الجزء الأول - أمر الجراجمة

أمر الجراجمة

حدثني مشايخ من أهل إنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل اللكام عند معدن الزاج فيما بياس وبوقا، ويقال لها الجرجومة. وأن أمرهم كان في أيام استلاء الروم على الشام وإنطاكية إلى بطريق إنطاكية وواليها. فلما قدم أبو عبيده إنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا على أنفسهم، فلم ينتبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم. ثم إن أهل إنطاكية نقضوا وغدروا، فوجه إليهم أبو عبيده من فتها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري. فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح. فصالحوه على أن يكونوا أعوانً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يؤخذوا بالجزية وأن ينفلوا أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حرباً من مغازيهم.

الرواد يف لأنهم تلوهم وليسوا منهم. ويقال إنهم جاؤا بهم إلى عسكر المسلمين وهم أرداف لهم فسموا رواد يف.

فكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم ويمالئونهم.

قلما كانت أيام ابن الزبير وموت مروان بن الحكم وطلب عبد الملك الخلافة لتوليه إياه عهده واستعدادم للشخوص إلى العراق لمحاربة المصعب بن الربير، خرجت خيل الروم إلى جبل اللكام وعليها قائد من قوادهم، ثم صارت إلى لبنان وقد ضوت إليها جماعة كثيرة من الجراجمة وأنباط وعبيد أباق من عبيد يؤديه إليه لشغله عن محاربته وتخوفه أن يخرج إلى الشام فيغلب عليه. واقتدى بصلحه بمعاوية حين شغل بحرب أهل العراق فإنه صلحهم على أن يؤدي إليهم مالاً وارتهن منهم رهناء وضعهم ببعلبك. ووافق ذلك أيضاً طلب عمرو بن سعيد بن العاص الخلافة وإغلاقه أبواب دمشق حين خرج عبد الملك عنها فازداد شغلاً،وذلك في سنة سبعين.

ثم إن عبد الملك وجه إلى الرومي سحيم بن المهاجر فتلطف حتى دخل عليه متنكراً، فأظهر الممالأة له وتقرب إليهم بذم عبد الملك وشتمه وتوهين أمره حتى أمنه واغتر به. ثم إنه انكفأ عليه بقوم من موالي عبد الملك وجنده كان أعدهم لموقعته ورتبهم بمكان عرفه. فقتله ومن كان معه من الروم ونادى في سائر من ضوي إليه بالأمان.
فتفرق الجراجمة بقرى دمشق وحمص. ورجع أكثرهم إلى مدينتهم باللكام وأتى الأنباط قراهم فرجع العبيد إلى مواليهم.

وكان ميمون الجرجماني عبداً رومياً لبني أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان وهم ثقفيون، وإنما نسب إلى الجراجمة لاختلاطه بهم وخروجه بجبل لبنان معهم. فبلغ عبد الملك عنه بأس وشجاعة فسأل مواليه أن يعتقوه ففعلوا. وقوده على جماعة من الجند وصيره بإنطاكية، فغزا مع مسلمة بن عبد الملك الطوافة، وهو على ألفٍ من أهل إنطاكية. فاستشهد بعد بلاءٍ حسن وموقف مشهود. فغم عبد الملك مصابه وأغزى الروم جيشاً عظيماً طلباً بثأره.

قالوا: ولما كانت سنة تسع وثمانين اجتمع الجراجمة إلى مدينتهم وأتاهم قوم من الروم من قبل الاسكندرونة وروس. فوجه الوليد بن عبد الملك إليهم مسلمة بن عبد الملك فأناخ عليهم في خلق من الخلق، فافتتحها على أن ينزلوا بحيث أحبوا من الشام، ويجري على كل امرئ منهم ثمانية دنانير، وعلى عيالا تهم القوت من القمح والزيت، وهو مديان من قمح وقسطان من زيت، وعلى أن لا يكرهوا ولا أحدٌ من أولادهم ونسائهم على ترك النصرانية، وعلى أن يلبسوا لباس المسلمين، ولا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية، وعلى أن يغزوا مع المسلمين فينفلوا أسلاب من يقتلونه مبارزة، وعلى أن يؤخذ من تجارتهم وأموال موسر يهم ما يؤخذ من أموال المسلمين. فأخرب مدينتهم وأنزلهم فأسكنهم جبل الحوار وسنح اللولون "كذا" وعمق تيزين. وصار بعضهم إلى حمص ونزل بطريق الجرجومة في جماعة معه إنطاكية، ثم هرب إلى بلاد الروم.

وقد كان بعض العمال ألزم الجراجمة بإنطاكية جزية رؤوسهم، فرفعوا ذلك إلى الواثق بالله رحمه الله وهو خليفة فأمر بإسقاطها عنهم.

وحدثني بعض من أثق به من الكتاب أن المتوكل على الله رحمه الله أمر بأخذ الجزية من هؤلاء الجراجمة، وأن تجرى عليهم الأرزاق، إذ كانوا ممن يستعان به في المسالح وغير ذلك. وزعم أبو الخطاب الأزدى أن أهل الجرجومة كانوا يغيرون في أيام عبد الملك على قرى إنطاكية والعمق، وإذا غزت الصوائف قطعوا على المتخلف واللاحق ومن قدروا عليه ممن في أواخر العسكر، وغالوا في المسلمين. فأمر عبد الملك ففرض القوم من أهل إنطاكية وأنبا طها، وجعلوا مسالح، وأردفت بها عساكر الصوائف ليؤدبوا الجراجمة عن أواخرها، فسموا الرواد يف. وأجرى على كل امرئ منهم ثمانية دنانير. والخبر الأول أثبت.

وحدثني أبو حفص الشامي عن محمد بن راشد، عن مكحول قال: نقل معاوية في سنة تسع وأربعين أو سنة خمسين إلى السواحل قوماً من زط البصرة والسيابجة وأنزل بعضهم إنطاكية. قال أبو حفص: فبإنطاكية محلة تعرف بالزط. وببوقا من عمل إنطاكية قوم من أولادهم يعرفون بالزط. وقد كان الوليد بن عبد الملك نقل إلى إنطاكية قوماً من الزط السند ممن حمله محمد بن القاسم إلى الحجاج. فبعث بهم الحجاج إلى الشام.

وحدثني محمد بن سعد، عن الواقدي قال: خرج بجبل لبنان قوم شكوا عامل خراج بعلبك، فوجه صالح بن علي بن عبد الله بن عباس من قتل مقاتلتهم وأقر من بقي منهم على دينهم وردهم إلى قراهم، وأجلى قوماً من أهل لبنان.

فحدثني القاسم بن سلام أن محمد بن كثير حدثه، أن الأوزاعي كتب إلى صالح رسالة طويلة حفظ منها: "وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامةٌ بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى أن لا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: من ظلم معاهداً وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه. ثم ذكر كلاما.

حدثني محمد بن سهم الإنطاكي قال: حدثني معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري قال: كانت بنو أمية تغزو الروم بأهل الشام والجزيرة صائفة وشاتية مما يلي ثغور الشام والجزيرة، وتقيم المراكب للغزو، وترتب الحفظة في السواحل، ويكون الإغفال والتفريط خلال الحزم والتيقظ. فلما ولى أبو جعفر المنصور تتبع حصون السواحل ومدنها فعمرها وحصنها وبنى ما احتاج إلى البناء منها، وفعل مثل ذلك بمدن الثغور. ثم لما استخلف المهدي استتم ما كان بقي من المدن والحصون وزاد في شحنها.

قال معاوية بن عمرو: وقد رأينا من اجتهاد أمير المؤمنين هارون في الزو ونفاذ بصيرته في الجهاد أمراً عظيماً. أقام من الصناعة ما لم يقيم قبله، وقسم الأموال في الثغور والسواحل، وأشجى الروم وقمعهم. وأمر المتوكل على الله بترتيب المراكب في جميع السواحل وأن تشحن بالمقاتلة، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين.