. وقد وَليتُ الأمرَ بعده، ولستُ أعتذر من جَهْل ولا أشتغل بطلب علم. وعلى رِسْلكم! إذا كَرِهَ الله أمراً غيّره.

خطبة لعُتْبة بن أبي سُفيان

أبو حاتم عن العُتْبيّ قال: احتبسَتْ كُتُب معاويةَ حتى أرْجَفَ أهلُ مصر بموته ثم ورد كتابه بسلامته، فصعِد عتبةُ المنبر والكتابُ في يده فقال: يا أهل مصرَ! قد طالت معاتبتُنا إياكم بأطراف الرِّماح وظُبَات السيوف حتى صِرْنَا شَجًى في لَهَواتِكم ما تُسِيغُنا حلوقُكم، وأقْذَاءً في أعيُنكم ما تَطْرِف عليها جفونُكم. فحين اشتدت عُرىَ الحق عليكم عَقْداً، واسترختْ عُقْدُ الباطل منكم حَلاً، أرجفتُم بالخليفة وأردتًم توهينَ السلطان وخُضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدمُ عهدكم به حديثَ! فارْبَحُوا أنفسَكم إذ خَسِرْتم دينَكم، فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخَبَر السار عنه والعهدِ القريب منه. واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم؛ فأصلِحوا لنا ما ظَهَر، نَكِلْكُم إلى الله فيما بَطَن؛ وأظهِرُوا خيراً وإن أسررتُم شراً فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون. وعلى الله نتوكل وبه نستعين.

خطبة لعُتْبة أيضاً

وبهذا الإسناد أن عُتبة خطب أهلَ مصر حين هاجوا فقال: يا أهل مصر، خف على ألسنتكم مدحُ الحق ولا تفعلونه، وذمُ الباطل وأنتم تأتُونه كالحِمَار يَحْمِل أسفاراً أثقله حَمْلُها ولم ينفعْه عِلْمها. وإني واللّه لا أداوِي أدواءَكم بالسيف ما اكتفيت السًوْط، ولا أبلغ السوطَ ما كفتني الدرَة، ولا أبطئ عن الأولى إن لم تصلحوا عن الأخرى؛ ناجزاً بناجز، ومَن حذّر كمن بشر فدعوا قال ويقول من قبل أن يقال فعل ويفعل فإن هذا اليوم الذي ليس فيه عِقَاب، ولا بعده عِتَاب.

خطبة لعبد اللّه بن الزُّبَيْر

خطب عبد اللّه بن الزُبير حين قُتِلَ أخوه مُصْعَب فقال:


الحمد للّه الذي يُعِز مَن يشاء وُيذِل مَن يشاء. إنه لن يذلّ من كان الحق معه وإن كان فَرْداً، ولن يعزَّ من كان أولياء الشيطان حزبه وإن كان معه الأنام. أتانا خبرٌ من قِبل العراق أجزَعَنا وأفرَحنا: قتلُ مُصْعَب رحمه الله. فأما الذي أحزنَنَا من ذلك فإن لفراق الحميم لَذْعَةً يَجِدها حميمُه عند المًصيبة به ثم يَرْعَوِي بعدها ذَوُو الرأي إلى جميل الصبرِ وكريم العزاء. وأما الذي أفرحنا من ذلك فعلمُنا أنّ قتله شهادة، وأن ذلك لنا وله الخِيَرَة. ألا إن أهل العراق أهلَ الشَقاق والنِّفاق باعوه بأقلّ ثمن كانوا يأخذونه به. إنا واللّه ما نموت حَبَجاً ولا نموتُ إلا قتلاً، قَعْصاً بالرماح تحتَ ظِلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان والله إنْ قُتِل رجلٌ منهم في جاهليّةٍ ولا إسلام. ألا إنما الدنيا عَارِيةٌ من الملك الأعلى الذي لا يَبِيدُ ذكرُه ولا يَذل سلطانُه، فإن تُقبِل علي لا آخُذْها أخْذَ البَطِر الأشِر، وإن تُدبر عني لا أبْكِ عليها بُكاءَ الخَرِف المُهْتَر. ثم نزل.

