المجلد الأول - من نصائح الرشاد لمصالح العباد

اعلم أن سبب هلاك الملوك اطراح ذوي الفضائل واصطناع ذوي الرذائل والاستفاف بعظة الناصح والاغترار بتزكية المادح من نظر في العواقب سلم من النوائب وزوال الدول اصطناع السفل ومن استغنى بعقله ضل ومن اكتفى برأيه زل ومن أستشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الرمان الملك يبقى على الكفر والعدل لا يبقى على الجور والأيمان‏.‏

ويقال‏:‏ حق على من ملكه الله على عباده وحكمه في بلاده أن يكون لنفسه مالكًا وللهوى تاركًا وللغيظ كاظمًا وللظلم هاضمًا وللعدل في حالتي الرضى والغضب مظهرًا وللحق في السر والعلانية مؤثرًا وإذا كان كذلك الزم النفوس طاعته والقلوب محبته وأشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه‏.‏

ولقد صدق من قال‏:‏ يا أيها الملك الذي بصلاحه صلح الجميع أنت الزمان فإن عدلت فكله أبدا ربيع وقال عمرو بن العاص‏:‏ ملك عادل خير من مطر وابل من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه‏.‏

موعظة‏:‏ كل محنة إلى زوال وكل نعمة إلى انتقال‏:‏ رأيت الدهر مختلفا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور وشيدت الملوك به قصورًا فما بقي الملوك ولا القصور وقال المأمون‏:‏ يبقى الثناء وتنفذ الأموال ولكل وقت دولة ورجال من كبرت همته كثرت قيمته‏.‏

لا تثق بالدولة فإنها ظل زائل ولا تعتمد على النعمة فأنها ضيف راحل‏.‏

فإن الدنيا لا تصفو لشارب ولا تفي لصاحب‏.‏

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري‏:‏ انصحني فكتب إليه‏:‏ أن الذي يصحبك لا ينصحك والذي ينصحك لا يصحبك وسأل معاوية الأحنف بن قيس وقال له‏:‏ كيف الزمان فقال أنت الزمان أن صلحت صلح الزمان وأن فسدت فسد الزمان‏.‏

آفة الملوك سوء السيرة وآفة الوزراء خبث السريرة وآفة الجند مخالفة القادة وآفة الرعية مخالفة السادة وآفة الرؤساء ضعف السياسة وآفة العلماء حب الرياسة وآفة القضاة شدة الطمع وآفة العدول قلة الورع وآفة القوي استضعاف الخصم وآفة الجريء إضاعة الحزم وآفة المنعم قبح المن وآفة المذنب حسن الظن والخلافة لا يصلحها ألا التقوى والرعية لا يصلحها ألا العدل فمن جارت قضيته ضاعت رعيته ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته‏.‏

ويقال‏:‏ شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر‏:‏ السلطان والرعية‏.‏

ومن كلام بعض البلغاء‏:‏ خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء وإذا هم بالخير أو عمل به أدخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء ويعم البلاد والعباد‏.‏

ولنقبض عنان العبارات والنقلية في أرض الإشارات العقلية المقتطفة من نظم السلوك في مسامرة الملوك وغرر الخصائص وغرر النقائص وهو باب واسع كثير المنافع وملاك الأمر في ذلك حسن القابلية وأن تكون مرآة إذا كان الطباع طباع سوء فليس بنافع أدب الأديب وقيل‏:‏ إن الأخلاق وأن كانت غريزية فإنه يمكن تطبعها بالرياضة والتدريب والعادة والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب مفتعل والتطبع مجذوب منفعل تتفق نتائجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الاسترسال‏.‏

وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الأخلاق الجميلة ونفسه مع ذلك تتشوق إلى المنقبة وتتأنف من المثلبة‏.‏

لكن سلطان طبعه يأبى عليه ويستعصي عن تكليف ما ندب إليه يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب وسبب ذلك ما قرره المتكلمون في الأخلاق من أن الطبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة أعانته لها‏.‏

وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الإخلاء أما بالصالح أو بالفساد فرب طبع كريم أفسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار‏.‏

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل‏.‏

وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن‏:‏ الأخ رقعة في ثوبك فانظر بمن ترقعه‏.‏

وقال بعض الحكماء في وصيته لولده‏:‏ يا بني أحذر مقارنة ذوي الطباع المزدولة لئلا تسرق طباعك طباعهم وأنت لا تشعر وأما إذا كان الخليل كريم الأخلاق شريف الأعراق حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدي وبنجم رشده في طريق المكارم يهتدي وإذا كان سيئ الأعمال خبيث الأقوال كان المغتبط به كذلك ومع هذا فواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه‏.‏

