الجزء الأول - أمر فلسطين

أمر فلسطين

حدثني أبو حفص الدمشقي عن سعيد بن عبد العزيز عن أشياخه وعن بقية ابن الوليد، عن مشايخ من أهل العلم قالوا: كانت أول وقعة واقعها المسلمون الروم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أرض فلسطين، وعلى الناس عمرو ابن العاص. ثم إن عمر بن العاص فتح غزة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم فتح بعد ذلك سبسطية ونابلس على أن أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومنازلهم، ثم فتح يبنى وعمواس وبيت جبرين، واتخذ بها ضيعةًً تدعى عجلان باسم مولى له، وفتح يافا، ويقال فتحها معاوية. وفتح عمرو رفح على مثل ذلك. وقدم عليه أبو عبيدة بعد أن فتح قنسرين ونواحيها وذلك في سنة ست عشرة وهو محاصر إيلياء، وإيلياء مدينة ببيت المقدس. فيقال إنه وجهه إلى إنطاكية من إيلياء وقد غدر أهلها ففتحها ثم عاد فأقام يومين أو ثلاثة .ثم طلب أهل إيلياء من أبي عبيده الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول في ما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه. فكتب أبو عبيده إلى عمر بذلك. فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء فأنفذ صلح أهلها وكتب لهم به. وكان فتح إيلياء في سنة سبع عشرة.

وقد روى في فتح إيلياء وجه آخر.

حدثني القاسم بن سلام قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر بن الخطاب بعث خالد بن ثابت الفهمي إلى بيت المقدس في جيش وهو يومئذ بالجابية فقاتلهم فأعطوه على ما أحاط به حصنهم شيئاً يؤدونه ويكون المسلمين ما كان خارجاً. فقدم عمر فأجاز ذلك ثم رجع إلى المدينة.

وحدثني هشام بن عمار عن الوليد، عن الأوزاعي أن أبا عبيده فتح قنسرين وكورها سنة ست عشرة. ثم فلسطين فنزل إيلياء فسألوه أن يصالحهم. فصالحهم في سنة سبع عشرة، على أن يقدم عمر رجمه الله فينفذ ذلك ويكتب لهم به.

وحدثني هشام بن عمار قال: حدثني الوليد بن مسلم عن تميم ين عطية، عن عبد الله بن قيس قال: كنت فيمن تلقى عمر مع أبي عبيده مقدمة الشم، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلسون من أهل أذر عات بالسيوف والريحان. فقال عمر: مه؟ امنعوهم. فقال أبو عبيده: يا أمير المؤمنين هذه سنتهم، أو كلمة نحوها، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم. فقال: دعوهم.

قال: فكان طاعون عمواس سنة ثمان عشر، فتوفى فيه خلق من المسلمين منهم أبو عبيده بن الجراح. مات وله ثمان وخمسون سنة، وهو أمير. ومعاذ ابن جبل أحد بني سلمة من الخزرج، ويكنى أبا عبد الرحمن. توفى بناحية الأقحوانة من الأردن وله ثمان وثلاثون سنة. وكان أبو عبيده لما احتضر استخلفه، ويقال استخلف عياض بن غنم الفهري، ويقال بل استخلف عمرو بن العاص. فاستخلف عمرو ابنه ومضى إلى مصر. والفضل بن العباس ابن عبد المطلب، ويكنى أبا محمد، وقوم يقولون إنه استشهد بأجناد ين، والثبت أنه توفى في طاعون عمواس. شرحبيل بن حسنة، ويكنى أبا عبد الله، مات وهو ابن تسع وستين سنة. وسهيل بن عمرو أحد بنى عامر بن لؤي، ويكنى أبا يزيد. والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وقيل إنه استشهد يوم أجناد ين.

قالوا: ولما أتت عمر بن الخطاب وفاة أبي عبيده كتب إلى يزيد ابن أبي سفيان بولاية الشام مكانه، وأمره أن يغزو قيساري. ويقال قوم: إن عمر إنما ولى يزيد الأردن وفلسطين، وأنه ولى دمشق أبا الدر داء، وولى حمص عبادة بن الصامت.

