فتح نهاوند
قالوا: لما هرب يزد جرد من حلوان في سنة تسع
عشرة، تكاتبت الفرس وأهل الري وقومس وإصبهان وهمذان والماهين وتجمعوا إلى
يزد جرد وذلك في سنة عشرين، فأمر عليهم مردا نشاه ذا الحاجب، وأخرجوا
رايتهم الدر فشكا بيان، وكانت عدة المشركين يومئذ ستين ألفاً ويقال مئة
ألف. وقد كان عمار بن ياسر كتب إلى عمر بن الخطاب بخيرهم، فهم أن يغزوهم
بنفسه، ثم خاف أن ينتشر أمر العرب بنجد وغيرها، وأشير عليه بأن يغزى أهل
الشام من شامهم، وأهل اليمن من يمنهم، فخاف إن فعل ذلك أن يعود الروم إلى
أوطانها وتغلب الحبشة على ما يليها.
فكتب إلى أهل الكوفة يأمرهم أن يسير ثلثاهم ويبقى ثلثهم لحفظ بلدهم
وديارهم. وبعث من أهل البصرة بعثاً. وقال: لأستعملن رجلاً يكون لأول ما
يلقاه من السنة. فكتب إلى النعمان بن عمرو بن مقرن المزني، وكان مع السائب
بن الأقرع الثقفي، بتوليته الجيش، وقال: إن أصبت فالأمير حذيفة بن اليمان،
فإن أصيب فجرير بن عبد الله المجلي، فإن أصيب فالمغيرة ابن شعبة، فإن أصيب
فالأشعث بن قيس. وكان النعمان عاملاً على كسكر وناحيتها، ويقال بل كان
بالمدينة فولاه عمر أمر هذا الجيش مشافهةً فشخص منها.
وحدثني شيبان قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن علقمة بن
عبد الله، عن معقل بن يسار أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان فسأل: ما ترى؟
أنبدأ بإصبهان أو بأذربيجان؟ فقال الهرمزان: إصبهان الرأس، وأذربيجان
الجناحان، فإن قطعت الرأس سقط الجناحان والرأس.
قال: فدخل عمر المسجد فبصر بالنعمان بن مقرنٍ: أما جابياً فلا ولكن غازيا.
قال: فأنت غاز. فأرسله وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه. فأمدوه، وفيهم
المغيرة بن شعبة. فبعث النعمان المغيرة إلى ذى الحاجبين عظيم العجم
بنهاوند، فجعل يشق بسطه برمحه، حتى قام بين يديه، ثم قعد على سريره فأمر به
فسحب. فقال: إني رسولٌ. ثم التقى المسلمون والمشركون فسلسلوا كل عشرةٍ في
سلسلة، وكل خمسة في سلسلة لئلا يفروا. قال: فرمونا حتى جرحوا منا جماعة،
وذلك قبل القتال.
وقال النعمان: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل في أول
النهار انتظر زوال الشمس وهبوب الرياح ونزول النصر. ثم قال: إني هازٌ لوائي
ثلاث هزات: فأما أول هزة فليتوضأ الرجل بعدها وليقض حاجته، وأما الهزة
الثانية فلينظر الرجل بعدها إلى سيفه أو قال شسعه وليتهيأ وليصلح من شأنه،
وأما الثالثة فإذا كانت إن شاء الله فاحملوا ولا يلوين أحدٌ على أحد. فهز
لواءه ففعلوا ما أمرعهم، وثقل درعه عليه فقاتل وقاتل الناس، فكان رحمه الله
أول قتيل.
قال: وسقط الفارسي عن بغلته فانشق بطنه.
قال: فأتيت النعمان وبه رمقٌ فغسلت وجهه من أدواة ماءٍ كانت معي. فقال: من
أنت؟ قلت: معقل. قال: ما صنع المسلمون؟ قلت: أبشر بفتح الله ونصره. قال:
الحمد لله، اكتبوا إلى عمر.
حدثني شيبان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثني علي بن زيد بن جدعان،عن
أبي عثمان النهدي قال: أنا ذهبت بالبشارة إلى عمر. فقال: ما فعل النعمان؟
قلت: قتل. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى، فقلت: قتل والله في
آخرين لا أعلمهم. قال: ولكن الله يعلمهم.
وحدثني أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا أبو أسامة وأبو عامر العقدي وسلم بن
قتيبة جميعا عن شعبة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال: رأيت عمر بن
الخطاب لما جاءه نعى النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكي.
