المجلد الأول - ولاية محمد باشا راقم

ولاية محمد باشا راقم

وفـي أثنـاء ذلك ورد الخبر بوصول محمد باشا راقم إلى سكندرية فأرسلوا له الملاقار وحضر إلى مصر وطلع إلى القلعة في غرة ربيع الثاني سنة 1181‏.‏

وفي حادي عشر جمادى الأولى أجتمعوا بالديوان وقلدوا حسن بك رضوان دفتر دار مصر‏.‏

وفي خامس عشرة قلدوا خليل بك بلعيه أمير الحاج وقاسم إغا صنجقًا وكتبوا فرمانا بطلوع التجريدة إلـى قبلـي ولبـس صـاري عسكرهـا حسيـن بيـك كشكـش وشرعـوا فـي التشهيـل وأضطرهـم الحـال إلـى مصـادرة التجـار وأحضر خليل بيك النواخيد وهم منلا مصطفى وأحمد أغا الملطيلي وقرأ إبراهيم وكاتب البهار وطلب منهم مال البهار معجلًا فاعتذروا فصرخ عليهم وسبهم فخرجـوا مـن بيـن يديـه وأخـذوا فـي تشهيـل المطلـوب وجمـع المـال مـن التجـار وبـرز حسيـن بيك خيامه للسفر في منتصف جمادى الأولى وخرج صحبته ستة من الصناجق وهم حسن بيك جوجو وخليل بيك السكران وحسن بيك شبكة واسمعيل بيك أبو مدفع وحمزة بيك وقاسم بيك وأسرعوا في الارتحال‏.‏

وفـي عشرينـه أخـرج خلفهـم أيضـًا خليـل بـك تجريدة أخرى وفيها ثلاثة صناجق ووجاقلية وعسكر مغاربـة وسافـروا أيضـًا في يومها وبعد ثلاثة أيام ورد الخبر وقوع الحرب بينهم ببياضة تجاه بني سويـف فكانـت الهزيمـة علـى حسيـن بـك ومـن معـه وقتـل علـي أغـا الميجـي وخلافه‏.‏

وقتل من ذلك الطـرف ذو الفقـار بـك ورجـع المهزومـون فـي ذلـك ثانـي يـوم الأحـد طلعـوا إلـى أبـواب القلعـة وطلبـوا من الباشـا فرمانـا بالتجريـدة علـى الكثـرة وهـو يـوم السبـت رابـع عشرينـه وهـم في اسأ حال‏.‏

وأصبحوا يـوم علي بك وصالح بك ومن معهم وطلبوا مائتي كيس من الميري يصرفوها في اللوازم فامتنع الباشـا مـن ذلـك وحضـر الخبر يوم الاثنين بوصول القادمين إلى غمازة وكان الوجاقلية وحسن بك جوجو ناصبين خيامهم جهة البساتين فارتحلوا ليلًا وهربوا وتخبل عقل خليل بك وحسين بك ومـن معهمـا وتحيـروا فـي أمرهم وتحققوا الأدبار والزوال وأرسل الباشا إلى الوجاقلية يقول لهم كل وجاق يلازم بابه‏.‏

وفي سابـع عشرينـه حضـر علـي بـك وصالـح بـك ومـن معهـم إلـى البساتيـن فـازداد تحيرهـم وطلعـوا إلـى الأبواب فوجدوها مغلوقة فرجعوا إلى قراميدان وجلسوا هناك ثم رجعوا وتسحب تلك الليلة كثير من الأمراء والأجناد وخرجوا إلى جهة علي بك وكان حسن بك المعروف بجوجو ينافق الطرفين ويراسل علي بك وصالح بك سرًا ويكاتبهما وضم إليه بعض الأمراء مثل قاسم بك خشداشـه واسمعيـل بـك زوج هانـم بنـت سيدهـم وعلـي بـك السروجـي وجن علي وهو خشداش إبراهيم بك بلغية وكثير مـن أعيـان الوجاقليـة ويرسلـون لهـم الـأوراق فـي داخـل الأقصـاب التـي يشربـون فيها الدخان ونحو ذلك‏.‏

وفي ليلة الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى هرب الأمراء الذين بمصر وهم خليل بك شيخ البلد وأتباعه وحسين بك كشكـش وأتباعـه وهـم نحـو عشـرة صناجـق وصحبتهـم مماليكهـم وأجنادهـم عـدة كثيـرة وأصبـح يـوم الخميـس فخـرج الأعيـان وغيرهـم لملاقـاة القادميـن ودخل في ذلك اليوم علي بك وصالح بك وصناجقهم ومماليكهم وأتباعهم وجميع من كان منفيًا بالصعيد قبل ذلـك مـن أمـراء ووجاقليـة وغيرهم وحضر صحبتهم علي كتخدا الخربطلي وخليل بك السيوطي وقلده علي بك الصنجقية مجددًا وضربت النوبة في بيته ثم أعطاه كشوفية الشرقية وسافر إليها‏.‏

وفـي يـوم الأحـد ثانـي شهـر جمـادى الثانيـة طلـع علـي بـك وصالح بك وباقي الأمراء القادمين والذين تخلفوا عن الذاهبين مثل حسن بك جوجو واسمعيل بك زوج هانم وجـن علـي وعلـي بـك السروجـي وقاسـم بـك والاختياريـة والوجاقليـة وغيرهـم إلـى الديـوان بالقلعة فخلع الباشا على علي بـك وأستقر في مشيخة البلد كما كان وخلع علي صناجقه خلع الأستمرار أيضًا في أماراتهم كمـا كانوا ونزلوا إلى بيوتهم وثبت قدم علي بك في إمارة مصر ورئاستها في هذه المرة وظهر بعد ذلك الظهور التام وملك الديار المصرية والأقطار الحجازية والبلاد الشامية وقتل المتمردين وقطـع المعانديـن وشتـت شمـل المنافقيـن وخـرق القواعد وخرم العوائد وأحزب البيوت القديمة وأبطل الطرائق التي كانت مستقيمة ثم أنه حضر سليمان أغا كتخدا الجاويشية وصناجقه إلى مصر وعزم على نفي بعض الأعيان وأخراجهم من مصر فعلم أنه لا يتمكن من أغراضه مع وجود حسن بك جوجو وأنم ما دام حيًا لا يصفو له الحال فأخذ يدبر على قتله فبيت مع أتباعهم علـى قتلـه فحضـر حسـن بـك جوجـو وعلـي بـك جن علي عند علي بك وجلسوا معه حصة من الليل وقام ليذهب إلى بيته فركب وركب معه جن علي ومحمد بك أبو الذهب وأيوب بك ليذهبـا أيضـًا إلـى بيوتهمـا لأتحـاد الطريـق فلما صاروا في الطريق التي عند بيت الشابوري خلف جامع قوصون سحبوا سيوفهم وضربوا حسن بك وقتلوه وقتلوا معه أيضا جن علي ورجعوا وأخبروا سيدهم علي بك وذلك ليلة الثلاثاء ثامن شهر رجب من سنة 1181 وأصبح علي بك مالكـًا للأبـواب ورسـم بنفـي قاسـم بـك واسمعيـل بـك أبـي مدفـع وعبـد الرحمـن بـك واسمعيـل بـك كتخدا عزبان ومحمد كتخدا زنـور ومصطفـى جاويـش تابـع مصطفـى جاويـش الكبيـر مملـوك إبراهيم كتخدا وخليل جاويش درب الحجر‏.‏

وفي حادي عشر شهر شوال أخرج أيضًا نحو الثلاثين شخصًا من الأعيان ونفاهم في البلاد وفيهم ثمانية عشر أميرا من جماعة الفلاح وفيهم علي كتخدا وأحمد كتخدا الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وسليمان أغا كتخدا جاووشان الكبير وصناجقه حسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وخلافهم مقادم وأوده باشية فنفى الجميع إلى جهة قبلي وأرسل سليمان أغا كتخدا الجاويشية إلى السويس ليذهب إلى الحجاز من القلزم وأستمر هناك إلى أن مات‏.‏

وفيـه قبـض علـي بـك علـى الشيـخ يوسـف بـن وحيش وضربه علقة قوية ونفاه إلى بلده جناج فلم يـزل بهـا إلى أن مات‏.‏

وكان من دهاة العالم وكان كاتبًا عند عبد الرحمن كتخدا القازدغلي وله شهرة وسمعة في السعي وقضاء الدعاوى والشكاوى والتحيلات والمداهنات والتلبيسات وغير ذلك‏.‏

فـي شهـر الحجـة وصلـت أخبـار عـن حسيـن بـك كشكـش وخليـل بـك أنهـم لمـا وصلـوا إلـى غـزة جمعـوا جموعـًا وأنهـم قادمـون إلـى مصـر فشرع علي بك في تشهيل تجريدة عظيمة وبرزوا وسافروا‏.‏

ثم ورد الخبر بعد ثلاثة أيام أنهم عرجوا إلى جهة دمياط ونهبوا منها شيئًا كثيرًا ثم حضروا إلى المنصورة ونهبوا منها كذلك فأرسل علي بك يأمر التجريدة بالذهاب إليهم وأرسل لهم أيضًا عسكرًا من البحر فتلاقوا معهم عند الديزس والجراح من أعمال المنصورة عند سمنود فوقع بينهـم وقعـة عظيمـة وانهزمـت التجريـدة وولـوا راجعيـن‏.‏

وقتـل فـي هـذه المعركـة سليمـان جربجـي باش اختيار جمليان وأحمد جربجي طنان جراكسه وعمر إغا جاووشان أمين الشون وكانوا صدور الوجاقـات ولـم يزالـوا فـي هزيمتهـم إلـى دجـوة‏.‏

فلمـا وصـل الخبـر بذلـك إلـى علـي بـك أهتـم لذلـك ونـزل الباشا وخرج إلى قبة باب النصر خارج القاهرة وجمع الوجاقلية والعلماء وأرباب السجاجيد وأمـر الباشـا بـأن كـل مـن كـان وجاقيـًا أو عليـه عتامنـة يشهل نفسه ويطلع إلى التجريدة أو يخرج عنه بـدلًا وأجتهـد علـي بـك فـي تشهيـل تجريـدة عظيمة أخرى وكبيرها محمد بك أبو الذهب وسافروا فـي أوائـل المحـرم واجتمعـوا بالتجريـدة الأولـى وسـار الجميـع خلـف حسين بك وخليل بك ومن معهم وكانـوا عـدوا إلـى بـر الغربية بعد أن هزموا التجريدة فلو قدر الله أنهم لما كسروا التجريدة ساقوا خلفهـم كمـا فعـل علـي بـك وصالـح بـك لدخلـوا إلـى مصـر من غير مانع ولكن لم يرد الله تعالى لهم ذلك‏.‏

وانقضت هذه السنين وما وقع بها‏.‏

من مات في هذه الأعوام من أكابر العلماء وأعاظم الأمراء مات الشيخ الإمام الفقيه المحدث الشريف السيـد محمـد بـن محمـد البليـدي المالكـي الأشعـري الأندلسي حضر دروس الشيخ شمس الدين محمد بن قاسم البقري المقري الشافعي في سنة 110 ثـم على أشياخ الوقت كالشيخ العزيزي والملوي والنفراوي وتمهر ثم لازم الفقه والحديث بالمشهد الحسيني فراج أمره وأشتهر ذكره وعظمت حلقته وحسن اعتقاد الناس فيه وانكبوا على تقبيل يده وزيارته وخصوصا تجار المغاربة لعلة الجنسية فهادوه وواسوه واشتروا له بيتـا بالعطفـة المعروفـة بـدرب الشيشينـي وفسطـوا ثمنـه علـى أنفسهـم ودفعـوه مـن مالهـم‏.‏

فلـم يـزل مقبـلًا علـى شانه ملازما على طريقته مواظبًا على أملاء الحديث كصحيح البخاري ومسلم والموطـأ والشفـاء والشمائل حتى توفي ليلة التاسع والعشرين من رمضان سنة ست وسبعين ومائة وألف‏.‏

ومات الأستاذ المعظم ذو المناقب العلية والشجايا المرضية بقية السلف السيد مجد الدين محمد أبـو هـادي بـن وفـي ولـد سنـة 1151 ومـات والـده وهـو طفل فنشأ يتيمًا وخلف عمه في المشيخة والتكلم وأقبل على العلم والمطالعة والأذكار والأوراد وولى نقابة الأشراف بمصر في الأثناء فسـاس فيهـا أحسـن سياسـة وجمـع لـه بيـن طرفـي الرياسـة وكان أبيض وسيمًا ذا مهابة لا يهاب في الله أمارا بالمعروف فاعلًا للخير توفي يوم الخميس خامس ربيع الـأول سنـة 1176 وصلـي عليه بالأزهر في مشهد عظيم حضره الأكابر والأصاغر وحمل على الأعناق ودفن بزاويتهم بالقرب من عمه رضي الله عنه وتخلف بعده السيد شهاب الدين أحمد أبو الأمداد‏.‏

ومات أيضًا في هذا الشهر والسنة الصدر الأعظم المغفور له محمد باشا المعروف براغب وكان معدودا من أفاضل العلماء وأكابر الحكماء جامعًا للرياستين حويا للفضيلتين وله تأليف وأبحاث في المعقول والمنقول والفروع والأصول وهو الذي حضر إلى مصر واليًا في سنة 1159 ووقع له ما وقع مع الخشاب والدمايطة كما تقدم ورجع إلى الديار الرومية وتولى الصدارة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في رابع عشرين شهر رمضان سنة 1176‏.‏

ومات الشيخ المجذوب علي الهواري كان من أرباب الأحوال الصادقيـن والأوليـاء المستغرقيـن وأصلـه مـن الصعيـد‏.‏

وكان يركب الخيول ويروضها ويجيد ركوبها ولذلك لقب بالهواري‏.‏

ثم أقلع من ذلك وأنجذب مرة واحدة وكان للناس فيه اعتقاد حسن وحكى عنه الكشف غير واحد ويـدور فـي الأسـواق والنـاس يتبركـون بـه‏.‏

مـات شهيـدا بالرميلـة أصابتـه رصاصـة مـن يد رومي فلتة في سنة 1176 وصلوا عليه بالأزهر وأزدحم الناس على جنازته رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ المسند بن أحمد بن عقيل الحسيني المكي الشافعي الشهير بأسقاف ابن أخت حافـظ الحجاز عبد الله سالم البصري وأسقاف لقب جده الأكبر عبد الرحمن من آل باعلوي‏.‏

ولد بمكة سنة 1102 وروى عن خالد المذكور وعن الشيخين العجمي والنخلي والشيخ تاج الديـن المفتـي وسيـن بـن عبـد الرحمـن الخطيـب ومحمـد عقبلـة وإدريـس بـن أحمـد اليماني والشيخ عيد وعبد الوهاب الطنتدائي ومصطفى ابن فتح الله الحنفي وسمع الأولية عاليا عن الشهاب أحمد البناء بعناية خاله سنة 1110 ومهر وأنجب واشتهر صيته وسمع منه كبار الشيوخ وأجازهم كالشيخ الوالد والشيخ أحمد الجوهري وعندي إجازته للوالد بخطه وكذلك أجاز عبد الله بن سالم البصري والشيخ محمد عقيلة ومحمد السندي وذلك بمكة سنة 1157 وبه تخرج شيخنا السيد محمد مرتضى في غالب مروياته وسمعت منه أنه أجتمع به بالمدينة المنورة عند باب الرحمة أحد أبـواب الحـرم الشريـف وسمـع منـه وأجـازه إجـازة عامـة وذلـك فـي سنـة 1163 ولازمه بمكة سنة 1164 وسمع منه أوائل الكتب الستة وأباح له كتب خاله يراجع فيها ما يحتـاج إليـه وسمـع مـن لفظـه المسلسـل بالعيـد بالحـرم المكي في صحبة سلالة الصالحين الشيخ عبد الرحمن المشرع وأجازهما توفي في سنة 1174‏.‏

ومـات العمـدة العلامـة المفـوه النبيـه الفقيـه الشيـخ محمـد العـدوي الحنفـي تفقه على كل من الأسقاطـي والسيـد علـي الضريـر والشيخ الزيادي وغيرهم‏.‏

وضر في المعقول على أشياخ الوقف كالملوي والعماوي وتصدر للإفادة والإقراء وكان ذا شكيمة وشجاعة نفس وقوة جنان ومكارم أخلاق‏.‏

توفي في ثالث الحجة سنة 1175‏.‏

ومات الإمام العلامة الفقيه المتقن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدلجي الحنفي وهو ابن خال الوالد أشتغل بالعلوم والفقه على أشياخ الوقت ودرس وأفتى وأقتنى كتبـًا نفيسـة فـي الفقـه وجميعها بخط حسن وقابلها وصححها وكتب عليها بخطه الحسن وكانت جميع كتبه الفقهيـة وغيرهـا فـي غاية الجودة والصحة يضرب بها المثل ويعتمد عليها إلى الآن‏.‏

وكان ملازمًا للإفادة والإفتـاء والتدريـس والنفـع علـى حالـة حسنـة ودماثـة أخلـاق وحسـن عشـرة ولم يزل حتى توفي في شهر رجب سنة 1177‏.‏

ومات الفقيه الصالح الخير الدين حسن بن سلامة الطيبي المالكي نزيل ثغر رشيد تفقه على شيخـه محمـد بـن عبـد اللـه الزهيـري وبـه تخـرج وأجـازه محمـد بـن عثمـان الصافي البرلسي في طريقة البراهمـة وسيـدي أحمـد ابـن قاسـم البوتـي حين ورد ثغر رشيد في الحديث ودرس بجامع زغلول وأغتى ودرسه أكبر الدروس وكان لديه فوائد كثيرة‏.‏

توفي سنة 1176‏.‏

ومـات المغتـي الفاضـل النبيـه زيـن الديـن أبـو المعالـي حسـن بـن علـي بـن علـي ابن منصور بن عامر بن ذئـاب شمـة الفـوي الأصـل المكـي ينتهـي نسبـه إلـى الولـي الكامـل سيـدي محمد بن زين النحراوي ومن أمـه إلى سيدي إبراهيم البسيوني ولد بمكة سنة 1142 بها نشأ وأخذ العلم عن الشيخ عطاء بـن أحمـد المصـري والشيـخ أحمـد الأشبولي وغيرهما من الواردين بالحرمين وأتى إلى مصر فحضر دروس الشيخ الحفني وله أنتسب وأجازه في الطريقـة البرهاميـة بلديـة الشيـخ منصـور هديـة وألـف وأجـاد وكـان فصيحـًا بليغـًا ذكيًا حاد الذهن جيد القريحة له سعة اطلاع في العلوم الغريبة وظـم رائـق مـع سرعـة الأرتجـال وقـد جمـع كلامـه فـي ديـران هـو علـى فضلـه عنـوان وسكـن فـي الأخر بولاق بها توفي ليلة الجمعة رابع عشرين رمضان سنة 1146‏.‏

ومات الشيخ الإمام الفقيه المحدث المحقق الشيخ خليل بن محمد المغربي الأصل المالكي المصري أتى والده من المغرب فتدير مصر وولد المترجم بها نشأ على عفة وصلاح وأقبل على تحصيل المعارف والعلوم فأدرك منها المروم وحضر دروس الشيخ الملوي والسيد البليدي وغيرهما من فضلاء الوقت إلى أن استكمل هلال معارفه وأبدر وفاق أقرانه في التحقيقات واشتهر وكان حسن الإلقاء للعلوم حسن التقرير والتحرير حاد القريحة جيد الذهن إماما في المعقولات وحلالا للمشكلات وولي خزانة كتب المؤيد مدة فأصلح ما فسد منها ورم ما تشعث وأنتفع به جماعة كثيرون من أهل عصرنا وله مؤلفات منها شرح المقولات العشر‏.‏

توفي يـوم الخميـس خامـس عشرين المحرم سنة 1177 بالري وهو منصرف من الحج‏.‏

ومات السيد الأديب الشاعر المفنن عمر بن علي الفتوشي التونسي ويعرف بابن الوكيل ورد مصـر فـي سنـة أربـع وخمسيـن فسمـع الصحيـح علـى الشيـخ الحفنـي وأجـازه في ثاني المحرم منها ثم توجـه إلـى الإسكندريـة وتديرهـا مـدة ثـم ورد فـي أثنـاء أربـع وسبعيـن وكـان ينشـد كثيرًا من المقاطع لنفسه ولغيره وألف رسالة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خرج صيغها بالدور الأعلـى للشيـخ الأكبـر وتولـى ينابة القضاء بالكاملية وكان إنسانًا حسنًا لطيف المحاورة كثير التودد والمراعاة بشوش الملتقى مقبلًا على شأنه توفي في ثاني ذي الحجة 1175‏.‏

ومات الأستاذ الذاكر الشيخ محفوظ الفوي تلميذ سيدي محمد ابن يوسف من ورم في رجليه في غرة جمادى الثانية سنة 1178‏.‏

ودفن يومه قريبًا من مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها‏.‏

ومات العالم الفقيه المحدث الأصولي الشيخ محمد بن يوسف بن عيسـى الدنجيهـي الشافعـي بدمياط في سادس شعبان سنة 1178‏.‏

ومـات الجنـاب المكـرم الصالح المنفصل عن مشيخة الحرم النبوي عبد الرحمن آغا في ثامن شوال سنة 1179 ودفن بجوار المشهد النفيسي‏.‏

ومـات الجنـاب المكـرم محـب الفقـراء والمساكيـن الأميـر إبراهيـم أوده باشـه غالم فجأة في ثامن جمادى الأولى سنة 1177 ودفن بمقبرتهم عند السادة المالكية‏.‏

ومات أيضًا العمدة الشيخ عبد الفتاح المرحومي بالأزبكية في تاسع شوال سنة 1178‏.‏

ومات الأجل المكرم الحاج حسن فخر الدين النابلسي عن سن عالية وكان من أرباب الأموال رابع عشرين جمادى الأولى سنة 1178‏.‏

ومـات الأميـر الأجـل المحتـرم صاحـب الخيـرات والمحبـب إلـى الصالحات علي بن عبد الله مولى بشير آغا دار السعادة ولي وكالة دار السعادة فباشر فيها بحشمة وافرة وشهامة باهرة‏.‏

وكان منزله مورد الوافدين من الآفاق مظهر التجليات الأشراق مع ميله إلى الفنون الغريبة وكماله في البدائع العجيبة من حسن الخط وجودة الرمي وأتقان الفروسية‏.‏

ومدحته الشعراء وأحبته العلماء وألقت إليه الرياسة قيادها فأصلح ما وهن من أركانها وأزال فسادها ولقد عزل عن منصبه ولم يأفل بدر كماله وأستمر ناموس حشمته باقيًا على حاله وأقتنـى كتبـًا نفيسـة وكـان سموحـًا باعإرتهـا وكـان عنـده مـن جملتها البرهان القاطع للتبريزي في اللغة الفارسية على ثيئة القاموس وسفينة الراغب وهي مجموعة جامعة للفوائد الغربية ومنها كشف الظنون في أسمـاء الكتـب والفنـون لمصطفـى خليفـة وهـو كتـاب عجيـب‏.‏

توفـي يـوم الاثنيـن ثامـن عشـر شهـر صفـر سنة 1176 وصلى عليه بسبيل المؤمن ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي ولم يخلف بعده مثله في المروءة والكرم رحمه الله تعالى وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة‏.‏

ومـات الإمـام العالـم والمدقق الفهامة الشيخ يوسف شقيق الأستاذ شمس الدين الحفني أخذ العلم عن مشايخ عصره مشاركا لأخيه وتلقى عن أخيه ولازمه ودرس وأفاد وأفتى وألف ونظـم الشعر الفائق الرائق وله ديوان شعر مشهور فكتب حاشية عظيمة على الأشموني هي مشهورة يتنافس فيها الفضلاء وحاشية علـى مختصـر السعـد وحاشيـة علـى شـرح الخزرجيـة لشيـخ الإسلام وحاشية على جمع الجوامع لم تكمل وحاشية على الناصر وابن قاسم وشرح شرح الأزهريـة لمؤلفهـا وشـرح علـى شـرح السعـد لعقائـد النسفي وحاشية الخيالي عليه‏.‏

توفي في شهر سفر سنة 1178‏.‏

ومـات الإمام الفصيح المفرد الأديب الماهر الناظم الناثر الشيخ علي ابن الخبر بن علي المرحومي الشافعي خطيب جامع الحبشلي وفي ليلة الجمعة سادس ذي القعدة سنة 1178‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة السيـد إبراهيـم بـن محمـد أبـي السعود بن علي بن علي الحسيني الحنفي ولد بمصـر وقـرأ الكثيـر علـى والـده وبـه تخـرج فـي الفنـون ومهـر فـي الفقه وأنجب وغاص في معرفة فروع المذهـب وكانـت فتاويـه في حياة والده مسددة معروفة ويده الطولى في حل لا أشكالات العقيمة مذكورة موصوفة رحل في صحبة والده إلى المنصورة فمدحهما القاضي عبد الله بن مرعي المكـي وأثنـى عليهمـا بمـا هـو مثبـت فـي ترجمتـه ولـو عـاش المترجـم لتـم به جمال المذهب‏.‏

توفي يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة سنة 1179‏.‏

ومـات الفقيـه الزاهـد الـورع العالـم المسلـك الشيـخ محمـد بـن عيسـى ابـن يوسف الدمياطي الشافعي أخذ المعقول عن السيد على الضرير والشيخ العزيزي والشيخ إبراهيم الفيومي والفقه أيضًا عنهما وعن الشيخ العياشي والشيخ الملوي والحفني وطبقتهم وأجتمع بالسيد مصطفى البكري وأخذ عنه الطريقة الخلوتية ولقنه الأسماء بشروطها وألف حاشية على المنهج ونسبها لشيخه السيد مصطفى العزيزي وله حاشية على سلم الأخضري في المنطق وحاشية علي السنوسيـة وغير ذلك‏.‏

توفي في ثامن رمضان سنة 1178 وكانت جنازته حافلة وصلى عليه بالأزهـر ودفـن ببستـان المجاوريـن وبنـوا علـى قبـره سقيفـة يجتمـع تحتهـا تلامذته في صبح يوم الجمعة يقرأون عنده القرآن ويذكرون وأستمروا على ذلك مدة سنين‏.‏

ومات الإمام العلامة الناسك الشيخ أحمد بن محمد السحيمي الشافعي نزيل قلعة الجبل حضر دروس الأشياخ ولازم الشيخ عيسى البراوي وبه أنتفع وتصدر للتدريس بجامع سيدي سارية وأحيا الله به تلك البقعة وأنتفع به النسا جيلا بعد جيل وعمر بالقرب من منزله زاوية وحفر ساقية بذل عليها بعض الأمراء بأشارته مالا حفيلا فنبع الماء وعد ذلك من كراماته فأنهم كانـوا قبـل ذلـك يتعبـون مـن قلة الماء كثيرًا وشغل الناس بالذكر والعلم والمراقبة وصنف التصانيف المفيـدة فـي علـم التوحيـد على الجوهرة وجعله متنا وشرحه مزجًا وهي غاية في بابها وله حال مع الله وتؤثر عنه كرامات أعتنى بعض أصحابه بجمعها وأشتهر بينهم أنه كان يعرف الأسم الإعظم وبالجملة فلم يكن في عصره من يدانيه في الصلاح والخير وحسن السلوك على قدم ومات الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن صالح ابن أحمد بن علي بن الأستاذ أبي السعود الجارحي الشافعي ويقال لـه السعـودي نسبـة إلـى جـده المذكـور حضـر دروس الشيخ مصطفى العزيزي وغيره من فضلاء الوقت‏.‏

وكان أماما محققًا له باع في العلوم وكان مسكنـه فـي بـاب الحديـد أحـد أبـواب مصـر وحضـر السيـد البليـدي فـي تفسيـر البيضـاوي وكـان الشيخ يعتمده في أكثر ما يقول ويعترف بفضله ويحسن الثناء عليه‏.‏

توفي في شعبان سنة 1179‏.‏

ومات السيد الأجل المحترم فخر أعيان الأشراف المعتبر بن السيد محمد بن حسين الحسيني العادلي الدمرداشي ولد بمصر قبل القرن بقليل وأدرك الشيوخ وتمول وأثرى وصار له صيت وجاه وكان بيته بالأزبكية ويرد عليه العلماء والفضلاء وكان وحيدا في شأنه وكلمته مقبولة عنـد الأمـراء والأكابـر‏.‏

ولمـا تولـى الشيـخ أبو هادي الوفائي رحمه الله تعالى كان يتردد إلى مجلسه كثيرًا توفي سنة 1178‏.‏

ومـات الشيـخ الفاضـل الناسـك الكاتـب الماهـر البليـغ سليمـان بـن عبـد الله الرومي الأصل المصـري مولـى المرحوم علي بك الدمياطي جود الخط على حسن أفندي الضيائي وأنجب وتميز فيه وأجيز وكتب بخطه الفائق كثيرًا من الرسائل والأحزاب والأوراد وكانت له خلوة بالمدرسة السليمانية لإجتماع الأحباب وكان حسن المذاكرة لطيف الشمائل حلو الفاكهة يحفظ كثيرًا من ومـات السيـد العالـم الأديـب الماهـر الناظـم الناثـر محمـد بـن رضوان السيوطي الشهير بابن الصلاحي ولـد باسيـوط علـى رأس الأربعين ونشأ هناك وأمه شريفة من بيت شهير هناك ولما ترعرع ورد مصر وحصل العلوم وحضر دروس الشيخ محمد الحفني ولازمه وأنتسب إليه فلاحظته لوناره ولبستـه أسراره ومال إلى فن الأدب فأخذ منه بالحظ الأوفر وخطه في غاية الجودة والصحة‏.‏

وكتب نسخة من القاموس وهي في غاية الحسن والأتقان والضبط وله شعر عذب يغوص فيه على غرائب المعاني وربما يبتكر ما لم يسبق إليه‏.‏

وتوجه بآخر أمره إلى بلده وبه توفي سنة 180 رحمه الله‏.‏

ومـات الإمـام الصوفـي العـارف الناسـك الشيـخ محمد سعيد بن أبي بكر بن عبد الرحيم بن مهنا الحسينـي البغـدادي ولـد بمحلـة أبـي النجيـب مـن بغداد وبها نشأ وأخذ عن الشيخ عبد العزيز بن أحمد الرحبي وحسن ابن مصطفى القادري وآخرين وحج وقطن المدينة مدة وأجازه الشيخ محمـد حيـوة السنـدي والشيـخ حسن الكوراني‏.‏

ورد مصر سنة 1171‏.‏

فنزل بقصر الشوك قرب المشهـد الحسينـي وكـان له في كلام القوم عرفان إلى الغاية يورده على طريقة غريبة بحيث يرسخ في ذهن السامع ويلتذ به وكان يذهب لزيارته الأجلاء من الأشياخ مثل شيخنا السيد علي المقدسي والسيد محمد مرتضى والشيخ الفيفي وبالجملة فكان من أعاجيب دهره وكان الشيخ العفيفـي ينـوه بشأنـه ويقـول فـي حقـه أنـه مـن رجـال الجضـرة وأنـه ممـن يرى النبي صلى الله عليه وسلم عيانا‏.‏

وتوجه إلى الديار الرومية ثم عاد إلى المدينة ثم ورد أيضًا إلى مصر بعد ذلك ونزل قـرب الجامـع الأزهـر‏.‏

ثـم توجه إلى الديار الرومية وقطن بها‏.‏

وظهرت له هناك الكرامات وطار صيتـه وعلـت كلمتـه وصـار لـه أتباع ومريدون ولم يزل هناك على حالة حسنة حتى وافاه الأجل المحتوم في أواخر الثمانين وخلف ولده من بعده رحمه الله تعالى وسامحه‏.‏

ومات الفقيه الصالـح العلامـة الفرضـي الحيسوبـي الشيـخ أحمـد بـن أحمـد السبلـاوي الشافعـي الأزهري الشهير برزة كان أمامًا عالمًا مواظبًا على تدريس الفقه والمعقول بالجامع الأزهر وكان يحتـرف بيـع الكتب وله حانوت بسوق الكتبين مع الصلاح والورع والديانة ملازما على قراءة ابن قاسم بالأزهر كل يوم بعد الظهر أخذ عن الأشياخ المتقدمين وأنتفع به الطلبة وكان إنسانا حسنًا بهي الشكل عظيم اللحية منور الشيبة معتنيًا بشأنه مقبلًا على ربه‏.‏

توفي سنة 1180‏.‏

ومات الأجل المكرم الفاضل النبيه النجيب الفقيه حسن أفندي ابن حسـن الضبائـي المصـري المجود المكتب ولد كما وجد بخطه سنة 1092 في منتصف جمادى الثانية وأشتغـل بالعلـم على أعيان عصره وأشتغل بالخط وجوده على مشايخ هذا الفن في طريقتي الحمدية وابن الصائغ‏.‏

أما الطريقة الحمدية فعلى سليمان الشاكري والجزائري وصالح الحمامي وأما طريقة ابن الصائـغ فعلـى الشيـخ محمـد بـن عبـد المعطـي السملـاوي فالشاكري والحمامي جودا على عمر أفندي وهـو علـى درويـش علـي وهـو علـى خالـد أفنـدي وهـو علـى درويش محمد شيخ المشايخ حمد الله بـن بيـر علـي المعـروف بابـن الشيـخ الأماسي وأما السملاوي فجود على محمد ابن محمد بن عمار وهو على والده وهو علي يحيى المرصفي وهو علي اسمعيل المكتب وهو علي محمد الوسمي وهـو علـي أبـي الفضـل الأعـرج وهـو علـي ابـن الصائـغ بسنـده‏.‏

وكـان شيخًا مهيبًا بهي الشكل منور الشيبـة شديـد الأنجمـاع عـن النـاس ولـه معرفـة فـي علم الموسيقى والأوزان والعروض‏.‏

وكان يعاشر الشيخ محمد الطائي كثيرًا ويذاكره في العلوم والمعارف وبكتب غالب تقاريره على ما يكتبه بيده من الرسائل والمرقعات وقد أجاز في الخط لأناس كثيرًا ويجتمع في مجالس الكتبة مع صرامة وشهامة وعزة نفس‏.‏

توفي في منتصف ذي الحجة سنة 1180‏.‏

ومات الإمام العالم أحد العلماء الأذكياء وافراد الدهر البحاث في المعضلات الفتاح للمقفلات الشيخ عبد الكريم بن علي المسيري الشافعي المعروف بالزيات لملازمته شيخه سليمان الزيات حضر دروس فضلاء الوقت وأنضوى إلى الشيخ سليمان الزيات ولازمـه حتـى صـار معيـدًا الدروسـة ومهر وأنجب وتضلع في الفنون ودرس وأملى‏.‏

وكان أوحد زمانه في المعقولات ولازم أخيرًا الشيخ دروس الشيخ الحفني وتلقن منه العهد ثم أرسله الشيخ إلى بلاد الصعيد لأنه جاءه كتاب من أحد مشايخ الهوارة ممن يعتقد في الشيخ بأن يرسل إليهم أحد تلامذته ينفع الناس بالناحية فكان هو المعين لهذا المهم فألبسه وأجازه ولما وصل إلى ساحل بهجورة تلقته الناس بالقبول التام وعين له منزل واسع وحشم وخدم وأقطعوا له جانبا من الأرض ليزرعها‏.‏

فقطـن بالبهجـورة وأعتنـى بـه أميرهـا شيـخ العـرب اسمعيـل بـن عبد الله فدرس وأفتى وقطع العهود وأقام مجلس الذكر وراج أمره وراش جناحه ونفع وشفع وأثرى جدًا وتملك عقارات ومواشي وعبيدًا وزروعات ثم تقلبت الأحوال بالصعيد وأوذي المترجم وأخذ ما بيـده مـن الأراضـي وزحرحـت حالـه فأتـى إلـى مصـر فلـم يجـد مـن يعينـه لوفاة شيخه‏.‏

ثم عاد ولم يحصل على طائل وما زال بالبهجورة حتى مات في أواخر سنة1181

 

ومات الإمام العلامة المتقن المعمر مسند الوقت وشيخ الشيوخ

الشيخ أحمد بن عبد الفتاح بن يوسـف بـن عمـر المجيري الملوي الشافعي الأزهري ولد كما أخبر من لفظه في فجر يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة 1088 وأمه آمنة بنت عامر بن حسن بن حسن بن علي بن سيف الدين ابن سليمان بن صالح بن القطب علي المغراوي الحسني أعتنى من صغره بالعلوم عناية كبيرة وأخذ عن الكبار من أولي الأسناد والحق الأحفاد بالأجداد فمن شيوخه الشهاب أحمد بن الفقيه والشيخ منصور المنوفي والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ محمد بن منصور الأطفيحي والشهاب الخليفي والشيخ عيد النمرسي والشيخ عبد الوهاب الطندتاوي وأبو العز محمـد بـن العجمـي والشيـخ عبـد ربـه الديوي والشيخ رضوان الطوخي والشيخ عبد الجواد وخاله أبـو جابـر علـي بـن فامـر الأيتـاوي وأبـو الفيـض علـي بـن إبراهيـم البوتيجي وأبو الأنس محمد بن عبد الرحمن المليجي هؤلاء من الشافعية ومن المالكية محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الـورزازي والشيخ محمد الزرقاني والشيخ عمر بن عبد السلام التطواني والشيخ أحمد الهشتوكي والشيخ محمد بن عبد الله السجلماسي والشيخ أحمد النفراوي والشيخ عبد الله الكنكسي وابن أبي زكـري وسليمـان الحصينـي والشبرخيتـي ومـن الحنفيـة السيـد علـي بن علي الحسيني الضرير الشهير بإسكندر ورحل إلى الحرمينسنة 1122‏.‏

فسمع علي البصري والنخلي الأولية وأوائل الكتب الستة وأجازاه والشيخ محمد طاهر الكوراني وأجـازه الشيـخ إدريـس ليمانـي ومنـلا الياسـي الكورانـي ودخـل تحـت إجـازة الشيـخ إبراهيـم الكوراني في العموم وعاد إلى مصر وهو إمام وقته المشـار إليـه فـي حل المشكلات المعول عليه في المعقولات والمنقولات قرأ المنهج مرارًا وكذا غالب الكتب وأنتفع به الناس طبقة بعد طبقة وجيلًا بعد جيل‏.‏

وكان تحريره أقوى من تقريره‏.‏

وله رضـي اللـه عنه مؤلفات كثيرة منها شرحان على متن السلم كبير وصغير وشرحان كذلك على السمرقندية وشرح على الياسمينية وشرح الأجرومية ونظـم النسـب وشرحهـا وشـرح عقيـدة الغمري وعقود الدرر على شرح ديباجة المختصر أتمه بالمشهد الحسيني سنة ثلاث وعشرين‏.‏

ونظـم الموجهـات وشرحهـا وتعريـب رسالـة منـلا عصـام في المجاز ومجموع صيغ صلوات على النبي صلـى اللـه عليـه وسلـم‏.‏

ومؤلفاتـه مشهورة مقبولة متداولة بإيدي الطلبة ويدرسها الأشياخ‏.‏

وتعلل مـدة وأنقطع لذلك في منزله وهو ملقى على الفراش ومع ذلك يقرأ عليه في كل يوم في أوقات مختلفـة أنـواع العلـوم وترد عليه الناس من الآفاق ويقرأون عليه ويستجيزونه فيجيزهم ويملي عليهم ويفيدهم ومنهم من يأتيه للزيارة والتبرك وطلب الدعاء فيمدهم بأنفاسه ويدعو لهم وكان ممتع الحـواس وأقـام علـى هـذه الحالـة نحـو الثلاثين سنة حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول سنة 181‏.‏

ومـات الشيـخ الإمـام الصالـح عبـد الحـي ين الحسن بن زين العابدين الحسيني البهنسي المالكي نزيل بولاق ولد بالبهنسا سنة 1083 وقدم إلى مصر فأخذ عن الشيخ خليل اللقاني والشيخ محمد النشرتـي والشيـخ محمـد الزرقانـي والشيـخ محمـد الأطفيحـي والشيـخ محمد الغمري والشيخ عبد الله الكنكسي والشيخ محمد بن سيف والشيخ محمد الخرشي وحج سنة 1113‏.‏

وألف فأخذ عن البصري والنخلي وأجازه السيد محمد التهامي بالطريقة الشاذلية والسيد محمد بن علي العلوي في الأحمدية والشيخ محمد شويـخ فـي الشناويـة وحضـر دروس المحـدث الشيـخ علـي الطولوني ودرس بالجامع الخطيري ببولاق وأفاد الطلبة وكان شيخـًا بهيـًا معمـرًا منـور الشيبـة منجمعًا عن الناس زاهدًا قانعًا بالكفاف توفي ليلة الاثنين حادي عشري شعبان سنة 1181 بمنزلـه ببولـاق وصلـي عليـه بالجامـع الكبيـر فـي مشهـد حافـل وحمل على الأعناق إلى مدافن الخلفاء قرب مشهد السيدة نفيسة فدفن بها رحمة الله‏.‏

ومـات الشيـخ إمـام السنـة ومقتـدى الأمـة عبـد الخالـق بـن أبي بكر بن الزين ابن الصديق بن الزين بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أبي القاسم النمري الأشعري المزجاجي الزبيدي الحنفي من بيت العلم والتصوف جده الأعلى محمد بن محمد بن أبي القاسم صاحب الشيخ اسمعيل الجبرتي قطب اليمن وحفيده عبد الرحمن بن محمد خليفة جده في التسليك والتربية وهو الذي تدير زبيد بأهله وعياله وكان قبل بالمزجاجة وهي قرية أسفل زبيد خربت الآن‏.‏

ولد المترجم سنة ألف ومائة بزبيد وحفظ القرآن وبعض المتون ولما ترعرع أخذ عن الإمام المسند الشيخ علاء الدين المزجاجي والسيد عبد الفتاح بـن اسمعيـل الخـاص والشيـخ علـي المرحومي نزيل مخا وأجازه من مكة الشيخ حسن العجمي بعناية والده وبعناية قريبه الشيـخ علي بن علي الزجاجي نزيل مكة ووفد إلى الحرمين فأخذ بمكة عن الشيخ محمد عقيلة‏.‏

روىعنـه الكتـب الستـة وحمـل عنـه المسلسلات بشرطها وألبسه وحكمه وحضر على الشيخ عبد الكريم اللاهوري في الفقه والأصول وكان يحثه على قراءة الأخسكيتي ويقول لا يستغنى عنه طالـب وحضـر دروس الشيخ عبد المنعم ابن تاج الدين القلعي ومحمد بن حسن العجمي ومحمد بـن سعيـد التنبكتـي وبالمدينـة عـن الشيـخ محمـد طاهـر الكـردي سمـع منـه أوائـل الكتـب الستـة والشيخ محمـد حيـاة السـدي لازمـه فـي سمعـا الكتب الستة وعاد إلى زبيد فأقبل على التدريس والأفادة وسمـع عليـه شيخنـا السيد محمد مرتضى الصحيحين وسنن النسائي كله بقراءته عليه في عين الرضا موضح بالنخل خارج زبيد كان يمكث فيه أيام خراف النخل والكنز والمنار كلاهما للنسفـي ومسلسلـات شيخـه بـن عقيلـة وهـي خمسة وأربعون مسلسلًا‏.‏

وسمع عليه أيضًا المسلسل بيـوم العيـد ولازم درسه العامة والخاصة وألبسه الخرقة ونقبه وحكمه بعد أن صحبه وتأدب به وبه تخرج شيخنا المذكور‏.‏

كذا ذكر في ترجمتـه‏.‏

قـال وفـي أخـرى توجـه إلـى الحرميـن فمـات بمكـة فـي ذي الحجة سنة 1181‏.‏

ومات الشيخ الإمام الثبت العلامة الفقيه المحدثاشيخ عمر بن علي ابن يحيى بـن مصطفىالطحلاوي المالكي الأزهـري تفقـه علـى الشيـخ سالـم النفـراوي وحضـر دروس الشيـخ منصور المنوفـي والشهـاب بـن الفقيـه والشيـخ محمـد الصغيـر الـورزازي والشيـخ أحمـد الملـوي والشبراوي والبليدي وسمع الحديث عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمـد العمـاوي وأبـي الحسن علي بـن أحمـد الحريشـي الفاسـي وتمهـر فـي الفنـون ودرس بالجامـع الأزهـر وبالمشهـد الحسينـي وأشتهـر أمـره وطـار صيتـه وأشيـر إليـه بالتقـدم فـي العلـوم وتوجـه إلـى دار السلطنـة فـي مهم اقتضـى لأمـراء مصـر فقوبـل بالأجابـة وألقى هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفية وتلقى عنه أكابـر العلمـاء هنـاك في ذلك الوقت وصرف معززًا مقضيًا حوائجه وذلك في سنة 1147‏.‏

ولما تمـم عثمـان كتخـدا القازدغلـي بنـاء مسجـده بالازبكية في تلك السنة تعين المترجم للتدريس فيه وذلك قبل سفره إلى الديار الرومية وكان مشهورًا في حسن التقرير وعذوبة البيـان وجـودة الألقـاء وقرأ الموطأ وغيره بالمشهد الحسيني وأفاد وأجاز الأشياخ وكان يطلع في كل جمعة إلى المرحـوم حمـزة باشـا مـرة فيسمـع عليـه الحديث‏.‏

وكان للناس فيه أعتقاد حسن وعليه هيبة ووقار وسكـون ولكلامـه وقـع فـي القلـوب توفـي ليلـة الخميـس حـادي عشر صفر سنة 1181 وصلي عليه بصباحه في الأزهر في مشهد حافل ودفن بالمجاورين رحمه الله‏.‏

ومـات الوجيـه الصالـح الشيـخ عبـد الوهـاب بن زين الدين بن عبد الوهاب بن نور الدين بن بايزيد بن أحمد بن القطب شمس الدين بن أبي المفاخر بن داود الشربيني الشافعي وهو أحد الأخوة الثلاثة وهو أكبرهم تولى النظر والمشيخة بمقام جده بعد أبيه فسار فيها سيرًا مليحًا وأحيا المآثر بعدما أندرست وعمر الزاوية وأكرم الوافدين وأقام حلقة الذكر كل يوم وليلة بالمسجـد ويغدق على المنشدين وورد مصر مرارًا منها صحبـة والـده ومنهـا بعـد وفاتـه وألـف باسمـه شيخنا السيد مرتضى رسالة في الطريقة الأوسية سماها عقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحـزاب وفـي آخـره أتـى إلـى مصـر لمقتضـى ومـرض ثلاثـة أيـام‏.‏

وتوفي ليلة الأحد غرة ذي القعدة سنة 1181‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة الهمام أوحد أهل زمانه علمًا وعملًا ومن أدرك ما لم تدركه الأول المشهـود لـه بالكمـال والتحقيـق والمجمـع علـى تقدمه في كل فريق شمس الملة والدين محمد بن سالم الحفاوي الشافعي الخلوتي وهو شريف حسيني من جهة أم أبيه وهي السيدة ترك ابنة السيد سالـم بن محمد بن علي بن عبد الكريم بن السيد برطع المدفون ببركة الحاج وينتهي نسبه إلى الإمـام الحسيـن رضـي اللـه عنـه وكـان والده مستوفيًا عند بعض الأمراء بمصر وكان على غاية من العفاف ولد على رأس المائة ببلده حفنا بالقصر قرية من أعمال بلبيس وبها نشأ والنسبة إليها حفناوي وحفني وحفنوي وغلبت عليه النسبة حتى صار لا يذكر إلا بها وقرأ بها القرآن إلى سورة الشعراء ثم حجزه أبوه بإشارة الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي وعمره أربع عشرة سنة بالقاهرة فكمل حفظ القرآن ثم أشتغل بحفظ المتون فحفظ إلفية ابن مالك والسلم والجوهرة والرحبيـة وأبا شجاع وغير ذلك‏.‏

وأخذ العلم عن علماء عصره وأجتهد ولازم دروسهم حتى تمهر واقرأ ودرس وأفاد في حياة أشياخه وأجازوه بالأفتاء والتدريس فأقرأ الكتب الدقيقة كالاشموني وجمع الجوامع والمنهج ومختصر السعد وغير ذلك من كبت الفقه والمنطق والأصول والحديث والكلام عام اثنتين وعشرين وأشياخه الذين أخذ عنهم وتخرج عليهم الشيخ أحمد الخليفي والشيخ محمد الديربي والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ أحمد الملوى والشيخ محمد السجاعي والشيخ يوسف الملوي والشيخ عبده الديوي والشيخ محمد الصغير ومن أجل شيوخه الذين تخرج بالسند عنهم الشيخ محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت أخذ عنه التفسير والحديث والمسندات والمسلسلات والأحياء للأمام الغزالي وصحيـح البخـاري ومسلـم وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن ابن ماجه والموطأ ومسنـد الشافعـي والمعجـم الكبيـر للطيرانـي والمعجـم الأوسـط والصغيـر لـه أيضـًا وصحيـح ابـن حيان والمستدرك للنيسابوري والحليـة للحافـظ أبـي نعيـم وغيـر ذلـك‏.‏

وشهـد لـه معاصـروه بالتقدم في العلوم وحين جلس للأفادة لازمه جل طلبة العلم ومن بهم يسمو المعقول والمنقول وكان إذ ذاك في شدة من ضيق العيش والنفقة فاشترى دواة وأقلامًا وأوراقًا واشتغل بنسخ الكتب فشق عليه ذلك خوفًا من انقطاعه عـن العلـم‏.‏

