الجزء الثاني - أمر مدينة السلام

أمر مدينة السلام

قالوا: وكانت بغداذ قديمةً فمصرها أمير المؤمنين المنصور رحمه الله، وابتنى بها مدينةً، وابتدأها في سنة خمس وأربعين ومئة. فلما بلغه خروج محمد وإبراهيم بنى عبد الله بن حسن بن حسن عاد إلى الكوفة، ثم حول بيوت الأموال والخزائن والدواوين من الكوفة إلى بغداذ سنة ست وأربعين ومئة. وسماها مدينة السلام. واستتم بناء حائط مدينته وجميع أمره وبناء سور بغداذ القديم سنة سبع وأربعين ومئة. وتوفى سنة ثمان وخمسين ومئة بمكة، ودفن عند بئر ميمون بن الحضرمي حليف بني أمية.

وبنى المنصور للمهدي الرصافة في الجانب الشرقي ببغداذ. وكان هذا الجانب يدعى عسكر المهدي لأنه عسكر فيه حين خرج إلى الري. فلما قدم من الري وقد بدا للمنصور في إنفاذه إلى خرا سان للإقامة بها نزل الرصافة، وذلك في سنة إحدى وخمسين ومئة، وقد كان المنصور أمر فبنى للمهدي، قبل إنزاله الجانب الشرقي، قصره الذي يعرف بقصر الوضاح وبقصر المهدي وبالشرقية، وهو مما يلي باب الكرخ. والوضاح رجلٌ من أهل الأنبار كان تولى النفقة عليه فنسب إليه.

وبنى المنصور مسجدي مدينة السلام. وبنى القنطرة الجديدة على الصراة وابتاع أرض مدينة السلام من قومٍ من أرباب القرى باد وريا وقطر بل ونهر بوق ونهر بين، وأقطعها أهل بيته وقواده وجنده وصحابته وكتابه، وجعل مجمع الأسواق بالكرخ، وأمر التجار فابتنوا الحوانيت وألزمهم الغلة.

وحدثني العباس بن هشام الكلبي، عن أبيه قال: سمى المخرم ببغداذ مخرماً لأن مخرم بن شريح بن حزن الحارثي نزله.

قال: وكان ناحية قنطرة البردان للسرى بن الحطيم صاحب الطيمية التي تعرف ببغداد.
وحدثني مشايخ من أهل بغداذ أن الصالحية ببغداذ نسبت إلى صالح بن المنصور.

قالوا: والحربية نسبت إلى حرب بن عبد الله البلخي، وكان على شرط جعفر بن أبي جعفر بالموصل.

والزهيرية تعرف بباب التبن نسبت إلى زهير بن محمد من أهل أبيورد.

وعيساباذ نسبت إلى عيسى بن المهدي وكان في حجر منازل التركي، وهو ابن الخيزران.

وقصر عبدويه مما يلي براثا نسب إلى رجل من الأزد يقال له عبدويه، وكان من وجوه أهل الدولة.

قالوا: وأقطع المنصور ببغداذ سليمان بن مجالد - ومجالد شروىٌ مولى لعلي بن عبد الله - موضع داره. وأقطع مهلهل بن صفوان قطيعة بالمدينة وإليه ينسب درب مهلهل. وكان صفوان مولى علي بن عبد الله. وكان اسم مهلهل يحيى، فاسنشده محمد بن علي شعراً فأنشده.

أليلتنا بذي حشمٍ أنيري

وهي لمهلهل، فسماه مهلهلاً. ومحمد أعتقه؟.

وأقطع المنصور عمارة بن حمزة الناحية المعروفة به خلف مربعة شبيب بن واج. واقطع ميموناً أبا بشر بن ميمون قطيعةً عن بستان القس ناحية باب الشام.

وطاقات بشر تنسب إلى بشر بن ميمون هذا. وكان ميمون مولى على ابن عبد الله.

وأقطع شبيلاً مولاه قطيعةً عند دار يقطين، وهناك مسجد يعرف بشبيل.

وأقطع أم عبيده، وهي حاضنة لهم ومولاة لمحمد بن علي، قطيعةً. وغليها تنسب طاقات أم عبيده بقرب الجسر. اقطع منيرة مولاة محمد بن علي، وإليها ينسب درب منيرة وخان منيرة في الجانب الشرقي.

واقطع ريسانة موضعاً يعرف بمسجد بنى رغبان مولى حبيب بن مسلمة الفهري، يدخل في قصر عيسى بن جعفر أو جعفر بن جعفر بن المنصور ودرب مهروية في الجانب الشرقي نسب إلى مهروية الرازي، وكان من سبى سنفاذ فاعتقه المهدي.