خطبة زياد البتراء

حدثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ عن أبي بكر بن أبي عاصم ببعضها، وحدثني أبي عن الهيثم بن عَدِي، قال: لما قدم زيادٌ أميراً على البَصْرة فنظر إلى أبياتها، قال: رُبَّ فَرحٍ بإمارتي لن تنفعَه، وكاره لها لن تَضُره؛ فدخل وعليه قَباء أبيض ورِداء صغير، فصعِد المنبر، فخطب الناسَ خطبة بتراء: لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أولَ من خطبها، ثم قال: أما بعد، فقد قال معاوية ما قد علِمتم، وشهِدت الشهودُ بما قد سمِعتم، وإنما كنت امرأً حَفظ الله منه ما ضَيّع الناسُ، ووَصَل ما قطعوا ألا وإنا قد وَلينا ووَليَنَا الوالون، وسسنا وساسنا السائسون، وإنا وجدنا هذا الأمرَ لا يُصلحه إلا شدّةٌ في غير عُنْف، ولينٌ في غير ضعف. وأيم اللهّ ما من كِذْبة أكبرُ شاهداً من كِذْبة إمام على منبر؛ فإذا سمعتموها منّي فاعتمِزُوها فيّ واعلموا أن عندي أمثالَها، وإذا رأيتموني آمر فيكم بالأمر فأنفِذوه على إذلاله. وايم الله إن لي فيكم لصَرْعىَ كثيرة، فليحذَرْ كلّ امرئ منكم أن يكون من صَرْعاي. وايمُ اللّه لآخُذن البريء بالسقيم، والمطيعَ بالعاصي، والمقبلَ بالمدبر، حتى تستقيمَ لي قَنَاتُكم، وحتى يقولَ القائل: "انْج سعد فقد قُتِل سُعَيْد!. فقال إليه عبد الله بن الأهْتم التميمي، فقال: أيها الأمير، أشهد أنك اوتيتَ الحكمةَ وفصلَ الخطاب. فقال له: كَذَبتَ، ذاك نبيّ الله داود. ثم قام إليه الأحنفُ فقال: إنما المرءْ بجده، والسيف بحَده، والجواد بشده، وقد بلغك جدُك أيها الأمير ما تري وإنما الحمدُ بعد البَلاَء، والثناءُ بعد العطاء، وإنا لا نُثْنِي حتى نَبْتَلي. ثم قام إليه مِرْداس بن أدَيّة، فقال: قد سمِعنا مقالتك أيها الأمير، وإنّ خليلَ الله إبراهيمَ عليه السلام أدىّ عن اللّه في الذي أديتَه، قال اللّه تعالى: "لا تَزِرُ وَازرَةٌ وِزْرَ أخْرَى" وأنت تزعُم أنك تأخُذ البريء بالسقيم، والمطيعَ العاصي، والمقبلَ بالمدبر. فقال له: اسكت، فواللّه ما أجِد إلى ما أريد سبيلاً، إلا أن أخوضَ إليه الباطلَ خوضاً. ثم نزل.

وقال في خطبة له أخرى: حَرامٌ عليّ الطعامُ والشرابُ حتى أسوِّيَها بالأرض هَدْماً وإحراقاً. إيّايَ ودَلَجَ الليل، فإني لا أوتَى بمُدلج إلا سَفَكتً مه، وإيّايَ ودَعْوَى الجاهليّة، فإني لا أجد أحداً دعَا بها إلا قطعتُ لسانَه. وقد أحدثتم أحداثاً، وأحدثنا لكل ذنبٍ عقوبة؛ فمن غَرق قوماً غَرقته، ومن أحرق قوماً أحرقتُه، ومن نَقَبَ بيتاً نقبتُ عن قلبه، ومَنْ نَبَش قبراً دفنتُه فيه حيًّاً؛ فكُفوا أيديكم وألسنتكم أكُفَ عنكم. وقد كانت بيني وبين أقوام منكم أشياءُ قد جعلتُها دَبْرَ أذني وتحت قَدَمِي، فمن كان محسناً فليزددْ، ومن كان مسيئاً فلينزعْ. إني لو علمتُ أن أحدكم قد قتله السل من بُغْضي لم أكشِف له قِناعاً ولما أهتِكْ له سِتْراً، حتى يُبديَ لي صَفْحتَه، فإذا فعل ذلك لم أناظره؛ فأعينوا على أنفِسكم وأتَنِفوا أمركم.

خطبة للحجاج حين دخل البصرة

دخل وهو متقلد سيفاً متنكِّبٌ قوساً عربية، فعلا المنبرَ فقال:

أنا ابن جَلا وطلاع الثـنَـايَا

 

مَتَى أضَع العمامةَ تعرِفُوني

إن أمير المؤمنين نَكَبَ عيدانَه بين يديه، فوجدني أمرها عُوداً وأصْلَبَها مَكْسِراً، فوجًهني إليكم. ألا فوالله لأعْصِبَنكم عَصْبَ السلَمة، ولألحُوَنكم لحْوَ العُود، ولأضرِبنكم ضربَ غرائبِ الإبل، حتى تستقيمَ لي قَنَاتُكم، وحتى يقولَ القائل: "أنْجُ سعدُ فقد قُتِل سعيدا". ألَا وإياي وهذه السقَفَاءَ والزَّرَافاتِ، فإني لا أوتَى بأحدٍ من الجالسين في زَرَافةٍ إلا ضربتُ عُنُقَه. هكذا حدثنيه أحمد بن سعيد عن أبي عُبَيد في كتاب غَرِيب الحديث. وقال لي غيره: هو إيايَ وهذه الشفَعاءَ والزَّرَافات. وقد فسرتُ الحديثَ في كتابي المؤلَّف في غريب الحديث.

خطبة للحجاج أيضاً

أرْجَف الناس بموت الحجاج، فخطب فقال: إن طائفةً من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نَزَغَ الشيطانُ بينهم، فقالوا: مات الحجاج ومات الحجاج! فَمْهْ! وهل يرجو الحجاج الخيرَ إلا بعد الموت! والله ما يسرني أموتَ وأنٌ لي الدنيا وما فيها! وما رأيت الله رضِيَ بالتخليد إلا لأهوِن خَلْقه عليه إبليس. ولقد دعا اللّه العبدُ الصالحُ فقال: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي"، فأعطاه ذلك إلا البقاء. فما عسى أن يكون أيها الرجل! وكلكمِ ذلك الرجل!. كأنَي والله بكلَ حي منكم ميتاً، وبكل رطب يابساً أفرُع طُولًا في ذِراع عَرْضاً، وأكلتِ الأرضُ لحمَه ومَضتْ صديدة وانصرف الحبيبُ من ولده يَقْسِم الخبيثَ من ماله؛ إن الذين يعقِلون يعلَمون ما أقول. ثم نزل.