وقال عمرو بن العاص المرء حيث يجعل نفسه أن رفعها ارتفعت وأن وضعها اتضعت‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ النفس عروف عزوف ونفور الوف متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت وأن أصلحتها صلحت وأن أفسدتها فسدت‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت وقالوا‏:‏ من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الإنسان فكره وتميزه فيما ينتج عن الأخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره فيأخذ نفسه بما استحسن منها واستملح ويصرفها عما استهجن منها واستقبح‏.‏

فقد قيل‏:‏ كفاك تأديبا ترك ما كرهه الناس من غيرك‏.‏

اللهم بحرمة سيد الأنام يسر لنا حسن الختام واصرف عنا سوء القضاء وانظر لنا بعين الرضاء وهذا أوان انشقاق كمائم طلع الشماريخ عن زهر مجمل التاريخ‏.‏

أول خليفة جعل في الأرض آدم عليه الصلاة والسلام بمصداق قوله تعالى‏:‏ أني جاعل في الأرض خليفة‏.‏

ثم توالت الرسل بعده لكنها لم تكن عامة الرسالة بل كل رسول أرسل إلى فرقة فهؤلاء الرسل عليهم السلام مقررون شرائع الله بين عباده وملزموهم بتوحيد وامتثال أوامره ونواهيه ليترتب على ذلك انتظام أمور معاشهم في الدنيا وفوزهم بالنعيم السرمدي إذا امتثلوا في الآخرة إلى أن جاء ختامهم الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمره بالصدع والإعلان والتطهير من عبادة الأوثان‏.‏

وآمن به من آمن من الصحابة رضوان الله عليهم وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون‏.‏

ولم يزل هذا الدين القويم من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينمو ويتعالى ويسمو حتى تم ميقاته وقربت من النبي وفاته‏.‏

وأنزل الله عليه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏.‏

ولما قبض صلى الله عليه وسلم قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي كرم الله وجهه ولم تصف له الخلافة بمغالبة معاوية رضوان الله عليهم أجمعين في الأمر وبموت علي رضي الله عنه تمت مدة الخلافة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا عضوضًا وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الأمويين وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني وإظهاره دولة بني العباس‏.‏

كان أولهم السفاح وظهرت دولتهم الظهور التام وبلغت القوة الزائدة والضخامة العظيمة ثم أخذت في الانحطاط بتغلب الأتراك والديلم ولم تزل منحطة وليس للخلفاء في آخر الأمر إلا الاسم فقط حتى ظهرت فتنة التتار التي أبادت العالم وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المعتصم وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمر بن العاص و لم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين‏.‏

وتغلب على النواحي كل متملك لها فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام ثم دولة الاخشيد وبعده كافور أبو المسك‏.‏

ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب فملكها من غير ممانع وأسس القاهرة وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة‏.‏

وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت وسكن بالقصرين وأدعى الخلافة لنفسه دون العباسيين‏.‏

وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي وهو جد بني عبيد الخلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين فحج تلك السنة وأجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولاده من بعده إلى أن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن اسمعيل بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور فتملكت الإفرنج بلاد السواحل الشامية وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي فاجتهد في قتال الإفرنج واستخلص ما استولوا عليه من بلاد المسلمين وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر فحاصرها نحو شهرين فاستنجد العاضد بالإفرنج فحضروا من دمياط فرحل أسد الدين إلى الصعيد فجبى خراجه ورجع إلى الشام‏.‏

وقصد الإفرنج الديار المصرية في جيش عظيم وملكوا بلبيس وكانت إذ ذاك مدينة حصينة ووقعت حروب بين الفريقين فكانت الغلبة فيها على المصريين وأحاطوا بالإقليم برًا وبحرًا وضربوا على أهله الضرائب‏.‏

ثم أن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط فأمر الناس بالجلاء عنها وأرسل عبيده بالشعل والنفوط فأوقدوا فيها النار فاحترقت عن آخرها واستمرت النار بها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد يستنجد نور الدين وبعث إليه بشعور نسائه فأرسل إليه جندًا كثيفًا وعليهم أسد الدين شيركوه وأبن أخيه صلاح الدين يوسف فارتحل الإفرنج عن البلاد وقبض أسد الدين على الوزير شاور الذي أشار بحرق المدينة وصلبه وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يوما فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين وقلده الأمور ولقبه الملك الناصر فبذل لله همته وأعمل حيلته وأخذ في إظهار السنة وإخفاء البدعة‏.‏