وكـان يتـردد إلـى زاويـة سيـدي شاهيـن الخلوتـي بسفـح الجبـل ويمكـث فيهـا الليالـي متحنثًا وأقبل على العلم وعقد الدروس وختم الختوم بحضرة جمع العلماء وقرأ المنهاج مرات وكتب عليه وكذلك جمع الجوامع والاشموني ومختصر السعد وحاشية حفيده علبه كتب عليه وقرأها غير مرة وكان الشيخ العلامة مصطفى العزيزي إذا رفع إليه سؤال يرسله إليه‏.‏

وأشتغل بعلم العروض حتى برع فيه وعالى النظم والنثر وتخرج عليه غالب أهل عصره وطبقته ومن ذويهم كأخيه العلامة الشيخ يوسف والشيخ اسمعيل الغنيمي صاحـب التآليـف البديعـة والتحريـرات الرفيعة المتوفى سنة إحدى وستين وشيخ الشيوخ الشيخ على الغدوي والشيخ محمد الغيلاني والشيـخ محمـد الزهـار نزيـل المحلـة الكبـرى وغيرهم كما هو في تراجم المذكورين منهم‏.‏

وكان على مجالسه هيبة ووقار ولا يسأله أحد لمهابته وجلالته فمن تآليفه المشهورة حاشية على شـرح رسالة العضد للسعد وعلى الشنشوري في الفرائض وعلى شرح الهمزية لأبن حجر وعلى مختصـر السعـد وعلـى شرح السرقندي للياسمينية في الجبر والمقابلة وله تصانيف أخر مشهورة‏.‏

وكان كريم الطبع جدًا وليس للدنيا عنده قدر ولا قيمة جميل السجايا مهاب الشكل عظيم اللحية أبيضها كأن على وجهه قنديلًا من النور‏.‏

وكان كريم العين على أحداهما نقطة وأكثر الناس لا يعلمون ذلك لجلالته ومهابته وكان في الحلم على جانب عظيم ومن مكارم أخلاقه أصغاؤه لكلام كل متكلم ولو من الخزعبلات مع أنبساطه إليه وإظهار المحبة ولو أطال عليه ومن رأه مدعيًا شيئًا سلم له في دعواه ومن مكارم أخلاقه أنه لو سأل إنسانا أعز حاجة عليه أعطاها له كائنة ما كانت ويجد لذلك أنسـًا وأنشراحـًا ولا يعلـق أملـه بشـيء مـن الدنيـا ولـه صدقات وصلات أخفية وظاهرة وكان راتب بيته من الخبز في كل يوم نحو الأردب والطاحون دائمة الدوران وكذلك دق البن وشربات السكر ولا ينقطع ورود الوارديـن ليـلًا ونهـارًا ويجتمـع على مائدته الأربعون والخمسون والستون ويصرف على بيوت أتباعه والمنتسبين إليه‏.‏

وشاع ذكره في أقطار الأرض وأقبل عليه الوافدون بالطول والعرض وهادتـه الملـوك وقصـده الأميـر والصعلوك فكل من طلب شيئًا من أمور الدنيا والآخرة وجده‏.‏

وكـان رزقـه فيضـًا ألهيـًا‏.‏

وللشيخ رضي الله عنه مناقب ومكاشفات وكرامات وبشارات وخوارق عادات يطول شرحها ذكرها الشيخ حسن المكي المعروف بشمه في كتابه الذي جمعه في خصوص الأستاذ وكذلك العلامة الشيخ محمد الدمنهوري المعروف بالهلباوي له مؤلف في مناقب الشيخ ومدائحه وغير ذلك وصل في ذكر أخذ العهد بطريق الخلوتية وهي نسبة إلى سيدي محمد الخلوتي أحد أهل السلسلة ويعرفون أيضًا بالقرباشلية نسبة إلى سيـدي علـي أفنـدي قـره باش أحد رجالها أيضًا وهذا هو الأسم الخاص المميز لهم عن غيرهم والخلوتيـة الكـرام فرق قـد نهجـوا نهـج الجنيد فرقوا وخيرهم طريقنا العليـه من قد دعوا بالقربا شليه وهي طريقة مؤيدة بالشريعة الغراء والحنيفة السمحاء ليس فيها تكليف بما لا يطـاق وكانـت خير الطرق لأن ذكرها الخاص بها‏:‏ لا إله إلا الله وهي أفضل ما يقول العبد كما في الحديث الشريف‏.‏

وكان المترجم رضي الله عنه أشتغل بالسلوك وطريق القوم بعد الثلاثين فأخذ على رجل يقال لـه الشيـخ أحمـد الشاذلـي المغربـي المعـروف بالمقري فتلقى منه بعض أحزاب وأوراد ثم قدم السيد البكري من اشام سنة 1133 فأجتمع عليه الشيخ بواسطة بعض تلامذة السيد وهو السيد عبد الله السلفيتي فسلم عليه وجلس فجعل السيد ينظر إليه وهو كذلك ينظر إليه فحصل بينهمـا الأرتبـط القلبـي ثـم قـام وجلـس بيـن يـدي السيد بعد الأستئذان وكانت عادة السيد إذا أتاه مريد أمره أولا بالأستخارة قبل ذلك إلا هو فلم يأمره بها وذلك إشـارة إلـى كمـال الأرتبـاط فاخذ عليه العهد حالًا ثم أشتغل بالذكر والمجاهدة‏.‏

فرأى في منامه في تعض الليالي السيد البكري والشيخ أحمد الشاذلي المذكور جالسين والشيخ حمد يعاتبه على دخوله في الطريق ويعاتب أيضًا السيد فقال له السيد‏:‏ هل لك معه حاجة قال‏:‏ نعم لي معه أمانة‏.‏

وإذا بجريدة خضـراء بيـد السيـد فقـال لـه‏:‏ هـذه أمانتـك قال‏:‏ نعم‏.‏

فكسرها نصفين ورماها للشاذلي وقال له‏:‏ خـذ أمانتـك ثـم أنتبـه‏.‏

فأخبر السيد فقال له‏:‏ هذا اتصال بنا وانفصال عنه‏.‏

وهذه هي النسبة الباطنية التي صار بها سلمان الفارسي وصهيب من أهل البيت‏.‏

وقال ابن الفاض في التائية على لسان الصادق صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأني وأن كنت ابن آدم صورة فلي فيـه معنـى شاهـد بالأبـوة فإن آدم له أب من حيث النسبة الظاهرة وهو أب لآدم من حيث النسبة الباطة لأنه نائب عنه فـي الأرسـال ومنبـأ بخـده فـي الأنـزال ولـم يستمـد مـن الخضـرة العليـة إلا بواسطتـه ولذلـك لما توسل به قبلـت توبته وزادت محبته لم يجعل مهر حواء سوى الصلاة والسلام عليه كما ورد ذلك كله وهو مـن المعلـوم ضـرورة‏.‏

فظهـر بهـذا أن هـذه النسبـة أعظم من تلك لترتب الثمرة عليها‏.‏

ثم سار في طريقـة القـوم أتـم سيـر حتـى لقنـه الأستـاذ الأسـم الثانـي والثالـث‏.‏

ومـن حيـن أخـذ عليه العهد لم يقع منـه فـي حـق الشيخ إلا كمال الأدب والصدق التام وهو الذي قدمه وبه ساد أهل عصره‏.‏

فمن ذلـك أنـه كـان لا يتكلـم فـي مجلسـه أصـلًا إلا إذا سألـه فإنـه يجيبـه على قدر السؤال ولم يزل يستعمل ذلـك معـه حتـى إذن لـه بالتكلـم فـي مجلسـه فـي بعـض رحلاته إلى القاهرة وسببه أنه لما رأى إقبال النـاس عليـه وتوجههـم إليه قال له‏:‏ أنبسط إلى الناس وأستقبلهم لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم‏.‏

ومماأتفق له أن شيخه المذكور قال له مرة‏:‏ تعال الليلة مع الجماعة وأذكروا عندنا في البيت‏.‏

فلما دخل الليل نزل شتاء ومطر شديد فلم يتخلف وذهب حافيا والمطر يسكب عليه وهو يخوض في الوحل فقال له‏:‏ كيف جئت في هذه الحالة‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي أمرتمونا بالمجيء ولم تقيدوه بعذر وأيضًا لا عذر والحالة هذه لا مكان المجيء وأن كنت حافيـًا فقـال لـه‏:‏ أحسنـت هـذا أول قدم في الكمال إلى غير ذلك‏.‏

ولما علم الشيخ صدق حاله وحسن فعاله قدمه على خلفائه وأولاه حسن ولائه ودعاه بالأخ الصادق ومنحه أسرارًا وأراه عيون الحقائق وكيفية تلقين الذكر وأخذ العهد كما وجد بخط الأستاذ يظهر ثبت عبد الله بن سالـم البصـري مـا نصـه‏:‏ هـذه صـورة أخـذ العهـد أرسلهـا إليـه السيد البكري الصديقي الخوتي حين أذنه بأخذ العهود على طريقة السادة الخلوتية‏.‏

ونص ما كتب كيفية المبايعة للنفس الطائعة أن يجلس المريد بين يدي الأستاذ ويلصق ركبته بركبته والشيخ مستقبل القبلة ويقرأ الفاتحة ويضع يده اليمنى في يده مسلما له نفسه مستمدًا من أمداده ويقول له‏:‏ قل معي أستغفر الله العظيم ثلاث مرات ويتعوذ ويقرأ آية التحريم‏:‏ يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا إلى قدير ثم يقرأ آية المبايعة التي في الفتح ليزول الأشتباه وهي‏:‏ أن الذين يبايعونك أنما يبايعون الله أقتداء برسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم إلـى قولـه تعالـى عظيمـًا ثم يقرأ فاتحة الكتاب ويدعو الله لنفسه وللآخذ بالتوفيق ويوصيه بالقيام باوراد الطريق والدوام علـى ذوق أهـل هـذا الفريـق وعـرض الخواطـر وقـص الؤيـات العواطـر وإذا وقعـت الإشـارة بتلقيـن الأسـم الثانـي لقنـه ليبلـغ الأماني‏.‏

وفتح له بـاب توحيـد الأفعـال إذ لا غيـره فعـال وفـي الثالـث توحيد الأسماء ليشهد السر الأسمى وفي الرابع توحيد الصفات ليدرجه إلى أعلى الصفات وفي الخامس توحيد الذات ليحظى بأوفر اللذات وفـي السـادس والسابـع يكمـل لـه التوابـع‏.‏

ونسـأل اللـه تعالـى الهداية والرعاية والعناية والدراية والحمد للـه رب العالميـن انتهـى‏.‏

هذا ما كتب بخطه الشريف‏.‏

قال ورأيت أيضًا بظهر الثبت المذكور ما نصه‏:‏ ثم رأيت في الفتوحات الألهية في نفع أرواح الذوات الإنسانية وهو كتاب نحو كراس لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري ما نصه‏:‏ إذا أراد الشيخ أن يأخذ الهد علـى المريـد فليتطهـر وليأمـره بالتطهـر مـن الحـدث والخبـث ليتهيـأ لقبـول مـا يلقيـه إليـه مـن الشـروط فـي الطريـق ويتوجـه إلـى اللـه تعالى ويسألـه القبول لهما ويتوسل إليه في ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه الواسطة بينه وبين خلفه ويضع يده اليمنى على يد المريد اليمنى بأن يضع راحته على راحتـه ويقبـض أبهامـه بأصابعـه ويتعوذ ويبسمل ثم يقول‏:‏ الحمد لله رب العالمين أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ويقول المريد بعده مثل ما قال‏.‏

ثم يقول اللهم أني أشهدك واشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وأولياءك أني قـد قبلتـه شيخـًا فـي اللـه ومرشـدًا وداعيـًا إليـه ثم يقول الشيخ اللهم أني أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبيـاءك ورسلـك وأوليـاءك أنـي قـد قبلتـه ولـدًا فـي الله فأقبله وأقبل عليه وكن له ولا تكن عليه‏.‏

ثم يدعو كأن يقول اللهم أصلحنا وأصلح بنا وأهدنا وأهد بنا وأرشدنا وأرشد بنا اللهم أرنا الحق حقًا وألهمنا أتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا أجتنابه اللهم أقطع عنا كل قاطع يقطعنا عنك ولا تقطعنا عنك ولا تشغلنا بغيرك عنك أنتهى‏.‏

قلت والمراتب السبعة التي أشار إليها السيد في الكيفية المتقدمة هي مراتب الأسماء السبعة وللنفـس فـي كـل مرتبـة منهـا مرتبـة باسـم خـاص دال عليـه‏:‏ الاسـم الأول لا إله إلا الله وتسمى النفس فيه إمارة والثاني الله وتسمى النفس فيه لوامة والثالث هو وتسمى النفس فيه ملهمة والرابع حق وهو أول قدم يحله المريد من الولاية كما مرت الإشارة إليه وتسمى النفس فيه مطمئنة والخامس حي وتسمى النفس فيه راضية والسادس فيرم وتسمى النفس فيه مرضية والسابع قهـار وتسمـى النفـس فيـه كاملـة وهـو غايـة التلقيـن‏.‏

وكلهـا ما عدا الأول منها تلقن في الأذن اليمنى إلا السابع ففي اليسرى وتلقينها بحسب ما يراه الشيخ من أحوال المريدين إفعال وأقوال وعالم مثـال‏.‏

واعلـم أن سلسلـة القـوم هـذه فـي كيفيـة أخـذ العهـد والتلقيـن مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرويه عن جبريل وهو يرويه عن الله عز وجل‏.‏

وفي بعض الروايات روايته عن رؤسـاء الملائكـة الأربـع والنبـي صلـى الله عليه وسلم لقن عليًا رضى الله عنه وصورة ذلك كما في ريحـان القلـوب فـي التوصـل إلـى المحبـوب لسيـدي يوسـف العجمـي أن عليـًا سـأل رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم فقـال يـا رسـول اللـه دلني على أقرب الطرق إلى الله تعالى‏.‏

فقال يا علي عليك بمداومـة ذكـر اللـه فـي الخلوات‏.‏

فقال علي رضي الله عنه هذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون فقـال رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله‏.‏

فقـال علـي كيـف أذكـر يـا رسـول الـه‏.‏

قـال غمـض عينيـك وأسمـع منى ثلاث مرات ثم قل أنت ثلاث مـرات وأنـا أسمـع‏.‏

فقـال النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم لا إله إلا الله ثلاث مرات مغمضًا عينيه رافعًا صوتـه وعلـي يسمـع ثـم قـال علـي لا إلـه إلا اللـه ثلـاث مـرات مغمضـًا عينيـه رافعـا صوته والنبي صلى اللـه عليـه وسلـم يسمـع‏.‏

ثـم لقن علي الحسن البصري رضي الله عنهما على الصحيح عند أهل السلسلـة الأخيـار مـن المحدثيـن‏.‏

قال الجاحظ السيوطي‏:‏ الراجح أن البصري أخذ عن علي ومثله عـن الضيـاء المقدسـي ومـن المقـرر فـي الأصـول أن المثبـت مقدم على النافي ثم لقن الحسن البصري حبيبـًا العجمـي وهـو لقـن داود الطائـي وهو لقن معروفا الكرخي وهو لقن سريا السقطي وهو لقن أبـا القاسـم سيـد الطائفتيـن الجنيـد البغدادي وعنه تفرقت سائر الطرق المشهورة في الإسلام‏.‏

ثم لقن الجنيد ممشاد الدينوري وهو لقن محمد الدينوري وهو لقن القاضي وجيه الدين وهو لقن عمر البكري وهو لقن أبا النجيب الهروردي وهو لقن قطب الدين الابهري وهو لقـن محمـد النجاشي وهو لقن شهاب الدين الشيرازي وهو لقن جلال الدين التبريـزي وهـو لقـن إبراهيـم الكيلانـي وهـو لقـن أخـي محمـد الخلوتـي وإليـه نسبـة أهـل الطريـق وهـو لقـن بير عمر الخلوتي وهو لقن أخي بيرام الخلوتي وهو لقن عز الدين الخلوتي وه لقن صدر الدين الخيالي وهـو لقـن يحيـي الشرواني صاحب ورد الستار وهو لقن بير محمد الأرزنجاني وهو لقن جلبي سلطان المشهور بجلبي خليفة وهو لقن خير التوقادي وهو لقن شعبان القسطموني وهو لقن اسمعيل الجورومي وهـو المدفـون فـي بـاب الصغيـر فـي بيـت المقـدس عنـد مرقـد سيـدي بلـال الحبشـي وهو لقن سيدي علـي أفنـدي قـره بـاش أي أسـود الرأس باللغة التركية وإليه نسبة طريقنا كما مر وهو لقن مصطفى أفندي ولده وخلفاؤه كما قال السيد الصديقي أربعمائة ونيف وأربعون خليفة وهو لقن عبد اللطيـف بـن حسـام الديـن الحلبـي وهـو لقـن شمس الطريقة وبرهان الحقيقة السيد مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي وهو لقن قطب رحاها ومقصد سرها ونجواها شيخنا الشيخ محمد الحفناوي وهو لقن وخلف أشياخًا كثيرة منهم بركة المسلمين وكهف الواصلين الصوفي الصائم القائـم العابـد الزاهـد الشيـخ محمد السمنودي المعروف بالمنير شيخ القراء والمحدثين وصدر الفقهاء من مناقبه الحميدة صيام الدهر مع عدم التكلف لذلك وقيام الليل يقرأ في كل ركعة ثلث القرآن وربما نصفه أو جميعه في كل ركعة هذا ورده دائمًا صيفًا وشتاء فتى وشيخًا يافعًا ومنهـا تواضعـه وخمولـه وعـدم رؤيـة نفسـه ويبـرأ مـن أن تنسب إليه منقبة وسيأتي باقي ترجمته في وفاته‏.‏

ومنهـم علامة وقته وأوانه الولي الصوفي الشيخ حسن الشيبيني ثم القوي طلب العلم وبرع فيه وفـاق علـى أقرانـه ثـم جذبتـه أيـدي العنايـة إلـى الشيـخ فأخـذ عليـه العهـد ولقنه أسماء الطريق السبعة على حسب سلوكه في سيره ثم ألبسه التاج وأجازه بأخذ العهود والتلقين والتسليك وصار خليفة محضًا فإدار مجالس الذكر ودعا الناس إليها من سائر الأقطار وفتـح اللـه عليـه بـاب العرفان حتى صار ينطق بأسرار القرآن‏.‏

ومنهـم العالـم النحريـر الصوفـي الصالـح السلـك أراجـح الشيخ محمد السنهوري ثم الفوى طلب العلم حتى صار من أهل الأفتاء والتدريس وأنتصب للتأكيد والتأسيس ثم دعته سعادة حضرة القـوم فسلـك مـع المجاهـدة وحسـن السيرة على يد الأستاذ حتى لقنه الأسماء السبعة وألبسه التاج وأقامه خليفة يهدي لأقوم منهاج ثم إذن له في التوجه إلى بلده فتوجه إليها وربي بها المريدين وأدار مجالس الأذكار بتلك البقاع وعم به في الوجود الأنتفاع‏.‏

ومنهم البحر الزاخر حائز مراتب المفاخر الولي الرباني والصوي في العالم الإنساني الشيخ محمد الزعيـري أشتغل بالعلم حتى برع وصار قدوة لكل مفتدي وجذوة لمن لا يهتدي ثم سلك على يد الأستاذ فأخذ عليه العهد ولقنه الأسماء على حسب سيره وسلوكه ثم خلفه وألبسه التاج وأجازه بالتلقين والتسليك‏.‏

ومنهم الحبر العلامة والبحر الفهامة شيخ الأفتاء والتدريس الشيخ خضر رسلان أشتغل على الشيخ مدة مديدة ولازمه ملازمة شديدة وأخذ عليه العهد في طريق الخلوتيـة حتـى تلقـن الأسماء وألبسه الشيخ التاج وصار خليفة بأخذ العهود والتسليك‏.‏

ومنهـم الشيـخ الصوفـي الولـي صاحـب الكرامـات والأيـادي والمكرمـات شيخنـا الشيـخ محمود الكردي أخذ على الشيخ العهد والطريق ولقنه الأسماء فكان محمود الأفعال معروفا بالكمال ثم ألبسـه التاج وصار خليفة وأجازه بالتلقين والتسليك فأرشد الناس وأزال عن قلوبهم الوسواس‏.‏

وهو مشهور البركة يعتقده الخاص والعام كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومـن كراماته أنه متى أراد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رآه‏.‏

وله مكاشفات عجيبة نفعنا الله بحبـه ولا حجبنـا عـن قربـه وهـو الـذي قام للإرشاد والتسليك بعد أنتقال شيخه وسلك على يده كثيـر وخلفـوه من بعده منهم الشيخ الصالح الصوفي والشيخ محمد السقاط والشيخ العلامة شيخ الإسلام والمسلمين مولانا الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر الآن والأمام الأوحد الشيـخ محمـد بديـر الـذي هـو الـآن بالقدس الشريف والمشار إليه في التسليك بتلك الديار والشيخ الصالـح الناحـج إبراهيم الحلبي الحنفي والسيد الأجل العلامة والرحالة الفهامة السيد عبد القادر الطرابلسـي الحنفـي والشيـخ الإمـام العمـدة الهمـام الشيـخ عمـر البابلـي وغيرهـم أدام اللـه النفـع بوجودهم‏.‏

ومنهـم العالـم العلامـة الألمعـي الفهامـة بقيـة السلـف والخليفـة ونعم الخلف الشيخ محمد سبط الأستاذ المترجم أطال الله بقاءه‏.‏

ومنهم الشيخ الفهامة الأديب الأريب واللوذعي النجيب الشيخ محمد الملاوي الشهير بالدمنهوري الشافعي‏.‏

ومنهم الشيخ الصوفي القدوة الشيخ أحمد الغزالي تلقن منه الأسماء وتخلف عنه وألبسه التاج وأجازه بالتلقين والتسليك‏.‏

ومنهم العالم العامل الشيخ أحمد القحافي الأنصاري أخذ العهد وأنتظم في سلك أهل الطريق وتلقن الأسماء وصار خليفة مجازًا فأرشد الناس وأفتتح مجالس الأذكار‏.‏

ومنهـم تـاج الملـة وإنسـان عين المجد عن غير علة ذو النسب الباذخ والشرف الرفيع الشانح السيد علي القناوي تلقن الأسماء وألبس التاج وصار خليفة حقا ومجـازًا بالتلقيـن والتسليـك فـأدار مجالس الأذكار وأشرقت به الأنوار‏.‏

ومنهم العلامة العامل والفهامة الواصل الفاضل الشيخ سليمان المنوفي نزيل طندتا لقنه وأرشده وخلفه وألبسه التاج وأجازه فسلك وأرشد وله أحوال عجيبة‏.‏

ومنهم الصوفي الصالح الشيخ حسن السخاوي نزيل طندتا أيضًالقنه وخلفه وألبسه التاج فدعا الناس لأقوم منهاج‏.‏

ومنهم علامة الأنام الشيخ محمد الرشيدي الملقب بشعير لقنه وخلفه وأجازه فكثر نفعه‏.‏

ومنهم العلامة الأوحد ومن على مثله الخناصر تعقد الشيخ يوسف الرشيدي الملقب بالشيال رحل أيضًا إليه فتلقن منه وسلك على يديه حتى صار خليفة وألبسه التاج وأجازه بالتلقين والتسليك ورجع إلى بلاده بأوفر زاد وأدار مجالس الذكـر وأكثـر المراقبـة والفكـر حتـى كثـرت أتباعه وعم أنتفاعه‏.‏

ومنهم العمدة المقدم الهمام الناسـك السالـك الشيـخ محمـد الشهيـر بالسقالقنـه وإجـازه بالتلقيـن والتسليك فكثر نفعه وطاب صنعه‏.‏

ومنهم فريد دهر وعالم عصره معدن الفضل والكمال قطب الجمال والجلال الشيخ باكير أفندي ومنهم بدر الطريق و شمس أفق التحقيق العالم العلامة والصوفي الفهامة الشيخ محمد الفشني لقنه وخلفه وألبسه التاج فأخذ السهود ولقن وسلك وفاق في سائر الآفاق وتقدم في الخلاف والوفاق‏.‏

ومنهـم العالم العامل والشهم الماهر الكامل الشيخ عبد الكريم المسيري الشهير بالزيات تلقن العهد والأسمـاء حسـب سلوكـه وسيـره وأجيـز بأخـذ العهـود والتلقيـن والتسليـك فزاد نورًا على نور وحبي بلذة الطاعة والحبور‏.‏

ومنهم شيخ الفروع والأصول الجامع بين المعقول والمنقول علامة الزمان والحامل في وقته لواء العرفان والشيخ أحمد العدوي الملقب بدردير جذبته العناية إلى نادي الهداية فجاء إلى الشيخ وطلـب منـه تلقيـن الذكـر فلقنـه وسار أحسن سير وسلك أحسن سلوك حتى صار خليفة بأخذ العهـود والتلقين والتسليك مع المجاهدة والعمل المرضي وسيأتي في وفياتهم تتمة تراجمهم رضي الله عنهم‏.‏

ومنهم أيضًا الشيخ العلامة الولي الصوفي الشيخ محمد الرشيدي الشهير بالمعصراوي‏.‏

ومنهـم الإمـام الجامـع والولـي الصوفي النافع مولاي أحمد الصقلي المغربي تلقن وتخلف وأجيز بأخذ العهود والتلقين والتسليك‏.‏

ومنهـم الصالـح العامـل الفهامـة العابـد الزاهـد الشيـخ اسمعيـل اليمنـي تلقـن وسلك مع التقى والعفاف والملازمة الشديدة والخدمة الأكيدة وحسن المجاهدة‏.‏

ومنهم النحرير الكامل واللوذعي الفاضل مؤلف المجموع الشيخ حسن بن علي المكي المعروف بشمه الناظم الناثر الحاوي الخير المتكاثر وغير هؤلاء ممن لم نعرف كثير‏.‏

في ذكر رحلة الأستاذ المترجم إلى بيت المقدس وهو أنه لم إذن له السيد البكري بأخذ العهود وتلقين الذكر لم يقع له تسليك أحد في هذه الطريقة إنما كان شغله وتوجهه كله إلى العلم واقرائه لكن ذلك بجسمه وأما قلبه فلم يكن إلا عند شيخه السيد الصديقي ولم يزل كذلك إلى عام تسع وأربعين‏.‏

فحن جسمه إلى زيارة شيخه وأنشد لسان حاله‏:‏ أخذتم فؤادي وهو بعضى فما الذي يضركـم لـو كـان عندكـم الكـل فأرسـل إليـه السيـد يدعـوه لزيارتـه فهـام إذ فهـم رمـز إشارتـه وتعلقـت نفسـه بالرحيـل فتـرك الأقراء والتدريس وتقشف وسافر إلى أن وصل بالقرب من بيت المقدس‏.‏

فقيل له إذا دخلت بيت المقدس فأدخل من الباب الفلاني وصل ركعتين وزر محل كذا فقال لهم أنا جئت قاصدا بيـت المقـدس ومـا جئـت قاصـدًا إلا أستـاذي فـلا أدخـل إلا مـن بابـه ولا أصلـي إلا فـي بيتـه‏.‏

فعجبوا لـه فبلـغ السيـد كلامـه فكـان سببًا لإقباله عليه وإمداده ثم سار حتى دخل بيت المقدس فتوجه إلـى بيـت الأستـاذ فقابلـه بالرحـب والسعـة وأفـرد له مكانًا ثم أخذ في المجاهدة من الصلاة والصوم والذكر والعزلة والخلوة قال‏:‏ فبينما أنا جالس في الخلـوة إذا بـداع يدعونـي إليـه فجئـت إليـه فوجـدت بيـن يديـه مائـدة فقال أنت صائم قلت نعم‏:‏ فقال كل فامتثلت أمره وأكلت فقال اسمع ما أقول لك إن كان مرادك صومًا وصلاة وجهادًا أو رياضة فليكن ذلك في بلدك وأما عندنا فلا تشتغل بغيرنا ولا تقيد أوقاتك بما تروم من المجاهدة وإنما يكون ذلك بحسب الاستطاعة وكل واشـرب وانبسـط قـال فامتثلـت إشارتـه ومكثـت عنـد أربعـة أشهـر كأنهـا ساعة غير أني لم أفارقه قط خلوة وجلوة ومنحه في هذه المدة الأسرار وخلع عليه القبول وتوجه بتاج العرفان وأشهد مشاهد الجمع الأول والثاني وفرق له فرق الفرق الثاني فحاز من التداني أسرار المثاني ثم لما انقضـت المـدة أراد العـود إلـى القاهـرة ودعـه ومـا ودعـه وسافـر حتى وصل إلى غزة فبلغ خبره أمير تلك القرية وكانت الطريق مخيفة فوجه مع قافلة ببيرقين من العسكر فساروا فلقيهم في أثناء الطريق أعراب فخافوهم فقالوا لأهل القافلة لا تخافوا فلسنا من قطاع الطريق وإن كنا منهم فلا نقـدر نكلمهـم وهـذا معكـم وأشـاروا إلـى الشيـخ ولـم يزالوا سائرين حتى انتهوا إلى مكان في أثناء الطريـق بعـد مجـاوزة العريـش بنحـو يوميـن فقيـل لهـم أن طريقكـم هذا غير مأمون الخطر ثم تشاوروا فقـال لهـم أعـراب ذلـك المكـان نحـن نسيـر معكـم ونسلـك بكـم طريقـًا غير هذا لكن اجعلوا لنا قدرًا من الدراهم نأخذه منكم إذا وصلتم إلى بلبيس فتوقف الركب أجمعه فقال الأستاذ أنا أدفع لكـم هـذا القـدر هنالـك فقالـوا لا سبيـل إلـى ذلـك كيـف تدفـع أنـت وليس لك في القفل شيء والله ما نأخذ منك إلا إن ضمنت أهل القافلة فقبل ذلك فاتفق الرأي على دفع الدراهم من أرباب التجـارات بضمانـة الشيخ فضمنهم وساروا حتى وصلوا إلى بلبيس ثم منها إلى القاهرة فسرت بـه أتـم سرور وأقبل عليه الناس من حينئذ أتم قبول ودانت لطاعته الرقاب وأخذ العهود على العالم وأدار مجالس الأذكار بالليل والنهار وأحيا طريق القوم بعد دروسهـا وأنقـذ مـن ورطـة الجهل مهجًا من عي نفوسها فبلغ هديه الأقطار كلها وصار في كثير من قرى مصر نقيب وخليفـة وتلامـذة وأتبـاع يذكـرون اللـه تعالـى ولـم يـزل أمـره في ازدياد وانتشار حتى بلغ سائر أقطار الأرض‏.‏

وسار الكبار والصغار والنساء والرجال يذكرون الله تعالى بطريقتـه وصـار خليفـة الوقـت وقطبـه ولـم يبـق ولـي مـن أهـل عصـره إلا أذعـن لـه وحين تصدى للتسليك وأخذ العهود أقبل عليه الناس من كل فج وكان بد الأمر لا يأخذون إلا بالاستخارة والاستشارة وكتابة أسمائهم ونحو ذلك فكثر الناس عليه وكثر الطلب فأخبر شيخه السيد الصديقي بذلك فقال لا تمنع أحدًا يأخذ عنك ولو نصرانيًا من غير شرط وأسلم على يديه الولي الصوفي العالم العلامة المرشد الشيخ أحمد البناء الفوي ثم تلاه من ذكر وغيرهم وكان أستـاذه السيـد يثنـي عليـه ويمدحه ويراسله نظمًا ونثرًا ويترجمه بالأخ ولولا رآه قسيمًا له في الحال ما صدر عنه ذلك المقال حتى أنه قال له يومًا إني أخشى من دعائكم لي بالأخ لأنه خلاف عادة الأشياخ مع المريدين فقال له لا تخش من شيء وامتدحه أشياخه ومعاصروه وتلامذته‏.‏

توفي رضي الله عنه يوم السبت قبل الظهر سابع عشر ربيع الأول سنة 1181 ودفن يوم الأحد بعد أن صلي عليـه فـي الأزهـر فـي مشهـد عظيـم جـدًا وكـان يـوم هـول كبيـر وكـان بيـن وفاته ووفاة الأستاذ الملوي ثلاثة عشر يومًا ومن ذلـك التاريـخ ابتـدأ نـزول البـلاء واختلـال أحـوال الديـار المصريـة وظهـر مصداق قول الراغب أن وجوده أمـان علـى أهـل مصـر مـن نـزول البـلاء وهـذا مـن المشاهـد المحسـوس وذلـك أنـه إذا لـم يكـن فـي النـاس مـن يصـدع بالحـق ويأمـر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الهدى فسد نظام العالم وتنافرت القلوب ومتى تنافرت القلوب نزل البلاء ومن المعلوم المقرر أن صلاح الأمة بالعلمـاء والملـوك وصلـاح الملـوك تابـع لصلـاح العلمـاء وفسـاد اللـازم بفسـاد الملـزوم فما بالك بفقده والرحى لا تدور بدون قطبها وقد كان رحمه الله قطب رحى الديار المصرية ولا يتـم أمـر مـن أمـور الدولـة وغيرهـا إلا باطلاعـه وإذنه ولما شرع الأمراء القائمون بمصر في إخراج التجاريـد لعلـي بـك وصالـح بـك واستأذنـوه فمنعهـم مـن ذلـك وزجرهـم وشنـع عليهم ولم يأذن بذلك كما تقدم وعلموا أنه لا يتم قصدهم بدون ذلك فأشغلوا الأستاذ وسموه فعند ذلك لم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وأخرجوا التجاريد وآل الأمر لخذلانهم وهلاكهم والتمثيل بهم وملك علي بك وفعـل مـا بـدا لـه فلـم يجـد رادعًا أيضًا ونزل البلاء حينئذ بالبلاد المصرية والشامية والحجازية ولم يزل يتضاعف حتى عم الدنيا وأقطار الأرض فهذا هـو السـر الظاهـري وهـو لا شـك تابـع للباطنـي وهـو القيام بحق وراثة النبوة وكمال المتابعة وتمهيد القواعد وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكـام مبانـي التقـوى لأنهـم أمنـاء اللـه فـي العالـم وخلاصـة بنـي آدم أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون‏.‏ ومات

شمـس الكمـال أبـو محمـد الشيـخ عبـد الوهـاب بن زين الدين

بن عبد الوهاب بن الشيخ نور بن بايزيد بن شهاب الدين أحمد بن القطب سيدي محمد بن أبي المفاخر داود الشربيني بمصر ونقلوا جسده إلى شربين ودفن عند جده سامحه الله وتجاوز عن سيآته وتولى بعـده فـي خلافتهم أخوه الشيخ محمد ولهما أخ ثالث اسمه علي وكانت وفاة المترجم ليلة الأحد غرة ذي القعدة سنة 1181‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة المتقن المتفنن الفقيه الأصولي النحوي الشيخ محمد بـن محمـد بـن موسـى العبيـدي الفارسـي الشافعي وأصله من فارسكور أخذ عن الشيخ علي قايتباي والشيخ الدفري والبشبيشي والنفراوي وكان آية فـي المعـارف والزهـد والـورع والتصـوف وكـان يلقـي دروسًا بجامع قوصون على طريقة الشيخ العزيزي والدمياطي وبآخراته وتوجـه إلـى الحجـاز وجاور به سنة وألقى هناك دروسًا وانتفع به جماعة ومات بمكة وكان له مشهد عظيم ودفن عند السيد خديجة رضي الله عنها‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة مفيد الطالبين الشيخ أحمد أبو عامر النفراوي المالكي أخذ الفقه عـن الشيـخ سالـم النفـراوي والشيـخ البليدي والطحلاوي والمعقول عنهم وعن الشيخ الملوي والحفني والشيخ عيسى البراوي وبرع في المعقول والمنقول ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة وكان درسه حافلًا وله حظوة في كثرة الطلبة والتلاميذ توفي سنة 1181‏.‏

ومات الأمير حسن بك جوجو وجن علي بك وهما من مماليك إبراهيم كتخدا وكان حسن مذبذبـًا ومنافقـًا بيـن خشداشينـه يوالـي هـؤلاء ظاهـرًا وينافـق الآخريـن سـرًا وتعصب مع حسين بك وخليل بك حتى أخرجوا علي بـك إلـى النوسـات ثـم صـار يراسلـه سـرًا ويعلمـه بأحوالهـم وأسرارهـم إلـى أن تحـول إلـى قبلـي وانضـم إلـى صالـح بـك فأخذ يستميل متكلمي الوجاقلية إلى أن كانوا يكتبون لأغراضهم بقبلي ويرسلون المكاتبات في داخل أفصاب الدخان وغيرها وهو مع مـن بمصرفـي الحركـات والسكنـات إلـى أن حضـر علـي بـك وصالـح بـك وكـان هـو ناصبهـا وطاقـه معهـم جهة البساتين فلما أرادوا الارتحال استمر مكانه وتخلف عنهم وبقي مع علي بك بمصر يشار إليه ويروى لنفسه المنة عليه وربما حدثته بالإمارة دونه وتحقق علـي بـك أنـه لا يتمكـن مـن أغراضـه وتمهيـد الأمـر لنفسـه ما دام حسن بك موجودًا فكتم أمره وأخذ يدبر على قتله‏.‏

فبيت مـع أتباعـه محمـد بك وأيوب بك وخشداشينهم وتوافقوا على اغتياله فلما كان ليلة الثلاثاء ثامن مـن شهـر رجـب حضـر حسـن بك المذكور وكذا خشداشه جن علي بك وسرما معه حصة من الليـل ثـم ركبـا فركـب صحبتهمـا محمـد بك وأيوب بك ومماليكهما واغتالوهما في أثناء الطريق كما تقدم‏.‏

ومات الأمير رضوان جربجي الرزاز وأصله مملوك حسن كتخدا ابن الأمير خليل أغا وأصل خليل أغا هذا شاب تركي خردجي يبيع الخردة دخل يومًا من بيت لاجين بك الذي عند السويقـة المعروفـة بسويقة لاجين وهو بيت عبد الرحمن أغا المتخرب الآن وكان ينفذ من الجهتين فـرآه لاجين بك فمال قلبه إليه ونظر فيه بالفراسة مخايل النجابة فدعاه للمقام عنده في خدمته فأجاب لذلك واستمر في خدمته مدة وترقى عنده ثم عينه لسد جسر شرمساح ووعده بالإكـرام إن هـو اجتهـد في سده على ما ينبغي فنزل إليه وساعدته العناية حتى سده وأحكمه ورجع ثم عينه لجبي الخراج وكان لا يحصل له الخراج إلا بالمشقة وتبقى البواقي على البواقي القديمـة في كل سنة فلما نزل وكان في أوان حصاد الأرز فوزن من المزارعين شعير الأرز من المال الجديد البواقي أولًا بأول وشطب جميع ذلك من غير ضرر ولا تأذية وجمعه وخزنه واتفق أنـه غـلا ثمنـه فـي تلـك السنـة غلـوًا زائـدًا عـن المعتـاد فباعـه بمبلـغ عظيـم ورجع لسيده بصناديق المال فقال‏:‏ لا آخذ إلا حقي وأما الربح فهو لك فأخذ قدر ماله وأعطاه الباقي فذهب واشترى لمخدومه جارية مليحة وأهداها له فلم يقبلها وردها إليه وأعطى له البيت الذي بلتنبانة ونزل له عن طصفة وكفرها ومنية تمامه وصار من الأمراء المعدودين فولد لخليل هذا حسن كتخدا ومصطفى كتخدا كانا أميرين كبيرين معدودين بمصر ومماليكه صالح كتخدا وعبد الله جربجي وإبراهيـم جربجي وغيرهم ومن مماليكه حسن حسين جربجي المعروف بالفحل ورضوان جربجي هـذا المترجـم وغيرهمـا أكثـر مـن المائـة أمير‏.‏

وكان رضوان جربجي هذا من الأمراء الخيرين الدينين له مكارم أخلاق وبر ومعروف ولما نفي علي بك عبد الرحمن كتخدا نفاه أيضًا وأخرجه من مصـر‏.‏

ثـم أن عـل يبـك ذهـب يومًا عند سليمان أغا كتخدا الجاويشية فعاتبه على نفي رضوان جربجـي فقـال لـه علـي بك‏:‏ تعاتبني على نفي رضوان جربجي ولا تعاتبني على نفي ابنك عبد الرحمن كتخدا فقال‏:‏ ابني المذكور منافق يسعى في إثارة الفتن ويلقي بين الناس فهو يستاهل وأمـا هـذا فهـو إنسـان طيـب ومـا علمنـا عليـه مـا يشينـه في دينه ولا دنياه فقال‏:‏ نرده لأجل خاطرك وخاطـره ورده ولـم يـزل فـي سيادتـه حتـى مـات علـى فراشـه سادس جمادى الأولى في هذه السنة والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف‏.‏

استهل شهر المحرم بيوم الأربعاء في ثانيه سافرت التجريدة المعينة إلى بحري بسبب الأمراء المتقدم ذكرهم وهم حسين بك وخليل بك ومن معهم وقد بذل جهده علي بك حتى شهل أمرها ولوازمها في أسرع وقت وسافرت يوم الخميس وأميرها وسر عسكرها محمد بك أبو الذهب‏.‏

فلما وصلوا إلى ناحية دجوة وجدوهم عـدوا إلـى مسجـد الخضـر فعـدوا خلفهـم فوجدوهـم ذهبـوا إلـى طندتـا وكرنكـوا بها فتبعوهم إلى هناك وأحاطوا بالبلدة من كل جهة ووقع الحـرب بينهـم فـي منتصـف شهـر المحـرم فلـم يـزل الحـرب قائمـًا بيـن الفريقين حتى فرغ ما عندهم من الجبخانة والبارود فعند ذلك أرسلوا إلى محمد بك وطلبوا منه الأمان فأعطاهم الأمان وارتفع الحـرب مـن بيـن الفريقيـن‏.‏

وكاتبهـم محمـد بـك وخادعهـم والتـزم لهـم بإجـراء الصلـح بينهـم وبيـن مخدومه علي بك فانخدعوا له وصدقوه وانحلت عزائمهم واختلفت آراؤهم‏.‏

وسكن الحال تلك الليلة ثـم أن محمـد بـك أرسـل في ثاني يوم إلى حسين بك يستدعيه ليعمل معه مشورة فحضر عنده بمفـرده وصحبتـه خليـل بـك السكـران تابعـة فقـط‏.‏

فلمـا وصلـوا إلى مجلسه جماعة وقتلوهما وحضر فـي أثرهمـا حسـن بك شبكة ولم يعلم ما جرى لسيده فلما قرب من المكان أحسن قلبه بالشر فـأراد الرجـوع فعاقه رجل سائس يسمى مرزوق وضربه بنبوت فوقع على الأرض فلحقه بعض الجنـد واحتـز رأسه فلما علم بذلك خليل بك الكبير ومن معه ذهبوا إلى ضريح سيدي أحمد البدوي والتجئوا إلى قبره واشتد بهم الخوف وعلموا أنهم لاحقون بإخوانهم فلما فعلوا ذلك لم يقتلوهـم وأرسـل محمـد بـك يستشيـر سيـده فـي أمر خليل ومن معه فأمر بنفيه إلى ثغر سكندرية وخنقـوه بعـد ذلـك بهـا‏.‏

ورجـع محمـد بـك وصالـح بـك والتجريـدة ودخلـوا المدينـة من باب النصر في موكـب عظيـم وأماهـم الـرؤوس محمولـة فـي صـوان مـن فضـة وعدتها ستة رؤوس وهي رأس حسين بك وخليل بك السكران وحسن بك شبكة وحمزة بك واسمعيل بك أبي مدفع وسليمان أغا الوالي وذلك يوم الجمعة سابع عشر المحرم‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـاء رابـع عشـر صفـر حضـر نجـاب الحج واطمأن الناس وفي يوم الجمعة سابع عشره وصـل الحجـاج بالسلامـة ودخلوا المدينة وأمير الحاج خليل بك بلغيه وسر الناس بسلامة الحجاج وكانوا يظنون تعبهم بسبب هذه الحركات والوقائع‏.‏

وفي ثامن عشر صفر أخرج علي بك جملة من الأمراء من مصر ونفى بعضهم إلى الصعيد وبعضهم إلى الحجاز وأرسل البعض إلى الفيوم وفيهم محمد كتخدا تابع عبد الله كتخدا وقرا حسن كتخدا وعبد الله كتخدا تابع مصطفى بـاش اختيـار مستحفظـان وسليمـان جاويـش ومحمـد كتخـدا الجردلـي وحسن أفندي الباقرجي وبعض أوده باشية وعلي جربجي وعلي أفندي الشريـف جمليـان‏.‏

وفيـه صرف علي بك مواجب الحامكية‏.‏

وفيه أرسل علي بك وقبض على أولاد سعد الخادم بضريح سيد أحمد البدوي وصادرهم وأخذ منهم أموالًا عظيمة لا يقدر قدرها وأخرجهم من البلدة ومنعهم من سكناها ومن خدمة المقـام الأحمـدي وأرسـل الحـاج حسن عبد المعطي وقيده بالسدنة عوضًا عن المذكورين وشرع في بناء الجامع والقبة والسبيل والقيسارية العظيمة وأبطل منها مظالم أولاد الخادم والحمل والنشالين والحرمية والعيارين وضمان البغايا والخواطئ وغير ذلك‏.‏

وفي تاسع شهر ربيع الأول حضر قابجي من الديار الرومية بمرسوم وقفطان وسيف لعلي بك من الدولة وفيه وصلت الأخبار بموت خليل بك الكبير بثغر سكندرية مخنوقًا‏.‏

وفـي يـوم السـب ثانـي عشـرة نـزل الباشـا إلـى بيـت علـي بـك باستدعائـه فتغـدى عنـده وقـدم له تقادم وهدايا‏.‏

وفـي يـوم الأحـد ثامـن عشـر ربيـع الآخـر اجتمـع الأمـراء بمنـزل علـي بـك علـى العـادة وفيهم صالح بك وقـد كـان علي بك بيت مع أتباعه على قتل صالح بك فلما انقضى المجلس وركب صالح بك ركـب معه محمد بك وأيوب بك ورضوان بك وأحمد بك بشناق المعروف بالجرار وحسن بك العبـداوي وعلـي بـط الطنطـاوي وأحـدق الجميـع بصالح بك ومن خلفهم الجند والمماليك والطوائف فلما وصلوا إلى مضيق الطريق عند المفارق بسويقة عصفور تأخر محمد بك ومن معه عن صالح بك قليلًا وأحدث له محمد بك حماقة مع سائسه وسحب سيفه من غمده سريعًا وضرب صالح بك وسحب الآخرون سيوفهم ما عدا أحمد بك بشناق وكملوا قتلته ووقع طريحًا على الأرض ورمح الجماعة الضاربون وطوائفهم إلى القلعة وعندما رأوا مماليـك صالح بك وأتباعه ما نزل بسيدهم خرجوا على وجوههم ولما استقر الجماعة القاتلون بالقلعة وجلسـوا مـع بعضهـم يتحدثـون عاتبـوا أحمـد بـك بشنـاق فـي عـدم ضربـه معهـم صالـح بك وقالوا له‏:‏ لماذا لم تجرد سيفك وتضرب مثلنا فقال بل ضـرب معكـم فكذبـوه فقـال لـه بعضهـم‏:‏ أرنـا سيفـك فامتنع وقال‏:‏ إن سيفي لا يخرج من غمده لأجل الفرجة ثم ستوا وأخذ في نفسه منهم وعلـم أنهـم سيخبـرون سيدهـم بذلـك فـلا يأمـن غائلتـه وذلـك أن أحمـد بك هذا لم يكن مملوكًا لعلي بـك وإنمـا كـان أصلـه مـن بلـاد بشنـاق حضـر إلـى مصـر فـي جملـة أتبـاع علـي باشـا الحكيـم عندمـا كان واليـًا علـى مصـر فـي سنـة 1169‏.‏

فأقـام في خدمته إلى سنة 1171‏.‏

وتلبس صالح بك بإمارة الحـج فـي ذلـك التاريـخ فاستـأذن أحمـد بك المذكور علي باشا في الحج وأذن له فحج مع صالح بك وأكرمه وأحبه وألبسه زي المصريين ورجع صحبته وتنقلت به الأحوال وخدم عند عبد اللـه بـك علـي ثـم خـدم عنـد علـي بـك فأعجبـه شجاعتـه وفروسيتـه فرقـاه فـي المناصـب حتـى قلده الصنجقيـة وصـار مـن الأمراء المعدودين‏.‏

فلم يزل يراعي منة صالح السابقة عليه فلما عزم علي بـك علـى خيانـة صالـح بك السابقة وغدره خصصه بالذكر وأوصاه أن يكون أول ضارب فيه لما يعلمـه فيـه مـن العصبيـة لـه فقيـل لـه أن أحمـد بـك أسر ذلك إلى صالح بك وحذره غدر علي بك إياه فلم يصدقه لما بينهما من العهود والأيمان والمواثيق ولم يحصل منه ما يوجـب ذلـك ولـم يعارضـه في شيء ولم ينكر عليه فعلًا‏.‏