خطبة أخرى للحجّاج حين أراد الحج

خطب فقال: أيها الناس إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني هذا، وأوصيته بخلاف ما أوصَى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في الأنصار؛ إن رسول الله أوصَى أن يُقبَلَ من مُحسنهم، وأن يُتجاوَز عن مُسيئهم؛ وإني أمرتُه ألّا يقبلَ من محسنكم ولا يتجاوزَ مسيئكم. ألَا وإنكم ستقولون بعدي مقالةً لا يمنعُكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعد لا أحسَنَ الله له الصَحابة! ألاَ وإني مُعجل لكم الجوابَ: لا أحسَنَ الله لكم الخِلاَفة. ثم نزل.

خطبة للحجاج أيضاً

من خطبة للحجاج وقول الحسن فيه خطب فقال في خطبته: سوْطي سيفي، فنِجَادةُ في عُنُقي، وقائمُه في يدي، وذُبَابه قلادة لمن اغتر بي! فقال الحسن: بُؤْساً لهذا! ما أغره بالله!.

بين رجل حلف بالطلاق أن الحجاج في النار وفتوى ابن سيرين وحلف رجل بالطلاق أن الحجاج في النار، ثم أتى امرأتَه فمنعته نفسها فأتى سِيرِين يستفتيه؛ فقال: يابن أخي، امض فكن مع أهلك، فإن الحجاجَ إن لم يكن في النار لم يَضُرك أن تَزنيَ.

خطبة لعمر بن عبد العزيز رحمة اللّه عليه

حدّثني أبو سَهْل عن إسحاق بن سليمان عن شُعَيب بن صَفْوان عن رجل من آل سَعِيد بن العاص، قال: كان آخر خطبةٍ خطب بها عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنْ حَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم لم تُخْلَقوا عَبَثاً، ولن تُتْركوا سدى، وإنّ لكم مَعاداً يَنزِل الله فيه للحكم فيكم لفصل بينكم، فخاب وخَسِر من خَرَج من رحمة الله وحُرِمِ جنةً عَرْضُها السمواتُ والأرضُ. ألم تعلموا أنه لا يأمَن غداً إلا من حَذِر اليومَ وخاف، وباع نافداً بباقٍ، وقليلاً بكثيرٍ، وخوفاً بأمانٍ؛ ألا ترون أنكم في أسْلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين كذلك، حتى تُرَدّ إلى خير الوارثين! ثم إنكم في كل يوم تُشيِّعون غادياً ورائحاً إلى اللّه قد قَضَى نَحْبَه، حتى تُغيَّبوه في سدْع من الأرض في بطن صَدْعِ غير موَسَّد ولا ممهَّد، قد فارَقَ الأحباب وباشرَ الترابَ وواجه حساَبَ، فهو مرتَهَنٌ بعمله، غني عما ترك فقير إلى ما قدمّ. فاتَقُوا اللهّ قبل انقضاء مَوَاقِيته ونزول الموت بكم! غَنيٌ عما ترك فقير إلى ما قدمّ. فاتَقُوا اللهّ قبل انقضاء مَوَاقِيته ونزول الموت بكم أمَا إني أقول هذا وما أعلم أنّ عند أحدٍ من الذنوب أكثرَ مما عندي، فأستغفر الله وأتوبُ به. ثم رفع طَرَفَ رِدائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.

خطبة لخالد بن عبد اللّه يوم عيد

خطب فذكر اللّه وجلالَه ثم قال: كنتَ كذلك ما شئتَ أن تكون، لا يَعلم كيف أنت إلا أنت، ثم ارتأيتَ أن تخلُقَ الخَلْق، فماذا جئتَ به من عجائب صُنْعك، والكبير والصغير من خلقك، والظاهر والباطن من ذرك: من صُنوف أفواجه وأفراعه وأزواجه، كيف أدمجتَ قوائم الذرة والبَعُوضة إلى ما هو أعظمُ من ذلك من الأشباح التي امتزجتْ بالأرواح!.

وخَطَب يوماً فسقطتْ جَرَادةٌ على ثوبه فقال: سبحانَ مَنِ الجرادةُ من خلقه، أدمَجَ قوائمها، وطوّقها جَنَاحها، ووَشى جلدَها، وسَفطها على ما هو أعظمُ منها.

خطبة للحجاج

خطب فقال: أيها الناس، احفَظُوا فُروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها، فإنها أسوكُ شيء إذا أعْطِيَتْ، وأعصَى شيء إذا سًئلت. وإني رأيت الصبر عن مَحَارِم اللهّ أيسَرَ من الصبر على عذاب اللّه.

خطبة سليمان بن عبد الملك

خطب فقال: إن الدارَ دارُ غُرورٍ ومنزلُ باطلٍ، تُضحك باكياً وتُبْكي ضاحكاً، وتُخيف آمناً وتُؤمن خائفاً، وتُفقر مُثرياً وتُثري مُقْتِراً، مَيالةٌ غَرارة لَعّابة بأهلها! عبادَ الله! اتَّخذوا كتاب الله إماماً، وارتضُوا به حَكَماً، واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخٌ لِمَا كان قبله ولم ينسَخْه كتابٌ بعده. اعلموا عبادَ اللّه أن هذا القران يجلو كَيْدَ الشيطان كما يجلو ضوءُ الصبح إذا تنفّس، ظلامَ الليل إذا عسعس.