فثقل أمره على الخليفة العاضد فابطن له فتنة أثارها في جنده ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد وإخراجهم من بلاده فتفاقم الأمر وانشقت العصا ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها الناصر يوسف وأخوه شمس الدولة بلاء حسنا وانجلت الحروب عن نصرتهما فعند ذلك ملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه وقتل أعيان دولته واحتوى على ما في القصور من الذخائر والأموال والنفائس بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه‏.‏

وخطب للمستضيئ العباسي بمصر وسير البشارة بذلك إلى بغداد ومات العاضد قهرًا وأظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية وطهر الإقليم من البدع والتشييع والعقائد الفاسدة وأظهر عقائد أهل السنة والجماعة وهي عقائد الأشاعرة والماتريدية و بعث إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقائد فحمل الناس على العمل بما فيه ومحا من الإقليم مستنكرات الشرع وأظهر الهدي ولما توفي نور الدين الشهيد انضم إليه ملك الشام وواصل الجهاد وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس بعد ما أقام بيد الإفرنج نيفًا وإحدى وتسعين سنة وأزال ما أحدثه الإفرنج من الآثار والكنائس‏.‏

ولم يهدم القيامة اقتداء بعمر رضي الله عنه وافتتح الفتوحات الكثيرة واتسع ملكه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة ولم يترك إلا أربعين درهما وهو الذي أنشأ قلعة الجبل وسور القاهرة العظيم‏.‏

وكان المشد على عمائره بهاء الدين قراقوش ثم استمر الأمر في أولاده وأولاد أخيه الملك العادل وحضر الإفرنج أيضًا إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل وملكوا دمياط وهدموها فحاربهم شهورًا حتى أجلاهم وعمرت بعد ذلك دمياط هذه الموجودة في غير مكانها وكانت تسمى بالمنشية والكامل هذا هو الذي أنشأ قبة الشافعي رضي الله عنه عندما دفن بجواره موتاهم وأنشأ المدرسة الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث‏.‏

وفي أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل حضر الإفرنج وملكوا دمياط وزحفوا إلى فارسكور واستمر الملك الصالح يحاربهم أربعة عشر شهرًا وهو مريض وانحصر جهة الشرق وأنشأ المدينة المعروفة بالمنصورة ومات بها سنة سبع وأربعين وستمائة والحرب قائمة وأخفت زوجته شجرة الدر موته ودبرت الأمور حتى حضر أبنه توران شاه من حصن كيفا وانهزمت الإفرنج وأسر ملكهم ريدا وكانوا طائفة الفرنسيس والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك واتخذ منهم جندًا كثيفًا وبنى لهم قلعة الروضة وأسكنهم بها وسماهم البحرية ومقدمهم الفارس اقطاي‏.‏

والملك الصالح هو الذي بنى المدارس الصالحية بين القصرين ودفن بقبة بنيت له بجانب المدرستين‏.‏

ولما أنهزم الإفرنج ومات الصالح وتملك ابنه توران شاه استوحش من مماليك أبيه واستوحشوا منه فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور و قلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر ثم خلعت وهي آخر الدولة الأيوبية ومدة ولايتهم إحدى وثمانون سنة‏.‏

الملوك التركية ثم تولى سلطنة مصر عز الدين أيبك التركماني الصالحي سنة ثمان وأربعين وستمائة وهو أول الدولة التركية بمصر‏.‏

ولما قتل ولوا أبنه المظفر علي فلما وقعت حادثة التتار العظمى خلع المظفر لصغره وتولى الملك المظفر قطز وخرج بالعساكر المصرية لمحاربة التتار فظهر عليهم وهزمهم ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك بعد أن كانوا ملكوا معظم المعمور من الأرض وقهروا الملوك وقتلوا العباد وخربوا البلاد‏.‏

وفي سنة أربع وخمسين وستمائة ملكوا سائر بلاد الروم بالسيف وفي البحر‏.‏

فلما فرغوا من ذلك صنيعه نزل هولاكو خان وهو ابن طولون بن جنكيز خان على بغداد وذلك سنة ست وخمسين وهي إذ ذاك كرسي مملكة الإسلام ودار الخلافة فملكها وقتلوا ونهبوا وأسروا من بها من جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء والأئمة والقراء والمحدثين وأكابر الأولياء والصالحين وفيها خليفة رب العالمين وأمام المسلمين وأبن عم سيد المرسلين فقتلوه وأهله وأكابر دولته وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق‏.‏