فلما اختلى صالح بك بعلي بك أشار إليه بما بلغه فحلف له علي بك بأن ذلك نفاق من المخبر ولم يعلم من هو فلما حصل ما حصل ورأى مراقبة الجماعة له ومناقشتهم له عند استقرارهم بالقلعة تخيل وداخله الوهم وتحقق في ظنه تجسم القضية فلما نزلوا من القلعة وانصرفوا إلى منازلهم تفكر تلك الليلـة وخـرج مـن مصـر وذهب إلى الإسكندرية وأوصى حريمه بكتمان أمره ما أمكنهم حتى يتباعد عن مصر فلما تأخـر حضوره بمنزل علي بك وركوبه سألوا عنه فقيل له أنه متوعك فحضر إليه في ثاني يوم محمـد بـك ليعـوده وطلـب الدخـول إليـه فلـم يمكنهـم منعـه فدخـل إلـى محـل مبيتـه فلم يجده في فراشه فسألـه عنه حريمه فقالوا لا نعلم له محلًا ولم يأذن لأحد بالدخول عليه وفتشوا عليه فلم يجدوه وأرسـل علي بك عبد الرحمن أغا وأمره بالتفتيش عليه وقتله فأحاط بالبيت وفتش عليه في البيـت والخطـة فلـم يجـده وهـو قـد كـان هـرب ليلـة الواقعـة فـي صـورة جزائرلـي مغربـي وقصقـص لحيتـه وسعى بمفرده إلى شلقان وسافر إلى بحري ووصل السعاة بخبره لعلي بك بأنه بالإسكندرية فأرسل بالقبض عليه فوجدوه نزل بالقبطانة واحتمى بها وكان من أمره ما كان بعد ذلك كما سيأتـي وهـو أحمـد باشا الجزار الشهير الذكر الذي تملك عكا وتولى الشام وإمارة الحج الشامي وطار صيته في الممالك‏.‏

وفيه عين علي بك تجريدة على سويلم بن حبيب وعرب الجزيرة فنزل محمد بك بتجريدة إلى عرب الجزيـرة وأيـوب بـك إلـى سويلـم فلمـا ذهـب أيـوب بـك إلـى دجـوة فلـم يجـد بهـا أحـدًا وكـان سويلـم بائتًا في سند نهور وباقي الحبايبة متفرقين في البلاد فلما وصله الخبر ركب من سند نهور وهـرب بمـن معـه إلـى البحيـرة والتجأ إلى الهنادي‏.‏

ونهبوا دوائره ومواشيه وحضروا بالمنهوبات إلى مصر واحتج عليه بسبب واقعة حسين بك وخليل بك لما أتيا إلى دجوة بعد واقعة الديرس والجراح قدم لهم التقادم وساعدهم بالكلف والذبائح ونحو ذلك والغرض الباطني اجتهاده في وفـي يـوم الاثنيـن تاسع عشرة أمر علي بك بإخراج علي كتخدا الخربطلي منفيًا وكذلك يوسف كتخدا مملوكه ونفي حسن أفندي درب الشمسي وأخوته إلى السويس ليذهبوا إلـى الحجـاز وسليمـان كتخـدا الجلفـي وعثمـان كتخـدا عزبـان المنفوخ وكان خليل بك الأسيوطي بالشرقية فلما سمع بقتل صالح بك هرب إلى غزة‏.‏

وفـي يـوم الأحد خامس جمادى الأولى طلع علي بك إلى القلعة وقلد ثلاثة صناجق من أتباعه وكذلك وجاقلية وقلد أيوب بك تابعه ولاية جرجا وحسن بك رضوان أمير حج وقلد الوالي‏.‏

وفي جمادى الآخرة قلد اسمعيل بك الدفتر دارية وصرف المواجب في ذلك اليوم‏.‏

وفي منتصف شهر رجب وصل أغا من الديا الرومية وعلى يده مرسوم بطلب عسكر للسفر فاجتمعـوا بالديـوان وقرأوا المرسوم وكان علي بك أحضر سليمان بك الشابوري من نفيه بناحية المنصورة وكان منفيًا هناك من سنة 1172‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـاء عملـوا الديـوان بالقلعـة ولبسـوا سليمان بك الشابوري أمير السفر الموجه إلى الروم وأخذوا في تشهيله وسافر محمد بك أبو الذهب بتجريدة ومعه جملة من الصناجق والمقاتلين لمنابذة شيخ العرب همام فلما قربوا من بلاده ترددت بينهم الرسل واصطلحوا معه على أن يكـون لشيـخ العـرب همـام من حدود برديس ولا يتعدى حكمه لما بعده‏.‏

واتفقوا على ذلكثم بلغ شيخ العرب أنه ولد لمحمد بك مولود فأرسل له بالتجاوز عن برديس أيضًا إنعامًا منه للمولود ورجـع محمـد بـك ومـن معه إلى مصر‏.‏

وفيه قبض علي بك على الشيخ أحمد الكتبي المعروف بالسقـط وضربـه علقـة قويـة وأمـر بنفيـه إلـى قبـرص فلمـا نـزل إلى البحر الرومي ذهب إلى اسلامبول وصاهـر حسـن أفنـدي قطـه مسكيـن النجـم وأقام هناك إلى أن مات وكان المذكور من دهاة العالم يسعى في القضايا والدعاوى يحيي الباطل ويبطل الحق بحسن سبكه وتداخله‏.‏

وفي سابع عشرة حصلت قلقة من جهة والي مصر محمد باشا وكان أراد أن يحدث حركة فوشـي بـه كتخـداه عبـد اللـه بـك إلـى علـي بـك فأصبحـوا وملكوا الأبواب والرملية والمحجر وحوالي القلعـة وأمـروه بالنـزول فنـزل مـن بـاب الميـدان إلـى بيـت أحمد بك كشك وأجلسوا عنده الحرسجية‏.‏

وفي يوم الأحد غرة شعبان تقلد علي بك قائمقامية عوضًا عن الباشا‏.‏

وفي يوم الخميس أرسل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان إلى رجل من الأجناد يسمى اسمعيـل أغـا من القاسمية وأمره بقتله وكان اسمعيل هذا منفيًا جهة بحري وحضر إلى مصر قبل ذلك وأقام ببيته جهة الصليبة‏.‏

وكان مشهورًا بالشجاعة والفروسية والإقدام فلما وصل الأغا حـذاء بيتـه وطلبـه ونظـر إلـى الأغـا واقفـًا بأتباعه ينتظره علم أنه يطلبه ليقتله كغيره لأنه تقدم قتله لأنـاس كثيرة على هذا النسق بأمر علي بك فامتنع من النزول وأغلق باباه ولم يكن عنده أحد سوى زوجته وهي أيضًا جارية تركية‏.‏

وعمر بندقيته وقرابينته وضرب عليهم فلم يستطيعوا العبور إليه من الباب وصارت زوجته تعمر له وهو يضرب حتى قتل منهم أناسـًا وانجـرح كذلـك واستمـر علـى ذلـك يوميـن وهـو يحـارب وحـده‏.‏

وتكاثروا عليه وقتلوا منن أتباعه وهو ممتنع عليهم إلى أن فرغ منه البارود والرصاص ونادوه بالأمان فصدقهم ونزل من الدرج فوقف له شخص وضربه وهو نازل من الدرج وتكاثروا عليه وقتلوه وقطعوا رأسه ظلمًا رحمـه اللـه تعالى‏.‏

وفي تاسع عشره صرفت المواجب على الناس والفقراء‏.‏

وفي ثامن عشرينه خرج موكب السفر الموجه إلى الروم في تجمل زائد‏.‏

وفـي عاشـر رمضـان قبض علي بك على المعلم اسحق اليهودي معلم الديوان ببولاق وأخذ منه أربعيـن ألـف محبـوب ذهـب وضربـه حتـى مات وكذلك صادر أناسًا كثيرة في أموالهم من التجار مثل العشوبي والكمين وغيرهما وهو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من مبادي ظهوره واقتدى به من بعده‏.‏

وفي شوال هيأ علي بك هدية حافلة وخيولًا مصرية جيادًا وأرسلها إلى اسلامبول للسلطان ورجـال الدولـة وكـان المتسفـر بذلـك إبراهيـم أغـا سـراج باشـا وكتـب مكاتبـات إلـى الدولة ورجالها والتمس من الشيخ الوالـد أن يكتـب لـه أيضـًا مكاتبـات لمـا يعتقـده مـن قبـول كلامـه وإشارته عندهم ومضمون ذلك الشكوى من عثمان بك بن العظم والي الشام وطلب عزله عنها بسبب انضمام بعض المصريين المطرودين إليه ومعاونته لهم وطلب منه أن يرسل من طرفه أناسًا مخصوصين فأرسل الشيخ عبـد الرحمـن العريشـي ومحمـد أفنـدي البردلـي فسافـروا مـع الهدية وغرضه بذلك وضع قدمه بالقطر الشامي أيضًا‏.‏

وفي ثاني عشر ذي القعدة رسم بنفي جماعة من الأمراء أيضًا وفيهم إبراهيم أغا الساعي اختيارية متفرقة واسمعيل أفندي جاويشان وخليل أغا باش جاويشـان جمليـان وباشجاويـش تفكجيـان ومحمـد أفنـدي جراكسـة ورضـوان والزعفرانـي فأرسـل منهـم إلـى دميـاط ورشيـد وإسكندريـة وقبلـي وأخذ منهم دراهم قبل خروجهم واستولى على بلادهم وفرقها في أتباعه وكانت هذه طريقته فيمن يخرجه يستصفي أموالهم أولًا ثم يخرجهم ويأخذ بلادهم وأقطاعهم فيفرقها على مماليكه وأتباعه الذين يؤمرهم في مكانهم ونفى أيضًا إبراهيم كتخدا جدك وابنه محمدًا إلى رشيد وكان إبراهيم هذا كتخداه ثم عزله وولاه الحسبة فلما نفاه ولى مكانه في الحسبة مصطفى أغا والله أعلم‏.‏

مـات الإمـام الفقيـه المحـدث الأصولـي المتكلم شيخ الإسلام وعمدة الأنام الشيخ أحمد بن الحسن بن عبد الكريم بن محمد بن يوسف بن كريم الدين الكريمي الحالدي الشافعي الأزهري الشهير بالجوهري وإنما قيل له الجوهري لأن والده كان يبيع الجوهر فعرف به ولد بمصر سنة 1096 واشتغـل بالعلـم وجـد في تحصيله حتى فاق أهل عصره ودرس بالأزهر وأفتى نحو ستين سنة مشايخه كثيرون منهم الشهاب أحمد بن الفقيه ورضوان الطوخي إمام الجامع الأزهر والشيخ منصـور المنوفـي والشهـاب أحمـد الخليلـي والشيـخ عبـد ربـه الديـوي والشيـخ عبـد الـرؤوف البشبيشي والشيـخ محمـد أبو العز العجمي والشيخ محمد الاطفيحي والشيخ عبد الجواد المخلي الشافعيون والشيخ محمد السجلماسي والشيخ أحمد النغراوي والشيخ سليمان الحصيني والشيخ عبد الله الكنكسـي والشيـخ محمـد الصغيـر الـورزازي وابن زكري والشيخ أحمد الهشتوكي والشيخ سليمان الشبرخيتي والسيد عبد القادر المغربي ومحمد القسطنطيني ومحمد النشرتي الماليكيون ورحل إلى الحرمين في سنة 1120 فسمع من البصري والنخلي في سنة 1124 ثم في سنة 1130 وحمل في هذه الرحلات علومًا جمة أجازه مولاي الطيب بن مولاي عبد الله الشريف الحسيني وجعلـه خليفـة بمصـر ولـه شيـوخ كثيـرون غيـر مـن ذكـرت وقد وجدت في بعض إجازاته تفصيل ما سمعـه مـن شيوخـه مـا نصـه علـى البصري والنخلي أوائل الكتب الستة والإجازة العامة مع حديث الرحمة بشرطه وعلى الاطفيحي بعض كتب الفقه والحديث والتصوف والإجازة العامة وعلى السجلماسي في سنة 1126 الكبرى للسنوسـي ومختصـره المنطقـي وشرحـه وبعـض تلخيـص القرزويني وأول البخاري إلى كتاب الغسل وبعض الحكم العطائية وأجازه علي بن زكري أوائل الستة وأجازه وعلـى الكنكسـي الصحيـح بطرفيـه وشـرح العقائـد للسعـد وعقائـد السنوسـي وشروحها وشرح التسهيل لابن مالك إلى آخره وشرح الألفية للمكوي والمطول بتمامه وشرح التلخيص وعلى الهشتوكي الإجازة بسائرها وعلى النفراوي شرح التلخيص مرارًا وشرح ألفية المصطلح وشرح الورقات وعلي الديوي شرح المنهج لشيخ الإسلام مرارًا وشرح التحرير وشرح ألفيـة ابـن الهائـم وشـرح التلخيـص وشـرح ابن عقيل على الألفية وشرح الجزرية وعلى المنوفي جمع الجوامـع وشرحه للمحلى وشرح التلخيص وعلى ابن الفقيه شرح التحرير وشرح الخضيب مرارًا وشرح العقائد النسفية وشرح التلخيص والخبيصي وعلى الطوخي شرح الخطيب وابن قاسم مـرارًا وشرح الجوهرة لعبد السلام وعلي الخليفي البخاري وشرح التلخيص والاشموني والعصـام وشـرح الورقـات وعلـي الحصينـي شـرح الكبـرى للسنوسـي بتمامه وعلى الشبرخيتي شرح الرحبيـة وشرح الأجرومية وغيرهما وعلى الورزازي شرح الكبرى بتمامه مرارًا وشرح الصغرى وشرح مختصر السنوسي والتفسير وغيره وعلي البشبيشي المنهج مرارًا وجمع الجوامع مرارًا والتلخيص وألفية المصطلح والشمائل وشرح التحرير لزكريا وغيره هذا نص ما وجدته بخطه‏.‏

واجتمع بالقطب سيدي أحمد بن ناصر فأجازه لفظًا وكتابة وممن أجازه أبو المواهب البكري وأحمـد البنـاء وأبـو السعـود الدنجيهـي وعبـد الحـي الشرنبلالي ومحمد بن عبد الرحمن المليجي وفي الحرميـن عمـر بـن عبـد الكريـم الخلخالـي حضـر دروسـه وسمع منه المسلسل بالأولية بشرطه وتوجه بآخرته الحرمين بأهله وعياله وألقى الدروس وانتفع به الواردون ثم عاد إلى مصر فانجمع عن الناس وانقطع في منزله يزار ويتبرك به ولن تآليف منها منقذة العبيد عن ربقة التقليد في التوحيد وحاشية علي عبد السلام ورسالة في الأولية وأخرى في حياة الأنبياء في قبورهم وأخرى في الغرانق وغيرها وكانت وفاته وقت الغروب يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى وجهز بصباحه وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن بالزاوية القادرية داخل درب شمس الدولة رحمه الله‏.‏

ومات الأمير العلامة والحبر الفهامة الفقيه الدراكة الأصولي النحو شيخ الإسلـام وعمـدة ذوي الأفهام الشيخ عيسى بن أحمد بن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الشافعي الأزهري ورد الجامـع الأزهـر وهـو صغيـر فقـرأ العلم على مشايخ وقته وتفقه على الشيخ مصطفى العزيزي وابن الفقيه وحضر دروس الملوي والجوهري والشبراوي وأنجب وشهد له بالفضل أهل عصره وقرأ الدروس في الفقه وأحدقت به الطلبة واتسعت حلقته واشتهر بحفظ الفروع لفقهية حتى لقب بالشافعي الصغير لكثرة استحضاره في الفقه وجودة تقريره وانتفع به طلبة العصر طبقة بعد طبقة وصاروا مدرسين وروى الحديث عن الشيخ محمد الدفري وكان حسن الاعتقـاد فـي الشيخ عبد الوهاب العفيفي وفي سائر الصلحاء‏.‏

وله مؤلفات مقبولة منها حاشية على شرح الجوهـرة فـي التوحيـد وشـرح علـى الجامـع الصغيـر للسيوطـي فـي مجلـد يذكـر فـي كـل حديـث مـا يتعلـق بالفقه خاصة ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويعيد حتى توفي سحر ليلة الاثنين رابع رجب وجهـز فـي صباحـه وصلـي عليـه بالأزهـر بمشهـد حافـل ودفـن بالمجاوريـن وبنـي علـى قبـره مزار ومقام واستقـر مكانـه فـي التصـدر والتدريـس ابنـه العلامـة الشيخ أحمد ولازم حضوره تلامذة أبيه رحمه الله‏.‏

ومات الإمام العلامة الفقيه واللوذعي الذكي النبيه عمدة المحققين ومفتي المسلمين حسن بن نور الدين المقدسي الحنفي الأزهري تفقه على شيخ وقته الشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد عبـد العزيـزي الزيـادي وحضـر دروس الشيـخ مصطفـى العزيـزي والسيـد علـي الضريـر والملـوي والجوهري والحفني والبليدي وغيرهم ودرس بالجامع الأزهر في حياة شيوخه ولما بنى الأمير عثمان كتخدا مسجده بالأزبكية جعله خطيبًا وإمامًا به وسكن في منزل قرب الجامع وراج أمره ولما شعر فتوى الحنفية بموت الشيخ سليمان المنصوري جعل شيخ الحنفية بعناية عبد الرحمـن كتخـدا وكـان لـه به ألفة ثم ابتنى منزلًا نفيسًا مشرفًا على بركة الأزبكية بمساعدة بعض الأمـراء واشتهـر أمره ودرس بعدة أماكن كالصرغقشية المشروطة لشيخ الحنفية والمدرسة المحموديـة والشيـخ مطهر وغيرها وألف متنًا في فقه المذهب ذكر فيه الراجح من الأقوال واقتنى كتبًا نفيسة بديعة الأمثال وكان عنده ذوق وألفة ولطافة وأخلاق مهذبة توفي يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة‏.‏

ومات الإمام العلامة أحد أذكياء العصر ونجباء الدهر الشيخ محمد ابن بدر الدين الشافعي سبط الشمس الشرنبابلي ولد قبل القرن بقليل وأجازه جده وحضر بنفسه على شيوخ وقته كالشيخ عبد ربه الديوي والشيخ مصطفى العزيزي وسيدي عبد الله الكنكسي والسيد علي الحنفـي والشيـخ الملـوي فـي آخريـن وباحـث وناصـل وألـف وأفـاد ولـه سليقة في الشعر جيدة وكلامه موجـود بيـن أيـدي النـاس ولـه ميـل لعلـم اللغـة ومعرفـة بالأنسـاب غيـر أنه كان كثير الوقيعة في الشيخ محـي الديـن ابـن عربـي قدس الله سره وألف عدة رسائل في الرد عليه وكان يباحث بعض أهل العلم فيما يتعلق بذلك فينصحونه ويمنعونه من الكلام فيذلك فيعترف تارة وينكر أخرى ولا يثبـت علـى اعترافـه وبلغنـي أنـه لـف مـرة رسالـة فـي الـرد عليـه فـي ليلـة مـن الليالـي ونـام فاحتـرق منزلـه بالنـار واحترقـت تلـك الرسالـة من جملة ما احترق من الكتب ومع ذلك فلم يرجع عما كان عليه من التعصب وربما تعصب لمذهبه فيتكلم في بعض مسائل مع الحنفية ويرتب عليها أسئلة ويغـض عنهـم ولمـا كـان عليـه مما ذكر لم يخل حاله عن ضيق وهيئته عن رثاثة توفي المترجم في المحرم افتتاح السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة عند جده لامه رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الجناب الأمجد والملاذ الأوحد حامل لواء علم المجد وناشره وجالب متاع الفضل وتاجره السيـد أحمـد بـن اسمعيـل بـن محمـد أبـو الإمـداد سبـط بنـي الوفي والده وجده من أمراء مصر وكذا أخـوه لأبيـه محمـد وكل منهم قد تولى الإمارة والمترجم أمه هي ابنة الأستاذ سيدي عبد الخالق بـن وفـي ولـد بمصـر ونشـأ فـي حجـر أبويـه فـي عفـاف وحشمـة وأبهة وأحبه الناس لمكان جده لأمه المشار إليه مع جذب فيه وصلاح وتولى نقابة السادة الأشراف سنة 1168 ثم تولى الخلافة الوفائيـة بعد وفاة السيد أبي هادي فنزل عن النقابة للسيد محمد أفندي الصديقي وقنع بخلافة بيتهم وكان إنسانـًا حسنـًا بهيـًا ذا تـؤدة ووقـار وفيـه قابليـة لـإدراك الأمـور الدقيقـة والأعمـال الرياضية وهو الذي حمل الشيخ مصطفى الخياط الفلكي على حساب حركة الكواكب الثابتة وأطوالها وعروضها ودرجات ممرها ومطالعها لما بعد الرصد الجديد إلى تاريخ وقته وهي من مآثره مستمرة المنفعة لمدة من السنين واقتنى كثيرًا من الآلات الهندسية الأدوات الرسمية رغب فيها وحصلها بالأثمان الغالية وهو الذي أنشأ المكان اللطيـف المرتفـع بدارهـم المجـاور للقاعـة الكبير المعروفة بأم الأفراح المطل على الشارع المسلوك وما به من الرواشن المطلة على حوش المنزل والطريق وما به من الخزائن والخورنقات والرفارف والشرفات والرفوف الدقيقـة الصنعـة وغيـر ذلـك وهـو الـذي كنى الفقير بأبي العزم وذلك في سنة 1177 برحاب أجدادهم يوم المولد النبـوي المعتـاد وتوفـي فـي سابـع المحـرم سنـة تاريخـه وصلـي عليـه بالجامـع الأزهـر بمشهد حافل ودفن بتربة أجدادهم نفعنا الله بهم وأمدنا من أمدادهم‏.‏

وتولى الخلافة بعده مسك ختامهم ومهبط وحي أسرارهم نادرة الدهر وغرة وجه العصر الإمام العلامة واللوذعي الفهامة مـن مصابيـح فضله مشارق الأنوار السيد شمس الدين محمد أبو الأنوار نسأل الله لحضرته طول البقاء ودوام العز والارتقاء آمين‏.‏ ومات

الإمام العلامة الفقيه النبيه شيخ الإسلام وعمدة الأنام

الشيخ عبد الرؤوف بن محمد بن عبـد الرحمـن بـن أحمـد السجينـي الشافعـي الأزهـري شيـخ الأزهر وكنيته أبو الجود أخذ عن عمه الشمـس السجينـي ولازمـه وبـه تخـرج وبعـد وفاته درس المنهج موضعه وتولى مشيخة الأزهر بعد الشيـخ الحفنـي وسـار فيهـا بشهامـة وصرامة إلا أنه لم تطل مدته وتوفي رابع عشر شوال وصلي عليه بالأزهر ودفن بجوار عمه بأعلى البستان واتفق أنه وقعت له حادثة قبل ولايته على مشيخـة الجامـع بمـدة وهـي التـي كانـت سببـًا لاشتهار ذكره بمصر وذلك أن شخصًا من تجار خان الخليلي تشاجر مع رجل خادم فضربه ذلك الخادم وفر من أمامه فتبعه هو وآخرون من أبناء جنسه فدخل إلى بيت الشيخ المترجم فدخل خلفه وضربه برصاصة فأصابت شخصًا من أقارب الشيخ يسمى السيد أحمد فمات وهرب الضارب فطلبوه فامتنع عليهم ونعصب معه أهل خطته وأبناء جنسه فاهتم الشيخ عبد الرؤوف وجمع المشايخ والقاضي وحضر إليهـم جماعـة مـن أمراء الوجاقلية وانضم إليهم الكثير من العامة وثارت فتنة أغلق الناس فيها الأسواق والحوانيت واعتصم أهل خان الخليلي بدائرتهم وأحاط الناس بهم من كل جهة وحضر أهل بولـاق وأهل مصر القديمة وقتل بين الفريقين عدة أشخاص واستمر الحال على ذلك أسبوعًا ثم حضـر علـي بـك أيضـًا وذلـك فـي مبـادي أمره قبل خروجه منفيًا واجتمعوا بالمحكمة الكبرى وامتلأ حوض القاضي بالغوغاء والعامة وانحط الأمر على الصلح وانفض الجمع ونودي في صبحهـا بالأمان وفتح الحوانيت والبيع والشراء وسكن الحال‏.‏

ومات الشيخ الصالح الخير الجواد أحمد بن صلاح الدين الدنجيهـي الدمياطـي شيـخ المتبوليـة والناظر على أوقافها كان رجلًا رئيسًا محتشمًا صاحب إحسان وبر ومكارم أخلـاق وكـان ظلًا ظليلًا على الثغر يأوي إليه الواردون فيكرمهم ويواجههم بالطلاقة والبشر التام مع الإعانة والإنعام ومنزله مجمع للأحباب ومورد لائتناس الأصحاب وتوفي يوم السبـت ثانـي عشـر ذي الحجة عن ثمانين سنة تقريباص‏.‏

ومـات الإمـام الفاضـل أحـد المتصدريـن بجامع بن طولون الشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمـد بـن عامـر العطاشـي الفيومـي الشافعـي كـان لـه معرفـة في الفقه والمعقول والأدب بغني أنه كان يخبر عن نفسه أنه يحفظ اثني عشر ألف بيت من شواهد العربية وغيرها وأدرك الأشياخ المتقدمين وأخذ عنهم وكان إنسانًا حسنًا منور الوجه والشيبة ولديه فوائد ونوادر مات في سادس جمادى الثانية عن نيف وثمانين سنة تقريبًا غفر الله له‏.‏

ومات الأمير خليل بك القازدغلي أصله من مماليك إبراهيك كتخدا القازدغلي وتقلد الإمارة والصنجقيـة بعـد مـوت سيـده وبعـد قتـل حسيـن بـك المعـروف بالصابونجـي وظهـر شأنـه فـي أيام علي بـك الغزاوي وتقلد الدفتر دارية ولما سافر علي بك أميرًا بالحج في سنة ثلاث وسبعين جعله وكيـلًا عنـه فـي رياسـة البلـد ومشيختهـا وحصـل مـا حصـل مـن تعصبهـم علـى علي بك وهروبه إلى غـزة كمـا تقـدم وتقلبـت الأحـوال فلمـا نفـي علـي بـك جن في المرة الثانية كان هو المتعين للإمارة مع مشاركة حسين بك كشكش فلما وصل علي بك وصالح بك على الصورة المتقدمة هرب المترجم مع حسين بك وباقي جماعتهم إلى جهة الشام ورجعوا في صورة هائلة وجرد عليهم علي بك وكانت الغلبة لهم على المصريين فلم يجسروا على الهجوم كما فعل علي بك وصالح بك‏.‏

فلو قدر الله لهم ذلك كان هو الرأي فجهز علي بك على الفور تجريدة عظيمة وعليهم محمـد بـك أبـو الذهـب وخشداشينـه فخرجـوا لهـم وعـدوا خلفهـم ولحقوهـم إلى طندتا فحاصروهم بها وحصل ما حصل من قتل حسين بك ومن معه والتجأ المترجم إلى ضريح سيدي أحمد البدوي فلم يقتلوه إكرامًا لصاحب الضريح‏.‏

وأرسل محمد بك يخبر مخدومه ويستشيره في أمره فأرسـل غليـه بتأمينـه وإرسالـه إلـى ثغـر سكندريـة ثم أرسل بقتله فقتلوه بالثغر خنقًا ودفن هنا‏.‏

وكان أميرًا جليلًا ذا عيل ورياسة وأما الظلم فهو قدر مشترك في الجميع‏.‏

ومات أيضًا الأمير حسين بك كشكش القازدغلي وهو أيضًا من مماليك إبراهيم كتخدا وهو أحـد مـن تآمـر فـي حياة أستاذه وكان بطلًا شجاعًا مقدامًا مشهورًا بالفروسية وتقلد إمارة الحج أربـع مـرات آخرهـا سنـة 1176 ورجع أوائل سنة 1177 ووقع له مع العبر ما تقدم الالماع به في الحوادث السابقة وأخافهم وهابوه حتى كانوا يخوفـون بذكـره أطفالهـم وكذلـك عربـان الأقاليـم المصرية‏.‏

وكان أسمر جهوري الصوت عظيم اللحيـة يخالطهـا الشيـب يميـل طبعـه إلـى المـزاح والخدعة وإذا لم يجد من يمازجه في حال ركوبه وسيره مازح سواسه وخدمه وضاحكهم‏.‏

وسمعتـه مـرة يقـول لبعضهـم مثـلًا سائـرًا ونحـو ذلـك‏.‏

وكـان له ابن يسمى فيض الله كريم العين فكان يكنـى بـه‏.‏

قتـل المترجـم بطندتـا وأتـى برأسـه إلـى مصـر كما تقدم ودفن هناك وقبره ظاهر مشهور ودفن أيضًا معه مملوكه حسن بك شبكة وخليل بك السكران وكانا أيضًا يشبهان سيدهما في الشجاعة والخلاعة‏.‏

ومات الأمير الكبير الشهير صالح بك القاسمي وأصله مملوك مصطفى بك المعروف بالفرد ولما مات سيده تقلد الإمارة عوضه وجيش عليه خشداشينه واشتهر ذكره وتقلد إمارة الحج في سنـة 1172 كما تقدم في ولاية علي باشا الحكيم وسار أحسن سير ولبسته الرياسة والإمارة والتزم ببلاد أسيـاده وإقطاعاتهـم القبليـة هـو وخشداشينـه وأتباعهـم وصـار لهـم نمـاء عظيـم وامتزجوا بهوارة الصعيد وطباعهم ولغتهم ووكله شيخ العرب همام في أموره بمصر وأنشأ داره العظيمة المواجهة للكبش ولم يكن لها نظير بمصر‏.‏

ولما نما أمر علي بك ونفي عبد الرحمن كتخـدا إلـى السويـس كـان المترجـم هـو المتسفـر عليـه وأرسـل خلفـه فرمانـًا بنفيـه إلى غزة ثم نقل منها إلـى رشيـد ثـم ذهـب مـن هنـاك إلـى الصعيـد من ناحية البحيرة وقام بالمنية وتحصن بها وجرى ما جرى من توجيه المحاربين إليه وخروج علي بك منفيًا وذهابه إلى قبلي وانضمامه إلى المذكور كما تقدم بعد الأيمان والعهود والمواثيق وحضوره معه إلى مصر على الصورة المذكورة آنفًا وقد ركـن إليـه وصـدق مواثيقـه ولـم يخرج عن مزاجه ولا ما يأمر به مثقال ذرة وباشر قتال حسين بك كشكـش وخليـل بـك ومـن معهمـا مـع محمـد بـك كمـا ذكر آنفًا كل ذلك في مرضاة علي بك وحسن ظنه فيه ووفائه بعهده إلى أن غدر به وخانه وقتله كما ذكر‏.‏

وخرجت عشيرته وأتباعه من مصـر علـى وجوههم منهم من ذهب إلى الصعيد ومنهم من ذهب إلى جهة بحري‏.‏

وكان أميرًا جليـلًا مهيبـًا ليـن العريكـة يميـل بطبعـه إلـى الخيـر ويكـره الظلـم سليـم الصـدر ليـس فيه حقد ولا يتطلع لما في أيدي الناس والفلاحين ويغلق ما عليه وعلى أتباعه وخشداشينه من المال والغلا الميرية كيلًا وعينًا سنة بسنة وقورًا محتشمًا كثير الحياء وكانت إحدى ثناياه مقلوعة فإذا تكلم مع أحـد جعـل طـرف سبابتـه على فمه ليسترها حياء من ظهورها حتى صار ذلك عادة له‏.‏

ولما بلـغ شيـخ العـرب همـام موتـه اغتـم عليـه غمـًا شديـدًا وكـان يحبـه محبة أكيدة وجعله وكيله في جميع مهماته وتعلقاته بمصر ويسدد له ما عليه من الأموال الميرية والغلال‏.‏

ولما قتل الأمير صالح بك أقام مرميًا تجاه الفرن الذي هناك حصة ثم أخذوه في تابوت إلى داره وغسلوه وكفنوه ودفنوه بالقرافة رحمه الله‏.‏

ومات وحيد دهره في المفاخر وفريد عصره في المآثر نخبة السلالة الهاشمية وطراز العصابة المصطفوية السيد جعفر بن محمد البيتي السقاف باعلوي الحسيني أديب جزيرة الحجاز ولد بمكة وبها أخذ عن النخلي والبصري وأجيز بالتدريس فدرس وأفاد‏.‏

واجتمع إذ ذاك بالسيد عبد الرحمن العيدروس وكل منهما أخذ عن صاحبه وتنقلت به الأحوال فولي كتابة الينبع ثم وزارة المدينة وصار إمامًا في الـأدب يشـار إليـه بالبنـان وكلامـه العـذب يتناقلـه الركبـان ولـه ديـوان شعـر جمعـه لنفسـه ولـه مدائـح وقصائد وغزليات كلها غرر محشوة بالبلاغة تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه‏.‏

توفي بهذه السنة بالمدينة المنورة‏.‏

سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فيها في المحرم أخرج علي بك عثمان أغا الوكيل من مصر منفيًا إلى جهة الشام وكذلك أحمد أغـا أغـات الجوالـي وأغـات الضربخانـة إلـى جهـة الـروم‏.‏

وكان أحمد أغا هذا رجلًا عظيمًا ذا غنية كبيرة وثروة زائدة فصادره علي بـك فـي مالـه وأمـره بالخـروج مـن مصـر فأحضـر المطربازيـة والدلالين والتجار وأخرج متاعه وذخائره وباعها بسوق المزاد بينهم فبيع موجـوده مـن أمتعـة وثياب وجواهر وتحف وأسلحة وكتب وأشياء نفيسة وهو ينظر إليها ويتحسر ثم سافر إلى جهة الإسكندرية‏.‏

وفيهـا توفي محمد باشا الذي كان بقصر عبد الرحمن كتخدا بشاطئ النيل ولعله مات مسمومًا ودفـن بالقرافة الصغرى عند مدافن الباشوت بالقرب من الإمام الشافعي‏.‏

ونزل الحج ودخل إلى مصـر مـع أميـر الحـاج خليـل بـك بلغيـا فـي أمـن وأمـان‏.‏

ووصـل باشـا مـن طريـق البر وطلع الأمراء إلى العادلية لملاقاته ونصبوا خيامهم ودخل بالموكب وذلك في شهر صفر‏.‏

وفيها أرسل علي بك تجريدة إلى سويلم بن حبيب والهنادي بالبحيرة ثم نقلها منها إلى المحلة الكبرى فأقام سنين‏.‏

وفيها أرسل علي بك تجريدة إلى سويلم بن حبيب والهنادي بالبحبر وباش التجريدة اسمعيل بـك وذلك أن ابن حبيب لما رحل من دجوة وذهب إلى البحيرة وانضم إلى عبر الهنادي وكان المتولـي علـى كشوفيـة البحيـرة عبـد اللـه بك تابع علي بك فحاربوه وحاربهم حتى قتل عبد الله بك المذكور في المعركة ونهبوا متاعه ووطاقه وكان أحمد بك بشناق لما خرج من مصر هاربًا بعـد قتل صالح بك كما تقدم ذهب إلى الروم فصادف هناك جماعة من الهربانين ومنهم يحيى السكري وعلي أغا المعمار وعلي بك الملط وغيرهم وزيفوا بسبب المغرضين لعلي بك بدار السلطنة فنزلوا في مركبين إلى درنه فوصلوها متفرقين‏.‏

فالتي وصلت أولًا بها يحيى السكري وعلي المعمار والملط فركبوا عندما وصلوا إلى درنه وذهبوا إلى الصعيـد ووصلـت المركـب الأخرى بعد أيام وبها أحمد بك بشناق فطلع إلى عند الهنادي‏.‏

فلما وصل اسمعيل بك ومن معـه بالتجريـدة فتحاربـوا مـع الحبايبـة والهنادي ومعهم أحمد بك بشناق ثلاثة أيام وكان سويلم بن حبيـب منعـزلًا فـي خيمـة صغيـرة عنـد امـرأة بدويـة بعيدًا عن المعركة فذهب بعض العرب وعرف الأمراء بمكانه فكبسوه وقتلوه وقطعوا رأسه ورفعوها على رمح واشتهر ذلك‏.‏

فارتفع الحرب مـن بيـن الفريقيـن وتفـرق الهنـادي وعـرب الجزيـرة والصوالحة وغيرهم وراحت كسرة على الجميع ولم يقم لهم قائم من ذلك اليوم‏.‏

وتغيب أحمد بك بشناق فلم يظهر إلا بعد مدة ببلاد الشام‏.‏

وفيهـا تقلـد أيوب بك على منصب جرجا وخرج مسافرًا ومعه عدة كبيرة من العساكر والأجناد فوصلوا إلى قرب أسيوط فوردت الأخبار باجتماع الأمراء المنفيين وتملكهم أسيوط وتحصنهم بهـا وكـان مـن أمرهـم أنـه لمـا ذهـب محمـد بـك أبو الذهب إلى جهة قبلي لمنابذة شيخ العرب همام كما تقدم وجرى بينهما الصلح على أن يكون لهمام من حدود برديس وتم الأمر على ذلك ورجـع محمـد بـك إلـى مصـر أرسـل علـي بـك يقـول له‏:‏ إني أمضيت ذلك بشرط أن تطرد المصريين الذين عندك ولا تبقي منهم أحدًا بدائرتك‏.‏

فجمعهم وأخبرهم بذلك وقال لهم‏:‏ اذهبوا إلى أسيـوط واملكوهـا قبل كل شيء فإن فعلتم ذلك كان لكم بها قوة ومنعة وأنا أمدكم بعد ذلك بالمال والرجال فاستصوبوا رأيه وبادروا وذهبوا إلى أسيوط وكان بها عبد الرحمن كاشف من طرف علي بك وذو الفقار كاشف وقد كانوا حصنـوا البلـدة وجهاتهـا وبنـوا كرانـك والبوابـة ركب عليها المدافع فتحيل القوم ليلًا وزحفوا إلى البوابة ومعهم أنخاخ وأحطاب جعلوا فيها الكبريت والزيت وأشعلوها وأحرقوا الباب وهجموا على البلدة فلم يكن له بهم طاقة لكثرتهم وهم جماعة صالح بك وباقي القاسمية وجماعة الخشاب وجماعة الفلاح وجماعة مناو ويحيى السكـري وسليمـان الجلفـي وحسـن كاشف ترك وحسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وعبد الرحمن كاشف من خشداشين صالح بك وكان من الشجعان ومحمد كتخدا الجلفي وعلي بك الملط تابع خليل بك وجماعة كشكش وغيرهم ومعهم كبار الهوارة وأهالي الصعيد‏.‏

فملكوا أسيوط وتحصنوا بها وهرب من كان فيها ووردت الأخبار بذلك إلى علي بك فعين للسفر إبراهيم بلغيا ومحمد بك أبا شنب وعلي بك الطنطاوي ومـن كـل وجـاق جماعـة وعساكـر ومغاربة وأرسل إلى خليل بك القاسمي المعروف بالأسيوطـي فأحضـره مـن غـزة وطلـع هـو وإبراهيـم بـك تابـع محمـد بـك بعساكـر أيضـًا وعـزل الباشـا وأنزلـه وحبسـه ببيت أيواظ بك عند الزير المعلـق ثـم سافـر محمـد بـك أبو الذهب ورضوان بك وعدة من الأمراء والصناجق وضم إليهم ما جمعه وجلبه من العساكر المختلفة الأجناس من دلاة ودروز ومتاولة وشوام‏.‏

وسافر الجميع برًا وبحـرًا حتـى وصولـوا إلى أيوب بك وهو يرسل خلفهم في كل يوم بالإمداد والجبخانات والذخيرة والبقسماط وذهب الجميع إلى أن وصلوا قرب أسيوط ونصبوا عرضيهم عند جزيرة منقباط وتحققوا وصول محمد بك ومن معه وفرحوا بذلك لأنهم كانوا رأوا في زايرجات الرمل سقوطه فـي المعركـة‏.‏

ثـم أجمعـوا رأيهم على أن يدهموهم آخر الليل فركبوا في ساعة معلومة وسار بهم الدليـل فـي طـوق الجبـل وقصـدوا النـزول مـن محـل كذا على ناحية كذا من العرضي فتاه وضل بهم الدليل حتى تجاوزوا المكان المقصود بساعتين وأخذوا جهة العرضي فوجدوه قبليهم بذلـك المقدار وعلموا فوات القصد وأن القوم متى علموا حصلوهم خلفهم ملكوا البلدة من غير مانع قبـل رجوعهـم من المكان الذي أتوا منه فما وسعهم إلا الذهاب إليهم ومصادمتهم على أي وجه كان فلم يصلوهم إلا بعد طلوع النهار‏.‏

وتيقظ القوم واستعدوا لهم فالتطموا معهم وهم قليلون بالنسبـة إليهم ووقع العرب واشتد الجلاد وبذلوا جهدهم في الحرب ويصرخ الكثير منهم بقوله‏:‏ أين محمد بك فبرز إليهم محمد بك أبو شنب وهو يقول‏:‏ أنا محمد بك‏.‏

فقصدوه وقاتلـوه وقاتلهـم حتـى قتـل وسقـط جـواد يحيى السكري فلم يزل يقاتل ويدافع حصة طويلة حتى تكاثروا عليه وقتلوه وعبد الرحمن كاشف القاسمي يحارب بمدفع يضربه وهو علـى كتفـه‏.‏

وانجلـت الحرب عن هزيمتهم ونصرة المصريين عليهم وذلك عند جبانة أسيوط‏.‏

فتشتتوا في الجهات وانضموا إلى كبار الهوارة وملك المصرين أسيوط ودفنوا القتلى ومحمد بك أبا شنب‏.‏

واغتم محمد بك أبو الذهب لموته وفرح لوقوع الزايرجة عليه ومفاداته له لأنه كان يعلم ذلك أيضًا‏.‏

وأقامـوا بأسيـوط أيامـًا ثـم ارتحلـوا إلـى قبلـي بقصـد محاربـة همـام والهوارة‏.‏

واجتمع كبار الهوارة مع من انضم إليهم من الأمراء المهزومين فراسل محمد بك اسمعيل أبا عبد الله وهو ابن عم همام واستمالـه ومنـاه وواعده برياسة بلاد الصعيد عوضًا عن شيخ العرب همام حتى ركن إلى قوله وصـدق تمويهاتـه وتقاعـس وتثبـط عـن القتـال وخذل طوائفه‏.‏

ولما بلغ شيخ العرب همام ما حصل ورأى فشل القوم خرج من فرشوط وبعد عنها مسافة ثلاثة أيام ومات مكمودًا مقهورًا ووصل محمـد بـك ومـن معـه إلـى فرشـوط فلم يجدوا مانعًا فملكوها ونهبوها وأخذوا جميع ما كان بدوائر همام وأقاربه وأتباعه من ذخائر وأمـوال وغلـال‏.‏

وزالـت دولـة شيـخ العـرب همـام مـن بلـاد الصعيـد مـن ذلـك التاريـخ كأنهـا لـم تكن ورجع الأمراء إلى مصر ومحمد بك أبو الذهب وصحبته درويـش ابن شيخ العرب همام‏.‏

فإنه لما مات أبوه وانكسر ظهر القوم بموته وعلموا أنهم لا نجاح لهـم بعـده أشـاروا علـى ابنـه بمقابلـة محمـد بـك وانفصلـوا عنـه وتفرقـوا في الجهات‏.‏

فمنهم من ذهب إلـى درنـه ومنهـم مـن ذهـب إلـى الروم ومنهم من ذهب إلى الشام‏.‏

وقابل درويش بن همام محمد بك وحضر صحبته إلى مصر وأسكنه في مكان بالرحبة المقابلة لبيته وصار يركب ويذهب لزيارة المشاهد ويتفرج على مصر ويتفرج عليه الناس ويعدون خلفه وأمامه لينظروا ذاته‏.‏

وكان وجيهًا طويلًا أبيض اللون أسود اللحية جميل الصورة ثم أن علي بـك أعطـاه بلـاد فرشـوط والوقـف بشفاعهـة محمـد بـك وذهـب إلـى وطنه فلم يحسن السير والتدبير وأخذ أمره في الانحلال وحاله في الاضمحال وأرسل من طالبه بالأموال والذخائر فأخذوا ما وجدوه‏.‏

وحضر إلى مصر والتجأ إلى محمد بك من مصر مغاضبًا لأستاذه فلحق به وسافر إلى الصعيد وخلص الإقليم المصري بحري وقبلي إلى علي بك وأتباعه فشرع في قتل المنفيين الذين أخرجهم إلى البنادر مثل دمياط ورشيد والإسكندرية والمنصورة فكان يرسل إليهم ويخنقهم واحدًا واحد فخنق علي كتخدا الخربطلـي برشيـد وحمـزة بـك تابـع خليـل بـك بزفتـا وقتلـوا معـه سليمـان أغـا الوالـي واسمعيل بك أبا مدفع بالمنصورة وعثمان بك تابع خليل بك هرب إلى مركب البيليك فحماه وذهب إلى اسلامبول ومات هناك ونفى أيضـًا جماعـة وأخرجهـم مـن مصـر وفيهـم سليكـان كتخـدا المشهـدي وإبراهيـم أفنـدي جمليـان‏.‏

ومـات الباشا المنفصل بالبيت الذي نزل فيه ولحق بمن قبله‏.‏

وممـا اتفـق أن علـي بك صلى الجمعة في أوائل شهر رمضان بجامع الداودية فخطب الشيخ عبد ربـه ودعـا للسلطـان ثـم دعـا لعلـي بـك‏.‏

فلمـا انقضـت الصلاة وقام علي بك يريد الانصراف أحضر الخطيـب وكـان رجـلًا من أهل العلم يغلب عليه البله والصلاح فقال له‏:‏ من أمرك بالدعاء باسمي على المنبر أقيل لك أني سلطان فقال‏:‏ نعم أنت سلطان وأنا أدعو لك‏.‏

فأظهر الغيظ وأمر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي فقام بعد ذلك متألمًا من الضرب وركب حمارًا وذهب إلى من مات في هذه السنة من العلماء والأمراء مات الإمام الوالي الصالح المعتقد المجذوب العالم العامل الشيخ علي ابن حجازي بـن محمـد البيومي الشافعي الخلوتي ثم الأحمدي ولد تقريبًا سنة 1108 حفظ القرآن في صغره وطلب العلم وحضر دروس الأشياخ وسمع الحديث والمسلسلات على عمر بن عبد السلام التطاوني وتلقـن الخلوتيـة من السيد حسين الدمرداش العادلي وسلك بها مدة ثم أخذ طريق الأحمدية عن جماعـة ثم حصل له جذب ومالت إليه القلوب وصار للناس فيه اعتقاد عظيم‏.‏

وانجذبت إليه الأرواح ومشى كثير من الخلق على طريقته وأذكاره وصار له أتبـاع ومريـدون وكـان يسكـن الحسينيـة ويعقـد حلـق الذكـر فـي مسجـد الظاهـر خـارج الحسينيـة وكان يقيم به هو وجماعته لقربه من بيته وكـان ذا واردات وفيوضـات وأحوالـه غريبـة‏.‏

وألـف كتبـًا عديـدة منهـا شـرح الجامـع الصغيـر وشـرح الحكم لابن عطاء الله السكندري وشرح الإنسان الكامل للجيلي وله مؤلف في طريق القوم خصوصًا في طريق الخلوتية الدمرداشية ألفه سنة 1144 وشرح الأربعين النووية ورسالـة فـي الحـدود وشـرح علـى الصيغـة الأحمديـة وشـرح علـى الصيغـة المطلسمـة ولـه كلـام عال في التصوف وإذا تكلم أفصح في البيان وأتى بما يبهر الأعيان وكان يلبس قميصًا أبيض وطاقية بيضـاء ويعتـم عليهـا بقطعـة شملـة حمراء لا يزيد على ذلك شتاء ولا صيفًا وكان لا يخرج من بيته إلا في كل أسبوع مرة لزيارة المشهد الحسيني وهو على بغلة وأتباعه بين يديه وخلفه يعلنون بالتوحيد والذكر وربما جلس شهورًا لا يجتمع بأحد من الناس‏.‏

وكانت كرامات ظاهرة‏.‏

ولما كـان يعقـد الذكـر بالمشهـد الحسينـي فـي كـل يـوم ثلاثـاء ويأتـي بجماعتـه علـى الصفة المذكورة ويذكرون فـي الصحـن إلـى الضحـوة الكبـرى قامـت عليه العلماء وأنكروا ما يحصل من التلوث في الجامع من أقدام جماعته إذ غالبهم كانوا يأتـون حفـاة ويرفعـون أصواتهـم بالشـدة وكـاد أن يتـم لهـم منعـه بواسطـة بعـض الأمـراض فانبرى لهم الشيخ الشبراوي وكان شديد الحب في المجاذيب وانتصر له وقـال للباشـا والأمـراء‏:‏ هـذا الرجـل مـن كبـار العلمـاء والأولياء فلا ينبغي التعرض له‏.‏

وحينئذ أمره الشيـخ بـأن يعقـد درسـًا بالجامـع الأزهـر فقـرأ فـي الطيبرسيـة الأربعين النووية وحضره غالب العلماء وقـرر لـه مـا بهـر عقولهـم فسكتـوا عنـه وخمـدت نـار الفتنـة‏.‏