خطبة يزيد بن الوليد بعد قتله الوليد

حمِد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله ما خرجت أشَراً ولا بَطَراً ولَا حِرْصاً على الدنيا ولا رغبةً في الملك، وما بي إطراءُ نفسي، وإني لظَلُومٌ لها إن لم يرحَمْني اللهّ، ولكن خرجت غَضَباً لله ودِينه، داعياً إلى اللّه وإلى سنة نبيه، لَمّا هُدمت معالمُ الهدى، وأطفئ نورُ أهل التقوى، وظَهَر الجبار العَنِيد، المستحِل لكل حُرْمة، والراكبُ لكل بِدْعة، الكافرُ بيوم الحساب، وإنه لابن عَمِّي في النًسَب وكَفِيئي في الحَسَب؛ فلمّا رأيتُ ذلك استخرتُ اللّه في أمره وسألته ألا يَكِلَني إلى نفسي، ودعوتُ إلى ذلك مَنْ أجابني من أهلا وِلايتي، حتى أراح الله. منه العبادَ، وطهّر منه البلاد، بحَوْله وقُوّته لا بحولي وقوتي.

أيها الناس، إنّ لكم! عليّ ألّا أضَعَ حَجَراً على حجر، ولا لَبِنةً على لبنة، ولا أكْرِي نهراً، ولا أكنِزُ مالًا، ولا أعطيه زوجاً ولا وَلَداً، ولا أنقُلُه من بلد إلى بلد حتى أسُد فقرَ ذلك البلد وخَصَاصةَ أهله، فإنْ فَضَلَ فضلٌ نقلتُه إلى البلد الذي يَلِيه. ولا أجَمَركم في بُعُوثكم فأفتنَكم وأفتِنَ أهليكم، ولا أغْلِق بابي دونكم فيأكُلَ قَوِيكم ضعيفكم، ولا أحمِلُ على أهل جِزْيتكم ما أجْليهم به عن بلادهم وأقطَعُ به نَسْلَهم. ولكم علي إدرارُ العَطَاء في كل سنةٍ والرزقِ في كل شهر، حتى يستويَ بكم الحال فيكونَ أفضلُكم كأدناكم. فإن أنا وَفَيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكانفة، وإن لم أفِ لكم فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحداً يقوم مَقَامي ممن يُعرف بالصَلاَحُ يعطيكم من نفسه مثلَ الذي أعطيتُكم فأردتم أن تُبايعوه، فأنا أولُ مَنْ بايعه ودَخَل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم.

فلما بُويع مَرْوانُ نَبَشَه وصَلَبه. وكانوا يقرأون في الكتب: يا مبذَر الكنوز ويا سجاداً بالأسحار، كانت ولايتُك لهم رحمةً وعليهم

حجة، أخذوك فصَلَبوك.

خطبة أبي حمزة الخارجيّ

خطب أبو حمزةَ الخارجي بمكة فذكر رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم،، ثم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بما هُمْ أهله، ثم قال: ووَلي عثمانُ فسار سِتَّ سنين بسِيرة صاحبَيْه وكان عونَهما، تم سار في الستّ الأواخر بما أحبط به الأوائل، ثم مضى لسبيله. ووَليَ عليٌ فلم يَبْلُغ من الحق قَصْداً ولم يرفِعْ له مناراً، ثم مضى لسبيله. ثم وَلي معاوية لَعِينُ رسولِ الله وابن لعينه، اتّخذ عبادَ الله خوَلاً، ومالَ الله دوَلاً، ودِينَه دَغَلا، ثم مضى لسبيله، فالعَنُوه لعنه الله. ثم ولي يزيدُ بن معاوية، يزيد الخمور، ويزيد القُرود، ويزيد الفهود، الفاسقُ في بَطْنه والمأبون في فَرْجه. ثم اقتصَّهم خليفةً خليفَةَ. فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرضَ عن ذكره. ثم ذكر يزيدَ بنَ عبد الملك فقال: يأكلُ الحرامَ، ويلبَس الحُلّة بألف دينار، قد ضُرِبَت فيها الأبشارُ، وهُتِكت الأستار، حَبَابةُ عن يمينه وسَلامة عن يَساره تغنَيانه، حتى إذا أخَذَ الشرابُ فيه كل مَأْخَذٍ قَد ثوبَه ثم التفتَ إلى إحداهما فقال: ألَا أطِير! نعم! طِرْ إلى النار. ثم ذكر أصحابَه فقال: شبابٌ والله مُكتهلون في شَبَابهم، غَضيضةٌ عن الشر أعينُهم، ثَقِيلة عن الباطل أرجلُهم، أنْضاءُ عِبادة، وأطْلاح سَهَر، ينظُرُ اللّه إليهم في جوف الليل مُنْحنِيةً أصلابُهم على أجزاء القرآن، قد أكلت الأرض رُكَبَهم وأيديَهم وجِبَاهَهم، واستقلُوا ذلك في جَنْب الله، حتى إذا رأوُا السهام قد فُوَقَتْ، والرماحَ قد أشْرِعتْ، والسيوفَ قد انتُضِيتْ. وأرْعدت الكتيبةُ بصواعق الموت، مضى الشاب منهم قدماً، حتى اختلفت رجلاه على عُنُق فرسه، وتخضبتْ محاسِنُ وجهه بالدماء، فأسرعت إليه سِباعُ الأرض وانحطَّتْ إليه طيرُ السماء، فكم من عيْنٍ في مِنْقار طائرٍ طالما بَكَى صاحبُها في جوف الليل من خوف اللّه! وكم من كف زَايَلَتْ مِعْصَمَها طالما اعتمَدَ عليها صاحبُها في جوف الليل بالسجود لله! ثم قال: اوه أوّه وبكى ثم نزل.