وحدثنا القاسم بن سلام قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن النهاس بن
قهم، عن القاسم بن عوف، عن أبيه، عن السائب بن الأقرع - أو عن عمر بن
السائب، عن أبيه شك الأنصاري - قال: زحف إلى المسلمين زحفٌ لم ير مثله.
فذكر حديث عمر فيما هم به من الغزو بنفسه وتوليته النعمان بن مقرن وأنه بعث
إليه بكتابه مع السائب وولى السائب الغنائم وقال: لا ترفعن باطلا ولا تحبسن
حقاً. ثم ذكر الوقعة.
قال: فكان النعمان أول مقتولٍ يوم نهاوند. ثم
أخذ حذيفة الراية ففتح الله عليهم.
قال السائب: فجمعت تلك الغنائم ثم قسمتها، ثم أتاني ذو العوينتين فقال: إن
كنز النخير خان في القلعة. قال: فصعدتها فإذا أنا بسفطين فيهما جوهر لم أر
مثله قط. قال: فأقبلت إلى عمر وقد راث عنه الخبر، وهو يتطوف المدينة ويسأل.
فلما رآني قال: ويلك ما وراءك؟ فحدثته بحديث الوقعة ومقتل النعمان، وذكرت
له شأن السفطين. فقال: اذهب بهما فبعهما، ثم اقسم ثمنها بين المسلمين.
فأقبلت بهما إلى الكوفة، فأتانى شابٌ من قريش يقال له عمرو بن حريث
فاشتراهما بأعطية الذرية والمقاتلة. ثم انطلق بأحدهما إلى الحيرة فباعه بما
اشتراهما به منى، وفضل الآخر فكان ذلك أول لهوة مال اتخذه.
وقال بعض أهل السيرة: اقتتلوا بنهاوند يوم الأربعاء ويوم الخميس، ثم
تحاجزوا، ثم اقتتلوا يوم الجمعة. وذكر من حديث الوقعة نحو حديث حماد بن
سلمة.
وقال ابن الكلبي عن أبي مخنف أن النعمان بن مقرن نزل الاسبيذهان وجعل على
ميمنته الأشعث بن قيس، وعلى الميسرة المغيرة بن شعبة. فاقتتلوا، فقتل
النعمان، ثم ظفر المسلمون، فسمى ذلك الفتح فتح الفتوح.
قال: وكان فتح نهاوند في سنة تسع عشرة يوم الأربعاء، ويقال في سنة عشرين.
وحدثنا الرفاعي قال: حدثنا العنقزي، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن ومحمد
قالا: كانت وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين.
وحدثني الرفاعي قال: حدثنا العنقزى، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب مثله.
قالوا: ولما هزم جيش الأعاجم وظهر المسلمون، وحذيفة يومئذ على الناس، حاصر
نهاوند. فكان أهلها يخرجون فيقاتلون، وهزمهم المسلمون. ثم إن سماك بن عبيد
العبسي اتبع رجلاً منهم ذات يوم ومعه ثمانية فوارس، فجعل لا يبرز إليه رجلٌ
منهم إلا قتله، حتى لم يبق غير الرجل وحده، فاستسلم وألقى سلاحه، فأخذه
أسيراً، فتكلم بالفارسية، فدعا له سماك برجل يفهم كلامه فترجمه، فإذا هو
يقول: اذهب إلى أميركم حتى أصالحه عن هذه الرض وأؤدي إليه الجزية وأعطيك
على أسرك إياي ما شئت، فإنك قد مننت علي إذ لم تقتلني. فقال له: وما اسمك؟
قال: دينار. فانطلق به إلى حذيفة، فصالحه على الخراج والجزية وأمن أهل
مدينته نهاوند على أموالهم وحيطانهم ومنازلهم. فسميت نهاوند ماه دينار.
وكان دينار يأتي بعد ذلك سماكاً ويهدى إليه ويبره.
وحدثني أبو مسعود الكوفي، عن المبارك بن سعيد، عن أبيه قال: وكانت نهاوند من فتوح أهل الكوفة، والدينور من فتوح أهل البصرة. فلما كثر المسلمون بالكوفة احتاجوا إلى أن يزادوا في النواحي التي كان خراجها مقسوماً فيهم، فصيرت لهم الدينور، وعوض أهل البصرة نهاوند لأنهامن إصبهان . فصار فضل ما بين خراج الدينور ونهاوند لأهل الكوفة. فسميت نهاوند ماه البصرة، والدينور ماه الكوفة، وذلك في خلافة معاوية.