ومـن كلامـه في آخر رسالة الخلواتية ما نصـه‏:‏ فمـن منـن اللـه علـي وكرمـه أنـي رأيـت الشيـخ دمـرداش فـي السمـاء وقـال لـي لا تخف في الدنيا ولا في الآخرة وكنت أرى النبي صلى اللـه عليـه وسلـم فـي الخلـوة فـي المولـد فقـال لـي فـي بعـض السنيـن لا تخـف فـي الدنيـا ولا فـي الآخـرة ورأيتـه يقـول لأبـي بكـر رضـي اللـه عنه اسع بنا نطل على زاوية الشيـخ دمـرداش وجـاءا حتـى دخـلا فـي الخلـوة ووقفـا عنـدي وأنـا أقـول اللـه اللـه وحصـل لـي فـي الخلوة وهم في رؤيـة النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فرأيـت الشيـخ الكبيـر يقـول لـي عنـد ضريحـه مـد يـدك إلـى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حاضر عندي‏.‏

ورأيته في خلوة الكردي يعني الشيخ شرف الدين المدفون بالحسينية بين اليقظة والنوم وأنا جالس فانتبهـت فرأيـت النـور قـد مـلأ المحـل فخرجت منها هائمًا فحاشني بعـض مـن كـان فـي المحـل فوقفـت عنـد الشيـخ ولـم أقـدر علـى العـود إلـى الخلـوة مـن الهيبـة إلـى آخـر الليـل‏.‏

وتبسـم فـي وجهـي مـرة وأعطانـي خاتمـًا وقـال لـي والـذي نفسـي بيـده فـي غد يظهر ما كان مني وما كان منك‏.‏

ومن كراماته أنه كان يتوب العصاة من قطاع الطريق ويردهم عن حالهم فيصيرون مريدين له وذا سمعته من الثقات ومنهم من صار من السالكين وكان تارة يربطهم بسلسلة عظيمة من حديد في عمدان مسجد الظاهر وتارة بالشوق في رقبتهم يؤدبهم بما يقتضيه رأيه‏.‏

وكان إذا ركب ساروا خلفه بالأسلحة والعصي وكانت عليه مهابة الملوك وإذا ورد المشهد الحسيني يغلب عليه الوجد في الذكر حتى يصير كالوحش النافر في غاية القوة فإذا جلس بعد الذكر تراه في غاية الضعف‏.‏

وكان الجالس يرى وجهه تارة كالوحش وتارة كالعجل وتارة كالغزال‏.‏

ولما كان بمصر مصطفى باشا مال إليه واعتقده وزاره فقال له‏:‏ إنك ستطلب إلى الصدارة في الوقت الفلاني فكان كما قال له الشيخ‏.‏

فلما ولي الصـدارة بعـث إلـى مصـر وبنى له المسجد المعروف به بالحسينية وسبيلًا وكتابًا وقمة وبداخلها مدفن للشيخ علي على يد الأمير عثمان أغا وكيل دار السعادة ولمـا مـات خرجـوا بجنازتـه وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم ودفن بالقبر الذي بني له بداخل القبة بالمسجد المذكور‏.‏

ومـات علامـة وقته وأوانه الآخذ من كمية البلاغة بعنانه الولي الصوفي من صفا فصوفي الشيخ حسـن الشيبينـي ثـم الفوي رحل من بلدته فوة إلى الجامع الأزهر فطلب العلم وأخذ عن الشيخ الديربـي فجعلـه ممليـًا عليـه في الدرس حتى قرأ الأشموني والمختصر ونحو ذلك وأخبر عن نفسه كان ملازمًا لولي من أولياء الله تعالى فحين تعلقت نفسه بالمجيء إلى الجامع الأزهر توجه مع هذا الولي لزيارة ثغر دمياط‏.‏

ثم اشتغل بالفقه وغيره من أصول ومنطق ومعان وبيان وتفسير وحديث وغير ذلك حتى فاق على أقرانه وصار علامة زمانه‏.‏

ثم أخذ عن الشيخ الحفني الطريق وتلقن الأسماء وسار على حسب سلوكه وسيره وألبسه التاج وأجازه بأخـذ العهـود والتلقين والتسليك وصـار خليفـة محضـًا فـأدار مجالـس الأذكـار ودعـا النـاس إليهـا فـي سائـر الأقطـار وفتـح الله عليه باب العرفان حتى صار ينطق بأسرار القرآن ويتكلم في الحقائق‏.‏

نقل عن الشيخ الحفني أنه ورد عليه منه مكتوب فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعل في أتباعه من هو كمحيي الدين ابن العربي‏.‏

توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة‏.‏

وخلف ولده السيد أحمد موجـود في الإحياء بارك الله فيه‏.‏

وممن أخذ عنه صاحبنا العمدة العلامة الصالح السيد علي ومات الجنـاب المبجـل الفريـد الكاتـب الماهـر المنشـئ البليـغ المجيـد محمـد أفنـدي بـن اسمعيـل السكندري العارف بالألسنة الثالثة العربية والفارسية والتركية وكـان لديـه محـاورات ولطائـف أدبيـة وميـل شديـد إلـى علـم اللغـة وبحث عن الأدوات المتعلقة به ورسائله في الألسن الثلاثة غاية في الفصاحة مع حسن حظ ووفور حظ ومهابة عند الأمراء وقبول عند الخواص ووالده كان إسرائيليًا فأسلم وحسن إسلامه وتولى مناصب جليلة بالثغر وله هناك شهرة فولد هذا هناك وهذبه وأدبه حتى صار إلى ما صار واستقر بمصر وما زالت له أملاك هناك وقرابة رايته يأتـي لزيـارة الشيـخ الوالـد وقـد اكتهـل وتناهـى فـي السـن وأبقـى الدهر في زواياه خبايا مستحسنة‏.‏

ورأيـت بخـط يـده كتـاب بهارستـان لمولانا جامي قدا حسن في كتابته وأتقن في سياقه ومجموعًا فيـه النـوادر مـن أشعـار الألسـن الثلاثـة‏.‏

وبالجملـة لـم يكـن فـي عصـره مـن يدانيـه في الفنون التي كان تجمـل بهـا‏.‏

وقـد ذكـره الأديب الشيخ عبد الله الأدكاري في بضاعة الأريب وأثنى على محاسنه وكانت بينهما ألفة تامة ومصافاة ومصادقة ومحاورات أدبية‏.‏

فإن المترجم كان أوحد عصره ووحيـد مصـره لـم يدانيـه فـي مجموعـة الفضائـل أحـد ولـم يـزل حميد المسعى جميل السيرة بهيًا وقورًا مهيبًا عند الأمراء والوزراء حتى وافاه الحمام في يوم الجمعة حادي عشر المحرم من السنة‏.‏

ومات الأستاذ العارف سيدي علي بن العربي بن علي بن العربي الفاسي المصري الشهير بالسقـاط ولـه بفـارس وقـرأ علـى والـده وعلى العلامة محمد ابن أحمد بن العربي بن الحاج الفاسي سمـع منـه الأحيـاء جميعـًا بقـراءة ولـد عمـه النبيـه الكاتـب أبـي عبـد اللـه محمـد بـن الطيـب بـن محمد بن علي السقاط وعلى ولده أبي العباس أحمد بن محمد العربي ابن الحاج ولما ورد مصر حاجًا لازمه فقرأ عليه بلفظه من الصحيح إلى الزكاة والشمايل بطرفيه بالجامـع الأزهـر وكثيـرًا مـن المسلسلات والكتب التـي تضمنتهـا فهرسـت ابـن غـازي قـراءة بحـث وتفيهـم وأجـازه حينئـذ بأواسط جمادى الثانية سنة 1143 وجاور بمكة فسمع على البصري الصحيح كاملًا ومسلمًا بفوت وجميع الموطأ رواية يحيى بن يحيى وذلك خلف المقام المالكي عند باب إبراهيم وأجازه وعلى النخلي الفيومي أوائل البخاري وعلى أحمد بن أحمد الغرقاوي وأجازه وعلى عمر بن عبد السلام التطاوني جميع الصحيح وقطعة من البيضاوي بجامع الغوري سنة 1136 وجميع المنح البادية في الأسانيد العالية وأضافه على الأسوديـن وشابكـه وصافحـه وناولـه السبحـة وأجازه بسائر السلسلات وعلى محمد القسطنيطيني رسالة ابن أبي زيد برواق المغاربة وعلى محمد بن زكري شرحه على الحكم بجامع الغوري وعلى سيدي محمد الزرقاني كتاب الموطأ من باب العتق إلى آخره وأجازه به يوم ختمه وذلك ثامن شعبان سنة 1113‏.‏

وروى حديث الرحمة عن سيدي السيد مصطفى البكري في سنـة 1160 وأجـازه ابـن الميـت فـي العمـوم واجتمـع بـه شيخنـا السيـد مرتضـى فـي منـزل السيـد علـي المقدسـي وكان قد أتى إليه لمقابلة المنح البادية على نسخته وشاركهما في المقابلة وأحبه وباسطه وشافهه بالإجازة العامة وكان إنسانًا مستأنسـًا بالوحدة منجمعًا عن الناس محبًا للانفراد غامضًا ولا زال كذلك حتى توفي في أواخر جمادى الأولى سنة 1183 ودفن بالزاوية بالقرب من الفحامين‏.‏ ومات

الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيلي الملكي

ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيه بن سيبيه الهواري عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد وقد جمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره مثال تنزل بحرم سعادته قوافل الأسفار وتلقى عنده عصى التسيار وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان منها أنه إذا نزل بساحته الوفـود والضيفـان تلاقهـم الخـدم وأنزلوهـم فـي أماكـن معـدة لأمثالهـم وأحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والأواني وغيـر ذلـك ثـم مرتـب الأطعمـة فـي الغـداء والعشـاء والفطـور فـي الصبـاح والمربيـات والحلـوى مـدى إقامتهم لمن يعرف ومنن لا يعرف‏.‏

فإن أقاموا على ذلك شهورًا لا يختل نظامهم ولا ينقص راتبهم وإلا قضوا أشغالهم على أتم مرادهم وزادهم إكرامًا وانصرفوا شاكرين وإن كان الوافد ممن يرتجي البر والإحسان أكرمه وأعطاه وبلغه أضعاف ما يترجاه‏.‏

ومن الناس من كان يذهب إليه في كل سنة ويرجع بكفايـة عامـة وهذا شأنه في كل من كان من الناس‏.‏

وأما إذا كان الوافد عليه من أهل الفضائل أو ذوي البيوت قابله بمزيد الاحترام وحياه بجزيل الأنعام وكان ينعم بالجواري والعبيد والسكر والغلـال والثمـر والسمـن والعسـل وإذا ورد عليـه إنسـان ورآه مـرة وغـاب عنـه سنيـن ثـم نظـره وخاطبه عرفه وتذكره ولا ينساه‏.‏

وحالـه فيمـا ذكـر مـن الضيفـان والوافديـن والمسترفديـن أمـر مستمـر علـى الـدوام لا ينقطـع أبـدًا‏.‏

وكـان الفراشـون والخـدم يهيئـون أمر الفطور من طلوع الفجر فلا يفرغون من ذلك إلى ضحوة النهار ثم يشرعون في أمر الغداء من الضحوة الكبرى إلى قريب العصر ثم يبتدئون في أمر العشاء وهكذا‏.‏

وعنده من الجواري والسراري والمماليك والعبيد شيء كير ويطلب في كل سنة دفتر الارقاء ويسأل عن مقدار من مات منهم فإن وجده خمسمائة أو أربعمائة استبـش وانشـرح وإن وجـده ثلاثمائـة أو اقـل أو نحـو ذلـك اغتـم وانقبـض خاطره ورأى أن ربما كانت في أعظم من ذلك وكان له برسم زراعة قصب السكر وشركة فقـط اثنـا عشـر ألـف ثـور وهـذا بخلـاف المعـد للحـرث ودراس الغلـال والسواقـي والطواحيـن والجواميس والأبقار الحلابة وغير ذلـك‏.‏

وأمـا شـون الغلـال وحواصـل السكـر والتمـر بأنواعـه والعجوة فشي لا يعد ولا يحد وكان الإنسان الغريب إذا رأى شون الغلال من البعد ظنها مزارع مرتفعـة لطول مكث الغلال وكثرتها فينزل عليها ماء المطر ويختلط بالتراب فتنبت وتصير خضرًا كأنهـا مزرعـة وكـان عنده من الأجناد والقواسة وأكثرهم من بقايا القاسمية انضموا إليه وانتسبوا له وهم عدة وافرة وتزوجوا وتوالدوا وتخلقوا بأخلاق تلك البلاد ولغاتهم وله دواوين وعدة كتبة من الأقباط والمستوفين والمحاسبين لا يبطل شغلهـم ولا حسابهـم ولا كتابتهـم ليـلًا ونهارًا ويجلس معهم حصة من الليل إلى الثلث الأخير بمجلسه الداخل يحاسب ويملي ويأمر بكتابة مراسيم ومكاتبات‏.‏

لا يعزب عن فكره شيء قل ولا جل ثم يدخل إلى الحريم فينام حصة لطيفة ثم يقوم إلى الصلاة‏.‏

وإذا جلس مجلسًا عامًا وضع بجانبه فنجانًا فيه قطنة وماء ورد فـإذا قـرب منـه بعـض الأجلاف وتحادثوا معه وانصرفوا مسح بتلك القطنة عينيه وشمها بأنفه حـذرًا مـن رائحتهـم وصنانهـم‏.‏

وكـان لـه صلـات وإغداقـات وغلـال يرسلهـا للعلماء وأرباب المظاهر بمصر في كل سنة‏.‏

وكان ظلًا ظليلًا بأرض مصر ولما ارتحل لزيارته شيخنا السيد محمـد مرتضى وعرف فضله أكرمه إكرامًا كثيرًا وأنعم عليه بغلال وسكر وجوار وعبيد وكذلك كـان فعلـه مـع أمثالـه مـن أهـل العلـم والمزايـا‏.‏

ولـم يـزل هـذا شأنـه حتـى ظهر أمر علي بك وحصل ما تقدم شرحه من وقائعه مع خشداشينه وذهابه إلى الصعيد وأعلموه بما أوقعه بهم علي بك فاغتـم علـى فقـد صالـح بـك غمـا شديـدًا‏.‏

وحملـه ذلـك علـى أن أشـار عليهـم بذهابهم إلى أسيوط وتملكهم إياها فإنها باب الصعيد فذهبوا إليها مع جملة المنفيين من مصر والمطرودين كما تقدم وأمدهـم شيـخ العـرب المترجـم حتـى ملكوهـا وأخرجـوا مـن كـان بهـا واستوحش منه لي بك بسبب ذلك وتابع إرسال التجاريد وقدر الله بخذلان القبالي ورجوعهم إلى قبلي على تلك الصورة فعنـد ذلـك علم همام أنه لم يبق مطلوبًا لهم سواه وخصوصًا مع ما وقع من فشل كبار الهوارة وأقاربه ونفاقهم عليه فلم يسعه إلى الارتحال من فرشوط وتركها بما فيها من الخيرات وذهب إلـى جهـة اسنـا فمات في ثامن شعبان من السنة ودفن في بلدة تسمى قموللة فقضى عليه بها رحمه الله‏.‏

وخلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم درويش وشاهين وعبد الكريم‏.‏

ولما مات انكسرت نفوس الأمراء ثم أن أكابر الهوارة قدموا ابنه درويشًا لكونه أكبر أخوته وأشاروا عليه بمقابلـة محمـد بـك ففعـل‏.‏

وأمـا الأمـراء فمنهـم مـن أخذ أمانًا من محمد بك وقابله وانضم إليه ومنهم من ذهب إلى ناحية درنه ونزل البحر وسافر إلى الشام والروم ومنهم من انزوى إلى الهوارة بالصعيد‏.‏

وحضر درويش صحبة محمد بك إلى مصر وقابل علي بك وأعطاه بلاد فرشوط ورجـع مكرمـًا إلـى بلـاده‏.‏

فلـم يحسـن السيـر ولـم يفلح وأول ما بدأ ي أحكامه أنه صار يقبض على خدم أبيه وأتباعه ويعاقبهم ويسلب أموالهم وقبض علـى رجـل يسمـى زعيتـر وكيـل البصـل المرتب لمطابخ أبيه فأخذ منه أموالًا عظيمة في عدة أيام على مرار أخذ منه في دفعة من الدفعات مـن جنـس الذهـب البندقـي أربعيـن ألفـًا وكذلـك مـن يصنـع البـرد للجـواري السـود والعبيد وذلك خلاف وكلاء الغلال والأقصاب والسكر والسمن والعسل والتمر والشمع والزيت والبـن والشركـاء فـي المـزارع‏.‏

ووصلـت أخبـاره بذلـك إلـى علـي بـك فعيـن عليـه أحمـد كتخـدا وسافر إليه بعدة من الأجناد والمماليك وطالبه بالأموال حتى قبض منه مقادير عظيمة ورجع بها إلى مخدومه واقتدى به بعد ذلك محمد بك في أيام إمارته وأخذ منه جملة وكذلك أتباعه من بعـده حتى أخرجوا ما في دورهم من المتاع والأواني والنحاس قناطير مقنطرة ثم تتبعوا الحفر لأجـل استخـراج الخبايـا حتـى هدمـوا الـدور والمجالـس ونبشوهـا وأخربوهـا وحضر درويش المذكـور بآخـرة إلـى مصـر جاليـًا عـن وطنـه ولم يزل بها حتى مات كآحاد الناس‏.‏

واستمر شاهين وعبد الكريم يزرعان بأرض الوقف أسوة المزارعين ويتعيشون حتى ماتا‏.‏

فأما شاهين فقتله مراد بك في سنة 1214 أيام الفرنسيس لأمور نقمها عليه وخلف ولدًا يدعى محمدًا‏.‏

وأما عبد الكريم فإنه مات على فراشه قريبًا من ذلك التاريخ وترك ولدًا يدعى همامًا دون البلوغ يوصف بالنجابة حسبما نقل إلينا من الأسفار‏.‏

وكاتبني وكاتبته في بعض المقتضيات ورأيت ابـن عمـه محمـد المذكـور حيـن أتـى إلى مصر بعد ذهاب الفرنسيس وتردد عندي مرارًا وسبحان من يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

ومات الجناب الكبير والمقدام الشهير من سر بذكره الركبان وطار صيته بكل مكان الفارس الضرغام النجيب شيخ العرب سويلم بن حبيب منن أكابر عظماء مشايخ العـرب بالقليوبيـة ومسكنهـم دجـوة علـى شاطـي البحـر وهـو كبيـر نصـف سعـد مثـل أبيـه حبيب بن أحمد وليس لهم أصل مذكور في قبائل العرب وإنما اشتهروا بالفروسية والشجاعة‏.‏

وحبيب هذا أصله من شطـب قريبـة قريبـة مـن أسيـوط ولمـا مـات حبيـب خلف ولديه سالمًا وسويلمًا وكان سالم أكبر من أخيه وهو الذي تولى الرياسة بعد أبيه واشتهر بالفروسية وعظم أمره وطار صيته وكثرت جنـوده وفرسانـه ورجالـه وخيولـه وأطاعتـه جميـع المقـادم وكبار القبائل ونفذت كلمته فيهم وعظمـت صولته عليهم وامتثلوا أمره ونهيه ولا يفعلون شيئًا بدون إشارته ومشورته‏.‏

وصار له خفـارة البريـن الشرقـي والغربـي مـن ابتـداء بولـاق إلـى رشيـد ودميـاط‏.‏

وكـان هـو وفرسه مقومًا على انفـراده بألـف خيـال‏.‏

وكـان ظهـور حبيـب هذا في أوائل القرن‏.‏

واتفق له ولابنه سالم هذا وقائع وأمـور مـع اسمعيـل بـك ابـن ايـواظ وغيره لا بأس يذكر بعضها في ترجمته منها أن في سنة 1125 أرسـل حبيـب ولـده سالمـًا إلـى خيـول الأميـر اسمعيـل بـك ابـن ايـواظ وهجـم عليـاه بالمربـع وجم معافها وأذنابها وتركها وذهب ولم يأخذ منها شيئًا‏.‏

وذلك بإغراء بعـض النـاس مثـل قيطـاس بـك وخلافه‏.‏

وكانت الخيول بالغيط جهة القليوبية‏.‏

وحضر أميراخور وأخبر مخدومه فاغتاظ لذلك وعزم على الركوب عليه فلاطفه يوسف بك الجزار حتى سكن غيظه ثم أحضر حسنًا أبا دفية زعيم مصر سابقًا من القاسمية مشهور بالجشاعة وجعلوه قائمقام الأمانة فسافر بجبخانة ومدفعين وصحبته طوائل ورجال وأمره بأن يطلب شر حبيب وإن قدر على قتله فليفعل‏.‏

وكتـب مكاتبـات للنواحي بأن يكونوا مطيعين للمذكور فلم يزل حتى نزل في غيط برسيم عند ساقية خراب وعمل هناك متراسًا ووضع المدفعين وغطاهما بلباد وأقام رصد خيالة بالطريق وإذا بسالـم بـن حبيـب ركـب فـي عبيـده ورجاله متوجهين إلى الجزيرة فنزل بطريقه بغيط الأوسية فحضر الخيالة الرصد إلى الأمير حسن أبي دفية وأخبروه فركب برجاله وأبقى عند المدافع عشرة من السجمانية وأوصاهم بأنهم إذا انهزموا من القوم فإنهم يرمون بالمدفعين سواء ففعلوا ذلـك بعدمـا لاقاهـم ورمـى منهـم رجالًا ووقع منها أيضًا عند رمي المدافع والرصاص ثلاثة عشر خيـالًا وأخـذوا منهـم نحـو ستـة قلائـع‏.‏

ورجـع سالـم بـن حبيـب بمـن بقـي من طائفته إلى أبيه وعرفه بما وقع له مع الأمير حسن أبي دفية فأرسل إلى عرب الجزيرة فأحضر منهم فرسانًا كثيرة وكذلك من إقليم المنوفية وركب الجميع قاصدين مناوشته‏.‏

ووصلته أخبار ذلك فركب بمن معه وفعل كالأول وركب مبحرًا وانعطف عليهم وحاربهم فرمى منهم فرسانًا فانهزموا أمامه‏.‏

فوقف مكانه فرجعت عليه العرب والعبيد فانهزم أمامهم فرمحوا خلفه طمعًا منهم حتى وصل المدافـع فرموا بهم وأتبعوهم بطلق الرصاص فولوا هاربين وسقط من عرب الجزيرة وغيرها عدة فرسان‏.‏

وأخذوا منهم خيولًا وسلاحًا وحضرت نساؤهم ورفعوا القتلى ورجع سالم إلى أبيه وعرفـه بمـا جـرى عليهـم من حرقهم وقتل فرسانهم فأرسل حبيب إلى قيطاس بك يقول له‏:‏ إنك أغريتنا بابن إيواظ وتولد من ذلك أنه وجه علينا قائمقامه حرقنا بالنار وقتل منا أجاويد‏.‏

فأرسل إليه مكاتبة خطابـًا للقصاصيـن بمعاونتـه ومساعدتـه فحضـر إليـه منهـم عـدة فرسـان ضاربي نار وجمع إليه عربان الجزيرة وخيالة كثيرة من المنوفية وركب حبيب وأولاده وجموعه إلى جسر الناحية ونزل هناك وأرسل أولاده بخيول يطلبون شر أبي دفية‏.‏

وإذا ركب عليهم انهزمـوا أمامـه حتـى يصلـوا إلـى محـل رباطهـم بالجسـر ففعلـوا ذلك إلى أن وصلوا إلى الجسر فضربت القصاصة بنادقهم طلقًا واحدًا فرموا نحو ثلاثين جنديًا من الكبار والذي ما أصيب في بدنه أصيـب حصانـه وردت عليهـم الخيول وانهزم الأمير حسن أبو دفية بمن بقي معه إلى دار الأوسية فأخذت العرب الخيول الشاردة وعروا الغز ورموهم في مقطع من الجسر وأرسل العبيد أتوابًا لجراريـف وجرفوا عليهم التراب من غير غسل ولا تكفين‏.‏

ورجع إلى بلده وخلص ثأره وزيادة وحضـرت الأجنـاد إلـى مصـر وأخبروا الصنجق بما وقع لهم مع حبيب وأولاده فعزل الأمير حسن أبا دفيه من قائمقاميته وولى خلافه وأخذ فرمانًا بضرب حبيب وأولاده وركب عليهم من البر والبحر ووصلت النذيرة إلى حبيب فرمى مدافع أبي دفية البحر ووضع النحاس في أشناف وألقاها أيضًا في البحر‏.‏

وقيل أن حبيب قبل هذه الواقعة بأيام أحضر ستة قناديل وعمرها بعدما عاير فتائلها وزنها بالميزان عيارًا واحدًا وكتب على كل قنديل ورقة باسمه واسم أخيه وأولاده واسم ابن أيواظ وأسرجها دفعة واحد فانطفأ الذي باسمه أولًا ثم انطفأ قنديل ابـن إيـواظ ثـم قناديـل أخيـه وأولـاده شيئـًا بعـد شـيء‏.‏

فقـال‏:‏ أنـا أموت في دولة ابن أيواظ‏.‏

ولما وصل إليـه الخبـر بحركـة ابـن أيـواظ وركوبـه عليه فركب بأخيه وأولاده وخرجوا هاربين ووصل ابن أيواظ إلى دجوة ورمحوا على دواويرهم ورموا الرصاص وكانت المراكب وصلت إلى البر الغربي تجاه دجـوة ورسـوا هناك وموعدهم سماع البنادق‏.‏

فعند ذلك عدوا إلى البر الشرقي وطلعوا إليه‏.‏

فأمـر ابـن أيـواظ بهـدم دواويـر الحابيبـة فهدموهـا بالقـزم والفؤوس وأنشأ كفرًا بعيدًا عن البحر بساقيه وحـوض دواب وجامـع وميضـأة وطاحونيـن وجمع أهل البلد فعمروا مساكنهم في الكفر وسموه كفر الغلبة‏.‏

ورجع الأمير اسمعيل إلى مصر وأخذ الغز والأجناد أبقارًا وعجولًا وأغنامًا وجواميش وأمتعة وفرشًا وأخشابًا شيئًا كثيـرًا ووسقـوه فـي المراكـب وحضـروا بـه مـن البـر أيضـًا إلـى مصر‏.‏

وكتب مكاتبات إلى سائر القبائل من العربان بتحذيرهم من قبولهم حبيبًا وأولاده وأن لا ينجمـع عليـه أحـد ولا يأويـه فلـم يسعهـم إلا أنهـم ذهبـوا عنـد عـرب غزة فأكرموهم ولم يزل بها حتى مـات وحضـر سالـم ابنـه بعـد ذلـك إلـى قليـوب ببيـت الشواربـي شيـخ الناحيـة سـرًا وأخذ له مكاتبة مـن إبراهيـم بـك أبـي شنـب خطابـًا إلـى ابـن وافـي المغربـي بـأن يوطـن أولـاد حبيـب عنـده حتـى يأخذ لهم إجازة من أستاذهم فأرسل أحضر عمه وأخاه سويلمًا وعدوا إلى الجبل الغربي وساروا عند ابن وافي شيخ المغاربة فرحب بهم وضرب لهم بيوت شعر وأقاموا بها إلى سنة 1130 فمات غبراهيم بك أبو شنب وكان يؤاسي أولاد حبيب ويرسل لهم وصولات بغلال يأخذونها مـن بلاده القبلية‏.‏

فلما مات في الفصل ضاقت معيشتهم فحضر سالم بن حبيب من عند ابن وافي خفية وذلك قبل طلوع ابن ايواظ بالحج سنة إحدى وثلاثين ودخل بيت السيد محمد دمرداش وسلم عليه وعرفه بنفسه فرحب به وشكا له حال غربته وبات عنده تلك الليلة وأخذه في الصباح إلى ابن ايواظ فدخل عليه وقبل يده ووقف فقال السيد محمد للصنجق‏:‏ عرفـت هـذا الـذي قبـل يدك‏.‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ هذا الذي جم أذناب خيولك‏.‏

قال‏:‏ سالم‏.‏

قال‏:‏ لبيك‏.‏

قال‏:‏ أتيت بيتي ولم تخف قال له‏:‏ نعم أتيت بكفني إما أن تنتقم وإما أن تعفو فإننا ضقنـا مـن الغربـة وهـا أنـا بين يديك‏.‏

فقال له‏:‏ مرحبًا لك أحضر أهلك وعيالك وعمر في الكفر واتـق اللـه تعالـى وعليكـم الأمـان‏.‏

وأمـر لـه بكسـوة وشال وكتب له أمانًا وأرسل به عبده‏.‏

وركب سالم وذهـب عنـد إبراهيـم الشواربـي بقليـوب فأقـام عنـده حتـى وصـل العبـد بالأمـان إلـى عمـه وأخيـه في بنـي سويـف فحملـوا وركبـوا وسـاروا إلـى قليـوب ونزلـوا بـدار أوسيـة الكفـر حتـى بنـوا لهـم دواويـر وأماكن ومساكن وأتتهم العرنبية ومشايخ البلاد ومقادمها للسلام والهدايـا والتقـادم‏.‏

فأقـام علـى ذلـك حتـى تولـى محمـد بـك ابن اسمعيل بك أمير الحاج فأخذ منه إجازة بعمار البلد الذي على البحـر وشـرع فـي تعميـر الـدور العظيمـة والبساتين والسواقي والمعاصر والجوامع وذلك سنة 1134 واستقـام حـال سالـم وشاتهر ذكره وعظم صيته واستولى على خفارة البرين ونفذت كلمته بالبلاد البحريـة مـن بولـاق إلـى البغازين وصارت المراكب والرؤساء تحت حكمه وضرب عليها الضرائب والعوائـد الشهريـة والسنويـة وأنشـأ الدواويـر الواسعـة والبستـان الكبيـر بشاطـئ النيـل وكان عظيمًا جدًا وعليه عدة سواق وغرس به أصناف النخيل والأشجار المتنوعة فكانت ثماره وفاكهته وعنبه تجتنى بطول السنة وأحضر لها الخولة من الشام ورشيد وغير ذلك‏.‏

ولما وقعت الوقائع بين ذي الفقار بك ومحمد بك وجركس المتقدم ذكرها وحضر جركس بمن معه من اللموم إلى قرب المنشية وخرجت إليه عساكر مصر وأرسلوا إلى سالم بن حبيب فجمع العربان وحضر بفرسانه وعبيده إلى ناحية الشيمي وحارب مع الأجناد المصرية حتـى قتـل سليمان بك في المعركة وولى جركس ورجعت التجريدة وتبعه سالم بن حبيب والأسباهية وذهبـوا خلفـه فعـدى الشـرق فعـدوا خلفـه وطلعـت تجريـدة أخـرى مـن مصر فتلاقوا معهم وتحاربـوا مـع محمد بك جركس فكانت بينهم وقعة عظيمة فكانت الهزيمة على جركس وحصل ما حصل من وقوع جركس في الروبة وموته ودفنوه بناحية شرونه كما تقدم ورجع سالم بن حبيـب بما غنمه في تلك الوقائع إلى بلده واشتهر أمره واشترى السراري البيض ولم يزل حتى توفي سنة 1151 وخلف ولدًا يسمى عليًا اشتهر أيضًا بالفروسية والنجابة والشجاعة ولمـا مات سالم ترأس عوضه أخوه سويلم في مشيخة نصف سعد فسار بشهامة واشتهر ذكره وعظـم صيتـه فـي الإقليـم المصـري زيـادة عـن أخيـه سالـم ووسع الدواوير والمجالس ولما سافر الأمير عثمـان بـك الفقـاري بالحـج ورجـع سنـة إحـدى وخمسيـن المذكـورة فأرسـل هدية إلى سويلم المذكور وأرسل له الآخر التقادم ثم أن الأمير عثمان بك تغير خاطره على سويلم لسبب من الأسباب فركب عليه على حين غفلة ليلًا وتعالى به الدليـل ونـزل علـى دجـوة طلـوع الشمـس وكـان الجاسوس سبق إليهم وعرفهم بركوب الصنجق عليهم فخرجوا من الدور ووقفوا على ظهور خيولهم بالغيط بعيدًا عن البلد فلما حضر الصنجـق ورمـح علـى دورهـم ورمـى الطوائـف بالرصـاص فلـم يجـدوا أحـدًا‏.‏

فلم يتعرض لنهب شيء ومنع الغز والطوائف عن أخذ شيء وبلغ خبـر ركـوب الصنجـق عمر بك رضوان وإبراهيم بك فركبا خلفه حتى وصلا إليه وسلما عليه فعرفهما أنه لم يجدهم بالبلد فركب عمر بك وأخذ صحبته مملوكين فقط وسار نحو الغيط فرآهـم واقفيـن علـى ظهـور الخيـل فلما عاينوه وعرفوه نزلوا عن الخيل وسلموا عليه فقال لهم‏:‏ لأي شـيء تهربـون مـن أستاذكـم وعرفهم أنه أتى بقصد النزهة وأحضر صحبته علي بن سالم فقابل به الأمير وقبل يده ورجع إلى دواره وأحضر أشياء كثيرة من أنواع المآكل حتى اكتفى الجميع‏.‏

وعزمـوا عليهـم تلك الليلة فبات الصنجق وباقي الأمراء وذبح لهم أغنامًا كثيرة وعجلين جاموس وتعشى الجميع وأخرجوا لهم في الصباح شيئًا كثيرًا من أنواع الفطورات ثم قدم لهم خيولًا صافنات وركبوا ورجعوا إلى منازلهم ولما هرب إبراهيم بك قطامش في أيام محمد راغب باشـا وكـان سويلـم مركونـًا عليـه فجمـع سويلـم عرب بلي وضرب ناحية شبرا المعدية فوصل الخبر إلـى إبراهيـم جاويـش القازدغلي فأخذ فرمانًا بضرب ناحية دجوة والخروج من حق أولاد حبيب فعيـن عليهم ثلاثة صناجق فوزعوا دبشهم وحريمهم في البلاد وركبوا خيولهم ونزلوا في الغيط ونزلت لهم التجريدة ومعهم الجبخانة والمحاربون وهجموا على البلد فوجدوها خالية‏.‏

ولما رأى الحبايبة كثرة التجريدة فوسعوا وذهبوا إلى ناحية الجبل الشرقي وأرسل إبراهيم جاويش إلى عثمـان بـك أبـي سيـف أميـر التجريـدة بأنـه ينـادي في البلد عليهم ولم يدع أحدًا منهم ينزل الريف فركب عثمان بك وطاف بالبلاد يتجسس عليهم وظفر لهم بقومانية وذخيرة ذاهبة إليهم من الريف على الجمال فحجزها وأخذها وذلك مرتين ورجع عثمان بـك ومـن معـه إلـى مصـر وصحبتهم ما وجدوه للحبايبة في البلاد من مواش وسكر وعسل وأخشاب وهدموا جانبًا من بيوتهـم وكـان علـي بـن سالـم لـم يذهـب مـع سويلـم إلـى الجبـل بـل أخـذ عيالـه وذهب عند أولاد فودة فلمـا سمـع بالتقريـظ علـى أصحـاب الـدرك فأتـى إلـى مصـر ودخـل إلى بيت إبراهيم جاويش وعرفه بنفسـه وطلـب منـه الأمـان فعفـا عنـه بشرط أن لا يقرب دجوة ويسكن في أي بلد شاء يزرع مثل الناس ثم أن سويلمًا ومن معه أرسلوا إلى حسين بك الخشاب بأن يأخذ لهم أمانًا من إبراهيم جاويش ففعل وقبل شافعة حسين بك بشرط إبطال حماية المراكب وأذية بلاد الناس ويكفيهم الخفارة التي أخذوها بالقوة واستخلص لهم المواشي التي كان جمعها عثمان بك أبو سيف واستقر سويلم كمما كان بدجوة وبنى له دورًا عظيمة ومقاعد مرتفعة شاهقة في العلو يحمل سقوفها عدة أعمدة وعليها بوائك مقصورة ترى من مسافة بعيدة في البر والبحر وبها عدة مجالس ومخادع ولواوين وفسحات علوية وسفلية وجميعه مفروش بالبلاط الكدان وبنى بداخل ذلك الدوار مسجدًا ومصلى وبداخل حوش الدوار مساطب ومنايف لأجناس الناس الآفاقية وغيرهـم وبنى تحت ذلك الدوار بشاطئ النيل رصيفًا متينًا ومساطب يجلس عليها في بعض الأوقات وأنشأ عدة مراكب تسمى الخرجات ولها شرفات وقلوع عظيمة وعليها رجال غلاظ شداد فإذا مرت بهم سفينة صاعدة أو حادرة صرخ عليها أولئك الرجال قائلين البرفان امتثلوا واحضروا وأخذوا مننهم ما أحبوه من حمل السفينة وبضائع التجار وإن تلكئوا في حضـور قاطعوا عليهم بالخرجات في أسرع وقت وأحضرهم صاغرين وأخذوا منهم أضعاف ما كان يؤخذ منهم لو حضروا طائعين من أول الأمر وكان له قواعد وأغراض وركائز وأناس من الأمراء وأعوانهم بمصر يراسلهم ويهاديهم فيذبون عنه ولا يسمعون فيه شكوى ولـه عـدة مـن العبيـد السود التجارية الفرسان ملازمين له مع كل واحد حرمدان مقلديه ملآن بالدنانير الذهب وكان لا يبيت في داره ويأتي في الغالب بعد الثلث الأخير فيدخل إلى حريمه جصة ثم يخرج بعد الفجـر فيعمـل ديوانًا ويحضر بين يديه عدة من الكتبة ويتقدم إليه أرباب الحاجات ما بين مشايخ بلاد وأجناد وملتزمين وعرب وفلاحين وغير ذلك والجميع وقوف بين يديه والكتاب يكتبون الأوراق والمراسلات إلى النواحي وغالب بلاد القليوبية والشرقية تحـت حمايتـه وحمايـة أقاربـه وأولاده ولهم فيها الشركاء والزروع والدواوير الواسعة المعروفة بهم والمميزة عن غيرها بالعظم والضخامة ولا يقدر ملتزم ولا قائمقام على تنفيذ أمر مع فلاحيه إلا بإشارتـه أو بإشـارة مـن البلد في حمايته من أقاربه وكذلك مشايخ البلاد مع أستاذيهم وكان لهم طرائق وأوضاع في الملابـس والمطاعـم فيقـول النـاس سـرج حبايبـي وشـال حبايبي إلى غير ذلك وكان مع شدة مراسه وقوة بأسه يكرم الضيفان ويحب العلماء وأرباب الفضائل ويأنس بهم ويتكلم معهم في المسائل ويؤاسيهم ويهاديهم وخصوصًا أرباب المظاهر وكان إنسانًا حسنًا وجيهًا محتشمًا مقتصرًا على حالـه وشأنـه ملازمـًا علـى قـراءة الـأوراد والمذاكـرة ويحـب أهـل الفضـل والصلـاح ويتبـرك بهـم وبدعائهم وترددنا عليه وتردد إلينا بمصر كثيرًا وبلونا منه خيرًا وحسن عشرة وكان معه أخوه شيـخ العـرب محمـد علـي مثـل حالـه ويزيـد عنـه الانجمـاع عـن النـاس لغيـر ما يعنيه ويعانيه في خاصة نفسـه وكـان أبوهما على نزل بقليوب بدار فيحاء وكان حسن الخلق وله حشم وأتباع كثيرة وله هيبة عندهم وكان طيب السيرة فصيحًا مفوهًا في حفظه أشعار ونوادر ولديه معرفة وكان يفهم المعنى ويحقق الألفاظ ويطالع الكتب ومقامات الحريري ونحو ذلك‏.‏

ومات الأمير المبجل علي كتخدا مستحفظان الخربطلي وهو من مماليك أحمد كتخدا الخبرطلي الذي جدد جامع الفاكهاني الذب بخط العقادين وصرف عليه من ماله مائة كيس وذلك في سنة 1148 وأصله من بناء الفائز بالله الفاطمي وكان إتمامه في حادي عشر شوال من السنة المذكـورة وكان المباشر على عمارته عثمان جلبي شيخ طائفة العقادين الرومي وفي تلك السنة البس مملوكه المترجم على أوده باشه الضلمة وجعله ناظرًا ووصيًا ومات سيده في واقعة محمد بـك الدفتـردار فـي جملـة الأحـد عشـر أميـرًا المتقـدم بيانهـم وعمـل جاويـش فـي البـاب ثـم عمـل كتخدا واشتهر ذكره بعد انقضاء دولة عثمان بك الغفاري واستقلال إبراهيم كتخدا ورضوان كتخدا الجلفـي بإمـارة مصـر وزوج ابنتـه لعلـي بـك الغـزاوي وعمل لها فرحًا عظيمة ببركة الرطلي عدة أيام كانت من مقترحات مصر وبعد انقضاء أيام الفرح زفت العروس في زفة عظيمة اجتمع العالم من الرجال والنساء والصبيان للفرجة عليها ودخل بها علي بك المذكور وولد له منها حسن جلبي المشهور وأنشأ علي كتخدا المترجم داره العظيمة برأس عطفة خشقدم جهة الباطنيـة وداره المطلة على بركة الرطلي والقصر على الخليج الناصري والقباب المعروفة به وغير ذلك ونفـاه علـي بـك إلـى جهـة قبلـي كمـا تقـدم فلمـا ذهـب علـي بـك إلـى قبلي صالحه وانضوى إليه وكان هـو السفيـر بينـه وبيـن صالـح بـك الأسيوطي حتى أتموه على الوجه المتقدم وحضر صحبته علي بـك إلـى مصر وسكن بداره وأقبلت عليه الناس وقصدوه في الدعاوى والشكاوي وأمن جانب علـي بك واعتقد صداقته وظن أنه قلده منته فلم يلبث إلا أيامًا وأخرجه منفيًا إلى رشيد ثم أرسـل مـن خنقـه هنـاك وكـان أميـرًا جليـلًا وجيهـًا جميل الصورة واسع العينين أبيض اللحية ضخمًا مهاب الشكل بهي الطلعة ودفن هناك‏.‏

ومات الأمير محمد بك أبو شنب وهو من مماليك علي بك وقتل في معركة أسيوط كما تقدم ودفن هناك وكان من الشجعان المعروفين‏.‏

فيهـا ورد علـى علـي بـك الشريـف عبـد اللـه مـن أشـراف مكـة وكان من أمره أنه وقع بينه وبين ابن عمه الشريف أحمد أخي الشريف مساعد منازعة في إمارة مكة بعد وفاة الشريف مساعد فتغلب عليه الشريف أحمد واستقل بالإمارة وخرج الشريف عبد الله هاربًا وذهب إلى ملك الـروم واستنجـد به فكتب له مكاتبات لعلي بك بالمعونة والوصية والقيام معه وحضر إلى مصر بتلك المكتبات في السنة الماضية وكان علي بك مشتغلًا بتمهيد القطر المصري ووافق ذلك غرضـه الباطنـي وهـو طمعـه فـي الاستيـلاء علـى الممالك فأنزله في مكان وأكرمه ورتب له كفايته وأقـام بمصـر حتى تمم أغراضه بالقطر وخلص له قبلي وبحري وقتل من قتله وأخرج من أخرجه فالتفت عند ذلك إلى مقاصده البعيدة وأمر بتجهيز الذخائر والإقامات وعمل البقسماط الكثير حتـى ملـأوا منـه المخـازن ببولاق ومصر القديمة والقصور البرانية وبيوت الأمراء النمافي االخالية ثم عبوا ذلك وأرسل مع باقي الاحتياجات واللوازم من الدقيق والسمن والزيت والعسل والسكر والأجبان في البر والبحر واستكتب أصناف العساكر أتراكًا ومغاربة وشوامًا ومتاولة ودروزًا وحضارمـة ويمانيـة وسودانـًا وحبوشـًا ودلاة وغير ذلك وأرسل منهم طوائف في المقدمات والمشاة أنزلوه من القلزم في المراكب وصحبتهم الجبخانات والمدافع وآلات الحرب وخرجت التجريدة في شهر صفر بعد دخول الحجاج في تجمل زائد ومهيأ عظيم وساري عسكرها محمد بك أبو وفي ذ

ثاني عشرين ربيع الأول

وردت الأخبار من القطار الحجازية بوقوع حرابة عظيمة بيـن المصريين وعرب الينبع وخلافهم من قبائل العربان والأشراف ووقعت الهزيمة على المذكورين وقتل وزير الينبع المتولي من طرف شريف مكة وقتل معه خلائق كثيرة‏.‏

وفـي تاسـع شهـر ربيـع الآخـر وصـل نجـاب إلـى مصـر من الديار الحجازية وأخبر بدخول محمد بك ومن معه إلى مكة وانهزام الشريف أحمد وخروجه هاربًا ونهب المصرين دار الشريف ومن يلوذ به وأخذوا منها أشياء كثيرة من أمتعة وجواهر وأموال لها قدر وجلس الشريف عبد الله في إمـارة مكـة ونـزل حسـن بـك إلـى بندرجـدة وتولـى إمارتهـا عوضـًا عـن الباشـا الذي تولاها من طرف ملـك الـروم ولذلك عرف بالجداوي وأقام محمد بك أيامًا بمكة ثم عزم على المسير والرجوع إلى مصر ووصلت الأخبار والبشائر بذلك وأرسلت إليه الملاقاة بالعقبة وخلافها فلما ورد الخبر بوصولـه إلـى العقبـة خرجـت الأمـراء إلـى بركـة الحـاج والـدار الحمـراء لانتظـار قدومـه فوصل في أوائل شهر رجب ودخل إلى مصر في ثامنه في موكب عظيم وأتت إليه العلماء والأعيان للسلام وقصدته الشعراء بالقصائد والتهاني‏.‏

وفي منتصف رجب المذكور عزل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان وقلد عوضه سليم أغـا الوالـي وقلـد عـوض الوالـي موسـى أغـا مـن أتباعـه وأمـر عبد الرحمن أغا بالسفر إلى ناحية غزة وهـي أول حركاتـه إلـى جهـة الشـام وأمـره بقتل سليط شيخ عربان غزة فلم يزل يتحيل عليه حتى قتله هو وأخوته وأولاده وكان سليط هذا من العصاة العتاة له سير وأخبار‏.‏

وفيه زاد اهتمام علي بك بالتحرك على جهة الشام واستكثر من جمع طوائف العساكر وعمل بالقسماط والبـارود والذخائـر والمـؤن وآلـات الحـرب وأمـر بسفـر تجريـدة وأميرهـا اسمعيـل بـك وصحبتـه علـي بـك الطنطـاوي وعللـي بـك الحبشـي فبـرزوا إلـى جهـة العادلية وخرجوا بما معهم من طوائف العسكر والمماليك والأحمال والخيام والجباخانات والعربات والضوبة وقرب الماء الكثيرة على الجمال والكرارات والمطابخ والطبول والزمور والنقاقير وغير ذلك فلما تكامل خروجهـم أقاموا بالعادلية أيامًا حتى قضوا لوازمهم وارتحلوا وسافروا إلى جهة الشام‏.‏

وفي حادي عشرينه برزت تجريدة أخرى وعليها سليمان بك وعمر كاشف وحملة كثيرة من العساكر فنزلوا من طريق البحر على دمياط‏.‏

وفي عاشر شهر القعدة وردت أخبار من جهة الشام وأشيع وقوع حرابات بينهم وبين حكام الشام وأولاد العظم‏.‏

وفي منتصف خرجت تجريدة أخرى وسافر على طريق البر على النسق‏.‏

وفي سابع عشره طلب علي بك حسن أغا تابع الوكيل والروزنامجي وباش قلفة واسمعيل أغا وفـي أواخـره عمـل علـي بك دراهم على القرى وقرر على كل بلد مائة ريال وثلاثمائة ريال حق طريق فضجت الناس من ذلك وطلب من النصارى القبط مائة ألف ريال ومن اليهود أربعين ألفًا وقبضت جميعها في أسرع وقت‏.‏