خطبة لقَطَرِيّ الخارجيّ

ذَكَر فيها الذي قالوا مَنْ أشد منا قوةً، فقال: حُمِلُوا إلى قُبُورهم فلا يُدْعَوْنَ رُكْباناً، وأنْزِلوا فلا يُدعون ضِيفاناً، وجعلوا لهمِ من الضًرِيح أجْناناً، ومن التراب أكفاناً، ومن الرفَ جِيراناً، فهم جِيرةٌ لا يُجيبون داعياَ ولا يَمنعون ضَيماً، إن أخصَبوا لم يفرحوا، أو أقحَطوا لم يَقْنَطوا؛ جميع أوحادٌ، وجِيرةٌ أبعاد، لا يَزُورون ولا يُزارون. فاحذَرُوا ما حَذّركم الله وانتفعوا بمَوَاعظه واعتصِموا بحبله.

وفي خطبة ليوسف بن عمر

اتقوا الله عبادَ الله! فكم من مُؤَمَل أملاً لا يبلُغه، وجاِمعٍ مالاً لا يأكله، ومانعٍ ما سوف يَتركُه، ولعله من باطل جَمَعَه، ومن حقٍّ مَنَعَه، أصابه حراماً ووَرَّثَه عدواً، إحتمل إصْرَه وباء بوِزْره، ووَرَد على ربّه آَسفاً لاهِفاً، قد خَسِر الدنيا والآخرةَ، ذلك هو الخُسْرانُ المبين.

وفي خطبة للحجاج

قال مالك بن دِينار: سمعته على المنبر يقول: امرأً زور عمله امرأً حاسَبَ نفسَه، امرأً فكر فيما يقرؤُه في صحيفته ويراه في مِيزانه، امرأً كان عند هواه زاجراً، وعند هَمَه آمراً، أخذ بعِنَان قلبه كما يأخُذ بخِطام جَمَله، فإن قاده إلى طاعة الله تَبِعه، وإن قاده إلى مَعْصِية الله كفه.

خطبة للمنصور

خطب المنصور بمكة فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطانُ الله في أرضه، أسوسُكم بتوفيقه وتَسْديده وتأيِيده وتَبْصيره، وخازنُه على فَيْئه أعمَلُ فيه بمشيئته، وأقْسِمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جَعَلني عليه قُفْلا إذا شاء أن يفتَحَني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفِلني عليها أقفلني. فارغَبُوا إلى الله واسألوه في هذا اليوم الشريف الني وهَبَ لكم فيه من فَضْله ما أعلمكم في كتابه، إذ يقول: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الِإسْلامَ دِينَاً" أن يُوَفقني للصَّواب والرشاد، ويُلْهِمَني الرأفةَ بكم والإحسانَ إليكم، ويَفْتَحَني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم بالعَدْل عليكم.

خطبة لداود بن عليّ

خطب فقال: أحرزَ لسانٌ رأسَه، اتعظ امرؤٌ بغيره، اعتبَرَ عاقل قبل أن يُعْتَبَر به، قأمسكَ الفَضْلَ من قوله وقدّم الفضلَ من عمله. ثم أخذ بقائم سيفه فقال: إن بكم داءً هذا عواؤُه، وأنا زعيمٌ لكم بشِفائه، وما بعد الوعيدِ إلّا الإيقاع.

خطبة لدواد بن عليّ أيضاً

لما قام أبو العبّاس في أول خِلافته على المنبر قام بوجهٍ كورقة المصحف فاستَحْيَا فلم يتكلَّم؛ فنَهَض داودُ بن عليّ حتى صَعِد المنبرة فقال المنصور: فقلت في شيخِنا وكبيرِنا ويدعو إلى نفسه فلا يختلف عليه اثنان، فانتضَيْتً سيفي وغَطيت ثوبي وقلتُ: إن فَعَلَ ناجزتُه، فلما رَقِيَ عَتَباً استقبل الناسَ بوجهه عون أبي العباس، ثم قال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يَكْرَه أن يتقدّم قولُه فعلَه، ولأثَر الفِعال عليكم أجْوَر من تَشْقيق المَقَال، وحسبكُم بكتابِ الله مُمْتَثَلاً فيكم، وابن عمّ رسولِ اللهّ خليفةً عليكم. والله قَسَماً بَرا لا أريد إلّا اللَه به ما قام هذا المقامَ أحد بعد رسول الله أحق به من عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا، فلَيظُنَّ ظانكم وليَهْمِسْ هامسُكم. قال أبو جعفر: ثم نزل وشِمْتُ سيفي.

 خطبة لأعرابيّ

أما بعد، فإن الدنيا دارُ بَلَاء والآخرةَ دارُ بقاء، فخُذُوا أيها الناس لمَقَرّكم من مَمَرّكم، ولا تهْتِكوا أستاركم عند من لا يَخْفَى عليه أسراركم، ففي الدنيا أحيِيتم ولغيرها خُلقتم. أقول قولي هذا، والمستَغْفَرُ اللّه، والمدعوُ له الخليفةُ ثم الأميرُ جعفر بن سليمان.