وحدثني محمد بن سعيد قال: حدثني الواقدي قال: اختلف علينا في أمر قيسارية فقال قائلون: فتحها معاوية، وقال آخرون: بل فتحها عياض بن غنم بعد وفاة أبي عبيده وهو خليفته، وقال قائلون: بل فتحها عمرو بن العاص، وقال قائلون: خرج عمرو بن العاص إلى مصر وخلف ابنه عبد الل. فكان الثبت من ذلك والذي اجتمع عليه العلماء أن أول الناص الذي حاصرها عمرو بن العاص، نزل عليها في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة. فكان يقيم عليها ما أقام، فإذا كان للمسلمين واليرموك، ثم رجع إلى فلسطين فحاصرها بعد إيلياء، ثم خرج إلى مصر من قيسارية. وولى يزيد بن أبي سفيان بعد أبي عبيده، فوكل أخاه معاوية بمحاصرتها، وتوجه إلى دمشق مطعوناً فمات بها.

وقال غير الواقدي: ولى عمر يزيد بن أبي سفيان فلسطين مع ما ولاه من أجناد الشام، وكتب إليه يأمره بغزو قيسارية، وقد كانت حوصرت قبل ذلك، فنهض إليها في سبعة عشرة ألفاً، فقاتله أهلها ثم حصرهم ومرض في آخر سنة ثمان عشرة، فمضى إلى دمشق واستخلف على قيسارية أخاه معاوية بن أبي سفيان ففتحها، وكتب إليه بفتحها، فكتب به يزيد إلى عمر.

ولما توفى يزيد بن أبى سفيان كتب عمر إلى معاوية بتوليته ما كان يتولاه، فشكر أبو سفيان ذلك له وقال: وصلتك يا أمير المؤمنين رحم.

وحدثني هشام بن عمار قال: حدثني الوليد بن مسلم،  عن تميم بن عطية قال: ولى عمر معاوية بن أبي سفيان الشام بعد يزيد، وولى معه رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والقضاء. فولى أبا الدر داء قضاء دمشق والأردن وصلاتهما، وولى عبادة قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما.

وحدثني محمد بن سعيد، عن الواقدي في إسناده قال: لما ولى عمر بن الخطاب معاوية الشام حاصر قيسارية حتى فتحها، وقد كانت حوصرت نحواً من سبع سنين، وكان فتحها في شوال سنة تسع عشرة.

وحدثني محمد بن سعد عن محمد بن عمر، عن عبد الله بن عامر في إسناده قال: حاصر معاوية قيسارية حتى يئس من فتحها، وكان عمرو بن العاص وابنه حاصراها، ففتحها معاوية قسراً، فوجد بها من المرتزقة سبع مئة ألف، ومن السامرة ثلاثين ألفاً، ومن اليهود مائتي ألف، ووجد بها ثلاث مئة سوق قائمة كلها، وكان يحرسها في كل ليلة على سورها مئة ألف.

وكان سبب فتحها أن يهودياً يقال له يوسف أتى المسلمين ليلاً فدلهم على طريق في سرب فيه الماء إلى حقو الرجل على أن أمنوه وأهله، وأنفذ معاوية ذلك. ودخلها المسلمون في الليل وكبروا فيها، فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه. وفتح المسلمون الباب فدخل معاوية ومن معه. وكان بها خلق من العرب، وكانت فيهم شقراء التي يقول فيها حسان بن ثابت:

تقول شقراء لو صحوت عن الخمر لأصبحت مثرى العدد

ويقال إن اسمها شعثاء.

وحدثني محمد بن سع، عن الواقدي في إسناده أن سبى قيسارية بلغوا أربعة آلاف رأس. فلما بعث به معاوية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بهم فأنزلوا الجرف. ثم قسمهم على يتامى الأنصار وجعل بعضهم في الكتاب والأعمال للمسلمين. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أخدم بنات أبي أمامه أسعد بن زرارة خادمين من سبى عين التمر فماتا، فأعطاهن عمر مكانهما من سبى قيسارية.