من مات في هذه السنة مات الشيخ العمدة الفاضل الكامل الأديب الماهر الناظم الناثر الشيخ عبد الله بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي المصري الشافعي الشهير بالمؤذن ولد بادكو وهي قريـة قـرب رشيـد سنـة 104 كما أخبر من لفظه وبها حفـظ القـرآن وورد إلـى مصـر فحضـر دروس علمـاء عصـره وأدرك الطبقـة الأولـى واشتهـر بفـن الـأدب وانضـوى إلـى فخـر الأدباء في عصره السيد علي أفندي برهان زاده نقيب السادة الأشراف فأنزله عنده في إكرام واحتفل به وكفاه المؤنة من كل وجه وصار يعاطيه كؤوس الآداب ويصافيه بمطارحة أشهى من ارتشاف الرضاب وحج بصحبته بيت الله الحـرام وزار قبـر نبيـه عليه الصلاة والسلام وذلك سنة 1147 وعاد إلى مصر وأقبل على تحصيل الفنون الأدبية فنظم ونثر ومهر وبهر ورحل إلى رشيد وفوة والإسكندرية مرارًا واجتمع على أعيـان كـل منهـا وطارحهـم ومدحهـم وفـي سنـة تسـع وثمانيـن رأيـت مـن نظمـه بيتيـن بخطه في جدار جامع بن نصر الله بقوة تاريخ كتابتهما سنة خمس وأربعين وبعد وفاة السيد النقيب تزوج وصـار صاحـب عيـال وتنقلـت بـه الأحوال وصار يتأسف على ما سلف من عيشه الماضي في ظـل ذلـك السيـد قـدس سره فلجأ إلى أستاذ عصره الشيخ الشبراوي ولازمه واعتنى به وصار لا ينفـك عنـه ومدحـه بغرر قصائده وكان يعترف بفضله ويحترمه ولما توفي انتقل إلى شيخ وقته الشمس الحنفي فلازمـه سفـرًا وحضـرًا ومدحـه بغـرر قصائـده فحصلـت لـه العنايـة والإعانـة وواساه بما به حصلت الكفاية والصيانة وله تصانيـف كلهـا غـرر ونظـم نظامـه عقـود الـدرر فمنهـا الـدرة الفريـدة والمنـح الربانيـة فـي تفسير آيات الحكم العرفانية والقصيدة للزدية في مدح خير البرية ألفها لعلي باشا الحكيم ومختصر شرح بانت سعاد للسيوطي والفوائح الجنائية في المدائح الرضوانية جمع فيها أشعار المادحين للمذكور ثم أورد في خاتمتها ماله من الأمداح فيه نظمًا ونثـرًا وهدايـة المتهوميـن في كذب المنجمين والنزهة الزهية بتضمين الرجبية نقلها من الفرائض إلى الغزل وعقود الدرر في أوزان الأبحر الستة عشر التزم في كل بيت منها الاقتباسات الشريفة والدر الثمين في محاسن التضمين وبضاعة الأريب في شعر الغريب وذيلها بذيل يحكي دمية القصر وله المقامة التصحيفية والمقاومة القمذية في المجون وله تخميس بانـت سعـاد صدرهـا بخطبـة بديعة وجعلها تأليفًا مستقلًا وديوانه المشهور على حروف التهجي وغير ذلك وقد كتب بخطه الفائق كثيرًا من الكتب الكبار ودواوين الأشعار وكل عدة أشياء من غرائب الأسفار رأيت من ذلك كثيرًا وقاعدة خطه بين أهل مصر مشهورة لا تخفى ورأيت مما كتب كثيرًا فمن الدواوين ديوان حسان رضي الله عنه رأيته بخطه وقد أبدع في تنميقه وكتب على حواشيه شرح الألفاظ الغريبة ونزهـة الألبـاب الجامـع لفنـون الـآداب ولـه مطارحـات لطيفـة مـع شعـراء عصره والواردين على مصر ولم يزل على حاله حتى صار أوحد زمانه وفريد عصره وأوانه ولمـا توفـي الأستـاذ الحنفـي اضمحـل حالـه ولعـب بلبالـه واعترتـه الأمراض ونصب روض عزه وغاض وتعلل مدة أيام حتى وافاه الحمام في نهار الخميس خامس جمادى الأولى من السنة وأخرج بصباحه وصلى عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين فسرب تربة الشيخ الحنفي وفي سنـة ثلـاث وسبعين ومائة وألف لما اختلفت خدام المشهد النفيسي وكبيرهم إذ ذاك الشيخ عبد اللطيف في أمر العنز وذلك أنهم أظهروا عنزًا صغيرة مدرة زعموا أن جماعة من الأسرى ببلاد الإفرنج توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا تلك العنز وعزموا على ذبحها في ليلة يجتمعون فيها يذكرون ويدعـون ويتوسلـون فـي خلاصهـم ونجاتهـم من الأسر فاطلع عليم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز وبات تلك الليلة فرأى رؤيا حالته فلما أصبح أعتقهم وأطلقهم وأعطاهم دراهم وصرفهـم مكرميـن ونزلـوا فـي مركـب وحضروا إلى مصر وصحبتهم تلك العنز وذهبوا إلى المشهد النفيسـي بتلـك العنـز وذكـروا فـي تلـك العنـز غير ذلك من اختلافهم وخورهم كقولهم أنهم يوم كذا أصبحوا فوجدوها عند المقام أو فوق المنارة وسمعوها تتكلم أو أن السيدة تكلمت وأوصت عليها وسمع الشيخ المذكور كلامها من داخل القبر وأبرزها للناس وأجلسها بجانبه ويقول للناس ما يقوله من الكذب والخرافات التي يستجلب بها الدنيا وتسامع الناس بذلك فأقبل الرجـال والنساء من كل فج لزيارة تلك العنزة وأتوا إليها بالنذور والهدايا وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق وتشرب ماء الورد والسكر المكرر ونحو ذلك فأتوه بأصنـاف ذلـك بالقناطيـر وعمل النساء للعنز القلائد الذهب والأطواق والحلي ونحو ذلك وافتتنوا بها وشاع خبرها في بيوت الأمراء وأكابر النساء وأرسلن على قدر مقامهـن مـن النـذور والهدايـا وذهبـن لزيارتهـا ومشاهدتها وازدحمن عليها فأرسل عبد الرحمن كتخـدا إلـى الشيـخ عبـد اللطيـف المذكـور والتمـس منـه حضـوره إليـه بتلـك العنـز ليتبـرك بها هو وحريمه فركب المذكور بغلته وتلك العنز في حجره ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وحوله الجم لغفير من الناس ودخل بها بيت الأمير المذكور على تلك الصورة وصعد بها إلى مجلسه وعنده الكثير من الأمراء والأعيان فزارها وتملس بها ثم أمر بإدخالها إلى الحريم ليتبركن بها وقد كان أوصى الكلارجي قبل حضوره بذبحهـا وطبخهـا فلمـا أخذوهـا ليذهبـوا بهـا إلـى جهـة الحريـم أدخلوها إلى المطبخ وذبحوها وطبخها قيمـة وحضـر الغـداء وتلـك العنـز فـي ضمنـه فوضعوهـا بيـن أيديهـم وأكلـوا منهـا والشيخ عبد اللطيف كذلك صار يأكل منها والكتخدا يقول‏:‏ كل يا شيخ عبد اللطيف من هذا الرميس السمين فيأكـل منهـا ويقـول‏:‏ واللـه إنـه أطيـب ومستـو ونفيـس وهـو لا يعلـم أنـه عنـزه وهم يتغامزون ويضحكون فلما فرغوا من الأكل وشربوا القهوة وطلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أنها هي التي كانت بين يديه في الصحن وأكلها فبهت فبكته الأمير وربخه وأمره بالانصراف وأن يوضع جلد العنـز علـى عمامتـه ويذهـب به كما جاء بجمعيته وبين يديه الطبول والأشاير ووكل به من أوصله محله على تلك الصورة ولم يزل المترجم حتى تعلعل بالأمراض والأسقام واضمحل منه الجسم والقـوى بالآلـام حتـى وافـاه الحمـام فـي يـوم الخميـس خامـس جمـادى الأولى من السنة رحمه الله وابنه العلامـة السيـد أحمـد المعـروف بكتيكـت مفتـي الشافعيـة بثغـر سكندريـة والسيـد هلـال الكتبـي توفيا بعده بسنين والشيخ صالح الصحاف موجود مع الأحياء أعانه الله على وقته‏.‏

ومات الإمام الفصيح البارع الفقيه الشيخ جعفر بن حسن بن عبد الكريم ابن محمد بن رسول الحسيني البرزنجي المدني مفتي الشافعية بها ولد بالمدينة وأخذ عن والده والشيخ محمد حيوة السنـدي وأجـازه السيـد مصطفـى البكـري وكـان يقـرأ دروس الفقـه داخـل بـاب السلام وكان عجيبًا في حسن الإلقاء والتقرير ومعرفة فروع المذهب تولى الإفتاء والخطابة مدة تزيد على عشريـن سنـة كـان قـوالًا بالحق أمارًا بالمعروف واجتمع به الشيخ سليمان بن يحيى شيخ المشايخ وذكره في رحلته وأثنى عليه وله مؤلفات منها البر العاجل بإجابة الشيخ محمد غافل والقبض اللطيـف بإجابة نائب الشرع الشريف وفتح الرحمن على أجوبة السيد رمضان توفي في شهور هذه السنة قيل مسمومًا والله أعلم‏.‏

ومات الولي العارف أحد المجاذيب الصادقين الأستاذ الشيخ أحمد ابن حسن النشرتي الشهير بالعريان كان من أرباب الأحوال والكرامات ولد في أول القرن وكان أول أمره الصحو ثم غلب عليـه السكـر فأدركـه المحـو وكانت له في بدايته أمور غريبة وكان كل من دخل عليه زائرًا يضربه بالجريد‏.‏

وكان ملازمًا للحج في كل سنة ويذهب إلى موالد سيدي أحمد البدوي المعتادة‏.‏

وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب وإذا قرأ قارئ بين يديـه وغلـط يقـول لـه ق فإنـك غلطـت وكـان رجـلًا جلاليـًا يلبـس الثيـاب الخشنة وهي جبة صوف وعمامة صوف حمراء يعتم بها على لبدة من صوف ويركب بغلة سريعة العدو وملبسه دائمًا على هذه الصفة شتاء وصيفًا وكان شهير الذكـر يعتقد الخاصة والعامة وتأتي الأمراء والأعيان لزيارته والبرك به ويأخذ منهم دراهم كثيرة ينفقها على الفقراء المجتمعين عليه وأنشأ مسجده تجاه الزاهد جوار داره وبنى بجواره صهريجًا وعمل لنفسه مدفنًا وكذلك لأهله وأقاربه وأتباعه واتحد به شيخنا السيد أحمد العروسي واختص به اختصاصًا زائدًا فكان لا يفارقه سفرًا ولا حضرًا وزوجه إحدى بناته وهـي أم أولـاده وبشـره بمشيخة الجامع الأزهر والرئاسة فعادت عليه بركته وتحققت بشارته وكان مشهورًا بالاستشـراف علـى الخواطـر توفـي رحمـه اللـه في منتصف ربيع الأول وصلى عليه بالأزهر ودفن بقبره الذي أعده لنفسه في مسجده نفعنا الله به وبعباده الصالحين‏.‏

ومات الفقيه الصالح الشيخ علي بن أحمد بن عبد اللطيف البشبيشي الشافعي روى عن أبيه عن البابلي توفي في غاية ربيع الثاني من السنة‏.‏

ومات الشيخ المبجل الصالح المفضل الدرويش الشيخ أحمد المولوي شيخ المولوية بتكية المظفر وكان إنسانًا حسنًا لا بأس به مقبلًا على شأنه منجمعًا عن خلطة كثير من الناس إلا بحسب الدواعي توفي في سابع عشرين ربيع الآخر من السنة ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات المقدام الخير الكريم صاحب الهمة العالية والمروءة التامة شمس الدين حمودة شيخ ناحية برمـه بالمنوفيـة أخـذ عـن الشيـخ الحفنـي وكـان كثير الاعتقاد فيه والإكرام له ولأتباعه وله حب في أهـل الخير واعتقاد في أهل الصلاح ويكرم الوافدين والضيفان‏.‏

وكان جميل الصورة طويلًا مهيبًا حسن الملبس والمركب‏.‏

توفي يوم الخميس حادي عشر رجب من السنة وخلف أولادًا منهم محمد الحفني الذي سماه على اسم الشيخ لمحبته فيه وأحمد وشمس الدين‏.‏

ومات بقية السلف ونتيجة الخلف الشيخ أحمد سبط الأستاذ الشيخ عبد الوهاب الشعراني وشيخ السجادة كان إنسانًا حسنًا وقورًا مالكًا منهج الاحتشـام والكمـال منجمـًا عـن خلطـة الناس إلا بقدر الحاجة‏.‏

توفي يوم السبت ثامن صفر من السنة وخلف ولده سيـدي عبـد الرحمن مراهقًا تولى بعده على السجادة مع مشاركة قريبه الشيخ أحمد الذي تزوج بوالدته‏.‏

ومات الإمامة العلامة الفقيه الصالح الناسك صائم الدهر الشيخ محمد الشوبري الحنفي تفقه على الشيخ الاسقاطي والشيخ سعودي وبعد وفاة المذكورين لازم الشيخ الوالد وتلقى عنه كثيـرًا وكان إنسانًا حسنًا وجيهًا لا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلًا على شأنه صائم الدهر وملازمًا لداره بعد حضور درسه وكان بيته بقنطرة الأمير حسين مطلًا على الخليج‏.‏

سنة خمس وثمانين ومائة وألف أخرج علي بك تجريدة عظيمة وسر عسكرها وأميرها محمـد بـك أبـو الذهـب وأيـوب بـك ورضـوان بك وغيرهم كشاف وأرباب مناصب ومماليكهم وطوائفهم وأتباعهم وعساكر كثيرة من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة وخرجوا في تجمل زائد واستعداد عظيم ومهيأ كبير ومعهـم الطبـول والزمـور والذخائـر والأحمـال والخيـام والمطابـخ والكـرارات والمدافـع والجبخانات ومدافع الزنبلـك علـى الجمـال وأجنـاس العالـم ألوفـًا مؤلفـة وكذلـك أنزلـوا الاحتياجـات والأثقـال وشحنوا بها السفن وسافرت من طريق دمياط في البحر‏.‏

فلما وصلوا إلى الديار الشامية فحاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها بعد أيام كثيرة ثم توجهوا إلى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة وهمزموهم وقتلوهم وفروا من وجوههم واستولوا على المماليك الشامية إلى حد حلب ووردت البشائر بذلك فنودي بالزينة فزينت مصر وبولاق ومصر العتيقة زينة عظيمة ثلاثة أيام بلياليها وتفاخروا في ذلك إلى الغاية وعملت وقدات وأحمال قناديل وشموع بالأسـواق وسائـر الجهـات وعملـوا ولائم ومغناي وآلات وطبولًا وسنكًا وحراقات وغير ذلك وذلك في شهـر ربيـع أول مـن السنـة‏.‏

وتعاظـم علـي بـك فـي نفسـه ولـم يكتـف بذلـك فأرسـل إلـى محمـد بـك يأمـره بتقليـد الأمـراء المناصـب والولايات على البلاد التي افتتحوها وملكوها وإن يستمر في سيره ويتعـدى الحـدود ويستولـي علـى المماليـك إلـى حيـث شـاء وهو يتابع إليه إرسال الإمدادات واللوازم والاحتياجـات‏.‏

ولا يثنـون عنانهـم عمـا يأمرهـم بـه‏.‏

فعند ذلك جمع محمد بك أمراءه وخشداشينه الكبـار فـي خلـوة وعـرض عليهـم الأوامـر فضاقت نفوسهم وسئموا الحرب والقتال والغربة وذلك ما فـي نفـس محمـد بـك أيضـًا‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ما تقولون قالوا‏:‏ وما الذي نقوله والرأي لك فأنت كبيرنا ونحن تحت أمرك وإشارتك ولا نخالفك فيمـا تأمـر بـه‏.‏

فقـال‏:‏ ربمـا يكـون رأيـي مخالفـًا لأمـر أستاذنا‏.‏

قالوا‏:‏ ولو مخالفًا لأمره فنحن جميعًا لا نخرج عن أمرك وإشارتك فقال‏:‏ لا أقول لكم شيئـًا حتـى نتحالـف جميعـًا ونتعاهـد علـى الـرأي الذي يكون بيننا‏.‏

ففعلوا ذلك وتعاهدوا وحلفوا علـى السيـف والكتـاب‏.‏

ثـم أنـه قـال لهـم‏:‏ إن أستاذكـم يريـد أن تقطعـوا أعماركم في الغربة والحرب والأسفـار والبعـد عـن الأوطـان وكلمـا فرغنـا من شيء فتح علينا غيره فرأيي أن نكون على قلب رجل واحد ونرجع إلى مصر ولا نذهب إلى جهة من الجهات وقد فرغنا من خدمتنا وإن كان يريـد غيـر ذلـك مـن المماليـك يولـي أمـراء غيرنـا ويرسلهم إلى ما يريد ونحن يكفينا هذا القدر ونرتاح فـي بيوتنـا وعنـد عيالنـا‏.‏

فقالـوا جميعًا‏:‏ ونحن على رأيك‏.‏

وأصبحوا راحلين وطالبين إلى مصر فحضـروا فـي أواخر شهر رجب على خلاف مراد مخدومهم وبقي الأمر على السكوت‏.‏

ثم أن علي بك قلد أيوب بك إمارة جرجا وقضى أشغاله وسافر إلى الصعيد بطائفته وأتباعه‏.‏

وانقضـى شهـر شعبـان ورمضـان وعلـي بـك مصمـم على رجوع محمد بك إلى جهة الشام‏.‏

وذلك مصمـم علـى خلـاف ذلـك‏.‏

وبـدت بينهما الوحشة الباطنية‏.‏

فلما كان ليلة رابع شهر شوال بيت علي بك مع علي بك الطنطاوي وخلافه واتفق معهم على غدر محمد بك فركبوا عليه ليلًا وأحاطوا بداره ووقفه له العساكر بالأسلحة في الطرق فركب في خاصته وخرج من بينهم وذهب إلى ناحية البساتين وارتحل إلى الصعيد‏.‏

فحضر إليه بعض الأمراء أصحاب المناصب وعلـي كاشـف تابـع سليمـان أفنـدي كاشـف شـرق أولـاد يحيـى وقدموا له ما معهم من الخيام والمال والاحتياجات‏.‏

ولم يـزل فـي سيـره حتـى وصـل إلـى جرجـا واجتمـع عليـه أيـوب بـك خشداشـه وأظهـر له المصافاة والمؤاخاة وقدم له هدايا وخيولًا وخيامًا فلم يلبث إلا وقد أحضر عيون محمد بك يأمره ويستحثه على عمل الحيلة وقتل محمد بك بأي وجه أمكنه ويعده إمارته وبلاده وغير ذلـك‏.‏

فلما قرأ المراسلة وفهم مضمونها أكرم الرجل وقال له‏:‏ تذهب إليه بالكتاب وأثني بجوابه ولك مزيد الإكرام فذهب ذلك الساعي وأوصل الكتاب إلى أيوب بك وطلب منه رد الجواب وأعطـاه الجـواب وذكـر فيـه أنه مجتهد في تتميم الغرض ومترقب حصول الفرصة‏.‏

فحضر به إلى محمد بك‏.‏

فعند ذلك استعد محمد بـك وتحقـق خيانتـه ونفاقـه فاتفـق مـع خاصتـه وأمرائـه بالاستعداد والوثوب وأنه إذا حضر إليه أيوب بك أخذ أربـاب المناصـب نظراءهـم وتحفظـوا عليهـم‏.‏

فلمـا حضـر فـي صبحهـا أيـوب بـك جلـس معـه فـي خلـوة وأخـذ كـل مـن الخازنـدار والكتخدا والجوخـدار والسلحدار نظراءهم من جماعة محمد بك ثم قال محمد بك يخاطب أيوب بك‏:‏ يا هل ترى نحن مستمرون على الأخوة والمصافاة والصداقة والعهد واليمين الذي تعاقدنا عليـه بالشام قال‏:‏ نعم وزيادة‏.‏

قال‏:‏ ومن نكث ذلك وخان اليمين ونقض العهد قال‏:‏ يقطع لسانه الـذي حلـف بـه ويـده التـي وضعهـا على المصحف‏.‏

فعند ذلك قال له‏:‏ بلغني أنه أتاك كتاب من أستاذنـا علـي بـك‏.‏

فجمـد ذلـك فقال‏:‏ لعل ذلك صحيح وكتبت له الجواب أيضًا‏.‏

قال‏:‏ لم يكن أبـدًا ولـو أتانـي منـه جـواب لأطلعتـك عليه ولا يصح أني أكتمه عنك أو أرد له جوابًا‏.‏

فعند ذلك أخـرج لـه الجـواب مـن جيبـه وأحضـر إليـه الرسـول فسقـط فـي يـده وأخـذ يتنصـل ببارد العذر‏.‏

فعند ذلك قال له‏:‏ حينئذ لا تصح مرافقتك معي وقم فاذهب إلى سيدك وأمر بالقبض عليه وأنزلوه إلـى المركـب وأحـاط بوطاقـه وأسبابـه وتفرقـت عنـه جموعـه‏.‏

فلمـا صار وحيدًا في قبضته أحضر عبـد الرحمـن أغـا وكـان إذ ذاك بناحيـة قبلي وانضم إلى محمد بك فقال له‏:‏ اذهب إلى أيوب بك واقطع يده ولسانه كما حكم على نفسه بذلك‏.‏

فأخذ معه المشاعلي وحضر إليه في السفينة وقطعـوا يمينـه ثـم شبكـوا فـي لسانـه سنـارة وجذبـوه ليقطعـوه فتخلـص منهم وألقى بنفسه في البحر فغرق ومات‏.‏

وكان قصد محمد بك أن يفعل به ذلك ويرسله على هذه الصورة إلى سيده بمصر‏.‏

ثم إنهم أخرجوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه‏.‏

فعندما وقع ذلك أقبلـت الأمـراء والأجنـاد المتفرقـون بالأقاليـم علـى محمـد بـك وتحققـوا عنـد ذلـك الخلـاف بينـه وبيـن سيده وقد كانوا متجمعين عـن الحضور إليه ويظنون خلاف ذلك‏.‏

وحضر إليه جميع المنافي وأتباع القاسمية والهوارة الذين شردهم علي بك وسلب نعمتهم فأنعم عليهم وأكرمهم وتلقاهم بالبشاشة والمحبة واعتذر لهم وواساهم وقلدهم الخدم والمناصب وهم أيضًا تقيدوا بخدمته وبذلوا جهدهم في طاعته‏.‏

ووصلـت الأخبـار بذلـك إلـى مصـر وحضـر إليـه كثير من مماليك أيوب بك وأتباعه سوى من انضم منهم والتجأ إلى محمد بك وأتباعه فعند ذلك نزل بعلي بك من القهر والغيظ المكظوم ما لا يوصف وشرع في تشهيل تجريدة عظيمة وأميرها وسر عسكرها اسمعيل بـك واحتفـل بهـا احتفـالًا كثيـرًا وأمـر بجمـع أصنـاف العساكـر واجتهـد فـي تنجيـز أمرهـا في أسرع وقت وسافروا برًا وبحـرًا فـي أواخـر ذي العقـدة‏.‏

فلمـا التقـى الجمعـان خامـر اسمعيـل بـك وانضـم بمـن معـه مـن الجموع إلى محمـد بـك وصـاروا حزبـًا واحدًا ورجع الذين لم يميلوا وهم القليل إلى مصر‏.‏

فعند ذلك اشتد الأمـر بعلـي بـك ولاحـت علـى دولته لوائح الزوال وكاد يموت من الغيظ والقهر وقلد سبع صناجق والكل مزلقون وسماهم أهل مصر السبع بنات وهم مصطفى بك وحسن بك ومراد بك وحمزة بك ويحيى بك وخليل بك كوسه ومصطفى بك أود باشه وعمـل لهـم برقـًا وداقمـًا ولـوزام وطبلخانات في يومين وضم إليهم عساكر وطوائف ومماليك وأتباعـًا وبـرز بنفسـه إلـى جهـة البساتيـن وشـرع فـي تشهيـل تجريـدة أخـرى وأميرها علي بك الطنطاوي وأخرج الجبخانات والمدافع الكثيرة وأمر بعمل متاريس من البحر إلى جهة الجبل وانقضت السنة‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات الإمام الفقيه الصالح الخير الشيخ علي بن صالح بن موسى بن أحمد بن عمارة الشاوري المالكي مفتي فرشوط قرأ بالأزهر العلوم ولازم العلامة الشيخ علي العدوي وتفقه عليه وسمع الحديـث مـن الشيـخ أحمـد ابـن مصطفـى السكنـدري وغيـره ورجع إلى فرشوط فولي إفتاء المالكية بها فسار فيها سيرًا مقتصدًا ولما ورد عليه الشيخ ابن الطيب راجعًا من الروم تلقى عنه شيئًا من الكتب وأجازه وكان لشيخ العرب همام بن يوسف في حقه عناية شديدة وصحبة أكيـدة وكانـت شفاعـات العلمـاء مقبولـة عنـده بعنايتـه ولذلـك راج أمره واشتهر ذكره وطار صيته‏.‏

وكان حسن المذاكرة والمحاورة محتشمًا في نفسـه مجمـلًا فـي ملابسـه وجيهـًا معتبـرًا فـي الأعيـن‏.‏

وألـف شيخنـا السيـد محمـد مرتضـى باسمـه نشـق الغوالـي مـن الموريـات العوالـي وذلك أيام رحلته إلى فرشوط ونزوله عنده ورفع شأنه عند شيخ العرب وأكرمه إكرامًا كثيرًا ولما تغيـرت أحـوال الصعيد قدم إلى مصر مع ابن مخدومه وما زال بها حتى توجه إلى طندتا وكان يعتريه حصر البـول فيجلـس أيامـا وهـو ملـازم للفـراش فـزار وعـاد‏.‏

توفي يوم دخوله إلى بولاق نهار الثلاثاء ثالث عشر شعبان من السنة وكان يومًا مطير ذا رعد وبرق فوصل خبره إلى الجامع الأزهر فخرج إليه الشيخ علي الصعيدي وكثير من العلماء وتخلف من تخلف لذلك العـذر فجهـزوه هنـاك وكفنـوه وأتـوا به إلى الأزهر وأراد الشيخ الصعيدي دفنه في مدفن عبد الرحمن كتخدا لصعوبة ومات الفقيه الفاضل العلامة الشيخ علي بن عبد الرحمن بن سليمان ابن عيسى بن سليمان الخطيب الجديمي العدوي المالكي الأزهري الشهير بالخرائطي ولد في أول القرن وقدم الجامع الأزهـر فحضـر دروس جماعـة من فضلاء العصر ولازم بلدية الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية ودرس بالأزهر ونفع الطلبة وكان إنسانًا حسنًا منور الشيبة ذا خلـق حسـن وتـودد وبشاشـة ومروءة كاملة وكان له ميل تام في علم الحديث ويتأسف على فوات اشتغاله به ويحب كلام السلف ويتأمـل فـي معانيـه مـع سلامـة الاعتقـاد وكثـرة الإخلـاص‏.‏

توفـي عشيـة يـوم الأربعـاء ثانـي المحـرم افتتاح سنة 1185‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة الفاضل المحقق الدراك المتفنن الشيخ محمد بان اسمعيل بن محمد بن اسمعيل بن خضر النقراوي المالكي كان والده من أهل العلم والصلاح والزهد عن جانب عظيم وعمر كثيـرًا حتـى جاوز المائة وانحنى ظهره وتوفي سنة 1178‏.‏

تربى المترجم في حجر أبيه وحفظ القـرآن والمتـون وحضـر دروس الشيـخ سالـم النقـراوي والشيـخ خليـل المالكـي وغيرهمـا وتفقه وحضر المعقول على كثيـر مـن الفضـلاء ومهـر وأنجـب درس وكـان جيـد الحافظـة قـوي الفهـم والغـوص علـى عويصـات المسائـل ودقائـق العلـوم مستحضـرًا للمسائـل الفقهيـة والعقليـة ولمـا بلغ المنتهى في العلوم المشهورة تاقت نفسه للعلوم الحكمية والرياضية فأحضره والده للشيخ الوالد سنة 1171 والتمس منه مطالعته عليه فأجابه إلى ذلك ورحب به وكان عمره إذا ذاك نيفًا وعشريـن سنـة‏.‏

ولمـا رأى مـا فيـه مـن الذكـاء والنجابـة والقوة الاستعدادية والجد في الطلب اغتبط به كثيرًا وصرف إليه همته وأقبل عليه بكليته وأعطاه مفتاح خزانة بالمنزل يضع فيها كتبه ومتاعه واشترى له حمارًا ورتب له مصروفًا وكسوة ولازمه ليلًا ونهارًا ذهابـًا وإيابـًا حتـى اشتهـر بنسبتـه إليـه فكـان يرسلـه فـي مهماتـه وأسـراره إلـى أكابـر مصـر وأعيانها مثل علي بك وعبد الرحمن كتخدا وغيرهما فيحسن الخطاب والجواب مع الحشمة وحسن المخاطبة مع معرفتهم بفضله وعلمه وكانوا يكرمونه‏.‏

ومدحهم بقصائد لم أعثر على شيء منها للإهمال وطول العهد فكان لا يذهـب إلـى داره إلا فـي النـادر بعـد حصـة مـن الليـل ويرجـع فـي الفجـر وينـزل إلـى الجامـع بعـد طلوع النهـار فيقـرأ درسيـن ثـم يعـود فـي الضحـوة الكبـرى فيقيـم إلـى العصـر فيذهـب إلـى الجامـع فيقـرأ درسًا في المعقول ثم يعود‏.‏

وهكذا كان دأبه إلى أن مات‏.‏

تلقى عنه فـن الميقـات والهيئـة والهندسـة وهدايـة الحكمـة وشرحهـا القاضـي زادة والجغمينـي والمبادي والغايات والمقاصد في أقل زمن مع التحقيق والتدقيق وحضر عليه المطول والمواقف والزيلعـي فـي الفقـه برواق الجبرت بالأزهر وغير ذلك كل ذلك بقراءته وعانى علم الأوفاق وتلقاه عن الشيـخ المرحـوم حتـى أدرك أسـراره وأقبلـت عليـه روحانيتـه‏.‏

وأجـازه الملـوي والجوهـري والحفنـي والعفيفـي وغيرهـم ولمـا نفـي علـي بك إلى النوسات إلى الشيخ فطلب منه أشياء يرسلها إليه مع المترجم فأرسله إليه وأقام عنده أيامًا ورجع من غير أن يعلم أحد بذهابه ورجوعه وكـان يكتـب الخـط الجيـد وجـوده علـى الشيـخ أحمـد حجـاج المعـروف بأبـي العـز‏.‏

وكتـب بخطه كثيرًا وألف حاشية على شرح العصام على السمرقندية وأجوبة عن الأسئلة الخمسة التي أوردها الشيـخ أحمـد الدمنهـوري علـى علمـاء العصـر وأعطاهـا إلى علي بك وقال له‏:‏ أعطها للعلماء الذين يترددون عليك يجيبوني عنها إن كانوا يزعمون أنهم علماء فأعطاهـا علـي بـك للشيـخ الوالـد وأخبره بمقابلة الشيخ الدمنهوري فقال له‏:‏ هذه وإن كانت من عويصات المسائـل يجيـب عنهـا ولدنـا الشيـخ محمد النقراوي‏.‏

والخمسة الأسئلة المذكورة‏:‏ الأول في إبطال الجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

الثاني في قول ابن سينا ذات الله نفس الوجود المطلق ما معناه‏.‏

الثالث في قول أبي منصور الماتريدي معرفة الله واجبة بالعقل مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبه‏.‏

الرابع في قول البرجلي إن من مات من المسلمين لسنا نتحقق موته على الإسلام‏.‏

الخامس في الاستثناء في الكلمة المشرقة هل هو متصل أو منفصل‏.‏

فأجاب عنها بأجوبة منطوية على مطار الأنظار دلت على رسوخه وسعة اطلاعه وغوصه ومعرفته بدقائق كلام أذكياء الحكماء والمتكلمين وفضلاء الأشعرية والماتريدية‏.‏

وعانى الرسم فرسم عدة بسائط ومنحرفات وحسب كثيرًا من الأصول والدساتير وتصدى لتعليم الطلبة الذين كانوا يردون مـن الآفـاق لطلـب العلـوم الغريبـة وكتـب شرحـًا علـى متـن نـور الإيضـاح فـي الفقـه الحنفـي باسـم الأميـر عبـد الرحمـن كتخـدا وله رسالة سماهـا الطـراز المذهـب في بيان معنىالمذهب وهي عبارة عن جواب على سؤال ورد من ثغر سكندريـة نظمـًا وكان له سليقة جيدة في النثر والنظم ولما ورد إلى مصر محمد أفندي سعيد قاضيًا في سنـة 1181 امتدحـه بقصيـدة بليغـة لـم أعثـر عليهـا وكـان بـه حـدة طبيعـة وهـي التـي كانـت سببـًا لموتـه وهـو أنـه حصـل بينـه وبيـن الشيـخ البجرمي منافسة فشكاه إلى الشيخ الدمنهوري وهو إذ ذاك الشيخ الجامع فأرسل إليه فلما حضر عنده في مجلسه بالأزهر فتحامل عليه فقام من عنـده وقـد أثـر فيـه القهـر ومـرض أيامـًا وتوفـي فـي شهـر جمـادى الثانيـة مـن السنـة‏.‏

واغتـم عليـه الشيـخ المرحومي غمًا شديدًا وتأثر لفراقه وحزن لموته وتوعك أيامًا بسبب ذلك‏.‏

ومات الإمام الفقيه العلامة المفتي الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الله الشرقاوي الشافعي تفقه علـى علمـاء عصـره وحضـر دروس الأشيـاخ المتقدمين كالملوي والحفني والبراوي والشيخ أحمد رزة والشيخ عطية الأجهوري وأنجب في الأصول والفروع الفقهية وتصدر ودرس وانقطع والإفتاء والقضاء بين المتخاصمين من أهل القرى للإفادة وأكثرهم من أهل بلاده وكان لا يفـارق محـل درسـه بالأزهـر مـن الشـروق إلـى الغـروب‏.‏

وانفـرد بالإفتـاء مـدة طويلـة علـى مذهبه وقلما يرى فتوى ومـات

أحـد أذكيـاء العصـر ونجبـاء الدهـر

مـن جمـع متفرقـات الفضائـل وحاز أنواع الفواضل الصالح الرحلة الشيخ علي بن محمد الجزائرلي المعروف بابن الترجمان ولد بالجزائر سنة 1100 وكـان ينتمي إلى الشرف وزاحم العلماء بمناكبه في تحصيل أنواع العلومن وأجازه الشيخ سيدي محمد المنور التلمساني رحمه الله ودخل الروم مرارًا وحظي بأرباب الدولة وأتى إلى مصر وابتنى بها دارًا حسنة قرب الأزهر وكان يخبرعن نفسه أنه لا يستغني عن الجماع في كل يوم فلذلـك مـا كـان يخلـو عن امرأة أو اثنتين حتى في أسفاره‏.‏

ولما ورد الأمير أحمد آغا أمينًا على دار الضرب بمصر المحروسة الذي صار فيما بعد باشا كان مختصًا بصحبته لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا وله عليه إغداقات جميلة وهو حسن العشرة يعرف في لسانهم قليلًا وتوجـه إلـى دار السلطنة وكانت إذا ذاك حركة السفر إلى الجهاد كتب هذا عرضحالًا إلى السلطان مصطفى صورته‏:‏ إن من قرأ استغاثة أبي مدين الغوت في صف الجهاد حصلت النصرة‏.‏

وقدمه إلى السلطـان فاستحسـن أن يكـون صاحـب هذا العرض هو الذي يتوجه بنفسه ويقرأ هذه الاستغاثة تبركـًا ففاجئـه الأمر من حيث لا يحتسب وأخذ في الحال وكتب مع المجاهدين وتوجه رغمًا عن أنفـه ووصـل إلـى معسكر المسلمين وصار يقرأ فقدر الله الهزيمة على المسلمين لسوء تدبير أمراء العسكـر فأسـر مـع مـن أسر وذهب به إلى بلاد موسقو وبقي أسيرًا مدة ولم يغثه أحد بخلاصه ومات الشيخ الصالح العلامة علي الفيومي المالكي شيخ رواق أهل بلاده حضر دروس الشيخ إبراهيم الفيومي وشيخنا الشي علي الصعيدي ودرس برواقهم وكان سريع الإدراك متين الفهم لـه فـي علـم الكلـام بـاع طويـل‏.‏

وتـزوج ابنـة الشيـخ أحمـد الحماقـي الحنفي وتوفى ثاني شهر رمضان من السنة ودفن بالمجاورين‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الصالح علي الشبيني الشافعي نزيل جرجا قرأ على جماعة من مشايخ عصـره وتكمـل فـي العربيـة والفقـه وتوجـه إلـى الصعيـد فخالـط أولـاد تمـام مـن الهوارة في بيج القرمون أحبـوه وسكـن عندهم مدة ثم سكن جرجا‏.‏

وكان يتردد أحيانًا إلى مصر وكان كثير الاجتماع بصهرنا علي أفندي درويش المكتب وكان يحكي لي عنه أشياء كثيرة من مآثره من الصلاح والعلـم وحسـن المعشـرة ومعرفـة التجويـد ووجوه القراءات‏.‏

فلما تغيرت أحوال الصعيد أتى المترجم إلـى مصـر وكان حسن المذاكرة والمرافقة مع مداومة الذكر وتلاوة القرآن غالبًا‏.‏

توفي تاسع عشر رمضان في بيت بعض أحبابه بعلة البطن وصلى عليه الشيخ أحمد بن محمد الراشدي ودفن بالمجاورين‏.‏

ومـات العمـدة الفاضل اللغوي الماهر المنشئ الأديب الشيخ عبد الله بن منصور التلباني الشافعي المعـروف بكاتـب المقاطعـة وهـو بـن أخـت الشيـخ المعمر أحمد بن شعبان الزعبلي ولد سنة 1098 تقريبًا وأدرك الطبقة الأولى من الشيوخ العزيزي والعشماوي والنفراوي‏.‏

وكانت له معرفة تامة بعلم اللغة والقراءة واقتنى كتبًا نفيسة في سائر الفنون وكان سموحًا بإعارتهـا لأهلهـا وكـان يعرف مظنات المسائل في الكتب‏.‏

وكان الأشياخ يجلونه ويعرفونه مقامه ولما دخل الشيخ ابن الطيـب أحبـه واغتبـط بـه وبصحبتـه وحصل حاشيته على القاموس في مجلدين حافلين استكتابًا وقـرظ علـى شـرح البديعـة لعلي بن تاج الدين القلعي ذكر فيه من نوع وسع الاطلاع له‏.‏

ولم يزل حتى فاجأته المنون في ثالث عشرين شعبان من السنة وصلي عليه بالجامع الأزهر ودفـن شرقي مقام سيدي عبد الله المتوفى بالمجاورين رحمه الله‏.‏

ومـات الأميـر الجليـل إبراهيـم أفنـدي الهياتـم جمليان مطعونًا في نهار الأربع ثالث عشرين المحرم من السنة‏.‏

سنة ست وثمانين ومائة وألف فيهـا فـي المحـرم خـرج علـي بـك إلـى جهـة البساتيـن كمـا تقـدم فـي أواخـر العـام الماضـي وعمل متاريس ونصـب عليهـا المدافـع مـن البحـر إلـى الجبـل واجتهـد فـي تشهيل تجريدة وأميرها علي بك الطنطاوي وصحبتـه باقـي الأمـراء الذيـن قلدهـم والعسكر فعدوا في منتصفه لمحاربة محمد بك أبي الذهب واسمعيـل بك ومن معهما‏.‏

وكانوا سائرين يريدون مصر فتلاقوا معهم عند بياضة ووقعت بينهم معركة قوية ظهر فيها فضل القاسمية وخصوصًا أتباع صالح بك وعلي أغا المعمار ووقعت الهزيمـة علـى عسكـر علي بك وساق خلفهم القبالي مسافة فمانعوا عن أنفسهم وعدوا على دير الطين وكان علي بك مقيمًا به فملما حصل ما حصل اشتد القهر بالمذكور وتحير في أمره وأظهـر التجلـد وأمـر بالاستعـداد وترتيب المدافع وأقام إلى آخر النهار وتفرق عنه غالب عساكره مـن المغاربـة وغيرهـم‏.‏

وحضـر محمـد بـك إلى البر المقابل لعلي بك ونصب صيوانه وخيامه تجاهه فتفكـر علـي بـك فـي أمـره وركـب عنـد الغـروب وسـار إلـى جهـة مصـر ودخـل من باب القرافة وطلع إلـى بـاب العـزب فأقـام بـه حصـة مـن الليـل‏.‏

وأشيـع بالمدينـة أن مراده المحاصرة بالقلعة‏.‏

ثم أنه ركب إلى داره وحمل حموله وأمواله وخرج من مصـر وذهـب إلـى جهـة الشـام وذلـك ليلـة الخامـس والعشريـن مـن شهـر المحـرم وصحبتـه علـي بـك الطنطـاوي وباقـي صناجقـه ومماليكـه وأتباعـه وطوائفـه‏.‏

فلمـا أصبح يوم الخميس سادس عشرينه عدى محمد بك إلى بر مصر وأوقدوا النار فـي ذلـك اليـوم فـي الديـر بعد ما نهبوه ودخل محمد بك إلى مصر وصار أميرها ونادى أصحاب الشرطة على أتباعه بأن لا أحد ياؤيهم ولا يتاويهم فكانت مدة غيبته سبعين يومًا‏.‏

وأرسل عبـد الرحمـن أغـا مستحفظـان إلى عبد الله كتخدا الباشا فذهب إليه بداره وقبض عليه وقطع رأسه ونادى بإبطال المعاملة التي ضربها المذكور بيد رزق النصراني وهي قروش مفرد ومجوز وقطـع صغـار تصـرف بعشر أنصاف وخمسة أنصاف ونصف قرش‏.‏

وكان أكثرها نحاسًا وعليها علامة علي بك‏.‏

وأما من مات في هذه السنة من العظماء‏.‏

فمات السيد الإمام العلامة الفقيه المحدث الفهامة الحسيب النسيب السيد علي بن موسى بن مصطفـى بـن محمـد بـن شمس الدين بن محب الدين بن كريم الدين بن بهاء الدين داود بن سليمان بـن شمـس الديـن ابـن بهـاء الديـن داود الكبيـر بـن عبـد الحفيظ بن أبي الوفاء محمد البدرى ابن أبي الحسـن علـي بـن شهـاب الديـن أحمـد بـن بهـاء الديـن داود بن عبد الحافظ ابن محمد بن بدر ساكن وادي النسـور بـن يوسـف بـن بـدران بـن يعقوب بن مطر بنزكي الدين سالم بن محمد بن محمد بن زيد بن حسن بن السيد عريض المرتضى الأكبر بن الإمام زيد الشهيد ابن الإمام علي زين العابدين ابن السيد الشهيد الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب الحسيني المقدسي الأزهري المصري ويعرف بابن النقيب لأن جدوده تولوا النقابة ببيت المقدس ولد تقريبًا سنة 125 ببيـت المقـدس وبهـا نشأ وقرأ القرآن على الشيخ مصطفى الأعرج المصري والشيخ موسى كبيبة علي عود ومحمد بن نسيبة الفضلي المكي وأخذ العلم عن عم أمه صاحب الكرامات حسين العلمـي نزيـل لـد وأبـي بكـر بـن أحمـد العلمـي مفتـي القـدس والشيخ عبد المعطي الخليلي ووصل إلى الشـام فحضـر دروس الشيـخ أحمـد المتيتـي والشيـخ اسمعيـل العجلوني والشيخ عبد الغني النابلسي واجتمع على الشيخ صالح البشيري الآخذ عن الخضر عليه السلام وعامر ابن نعير وأحمـد القطناني ومصطفى بن عمر والدمشقي‏.‏

وكان من الأبدال وأحمد النحلاوي وكان من أرباب الكشف ومحمـد بـن عميـرة الدمشقـي وعمـران الدمشقـي وزيـد اليعبـداوي وخليفـة بـن علـي اليعبداوي ورضوان الزاوي وأحمد الصفدي المجذوب والشيخ مصطفى بن سوار ودخل حماة فأخـذ عن القطب السيد يس القادري وحلب فأخذ بها عن أحمد البني وعبد الرحمن السمان كلاهما من تلاميذ الشيخ أحمد الكتبي وعن الشيخ محمد بن هلال الرامهداني والشيخ عبد الكريم الشرباتي وعاد إلى بيت المقدس فاجتمع بالشيخ عبد الغني النابلسي أيضًا وبالسيد مصطفـى البكـري بحلـب حيـن كـان راجعـًا مـن بغداد فأخذ عنه الطريقة ورغبه في مصر فوردها وحضر على الشمس السجيني ومصطفى العزيزي والسيـد علـي الضريـر الحنفـي وأحمـد بـن مصطفى الصباغ والشهابين الملوى والجوهري والشمس الحنفي وأحمد العماوي وشيخ المذهب سليمان المنصوري وأجازه سيدي يوسف بن ناصر الدرعي وأحمد العربي وأحمد بن عبد اللطيف زروق وسيدي محمد العياشي الأطروش والشيخ ابن الطيب في آخريـن ورأس فـي المذهب وتمهر في الفنون ودرس بالمشهد الحسيني في التفسير والفقه والحديث واشتهر أمره وطـار صيتـه‏.‏

وكـان فقيهـًا فـي المذهـب بارعًا في معرفة فنونه عارفًا بأصوله وفروعه ويستنبط الأحكام بجودة ذهنه وحسن حافظته ويكتب على الفتاوى برائق لفظه‏.‏

وكانت له في النثر طريقـة غريبـة لا يتكلـف فـي الأسجـاع وإذا سئـل عـن مسألة كتب عليها الجواب أحسن من الروض جـاد بـن الغمـام وأغـزر مـن الوبـل ساعـده نـوء النعـام‏.‏

ويكتـب فـي الترسل على سجية بادرة وفكرة علـى السرعـة صـاددة وكـان ذا جـود وسخـاء وكـرم ومروءة ووفاء لا يدخل في يده شيء من متاع الدنيا إلا وبذله لسائليه وأغدق به على معتفيه وكان منزله الذي قرب المشهد الحسيني موردًا للآملين ومحطًا لرجال الوافدين مع رغبته في الخيل المنسوبة وحسن معرفته لأنسابهـا وعـزوه لأربابها‏.‏

وكان اصطبله دائمًا لا يخلو من اثنين أو ثلاثة يركب عليها ويضمرها ويعتني بأحوالها ويرغب في شرائها لمعرفته بالفروسية في رمي السهام واستعمال السلاح واللعب بالرماح وغير ذلـك‏.‏

ولمـا ضـاق عليـه منزلـه لكثـرة الوفـاد عليـه ولكثـرة ميلـه إلـى ربـط الخيول انتقل إلى منزل واسع بالحسينيـة فـي طـرف البلـد بنـاء علـى أن الأطـراف مساكـن الأشـراف فسكنـه وعمـر فيـه وفـي الزاويـة التي قرب بيتـه وصـرف عليهـا مـالًا كثيـرًا‏.‏

وفـي سنـة 1177 استخـار اللـه تعالـى فـي التوجـه إلـى دار السلطنة لأمور أوجبت رحلته إليها منها أنه ركبت عليه الديون وكثر مطالبوها وضاق صدره من عدم مساعدة الوقت له وكان إذ ذاك محل تدريسه بالمشهد الحسيني وعزم عبد الرحمن كتخـدا علـى هدمه وإنشائه على هذه الصورة ورأي أن هذه البطالة تستمر أشهرًا فوجد فرصة وتوجـه إليهـا وقـرأ دروسـًا فـي الحديـث فـي عـدة جوامـع واشتهـر هناك بالمحدث وأقبلت عليه الناس أفواجًا للتلقي وأحبته الأمراء وأرباب الدولة وصارت له هناك وجاهة‏.‏

إلا أنه كان في درسه ينتقل تارة إلى الرد العنيف على أرباب الأموال والأكابر وملـوك الزمـان وينسبهـم إلـى الجـور والعـدوان وانحرافهـم عـن الحـق فوشى به الحاسدون فبرز الأمر بخروجه من البلد وكان قد تزوج هنـاك فعـاد إلـى مصـر‏.‏

فلمـا وصل إلى بولاق ذهب إليه جماعة من الفضلاء واستقبلوه‏.‏

واستقر في منزله وعاد إلى دروسه في المشهد وذلك سنة 1183 ولم يترك عادته المألوفة من إكرام الضيوف وبذل المعروف وكان لا يصبر على الجماع وعنده ثلاث نسوة شامية ومصرية ورومية وإذا خـرج إلـى الخـلاء أو بعض المنتزهات أخذ صحبته من يريدها منهن ونصب لها خيمة وألف الاغتسـال مـدة إقامتـه يومـًا أو يوميـن أو أكثـر‏.‏

واتفـق لـه فـي آخـر أمـره أنه ذهب عند محمد بك أبي الذهب وكان في ضائقة فحادثه الأمير على سبيـل المباسطـة وقـال لـه‏:‏ كيـف رأيـت أهـل اسلامبول فقال‏:‏ لم يبق بإسلامبول ولا بمصر خير ولا يكرمون الأشرار الخلق وأما أهل العلم والأشراف فإنهم يموتـون جوعـًا‏.‏

ففهـم الأميـر تعريضـه وأمـر لـه بمائـة ألـف نصـف فضـة مـن الضربخانة فقضى منها بعض ديونه وأنفق باقيها على الفقراء وعاش بعدها أربعين يومًا وتعلل بخراج أيامًا وأحضروا له رجلًا يهوديًا فقصده بمشتر قيل أنه مسموم فكان سببًا لموته‏.‏

وتوفي عصـر يـوم الأحـد سـادس شهـر شعبـان مـن السنـة وجهـز فـي صبـح يـوم الاثنين وصلى عليه بالأزهر فـي مشهـد حافـل ودفـن بمقبـرة بـاب النصـر علـى أكمـة هنـاك‏.‏

ولمـا مـات أحضـر له الناس من الأعيان عـدة أكفـان وكـل منهـم يريد أن لا يوضع إلا في كفنه فأخذوا من كل كفن قطعة وكفنوه في مجموع ذلـك جبـرًا لخواطرهـم‏.‏

وأعطـى الأميـر محمـد بـك لأخيـه مولانـا السيـد بـدر الديـن عندمـا أخبـره بموته خمسمائة ريال لتجهيزه ولوازمه‏.‏

وجلس مكانه في الدار أخوه السيد بدر المذكور وتصدره مكانه لإملاء درس الحديث النبوي بمسجـد المشهـد الحسينـي وأقبلـت عليـه النـاس والأعيـان ومشى على قدم أخيه وسار سيرًا حسنًا وجرى على نسقه وطبيعته في مكارم الأخلاق وإطعـام الطعـام وإكـرام الضيفان والتردد إلى الأعيان والأمراء والسعي في حوائج الناس والتصدي لأهل حارته وخطته في دعاويهم وفصل خصوماتهم وصلحهم والذب عنهم ومدافعة المتعدى عليهم ولو من الأمراء والحكام في شكاويهم وتشاجرهم وقضاياهم حتى صار مرجعًا وملجأ لهـم فـي أمورهـم ومقاصدهـم وصـار لـه وجاهـة ومنزلـة فـي قلوبهـم ويخشـون جانبه وصولته عليهم‏.‏

ثم إنه هدم الزاوية وما بجانبها وأنشأها مسجدًا نفيسًا لطيفًا وعمل به منبرًا وخطبة ورتب به إمامًا وخطيبًا وخادمًا وجعل بجانبه ميضاه ومصلى لطيفة يسلك إليهما من باب مستقل وبها كراسي راحة وأنشأ بجانب المسجد دارًا نفيسة وانتقل إليهـا بعيالـه وتـرك الـدار التـي كانـت سكنه مع أخيه لأنها كانت بالأجرة وبنى لأخيه ضريحًا بداخل ذلك المسجد ونقله إليه وذلك سنة 1205‏.‏

فلما كانت الحوادث سنة 1213 واستيلاء الفرنسيس على الديار المصرية وقيام سكـان الجهـة الشرقيـة مـن أهل البلد وهي القومة الأولى التي قتل فيها دبوي قائمقام تحركت في السيـد بدر الدين المذكور الحمية وجمع جموعه من أهل الحسينية والجهات البرانية وانتبذ لمحاربة الإفرنـج ومقاتلتهـم وبـذل جهـده فـي ذلـك‏.‏

فلمـا ظهر الإفرنج على المسلمين لم يسع المذكور الإقامة وخرج فارًا إلى جهة البلاد الشامية وبيت المقدس وفحص عنه الإفرنج وبثوا خلفه الجواسيس فلم يدركـوه فعنـد ذلـك نهبـوا داره وهدمـوا منهـا طرفـًا وكـل تخريبهـا أوبـاش الناحيـة وخربـوا المسجـد وصـارت فـي ضمـن الأماكـن التـي خربهـا الفرنسيـس بهـدم مـا حـول السـور مـن الأبنية ثم في الواقعة الكبيرة الثانية عندما حضر الوزير والعساكر الرومية ورجعوا بعد نقض الصلح بدون طائـل كمـا يأتي تفصيل ذلك‏.‏

فلما حضروا ثانيًا بمعونة الانكليز وتم الأمر وسافر الفرنسيس إلى بلادهم ورجع المذكور إلى مصر وشاهد ما حصل لداره ومسجده من التخريب أخذ في أسبـاب تعميرهمـا وتجديدهمـا حتـى أعادهمـا أحسن مما كانا عليه قبل ذلك وسكن بها وهو الآن بتاريـخ كتابـة هذا المجموع سنة 1220 قاطن بها ومحله مجمع شمل المحبين ومحط رحال القاصدين بارك الله فيه‏.‏

ومات الفقيه المفنن العلامة الشيخ علي بن شمي الدين بن محمد بن زهران بن علي الشافعي الرشيـدي الشهير بالخضري ولد بالثغر سنة أربع وعشرين وأمه آمنة بنت الحاج عامر بن أحمد العراقي وأمها صالحة بنت الشريف الحـاج علـي زعيتـر أحـد أعيـان التجـار برشيـد حفـظ المترجـم الزبـد والخلاصـة وسبيـل السعـادة والمنهـج إلى الديات والجزرية والجوهرة وسمع علي الشيخ يوسـف القشاشـي الجزريـة وابـن عقيـل والقطـر وعلـى الشيـخ عبـد اللـه بـن مرعـي الشافعي في شوال سنة إحدى وأربعين جمع الجوامع والمنهج وألقى منه دروسًا بحضرته ومختضر السعد واللقاني على جوهرته وشرح ابنه عبـد السلـام والمنـاوي علـى الشمائـل والبخـاري وابـن حجـر علـى الأربعين والمواهب وعلى الشمس محمد بن عمر الزهيري معظم البخاري دراية والمواهب وابن عقيل والأشموني على الخلاصة وجمع الجوامع والمصنف على أم البراهين ونصف الغفراوي على الرسالة والبيضاوي إلى قوله تعالى وإذا وقع القول فكلمه بعد موته‏.‏

وفي سنـة ثمـان وثلاثيـن وفـد علـى الثغـر الشيـخ عطيـة الأجهـوري فقـرأ عليـه العصـام فـي الاستعـارات مع الحفيد وعلى الشيخ محمـد الأدكـاوي شـرح السيطـوي علـى الخلاصـة والشنشـوري علـى الرحبيـة والتحريـر لشيخ الإسلام ثم قدم الجامع الأزهر سنة ثلاث وأربعين فجاور ثلاث سنوات فسمع علي الشيخ مصطفى العزيزي شرح المنهج مرتين والخطيب والشمائل وأجـازه بالإفتـاء والتدريس في رجب سنة ست وأربعين وكان به بارًا رحيمًا شفوقًا بمنزلة الوالد حتى بعد الوفاة‏:‏ وجرت له معه وقائع كثيرة تدل على حسن توجهه له دون غيره من الطلبة‏:‏ وسمـع علـى السيـد علـي الحنفـي الضريـر الأشمونـي وجمـع الجوامع والمغني وبعض المنفرجة والقسطلاني على البخارى وتصرف العزى وعلى الشمس محمد الدلجي المغني كله قراءة بحث والخطيـب وجمـع الجوامـع وعلى الشيخ علي قايتباي الخطيب فقط وعلى الشيخ الحفني الخطيب والمنهج وجمع الجوامع والأشموني ومختصر السعد وألفية المصطلح ومعراج الغيطي وعلى أخيه الشيـخ يوسـف الأشمونـي والمختصـر ورسالـة الوضـع وعلـى الشيـخ عطية الأجهوري المنهج والمختصر والسلم وعلى أحمد الشبراملسي الشافعي المختصر والتجرير وبعض العصام ومنظومة في أقسام الحديث الضعيف وعلى الشيخ محمد السجيني الشمائل وموضع من المنهج وأجازه الشيـخ الشبـراوي بالكتـب الستـة بعد أن سمع عليه بعضًا منها ورجع عن فتواه مرتين في وقفين وعلى الشيخ أحمد بن سابق الزعبلي النمهج كله مرتين وعلى الشيخ أحمد المكودى كبـرى السنوسي وبعض مختصره دراية وعلى الشيخ محمد المنور التلمساني شيخ المكودى المذكور أم البراهين دراية وعلى الشيخ أحمد العماوى المالكي بعض سنن أبي داود وجمع الجوامع والمغني والأزهريـة‏.‏

ولمـا رجـع إلـى الثغـر لازم الشيخ شمس الدين الغوى خطيب جامع المحلي فسرد عليه معظـم متـن الزبـد والنمهـج وشرحـه والشنشورى ومتن العباب وهو الذي عرفه به وبطريق تركيب الفتاوى أسئلة وأجوبة‏.‏

وكان يقول‏:‏ لا بد للمبتلي بالإفتاء من العباب لوضوحه واستيعابه‏.‏

وأجازه الشيخ شلبي البرلسي والشيخ عبد الدائم بن أحمد المالكي وأحمد بن أحمد بن قاسم الوني‏.‏

ولـه مؤلفـات جليلـة منهـا شـرح لقطـة العجلـان وحاشيـة علـى شـرح الأربعيـن النوويـة للشبشيـرى أجـاد فيهـا كـل الإجـادة وقد رأيت كلًا منهما بالثغر عند ولده السيد أحمد توفي في خامس عشرين شعبان من السنة‏.‏

ومات الشاب الصالح والنجيب الأريب الفالح العلامة المستعد النبيه الذكي الشيخ محمد بن عبد الواحد بن عبد الخالق البناني أبوه وجده وعمه من أعيان التجار والثروة بمصر نشأ في عفـة وصلاح وحفظ القرآن والمتون وحبب إليه طلب العلم فتقشف لذلك وتجرد ولازم الحضور والطلب ودأب واجتهد في التحصيل وسهـر الليـل وكـان لـه حافظـة جيـدة وفهـم حـاد وقـوة استعدادية وقابلية فأدرك في الزمن اليسير ما لم يدركه غيره في الزمن الكثير ولازم شيخنا الشيخ محمد الجناجي المعروف بالشافعي ملازمة كلية وتلقى عنه غالب تحصيله فـي الفقـه والمعقول والمنطق والاستعارات والمعاني والبيان والفرائض والحساب وشبـاك ابـن الهاثـم وغيـر ذلـك وحضـر دروس الشيـخ الصعيـدي والدرديـر وغيرهـم حتـى مهـر وأنجب ودرس واشتهر بالفضـل وعمـل الختـوم وحضـره أشيـاخ العصـر وشهـدوا بفضلـه وغـزارة علمه وانتظم في عداد أكابر المحصلين والمفيدين والمستفيدين ولم يزل هذا حاله حتى وافاه الحمام وانمحق بدره عند التمام ومـات مطعونـًا فـي هـذه السنـة وهـو مقتبـل الشبيبـة لـم يجـاوز الثلاثيـن عوضـه اللـه الجنـة وهو ابن عم الإمام العلامة الشيخ مصطفى بن محمد بن عبد الخالق من أعيان العلماء المشاهير بمصر الآن بارك الله فيه‏.‏

ومات الفقيـه الفاضـل المحقـق الشيـخ أحمـد بـن أحمـد الحمامـي الشافعـي الأزهـري ولـد بمصـر واشتغـل بالعلـم مـن صغـره ومـال بكليتـه إليه وحبب إليه مجالسة أهله فلازم الشيخ عيسى البراوى حتـى مهـر وتفقـه عليه وحضر دروس الشمس الحفني والشيخ علي الصعيدى وغيرهما وأجـازوه وحـج فـي سنة خمس وثمانين مرافقًا لشيخنا الشيخ مصطفى الطائي ورجعا إلى مصر وتصدر للتدريس والإفتاء في حياة شيوخه ودرس وأفاد‏.‏

وكان أكثر ملازمته لزاوية الشيخ الخضرى ويقرأ درسًا بالصرغتمشية وانتفع به جماعة وله حاشيـة علـى الشيـخ عبـد السلـام مفيدة وأخرى على الجامع الصغير للسيوطي لم تتـم وكـان ذا صلـاح وروع وخشيـة مـن اللـه وسكون ووقار‏.‏

توفي يوم الأربعاء تاسع ربيع الأول من السنة ودفن ثاني يوم بمشهد عظيم بالقرب من السادة المالكية‏.‏

ومات الإمام الصوفي العارف المعمر الشيخ علي بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القدوس ابـن القطـب شمس الدين محمد الشناوى الروحي الأحمدى المعروف ببندق ولد قبل القرن وأخذ عن عميه محمد العالم وعلي المصري وهما عن عمهما الشمس محمد بن عبد القدوس الشهير بالدناطي عن ابن عمه الشهاب الخامي ومسكنهم بمحلة روح وهو شيخ مشايخ الأحمدية في عصره‏.‏

وانتهت إليه الرياسة في زمنه وعاش كثيرًا حتى جاوز المائة ممتعًا بالحواس وكان له خلـوة فـي سطـح منزلـه ولهـا كـوة مستقبلـة طندتـا بيـن يديهـا فضاء واسع يرى منها آثار طندتا وهو مستقبـل القبلـة فـي حـال جلوسـه ونومـه ونظـره إلـى تلـك الكـوة‏.‏

وأخبرنـي أولـاده أنـه هكذا هو مستمر علـى هـذه الطريقـة مـن مـدة طويلـة‏.‏

توفـي فـي أوائـل جمـادى الأولـى مـن السنة واجتمع بمشهده غالب أهل البلاد من المشايخ والأعيان والصلحاء من الآفاق والسيد محمد مجاهد الأحمدي والشيخ محمد الموجه والسيد أحمد تقي الدين وغيرهم ودفن عند أسلافه بمحلة روح‏.‏

ومـات الأميـر خليـل بـك ابـن إبراهيـم بـك بلفيـا تقلـد الإمـارة والصنجقية بعد موت والده وفتح بيتهم وأحيا ما آثرهم وكان أهلًا للإمارة ومحلًا للرئاسة وتقلد إمارة الحج في سنة إحدى وثمانين ورجع في أمن وسخاء وطلع أيضًا في السنة الثانية ومات بالحجاز ورجع بالحج أخوه عبد الرحمن أغا بلفيا‏.‏

ومـات الأجـل المكـرم الرئيـس محمـد تابـع المرحـوم محمـد أوده باشـه طبـال مستحفظان ميسو الجداوي وهو زوج الجدة أم المرحوم الولد تزوج بها بعد موت الجد في سنة 1114 وقطن بها ببندر جدة وأولدها حسينًا ومحمدًا وتوفي سنة أربع وخمسين عن ولديه المذكورين وأخيهما محمـود مـن أبيهمـا وعتقائـه ومنهـم المترجـم قرباه ابن سيدة وهو العم حسين فأنجب وعانى التجارة ورئاسة المراكب الكبار ببحر القلزم حتى صار من أعيان النواخيـد الكبـار واشتهـر صيتـه وذكره وكثر ماله وبنى دارًا بمصر بجوار المدارس الصالحية واشترى المماليك والعبيد والجواري وصـار لـه دار بمصـر وبجـدة ولـم يـزل حتـى توفـي بالشـام وهـو راجـع إلـى مصـر ووصـل نعيـه فـي سابع عشرين ربيع الثاني رحمه الله‏.‏

ومـات الخواجـا الصالـح المعمر الحاج محمد بن عبد العزيز البنداري وكان إنسانًا حسنًا وهو الذي عمر العمارة والمساكن بطندتا واشتهرت به‏.‏

توفي في غرة ربيع أول بعد تعلل رحمه الله تعالى‏.‏

سنة سبع وثمانين ومائة وألف فيها تواترت الأخبار والإرجافـات بمجـيء علـي بـك مـن البلـاد الشاميـة بجنـود الشـام وأولـاد الظاهر عمر فتهيأ محمد بك للقائه وبرز خيامه إلى جهة العادلية ونصب الصيوان الكبير هناك وهـو صيـوان صالـح بـك وهـو في غاية العظم والاتساع والعلو والارتفاع وجميعه بدوائره من جوخ صاية وبطانته بالأطلس الأحمر وطلائعه وعساكره من نحاس أصفر مموه بالذهب‏.‏

فأقام يومين حتى تكامل خروج العسكر ووصل الخبر بوصول علي بك بجنوده إلى الصالحية فارتحل محمد بك في خامس شهر صفر فالتقيا بالصالحية وتحاربا فكانت الهزيمة على علي بك وأصابته جراحـة فـي وجهـه فسقـط عـن جواده فاحتاطوا به وحملوه إلى مخيم محمد بك وخرج إليه وتلقاء وقبل يده وحمله من تحت إبطه حتى أجلسه بصيوانه‏.‏

وقتل علي بك الطنطاوي وسليمان كتخـدا وعمـر جاويـش وغيرهـم وذلـك يـوم الجمعـة ثامـن شهـر صفـر ووصل خبر ذلك إلى مصر في صبـح يـوم السبـت وحضـروا إلـى مصر وأنزل محمد بك أستاذه في منزله الكائن بالأزبكية بدرب عبد الحق وأجرى عليه الأطباء لمداواة جراحاته‏.‏

وفي خامس عشر صفر وصل الحجاج ودخلوا إلى مصر وأمير الحاج إبراهيم بك محمد‏.‏

وفـي تلـك الليلة توفي الأمير علي بك وذلك بعد وصوله بسبعة أيام قيل أنه سم في جراحاته فغسل وكفن ودفنوه عند أسلافه بالقرافة‏.‏

وفي سابع عشر ربيع الأول وصل الوزير خليل باشا والي مصر واطلع إلى القلعة في موكب عظيم وذلك يوم الخميس تاسع عشرة وضربوا له مدافع وشنكا من الأبراج‏.‏

وكان وصوله من طريق دمياط فعمل الديوان وخلع الخلع‏.‏

ومات في هذه السنة الشيخ الإمام الصالح العلامة المفيد الشيخ أحمد ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسن الجوهري الخالدي الشافعي ولد بمصر سنة 1132 وبها نشأ وسمع الكثير من والده ومن شيخ الكل الشهاب الملوى وآخرين‏.‏

وتصدر في حياة أبيه للتدريس وحج معـه وجـاور سنـة وكـان إنسانـًا حسنًا ذا مودة وبر وشهامة ومروءة تامة وأخلاق لطيفة‏.‏

توفي بعد أن تعلـل أيامـًا فـي حـادي عشـرى ربيـع الـأول وصلـي عليـه بالجامـع الأزهر بمشهد حافل ودفن مع والده بالزاوية القادرية بدرب شمس الدولة‏.‏

ومات المبجل المفضل الإمام العارف صاحب المعرف علي بن محمد بن القطب الكامل السيد محمـد مـراد الحسيني البخاري الأصل الدمشقي الحنفي ويعرف بالمرادي نسبة لجده المذكور ولد بدمشق وأخذ عن أبيه وغيره من العلماء كعلي بن صادق الداغستاني وغيره وكـان إنسانـًا عظيم الشأن ساطع البرهان طيب الأعراق كريم الأخلاق منزله مأوى القاصدين ومحط رجال الوارديـن وهـو والـد خليـل أفنـدي المفتي بدمشق نزل عنده السيد العيدروس فأكرمه وبره ولم يزل ومات الماهر الأديب الشاعر الكاتب المنشئ الشيخ إبراهيم بن محمد سعيد بن جعفر الحسني الإدريسـي المنوفـي المكـي الشافعـي ولـد فـي آخـر القـرن الحادي عشر بمكة وأخذ عن كبار العلماء كالبصـري والنخلـي وتـاج الدين القلعي والعجمي ثم من الطقة التي تليه مثل علي السخاوي وابن عقيلـة فـي آخريـن مـن الوارديـن علـى الحرميـن من آفاق البلاد وأعلى ما عنده إجازة الشيخ إبراهيم الكوراني له وله شعر نفيس وقد جمع في ديوان وبينه وبين السيد جعفـر البيثـي والسيـد العيدروس مخاطبات ومحاورات ودخلـل الهنـد بسفـارة صاحـب مكـة فأكـرم وعـاد إلـى مكـة وولي كتابة السر لملكها وكان يكاتب رجال الدولة على لسانه على اختلاف طبقاتهم وكان قلمه كلسانه سيالًا وربما شرع في كتابة سورة من القرآن وهو يتلو سورة أخرى بقدرها فلا يغلط في كتابته ولا في قراءته حتى تتما معًا وهذا من أعجب ما سمعت‏.‏

وكان له مهارة ومعرفـة فـي علـم الطـب وأمـا إنشاءاتـه فإليهـا المنتهـي فـي العذوبـة وتناسـب القوافي‏.‏

وأما في نظمه فهو فريد عصر لا يجاريه فيه مجار ولا يطاوله مطاول‏.‏

ومات البارع المقرئ المجود المحدث الشيخ عبد القادر بن خليل بن عبد الله الرومي الأصـل المدني المعروف بكدك زاده ولـد بالمدينـة سنـة 1140 وبهـا نشـأ وحفـظ القـرآن وجـوده علـى شيخ القراء شمس الدين محمد السجاعي نزيل المدينة تلميذ البقري الكبير وحفظ الشاطبية واشتغل بالعلم على علماء بلده والواردين عليه سمع أكثر كتب الحديث على الشيخين ابن الطيـب ومحمـد حيـاة بقراءته عليهما في الأكثر ولازم الشيخ ابن الطيب ملازمة كلية حتى صار معيدًا لدروسه وكان حسن النغمة طيب الأداء ولي الخطابة والإمامة بالروضة المطهرة وكان ذا تقدم إلى المحراب في الصلوات الجهرية تزدحم عليه الخلق لسماع القرآن منه ثم ورد إلى مصر فأدرك الشيخ المعمر داود بن سليمان الخربتاوي فتلقى منه أشياء وأجـازه وذلـك فـي سنـة 168 وحضـر الشيـخ الملـوي والجوهـري والحنفـي والبليـدي وحمل عنهم الكثير وتزوج ثم توجه إلى الروم ثم عاد إلى المدينة فلم يقر له بها قرار ثم أتى إلى مصر ودار على الشيوخ البقية ثانيًا وأخذ عنهـم وأحبه السيد اسمعيل بن مصطفى الكماخي وصار يجلس عنده أيامًا في منزله الملاصق لجامع قوصون فشرع في أخذ خطابته له فاشترى له الوظيفة فخطب به على طريقة المدينة وازدحمت عليه الناس وراج أمره وتزوج ثم توجه إلى الروم وباع الوظيفة وانخلع عما كان عليه وجلس هناك مدة وسمع السلطان قراءته في بعض المواضع في حالة التبديل فأحب أن يكون إمامـًا لديـه وكـاد أن يتـم ذلك فأحس إمام السلطان بذلك فدعاه إلى منزله وسقاه شيئًا مما يفسد الصـوت حسدًا عليه فلما أحس بذلك خرج فارًا فعاد إلى مصر واشتغل بالحديث وشرع في عمل المعجم لشيوخه الذين أدركهم في بلده وفي رحلاته إلى البلاد‏.‏

ودخل حلب فاجتمع بالشيخ أبي المواهب القادري وقرأ عليه شيئًا من الصحيح وأجازه وأخذ عن السيد المعمر إبراهيم بن محمد الطرابلسي النثيب ومن درويش مصطفى الملقي ودخل طرابلس الشام وأخذ الإجازة منن الشيخ عبد القادر الشكعاوي ودخل خادم ‏"‏ إحدى قرى الروم ‏"‏ فاجتمع بالشيخ المعـروف بمفتي خادم ورام أن يسمع منه الآولية فلم يجد عنده إسنادًا وإنما هو من أهل المعقول فقط ورجع إلى مصر فاجتمع بشيخنا السيد مرتضى وتلقى عنه الحديث واهتم في جمع رجاله وتمهر في الإسناد وجمع من ذلك شيئًا كثيرًا في مسودات بخطه ثم عاد إلى الحرمين ومنهما إلى أرض اليمن فاجتمع بمن بقي من الشيوخ وأخذ عنهم ودخل صنعاء ومدح كلًا من الوزير والإمام بقصيدة فأكرم بها واجتمع على علمائها وتلقى عنهم وصار بينه وبين الشيخ أحمد قاطن أحد علمائها محاورات ثم دخل كوكيان فاجتمع على فريد عصره السيد عبـد القادر بن أحمد الحسني من بيت الأئمة ودخل شبام فاجتمع على السيد إبراهيم بن عيسى الحسني واللحية فاجتمع بها على الشيخ عيسى زريق وذلك في سنة 1185 وعاد إلى مصر بالفوائد الغزار وبما حمل في طول غيبته من النوادر والأسرار وفي هذه الخطرات التي ذكرت دخل الصعيد من طريق القصير واجتمع على مشايخ عربان الهوارة ومدحهم بقصائد طنانة وأكرموه وله ديوان جمع فيه شعره ومدح به الأكابر والأولياء وكان عنده مسودة بخطه وهذا قبل أن يسافر إلى الشام والروم واليمن والصعيد فقد تحصل له في هذه السفرات كلام كثير مفـرق لـم يلحقـه بالديـوان وكـان كلمـا نـزل فـي موضـع ينشـئ فيه قصيدة غريبة في بابها وكان يغوص على المعاني بفكرة الثاقب فيستخرجها ويكسوها حلة الألفاظ ويبرزها أعجوبة تلعب بالعقول وتعمل عمل الشمول فلله دره من بليغ لم يبلغ معاصروه شأوه ولو أقام في موضع كغيره لاطلع ضياه ولكنه ألف الغربة وهانت عنده الكربة فلم ينال بخشن ولا لين ولم يكترث بصعب ولا هيـن وأجـازه الشيـخ محمـد السفارينـي إجـازة طويلـة في خمسة كراريس فيها فوائد جمة‏.‏

وللم يزل تتنقل به الأحوال حتى سافر إلى القدس الشريف فمكث هناك قليلًا وزار المشاهد الكرام ومراقد الأنبياء عليهم السلام ثم ارتحل إلى نابلس فنزل في دار السيد موسى التميمي وهو إذ ذاك قاضـي البلـد فأكرمـه وآواه واحترمـه‏.‏

ومـرض أيامـًا وانتقـل إلـى رحمـة اللـه تعالـى في سلخ جمادى الثانيـة منهـا ووصـل نعيـه إلـى مصر وكانت معه كتبه وما جمعه في سفره من شعره والعجم الذي جمعه في الشيوخ والأجراء والأماني التي حصلها وضاع ذلك جميعه ولله في خلقه ما أراد‏.‏

ومات العمدة الشاب الصالح الشيخ محمد بن حسن الجزايرلي ثم المدني الحنفي الأزهري ولد بمكة إذ كان والده يتجر بالحرمين في حدود الستين وقد به إلى مصر فلازم الشيخ حسن المقدسـي مفتـي الحنفيـة ملازمـة كليـة وانضوى إليه فقرأ عليه المتون الفقهية ودرجه في أدنى زمن إلـى معرفـة طـرق الفتـوى حتـى كان معيدًا لدروسه وكاتبًا لسؤالاته وربما كتب على الفتوى بأذن شيخـه‏.‏

وفـي أثنـاء ذلك حضر في المعقول على الشيخ الصعيدي والشيخ البيلي والشيخ محمد الأمير وغيرهما من مشايخ الوقت وحصـل طرفـًا مـن العلـوم وصـارت لـه الشهـرة فـي الجملـة وأعطاه شيخه تدريس الحديث بالصرغتمشية فكان في كل جمعة يقرأ فيه البخاري وزوجه امـرأة موسـرة لهـا بيـت بالأزبكيـة‏.‏

وبعـد وفـاة شيخـه تصـدر للأقـراء فـي محلـه وصار ممن يشار إليه ولم يزل حتى مات في عنفوان شبابه في هذه السنة ويقال أن زوجته سمته‏.‏ ومـات

الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة

والحوادث المشهورة وهو مملوك إبراهيم كتخدا تابع سليمان جاويش تابع مصطفى كتخدا القازدغلي تقلد الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه في سنة 1168 وكان قوي المراس شديد الشكيمة عظيم الهمة لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى لا يميل لسوى الجد ولا يحب اللهو ولا المزاح ولا الهزل ويحب معالي الأمور من صغره‏.‏

واتفق أن بعض ولاة الأمور تشاوروا في تقليده الإمارة فنقل إليهم مجلسهم وذكر له مساعدة فلان وممانعة فلان فقال‏:‏ أنا لا أتقلد الإمارة إلا بسيفي لا بمعونـة أحـد‏.‏

ولـم يـزل يرقى في مدارج الصعود حتى عظم شأنه وانتشر صيته ونما ذكره وكان يلقـب بجـن علـي ولقب أيضًا ببلوط قبان وانضم إلى عبد الرحمن كتخدا وأظهر له خلوص المحبة وأغثـر هو أيضًا به وظن صحة خلوصه فركن إليه وعضده وساعده ونوه بشأنه ليقوى به على نظرائـه مـن الاختياريـة والمتكلميـن‏.‏

واتفـق أنـه وقـع بيـن أحمـد جاويـش المجنـون تابعه وبين أهل وجاقه حادثة نقموا عليه فيها وأوجبوا عليه النفي بحسب قوانينهم واصطلاحهم وأعرضوا الأمر على عبـد الرحمـن كتخدا أستاذه فعارض في ذلك ولم يسلم لهم في نفي أحمد جاويش ورأى ذلك نقصًا في حقه فتلطف به بعضهم وترجوا في إخراجه ولو إلى ناحية ترسا بالجيزة أيامًا قليلة مراعـاة وحرمـة للوجاق فلم يرض وحنق واحتد‏.‏

فلما كان في اليوم الثاني واجتمع عليه الأمراء والأعيان على عادتهم قال لهم‏:‏ أيها الأمراء من أنا أجابه الجميع بقولهم‏:‏ أستاذنا وابن أستاذنا وصاحب ولائنا‏.‏

قال‏:‏ إذا أمرت فيكم بأمر تنفذوه وتطيعوه قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ علي بك هذا يكون أميرنا وشيخ بلدنا ومن بعد هذا اليوم يكون الديوان والجمعية بداره وأنا أول من أطاعه وآخـر مـن عصـى عليه‏.‏

فلم يسعهم إلا قبول ذلك بالسمع والطاعة وأصبح راكبًا إلى بيت علي بـك وتول الديوان والجمعية إليه من ذلك اليوم واستفحل أمره ولم يمض على ذلك إلا مدة يسيرة حتى أخرج أحمد جاويش المذكور وحسن كتخدا الشعراوي وسليمان بك الشابوري كما تقدم ثم غدر به أيضًا وأخرجه إلى الحجاز من طريق السويس وأرسل معه صالح بك ليوصله إلى ساحـل القلـزم فلمـا شيعه هناك أرسل بنفي صالح بك إلى غزة ثم رد إلى رشيد ومنها ذهب إلـى منيـة ابـن خصيـب وتحصـن بهـا وجـرد عليه المترجم التجاريد ولم يزل ممتنعًا بها حتى تعصب علـى المترجـم خشداشينـه وأخرجـوه منفيـًا إلـى النوسـات ثـم وجهـوه إلـى السويـس بعـد قتـل حسـن بـك الأزبكـاوي ثـم منهـا إلـى الجهـة القبليـة بعـد قتـل عثمـان بـك الجرجـاوي وانضـم إلـى صالح بك وتعاقد معه وحضر معه إلى مصر وقتل الرؤساء من أقرانه ثم غدر بصالح بك أيضًا كما تقدم مجمل ذلـك ثـم نفى باقي الأعيان وفرق جمعهم في القرى والبلدان وتتبعهم خنقًا وقتلًا وأبادهم فرعًا وأصـلًا وأفنـى باقيهـم بالتشريـد وجلـوا عـن أوطانهـم إلـى كـل مكـان بعيـد واستأصـل كبار خشداشينه وقبيلته وأقصى صغارهم عن ساحته وسدته‏.‏

وأخرب البيوت القديمة وأخـرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة والرواتب التي من سالف الدهر كانت منظمة وقتل الرجال واستصفى الأموال وحارب كبار العربان والبوادي وعرب الجزيرة والهنادي وأعاظم الشجعان ومقادم البلدان وشتت شملهم وفرق جمعهم واستكثر من شراء المماليك وجمع العسكـر مـن سائـر الأجنـاس واستخلـص بلـاد الصعيد وقهر رجالها الصناديد ولم يزل يمهد لنفسه حتى خلص له ولأتباعه الإقليم المصري من الإسكندرية إلى أسوان ثم جرد عساكره إلى البلاد الحجازية ونفذ أغراضه بها ثم التفت إلى البلاد الشامية وتابع إرسال البعوث والسرايا والتجاريد إليها وقتل عظماءها وكبراءها وولاتها واستولت أتباعه على البلاد الشامية حتى أنهم أقاموا في حصار يافا أربعة أشهر حتى ملكوها وعمر قلـاع الإسكندريـة ودميـاط وحصنهـا بعساكـره ومنع ورود الولاة العثمانيين وكان يطلع كتب الأخبار والتواريخ وسير الملوك المصرية ويقول لبعض خاصته‏:‏ إن ملوك مصر مثلنا مماليك الأكراد مثل السلطان بيبرس والسلطان قلـاون وأولادهـم وكذلـك ملـوك الجراكسـة وهـم مماليـك بني قلاون إلى آخرهم كانوا كذلك وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب ونفاق أهلها‏.‏

وينوه ويشير بمثل هذا القول بما في ضميره وسريرته ولو لم يخنه مملوكه محمد بك لرد الأمور إلى أصولها وكان لا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين مثل محمد أفندي باشا الراقم ومرتضى أغا وأحمد أفندي يجالسونه بالنوبة في أوقات مخصوصة مع غاية التحـرز فـي الخطـاب والمسامـرة بوجيـز القـول وكاتـب إنشائه العربي الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري وكاتبه الرومي مصطفى أفندي الأشقر ونعمان أفندي وهو منجمه أيضًا ويجل من العلماء المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الحماقي وكاتبه القبطي المعلم رزق بلغ في أيامه من العظمة ما لم يبلغه قبطي فيما رأينا ومن مسقاته كرع المعلم إبراهيم الجوهري وأدرك ما أدركه بعده في أيام محمد بك وأتباعه من بعده وتتبع المفسدين والذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالـات وعاقبهـم بالضـرب الشديـد والإهانـة والقتـل والنفـي إلى البلاد البعيدة‏.‏

ولم يراع في ذلك أحدًا سواء كان متعممًا أو فقيهًا أو قاضيًا أو كاتبًا أو غير ذلك بمصر أو غيرها من البناذر والقرى وكذلك المفسدون وقطاع الطريق من العرب وأهل الحوف ألزم أرباب الأدراك والمقادم بحفظ نواحيهـم ومـا فـي حوزهـم وحدودهـم وعاقـب الكبـار بجنايـة الصغـار فأمنـت السبـل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وإيذائهم بحيث أن الشخص كان يسافر بمفرده ليلًا راكبـًا أو ماشيـًا ومعـه حمـل الدراهـم والدنانير إلى أي جهة ويبيت في الغيط أو البرية آمنًا مطمئنًا لا يـرى مكروهـًا أبـدًا‏.‏

وكـان عظيـم الهيبـة اتفـق لأناس ماتوا فرقًا من هيبته وكثيرًا من كان تأخذه الرعـدة بمجـرد المثـول بيـن يديـه فيقـول لـه‏:‏ هـون عليـك ويلاطفـه حتى ترجع له نسه ثم يخاطبه فيما طلبـه بصـدده وكـان صحيـح الفراسـة شديـد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بني المتخاصمين ولا يحتاج في التفيهم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق بل يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيهـا أو يمزقهـا‏.‏

وألبـس سراجينـه قواويـق فتلـى بالفـاء من جوخ أصفر تمييزًا لهم عن غيرهم من سراجين أمرائه ولم يزل منفردًا في سلطنة مصر لا يشاركه مشارك في رأيه ولا في أحكامه وأمراؤها وحكامها مماليكه وأتباعه فلم يقنع بما أعطاه مولاه وخوله من ملك مصر بحريها وقبليها الذي افتخرت به الملوك والفراعنة على غيرها من الملوك وشرهت نفسه وغرته أمانيه وتطلبت نفسه الزيادة وسعة المملكة وكلف أمراءه الأسفار وفتح البلـاد حتـى ضاقـت أنفسهـم وشمـوا الحروب والغربة والبعد عن الوطن فخالف عليه كبير أمرائه محمد بك ورجع بعد فتح البلاد الشامية بدون استئذان منه واستوحش كل من الآخر فوثب عليه وفر منه إلى الصعيد وكان ما كان من رجوعه بمن انضم إليه وخامر معه وكانت الغلبة له على مخدومه وفر منه إلى الشـام وجنـد الجنود وقصد العود لمملكته ومحل سيادته فوصل إلى الصالحية‏.‏

وخرج إليه محمد بـك وتلاقيـا وأصيـب المترجـم بجراحـة فـي وجهـه وأخـذ أسيـرًا وقتـل مـن قتـل من أمرائه ورجع محمد بك وصحبته مخدومه المذكور محمولًا تخت فأنزلوه في داره بدرب عبد الحق فأقام سبعة أيام ومات والله أعلم بكيفية موته‏.‏

وكان ذلك في منتصف شهر صفر من السنة‏.‏

فغسل وكفن وخرجـوا بجنازتـه وصلـى عليـه بمصلـى المؤمنيـن فـي مشهـد حافـل ودفـن بتربـة أستـاذه إبراهيـم كتخدا بالقرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي ومدفنهم مشهور هناك وبواجهته سبيل يعلوه قصر مفتح الجوانـب‏.‏

ومـن مآثـره العمـارة العظيمـة بطندتـا وهـي المسجد الجامع والقبة على مقام سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه والمكاتب والميضأة الكبيرة والحنفيات وكراسي الراحة المتسعة والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة النافذة من الجهتين وما بها من الحوانيت للتجار وسميت هناك بالغورية لنزول تجار أهل الغورية بمصر في حوانيتها أيام مواسع الموالد المعتادة لبيع الأقمشة والطرابيش والعصائب وكان المشد على تلك العمارة المعلم حسن عبد المعطي وكان من الرجال أصحاب الهمم وولاه سدانة الضريح عوضًا عن أولـاد سعـد الخـادم لسوء سيرتهم وظلمهم فنكبهم المترجم وأخذ ما أمكنه أخذه من مالهم وهو شيء كثير وأنفقه في هذه العمارة ووقـف عليهـا أوقافـًا ورتـب بالمسجـد عـدة مـن الفقهـاء والمدرسيـن والطلبة والمجاورين وجعل لهم خبزًا وجرايات وشوربة فـي كـل يـوم وجـدد أيضـًا قبـة الإمـام الشافعـي رضـي اللـه عنـه وكشف ما عليها من الرصاص القديم من أيام الملك الكامل الأيوبي في القرن الخامس وقد تشعث وصدئ لطول الزمان فجدد ما تحته من خشب القبة البالي بغيره من الخشبالنقي الحديث ثم جعلوا عليـه صفائـح الرصـاص المسبـوك الجديـد المثبـت بالمساميـر العظيمة وهو عمل كثير‏.‏

وجدد نقوش القبة من داخل بالذهب واللازورد والأصباغ وكتب بإفريزها تاريخًا منظومًا صالح أفندي‏.‏

وهدم أيضًا الميضأة التي كانت من عمارة عبد الرحمن كتخدا وكانت صغيرة مثمنة الأركان ووسعها وعمل عوضها هذه الميضأة الكبيرة وهي مربعة مستطيلة متسعة وبجانبها حنفية وبزابيز يصب منها الماء وحول الميضأة كراسي راحة بحيضان متسعـة تجـري مياهها إلى بعضها وماؤها شديد الملوحة‏.‏

ومن إنشائه أيضًا العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها من يجري إلى قبلي وبالعكس وخانًا عظيمًا يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط فحفروا أساس جميع هذه العمارة حتـى بلغـوا المـاء ثـم بنـوا لهـا خنازيـر مثـل المنـارات مـن الأحجـار والدبـش والمؤمـن وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الأرض الصحيحة ثم ردموا ذلك الخندق المحتوي على تلك الخنازير بالمؤن والأحجار واستعلوا عليه بعد ذلك بالبناء المحكم بالحجـر النحيب وعقدوا العقود والقواصر والأعمدة والأخشاب المتينة‏.‏

وكان العمل في سنة خمس وثمانيـن‏.‏

ومـات المترجـم قبـل إتمامها وبناء أعاليها‏.‏

وكانت هذه العمارة من أشام العمائر لأن النيل انحسر بسببها عن ساحل بولاق وبطل تياره واندفع إلى ناحية انبابة ولم تزل الـأرض تعلـو والأتربـة تزيـد فيمـا بيـن زاويـة تلـك العمـارة إلـى شـون الغلـال ويزيـد نومها في كل سنة حتى صار لا يركبها الماء إلا في سنين الغرق‏.‏

ثم فحش الأمر وبنى الناس دورًا وقهاوي في بحرى العمارة وسبحوا إلى جهة قرب الماء مغربين وألقوا أتربة العمائر وما يحفرونه حول ذلك واقتدى بهم الترابة وغيرهم ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وكلما فعلوا ذلك هرب الماء وضعف جريانه وربت الأرض وعلت وزادت حتى صارت كيمانًا تنقبض النفوس مـن رؤيتهـا‏.‏

وتمتلـئ المنافـس مـن عجاجها وخصوصًا في وقت الهجير بعد أن كانت نزهة للناظرين‏.‏

ولقد أدركنا فيما قبل ذلك تيارًا لنيل يندفع من ناحية بولاق التكرور إلى تلك الجهة ويمر بقوته تحت جدران الدور والوكائل القبلية وساحل الشون ووكالة الأبزار وخضرة البصل وجامع السنانية وربع الخرنوب إلى الجيعانيـة وينعطـف إلى قصر الحلي والشيخ فرج صيفًا وشتاء ولا يعوقه عائق ولا يقدر أحد أن يرمي بساحل النيل شيئًا من التراب فإن اطلع الحاكم على ذلك نكل به أو بخفير تلك الناحية وهـذا شـيء قـد تودع منه ومن أمثاله وآخر من أدركنا فيه هذا الالتفات والتفقد للأمور الجزئية التي يترتب بزيادتها الضرر العام عبد الرحمن أغا مستحفظان فإنه كان يحذو طريق الحكام السالفين إلى أن ضعفت شوكته بتآمر الأصاغر وقيد حكمه بعد الإطلاق وترك هـذا الأمـر ونسي بموته وتقليد الأغاشم وتضاعف الحال حتى أن بعض الطرق الموصلة إلى بولاق سدت بتراكم الأتربـة التـي يلقيهـا أهـل الأطـارف خـارج الـدروب ولا يجـدون مـن يمنعهـم أو يردعهـم وقدرت علو الأرض بسبب هذه العمارة زيـادة عـن أربـع قامـات فإننـا كنـا نعـد درج وكالـة الأبزارييـن مـن ناحيـة البحر عندما كنا ساكنين بها قبل هذه العمارة نيفًا وعشرين درجة وكذلك سلـم قيطـون بيـت الشيخ عبد الله القمري وقد غابت جميعها تحت الأرض وغطتها الأتربة ولله عاقبة الأمور‏.‏

ومن إنشاء المترجم داره المطلة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق التي مات بها والحوض والساقية والطاحون بجوارها وهي الآن مسكن الست نفيسة‏.‏

وبالجملة فأخبار المترجـم ووقائعـه وسيرتـه لو جمعت من مبدأ أمره إلى آخره لكانت مجلدات وقد ذكرنا فيما تقدم لمعًا من ذلك بحسب الاقتضاء مما استحضره الذهن القاصر والفكر المشوش الفاتر بتراكم الهموم وكثرة الغموم وتزايد المحن واخطلاط الفتن واختلال الدول وارتفاع السفل ولعل العود يخضر بعد الذبول ويطلع النجم بعد الأفول أو يبسم الدهر بعد كشارة أنيابه أو يلحظنا منن نظره المتغابي في أيابه‏:‏ زمن كأحلام تقضى بعده زمـن نعلـل فيه بالأحلام ولله في خلقه مـن قديـم الزمـان عـادة وانتظـار الفـرج عبـادة نسألـه انقشـاع المصائـب وحسـن العواقب‏.‏

ومات سلطان الزمان السلطان مصطفى بن أحمد خان تولى السلطنة في سنة 171 فكانت مدة سلطنته ست عشرة سنة وكانت لـه عنايـة ومعرفـة بالعلـوم الرياضيـة والنجوميـة ويكـرم أرباب المعارف‏.‏

وكان يراسل المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري ويهاديهما ويرسل إليهما الصلات والكتب وأرسل مرة إلى الشيخ الوالـد ثلاثـة كتـب مكلفـة مـن خزانتـه وهـي كتـاب القهستانـي الكبيـر وفتـاوى انقـروي ونور العين في إصلاح جامع الفصولين كلاهما في الفقه الحنفي وله مؤلف في الفن دقيق ينسب إليه‏.‏

وتولى بعده السلطان عبد الحميد خان جعل الله أيامه سعيدة‏.‏

ومات الأمير علي بك الشهير بالطنطاوي وهو من مماليك علي بك المذكور وكان من الشجعان المعروفيـن والفرسـان المشهوريـن ولـم ينافـق علـى سيـده مـع المنافقيـن ولـم يمـرق مـع المارقين ولم يزل مع مخدومه فيما وجهه إليه حتى قتل بالصالحية بين يديه‏.‏

ومات الرئيس المبجل الأمير اسمعيل أفندي الروزنامجي رئيس الكتبة بمصر وكان إنسانًا حسنًا منـور الوجـه والشيبة ضابطًا محررًا خيرًا أصيب بوجع في عينيه فوعده الحاج سليمان الحكاك بشـيء مـن الكحـل وأودعـه فـي ورقـة وضعهـا فـي طـي عمامتـه وكـان بهـا ورقـة أخـرى فـي شـيء مـن السليمانـي لم يتذكرها وهو أبيض والكحل أيضًا أبيض فلما حضر عندما خرج الورقة التي بها السليماني من عمامته وأعطاه له وأمره يكتحل منها وقت النوم يظنها أنـه ورقـة الكحـل ثـم انصـرف إلـى داره‏.‏

فلمـا نـزع عمامته وقت النوم رأى ورقة الكحل وتذكر عند ذلك الأخرى فلم يمكنه الذهاب والتدارك ليلًا لبعد المكان وفوات الوقت والمسكين صلى العشاء واكتحل من الورقة فزال بصره في الحال واستمر مكفوفًا إلى أن مات سحر ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجـة مـن آخـر السنـة وصلـي عليـه مـن الغـد بسبيل المؤمنين ودفن بقبره الذي أعده لنفسه بالقرب من بن أبي جمرة عوضه الله الجنة‏.‏

ومات الرجل الصالح الأمير مراد أغا تابع قيطاس بك القطامشي وكـان منجمعـًا عـن النـاس راضيًا بحاله قانعًا بمعيشته ملازمًا على حضور الجماعة والصلوات في المسجد‏.‏

توفي يوم الأربعاء سابع عشرين شوال وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن بالقرافة عند الطحاوي‏.‏

ومـات الأميـر حسـن كتخـدا مستحفظـان القازدغلي الملقب بقرا وكان من الأمراء الكبار أصحـاب الحـل والعقـد بمصـر فـي الزمـن السابـق وانقطـع فـي بيته عن المقارشة والتداخل في الأمور وكان مريضًا بمرض الأكلة في فمه ولذلك تركه علي بك وأهمله حتى مات يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة عن ذلك المرض وورم في رجليه أيضًا ودفن في يومه ذلك بالقرافة‏.‏

ومات أيضًا مصطفى أفندي الأشقر كاتب ديوان علي بك خنقه خليل باشا بالقلعة في سابع عشرين جمادى الأولى بموجب مرسوم من الدولة حضر بطلب رأسه ورأس عبد الله كتخدا ونعمـان أفنـدي ومرتضـى أغـا فوجـد محمـد بـك أمضـى الأمـر فـي عبـد الله كتخدا وقطع رأسه في منزلـه بيـد عبـد الرحمـن أغـا ونعمـان أفنـدي ذهـب إلى الحجاز إثر موت علي بك وكذلك مرتضى أغا اختفى وتغيب وذهب من مصر ولم يعلم له مكان واستمر المترجم فطلبه الباشا فلما حضر إليه أمر بخنقه فخنقوه وسلخوا رأسه ودفنوه بالقرافة وأخذ موجوداته الباشا إلى الميرى‏.‏

ومات الأجل المبجل الضابط الماهر اسمعيل بن عبد الرحمن الرومي الأصل ثم المصرب المكتب الملقـب بالوهبـي شيـخ الخطاطيـن بمصـر كتـب الخـط وجوده على شيخ عصره السيد محمد النوري وبرع واجتهد واشتغل قليلًا بالعلم وكتبي بيده المصاحف مرارًا‏.‏

وأما نسخ الدلائل والأحزاب والـأوراد السبعـة فممـا لا يحصـى كثـرة وكـان إنسانـًا حسنـًا بشوشـًا محبـًا للنـاس فيـه مكارم الأخلاق وطيب النفس كتب عليه غلاب من بمصر من أهل الكتابة وكان صاحب نفس وهمة عاليـة‏.‏

وكـان يلـي منصـب سيـده فـي الخدمـة العسكرية وكتب عدة ألواح كبار وتوجه بها بإشارة بعـض أمراء مصر إلى المدينة المنورة‏.‏

فعلقها في المواجهة الشريفة بيده ونال بهذه الزيارة الشريفة والخدمة المنيفة سرورًا وشرفًا‏.‏

ولما كانت سنة 1181 أتى الأمر من صاحب الدولة بتوجيه بعض عساكر مصرية تقوية للمجاهدين‏.‏

فكان هو من جملة المعينين فيهم رئيسًا في طائفتهم فتوجـه إلـى الإسكندريـة وركـب منهـا إلـى الـروم وأبلـى فـي تلـك السفر بلاء حسنًا‏.‏

وبعد مدة أذن لهم بالانصراف فعاد إلى مصر وقد وهنت قواه واعترته الأمراض وزاد شكواه وهو مع ذلك يكتب ويفيد ويجيز ويعيد ويحضر مجالس أهل الخط على عادته‏.‏

وجلس ملازمًا لفراشه مدة حتى وافاه الحمام ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجة فجهز وصلي عليه بمشهد حافل في مصلـى المؤمنيـن ودفـن عنـد ابـن أبي جمرة قرب العياشي في قبر كان أعده لنفسه منذ مدة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله‏.‏

استهلت ووالي مصر خليل باشا محجور عليه ليس له في الولاية إلا الاسم والعلامـة علـى الأوراق والتصرف الكلي للأمير الكبير محمد بك أبي الذهب والأمراء وأعيان الدولة مماليكه وأشرافاتـه والوقـت فـي هدوء وسكون وأمن والأحكام في الجملة مرضية والأسعار رخية وفي الناس بقية وستائر الحياء عليهم مرخية شعر‏:‏ وما الدهر في حال السكون بساكن ولكنه مستجمع لوثوب ومات في هذه السنة الإمام العلامة والتحرير الفهامة حامل لواء العلوم على كاهل فضله ومحرر دقائق المنطوق والمفهوم بتحريره ونقله من تكحلت بحبره عيون الفتوى وتشنفت المسامع بما عنه يروى وارتفع من حضيـض التقليـد إلـى ذرا الفضائـل وسابـق فـي حلبـة العلـوم فحـاز قصـب الفواضـل الـروض النضير الذي ليس له في سائر العلوم نظير وهو في فقه النعمان الجامع الكبير عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام سيدي ووالدي بدر الملة والدين ابي التدائي حسن بن برهان الديـن إبراهيـم ابـن الشيخ العلامة حسن ابن الشيخ نور الدين علي بن الولي الصالح شمس الدين محمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحمن الزيلعي الجبرتي العقيلي الحنفي وبلاد الجبرت هي بلاد الزيلع بأراضي الحبشة تحت حكم الخطي ملك الحبشة وهم عدة بلاد معروفة تسكنها هذه الطائفة وهم المسلمون بذلك الإقليم ويتمذهبون بمذهب الحنفي والشافعي لا غير وينسبون إلى سيدنا أسلم بـن عقيـل بـن أبـي طالـب وكـان أميرهـم فـي عهـد النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم النجاشـي المشهور الذي آمن به ولم يره وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغيبة كما هو مشهور في كتب الأحاديث وهم قوم يغلب عليهم التقشف والصلاح ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمجاورة في طلب العلم ويحجون مشاة ولهم رواق بالمدينة المنورة ورواق بمكة المشرفة ورواق بالجامع الأزهر بمصر وللحافـظ المقريـزي مؤلـف فـي أخبـار بلادهـم وتفصيـل أحوالهـم ونسبهم‏.‏

ومنهم القطب الكبير والمعتقد الشهير الشيخ اسمعيل بن سودكين الجبرتي تلميذ الشيـخ ابـن العربـي ويسمـى قطـب اليمـن والشيخ عبد الله الذي ترجمه الحافظ السيوطي في حسن المحاضرة وهـو الذي كان يعتقده الملك الظاهر برقوق وأوصى عند موته بأن يدفن تحت قدمه بالصحراء ومنهم الولي العارف الشيخ علي الجبرتي الذي كان يعتقده السلطان الأشرف قايتباي وارتحل إلى بحيرة ادكو فيما بين رشيد والإسكندرية وبنى هناك مسجدًا عظيمًا ووقف عليه عدة أماكن وقيعان وأنوال حياكة وبساتين ونخيل كثيرة وهو موجود إلى الآن عامر بذكر الله والصلاة وهـو تحـت نظـر الفقير إلا أن غالب أماكنه زحفت عليها الرمال وطمستها وغابت تحتها وفيه إلى الآن بقية صالحة‏.‏

وبنى أيضًا مسجدًا شرقي عمارة السلطان قايتباي ودفن به وقد خرب وانطمست معالمه ولم يبق إلا مدفنه وحوله حائط منهدم من غير باب ولا سقف وقبره ظاهر مكشوف يزار وللناس فيه اعتقاد عظيم‏.‏

ومن كراماته التي أكرمه الله بها أنه يرى على قبره في بعض الليالي المظلمة نور مثل القنديل المستنير يري ذلك سكان العمارة وغيرهم وهو أمر مشهور ومنها أن السفار وقوافل الأعراب ينزلون بأحمالهم حول قبره في الحوطة ويتركونها من غير حارس ليالي وأيامًا آمنين فلا يتعدى عليها سارق البتة ويعتقدون العطب للجاني في بدنه أو ماله وهو أمر مشهور أيضًا مقرر في أذهانهم إلى الآن‏.‏

ومنهـم الإمام الحجة المجتهد الفقيه الأصولي الجدلي صاحب التصحيح والترجيح فخر الدين أبي عمر وعثمان الحنفي الزيلعي شارح الكنز المسمى بتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق المدفون بحوطة سيدي عقبة بن عامر الجهني والشيخ الزيلعي الشافعي المدفون بالقرافة الكبرى وغير هؤلاء كثيـر ببلادهـم وبـأرض الحجـاز ومصـر والقصـد بذلـك التعريـف بالنسبـة قـال تعالـى‏:‏ ‏"‏ وجعلناكـم شعوبـًا وقبائـل لتعارفـوا إن أكرمكـم عنـد الله أتقاكم ‏"‏‏.‏

والنجاشي أول من آمن بالنبي صلـى اللـه عليـه وسلم من الملوك ولم يره وأسلم على يد ابن عمه جعفر بن أبي طالب وزوجه أم حبيبة رضي الله عنها وجهزها من عنده وأرسلها للنبي صلى الله عليه وسلم من الحبشة إلى المدينة ومن أراد الإطلاع على أخبار النجاشي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلـم وهدايـاه إلـى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم وهدايا النبي إليه وبعض أخبار الحبشة وما ورد فيهـم من الآيات والأحاديث والآثار فلينظر في كتاب الطراز المنقوش في محاسن الحبوش للإمام العلامة علاء الدين محمد بن عبد الله البخاري خطيب المدينة المنورة ورفع شأن الحبشان للعلامة جلال الدين السيوطي وتنوير الغبش في فضائلي السودان والحبش لابن الجوزي وفي تفسير البغوى أخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مات النجاشي كما نحدث أنـه لا يـزال يـرى علـى قبـره نـور وفـي أزهـار العـروش فـي من عرف اسمه من الصحابة الحبوش ومن عبيدة صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنهم أحد كبار المجاهدين والمهاجرين بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولى أبي بكر الصديق وهو أول من أذن الإسلام وأول من ثوب في الفجر كما في الأوائـل للسيوطـي وكـان خـازن رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم على بيت المال كما في تهذيب الأسماء واللغـات وكـان يبـدل الشين بالسينن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنه‏:‏ شين بلال سيـن عنـدي وعنـد اللـه‏.‏

وكـان عمـر بـن الخطـاب رضـي اللـه عنـه يقـول‏:‏ كـان أبـو بكـر سيدنا وأعتق سيدنـا يعنـي بلـالًا‏.‏

وروى عنـه كثيـر مـن كبار الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وجابر وأبو سعيد الخدري وكعب بن عرفجة والبراء ابن عازب وغيرهم وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

ومنهم شقران بضم الشيـن المعجمـة مولـى رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم وأمـا خدامـه منالحبشة الأحرار فكثيرون وكذلك الصحابيات من إمائه وأهل بيته‏.‏

ومنهم أم أيمن ذات الهجرتين وهي مرضعته وحاضنته وحليمة السعدية وثويبة وبركة جارية أم حبيبـة وبريـرة مولـاة عائشـة رضـي اللـه عنهـا وتبعة جارية أم هانئ بنت أبي طالب وغفرة وسعيرة كذلك عبيد الصحابة‏.‏

ومنهـم مهجع بكسر الميم وفتح الجيم مولى عمر بن الخطاب وهو أول من استشهد ببدر وكان مـن المهاجريـن الأوليـن وعـده النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم مـن سادات أهل الجنة وقال في شأنه يوم قتل سيد الشهداء‏:‏ مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة‏.‏

ومنهـم أسلـم مولـى عمـر بـن الخطاب وأيمن الحبشي المكي والدعبد الواحد ابن أيمن وبسار مولى المغيـرة بـن شعبـة أخـرج الحسـن بـن محمـد الخلـال فـي كرامـات الأوليـاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قـال‏:‏ دخلـت علـى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فقـال لـي‏:‏ يـا أبـا هريـرة يدخـل علي الساعة من هذا البـاب رجـل مـن أجـل السبعـة الذيـن يدفع الله عز وجل عن أهل الأرض بهم الأذى‏.‏

فإذا حبشي قـد طلـع مـن ذلـك البـاب أقـرع أجـدع علـى رأسه جره فيها ماء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا هريرة هو هذا‏.‏

ثم قال مرحبًا بيسار ثلاث مرات وكان يرش المسجد ويكنسه ومات في عهده صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الصحابة الأحرار من الحبوش الأخيار الذين كانوا يخدمون الرسول وأصحابه وأهل بيته فكثيـرون جـدًا لا يمكـن استيعابهـم فـي هذا الاستطراد ضبطًا وعددًا وكذلك أبناء الحبشات من قريش من الصحابة والتابعين وأهل البيت الطاهرين والخلفاء العباسيين ومن ولد بأرض الحبشة من الصحابة من الحبشان مثل صفوان ابن أمية بن خلف الجمحي وعمرو ابن العاص وغيرهما مثـل عبـد اللـه بـن جعفر بن أبي طالب وهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة بالاتفاق وكان يسمـى بحـر الجـود وأخباره في السخاء والكرم مشهورة والحرث بن حاطب الصحابي ومحمد بن حاطب وعمرو بن أبي سلمة وفي الحبوش أخلاق لطيفة وشمائل ظريفة وفيهم الحذق والفطانة ولطافة الطباع وصفاء القلوب لكونهم من جنس لقمان الحكيم وهم أجناس منهم السحرتـي والأمحـري وهـم أحسـن أجنـاس الحبـوش الموصوفيـن بالصباحـة والملاحـة والفصاحـة والسماحـة والنعومـة فـي الخـد والرشاقـة فـي القـد وللـه در الشيـخ العلامـة القاضـي عبـد البـر ابـن الشحنة الحنفي حيث يقول‏:‏ فطفقت أسأل عن نعومة ما خفى قالت فما تبغيه جنسي أمحري والأمحرية تفوق على السحرتية باللطف والظف والسحرتية تفوق على الأمحرية بالشدة والعنف فبينهما عموم وخصوص مطلق وقيل أن النجاشي منهم رضي الله عنه ويقال أن بني أرفدة الذين لعبوا بحرابهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفازوا بخطابه أعني قوله لهم دونكم يا بني أرفدة منهم ويقرب من هذين النوعين نوعان آخران نوع الدموات وبلين ونوعان آخران وهما قمو وقتر ونوع آخر يسمى إزاره‏.‏

عود وانعطاف إن الشيـخ عبـد الرحمـن وهـو الجد السابع لجامعه واليه ينتهي علمنا بالأجداد هو الذي ارتحل من بلـاده ووصـل إلينـا خبـره سلفـًا عـن خلـف فقدم من طريق البحر إلى جدة وانتقل إلى مكة فجاور بهـا‏.‏

وحـج مـرارًا وذهب أيضًا إلى المدينة المنورة فجاور بها سنتين ولقي من لقي بالحرمين من الأشياخ وتلقى عنهم ثم رجع إلى جدة وحضر إلى مصر من طريق القلزم فدخل إلى الجامع الأزهر في أوائل العاشر وجاور بالرواق ولازم حضور الأشياخ واجتهد في التحصيل وتولى شيخًا على الرواق والتكلم على طائفته وتزوج وولد له‏.‏

فلما مات خلف ولده الشيخ شمس الدين محمد ونشـأ علـى قـدم الصلـاح والاشتغـال بطلـب العلـم وتولـى مشيخـة الـرواق كوالـده وأنجب وقرأ دروسًا في الفقه والمعقول بالرواق وكان على غاية من الصلاح وملازمة الجماعة والسنن ولا يبيت عند عياله ليلـة أو ليلتيـن فـي الجامعـة وغالـب لياليـه يبيتهـا بالـرواق لأجـل الاشتغال بالمطالعة أول الليل على السهارة والتهجد آخره‏.‏

ومما اتفق له وعـد مـن كراماتـه أن السراج انطفأ في بعض الليالي الشتوية فأيقظ النقيب ليسرج له سراجًا فقام من نومه متكرهًا وأخـذ قنديـلًا وذهـب ليسرجـه فلما عاد به وقرب من الرواق رأى نورًا فستر ذلك القنديل ونظر إليـه مـن بعـد لينظـر مـن أيـن أتـاه الأسـراج فوجـده يطالـع فـي الكـراس وهـو فـي يـده اليسار وسبابة يده اليمن رافعها وهي تضيء مثل الشمعة المستنير ويطالع في نورها‏.‏

ثم دخل النقيب بالقنديل فاختفى ذلك الضوء وعلم الشيخ ذلك من النقيب فعاتبه على التجسس وأشار إليه بكتمان سـره ولـم يغـش الشيـخ بعـد ذلـك إلا قليـلًا‏.‏

وتوفـي إلـى رحمـه اللـه تعالـى‏.‏

وخلف ابنه الشيخ علي فنشأ أيضًا على قد أسلافه في ملازمة العلم والعمل وصار شهرة وثروة وتزوج بزينب بنت الإمـام العلامـة القاضـي عبـد الرحمـن الجوينـي ولـم يـزل مواظبـًا علـى شأنـه وطريقـة أسلافـه حتى توفي وخلف ولديه الإمام العلامة الشيخ حسن الذي تقدم ذكر ترجمته المتوفى سنة 1097 وأخاه الشيخ عبد الرحمن ومات في حياة أخيه سنة 1086 وكان لزينب الجوينية أماكن جارية في ملكهـا وقفتهـا علـى ولـدي زوجهـا المذكوريـن‏.‏

ولمـا توفـي الشيخ حسن أعقب الجد إبراهيم وضيعًا فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ العمدة الضابط محمد بن عمر المنزلي الأنصاري فنشأ أيضـًا نشـوءًا صالحـًا حتـى بلـغ الحلم فزوجوه بستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدلجي فس سنة 108 وبنـى بهـا فـي تلـك السنـة وحملـت بالمترجـم وولدتـه فـي سنـة عشـر ومائـة وألف ومات والده وعمره شهر واحد وسن والده إذ ذاك ست عشرة سنة فربته والدته بكفالة جدته أم أبيه المذكورة وصاية الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي وقرروه في مشيخة الرواق كأسلافه والمتكلم عند الوصي المذكور فتربى في حجورهم حتى ترعرع وحفظ القرآن وعمره عشر سنين واشتغل بحفـظ المتـون فحـظ الألفيـة والجوهـرة ومتـن كنـز الدقائـق فـي الفقـه ومتـن السلم والرحبية ومنظومة ابن الشحنـة فـي الفرائـض وغيـر ذلك‏.‏

واتفق له في أثناء ذلك وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنه مر مع خادمـه بطريـق الأزهـر فنظـر إلـى شيخ مقبل منور الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار طاعن في السـن والناس يزدحمون على تقبيل يده ويتبركون به فسأل عنه وعرف أنه ابن الشيخ الشرنبلالي فتقدم إليه ليقبل يده كغيره فنظر إليه الشيخ وتوسمه وقبض على يده وقال‏:‏ من يكون هذا الغلام ومن أبوه فعرفوه عنه فتبسم وقال‏:‏ عرفته بالشبه‏.‏

ثم وقف وقال‏:‏ اسمع يا ولدي أنا قـرأت علـى جـدك وهـو قـرأ على والدي وأحب أن تقرأ علي شيئًا وأجيزك وتتصل ببننا سلسلة الإسناد وتلحق الأحفاد بالأجداد‏.‏

فامتثل إشارته ولازم الحضور عنده في كل يوم وقرأ عليه متـن نـوح الإيضـاح تأليـف والـده في العبادات وكتب له الإجازة ونصها‏:‏ الحمد لله الذي أنعم على عبده بتوفيقه وأرشده إلى سواء طريقه وأذاقه حلاوة التفقه في دينه وتمام تحقيقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنعم بطائف الأنعام وعظيمه ودقيقه وأشهد أن سيدنا وسيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الهادي إلى الخير الكامل والجبر الشامل فأصح كل أحـد مغمـورًا فـي بحـر فضلـه وجوده محفوظًا من كيد الشيطان وجنوده وتعويقه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار‏.‏

وبعد فقد حضر لدي الولد النجيب الموفق اللبيب الفطن الماهر الذكي الباهر سليل العلماء الأعلام نتيجة الفضلاء العظام نور الدين حسن بن برهان الدين إبراهيم بن العلامـة مفتـي المسلمين وإمام المحققين الشيخ حسن الجبرتي الحنفي رحم الله أسلافه وبارك فيه وقـرأ علـى متـن نـور الإيضـاح مـن أولـه إلـى آخـره تأليـف والـدي المندرج إلى رحمة الله تعالى سيدي وسنـدي الإمام العلامة الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي وأجزته أن يروى ذلك عني وجميع ما يجوز لي روايته إجازة عامة كما أجازني به وبفقه أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه كما تلقـى ذلـك هـو عـن الشيـخ علي المقدسي شارح نظم الكنز عن العلامة الشلبي شارح الكز عن القاضي عبد البر بن الحشنة عن المحقق الكمال بن الهمام عن سراج الدين قارش الهداية عن علاء الدين السيرامي عن السيد جلال الدين شارح الهداية عن علاء الدين بن عبد العزيز البخـاري عـن حافـظ الديـن صاحـب الكنـز عـن شمـس الأئمـة الكردري عن برهان الدين صاحب الهداية عن فخر الإسلام البـزدوي عـن شمـس الأئمـة السرخسـي عـن شمـس الأئمـة الحلواني عن القاضي ابن علي النسفي عن الإمام محمد بن الفضل البخـاري عـن عبـد اللـه السندموني عن الأمير عبد الله بن أبي حفص البخاري عن أبيه المذكور عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني عن الإمام أبي يوسف عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه عن الإمام حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي عن الإمام علقمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أمين الوحي جبريل عليه السلام عـن اللـه عـز وجل‏.‏

وأوصى الولد الأعز بالتقوى ومراقبة الله في السر والنجوى والله تعالى يوفقه وينفع به وبعلومـه ويهدينـا وإيـاه لمـا كـان عليـه السلـف الصالـح فـي أسـاس الديـن ورسومه‏.‏

قال ذلك الفقير إلى الله تعالى حسن بن حسن السرنبلالي الحنفـي فـي ثالـث ربيـع الـأول مـن سنـة 1123 وتوفـي الشيـخ فـي آخـر تلـك السنـة وقد جاوز التسعين‏.‏

واشتغل المترجم واجتهد في طلب العلوم وحضر أشياخ العصـر وتفقـه علـى الإمـام العلامة السيد علي السيواسي الضرير وحضر عليه شرح الكنز للعيني والدر المختار وكتاب الأشياه والنظائر لابن نجيم وشرح المنار لابن نجيم وشرح المنار لابن فرشتة وشرح التحرير للكمال بن الهمام وشرح الجوامع ومختصر السعد وعلى العلامة الشيخ أحمد التونسي المعروف بالدقدوسي الحنفي شرح الكنـز للعلامـة الزيلعـي والـدرر لملاخسـرو والسيد علي السراجية في الفرائض وشرح منظومة بن الشحنة في الفرائض والشنشوري على الرحبيـة والتلخيـص ومتـن الحكـم وشـرح التحفـة وعلـى الشيـخ علـي العقـدي النفي ملا مسكين على الكنز ومتن الهداية والسراجية والمنار والنزهة في علم الغبار والقلصادي ومنظومة ابن الهائم وعلى الفقيه محمد بن عبد العزيز الزيادي الحنفي ملتقى الأبحر وفتح القدير والحكم لابن عطاء الله والقدوري وعقود الجمان فـي المعانـي والبيـان وايساغوجـي وعلـى الشيـخ الفقيـد المحـدث الشهـاب أحمـد بـن مصطفـى الإسكنـدري الشهيـر بالصياغ شرح الكبرى وأم البراهين وشرح العقائد والمواقف وشرح المقاصد للسعد والكشاف والبيضاوي والشمائـل والصحيحيـن روايـة ودرايـة والأربعين النووية والمشارق والقطـب علـى الشمسيـة والمواهـب اللدنيـة وشـرح النخبـة وعلـى الشيخ منصور المنوفي شرح ابن عقيل على الألفية والشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والتوضيح وشرح تصريف العزى وشرح التلمسانية والخبيصي على التهذيـب وشيـخ الإسلـام على الخزرجية وعلى الشيخ عيد النمرمي شرح الورقات والسمقرندية وآداب البحث والعضدية والعصام على السمرقندية وعلم الجبر والمقابلة والعروض وأعمال المناسخات والكسورات والأعداد الصم والغربال والمساحة والحساب وعلى الشيج شلبي البراسي تلخيص المفتاح والمطول والتجويد وعلى الشيخ محمد السجيني الضرير المكودى على الألفية والفاكهي وشرح الشذور وملاجاماي وشرح مختصر ابن الحاجب والمطول وعلى الشيخ أحمد العمادي شرح الجوهرة لعبد السلام والسكتاني على الصغرى وشرح مختصر السنوسي والكافي ونوادر الأصول والجامع الصغير وشرح المقاصد وعلى الشيخ حسن المدابغي الأشموني على الألفيـة وشرح المراح وقواعد الأعراب والمعغنى وعلى الشيخ الملوى شرحه على السلم وشرح معراج الغيطي وأوضح المسالـك وأوائـل الكتـب الستـة والمسلسلـات والمسنـدات وحضـر أيضـًا دروس الشيـخ عبـد الـرؤوف البشبيشـي وأبو العز العجمي وغيرهما وجد في التحصيل حتى فاق أهل عصره وباحث وناضل ودرس بالرواق في الفقه والمعقول وبالسنانية ببولاق‏.‏

وكان لجدته أم أبيه مكان مشرف على النيل بربع الخرنوب عندما كان النيل ملاصقًا لسدته فساكنها مدة فكان يغدو إلى الجامـع ثـم يعـود إلـى بولـاق ولـه حاصـل بربـع الخرنـوب يجلـس فيـه حصـة ثـم يعـود إلـى السنانيـة فيملـي هنـاك درسـًا ثـم احتـرق ذلـك المنـزل بمـا فيـه وتلـف يـه أشيـاء كثيـرة من المتاع والصيني القديم فانتقلـت إلـى مصر وكانوا يذهبون إلى مكان لها بمصر العتيقة في أيام النيل بقصد النزهة وهي التي أعانته على تحصيل العلوم اشتغاله بالعلم كان يعاني التجارة والبيع والشـراء والمشاركـة والمضاربة والمقايضة وكانت جدته ذات غنية وثروة ولها أملاك وعقارات ووقـف عليـه أماكـن ومنها الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية ورتبت في وقفها عدة خيرات ومكتب لإقراء أيتام المسلمين بالحانوت المواجه للوكالة المذكـورة وربعـة تقـرأ فـي كـل يـوم وختمـات فـي ليالي المواسم وقصعتي تريد في كل ليلة من ليالي رمضان وثلاث جواميس تفرق على الفقهاء والأيتام والفقراء في عيد الأضحية‏.‏

وتزج بجدته المذكـورة بعـد مـوت جده الأمير علي أغا باش اختيار متفرقة المعروف بالطورى وتزووج المترجم بابنته وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح وكانت إذ ذاك عامـرة وبهـا المرابطـون ويصـرف عليهم العلوفات والاحتياجات‏.‏

ولما مات لي أغا المذكور سنة سبع وثلاثين تقلد ذلك بعده المترجـم مـدة مـع كونـه فـي عـداد العلمـاء وربـي معتوقيـه عثمـان وعليـا ولم يزالا في كنفه حتى مات بعد مدة طويلة وأرسل خادمًا له يسعى سليمان الحصافي جربجيًا على قلعة المويلح فقتلوه هناك فتكدر لذلك وترك هذا الأمر وأعرض عنه وأقبل علـى شأنـه مـن الاشتغـال وماتـت زوجته بنت الأمير علي أغا المذكور في حياة أبيها فتزوج ببنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب تابع كور محمد وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وعقارات وأوقاف ومـن ذلـك وكالـة الكتـان وربـع وحوانيت تجاه جامع الزردكاش وبيت كبير بساحل النيل وآخر تجاه جامع مزره جربجي وهو سكن رمضان جلبي المذكور وكان إنسانًا حسنًا رقيق الحاشية وفيه فضيلة وسليفة جيدة‏.‏ ومات

رمضان جلبي المذكور سنة 1139

واستمرت ابنته في عصمة المترجم حتى ماتت في المحرم سنة 1182 وعمرها ستـون سنـة‏.‏

وكانـت مـن الصالحـات الخيـرات المصونـات وحجـت صحبتـه فـي سنـة إحـدى وخمسين وكانت به بارة وله مطيعة‏.‏

ومن جملة برها له وطاعتها أنها كانت تشتري له من السرارى الحسان من مالها وتنظمهن بالحلي والملابس وتقدمهن له وتعتقد حصـول الأجر والثواب لها بذلك وكان يتزوج عليها كثيرًا من الحرائر ويشتري الجواري فلا تتأثر من ذلك ولا يحصل عندها ما يحصل في النساء من الغيرة‏.‏

ومن الوقائع الغريبة أنه لما حج المترجم في سنـة سـت وخمسيـن‏:‏ واجتمـع بـه الشيـخ عمـر الحلبـي بمكـة الوصـي بـأن يشتـري لـه جاريـة بيضاء تكون بكرًا دون البلوغ وصفتها كذا وكـذا فلمـا عـاد مـن الحـج طلـب مـن اليسرجيـة الجواري لينقي منهن المطلوب فلم يزل حتى وقع على الغرض فاشتراها وأدخلها عند زوجته المذكورة حتى يرسلاه مع من أوصاه بإرسالها صحبته‏.‏

فلما حضر وقت السفر أخبرها بذلك لتعمل لهم ما يجب من الزوادة ونحو ذلك فقالت له‏:‏ إني أحبيت هذه الوصيفة حبًا شديدًا ولا أقدر على فراقها وليس لي أولاد وقد جعلتها مثل ابنتي والجارية بكت أيضًا وقالت لا أفارق سيدتي ولا أذهب من عندها أبدًا‏.‏

فقال‏:‏ وكيف يكون العمل قالت ادفع ثمنها من عندي واشتري أنت غيرها ففعل‏.‏

ثم إنها أعتقتها وعقدت عليها وجهزتها وفرشت لها مكانًا علـى حدتهـا وبنـى بهـا فـي سنـة خمـس وستيـن وكانـت لا تقـدر علـى فراقهـا ساعـة مـع كونهـا صارت ضرتها وولدت له أولادًا‏.‏

فلما كان في سنة اثنتين وثمانين المذكورة مرضت الجارية فمرضت فقامـت الجاريـة فـي ضحـوة النهـار فنظـرت إلى مولاتها وكانت في حالة غطوسها فبكت وزاد بها الحال وماتت تلك الليلـة فأضجعوهـا بجانبهـا فاستيقظـت مولاتهـا آخـر الليـل وجستهـا بيدهـا وصارت تقول‏:‏ إن قلبي يحدثني أنها ماتت ورأيت في منامي ما يدل على ذلك فلما تحققت ذلك قامت وجلس وهي تقول لا حياة لي بعدها وصارت تبكي وتنتحب حتى طلع النهار وشرعوا في تشهيلها وتجهيزها وغسلوها بيـن يديهـا وشالـوا جنازتهـا ورجعـت إلـى فراشهـا ودخلـت فيسكـرات المـوت وماتت آخر النهار وخرجوا بجنازتها أيضًا في اليوم الثاني‏.‏

وهذا من أعجب ما شاهدته ورأيته ووعيته وكان سني إذ ذاك أربع عشرة سنة‏.‏

واشتغل المترجم في أيام اشتغاله بتجويد الخط فكتب على عبد الله أفندي الأنيس وحسن أفندي الضيائي طريقة الثلث والنسخ حتى أحكم ذلك وأجازه الكتبة وأذنوه أن يكتب الإذن على اصطلاحهم ثم جـود فـي التعليـق علـى أحمـد أفنـدي الهنـدي النقـاش لفصـوص الخواتـم حتـى أحكـم ذلـك وغلـب على خطه طريقته ومشى عليها وكتب الديواني والقرمة وحفظ الشاهدى واللسان الفارسي والتركي حتـى أن كثيرًا من الأعاجم والأتراك يعتقدون أن أصله من بلادهم لفصاحته في التكلم بلسانهم ولغتهم‏.‏

وفي سنة أربع وأربعين اشتغل بالرياضيات فقرأ على الشيخ محمد النجاحي رقائق الحقائق للسبط المراديني والمجيب والمقنطر ونتيجة اللادقي والرضوانية والدرلابن المجدى ومنحرفات السبط وإلى هنـا انتهـت معرفـة الشيـخ النجاحـي‏.‏

وعنـد ذلـك انفتـح لـه البـاب وانكشـف عنـه الحجـاب وعـرف السمت والارتفاع والتقاسم والأرباع والميل الثاني والأول والأصل الحقيقي والمعدل وخالط أرباب المعارف وكل من كان من بحر الفن غارف وحل الرموز وفتح الكنوز واستخرج نتائج الدر اليتيم والتعديل والتقويم وحقق أشكال الوسايط في المنحرفات والبسائط والزيج والمحلولـات وحركـات التداويـر والنطاقـات والتسهيـل والتقريـب والحـل والتركيـب والسهام والظلال ودقائق الأعمال وانتهت إليه الرياسة في الصناعـة وأذعنـت لـه أهـل المعرفـة بالطاعة وسلم له عطارد وجمشيد الراصد وناظره المشتري وشهد له الطوسي والأبهري وتبوأ من ذلك العلم مكانًا عليًا وزاحم بمنكبه العيوق والثريا وقدم القدوة العلامة والحكيم الفهامة الشيخ حسام الدين الهندي وكان متضلعـًا مـن العلـوم الرياضيـة والمعـارف الحكميـة والفلسفيـة فنزل بمسجد في مصر القديمة واجتمع عليه بعض الطلبة مثل الشيخ الوسمي والشيخ أحمد الدمنهـوري وتلقـوا عنه أشياء في الهيئة فبلغ خبره المترجم فذهب إليه للأخذ عنه فاغتبط به الشيـخ وأحبـه وأقبل بكليته عليه فلم يزل به حتى نقله إلى داره وأفرد له مكانًا وأكرم نزله وقام بأوده وطالع عليه الجغميني وقاضي زاده عليه والتبصرة والتذكرة وهداية الحكمة لأثير الدين الأبهـري ومـا عليهـا مـن المـواد والشـروح مثـل السيـد والميبـدى قـراءة بحـث وتحقيق وأشكال التأسيس في الهندسة وتحرير إقليدس والمتوسطات والمبادئ والغايات والأكر وعلم الارتماطيقي وجغرافيا وعلم المساحة وغير ذلك‏.‏

ثم أراد أن يلقنه على الصنعة الإلهية وكان من الواصلين فهيـا فغالطه عن ذلك وأبت نفسه الاشتغال بسوى العلوم المهذبة للنفس وكان يحكي عنه أمورًا وعبـارات وإشـارات تشعر بأنه كان من الكمل الواصلي في كل شيء ولم يزل عنده حتى عزم على الرحلة وسافر إلى بلاده‏.‏

وقدم إلى مصر الإمام العلامة الشيخ محمد الغلاني الكشناوي وسكن بدرب الأتراك فاجتمع عليه المترجم وتلقى عنه علم الأوفاق وقرأ عليه شرح منظومة الجزنائية للقوصوني والدر والترياق والمرجانية في خصوص المخمـس الخالـي الوسـط والأصـول والضوابط والوفق المئيني وعلم التكسير للحروف وغير ذلك وسافر الشيخ إلى الحج وجاور هناك فلما رجع أنزله عنده وصحبته زوجته وجواره وعبيده وكمل عنده غالب مؤلفاته ولم يـزل حتـى مـات كمـا تقـدم ذكـر ذلـك فـي ترجمتـه ولقـي المترجـم فـي حجاتـه الشيخ النخلي وعبد الله بن سالم البصري وعمر بن أحمد ابن عقيل المكي والشيخ محمد حياة السندي الكوراني وأبو الحسن السندي والسيد محمد السقاف وغيرهم وتلقى عنهم وأجازوه وتلقوا هم أيضًا عنـه ولقنه الشيخ أبو الحسن السندي طريق السادة النقشبندية والأسماء الإدريسية‏.‏

وهذه صورة إجازة الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل ومن خطه نقلت‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى خصوصًا أفضل أنبيائـه وعترتـه الطاهريـن وصحابتـه أجمعيـن‏:‏ وبعـد فـإن مما تطابقت عليه النصوص وتوافقت عليه ألسنة العموم والخصوص أن الباحث عن السنة الغراء لاتباع هدى سيد الأنبياء الموجب لمحبة ذي الآلاء والنعماء هو الفائـز بالقـدح المعلـى والمرفـوع إلـى المقـام الأعلـى ومـن المعلـوم أنه لم يبق في زماننا ما يتداول منها إلا التعلـل برسـوم الإسنـاد بعـد انتقـال أهل الزمان والناد فذو الهمة هو الذي يثابر على تحصيل أعلاه وينافس في فهم متنه ويفحص عن معناه ويناقش في رجاله الذين عليهم مغناه ألا وهو الشيخ الأجل الراقي بعزمه المتين من العلم والعمل إلى أعلى محل سيدنا وأستاذنا الشيخ حسن بن المرحوم إبراهيم بن الشيخ حسن الجبرتي أمده الله بالمدد الإلهي فطلـب مـن هـذا الفقيـر أن أجيـزه فلما لم أجد بدًا من الامتثال قلت سائلًا التوفيق في الأول والفعال‏:‏ أجزت مولانا الشيخ حسـن المذكـور المنـوه بذكره أعلى السطور أجزل الله تعالى له الأجور ما يجوز لي وعني روايته منـن مقـروء ومسمـوع وأصول وفروع بشرطه المعتبر من تقوى الله والصيانة وضبط الألفاظ وسير الرجال والديانة حسبما أجازني بذلك شيوخ أكابر عدة هم في الشدائد عدة ومنهم بل من أجلهـم سيـدي وجـدي لأمـي بعـد أن قـرأت عليـه جانبًا كبيرًا من كتب الحديث وغيره قراءة تحقيق وتدقيق وغيره من الشيوخ أهل التوفيق وقد سمع مولانا الشيخ حسن منـي أوائـل البخـاري ومسلـم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والموطأ فليروعني المجاز المذكور متى شاء مما اتصلت بي روايته متى أراد رفع سند أو كتاب لمن هو منن أهل الدراية وهو دام أنسه وزكا قدسه في غنية عن ذلك ولكن جرت العادة بأخذ الأكابر عن الأصاغر تكثيرًا لسوادنا فهي سنة الأوائل والأواخر‏.‏

وكذلك أجرت له بالصلاة المشهورة النفع بهذه الصيغة‏:‏ اللهم صل على سيدنا محمد وآله كما لا نهاية لكمالك وعد كمالله حسبما أجازني بها مولانا الشيخ طاهر ابن المـلا إبراهيـم الكوراني عن شيخه حسن المنوفي مفتي الحنفية بالمدينة سابقًا عن شيخه مولانا الشيخ علي الشبراملسي عن بعض أجلاء شيوخه وأمره أن يصلي بها بين المغرب والعشاء بلا عدد معين وبالمواظبة عليها يظهر نتائج فتحها خصوصًا لمبتغي هذا العلم المجد في طلبه من ذويه نفعه الله تعالى بالعلم وجعله من أهليه وقد أجزت الشيخ المذكور ضاعف الله تعالى له الأجور بالأسماء الأربعينية الإدريسية السهروردية بقراءتها وإقرائها لخل صادق إن وجـد كمـا أجازني بذلك جملة من الشيوخ وقد اتصل سندي بها أيضًا عن مولانا وسيدنا الأمجد مولانا الشيخ أحمد بن محمد النخلي أنزل عليه شآبيب الرحمة والغفران الواحد العلي وهو يرويها عن الشيخ حجازي الدير بي عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الخامي الشنـاوي وأجـازه شيخه أيضًا بشرحها للشيخ عثمان النحراوي‏:‏ قال الشيخ عثمان‏:‏ أجازني بالأسماء الإدريسية العظام الشيخ كمال الدين السوداني وهو يرويها عن شيخه أبي المواهب أحمد الشناوي عن السييد صبغة الله أحمد عن السيد وجيه الدين العلوي عن الحاج حميد الشهير بالشيخ محمد الغوث عن الحاج حصور عن أبي الفتح هدية الله سيرمست عن الشيخ قاضن الستاري عن الشيخ ركن الدين حينوورى عن الشيخ يابوتاج الدين عن السيد جلـال الديـن البخـاري عـن الشيخ ركن الدين أبي الفتح عن الشيخ صدر الدين أبي الفضل عن الشيخ أبي البركات بهاء الدين زكريا عن شيخ الشيوخ شهاب الديـن السهـروردي عـن سيـدي وجيـه الديـن المعـروف بعمويه عن الشيخ أحمد أسود الدينوري عن الشيخ ممشاد الدينوري عن الشيخ أبي القاسم الجنيـد البغـدادي عـن خالـه سـري السقطـي عـن الشيـخ معـروف الكرخـي عن الشيخ داود الطائـي عـن الشيـخ حبيـب العجمـي عـن سيـد التابعيـن حسـن البصـري عـن إمام المشارق والمغـارب سيدنـا علـي بـن أبـي طالـب عـن سيدنا ومولانا سيد الخلق حبيب الحق عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله النبي الرسول الحاوي لجميع الكمالـات الأصليـة والفرعيـة الجامـع لكـل الصفات السنية والمراتب العلية المبعوث لكل الخلق المتخصص بالقرب من العالـم الحـق سيـد الكونيـن والثقليـن والفريقيـن مـن عـرب ومـن عجم محمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك بفمه وكتبه بقلمـه أسيـر ذنبـه عمـر بـن أحمـد بـن عقيل السقاف بأعلوى حفيد مولانا الشيخ عبد الله بن سالم البصـري غفـا الله تعالى عنهم أجمعين سائلًا من الشيخ المذكور أن لا ينساني وأصولي ومشايخي فـي الديـن وجميـع أقاربـي من صالح الدعوات في خلواته وجلواته وحركاته وسكناته وأوصيه بما أوصي به نفسي وسائر المسلمين من ملازمة التقوى وكمال الاستعداد واتبـاع سبيـل الهـدى والرشاد وأسأل الله تعالى الكريم المنان أن يوفقني وإياه والمسلمين لصالح القول والعمل ويجنبنا الخطأ والزلل ويجعلنا من العلماء العاملين والهداة الراشدين وأن يميتنا على سنة سيد المرسلين صلـى اللـه عليـه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين في كل وقت وحين‏.‏

وللمترجم أشياخ غير هـؤلاء كثيـرون اجتمـع بهـم وتلقـى عنهم وشاركهم وشاركوه مثل علي أفندي الداغستاني والشيخ عبد ربه سليمان بن أحمد الفشتالي الفاسي والشيخ عبد اللطيف الشامي والجمال يوسف الكلارجـي والشيـخ رمضـان الخوانكـي والشيـخ محمـد النشيلـي والشيخ عمر الحلبي والشيخ حسين عبـد الشكـور المكـي والشيـخ إبراهيـم الزمـزي وحـس أفندي قطعة مسكين وأحمد أفندي الكرتلي والأستـاذ عبـد الخالـق بـن وفـي وكـان خصيصًا به وأجازه بالأحزاب وهو الذي كناه بأبي التداني وألبسه التاج الوفائي والسيد مصطفى العيدروس وولده السيد عبد الرحمن والسيد عبد الله العيدروسـي والشيـخ علـي بنـدق الشناوي الأحمدي وكثير من المشايخ الأزهرية مثل السيد محمد البنوفـري والشيـخ عمـر الإسقاطي والشيخ أحمد الجوهري والشيخ أحمد الدلجي بن خال المترجم والشيخ أحمد الراشدي والشيخ إبراهيم الحلبي صاحب حاشية الدر والسيد سعودي محشي مـلا مسكيـن وغيرهـم مـن الأكابـر والأخيـار وأهـل الأسـرار والأنوار حتى كمل في المعارف والفنون ورمقتـه بالإجلـال العيـون وعـلا شأنـه علـى علمـاء الزمـان وتميز بين الأقران وأذعنت له أهل الأذواق وشاع ذكره في الآفاق ووفدت عليه الطلاب البلدانية والواردون من النواحي الآفاقية وأتوا إليه مـن كـل فـج يسعـون لميقاتـه ولزمـوا الطواف بكعبة فضله والوقوف بعرفاته فمنهم من ينفر بعد إتمام نسكه وبلوغ أمنيته ومنهم من يواظب على الاعتكاف بساحته وكان رحمه الله عذب المورد للطالبين طلق المحيا للواردين يكرم كل من أم حماه ويبلغ الراجي مناه والمقتفي جدواه والراغب أقصى مرماه مع البشاشة والطلاقة وسعـة الصـدر والرياقـة وعـدم رؤيـة المنـة علـى المحتـدى ومسامحة الجاهل والمعتدى مع حسن الأخلاق والصفات التي سجدت لها الخناصر كأنها آيات سجدات وكانت ذاته جامعة للفضائل والفواضل منزهة عـن النقائـص والرذائـل وقـورًا محتشمـًا مهيبـًا فـي الأعيـن معظمـًا فـي النفـوس محبوبـًا للقلـوب لا يعـادي أحـدًا ولا يخاصـم علـى الدنيا فلذلك لا تجد من يكرهه ولا من ينقم عليه في شيء من الأشياء وأما مكارم الأخلاق والحلم والصفح والتواضع والقناعة وشرف النفس وكظم الغيظ والانبساط إلى الجليل والحقير كل ذلك سجيته وطبعـه مـن غيـر تكلـف لذلـك ولا يرى لنفسه مقامًا أصلًا ولا يعرف التصنع في الأمور ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد وله منزلة عظيمـة فـي قلـوب الأكابـر والأمـراء والـوزراء والأعيـان ويسعـون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون في حاجة يتكلم فيها وله عندهـم محبـة ومنزلـة فـي قلوبهـم زيـادة عـن نظرائـه مـن الأشيـاخ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم ورغبتهـم فيمـا يعلمونه فيه من المزايا والأسرار والمعارف المختص بها دون غيره وخصوصًا أكابر العثمانييـن والـوزراء وأهـل العلـوم والفضـلاء منهـم مثل علي باشا ابن الحكيم وراغب باشا وأحمد باشا الكور وغيرهم ويأتون إليه أحيانًا في التبديل‏.‏

وأكرموه وهادوه كل ذلك مع العفة والعزة وعدم التطلع لشيء من أسباب الدنيا بوظيفة أو مرتب أو فائظ أو نحو ذلك‏.‏

وكان بينه وبين الأميـر عثمـان بـك ذي الفقـار صحبـة ومحبة وحج في أيام إمارته على الحج مرافقًا له ثلاث مرات من ماله وصلب حاله ولم يصله منه سوى ما كان يرسله إليه على سبيل الهدية وكان منزل سكنـه الـذي بالصنادقيـة ضيقـًا مـن أسفل وكثير الدرج فعالجه إبراهيم كتخدا على أن يشتري له أو يبنـي لـه دارًا واسعـة فلـم يقبل وكذلك عبد الرحمن كتخدا وكان له ثلاثة مساكن أحدها هذا المنزل بالقرب من الأزهر وآخر بالإبزارية بشاطئ النيل ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزه‏.‏

وفـي كـل منـزل زوجـة وسـرار وخـدم فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته وكان يقتني المماليك والعبيد والجواري البيض والحبوش والسود ومات له من الأولاد نيف وأربعون ولدًا ذكورًا وإناثًا كلهـم دون البلـوغ ولـم يعـش لـه مـن الأولاد سوى الحقير وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيات وإذا أتـاه طالـب فـرح بـه وأقبـل عليـه ورغبـه وأكرمـه وخصوصـًا إذا كـان غريبـًا وربمـا دعاه للمحاورة عنده وصار من جملة عياله ومهم من أقام عشرين عامًا قيامًا ونيامًا لا يتكلف إلى شيء من أمر معاشه حتى غسل ثيابه من غير ملل ولا ضجر‏.‏

وأنجب عليه كثير من علماء وقتـه المحققيـن طبقـة بعـد طبقـة مثـل الشيـخ أحمـد الراشـدي والشيـخ إبراهيـم الحلبـي والشيـخ مصطفـى أبي الإتقان الخياط والسيد قاسم التونسي والشيخ العلامة أحمد العروسي والشيخ إبراهيم الصيحاني المغربي والطبقة الأخيرة التي أدركناها مثل الشيخ أبي الحسن القلعي والشيخ عبد الرحمـن البنانـي‏.‏

وأما الملازمون له فهم الشيخ محمد ابن اسعميل النفراوي والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الشافعي الجناجي المالكي والشيخ مصطفى الريس البولاقي والشيخ محمد الشوبري والشيخ عبد الرحمن العريشي والشيخ محمد الفرماوي وهؤلاء كانوا المختصين به الملازمين عنده ليلًا ونهارًا وخصوصًا الشيخ محمد النفراوي والصبان ومحمد أفندي النيشي والفرماوي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد عرفة‏.‏

فإنهم كانوا بمنزلة أولاده وخصوصًا الأولين فإنهما كانا لا يفارقانه إلا وقت إقراء دروسهما وكان يباسـط أخصـاءه منهـم ويمازحهـم ويروحهـم بالمناسبـات والأدبيـات والنـوادر والأبيـات الشعريـة والمواليات والمجونيات والحكايات اللطيفة والنكـات الظريفـة وينتقلـون صحبتـه فـي منـازل بولـاق ومواطن النزهة فيقطعون الأوقات ويشغلونها حصة في مدارسة العلم وأخرى في مطارحات المسائل وأخرى للمفاكهة والمباسطة والنوادر الأدبية‏.‏

ومن الملازمين على الترداد عليه والأخذ عنه الشيخ محمد الجوهري والشيخ سالم القيرواني ومحمد أفندي مفتي الجزائر والسيد محمد الدمـرداش وولـداه السيـد عثمـان والسيـد محمـد‏.‏

وممـن تلقـى عنـه شيخ الشيوخ الشيخ علي العدوي تلقى شرح الزيلعي على الكنز في الفقه الحنفي وكثيرًا من المسائل الحكمية‏.‏

ولما قرأ كتاب المواقـف فكـان يناقشـه فـي بعـض المسائـل محققـو الطلبة فيتوقف في تصويرها لهم فيقوم من حلقته ويقـول لهـم‏:‏ اصبـروا مكانكـم حتـى أذهـب إلـى مـن هـو أعـرف منـي بذلـك وأعـود إليكم‏.‏

ويأتي إلى المترجم فيصورها له بأسهل عبارة ويقوم في الحال فيرجع إلى درسه ويحققها لهم وهذا من أعظـم الديانـة والإنصـاف‏.‏

وقـد تكـرر منـه ذلـك غيـر مـرة وكـان يقـول عنـه لم نر ولم نسمع من توغل فـي علـم الحكمـة والفلسفـة وزاد إيمانـه إلا هو رحم الله الجميع‏.‏

وممن تلقى عنه من أشياخ العصر العلامة الشيخ محمد المصيلحي والعلامة الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد المسودي والشيخ أحمـد بـن يونـس والشيـخ محمـد الهلبـاوي والشيـخ أحمـد السجاعـي لازمـه كثيـرًا وأخـذ عنه في الهيئة والفلكيات والهداية وألف في ذلك متونًا وشروحًا وحواشي‏.‏

وأما من تلقى عنه من الآفاقيين وأهالي بلاد الروم والشام وداغستان والمغاربة والحجازيين فلا يحصون وأجل الحجازيين الشيخ إبراهيم الزمزي‏.‏

وأما ما اجتمع عنده وما اقتناع من الكتب في سائر العلوم فكير جدًا قلما اجتمع ما يقاربها في الكثرة عند غيره من العلماء أو غيرهم‏.‏

وكان سموحًا بإعارتها وتغييرها للطلبـة وذلـك كـان السبـب فـي إتلـاف أكثرهـا وتخريمهـا وضياعهـا حتى أنه كان أعد محلًا في المنزل ووضع فيه نسخًا من الكتب المستعملة التي يتداول علماء الأزهر قراءتها للطلبة مثل الأشموني وابن عقيل والشيخ خالد وشروحه والأزهرية وشروحها والشذور وكذلك من كتب التوحيد مثل شروح الجوهرة والهدهدى وشرح السنوسية والكبرى والصغـرى وكتـب المنطـق والاستعارات والمعاني وكذلك كتب الحديث والتفسير والفقه في المذاهب وغير ذلك فكانوا يأتـون إلـى ذلك المكان ويأخذون ويغيرون وينقلون من غير استئذان فمنهم من يأخذ الكتاب ولا يرده ومنهم من يهمل التغيير فتضيع الكراريس ومنهم من يسافر ويتركها عند غيره ومنهم من يهمـل آخـر الكتـاب ويتفـق أن الاثنيـن والثلاثـة يشتركـون فـي الكتاب الواحد والنسخة الواحدة ولا بد من حصول التلف من أحدهم ولا بد من حصول الضياع والتلف في كل سنة وخصوصًا في أواخر الكتب عندما تفتر هممهم‏.‏

وأكثر الناس منحرفو الطباع معوجو الأوضاع واقتنى أيضًا كتبًا نفيسة خلاف المتداولة وأرسل إليه السلطان مصطفى نسخـًا مـن خزائنـه وكذلـك أكابـر الدولة بالروم ومصر وباشـة تونـس والجزائـر واجتمـع لديـه مـن كتـب الأعاجـم مثـل الكلستـان ويدوان حافظ وشاه نامه وتواريخ العجم وكليلة ودمنة ويوسف زليخا وغير ذلك وبها من التشاويه والتصاوير البديعة الصنعة الغريبة الشكل وكذلك الآلات الفلكية من الكرات النحـاس التي كان اعتني بوضعها حسن أفندي الروزنامجي بيد رضوان أفندي الفلكي كما تقدم في ترجمتها‏.‏