خطبة المأمون يوم الجمعة

الحمد لله مستخلِص الحمدِ لنفسه، ومستوجبه على خَلْقه، أحمدُه وأستعينُه وأومن به وأتوكَل عليه، وأشهَدُ إنْ لا إلهَ إلا اللُّه وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسولُ أرسله بالهُدَى ودِينِ الحق ليُظهِرَه على الدينِ كلَه ولو كَرِهَ المُشركون. أوصِيكم عِبادَ الله بتقوى الله وحدَه، والعمل لما عنده، والتنجُّز لوعده، والخوفِ لوعيده، فإنه لا يسلَم إلا من اتّقاه ورَجَاه، وعَمِل له وأَرْضاه. فاتَّقوا اللّه عبادَ اللّه وبادِرُوا آجالَكم بأعمالكم، وابتاعُوا ما يبقَى به يزولُ عنكم، وترحّلوا فقد جُدً بكم، واستعِدُوا للموت فقد أظلَّكم، وكُونوا قوماً صِيحَ بهم فانتبهُوا، وعلِموا أنّ الدنيا ليسْت لهم بدار فاستَبْدلواة فإنّ الله لم يخلُقْكم عبثاً ولم يترُكْ سُدًى؛ وما بين أحدِكم وبين الجنّة والنار إلا الموتُ أنْ يَنزِلَ به. وإنّ غايةً تنقصُها اللحظة وتَهدِمها الساعةً الواحدةُ لجديرة بقِصَر المُدّة، وإنّ غائباً يحدُوه الجديدانِ الليلُ والنهارُ لحرىِ بسُرعة الأوْبة، وإنّ قادماً يحُلّ بالفوز أو بالشِّقْوة لمستحِق لأفضل العدة، فتَقي عبدٌ ربَّه، ونَصَح نفسَه، وقَدّم توبته، وغَلَب شهوتَه، فإنّ أجلَه مستور عنه، وأملَه خادع له، والشيطان مُوكَّل به يُزَينُ له المعصيةَ ليركبها، وُيمَنِّيه التوبةَ ليُسَوّفها، حتىِ تهجُمَ عليه منيتُه أغفَل ما يكون عنها. فيا لها حسرةً على في غَفْلة: أن يكون عمرُه عليه حُجّةَ، أو تؤدَيهَ أيامُه إلى شْقْوة نسألُ الله يجعلَنا وإيّاكم ممن لا تُبطره نعمة، ولا تُقصَر به عن طاعته غَفْلة، ولا تُحلّ به بعد الموت فَزْعة، إنه سميع الدعاء، وبيده الخيرُ، وإنه فعال لما يُريد.

وفي خطبة المأمون يوم الأضحى بعد التكبير الأوّل

إنَ يوصكم هذا يومٌ أبانَ الله فضلَه، وأوجبَ تشريفَه، وعَظّم حُرْمته، ووَفَق له من خَلا صفوتَه، وابتَلَى فيه خليلَه، وفَدَى فيه من الذَبْح نبئه، وجعله خاتمَ الأيام المعْلومات من العَشْر ومتقدَم الأيام المعدودات منِ النفْر؛ يومٌ حرامٌ من أيام عِظام في شهرَ حَرَام، يومُ الحجِّ الأكبر يومٌ دعا اللُّه إلى مَشْهَده، ونزَل القرآنُ بتعظيمه، قال اللهّ جلّ وعزّ: "وَأذِّنْ في الناس بالحج"َ؛ الآيات؛ فتقربوا إلى اللّه في هذا اليوم بذبائحكم، وعَظِّموا شعائرَ الله واجعلوها من طَيبِ أموالَ وبصحّة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: "لَنْ يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التًقْوَى مِنْكُمْ"، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار: عَظُمَ قدرُ الدارين وارتفع جزاءُ العملين وطالت مدّة الفريقين الله للّه! فوالله إنه الجِدُ لا اللعِبُ، وإنه الحقُّ لا الكذِب، وما هو إلا الموت والبَعْث والمِيزان والحِساب والقِصَاص والصَراط ثم العقاب والثَواب، فمن نَجَا يومئذٍ فقد فاز، ومن هَوَى يومئذ فقد خاب. الخيرً كلّه الجنّة، والشر كله في النار.

