الجزء الثالث - أمر الخاتم

أمر الخاتم

حدثني عفان بن مسلم قال: حدثنا شعبة قال: أنبأ قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى ملك الروم قيل له: إنهم لا يقرأون الكتاب إلا أن يكون مختوماً.

قال: فاتخذ خاتماً من فضة. فكأني أنظر إلى بياضه في يده. ونقش عليه: محمدٌ رسول الله.

حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني قال: حدثنا حماد بن زيد قال: أنبأ أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة، وجعل فصه من باطن كفه، حدثني محمد بن حيان الحياني قال: حدثنا زهير، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة كله وفصه منه.

حدثنا عمرو الناقد قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حميد، عن الحسن قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق، وكان فصه حبشيا.

حدثنا هدية بن خالد قال: حدثنا همام بن يحيى، عن عبد العزيز ابن صهيب، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد صنعت خاتماً فلا ينقشن أحدٌ على نقشه.

حدثنا بكر بن الهيثم قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وقتادة قالا: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، ونقش عليه محمد رسول الله. فكان أبو بكر يختم به، ثم عمر، ثم عثمان، وكان في يده فسقط من يده في البئر، فنزفت فلم يقدر عليه، وذلك في النصف من خلافته. فاتخذ خاتماً ونقش عليه محمد رسول الله في ثلاثة أسطر.

قال قتادة: وحربه "كذا".

حدثنا هناد قال: حدثنا الأسود بن شيبان قال: أخبرنا خالد بن سمير قال: انتقش رجل يقال له معن بن زائدة على خاتم الخلافة. فأصاب مالاً من خراج الكوفة على عهد عمر، فبلغ ذلك عمر، فكتب إلى المغيرة بن شعبة: إنه بلغني أن رجلاً يقال له معن بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة، فأصاب به مالاً من خراج الكوفة. فإذا أتاك كتابي هذا فنفذ فيه أمري، وأطع رسولي.

فلما صلى المغيرة العصر وأخذ الناس مجالسهم خرج ومعه رسول عمر. فاشرأب الناس ينظرون إليه حتى وقف على معن. ثم قال للرسول: إن أمير المؤمنين أمرني أن أطيع أمرك فيه فمرني بما شئت. فقال للرسول: ادع لي بجامعة أعلقها في عنقه. فأتى بجامعة فجعلها في عنقه وجبذها جبذاً شديداً. ثم قال للمغيرة: احبسه حتى يأتيك فيه أمر أمير المؤمنين. ففعل.

وكان السجن يومئذ من قصب، فتمحل معنٌ للخروج، وبعث إلى أهله: أن ابعثوا لي بناقتي وجاريتي وعباءتي القطوانية. ففعلوا. فخرج من الليل وأردف جاريته، فسار حتى إذا رهب أن يفصحه الصبح أناخ ناقته وعقلها، ثم كمن حتى كف عنه الطلب. فلما أمسى أعاد على ناقته العباءة وشد عليها وأردف جاريته، ثم سار حتى قدم على عمر، وهو يوقظ المتهجدين لصلاة الصبح، ومعه درته.

فجعل ناقته وجاريته ناحيةً ثم دنا من عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمه الله وبركاته. فقال: وعليك. من أنت؟ قال: معن بن زائدة جئتك تائباً. قال: ائت فلا يحييك الله. فلما صلى صلاة الصبح قال الناس: مكانكم.

فلمت طلعت الشمس قال: هذا معن بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة فأصاب فيه مالاً من خراج الكوفة، فما تقولون فيه؟ فقال قائل: اقطع يده. وقال قائل: اصلبه. وعليٌ ساكت. فقال له عمر: ما تقول أبا الحسن. قال: يا أمير المؤمنين رجل كذب كذبة عقوبته في بشره. فضربه عمر ضرباً شديداً - أو قال مبرحاً - وحبسه. فكان في الحبس ما شاء الله. ثم إنه أرسل إلى صديق له من قريش: أن كلم أمير المؤمنين في تخلية سبيلي. فكلمه القرش فقال: يا أمير المؤمنين معن بن زائدة قد أصبته من العقوبة بما كان له أهلاً، فإن رأيت أن تخلي سبيله. فقال عمر: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً. علي بمعن. فضربه، ثم أمر به إلى السجن. فبعث معن إلى كل صديق له: لا تذكروني لأمير المؤمنين. فلبث محبوساً ما شاء الله.

ثم إن عمر انتبه له، فقال: معن. فأتى به فقاسمه وخلى سبيله.

حدثني المفضل البشكري وأبو الحسن المدائني، عن ابن جابان، عن ابن المقفع قال: كان ملك الفرس إذا أمر بأمر وقعه صاحب التوقيع بين يديه، وله خادم يثبت ذكره عنده في تذكرة تجمع لكل شهر، فيختم عليها الملك خاتمه، وتخزن، ثم ينفذ التوقيع إلى صاحب الزمام وإليه الختم، فينفذه إلى صاحب العمل، فيكتب به كتاباً من الملك، وينسخ في الأصل، ثم ينفذ إلى صاحب الزمام فيعرضه على الملك، فيقابل به ما في التذكرة، ثم يختم بحضرة الملك أو أوثق الناس عنده.

وحدثني المدائني، عن مسلمة بن محارب قال: كان زياد بن أبي سفيان أول من اتخذ من العرب ديوان زمامٍ وخاتم امتثالاً لما كانت الفرس تفعله.

حدثني مفضل اليشكري قال: حدثني ابن جابان، عن ابن المقفع قال: كان لملكمن ملوك فارس خاتم للسر، وخاتم للرسل، وخاتم للتخليد، يختم به السجلات والإقطاعات وما أشبه ذلك من كتب التشريف، وخاتم للخراج. فكان صاحب الزمام يليها. وربما أفرد بخاتم السر والرسائل رجلٌ من خاصة الملك.

وحدثني أبو الحسن المدائني، عن ابن جابان، عن ابن المقفع قال: كانت الرسائل بحمل المال تقرأ على الملك، وهي تكتب في صحفٍ بيض. وكان صاحب الخراج يأتي الملك كل سنة بصحف موصلة قد أثبت فيها مبلغ ما اجتبى من الخراج، وما أنفق في وجوه النفقات، وما حصل في بيت المال، فيختمها ويجريها. فلما كان كسرى بن هرمز ابرويز تأذى بروائح تلك الصحف وأمر أن لا يرفع إليه صاحب ديوان خراجه ما يرفع إلا في صحف مصفرة بالزعفران وماء الورد، وأن لا تكتب الصحف التي تعرض عليه بحمل المال وغير ذلك إلا مصفرة. ففعل ذلك.

فلما ولى صالح بن عبد الرحمن خراج العراق تقبل منه ابن المقفع بكور دجلة، ويقال بالبهقباذ، فحمل مالاً. فكتب رسالته في جلد وصفرها. فضحك صالح وقال: أنكرت أن يأتي بها غيره.

يقول: لعلمه بأمور العجم.

قال أبو الحسن: وأخبرني مشايخ من الكتاب أن دواوين الشام إنما كانت في قراطيس، وكذلك الكتب إلى ملوك بني أمية في حمل المال وغير ذلك. فلما ولى أمير المؤمنين المنصور أمر وزيره أبا أيوب المورياني أن يكتب الرسائل بحمل الأموال في صحف، وأن تصفر الصحف. فجرى الأمر على ذلك.