الجزء الأول - يوم اليرموك

يوم اليرموك

قالوا: جمع هرقل جموعاً كثيرة من الروم وأهل الشام وأهل الجزيرة وأرمينية تكون زهاء مائتي ألف، وولى عليهم رجلاً من خاصته، وبعث على مقدمته جبلة بن الأيهم الغساني في مستعربة الشام من لخم وجذام وغيرهم، وعزم على محاربة المسلمين، فإن ظهروا وإلا دخل بلاد الروم فأقام بالقسطنطينية. واجتمع المسلمين فزحفوا إليهم، فاقتتلوا على اليرموك أشد قتال وأبرحه. واليرموك نهر. وكان المسلمون يومئذ أربعة وعشرين ألفاً. وتسلسلت الروم وأتباعها يومئذ لئلا يطمعوا أنفسهم في الهرب، فقتل الله منهم زهاء سبعين ألفاًً، وهرب فلهم فلحقوا بفلسطين وإنطاكية وحلب والجزيرة وأرمينية. وقاتل يوم اليرموك نساءٌ من نساء المسلمين قتالاً شديداً، وجعلت هند بنت عتيبة أم معاوية بن أبي سفيان تقول: عضدوا الغلفان بسيوفكم. وكان زوجها أبو سفيان خرج إلى الشام تطوعاً وأحب مع ذلك أن يرى ولده وحملها معه، ثم إنه قدم المدينة فمات بها سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، ويقال إنه مات بالشام. فلما أتى أم حبيبة بنته نعيه دعت في اليوم الثالث بصفرة فمسحت بها ذراعيها وعارضتها وقالت: لقد كنت عن هذا عنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تحد امرأة على ميت سوى زوجها أكثر من ثلاث. ويقال: إنها فعلت هذا الفعل حين أتاها نعي أخيها يزيد. والله أعلم.

وكان أبو سفيان بن حرب أحد العوران، ذهبت عينة يوم الطائف.

قالوا: وذهب يوم اليرموك عن الأشعث بن قيس، وعين هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص الزهري، وهو المر قال، وعين قيس بن مكشوح.

واستشهد عامر بن أي وقاص الزهري، وهو الذي كان قدم الشام بكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيده بولايته الشام. ويقال بل مات في الطاعون. وقال بعض الرواة: استشهد يوم أجنادين. وليس ذلك بثبت. قال: وعقد أبو عبيده لحبيب بن مسلمة الفهري على خيل الطلب، فجعل يقتل من أدرك. وأنحاز جبلة بن الأيهم إلى الأنصار فقال: أنتم اخوتنا وبنو أبينا. وأظهر الإسلام. فلما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام سنة سبع عشرةً لاحى جبلة رجلاً من مزينة فلطم عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه فقال: أوعيته مثل عيني؟ والله لا أقيم ببلد على به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتداً. وكان جبلة ملك غسان بعد الحارث بن أبي شمر.

وروى أيضا أن جبلة أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على نصرا نيته. فعرض عمر عليه الإسلام وأداء الصدقة فأبى ذلك وقال: أقيم على ديني وأؤدي الصدقة. فقال عمر: إن أقمت على دينك فأد الجزية، فأنف منها. فقال عمر: ما عندنا لك إلا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت. فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفاً. فلما بلغ ذلك عمر ندم. وعاتبه عبادة بن الصامت فقال: لو قبلت منه الصدقة ثم تألفنه لأسلم. وإن عمر رضي الله عنه وجه في سنة إحدى وعشرين عمير بن سعد الأنصاري إلى بلاد الروم في جيش عظيم وولاه الصائفة. وهي أول صائفة كانت، وأمره أن يتلطف لجبلة بن الأيهم ويستعطفه بالقرابة بينهما ويدعوه إلى الرجوع إلى بلاد الإسلام، على أن يؤدى ما كان بذل من الصدقة ويقيم على دينه. فسار عمير حتى دخل بلاد الروم، وعرض على جبلة ما أمره عمر بعرضه عليه، فأبى إلا المقام في بلاد الروم. وانتهى عمير إلى موضع يعرف بالحمار، وهو وادٍ، فأوقع بأهله وأخربه. فقيل: أخرب من جوف حمار.

قالوا: ولما بلغ هرقل خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده هرب من إنطاكية إلى قسطنطينية. فلما جاوز الدرب قال: عليك يا سورية السلام! ونعم البلد هذا للعدو. يعني أرض الشام لكثرة مراعيها.

وكانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة.

قال هشام بن الكلبي: شهد اليرموك حباش بن قيس القشيري، فقتل من العلوج خلقاً، وقطعت رجله وهو لا يشعر. ثم جعل ينشدها. فقال سوار ابن أوفى:

ومنا ابن عتابٍ وناشد رجـلـه

 

ومنا الذي أدى إلى الحي حاجباً

يعني ذا الرقيبة.

وحدثني أبو حفص الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانو أخذوا منهم من الخراج وقالوا: شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن تغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فأنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. فلما هزم الله الكفرة وأطهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدوا الخراج.

وسار أبو عبيده إلى جند قنسرين وإنطاكية ففتحها.

وحدثني العباس بن هشام الكلبي عن أبيه، عن جده قال: أبلى السمط بن الأسود الكندي بالشام وبحمص خاصة وفي يوم اليرموك. وهو الذي قسم منازل حمص بين أهلها. وكان ابنه شرحبيل بن السمط بالكوفة مقاوماً للأشعث بن قيس الكندي في الرياسة. فوقد السمط إلى عمر فقال له: يا أمير المؤمنين! إنك لا تفرق بين السبي، وقد فرقت بيني وبين ولدي، فحوله إلى الشام أو حولني إلى الكوفة. فقال: بل أحوله إلى الشام. فنزل حمص مع أبيه.