وفي خطبة المأمون يوم الفطر بعد التكبير الأوّل

إنّ يومكم هذا يومُ عِيدٍ وسُنَّة وابتهال ورغبة، يومٌ خَتَم الله به صيامَ شهر رمضان وافتتح به حجَّ بيته الحَرَام، فجعله خاتمةَ الشهر وأوّلَ أيام شهور الحجّ، وجعله مُعقِّباً لمفروض صيامكم ومنتفَل قيامكم، أحل فيه الطعامَ لكم وحَرم فيه الصيامَ عليكم؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكَم استغفروه لتفريطكم، فإنه يُقال: لا كبيرَ مع استغفار، ولا صغير مع إصرار. ثم التكبير والتحميد وذكر النبيّ عليه السلام والوصية بالتقوى. ثم قال: فاتقوا الله عبادَ الله وبادروا الأمرَ الذي اعتدَلَ فيه يقينُكم، ولم يتحضِر الشكُ فيه أحداً منكم، وهو الموت المكتوبُ عليكم، فإنه لا تُستقالُ بعده عَثْرةٌ، ولا تُحْظَر قبله توبة. واعلموا أنه لا شيءَ قبله إلا دونَه ولا شيءَ بعده إلا فوقَه. ولا من على جَزَعه وعَلَزه وكُرَبه، ولا يُعين على القبر وظُلْمته وضِيقه ووَحْشته وهَوْل مَطْلَعه ومسألة ملائكته، إلا العملُ الصالحُ الذي أمر اللّه به. فمن زَلَّت عند الموت قَدَمُه، فقد ظهرت ندامتُه، وفاتته استقالتُه، ودعا من الرَّجْعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذَلَ من الفِدْية ما لا يُقْبَلُ منه. فالله اللَّه عبادَ اللهّ! وكونوا قوماً سألوا الرَّجْعةَ فأعْطُوها إذ مُنِعَهَا الذين طَلَبوها فإنه ليس يتمنَى متقدون قبلكم إلا هذا المهلَ المبسوطَ لكم. واحذَرُوا ما حذَّركم الله، واتَقوا اليومَ الذي جمَعُكم الله فيه لوَضْع مَوَازينكم، ونَشْر صُحُفكم الحافِظةِ لأعمالكم. فلينظُرْ عبدٌ ما يَضَعُ في زاده مما يثقل به، وما يًمِلُ في صحيفته الحافِظة لما عليه وله؛ فقد حَكَى الله لكم ما قال مفرطون عندها إذ طال إعراضُهم عنها، قال: "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقِينَ مما فيه"! الآية. وقال: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْم الْقِيَامَةِ". ولستُ أنهاكم عن الدنيا بأعظمَ مما نهتْكم الدنيا عن نفسها، فإنه كل ما لها ينهَى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها. وأعظمُ ما رأته أعينكم من عجائبها فمُّ كتاب اللّه لها ونَهْيُ اللّه عنها، فإنه يقول: "فَلَا تَغُرنًكُمُ الحَيَاة الدنْيَا وَلاَ يَغُرنكُمْ بِالله الغَرُورُ" وقال: "إنمَا الْحَيَاةُ الدُنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ" الآية. فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلَموا أنّ قوماً من عباد اللهّ أدركتُهم عِصمةُ اللّه فحذِروا مَصَارِعَها، وجانَبُوا خدائعها، وآثروا طاعةَ الله فيها، فأدركوا الجنَّة بما تركوا منها.

كلام مَنْ أرتِجَ عليه

لعيسى بن عمر حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: خَطَب أميرٌ مرّةً فانقطع فخجِل، فبعث إلى قوم من القبائل عابوا ذلك وَلفَهم، وفيهم يَرْبوعِي جَلْد، فقال: اخطُبُوا؛ فقام واحدٌ فمرّ في الخطبًة، حتىٍ إذا بلغ "أما بعد" قال: أما بعد أما بعد، ولم يدرِ ما يقول: ثم قال: فإنّ امرأتي طالق ثلاثا، لم أرِد أن أجمع اليوم فمنْعتني.

وخطب آخر، فلما بلغ "أما بعد" بَقِي ونَظرَ فإذا إنسان ينظر إليه، فقال: لعنك الله! تري ما أنا فيه وتَلْمَحني ببصرك أيضاً.
قال: وقال أحدهم: رأيتُ القَرَاقير من السُّفُن تجرِي بيني وبين الناس.

قال: وصَعِد اليربوعيً فخطب فقال: أمّا بعدُ فوالله ما أدرِي ما أقولُ ولا فِيمَ أقمتموني. أقول ماذا. فقال بعضهم: قل في الزيت؛ فقال: الزيتُ مبارك، فكُلُوا منه وادّهِنوا. قال: فهو قولُ الشُطَار اليوم إذا قيل: لم فعلت ذا فقل في شأن الزيت وفي حال الزيت.
ليزيد بن أبي سفيان ولما أتى يزيدُ بن أبي سُفْيان الشأم والياً لأبي بكر رضي الله عنه، خطب فأرتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: يا أهل الشأْم عسى الله أن يجعل من بعد عسرٍ يُسراً، ومن بعد عِيً بياناً، وأنتم إلى إمامٍ عادل أجوجُ منكم إلى إمام قائل. ثم نزل. فبلغ ذلك عَمرو بن العاص فاستحسنه.

لثابت قطنة بسجستان صعِد ثابتً قُطْنَة منبراً بسِجِسْتان فحمِد الله ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول:

فإلا أكُنْ فيكم خطيباً فإنّـنـي

 

بسيفي إذا جَدّ الوَغَي لخَطَيبُ

فقيل له: لو قلتَها على المنبر كنتَ أخطبَ الناس.

لعبد اللّه بن عامر بالبصرة وأرتج على عبد اللهّ بن عامر بالبَصْرة يومَ أضْحَى، فَمكَث ساعةً ثم قال: والله لا أجمَعُ عليكم عِيًّا ولُؤماً، من أخَذَ شاةً من السوق فهي له وثمنُها عليّ.

لخالد بن عبد اللّه القسري وارتج على خالد بن عبد اللّه القَسْرِيّ فقال: إن هذا الكلامَ يجيء أحياناً ويعزُبُ أحياناً، وربما طُلِب فأبَى، وكُوبِرَ فعسا، فالتّأنِّي لمجيّه، أيسرُ من التَّعاطِي لأبيه؛ وقد يَختَلِط من الجريء جَنَانهُ، وينقطع من الذَرِب لسانُه، فلا يُبْطره ذلك ولا يَكْسِره؛ وسأعودُ إن شاء الله.

