الجزء الثاني - أمر البطائح

أمر البطائح

حدثني جماعة من أهل العلم أن الفرس كانت تتحدث بزوال ملكها وتروي في آية ذلك زلازل وطوفاناً تحدث. وكانت دجلة تصب إلى دجلة البصرة التي تدعى العوراء في أنهار متشعبةٍ من عمود مجراها الذي كان باقي مائها يجري فيه، وهو كبعض تلك الأنهار. فلما كان زمان قباذ بن فيروز انبثق في أسافل كسكر بثقٌ عظيم، فأغفل حتى غلب ماؤه وغرق كثيراً من أرضين عامرة. وكان قياذ واهناً قليل التفقد لأمره. فلما ولى أنو شر وان ابنه أمر لما كانت السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى أبرويز وهي سنة سبع من الهجرة، ويقال سنة ستٍ، زاد الفرات ودجلة زيادة عظيمة لم ير مثلها قبلها ولا بعدها. وانبثقت بثوقٌ عظامٌ، فجهد أبرويز أن يسكرها فغلبه الماء، ومال إلى موضع البطائح فطفا على العمارات والزروع فغرق عدة طساسيج كانت هناك. وركب كسرى بنفسه لسد تلك البثوق، ونثر الأموال على الأنطاع وقتل الفعلة بالكفاية، وصلب على بعض البثوق فيما يقال أربعين جساراً في يوم فلم يقدر للماء على حيلة. ثم دخلت العرب أرض العراق وشغلت الأعاجم بالحروب. فكانت البثوق تتفجر فلا يلتفت إليها ويعجز الدهاقين عن سد عظمها. فاتسعت البطيحة وعرضت.

فلما ولى معاوية بن أبي سفيان ولى عبد الله بن دراج مولاه خراج العراق، واستخرج له من الأرضين بالبطائح ما بلغت غلته خمسة آلاف ألف. وذلك أنه قطع القصب وغلب الماء بالمسنيات.

ثم كان حسان النبطي - مولى بني ضبة وصاحب حوض حسان بالبصرة، والذي تنسب إليه منارة حسان بالبطائح - فاستخرج للحجاج أيام الوليد، ولهشام بن عبد الملك أرضين من أراضي البطيحة.

قالوا وكان بكسكر قبل حدوث البطائح نهرٌ يقال له الجنب. وكان طريق البريد إلى ميسان ودستميسان وإلى الأهواز في شقه القبلى. فلما تبطحت البطائح سمى ما استأجم من شق طريق البريد آجام البريد. وسمى الشق الآخر أجام أغمر بثى. ومعنى ذلك الآجام الكبرى. والنهر اليوم يظهر في الأرضين الجامدة التي استخرجت حديثاً.

وحدثني أبو مسعود الكوفي، عن أشياخه قالوا: حدثت البطائح بعد مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وملك الفرس أبرويز. وذلك أنه انبثقت يثوقٌ عظامٌ عجز كسرى عن سدها وفاضت الأنهار حتى حدثت البطائح. ثم كان مدٌ في أيام محاربة المسلمين الأعاجم وبثوقٌ لم يعن أحدٌ بسدها، فاتسعت البطيحة لذلك وعظمت.

وقد كان بن أمية استخرجوا بعض أرضيها، فلما كان زمن الحجاج، غرق ذلك لأن بثوقاً انفجرت فلم يعان الحجاج سدها مضارةً للدهاقين، لأنه كان اتهمهم بممالأة ابن الأشعث حين خرج عليه.

واستخرج حسان النبطي لهشام أرضين من أرض البطيحة أيضاً.

وكان أبو السد - الذي نسب إليه نهر أبي الأسد - قائداً من قواد المنصور أمير المؤمنين ممن كان وجه إلى البصرة أيام مقام عبد الله ابن علي بها، وهو الذي أدخل عبد الله بن علي الكوفة. وحدثني عمر بن بكير أن المنصور رحمه الله وجه أبا الأسد مولى أمير المؤمنين فعسكر بينه وبين عسكر عيسى بن موسى حين كان يحارب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وهو حفر النهر المعروف بأبي أسد عند البطيحة.

وقال غيره: أقام على فم النهر لأن السفن لم تدخله لضيقه عنها، فوسعه ونسب إليه.

قال أبو مسعود: وقد انبثقت في أيام الدولة المباركة بثوقٌ زادت في البطائح سعة. وحدثت أيضاً من الفرات آجامٌ استخرج بعضها.

وحدثني أبو مسعود عن عوانة قال: انبثقت البثوق أيام الحجاج. فكتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك يعلمه أنه قدر لسدها ثلاثة آلاف ألف درهم. فاستكثرها الوليد، فقال له مسلمة بن عبد الملك: أنا أنفق عليها على أن تقطعني الأرضين المنخفضة التي يبقى فيها الماء بعد إنفاق ثلاثة آلاف ألف درهم، يتولى إنفاقها ثقتك ونصيحك الحجاج. فأجابه إلى ذلك. فحصلت له أرضون من طساسيج متصلة. فخفر السيبين، وتألف الأكرة والمزارعين، وعمر تلك الأرضين، وألجأ الناس إليها ضياعا كثيرة للتعزز به. فلما جاءت الدولة المباركة وقبضت أموال بني أمية أقطع جميع السيبين داود بن علي ابن عبد الله بن العباس، ثم ابتيع ذلك من ورثته بحقوقه وحدوده، فصار من ضياع الخلافة.