وحدثني جماعة من أهل العلم أن حذيفة بن اليمان - وهو حذيفة ابن حسيل بن جابر العبسي حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، وأمه الرباب بنت كعب بن عدي من عبد الأشهل - وكان أبو حذيفة قتل يوم أحدٍ، قتله عبد الله بن مسعود الهذلي خطاء وهو يحسبه كافراً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج ديته، فوهبه حذيفة للمسلمين. وكان الواقدي يقول: سمى حسيل باليماني لأنه كان يتجر إلى اليمن، فإذا أتى المدينة قالوا: قد جاء اليماني. وقال الكلبي: هو حذيفة بن حسيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن جروة، وجروة هو اليمان نسب إليه حذيفة، وبينهما آباء وكان قد أصاب في الجاهلية دماً وهرب إلى المدينة وحالف بني عبد الأشهل، فقال قومه: هو يمان، لأنه حالف اليمانية.
الدينور وما سبذان ومهر جانقذف
قالوا: انصرف أبو موسى الأشعري من نهاوند، وقد
كان سار بنفسه إليها على بعث أهل البصرة ممداً للنعمان بن مقرن، فمر
بالدينور، فأقام عليها خمسة أيام قوتل منها يوماً واحداً. ثم إن أهلها
أقروا بالجزية والخراج، وسألوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
فأجابهم إلى ذلك. وخلف بها عامله في خيل. ثم مضى إلى ما سبذان فلم يقاتله
أهلها. وصالحه أهل السير وان على مثل صلح ألد ينور، وعلى أن يؤدوا الجزية
والخراج. وبث السرايا فيهم فغلب على أرضها.
وقومٌ يقولون: إن أبا موسى فتح ما سبذان قبل وقعة نهاوند، وبعث أبو موسى
عبد الله بن قيس الأشعري السائب بن الأقرع الثقفى - وهو صهره على ابنته،
وهي أم محمد بن السائب - إلى الصيمرة مدينة مهر جانقذف ففتحها صلحاً على
حقن الدماء وترك السباء والصفح عن الصفراء والبيضاء، وعلى أداء الجزية
وخراج الأرض. وفتح جميع كور مهر جانقذف.
وأثبت الخير أنه وجه السائب من الأهواز ففتحها.
حدثني محمد بن عقبة بن مكرم الضبي، عن أبيه، عن سيف بن عمر التميمي، عن
أشياخ من أهل الكوفة أن المسلمين لما غزوا الجبال فمروا بالقلة الشرقية
التي تدعى سن سميرة - وسميرة امرأة من ضبة من بني معاوية بن كعب بن ثعلبة
بن سعد بن ضبة من المهاجرات - وكانت لها سن فسمى ذلك سن سميرة.
قال ابن هشام الكلبي: وقناطر النعمان نسبت إلى النعمان بن عمرو بن مقرن
المزنى، عسكر عندها وهي قديمة.
وحدثني العباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن
عوانة قال: كان كثير بن شهاب بن الحصين بن ذى الغصة الحارثي عثمانياً يقع
في علي بن أبي طالب ويثبط الناس عن الحسين، ومات قبيل خروج المختار بن أبي
عبيد أو في أول أيامه، وله يقول المختار بن أبي عبيد في سجعه: "أما ورب
السحاب، شديد العقاب، سريع الحساب، منزل الكتاب، لأنبشن قبر كثير بن شهاب،
المفترى الكذاب".
وكان معاوية ولاه الري ودستبى، حيناً من قبله ومن قبل زيادة والمغيرة ابن
شعبة عامليه. ثم غضب عليه فحبسه بدمشق، وضربه جتى شخص شريح ابن هانئ
المرادي إليه في أمره فتخلصه. وكان يزيد بن معاوية قد حمد مشابعته وأتباعه
لهواه، فكتب إلى عبيد الله بن زياد في توليته ماسبذان ومهر جانقذف وحلوان
والماهين، وأقطعه ضياعاً بالجبل، فبنى قصره المعروف بقصر كثير، وهو من عمل
الدينور.
وكان زهرة بن الحارث بن منصور بن قيس بن كثير بن شهاب اتخذ بما سبذان
ضياعا.
حدثني بعض ولد خشرم بن مالك بن هبيرة الأسدي أن أول نزول الخشارمة ما سبذان
كان في آخر أيام بني أمية، نزع إليها جدهم من الكوفة.
وحدثني العميري، عن الهيثم بن عدي قال: كان زياد في سفر، فانقطع سفشق قائه،
فأخرج كثير بن شهاب إبرةً كانت مغروزةً في قلنسوته وخيطاً كان معه فأصلح
السفشق. فقال له زياد: أنت حازم، وما مثلك يعطل. فولاه بعض الجبل.