لمعَن بن زائمة وأرتج على مَعن بن زائدة فضرب المنبر برجله ثم قال: "فَتَى حُرُوبٍ لا فَتَى مَنَابر".

لعبد ربه اليشكريّ وكان عبد ربه اليَشْكُريّ عاملاً لعيسى بن موسى على المدائن، فصعِد المنبرَ فحمِد الله وارتج عليه فسكت، ثم قال: والله إني لأكون في بيتي فتجيءُ على لساني ألفُ كلمة، فإذا قمتُ على أعوادكم هذه جاء الشيطانُ فمحاها من صَدْري، ولقد كنتُ وما في الأيّام أحب إلي من يوم الجمعة، فصِرْتُ وما في الأيام يوم أبغضُ إلي من يوم الجمعة، وما ذلك إلاّ لخطبتكم هذه. لروح بن حاتم صَعِدَ رَوْح بن حاتم المنبَر، فلما رأى جَمْعَ الناس حَصِر، فقال: نَكَسوا رؤوسَكم وغُضُوا أبصاركم، فإن أوّلَ مَرْكبٍ صعْب، وإذا يسر اللّه فَتْحَ قُفْل تيسر.

رجل دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه ودُعِي رجلٌ ليخطب في نكاح فحَصِر، فقال: لَقَنوا موتاكم شهادةَ أنْ لا إلهَ إلا الله. فقالت امرأةٌ حضرتْ: ألهذا دعوناك! أماتك الله!.

لعبيد اللّه بن زياد، ولعبد الملك قال عُبَيد الله بن زِياد: نِعْمَ الشيءُ الإمارةُ لولا قعقعةُ البريد والتشرُف للخُطَب.
قيل لعبد الملك: عَجل عليك الشَّيبُ؛ فقال: كيف لا يُعجل علي وأنا أعرِض عقلي على الناس في كل جمعة مَرةً أو مرتين.
للدندان الهاشمى ووَليَ رجل من بني هاشم يُعْرَف بالدَنْدَان بحر اليمامة، فلما صعِد المنبر أرتج عليه فقال: حيا اللهّ هذه الوجوهَ وجعلني فِداءَها، إنَي قد أمرتُ طائفي بالليل ألا يرى أحداً إلا أتاني به وإن كنت أنا هو ثم نزل.

المنابر

قال بعض المفسرين في قول اللّه جل وعزّ "ومَقَامٍ كَرِيم"؛ إنه المنبر. وقال: الشاعر:

لنا المساجدُ نَبْنِيها ونَعْمُرُها

 

وفي المنابر قَعْداتٌ لنا ذُلُلُ

فلا نَقِيلُ عليها حين نركَبُها

 

ولا لهنّ لنا من مَعْشرٍ بَدَلُ

وقال الكُمَيْت يذكر بني أمية:

مُصيبٌ على الأعوادِ يومَ ركُوبِهِ

 

لِمَا قال فيها مخطئ حين ينزِلُ

يُشَبِّهها الأشباهَ وهي نَصِـيبُـه

 

له مَشْرَب منها حرامٌ ومأكَـلُ

وقال بعض المُحْدَثين :

فما مِنبرٌ دنسته باستِ لا أفكل

 

بِزَاكٍ ولو طهّرتَه بابن طاهر

للأقيشر ومرّ الأقَيْشِر بمَطَر بن نَاجِية اليربوعي حين غَلَبَ على الكُوفة في أيام الضًحاك بن قيس الشّارِي ومَطَرٌ يخطُبُ، فقال:

أبني تَميم ما لمنبر ِمُلْكـكـم

 

لا يستمِرّ قعوده يتَمـرْمَـرُ

إنّ المنابرَ أنكرتْ أشباهَكـم

 

فادعُوا خُزَيْمةَ يستقِرّ المنبرُ

خلعُوا أمِيرَ المؤمنين وبايَعُوا

 

مَطَراً لعمرُك بَيْعةً لا تظهرُ

واستخلفوا مطراً فكان كقائلٍ

 

بَدَلٌ لعمرُك من أمَيّة أعورُ

لقتيبة بن مسلم وقد سقط القضيب من يده وهو يخطب خَطَب قُتَيْبة بن مُسْلم على منبر خُرَاسان فسَقَط القضِيبُ من يده، فتفاءل له عدوّه بالشرّ واغتمّ صديقُه، فعَرَف ذلك قُتَيبة فقال: ليس الأمرُ على ما ظَنّ العدوّ وخاف الصديقُ، ولكنه كما قال الشاعر:

فألقتْ عَصَاها واستقرّ بها النَّوَى

 

كما قَرّ عَيْناً بالإيابِ المُسافـرُ

لواثلة بن خليفة يهجو عبد الملك بن المهلب وقال واثلةُ بن خَلِيفة السًدُوسيّ يهجو عبد الملك بن المُهَلَب:

لقد صَبَرتْ للذُّلِّ أعواد منـبـرٍ

 

تقوم عليها في يديك قـضـيبُ

بكى المنبرُ الغربيُ إذ قُمْتَ فوقَه

 

وكادت مساميرُ الحديد تـنـوبُ

تم كتاب العلم وهو الكتاب الخامس من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله، ويتلوه في الكتاب السادس كتاب الزهد.
والحمد للهّ رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين.