الجزء الأول - يوم فحل من الأردن

يوم فحل من الأردن

قالوا: وكان وقعة فحل من الأردن لليلتين بقيتا من ذي القعدة، بعد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخمسة أشهر، وأمير الناس أبو عبيده ابن الجراح. وكان عمر قد كتب إليه بولايته الشام وإمرة الأمراء مع عامر بن أبي وقاص أخي سعد بن أبي وقاص.

وقوم يقولون: إن ولاية أبي عبيده الشام أتته والناسمحاصرون دمشق، فكتمها خالداً أياماً، لأن خالداً كان أمير الناس في الحرب. فقال له خالد: ما دعاك رحمك الله إلى ما فعلت؟ قال: كرهت أن أكسرك وأوهن أمرك وأنت بأجزاء عدو.

وكان سبب هذه الوقعة أن هرقل لما صار إلى إنطاكية استنفر الروم وأهل الجزيرة، وبعث رجلاً من خاصته وثقاته في نفسه. فلقوا المسلمين بفحل من الأردن، فقاتلوهم أشد قتال وأبرحه حتى أظهرهم الله عليهم. وقتل بطريقهم وزهاء عشرة آلاف معه، وتفرق الباقون في مدن الشام، ولحق بعضهم بهرقل، وتحصن أهل فحل فحصرهم المسلمون حتى سألوا الأمان على أداء الجزية عن رؤوسهم والخراج عن أرضهم، فأمنوهم على أنفسهم وأموالهم، وأن لا تهدم حيطانهم. وتولى عقد ذلك أبو عبيده بن الجراح، ويقال: تولاه شرحبيل ابن حسنة.

أمر الأردن

حدثني حفص بن عمر العمري.

عن الهيثم بن عدي قال: افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن عنوة ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم.

وحدثني أبو حفص الدمشقي عن سعيد بن عبد العزيز التنوحي،  عن عدة منهم أبو بشر مؤذن مسجد دمشق أن المسلمين لما قدموا الشام كان كل أمير منهم يقصد لناحية ليغزوها ويبث غارته فيها. فكان عمرو بن العاص يقصد لفلسطين وكان شرحبيل يقصد الأردن وكان يزيد بن أبي سفيان يقصد ارض دمشق. وكانوا إذا اجتمع لهم الدو اجتمعوا عليه، وإذا احتاج أحدهم إلى معاضدة صاحبه وإنجاده سارع الى ذلك. وكان أميرهم عند الإجتماع في حربهم، أول أيام أبي بكر رضي الله عنه، عمرو بن العاص حتى قدم قدم خالد بن الوليد الشام فكان أمير المسلمين في كل حرب. ثمولي أبو عبيدة بن الجراح أمر الشام كله وإمرة الأمراء في الحرب والسلم من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه لما استخلف كتب إلى خالد نعزله وولى أبا عبيدة.

ففتح شرحبيل بن حسنة طبرية صلحاً بعد حصار أيام، على أن أمن أهلها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكنائسهم ومنازلهم إلا ما جلوا عنه وخلوه، واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً ثم إنهم نقضوا في خلافة عمر واجتمع إليهم قوم من الروم وغيرهم، فأمر أبو عبيدة عمر بن العاص بغزوهم، فسارع إليهم في أربعة آلاف ففتحها على مثل صلح شرحبيل. ويقال بل فتحها شرحبيل ثانية. وفتح شرحبيل جميع مدن الأردن وحصوتها على هذا الصلح فتحاً يسيراً بغير قتال: ففتح بيسان وفتح سوسيه وفتح فيق وجرش وبيت رأس وقدس والجولان وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها.

قال أبو حفص: قال أبومحمد سعيد بن عبد العزيز: وبلغني أن الوضين بن عطاء قال: فتح شرحبيل عكا وصور وصفورية.

وقال أبو بشر الؤذن: إن أبا عبيدة وجه عمرو بن العاص إلى سواحل الأردن فكثر به الوم وجاءهم المدد من ناحية هرقل وهو بالقسطنطينية. فكتب الى أبي عبيدة يستمده. فوجه أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان. فسار يزيد وعلى مقدمته معاوية أخوه. ففتح يزيد وعمرو سواحل الأردن فكتب أبو عبيدة بفتحها لهما ،وكان لمعاوية في ذلك بلاء حسن وأثر جميل.

وحدثني أبو اليسع الأنطاكي عن أبيه. عن مشايخ أهل أنطاكية والأردن قالوا: نقل معاوية قوماً من فرس بعتبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها سنة اثنتين وأربعين. ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى انطاكية في هذه السنة أو قبلها أو بعدها بسنة جماعة. فكان من قواد الفرس مسلم بن عبد الله جد عبد الله بن حبيب بن النعمان بن مسلم الأنطاكي.

وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي، وأخبرني هشام بن الليث الصوري.

عن مشايخ أهل الشام قالوا: رم معاوية عكا عند ركوبه منها إلى قبرص ورم صور. ثم إن عبد الملك بن مروان جددها وقد كانتا خربتا.

وحدثني هشام بن الليث قال: حدثني أشياخنا قالوا: نزلنا صور والسواحل وبها جند من العرب وخلق من الروم. ثم نزع إلينا أهل بادان شتى فنزلوها معنا وكذلك جميع سواحل الشام.
وحدثني محمد بن سهم الأنطاكي.

عن مشايخ أدركهم قالوا: لما كانت سنة تسع وأربعين خرجت الروم إلى السواحل وكانت الصناعة بمصر فقط. فأمر معاوية بن أبي سفيان بجمع الصناع النجارين فجمعوا ورتبهم في السواحل. وكانت الصناعة في الأردن بعكا.

قال : فذكر أبو الخطاب الأزدى أنه كانت لرجل من ولد أبي معيط بعكا أرجاء ومستغلات . فأراده هشام بن عبد الملك على أن يبيعه إباها ، فأبى المعيطى ذلك عليه . فنقل هشام الصناعة إلى صور ،واتخذ فندقا" ومستغلاً.

وفال الواقدى : لم تزال المراكب بعكا حتى ولّى بنو مروان فنقلوها إلى صور ، فهي بصور إلى اليوم. وأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله في سنة سبع وأربعين ومائتين بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل وشحنها بالمقاتلة.

يوم مرج الصفر

قالوا: ثم اجتمعت الروم جمعاً عظيماً وأمدهم هرقل بمددٍ. فلقيهم المسلمون بمرج الصفر وهم متوجهون إلى دمشق، وذلك لهلال المحرم سنة أربع عشرة. فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى جرت الدماء في الماء وطحنت بها الطاحونة، وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف. ثم ولى الكفرة منهزمين مفلولين لا يلوون على شيء، حتى أتوا دمشق وبيت المقدس. واستشهد يومئذ خالد ابن سعيد بن العاص بن أمية، ويكنى أبا سعيد. وكان قد أعرس في الليلة التي كانت الوقعة في صبيحتها بأم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي امرأة عكرمة بن أبي جهل. فلما بلغها مصابه انتزعت عمود الفسطاط فقاتلت به. فيقال إنها قتلت يومئذ سبعة نفر وإن بها لردع الخلوق.

وفي رواية أبي مخنف أن وقعة المرج بعد أجنادين بعشرين ليلة، وأن فتح مدينة دمشق بعدها، ثم بعد فتح مدينة دمشق وقعة فحل. ورواية الواقدي أثبت.

وفي يوم المرج يقول خالد بن سعيد بن العاص:

من فارسٌ كره الطعان يعيرني

 

رمحاً إذا نزلوا بمرج الصفر

وقال عبد الله بن كامل بن حبيب بن عمير بن خفاف بن امرئ القيس ابن بهثة بن سليم:

شهدت قبائل مالكٍ وتغـيبـت

 

عني عميرة يوم مرج الصفر

يعني مالك بن خفاف.

وقال هشام بن محمد الكلبي: استشهد خالد بن سعيد يوم المرج، وفي عنقه الصمصامة سيفه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إلى اليمن عاملاً، فمر برهط عمرو بن معدي كرب الزبيدى من مذ حج، فأغار عليهم، فسبا امرأة عمروٍ وعدةً من قومه، فعرض عليه عمرو أن يمن عليهم ويسلموا، ففعل وفعلوا، فوهب له عمرو سيفه الصمصامة وقال:

خليلٌ لم أهبه مـن قـلاه

 

ولكن المواهب للـكـرام

خليلٌ لم أخنه ولم يخـنـي

 

كذلك ما خلالي أو تدامي

حبوت به كريماً من قريشٍ

 

فسر به وصين عن الليام

قال: فأخذ معاوية السيف من عنق خالد يوم المرج حين استشهد فكان عنده، ثم نازعه فيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمبة فقضى له به عثمان، فلم يزل عنده. فلما كان يوم الدار وضرب مروان على قفاه وضرب سعيد فسقط صريعاً، أخذ الصمصامة منه رجلٌ من جهينة فكان عنده. ثم إنه دفعه إلى صيقلٍ ليجلوه، فأنكر الصيقل أن يكون للجهنى مثله، فأتى به مروان بن الحكم وهو والي المدينة. فسأل الجهنى عنه فحدثه حديثه فقال: أما والله لقد سلبت سيفي يوم الدار، وسلب سعيد بن العاص سيفه. فجاء سعيد فعرف السيف فأخذه وختم عليه، وبعث به إلى عمرو بن سعيد الأشدق وهو على مكة. فهلك سعيد فبقى السيف متاعه، فأخذ السيف محمد بن سعيد أخو عمرو لأبيه. ثم صار إلى يحيى ابن سعيد. ثم مات فصار إلى عنبسة بن سعيد أخو عمرو لأبيه. ثم صار إلى يحيى ابن سعيد. ثم هلك فصار إلى محمد بن عبد الله بن سعيد، وولده ينزلون ببارق. ثم صار إلى أبان بن سعيد، فحلاه بحلية ذهب فكان عند أم ولد له. ثم إن أيوب بن أبي أيوب بن سعيد بن عمرو بن سعيد باعه من المهدي أمير المؤمنين بنيف وثمانين ألفاً، فرد المهدي حليته عليه. ولما صار الصمصامة إلى موسى الهادي أمير المؤمنين أعجب به وأمر الشاعر، وهو أبو الهول أن ينعته فقال:

حاز صمصامة الزبيدي عمـروٍ

 

خير هذا الأنام موسـى الأمـين

سيف عمروٍ وكان فيما علمـنـا

 

خير ما أطبقت عليه الجـفـون

أخضر اللون بـين حـديه بـردٌ

 

من ذع أف تميس فيه المـنـون

فإذا ما سللـتـه بـهـر الـشـم

 

س ضياءً فلم تكد تـسـتـبـين

ما يبالي إذا الضـريبة حـانـت

 

أشمالٌ سـطـت بـه أم يمـين

نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي

 

جا بعصا به ونـعـم الـقـرين

ثم إن أمير المؤمنين الواثق بالله دعي له بصقيل وأمره أن يسقنه، فلما فعل ذلك تغير.