ثم أن هولاكو خان أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الأزقة وفعلوا ما لم يتقدم مثله‏.‏

ثم وصلوا إلى دمشق وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب فخرج هاربا وخرج معه أهل القدرة ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم وتعدوها فوصلوا إلى نابلس ثم إلى الكرك وبيت المقدس فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود وتقل في أعينهم أعداد الجنود فالتقاهم عند عين جالوت فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطونهم‏.‏

ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحًا‏.‏

ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدًا منصورًا وأحبه الخلق محبة عظيمة وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم وكان السلطان وعد بحلب ثم رجع عن ذلك‏.‏

فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر وكذلك السلطان وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبة فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق‏.‏

الملك بيبرس ودخل بيبرس مصر سلطانًا وتلقب بالملك الظاهر وذلك سنة ثمان وخمسين وستمائة وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي أحد المماليك البحرية وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات وجهز الحج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار‏.‏

فلما وصلوا إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة فقال أمير المحمل لأمير مكة‏:‏ أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس فقال‏:‏ دعه يأتيني على الخيل البلق‏.‏

فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق وجهزهم صحبة أمير الحج وخرج بعدهم على ثلاث نوق عشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة فحاربوهم فنصرهم الله عليهم وقتل ملك التتار وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له‏:‏ أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق‏.‏

فوقع إلى الأرض وركب السلطان فرسه ودخل إلى مكة وكسا البيت وعاد إلى مصر واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما وحج سنة سبع وستين وستمائة‏.‏

ولذلك خبر طويل ذكره العلامة المقريزي في ترجمته في تواريخه وفي الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادًا للشرع وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر حميدة ومنها رد الخلافة لبني العباس وذلك أنه لما جرى على بغداد وقتل الخليفة وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات حضر شخص من أولاد الخلفاء الفارين في الواقعة إلى عرب العراق ومعه عشرة من بني مهارش فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم ولقب بالمستنصر وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان وللمسلمين ثم صلى بالناس ورسم بعمل خلعة خليفة إلى السلطان وكتب له تقليدا وقرأ بظاهر القاهرة بحضرة الجمع وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وفوض إليه الأمور وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمول على رأسه ودخل من باب النصر وزينت القاهرة والأمراء مشاة بين يديه ورتب له اتابكيًا واستادارًا وخازندارًا وحاجبًا وشرابيًا وكاتبًا وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلًا وعشر قطارات جمال إلى أمثال ذلك‏.‏

ثم أنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق وجهز معه ملوك الشرق صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم فعدم الخليفة ولم يعلم له خبر‏.‏

وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا عند بني خفاجة فتوصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا فأخبر به صاحب دمشق فطلبه وكاتب السلطان في شأنه فأرسل يستدعيه فأرسله مع جماعة من أمراء العرب فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام فلم ير أن يدخل إليها فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها ومنهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقًا كثيرًا وقصد عانة ولقب بالحاكم‏.‏

فلما خرج المستنصر وافاه بعانة فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته فلما قدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى ابن مهنا فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة‏.‏

واستمرت الخلافة بمصر وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة وهذه من مناقب الملك الظاهر‏.‏

ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرًا والأمر لقلاوون فخلعه واستبد بالملك ولقب بالملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري والمدرسة والقبة التي دفن بها وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك‏.‏

تولى سنة ثمان وسبعين وستمائة ومات أواخر مدته إحدى عشر سنة‏.‏

وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكان بطلًا شجاعًا ذا همة علية ورياسة مرضية خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة ثلاث وتسعين وستمائة ونقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون‏.‏

مات في حياة أبيه وكان هو أكبر أولاده مرشحًا للسلطنة‏.‏

ولما مات الأشرف تولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي‏.‏

أقيم في السلطنة وعمره تسع سنين فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين ‏)‏كنبغا‏(‏ الملك العادل فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل وتسلطن عوضه ثم ثار عليه طغى وكبرى فقتلاه وقتلا أيضا‏.‏

واستدعى الناصر من الكرك فقدم وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورا عليه والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعمائة وأظهر أنه يريد الحج بعياله فوافقه الأميران على ذلك وشرعا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك برمي الإقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فلما تهيأ لذلك احضر الأمراء تقاد معهم الخيل والجمال ثم ركب إلى بركة الحاج وتعين معه للسفر جماعة من الأمراء‏.‏

وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة فرحل من ليلته وخرج إلى الصالحية وعيد بها وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال ونزل بقلعتها وصرح بأنه قد ثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالكرك وترك السلطنة ليستريح وكتب إلى الأمراء بذلك وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك وأعاد من كان معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها خمسمائة هجين والمال والجمال وجميع التقادم وأمر نائب الكرك بالمسير عنه وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر وكتب للناصر تقليدًا بنيابة الكرك‏.‏

فعندما وصله التقليد مع آل ملك اظهر البشر وخطب باسم المظفر على منبر الكرك وأنعم على البريد الحاج آل ملك وأعاده فلم يتركه المظفر وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي أخذه من الكرك‏.‏

وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه فحثوه على القيام لأخذ ملكه ووعدوه بالنصرة فتحرك لذلك وسار إلى دمشق واتت النواب إليه‏:‏ وقدم إلى مصر وفر بيبرس وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ومات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وكسور ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام‏.‏

وكان ملكًا عظيمًا جليلًا كفوءًا للسلطنة ذا دهاء محبًا للعدل والعمارة وطابت مدته وشاع ومن محاسنه أنه لما أستبد بالملك أسقط جميع المكوس من أعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد وهو الروك الناصري المشهود وأبطل الرشوة وعاقب عليها فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي ولا يقضي إلا بالحق‏.‏

فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة‏.‏

وفي أيامه كثرت العمائر حتى يقال أن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها وله ولأمرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة وحضر في أوائل دولته القان غازات بجنود التتار فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين‏.‏

وبعض مناقبه تحتاج إلى طول ونحن لا نذكر إلا لمعًا فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بالمطولات‏.‏

وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان ينقل عنه المؤرخون وللصفي الحلي فيه مرثية رائية بليغة نحو ستين بيتا‏.‏

ولما مات دفن على والده بالقبة المنصورية بين القصرين‏.‏

وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانا منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك هو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة والتي منها ديوان الصبابة والسكردان وطوق الحمامة وحاطب ليل وقرع سن‏.‏

ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمائمهم وفي ذلك يقول بعضهم‏:‏ جعلوا لأبناء النبي علامة أن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي أيام الأشرف هذا قدمت الإفرنج إلى الإسكندرية على حين غفلة ونهبوا أموالها وأسروا نساءها ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعساكره فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها‏.‏

ولهذه الواقعة تاريخ أطلعت عليه في مجلدين ويقال أن الفرنساوي الذي يكون في أذنه قرط أمه أصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة‏.‏

وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب فأمر بإخراجهم من مصر فتجمعوا وعصوا فحاربهم وقاتلهم فانهزموا فقبض على كثير منهم فقتل منهم طائفة وغرق منهم طائفة ونفى منهم طائفة وبقي منهم بمصر طائفة التجئوا إلى بعض الأمراء وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن ومنهم صرغتمش واسند مروآلجاي اليوسفي وهم كثيرون مختلفي الأجناس ومنهم من جنس الجركس فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتدخلوا في الدولة فاستقر أمرهم على أن طائفة منهم سكنوا بالطباق ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمراء وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري‏.‏

فلما عزم الأشرف على الحج وأخذ في أسباب ذلك انتهزوا عند ذلك الفرصة وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة ويزيلوا السلطان والأمراء‏.‏

ولما خرج السلطان من مصر خرج في أبهة عظيمة وتجمل زائد بعد أن رتب الأمور وأستخلف بمصر وثغورها من يثق به وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة ومنهم جملة من الجلبان وأبقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك ولا ينفع الحذر من القدر‏.‏

فلما خرج السلطان وبعد عن مصر أثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طائفة من المماليك السلطانية وفعلوا ما فعلوه ونادوا بموت السلطان وولوا أبنه ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان وثار أيضا أصحابهم على السلطان في العقبة فانهزم بعد أمور طالا المجيء إلى مصر وصحبته الأمراء الكبار وبعض المماليك ونهبت الخزينة والحج وذهب البعض إلى الشام والبعض إلى الحجاز والبعض إلى مصر صحبة حريم السلطان وجرى ما هو مسطر في الكتاب من ذبح الأمراء واختفاء السلطان وخنقه وتمكن هؤلاء الأجلاب من الدولة ونهبوا بيوت الأموال وذخائر السلطان واقتسموا محاظيه وكذلك الأمراء ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك وأزالوا عز الدولة القلاوونية وأخذوا لأنفسهم الأمريات والمناصب وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض يجبى إليهم ثمرات كل شيء‏.