قالوا: ووجه معاوية بالفتح مع رجلين من جذام، ثم خاف ضعفهما عن المسير فوجه رجلاً من خثعم، فكان الخثعمي يجهد نفسه في السير والسرى وهو يقول:

أرق عيني أخـو جـذام

 

أخى جشمٍ وأخو حـرام

كيف أنام وهما أمامـي

 

إذ يرحلان والهجير طام

فسبقهما ودخل على عمر فكبر عمر.

وحدثني هشام بن عمار في إسناد له لم أحفظه أن قيسارية فتحت قسراًً في سنة تسع عشرة. فلما بلغ عمر فتحها نادى إن قيسارية فتحت قسراً. وكبر وكبر المسلمون. وكانت حوصرت سبع سنين وفتحها معاوية.

قالوا: وكان موت يزيد بن أبي سفيان في آخر سنة ثمان عشرة بدمشق. فمن قال إن معاوية فتح قيسارية في حياة أخيه قال إنما فتحت في آخر سنة ثمان عشرة، ومن قال إنه فتحها في ولايته الشام قال فتحت في سنة تسع عشرة، وذلك الثبت. وقال بعض الرواة: إنها فتحت في أول سنة عشرين.

قالوا: وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين. ففتح عسقلان صلحاً بعد كيد. ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط ووكل بها الحفظة.

وحدثني بكر بن الهيثم قال: سمعت محمد بن يوسف الفاريابي يحدث، عن مشايخ من أهل عسقلان أن الروم أخرجت عسقلان وأجلت أهلها عنها في أيام ابن الزبير. فلما ولى عبد الملك بن مروان بناها وحصنها ورم أيضاً قيسارية.

وحدثني محمد بن مصفى قال: حدثني أبو سليمان الرملي، عن أبيه أن الروم خرجت في أيام ابن الزبير إلى قيسارية فشعثتها وهدمت مسجدها. فلما استقام لعبد الملك بن مروان الأمر رم قيسارية وأعاد مسجدها وأشحنها بالرجال، وبنى صور عكا الخارجة، وكانت سبيلهما مثل سبيل قيسارية.

وحدثني جماعة من أهل العلم بأمر الشام قالوا: ولي الوليد بن عبد الملك سليمان بن عبد الملك جند فلسطين. فنزل لد. ثم أحدث مدينة الرملة ومصرها. وكان أول ما بنى منها قصره والدار التي تعرف بدار الصباغين. وجعل في الدار صهريجاًً متوسطاً لها. ثم اختط للمسجد خطةً وبناه، فولى الخلافة قبل استتمامه. ثم بنى فيه بعد في خلافته، ثم أتمه عمر بن عبد العزيز ونقص من الخطة، وقال: أهل الرملة يكتفون بهذا المقدار الذي اقتصرت بهم عليه. ولما بنى سليمان لنفسه أذن للناس في البناء فبنوا. واحتفر لأهل الرملة قناتهم التي تدعى بردة، واحتفر آباراً، وولى النفقة على بنائها بالرملة ومسجد الجماعة كاتباً له نصرانياً من أهل لد يقال له البطريق بن النكا، ولم تكن مدينة الرملة قبل سليمان، وكان موضعها رمله.

قالوا: وقد صارت دار الصباغين لورثة صالح بن علي بن عبد الله ابن العباس لأنها قبضت مع أموال بني أمية.

قالوا: وكان بن أمية ينفقون على آبار الرملة وقناتها بعد سليمان ابن عبد الملك. فلما استخلف بنو العباس أنفقوا عليها. وكان الأمر في تلك النفقة يخرج في كل سنة من خليفة بعد خليفة، فلما استخلف أمير المؤمنين أبو إسحاق المعتصم بالله أسجل بتلك النفقة سجلاً فانقطع الاستثمار، وصارت جارية يحتسب بها العمال فتحسب لهم.