ولم يزل المنصور رحمه الله بمدينة السلام إلى آخر سني خلافته، ثم حج منها وتوفي بمكة.

ونزلها بعده المهدي أمير المؤمنين، ثم شخص منها إلى ماسبذان فتوفى بها. وكان أكثر نزوله من مدينة السلام بعيساباذ في أبنية بناها هناك.

ثم نزلها الهادي موسى بن المهدي فتوفى بها.

ونزلها الرشيد هارون بن المهدي، ثم شخص عنها إلى الرافقة فأقام بها وسار منها إلى خرا سان، فتوفي بطوس.

ونزلها محمد بن الرشيد فقتل بها.

وقدمها المأمون عبد الله بن الرشيد من خرا سان فأقام بها، ثم شخص عنها غازياً فمات بالفذ ندون ودفن بطر سوس.

ونزلها أمير المؤمنين المعتصم بالله ثم شخص عنها إلى القاطول فنزل قصراً للرشيد كان ابتناه حين حفر قاطوله الذي دعاه أبا الجند لقيام ما يسقى من الرضين بأرزاق جنده. ثم بنى بالقاطول بناء نزله ودفع ذلك القصر إلى اشناس التركي مولاه، وهم بتمصير ما هناك وابتدأ بناء مدينة تركها. ثم رأى تمصير سر من رأى فمصرها، ونقل الناس إليها، وأقام بها، وبنى مسجداً جامعاً في طرف الأسواق وسماها سر من رأى. وأنزل اشناس مولاه فيمن ضم إليه من القواد كرخ فيروز، وأنزل بعض قواده الدور المعروفة بالعرباني. وتوفى رحمه الله بسر من رأى في سنة سبع وعشرين ومئتين.

وأقام هارون الواثق بالله بسر من رأى في بناءٍ بناه وسماه الهاروني حتى توفى به.

ثم استخلف أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله رحمه الله في ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومئتين، فأقام بالهاروني، وبنى بناء كثيراً، وأقطع الناس في ظهر سر من رأى، بالحائر الذي كان المعتصم بالله احتجزه بها، قطائع فاتسعوا بها. وبنى مسجداً جامعاً كبيراً، وأعظم النفقة عليه، وأمر برفع منارته لتعلوا أصوات المؤذنين فيها، حتى ينظر إليها من فراسخ، فجمع الناس فيه وتركوا المسجد الأول. ثم أنه أحدث مدينة سماها المتوكلية وعمرها وأقام بها، وأقطع الناس فيها القطائع، وجعلها فيما بين الكرخ المعروف بفيروز وبين القاطول المعروف بكسرى، فدخلت الدور والقرية المعروفة بالماحوزة فيها. وبنى بها مسجداً جامعاً. وكان من ابتدائه إياها إلى أن نزلها أشهر، ونزلها في أول سنة ست وأربعين ومائتين. ثم توفى بها رحمه الله في شوال سنة سبع وأربعين، واستخلف في هذه الليلة المنتصر بالله فانتقل عنها إلى سر من رأى يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال ومات بها.

قالوا: كانت عيون الطف مثل عين الصيد والقطقطانة والرهيمة وعين جمل وذواتها للموكلين بالمسالح التي وراء السواد: وهي عيون خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب الموكلين بمسالح الخندق وغيرهم. وذلك أن سابور أقطعهم أرضها فاعتملوها من غير أن يلزمهم لها خراجاً. فلما كان يوم ذي قار ونصر الله العرب بنبيه صلى الله عليه وسلم، غلبت العرب على طائفة من تلك العيون. وبقي في أيدي الأعاجم بعضها.

ثم لما قدم المسلمون الحيرة هربت الأعاجم بعد أن طمت عامة ما في أيديهم منها، وبقي الذي في أيدي العرب فأسلموا عليه، وصار ما عمروه من الأرضين عشرياً.

ولما مضى أمر القادسية والمدائن دفع ما جلا عنه أهله من أراضي تلك العيون إلى المسلمين فأقطعوه فصارت عشرية أيضاً، وكذلك مجرى عيون الطف وأرضيها مجرى أعراض المدينة وقرى نجد، وكل صدقتها إلى عمال المدينة.

فلما ولى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب السواد للمتوكل على الله ضمها إلى ما في يده، فتولى عمالة عشرها وصيرها سوادية، وهي على ذلك إلى اليوم. وقد استخرج عيونٌ إسلامية في مجرى ما سقت عيونها من الأرضين هذا المجرى.

وحدثني بعض المشايخ أن جملاً مات عند عين الجمل فنسبت إليه. وقال بعض أهل واسط: إن المستخرج لها كان يسمى جملاً.

قالوا: وسميت العين عيد الصيد لأن السمك يجتمع فيها. وأخبرني بعض الكريزيين أن عين الصيد كانت مما طم، فبينا رجل من المسلمين يجول فيما هناك إذ ساخت قوائم فرسه فيها. فنزل عنه فخفر فظهر له الماء، فجمع قوماً عاونوه على كشف التراب والطين عنها وتنقيتها حتى عادت إلى ما كانت عليه.

ثم إنها صارت بعد إلى عيسى بن علي. وكان عيسى ابتاعها من ولد حسن ابن حسن بن علي بن أبي طالب، وكانت عنده منهم أم كلثوم بنت حسن بن حسن، وكان معاوية أقطع الحسن بن علي عين صيد هذه عوضاً من الخلافة مع غيرها.

وكانت عين الرحبة مما طم قديماً، فرآها رجلٌ من حجاج أهل كرمان وهي تبض، فلما انصرف من حجه أتى عيسى بن موسى متنصحاً، فدله عليها فاستقطعها وأرضها، واستخرجها له الكرماني، فاعتمل ما عليها من الأرضين وغرس النخل الذي في طريق العذيب.

وعلى فراسخ من هيت عيونٌ تدعى العرق تجري هذا المجرى، أعشارها إلى صاحب هيت.

حدثني الأثرم، عن أبي عبيده، عن أبي عمرو بن العلاء قال: لما رأت العرب كثرة القرى والنخل والشجر قالوا:

ما رأينا سواداً أكثر. والسواد الشخص، فلذلك سمى السواد سوادا.

وحدثني القاسم بن سلام قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن محمد بن أبي موسى قال خرج: علي إلى السوق فرأى أهله قد حازوا أمكنتهم فقال: ليس ذلك لهم، إن سوق المسلمين كمصلاهم، من سبق إلى موضعٍ فهو له يومه حتى يدعه.

حدثني أبو عبيد قال: حدثني مروان بن معاوية، عن عبد الرحمن بن عبيد، عن أبيه قال: كنا نغدو إلى السوق في زمن المغيرة بن شعبة فمن قعد في موضع كان أحق به إلى الليل. فلما كان زياد قال: من قعد في موضع كان أحق به ما دام فيه.

قال مروان: وولى المغيرة الكوفة مرتين، لعمر مرة ومرة لمعاوية.

نقل ديوان الفارسية

وحدثني المدائني علي بن محمد بن ابي سيف، عن أشياخه قالوا: لم يزل ديوان خراج السواد وسائر العراق بالفارسية، فلما ولى الحجاج العراق استكتب زادان فروخ بن بيرى، وكان معه صالح بن عبد الرحمن مولى بن تميم يخط بين يديه بالعربية والفارسية. وكان أبو صالح من سبى سجستان فوصل زادان فروخ صالحاً بالحجاج وخف على قلبه. فقال له ذات يوم: إنك سببي إلى الأمير، وأراه قد استخفى ولا آمن أن يقدمني عليك وان تسقط. فقال: لا تظن ذلك، هو أحوج إلي منه إليك، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري. فقال: والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته.

قال: فحول منه شطراً حتى أرة. ففعل. فقال له: تمارض. فتمارض، فبعث إليه الحجاج طبيبه فلمير به علة. وبلغ زادان فروخ ذلك فأمره أن يظهر.

ثم إن زادان فروخ قتل أيام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وهو خارج من منزلٍ كان فيه إلى منزله أو منزل غيره. فاستكتب الحجاج صالحاً مكانه. فأعلمه الذي كان جرى بينه وبين زادان فروخ في نقل الديوان. فعزم الحجاج على أن يجعل الديوان بالعربية. وقلد ذلك صالحاً. فقال له مردا نشاه بن زادان فروخ: كيف تصنع بد هوية وششوية؟ قال: أكتب عشر ونصف عشر. قال: فكيف تصنع بويد؟ قال: أكتبه أيضاً. والويد النيف والزيادة تزاد. فقال: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية. وبذلت له مئة ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عن ذلك فأبى ونقله. فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد يقول: لله در صالح! ما أعظم منته على الكتاب.

وحدثني عمر بن شبة قال: حدثني أبو عاصم النبيل، قال أنبأ سهل بن أبي الصلت قال: أجل الحجاج صالح بن عبد الرحمن أجلاً حتى قلب الديوان.