قالوا: وبفلسطين فروزٌ بسجلات من الخلفاء مفردةٌ من خراج العامة، وبها التخفيف والردود. وذاك أن ضياعاً رفضت في خلافة الرشيد وتركها أهلها، فوجه أمير المؤمنين الرشيد هرثمة بن أعين لعمارتها. فدعا قوماً من مزارعها وأكرتها إلى الرجوع إليها على أن يخفف عنهم من خراجهم ولين معاملتهم، فرجعوا، فأولئك أصحاب التخافيف. وجاء قوم منهم بعد فردت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه، فهم أصحاب الردود.
وحدثني بكر بن الهيثم قال: لقيت رجلاً من العرب بعسقلان. فأخبرني أن جده ممن أسكنه إياها عبد الملك وأقطعه بها قطيعةً مع من أقطع من المرابطة. قال: وأراني أرضاً. فقال: هذه من قطائع عثمان بن عفان.

قال بكر: وسمعت محمد بن يوسف الفاريابي يقول: بعسقلان هاهنا قطائع أقطعت بأمر عمر وعثمان لو دخل فيها رجل لم أجد بذلك بأسا.

أمر جند قنسرين والمدن التي تدعى العواصم

قالوا: سار أبو عبيده بن الجراح بعد فراغه من أرض اليرموك إلى حمص فاستقراها. ثم أتى قنسرين، وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فقاتله أخل مدينة قتسرين، ثم لجأوا إلى حصنهم وطلبوا الصلح فصالحهم أبو عبيده على مثل صلح حمص. وغلب المسلمون على أرضها وقرارها. وكان حاضر قنسرين لتنوخ مذ أول ما تنخوا بالشام نزلوه، وهم في خيم الشعر، ثم ابتنوا به المنازل، فدعاهم أبو عبيده إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وأقام على النصرانية بنو سليح ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

فحثني بعض ولد يزيد بن حنين الطائي الأنطاكي ، عن أشياخهم أن جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة أمير المؤمنين المهدي، فكتب على أيديهم بالخضرة قنسرين. ثم سار أبو عبيده يريد حلب، فبلغه أن أهل قنسرين قد نقضوا وغدروا. فوجه إليهم السمط ابن الأسود الكندي فحصرهم ثم فتحها.

حدثني هشام بن عمار الدمشقي قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن أبي عبد العزيز عن عبادة بن نسى، عن عبد الرحمن بن غنم قال: رابطنا مدينة قنسرين مع السمط - او قال شرحبيل بن السمط - فلما فتحها أصاب فيها بقراً وغنماً. فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها في المغنم. وكان حاضر طيء قديماً نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بيتهم حين نزل الجبلين من نزل منهم وتفرق باقوهم في البلاد. فلما ورد أبو عبيده عليهم أسلم بعضهم، وصالح كثير منهم على الجزية. ثم أسلموا بعد ذلك بيسير إلا من شذ عن جماعتهم. وكان بقرب مدينة حلب حاضر يدعى حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم. فصالحهم أبو عبيده على الجزية. ثم إنهم أسلموا بعد ذلك فكانوا مقيمين وأعقابهم به إلى بعيد وفاة أمير المؤمنين الرشيد. ثم إن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم عنها، فكتب الهاشميون من أهلها إلى جميع من حولهم من قبائل العرب يستجدونهم. فكان أسبقهم إلى إنجادهم وإغاثتهم العباس بن زفر ابن عاصم الهلالي بالخؤولة، لأن أم عبد الله بن العباس لبابه بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم وأخربوه. وذل في أيام فتنة محمد بن الرشيد. فانتقلوا إلى قنسرين فتلقاهم أهلها بالأطعمة والكسى. فلما دخلوها أرادوا التغلب عليها فأخرجوهم عنها فتفرقوا في البلاد، فمنهم قوم بتكريت قد رأيتهم، ومنهم قوم بأرمينية وفي بلدان كثيرة متباينة. وأخبرني أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله قال: سمعت شيخاً من مشايخ بني صالح بن علي بن عبد الله بن العباس يحدث أمير المؤمنين المعتصم بالله رحمه الله سنة غزا عمورية قال: لما ورد العباس بن زفر الهلالي حلب لإغاثة الهاشميين ناداه نسوة منهم: يا خال! نحن بالله ثم بك. فقال: لا خوف عليكم إن شاء الله، خذلني الله إن خذلنكم.

قال: وكان حيار بني القعقاع بلداً معروفاً قبل الإسلام، وبه كان مقيل المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة، فنزله بنو القعقاع بن خليد بن جزء بن زهير بن جذيمة بن رواحه بن ربيعه بن الحارث بن قطيعة بن عبسي بن بغيض، أوطنوه منسب إليهم.

وكان عبد الملك بن مروان أقطع القعقاع به قطيعة، وأقطع عمه العباس ابن جزء بن الحارث قطائع أو غرها له إلى اليمن فأوغرت بعده. وكانت أو أكثرها مواتاً. وكانت ولادة بنت العباس بن جزء عند عبد الملك ، فولدت له الوليد وسليمان.

قالوا: ورحل أبو عبيده إلى حلب وعلى مقدمته عياض بن غنم الفهري. وكان أبوه يسمى عبد غنم، فلما أسلم عياض كره أن يقال عبد غنم فقال: أنا عياض بن غنم. فوجد أهلها قد تحصنوا فنزل عليها. فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم ومنازلهم والحصن الذي بها. فأعطوا ذلك، فاستثنى عليهم موضع المسجد. وكان الذي صالحهم عليه عياض، فأنفذ أبو عبيده صلحه.

وزعم بعض الرواة أنهم صالحوا على حقن دمائهم وأن يقاسموا أنصاف منازلهم وكنائسهم. وقال: بعضهم: إن أبا عبيده لم يصادق بحلب أحداً، وذلك أن أهلها انتقلوا إلى إنطاكية، وأنهم صالحوه عن مدينتهم وهم بإنطاكية، راسلوه في ذلك فلما تم صلحهم رجعوا إلى حلب.

قالوا: وسار أبو عبيده من حلب إلى إنطاكية وقد تحصن بها خلق من أهل جند قنسرين. فلما صار بمهروبة، وهي على قريب فرسخين من مدينة إنطاكية، لقيه جمع للعدو. ففضهم ،ألجأهم إلى المدينة، وحاصر أهلها من جميع أبوابها. وكان معظم الجيش على باب فارس والباب الذي يدعى باب البحر. ثم إنهم صالحوه على الجزية والجلاء. فجلا بعضهم وأقام بعضهم. فأمنهم ووضع على كل حالم منهم ديناراً وجريباً. ثم تقضوا العهد فوجه إليهم أبو عبيده عياض ابن نم بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول. ويقال: بل تقضوا بعد رجوعه إلى فلسطين، فوجه عمرو بن العاص من إيلياء ففتحها، ثم رجع فمكث يسيراً حتى طلب أهل إيلياء الأمان والصلح. والله أعلم.

وحدثني محمد بن سهم الأنطاكي عن أبي صالح الفراء قال: قال مخلد بن الحسين: سمعت مشايخ الثغر يقولون: كانت إنطاكية عظيمة الذكر والأمر عند عمر وعثمان. فلما فتحت كتب عمر إلى أبي عبيده أن رتب بإنطاكية جماعة من المسلمين أهل نيات وحسبة، وأجهلهم بها مرابطة، ولا تحبس عنهم العطاء. ثم لما ولى معاوية كتب إليه بمثل ذلك. ثم إن عثمان كتب إليه بأمره أن يلزمها قوماً وأن يقطع قطائع ففعل.

قال ابن سهم: وكنت واقفاً على جسر إنطاكية على الأرنط فسمعت شيخاً مسناً من أهل إنطاكية وأنا يومئذ غلام يقول: هذه الأرض قطيعة من عثمان لقوم كانوا في بعث أبي عبيده، أقطعهم إياها أيام ولاية عثمان معاوية الشام.

قالوا: ونقل معاوية بن أبي سفيان إلى إنطاكية في سنة اثنتين وأربعين جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص ومن المصرين. فكان منهم مسلم قتل على بابٍ من أبواب إنطاكية أرض سلوقية عند الساحل، وصير الفلثر، وهو الجريب، بدينار ومدى قمح عمروها، وجرى ذلك لهم، وبنى حصن سلوقية.

قالوا: وكانت أرض بغراس لمسلمة بن عبد الملك فوقفها في سبيل البر. وكانت عين السلور وبحيرتها له أيضاً. وكانت الإسكندرية له، ثم صارت لرجاء مولى المهدي إقطاعاً فورثه منصور وإبراهيم ابنا المهدي. ثم صارت لرجاء مولى المهدي إقطاعاً فورثه منصور وإبراهيم ابنا المهدي. ثم صارت لإبراهيم بن سعيد الجوهري، ثم لأحمد بن أبي دؤاد الأيادي ابتياعاً. ثم انتقل ملكها إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمه الله.
فحدثني ابن الأنطاكي، وغيره قالوا: أقطع مسلمة بن عبد الملك قوماً من ربيعه قطائع، فقبضت وصارت بعد للمأمون، وجرى أمرها على يد صالح الخازن صاحب الدار بإنطاكية. قالوا: وبلغ أبا عبيده أن جمعاً للروم بين معرة مصرين وحلب، فلقيهم وقتل عدة بطارقة، وفض ذلك الجيش وسبى وغنم . وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب. وجالت خيوله فبلغت بوقا، وفتحت قرى الجومة وسرمين ومر تحوان وتيزين. وصالحوا أهل دير طيايا "كذا" ودير الفسيلة على أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين، وأتاه نصارى خنا صرة فصالحهم. وفتح أبو عبيده جميع أرض قنسرين وإنطاكية.

حدثني العباس بن هشام، عن أبيه قال: خنا صرة نسبت إلى خناصر بن عمرو بن الحارث الكلبي ثم الكناني، وكان صاحبها. وبطنان حبيب بن مسلمة الفهري، وذلك أن أبا عبيده أو عياض بن غمم وجهه من حلب ففتح حصناً بها فنسب إليه.

قالوا: وسار أبو عبيده يريد قورس، وقدم أمامه عياضاً. فتلقاه راهب من رهبانها يسأل الصلح عن أهلها. فبعث به إلى أبي عبيده وهو بين جبرين وتل إعزاز فصالحه، ثم أتى قورس فعقد لأهلها عهداً وأعطاهم مثل الذي أعطى أهل إنطاكية، وكتب للراهب كتاباً في قرية له تدعى شرقينا، وبث خيله فغل على جميع أرض قورس إلى آخر حد نقابلس.

قالوا: وأتى أبو عبيده حلب الساجور وقدم عياضاً إلى منبج، ثم لحقه وقد صالح أهلها على مثل صلح إنطاكية، فأنقذ أبو عبيده ذلك. وبعث عياض بن غنم إلى دلوك ورعبان، فصالحه أهلها على مثل صلح منبج، واشترط عليهم أن يبحثوا عن أخبار الروم ويكاتبوا بها المسلمين. وولى أبو عبيده كل كوره فتحها عاملاً، وضم إليه جماعة من المسلمين، وشحن النواحي المخوفة.

قالوا: ثم سار أبو عبيده حتى نزل عراجين. وقدم مقدمته إلى بالس. وبعث جيشاً عليه حبيب بن مسلمة إلى قاصرين. وكانت بالس وقاصرين لأخوين من أشراف الروم أقطعا القرى التي بالقرب منهما، وجعلا حافظين لما بينهما من مدن الروم بالشام. فلما نزل المسلمون بها صالحهم على الجزية والجلاء، فجلا أكثرهم إلى بلاد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج، ولم يكن يومئذ إنما اتخذ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه للصوائف. ويقال بل كان له رسم قديم.

قالوا: رتب أبو عبيده ببالس جماعة من المقاتلة وأسكنها قوماً من العرب الذين كانوا بالشام، فأسلموا بعد قدوم المسلمين الشام، وقوماًً لم يكونوا من البعوث نزعوا من البوادي من قيس، وأسكن قاصرين قوماً ثم رفضوها أو أعقابهم. وبلغ أبو عبيده الفرات ثم رجع إلى فلسطين. وكانت بالس والقرى المنسوبة إليها في حدها الأعلى والأوسط والأسفل أعذاء عشرية.

فلما كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان توجه غازياً للروم من نحو الثغور الجزرية عسكر ببالس. فأتاه أهلها وأهل بوبلس "كذا" وقاصرين وعابدين وصفين، وهي قرى منسوبة إليها. فأتاه أهل الحد الأعلى فسألوه جميعاً أن يحفر لهم نهراً من الفرات يسقي أرضهم، على أن يجعلوا له الثلث من غلاتهم بعد عشر السلطان الذي كان يأخذه، ففعل. فحفر النهر المعروف بنهر مسلمة، ووفوا له بالشرط ، ورم سور المدينة وأحكمه.

ويقال بل كان ابتداء العرض من مسلمة، وأنه دعاهم إلى هذه المعاملة. فلما مات مسلمة صارت بالس وقراها لورثته. فلم تزل في أيديهم إلى أن جاءت الدولة المباركة وقبض عبد الله بن علي أموال بني أمية فدخلت فيها. فأقطعها أمير المؤمنين أبو العباس سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس فصارت لابنه محمد ابن سليمان. وكان جعفر بن سليمان أخوه يسعى به إلى أمير المؤمنين الرشيد رحمه الله ويكتب إليه فيعمله أنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد اجتاز إضعاف قيمته وأنفقه فيما يرشح له نفسه وعلى من اتخذ من الخول، وأن أمواله حلٌ طلقٌ لأمير المؤمنين. وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه. فلما توفى محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر واحتج عليه بها. ولم يكن لمحمد أخ لأبيه وأمه غيره فأقر بها، وصارت أمواله للرشيد. فأقطع بالس وقراها المأمون رحمه الله، فصارت لولده من بعده.

حدثني هشام بن عمار قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن تميم بن عطية،  عن عبد الله بن قيس الهمداني قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية. فأراد قسمة الأرض بين المسلمين لأنها فتحت عنوة، فقال له معاذ بن جبل: والله لئن قسمها ليكونن ما نكره، ويصير الشيء الكثير في أيدي القوم ثم يبيدون فيبقى ذلك لواحد، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون عن الإسلام مسداًً فلا يجدون شيئاً. فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم. فصار إلى قول معاذ.

حدثني الحسين بن علي بن الأسود العجلي عن يحيى بن آدم عن مشايخ من الجذريين عن سليمان بن عطاء عن سلمة الجهني، عن عمه أن صاحب بصرى ذكر أنه كان صالح المسلمين على طعام وزيت وخل. فسأل عمر أن يكتب له بذلك، وكذبه أبو عبيده وقال: إنما صالحناه على شيء ينقتع به المسلمون لمشتاهم. ففرض عليهم الجزية على الطبقات والخراج على الأرض.

وحدثني الحسين قال: حدثنا محمد بن عبدٍ الأحدب قال: أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع، عن أسلم مواى عمر أن عمر كتب إلى أمراء الجزية أن لا يضربوها إلا على من جرت عليه الموسى. وجعلها على أهل الذهب أربعة دنانير، وجعل عليهم لأرزاق المسلمين من الحنطة لكل رجل مديين، ومن الزيت ثلاثة أقساط بالشام والجزيرة، مع إضافة من نزل بهم ثلاثاً.

وحدثني أبو حفص الشامي عن محمد بن راشد، عن مكحول قال: كل عشري بالشام فهو مما جلا عنه أهله فأقطعه المسلمون فأحيوه، وكان مواتاً لاحق فيه لأحد فأحيوه بإذن الولاة.