ولما مات حسن أفندي المذكور اشترى جميعها من تركت وكذلك غيرها من الآلات الارتفاعية والميالات وحلق الأرصاد والاسطرلابات والأربـاع والعـدد الهندسيـة وأدوات غالـب الصنائع مثل التجاريـن والخراطيـن والحداديـن والسمكريـة والملجديـن والنقاشيـن والصـواغ وآلـات الرسم والتقاسيم ويجتمع به كل متقن وعارف في صناعته مثل حسن أفندي الساعاتي وكان ساكنـًا عنـده وعابديـن أفنـدي الساعاتي وعلي أفندي رضوان وكان من أرباب المعارف في كل شيء ومحمد أفندي الإسكندراني والشيخ محمد الأقفالي وإبراهيم السكاكيني والشيخ محمد الزبداني وكان فريدًا في صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياه والأدهان وغير هؤلاء ممن رأيت ومن لم أر وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرأوا عليه علم الهندسة وذلك سنة تسع وخمسيـن وأهـدوا لـه مـن صنائعهـم وآلاتهـم أشيـاء نفيسـة وذهبـوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم مـن ذلـك الوقـت وأخرجـوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الأثقال واستنباط المياه وغير ذلك‏.‏

وفي أيام اشتغاله بالرسم رسم ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول على الرخامات والبلاط الكذان ونصبها في أماكن كثيرة ومساجد شهيرة مثل الأزهر والأشرفية وقوصون ومشهد الإمام الشافعي والسادات‏.‏

وفي الآثـار منـاه ثلاثـة واحدة بأعلى القصر وأخرى على البوابة وأخرى عظيمة بسطح الجامع بقي منها قطعة وكسر باقيها فراشو الأمراء الذين كانوا ينزلـون هنـاك للنزاهـة ليمسحـوا بهـا صوانـي الأطعمـة السفـر وكذلك بورد أن بالتماس مصطفى أغا الورداني وكذلك بحوش مدفن الرزازين بالتماس رضوان جربجي الرزاز رحمه الله ولما تمهر الآخذون عنه والملازمون عنده ترك الاشتغال بذلك وأحال الطلاب عليهم فإذا كان الطالـب مـن أبنـاء العـرب تتقيـد بتلميـذه الشيـخ محمـد ابـن اسمعيـل النفراوي وإن كان من الأعاجم والأتراك تقيد بمحمود أفندي النيشي‏.‏

واشتغل هو بمدارسة الفقه وإقرائه ومراجعة الفتاوى والتحري في الفروع الفقهية والمسائل الخلاقية وانكب عليه الناس يستفتونه في وقائعهم ودعاويهم‏.‏

وتقرر في أذهانهم تحريه الحق والنصوص حتى أن القضاة لا يثقون إلا بفتواه دون غيره وتقيد للمراجعة عنده الشيخ عبد الرحمن العريشي فانفتحت قريحته وراج أمـره وترشح بعده للإفتاء‏.‏

وكان المترجم لا يعتني بالتأليف إلا في بعض التحقيقات المهمة منهـا نزعـة العينيـن فـي زكـاة المعدنيـن ورفـع الأشكال بظهور العشر في العشر في غالب الأشكال والأقوال المعربة عن أحوال الأشربة وكشف اللثام عن وجوه مخدرات النصف الأول من ذوي الأرحام والوشي المجمل في النسب المحمل والقول الصائب في الحكم على الغائب وبلوغ الآمال في كيفية الاستقبال والجداول البهية برياض الخزرجية في علم العروض وإصلاح الأسفار عن وجـوه بعـض مخـدرات الدر المختار ومآخذ الضبط في اعتراض الشرط على الشرط والنسمات الفيحية على الرسالة الفتحية والعجالة على أعدل آلة وحقائـق الدقائـق علـى دقائـق الحقائـق وأخصر المختصرات على ربع المقنطرات والثمرات المجنية من أبواب الفتحية والمفصحة فيمـا يتعلـق بالأسطحـة والـدر الثميـن فـي علـم الموازيـن وحاشيـة على شرح قاضي يزادة على الجغميني لم تكمل وحاشية على الدر المختار لم تكمل ومناسك الحج وغير ذلك جواش وتقييدات على العصام والحفيد والمطول والمواقف والهداية في الحكمة والبرزنجي على قاضي زاده وأمثله وبراهين هندسية شتى‏.‏

وما له من الرسومات المخترعة والآلات النافعة المبتدعة ومنها الآلة المربعـة لمعرفـة الجهـات والسمـت والانحرافـات بأسهـل مأخـذ وأقـرب طريق والدائرة التاريخية وبركـار الدرجـة‏.‏

واتفـق أنه في سنة اثنتين وسبعين وقع الخلل في الموازين والقبابين وجهل أمر وضعهـا ورسمهـا وبعـد تحديدها وريحها ومشيلها واستخراج رمامينها وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات وترتب على ذلك ضياع الحقوق وتلاف الأموال وفسد على الصناع تقليدهم الذي درجوا عليه فعند ذلك تحركت همة المترجم لتصحيح ذلك وأحضر الصناع لذلك من الحدادين والسباكين وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار والقرسطونات ورسمهـا بطريـق الاستخـراج علـى أصـل العلـم العملـي والوضع الهندسي وصرف على ذلك أموالًا من عنده ابتغاء لوجه الله ثم أحضر كبار القبانية والوزانين مثـل الشيـخ علـي خليـل والسيـد منصـور والشيـخ علـي حسـن والشيـخ حسـن ربيـع وغيرهـم وبيـن لهـم ما هم عليه من الخطأ وعرفهم طريق الصواب في ذلك وأطلعهم على سر الوضع والصنعة ومكنونها وأحضروا العدد وأصلحوا منها مـا يمكـن إصلاحـه وأبطلـوا مـا تقـادم وضعـه وفسـدت لقمه ومراكزه وقديوا بصناعة ذلك الأسطى مراد الحداد ومحمد ابن عثمان حتى تحررت الموازين وانضبط أمرها وانصلح شأنها‏.‏

وسرت في الناس العدالة الشرعية المأمورين بإقامتها واستمر العمل في ذلك أشهرًا وهذا هو السبب الحامل له على تصنيف الكتاب المذكور وهذا هو ثمرة العلم ونتيجة المعرفة والحكمة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ يؤتي الحكمة من يشاء‏.‏

ولما وصل إلى مصر الشيخ إبراهيم بن أبي البركات العباسي البغدادي الشهير بابن السويدي في سنة 1175 وكان إمامًا فاضلًا فصيحًا مفوهًا ينظم الشعر بالإملاء ارتجالًا في أي قافية من أي بحر من غير تكلف فأنزلـه المترجـم وأكرمـه واغتبـط بـه وصار يتنقل صحبته مع الجماعة بمنازل بولاق والمنتزهات‏.‏

واتفق أنه تمرض أيامًا فأقام بمنزل بولاق المشرف على النيل فقيد به من يعوله ويخدمه ويعلل مزاجه فكان كلما اختلى بنفسه وهبت عليه النسمات الشمالية والنفحات البحرية أخذ القلم ببنانه ونقش على أخشابه وحيطانه فكتب نحو العشرين قصيدة على مواقف عديدة كلها مدائح فـي المذكـور والرياض والزهور والكوثر والسلسبيل وجريان النيل وتركت بحالها وذهبت كغيرها‏.‏

وفي سنة تسـع وسبعيـن توفـي ولـده أخـي لأبـي أبـو الفلـاح علـي وقـد بلـغ مـن العمر اثنتي عشرة سنة‏.‏

فحزن عليه وانقبض خاطره وانحرف مزاجه وتوالت عليه النوازل وأوجاع المفاصل وترك الذهاب إلى بولاق وغيرها ونقل العيال من هناك ولازم البيت الذي بالصنادقية واقتصـر عليـه وفتـر عـن الحركـة إلا فـي النـادر‏.‏

وصـار يملـي الـدروس بالمنـزل ويكتب على الفتاوى ويراجع المسائل الشرعية والقضايا الحكمية مع الديانة والتحري والمراجعة والاستنباط والقياس الصحيح ومراعاة الأصول والقواعد ومطارحات لتحقيقات والفوائد‏.‏

وتلقي الوافدين وإكرام الواردين وإطعام الطعام وتبليغ االقاصد المرام ومراعاة الأقارب والأجانب مع البشاشة وليـن الجانـب وسعـة الصـدر وحسـن الأخلاق مع الخلان والأصحاب والرفاق ويخدم بنفسه جلاسه ولا يمل معهم إيناسه ولا يبخل بالموجود ولا يتكلف المفقود ولا يتصنع في أحواله ولا يتمشدق في أقواله ويلاحظ السنة في أفعاله‏.‏

ومن أخلاقه أنه كان يجلس بآخر المجلس على أي هيئة كان بعمامة وبدونها ويلبس أي شيء كان ويتحزم ولو بكنار الجوخ أو قطعة خرقة أو شال كشميري أو محزم ولا ينام علـى فراش ممهد بل ينام كيفما اتفق وكان أكثر نومه وهو جالس وله مع الله جانب كبير كثير الذكر دائم المراقبة والفكر ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي ما تيسر من النوافل والوتر ثم يشتغـل بالذكر حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح ويجلس كذلك إلى طلوع الشمس فيضطجع قليلًا أو ينام وهو جالس مستندًا وهذا دأبه على الدوام‏.‏

ويحاذر الرياء ما أمكن وكان يصوم رجب وشعبـان ورمضـان ولا يقـول إني صائم وربما ذهب بعض الأعيان أو دعي إلى وليمة فيأتون إليه بالقهوة والشربات فلا يرد ذلك بل يأخذها ويوهم الشرب وكذلك الأكل ويضايع ذلك بالمؤانسة والمباسطـة مـع صاحـب المكـان والجالسيـن‏.‏

وكـان مع مسايرته للناس وبشاشته ومخاطبته لهم على قدر عقولهم عظيمة الهيبة في نفوسهم وقورًا محتشمًا ذا جلال وجمال‏.‏

وسمعت مرة شيخنا سيدي محمودًا الكردي يقول‏:‏ أنا عندما كنت أراه داخلًا في دهليز الجامع يداخلني منه هيبة عظيمة وأدخل إلى رواقنا وأنظر إليه من داخل وأسأل المجاورين عنه فيقولون لي هذا الشيخ الجبرتي فأتعجب لما يداخلني من هيبته دون غيره من الأشياخ فلما تكرر علي ذلك أخبرت الأستاذ الحنفي فتبسم وقال لي نعم إنه صاحب أسرار‏.‏

وكان مربوع القامة ضخم الكراديس أبيـض اللـون عظيـم اللحيـة منـور الشيبة واسع العينين غزير شعر الحاجبين وجيه الطلعة يهابه كل مـن يـراه ويـود أنـه لا يصـرف نظـره عـن جميـل محيـاه‏.‏

ولـم يـزل علـى طريقته المفيدة وأفعاله الحميدة إلى أن آذنـت شمسـه بالـزوال وغربـت بعدما طلعت من مشرق الإقبال وتعلل اثني عشر يومًا بالهيضة الصفراوية فكان كلما تناول شيئًا قذفته معدته عندما يريد الاضطجاع إلى أن اقتصر على المشروبـات فقـط وهـو مع ذلك لا يصلي إلا من قيام‏.‏

ولم يغب عن حواسه وكان ذكره في هذه المـدة يقـرأ الصمديـة مـرة ثـم يصلـي على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة السنوسية كذلك ثم الاسم العشرين من الأسماء الإدريسية وهو‏:‏ يا رحيـم كـل صريـخ ومكـروب وغياثـه ومعـاذه هكـذا كان دأبه ليلًا نهارًا حتى توفي يوم الثلاثاء قبيل الزوال غرة شهر صفر من السنة وجهز في صبحة يوم الأربعاء وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًا ودفن عند أسلافه بتربة الصحراء بجوار الشمس البابلي والخطيب الشربيني ومات وله من العمر سبع وسبعون سنة‏.‏ ومات

الإمام العلامة الفقيه المعمر الشيخ أحمد بن محمد الحماقي الحنفي

كان أبوه مـن كبـار علماء الشافعية فتحنف هذا بأذن الإمام الشافعي والشيخ أحمد البنوفري والشيخ سليمـان المنصوري وغيرهم وتصدر رضي الله عنه لرؤيا رآها وكان يخبر بها من لفظه وتلقى عن أئمة عصره كالشيخ أحمد الدقدوسي والشيخ علي العقدي ومحمد عبد العزيز الزيادي والشيخ أحمد البنوفري والشيخ سليمان المنصوري وغيرهم وتصدر للإقراء والتدريس بالجامع الأزهر مـدة سنيـن ثـم تولـى مشيخـة إفتـاء الحنفيـة بعد موت الشيخ حسن المقدسي‏.‏

وكان إنسانًا حسنًا دمـث الأخلـاق حسـن العشـرة صافـي الطوية عارفًا بفروع المذهب لين الجانب لا يتحاشى الجلوس فـي الأسـواق والقهـاوي وكـان إخوانـه مـن أهـل العلـم ينقمـون عليـه في ذلك فلا يبالي باعتراضهم ولم يزل حتى توفي في سحر ليلة الجمعة خامس عشرى صفر من السنة رحمه الله‏.‏

ومـات الإمـام الفقيه العلامة المحدث الفرضي الأصولي الورع الزاهد الصالح الشيخ أحمد بن محمد بن محمد بن شاهين الراشدي الشافعي الأزهري ولد بالراشدية قرية بالغربية سنة 1118 وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده وقدم الأزهر فتفقه على الشيخ مصطفى العزيزي والشيخ مصطفى العشماوي وأخذ الحساب والفرائض عن الشيخ محمد الغمري وسمع الكتب الستة على الشيخ عيـد النمرسـي بطرفيهـا وبعضهـا علـى الشيخ عبد الوهاب الطندتاوي وسيدي محمد الصغير وله شيوخ كثيرون‏.‏

ورافق الشيخ الوالد وعاشره مدة طويلة وتلقى عنه وهو أحد أصحابه من الطبقة الأولى ولم يزل محافظًا على وده وتردده ومؤانسته ويتذكر الأزمان السالفة والأيام الماضية ولـه شيـوخ كثيـرون‏.‏

وكـان مـن جملـة محفوظاتـه البهجـة الوردية وقد انفرد في عصره بذلك واعتني بالكتب الستة كتابة ومقابلة وتصحيحًا وكان حسن التلاوة للقرآن حلو الأداء مع معرفته بأصول الموسيقـى ولذلـك ناطـت بـه رغبـة الأمـراء فصلـى إمامـًا بالأمير محمد بك ابن اسمعيل بك مع كمال العفة والوقار والانجماع عن الناس حتى أن كثيرًا منهم يود أن يسمع منه خربًا من القرآن فلا يمكنه ذلك ثم أقلع عن ذلك وأقبل على إفادة الناس فقرأ المنهج مرارًا وابن حجر على المنهاج مرارًا وكان يتقنه ويحل مشكلاته بكمال التؤدة والسكينة فاستمر مدة يقرأ دروسه بمدرسة السنانيـة قـرب الأزهـر ثـم انتقـل إلـى زاويـة قـرب المشهـد الحسيني وكان تقرير مثل سلاسل الذهب فـي حسـن السبـك وقـد انتفـع به كثير من الأعلام ولما بنى المرحوم محمد بك أو الذهب المدرسة تجـاه الجامـع الأزهر في هذه السنة راوده أن يكون خطيبًا بها فامتنع فألح عليه وأرسل له صرة فيها دنانير لها صورة فأبى أن يقبل ذلك ورده فألح عليه فلما أكثر عليه خطب بها أول جمعة وألبسه فروة سمور وأعطاه صرة فيها دنانير فقبلها كرهًا ورجع إلى منزله محمومًا يقال فيما بلغنـي أنـه طلـب مـن اللـه أن لا يخطـب بعـد ذلـك فانقطـع في منزله مريضًا إلى أن توفي ليلة الثلاثاء ثاني شوال من السنة وجهز ثاني يوم وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالقرافة الصغرى تجاه قبة أبي جعفر الطمحاوي ولم يخلف بعده في جمع الفضائل مثله‏.‏

وكان صفته نحيف البدن منور الوجه والشيبة ناتئ الجبهة ولا يلبس زي الفقهاء ولا العمامة الكبيرة بل يلبس قاووقـًا لطيفـًا فتلـي ويركـب بغلـة وعليهـا سلـخ شـاة أزرق‏.‏

وأخـذ كتبـه الأميـر محمد بك ووقفها في كتبخانته التي جعلها بمدرسته وكان لها جرم وكلها صحيحة مخدومة وسرق غالبها‏.‏

ومات الشيخ الصالح سعد بن محمد بن عبد الله الشنواني حصل في مباديه شيئًا كثيرًا من العلوم ومال إلى فن الأدب فمهر فيه وتنزل قاضيًا في محكمة باب الشعرية بمصر وكان إنسانًا حسنًا بينه وبين الفضلاء مخاطبات ومحاورات وشعره حسن مقبول وله قصائد ومدائح فـي الأوليـاء وغيرهـم أحسن فيها ولم أعثر على شيء منها وجدد له شيخنا السيد مرتضى نسبة إلـى الشيـخ شهـاب الديـن العراقـي دفيـن شنـوان‏.‏

توفـي يـوم السبـت خامس جمادى الثانية من السنة وقد جاوز السبعين رحمه الله‏.‏

ومـات العلامـة الفقيه الصالح الدين الشيخ علي بن حسن المالكي الأزهري قرأ على الشيخ علي العـدوي وبـه تخـرج وحضر غيره من الأشياخ ومهر في الفقه والمعقول وألقى دروسًا بالأزهر ونفع الطلبـة وكان ملازمًا على قراءة الكتب النافعة للمبتدئين مثل أبي الحسن وابن تركي والعشماوية في الفقه وفي النحو الشيخ خالد والأزهرية والشذور وحلقة درسه عظيمة جدًا وكان لسانه أبدًا متحركًا بذكرى الله‏.‏

توفي ليلة الخميس منتصف ربيع الأول من السنة ودفن بالمجاورين‏.‏

ومـات الشيـخ الإمـام المحـدث البـارع الزاهـد الصوفـي محمـد بـن أحمـد ابـن سالـم أبـو عبد الله السفريتي النابلسـي الحنبلبـي ولـد كما وجد بخطه سنة 1114 تقريبًا بسفارين وقرأ القرآن في سنة إحدى وثلاثيـن فـي نابلـس واشتغـل بالعلم قليلًا وارتحل إلى دمشق سنة ثلاث وثلاثين ومكث بها قدر خمـس سنوات فقرأ بها على الشيخ عبد القادر التغلبي دليل الطالب للشيخ مرعي الحنبلي من أولـه إلـى آخـر قراءة تحقيق والإقناع للشيخ موسى الحجازة وحضره في الجامع الصغير للسيوطي بيـن العشائيـن وغيـره مما كان يقرأ عليه في سائر أنواع العلوم وذاكره في عدة مباحث من شرحه على الدليل فمنها ما رجع عنها ومنها ما لم يرجع لوجود الأصول التي نقل منها وكان يكرمه ويقدمـه علـى غيـره وأجـازه بمـا فـي ضمـن ثبتـه الـذي خرجه له الشيخ محمد بن عبد الرحمن الغزى في سنة خمس وثلاثين وعلى الشيخ عبد الغني النابلسي الأربعين النووية وثلاثيات البخاري والإمـام أحمـد وحضـر دروسـه فـي تفسيـر القاضـي وتفسيـره الذي صنفه في علم التصوف وأجازه عمومًا بسائر ما يجوز له وبمصنفاته كلها وكتب له إجازة مطولة وذكر فيها مصنفاته وعلـى الشيخ عبد الرحمن المجلد ثلاثيات البخاري وحضر دروسه العامة وأجازه وعلى الشيخ عبد السلـام ابن محمد الكاملي بعض كتب الحديث وشيئًا من رسائل أخوان الصفا وعلى ملا الياس الكوراتي كتب المعقول وعلى الشيخ اسمعيل بن محمد العجلوني الصحيح بطرفيه مع مراجعة شروحه الموجودة في كل رجب وشعبان ورمضان من كل سنة مدة إقامته بدمشق وثلاثيات البخاري وبعض ثلاثيات أحمد وشيئًا من الجامع الصغير مع مراجعة شرحه للمناوي والعلقمي وشيئًا من الجامع الكبير وبعضًا من كتاب الإحياء مع مراجعة تخريج أحاديثه للزيـن العراقـي والأندلسية في العروض مع مطالعة بعض شروحها وبعضًا من شرح شذور الذهب وشرح رسالة الوضع مع حاشيته التي ألفها وحاشية ملا الياس وأجـازه بكـل ذلـك وبمـا يجـوز لـه روايتـه وعلـى الشيـخ أحمـد بـن علـي المنيني شرح جمع الجوامع للمحلى وشرح الكافية لملا جامي وشـرح القطـر للفاكهـي وحضـر دروسـه للصحيـح وشرحـه علـى منظومـة الخصائـص الصغرى للسيوطي وقد أجازه بكل ذلك إجازة مطولة كتبها بخطه وعلى الشيخ محمد بن عبد الرحمن الغزي بعضًا من شرح ألفية لعراقي لزكريا وأول سنن أبي داود وعلى قريبه الشيخ أحمد الغزي غالب الصحيح بالجامع الأموي بحضرة جملة من كبار شيوخ المذاهب الأربعة وعلى الشيـخ مصطفـى بـن سـوار أول صحيـح مسلـم وعلـى حامـد أفنـدي مفتـي الشـام المسلسـل بالأوليـة وثلاثيات البخاري وبعض ثلاثيات أحمد وحج سنة ثمان وأربعين فسمع بالمدينة على الشيخ محمد حياة المسلسل بالأولية وأوائل الكتب الستة وتفقه على شيخ المذهب مصطفى بن عبد الحـق اللبـدي وطـه بن أحمد اللبدي ومصطفى بن يوسف الكرمي وعبد الرحيم الكرمي والشيخ المعمـر السيـد هاشـم الحنبلي والشيخ محمد السلقيني وغيرهم ومن شيوخه الشيخ محمد الخليلي سمـع عليـه أشيـاء والشيـخ عبـد اللـه البصـروي سمـع عليـه ثلاثيـات أحمـد مع المقابلة بالأصل المصحح والشيـخ محمد الدقاق أدركه بالمدينة وقرأ عليه أشياء واجتمع بالسيد مصطفى البكري فلازمه وقرأ عليه مصنفاته وأجازه بما له وكتب له بذلك وله شيوخ أخر غير من ذكرت وله مؤلفات منهـا شـرح عمـدة الأحكـام للحافـظ عبـد الغنـي فـي مجلدين وشرح ثلاثيات أحمد في مجلد ضخم وشـرح نونيـة الصرصـري الحنبلـي سمـاه معـارج الأنـوار فـي سيـرة النبي المختار وبحر الوفا في سيرة النبي المصطفى وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب والبحور الزاخرة في علوم الآخـرة وشـرح الـدرة المضيـة فـي اعتقـاد الفرقـة الأثريـة ولوائـح الأنـوار السنيـة فـي شرح منظومة أبي بكر بن أبي داود الحائية وكان المترجم شيخًا ذا شيبة منورة مهيبًا جميل الشكل ناصرًا للسنة قامعًا للبدعـة قـوالًا بالحـق مقبـلًا علـى شأنـه مداومـًا على قيام الليل في المسجد ملازمًا على نشر علوم الحديث محبًا في أهلـه ولا زال يملـي ويفيـد ويجيـز مـن سنـة ثمـان وأربعيـن إلـى أن توفـي يـوم الاثنيـن ثامـن شوال من هذه السنة بنابلس وجهز وصلي عليه بالجامع الكبير ودفن بالمقبرة الزاركنية وكثر ومات العمدة المبجل الفاضل الشيخ أحمد بن محمد بن عبد السلام الشرفي المغـرب الأصـل المصري المولد وكان والده شيخًا على رواق المغاربة بالجامع الأزهر ومن شيوخ الشيخ أحمد الدمنهوري وولده هذا كان له معرفة بعلم الميقات ومشاركة حسنة وفيه صداقة ود وحسن عشرة مع الإخوان ومكارم أخلاق ويدعو الناس والعلماء في المولد النبوي إلى بيته بالأزبكية ويقدم لهم الموائد والحلوى وشراب السكر وكان لديه فوائد وآثر حسنة توفي سابع عشر ربيع الأول من السنة وقد جاوز السبعين رحمه الله‏.‏

ومـات العمـدة الفاضـل الشيـخ زيـن الديـن قاسـم العبـادي الحنفـي تفقه على الشيخ سلمان المنصـوري والشيـخ أحمـد بـن عمـر الاسقاطـي إلـى أن صـار يقـرأ درسـًا فـي المذهـب ولم يزل ملازمًا شأنه حتى توفي ثالث عشر الحجة من السنة وقد ناهز الثمانين رحمه الله‏.‏

ومات العمدة المعمر الشيخ عبد الله الموقت بجامع قوصون وكان يعرف بالطويل وكان إنسانًا صالحًا ناسكًا ورعًا توفي فجأة في الحمام ثاني عشر الحجة عن سبع وثمانين سنة‏.‏

ومات العمدة الفاضل الأديب الماهر الشيخ علي بن أحمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن عامر العطشي الفيومي الشافعي وهو أخو الشيخ أحمد العطشي وكان له مذاكرة حسنـة وحضـر على الشيخ الحنفي وغيره وكان نعم الرجل توفي في جمادى الآخرة‏.‏

ومات السيد الشريف المعمر محمد بن حسن بن محمد الحسني الوفائي باش جاويش السادة الأشراف أخـذ عـن الشيـخ المعمـر يوسـف الطولونـي وكـان يحكـي عنـه حكايـات مستحسنـة وغرائـب وكـان متقيـدًا بالسيـد محمـد أبـي هـادي الوفائـي فـي أيـام نقابتـه على الأشراف ولديه فضيلة وفوائد توفي هذه السنة عن نحو ثمانين سنة‏.‏

ومات الشيخ الصالح سليمان بن داود بن سليمان بن أحمد الخربتاوي وكان من أهل المروءة والدين توفي ثامن عشرى المحرم من السنة في عشر الثمانين‏.‏

ومات الجناب المكرم الأمير أحمد أغا البارودي وهو مـن مماليـك إبراهيـم كتخـدا القازدغلـي وتـزوج بابنتـه التـي مـن بنـت البـارودي وسكـن معها في بيتهم المشهور خارج باب سعادة والخرق وولد له منها أولاد ذكور وإناث ومنهم صاحبنا إبراهيم جلبي وعلي ومصطفى وهو أستاذ محمـد أغـا الآتـي ذكـره‏.‏

تقلـد المترجـم فـي أيـام علـي بـك مناصـب جليلـة مثـل أغاوية المتفرقة وكتخدا الجاويشية وكان إنسانًا حسنًا صافي الباطن لا يميل ضبعه لسوى عمل الخير ويحب أهل العلم وممارستهـم وكـان لـه ميـل عظيـم واعتقـاد حسـن فـي المرحـوم الشيخ الوالد ويزوره في كل جمعةة مع غاية الأدب والامتثال ومما شاهدته من كمال أدبه وشدة اعتقاه وحبه أنه صادفه مرة بالطريق وهو إذ ذاك كتخدا الجاويشية وهو راكب في أبهته وأتباعه والشيخ راكب على بغلته فعندما رآه ترجل ونزل عن جواده وقبل يده فأنكر عليه فعله واستعظمه واستحى منه والتمس منه أن يقيد به بعض الكلبة ليقرئه شيئًا من الفقه والدين فقيد به الشيخ عبد الرحمن العريشي فكان يذهب إليه ويطالع له القدوري وغيره وكان يكرمه ويواسيه ولم يزل على حسن حالته حتى توفي في سابـع جمـادى الأولـى مـن السنـة وكـان لـه فـي منزلـه خلـوة ينفـرد فيهـا بنفسـه ويخلـع ثيـاب الأبهـة ويلبس كساء صوف أحمر على بدنه ويأخذ سبحة كبيرة يذكر ربه عليها‏.‏

ومات الأمير الصالح خليل أغا مملوك الأمير عثمان بك الكبير تابع ذي الفقار وهو أستاذ الأمير علـي خليل توفي ببلد له بالفيوم وجيء به ميتًا في عشية نهار السبت حادي عشرين جمادى الثانية من السنة فغسل وكفن ودفن بالقرافة وكان إنسانًا دينًا خيرًا محبًا للعلماء والصلحاء‏.‏

ومات الأمير اسمعيل أفندي تابع المرحوم الشريف محمد أغا كاتب البيورلدي وكان إنسانًا خيرًا صالحًا توفي يوم الأحد ثاني عشرين جمادى الثانية‏.‏

ومات السيد المعمر الشريف عبد اللطيف أفندي نقيب الأشراف بالقـدس وابـن نقبائهـا عـن تسعين سنة تقريبًا وولى بعده أكبر أولاده السيد عبد الله أفندي رحمه الله‏.‏

ومات الأمير المبجل محمد أفندي جاوجان ميسو وكان حافظ لكتاب الله موفقًا وفيه فضيلة وفصاحة ويحب العلماء والأشراف ويحسن إليهم‏.‏

توفي ليلة الاثنين عشرين ربيع الأول وصلى ومات الأمير مصطفى بك الصيداوي تابع الأمير علي بك القازدغلي‏.‏

وكان سبب موته أنه خـرج إلـى الخـلاء جهـة قصـر العينـي وركـض جـواده فسقـط عنـه ومـات لوقتـه وحمـل إلـى منزله بدرب الحجر وجهز وكفن ودفن بالقرافة وذلك في منتصف ربيع الأول من السنة‏.‏

ومات الأمير علي أغا أبو قوره من جماعة الوكيل سادس عشر ربيع الأول سنة تاريخه‏.‏

ومات الأمير محمد أفندي الزاملي كاتب قلم الغربيـة وكـان صاحـب بشاشـة وتـودد وحسـن أخلـاق‏.‏

توفـي رابـع عشريـن صفـر مـن السنـة وخلـف ولـده حسـن أفنـدي قلفـة الغربيـة الآتـي ذكره في سنة 1202‏.‏

ومات الخواجا المكرم الحاج محمد عرفات الغزاوي التاجر وهو والد عبد الله ومصطفى‏.‏

توفي يوم الثلاثاء ثامن صفر من السنة والله تعالى أعلى‏.‏

سنة تسع وثمانين ومائة وألف فيها عزم محمد بك أبو الذهب على السفر والتوجه إلى البلاد الشامية بقصد محاربة الظاهر عمر واستخلاص ما بيده من البلاد فبرز حاميه إلى العادلية وفـرق الأمـوال والتراحيـل علـى الأمراء والعساكر والمماليك واستعد لذلك استعدادًا عظيمًا في البحر والبـر وأنـزل بالمراكـب الذخيـرة والجبخانـة والمدافع والقنابل والمدفع الكبير المسمى بأبو مايلة الذي كان سبكه في العام الماضـي‏.‏

وسافـر بجموعـه وعساكـره في أوائل المحرم وأخذ صحبته مراد بك وإبراهيم بك طنان واسمعيـل بـك تابـع اسمعيـل بـك الكبيـر لا غيـر وتـرك بمصـر إبراهيـم بـك وجعلـه عوضـًا عنـه فـي إمارة مصـر واسمعيـل بـك وباقـي الأمراء والباشا بالقلعة وهو مصطفى باشا النابلسي وأرباب العكاكيز والخـدم والوجاقليـة‏.‏

ولـم يـزل فـي سيـره حتـى وصـل إلـى جهـة غزة وارتجت البلاد لوروده ولم يقف أحد في وجهه وتحصن أهل يافا بها وكذلك الظاهر عمر تحصن بعكا فلما وصل إلى يافا حاصرها وضيق على أهلها وامتنعوا عم أيضًا عليه وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج ورمى عليهم بالمدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليالي فكانوا يصعـدون إلـى أعلـى السـور ويسبون المصريين وأميرهم سبًا قبيحًا‏.‏

فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها وهجموا عليها من كل ناحية وملكوها عنوة ونهبوها وقبضوا على أهلها وربطوهم في الحبال والجنازير وسبـوا النسـاء والصبيـان وقتلـوا منهـم مقتلة عظيمة‏.‏

ثم جمعوا الأسرى خارج البلد ودوروا فيهم السيـف وقتلوهـم عـن آخرهـم ولـم يميـزوا بيـن الشريـف والنصرانـي واليهـودي والعالم والجاهل والعامي والسوقي ولا بين الظالم والمظلوم وربما عوقب من لا جنى وبنوا من رؤوس القتلى عدة صوامع ووجوههـا بـارزة تنسـف عليهـا الأتربـة والرياح والزوابع ثم ارتحل عنها طالبًا عكا فلما بلغ الظاهر عمر ما وقع بيافا اشتد خوفه وخرج من عكا هاربًا وتركها وحصونها فوصل إليها محمد بك ودخلها من غير مانع وأذعنت له باقي البلاد ودخلوا تحت طاعته وخافـوا سطوتـه وداخـل محمـد بـك مـن الغـرور والفرح ما لا مزيد عليه وما آل به إلى الموت والهلاك‏.‏

وأرسل بالبشائر إلى مصر والأمراء بالزينة فنودي بذلك وزينت مصر وبولاق القاهرة وخارجها زينة عظيمة وعمل بها وقدات وشنكات وحراقات وأفراح ثلاثة أيام بلياليها وذلك في أوائل ربيع الثاني‏.‏

فعند انقضاء ذلك ورد الخبر بموت محمد بك واستمر في كل يوم يفشو الخبر وينمو ويزيد ويتناقل ويتأكـد حتـى وردت السعـاة بتصحيـح ذلـك وشـاع فـي النـاس وصـاروا يتعجبون ويتلون قوله تعالى‏:‏ حتـى إذا فرحـوا بمـا أوتـوا أخذناهـم بغتـة فـإذا هم مبلسون‏.‏

وذلك أنه لما تم له الأمر وملك البلاد المصريـة والشاميـة وأذعـن الجميـع لطاعتـه وقـد كان أرسل اسمعيل أغا أخا علي بيك الغزاوي إلى إسلامبول يطلب أمرية مصر والشام وأرسل صحبته أموالًا وهدايا فأجيب إلى ذلك وأعطوه التقاليد والخلع والبرق والداقم وأرسل له المراسلات والبشائر بتمام الأمر فوافاه ذلك يوم دخوله عكا فامتلأ فرحًا وحم بدنه في الحال فأقام محمومًا ثلاثة أيام ومات ليلة الرابع ثامن ربيع الثاني‏.‏

ووافى خبر موته اسمعيل أغا عندما تهيأ نزل في المراكب يريد المسير إلى مخدومه فانتقض الأمر وردت التقاليد وباقي الأشياء‏.‏

ولما تم له أمر يافا وعكا وباقي البلاد والثغور فـرح الأمـراء والأجنـاد الذيـن بصحبته برجوعهم إلى مصر وصاروا متشوقين للرحيل والرجوع إلى الأوطـان‏.‏

فاجتمعـوا إليـه فـي اليوم الذي نزل به ما نزل في ليته فتبين لهم من كلامه عدم العود وأنـه يريد تقليدهم المناصب والأحكام بالديار الشامية وبلاد السواحل وأمرهم بإرسال المكاتبـات إلـى بيوتهم وعيالهم بالبشارات بما فتح الله عليهم وما سيفتح لهم ويطمنوهم ويطلبوا احتياجاتهم ولوازمهم المحتاجين إليها من مصر‏.‏

فعند ذلك اغتموا وعلموا أنهم لا براح لهم وإن أملـه غيـر هـذا وذهـب كل إلى مخيمة يفكر في أمره قال الناقل‏:‏ وأقمنا على ذلك الثلاة أيام التي تمرض فيها وأكثرنا لا يعلم بمرضه ولا يدخل إليه إلا بعض خواصه ولا يذكرون ذلك إلا بقولهم في اليـوم الثالـث أنـه منحـرف المـزاج‏.‏

فلمـا كـان فـي صبـح الليلـة التـي مـات بهـا نظرنـا إلـى صيوانـه وقـد انهدم ركنه وأولاد الخزنة في حركة ثم زاد الحال وجردوا على بعضهم السلاح بسبب المـال وظهر أمر موته وارتبك العرضي وحضر مراد بيك فصدهم وكفهم عن بعضهم وجمع كبراءهم وتشاوروا في أمرهم وأرضى خواطرهم خوفًا من وقوع الفشل فيهم وتشتتهم في بلاد الغربة وطمـع الشامييـن وشماتتهم فيهم‏.‏

واتفق رأيهم على الرحيل وأخذوا رمة سيدهم صحبتهم ولما تحقـق عندهـم أنهم إن دفنوه هناك في بعض المواضع أخرجه أهل البلاد ونبشوه وأحرقوه فغسلوه وكفنوه ولفوه في المشمعات ووضعوه في عربة وارتحلوا به طالبين الديار المصرية‏.‏

فوصلوا في ستة عشر يومًا ليلة الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني أواخر النهار فأرادوا دفنه بالقرافة‏.‏

وحضر الشيخ الصعيدي فأشار بدفنه في مدرسته تجاه الأزهر فحفروا له قبرًا في الليوان الصغير الشرقي وبنوه ليلًا ولما أصبح النهار عملوا له مشهدًا وخرجوا بجنازته من بيته الذي بقوصون ومشـى أمامـه المشايـخ والعلمـاء والأمـراء وجميـع الأحـزاب والـأوراد وأطفـال المكاتـب وأمام نعشه مجامر العنبر والعود سترًا على رائحته ونتنه حتى وصلوا به إلى مدفنه وعملوا عنده ختمات وقراءات وصدقـات عـدة ليـال وأيـام نحـو أربعيـن يومـًا‏.‏

واستقـرأ تباعـه أمـراء ورئيسهم إبراهيم بيك ومراد بيك وباقيهم الذين أمرهم في حياته ومات عنهم يوسف بيك وأحمد بيك الكلارجي ومصطفى بيك الكبير وأيوب بيك الكبير وذو الفقار بيك ومحمد بيك طبـال ورضـوان بيـك والذين تأمروا بعده أيوب بك الدفتردار وسليمان بيك الأغا وإبراهيم بيك الوالـي وأيـوب بيـك الصغيـر وقاسـم بيـك الموسقـو وعثمـان بيـك الشرقـاوي ومـراد بيـك الصغيـر وسليم بيك أبو دياب ولاجين بيك وسيأتي ذكر أخبارهم‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان مات الإمام الهمام شيخ مشايخ الإسلام عالم العلماء الأعلام إمام المحققين وعمدة المدققين الشيخ علـي بـن أحمـد بـن مكـرم اللـه الصعيـدي العـدوي المالكـي ولـد ببني عدى كما أخبر عن نفسه سنة 112 ويقال له أيضًا المنفيسي لأن أصوله منها وقدم إلى مصر وحضر دروس المشايخ كالشيخ عبد الوهاب الملوى والشيخ شلبي البرلسي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عبد الله المغربي والسيد محمد السلموني ثلاثتهم عن الخرشي وأقرانه وكسيدي محمد الصغير والشيخ إبراهيم الفيومي ومحمـد بن زكريا والشيخ محمد السجبيني والشيخ إبراهيم شعيب المالكي والشيخ أحمد الملوى والشيـخ أحمـد الديربـي والشيخ عيد النمرسي والشيخ مصطفى العزيزي والشيخ محمد العشماوي والشيخ محمد ابن يوسف والشيخ أحمد الأسقاطي والبقرى والعماوي والسيد علي السيواسي والمدابغي والدفري والبليدي والحفني وآخرين وبآخرة تلقن الطريقة الأحمدية عن الشيخ علي بن محمد الشناوي ودرس بالأزهر وغيره‏.‏

وقد بارك الله في أصحابه طبقة بعد طبقة كما هو مشاهد وكان يحكي عن نفسه أنه طالما كان يبيت بالجوع في مبدأ اشتغاله بالعلم وكان لا يقدر على ثمن الورق ومع ذلك إن وجد شيئًا تصدق به‏.‏

وقد تكررت له بشارات حسنة منامـًا ويقظـة ولـه مؤلفـات دالـة علـى فضلـه منهـا حاشيـة على ابن تركي وأخرى على الزرقاني على العزية وأخرى على شرح أبي الحسن على الرسالة في مجلدين ضخمين وأخرى على الخرشي وأخرى على شرح الزرقاني على المختصر وأخرى على الهدهدي على الصغرى وحاشيتان علـى عبـد السلـام على الجوهرة كبرى وصغرى وأخرى على الأخضري على السلم وأخرى على بن عبد الحق على بسملة شيخ الإسلام وأخرى على شرح شيخ الإسلام على الفية المصطلح للعراقي وغير ذلك‏.‏

وكان قبل ظهوره لم تكن المالكية تعرف الحواشي على شروح كتبهم الفقهية فهو أول من خدم تلك الكتب بها وله شرح على خطبة كتاب إمداد الفتاح على نور الإيضـاح فـي مذهـب الحنفيـة للشيـخ السرنبلالـي وكان رحمه الله شديد الشكيمة في الدين يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة ويحب الاجتهاد في طلب العلم ويكره سفاسف الأمور وينهـى عـن شـرب الدخـان ويمنـع مـن شربـه بحضرتـه وبحضـرة أهـل العلـم تعظيمًا لهم‏.‏

وإذا دخل إلى منزل من منازل الأمراء ورأى من يشرب الدخان شنع عليه وكسر آلته ولو كانت في يد كبير الأمراء‏.‏

وشاع عنه ذلك وعرف في جمع الخاص والعام وتركوه بحضرته فكانوا عندما يرونه مقبـلًا مـن بعيـد نبه بعضهم بعضًا ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم وأخفوها عنه وإن رأى شيئًا منها أنكـر عليهـم ووبخهـم وعنفهم وزجرهم حتى أن علي بك في أيام إمارته كان إذا دخل عليه في حاجة أو شفاعة أخبروه قبل وصوله إلى مجلسه فيرفع الشبك من يده ويخفوه من وجهه وذلك مع عتوه وتجبره وتكبره‏.‏

واتفق أنه دخل عليه في بعض الأوقات فتلقاه على عادته وقبل يده وجلـس فسكت الأمير مفكرًا في أمر من الأمور فظن الشيخ إعراضه عنه فأخذته الحدة وقال يـا ميـن يا مين يا من هو غضبك ورضاك على حد سواء بل غضبك خير من رضاك‏.‏

وكرر ذلك وقام قائمًا وهو يأخذ بخاطره ويقول‏:‏ أنا لم أغضب من شيء ويستعطفه‏.‏

فلم يجبه ولم يجلـس ثانيـًا وخـرج ذاهبـًا‏.‏

ثـم سـأل علـي بـك عـن القضيـة التـي أتـى بسببهـا فأخبـروه فأمر بقضائها‏.‏

واستمر الشيخ منقطعًا عن الدخول إليه مدة حتى ركب في ليلة من ليالي رمضان مع الشيخ الوالـد فـي حاجة عند بعض الأمراء ومرا ببيت علي بك فقال له ادخل بنا نسلم عليه فقال يا شيخنـا أنـا لا أدخـل فقـال لا بـد مـن دخولك معي‏.‏

فلم تسعه مخالفته وانسر بذلك علي بك تلك الليلـة سـرورًا كثيـرًا‏.‏

ولمـا مـات علـي بـك واستقل محمد بك أبو الذهب بإمارة مصر كان يجل من شأنـه ويحبـه ولا يـرد شفاعتـه فـي شـيء أبـدًا وكل من تعسر عليه قضاء حاجة ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته فيكتبها مع غيرهـا فـي قائمـة حتـى تمتلـئ الورقـة ثـم يذهـب إلـى الأميـر بعـد يوميـن أو ثلاثة فعند ما يستقر في الجلوس يخرج القائمة من جيبه ويقص ما فيها من القصص والدعاوى واحدة بعد واحدة ويأمره بقضاء كل منها والأمير لا يخالفه ولا ينقبض خاطره في شيء من ذلـك‏.‏

ولمـا بنـى الأميـر المذكـور مدرستـه كـان المترجـم هـو المتعيـن فـي التدريـس بهـا داخـل القبـة على الكرسـي وابتـدأ بهـا البخـاري وحضـره كبار المدرسين فيها وغيرهم ولم يترك درسه بالأزهر ولا بالبرديكيـة‏.‏

وكـان يقـرأ قبـل ذلـك بمسجـد الغريـب عنـد بـاب البرقيـة فـي وظيفـة جعلهـا لـه الأمير عبد الرحمن كتخدا وكذلك وظيفة بعد الجمعة بجامع مرزه ببولاق‏.‏

وكان على قدم السلف في الاشتغال والقناعة وشرف النفس وعدم التصنع والتقـوى ولا يركـب إلا الحمـار ويؤاسـي أهلـه وأقاربه ويرسل إلى فقرائهم ببلده الصلات والأكسية والبز والطرح للناس والعصائب والمداسات وغير ذلك‏.‏

ولم يـزل مواظبـًا علـى الإقـراء والإفـادة حتـى تمـرض بخـراج فـي ظهـره أيامـًا قليلـة وتوفـي فـي عاشر رجب من السنة وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم ودفن بالبستان بالقرافة الكبرى رحمه الله ولم يخلف بعده مثله ولم أعثر على شيء من مراثيه‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة الفقيـه الصالـح الشيـخ أحمـد بـن عيسى بن أحمد ابن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الشافعي ولد بمصر وبها نشأ وحفظ القرآن والمتون وتفقه على والده وغيره وحضر المعقـول وتمهـر وأنجـب ودرس فـي حيـاة والده وبعد وفاته تصدر للتدريس في محله وحضره طلبة أبيه واتسعت حلقة درسه مثل أبيه واشتهر ذكره وانتظم في عداد العلماء‏.‏

وكان نعم الرجل شهامـة وصرامـة وفيـه صداقـة وحـب للإخـوان‏.‏

توفي بطندتا ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول فجـأة إذ كـان ذهـب للزيـارة المعتـادة وجـيء بـه إلـى مصـر فغسـل في بيته وكفن وصلي عليه بالجامع الأزهر ودفن بتربة والده بالمجاورين‏.‏

ومات الإمام الفاضل المسن الشيخ أحمد بن رجب بن محمد البقري الشافعـي المقـري حضـر دروس كل من الشيخ المدابغي والحفني ولازم الأول كثيرًا فمسمع منه البخاري بطرفيه والسيرة الشامية كلها وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار وكان سريع الفهم وافر العلم كثير التلاوة للقرآن مواظبًا على قيام الليل سفرًا وحضرًا ويحفظ أورادًا كثيرة وأحزابًا ويجيز بها وكان يحفظ غالـب السيـرة ويسردهـا مـن حفظـه ونعـم الرجـل كـان متانـة ومهابـة‏.‏

توفـي وهو متوجه إلى الحج في منزلة النخل آخر يوم من شوال من السنة ودفن هناك‏.‏

ومات عالم المدينة ورئيسها الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان ولد بالمدينة ونشأ في حجر والده واشتغل يسيرًا بالعلم وأرسله والده إلى مصر في سنة 1174 فتلقته تلامذة أبيه بالإكرام وعقـد حلقـة الذكـر بالمشهد الحسيني وأقبلت علي الناس ثم توجه إلى المدينة‏.‏

ولما توفي والده أقيم شيخًا في محله ولم يزل على طريقته حتى مات في رابع الحجة من السنة عن ثمانين سنة‏.‏ ومات

العلامة المعمر الصالح الشيخ أحمد الخليلي الشامي

أحد المدرسين بالأزهر تلقى عن أشياخ عصره ودرس وأفاد وكان به انتفاع للطلبة تام عام وألف أعراب الآجروميـة وغيـره‏.‏

توفي في عاشر صفر من السنة‏.‏

ومـات الأميـر الكبير محمد بك أبو الذهب تابع علي بك الشهير اشتراه أستاذه في سنة خمس وسبعين فأقام مع أولاد الخزنة أيامًا قليلة وكان إذ ذاك اسمعيل بك خازندار فلما أمر اسمعيل بـك قلـده الخازنداريـة مكانـه وطلـع مـع مخدومـه إلـى الحـج ورجـع أوائل سنة ثمان وسبعين وتأمر في تلـك السنـة وتقلـد الصنجقيـة وعـرف بأبـي الذهـب‏.‏

وسبـب تلقبـه بذلك أنه لما لبس الخلعة بالقلعة صار يفرق البقاشيش ذهبًا وفي حال ركوبه ومروره جعل ينثر الذهب على الفقراء والجعيدية حتـى دخـل إلـى منزلـه فعـرف بذلـك لأنـه لـم يتقدم نظيره لغيره ممن تقلد الأمريات واشتهر عنه هذا اللقب وشاع وسمع عن نفسه شهرته بذلك فكان لا يضع في جيبه إلا الذهب ولا يعطي إلا الذهـب ويقـول‏:‏ أنـا أبو الذهب فلا أمسك إلا الذهب‏.‏

وعظم شأنه في زمن قليل ونوه مخدومه بذكـره وعينـه فـي المهمـات الكبيـرة والوقائـع الشهيـرة وكـان سعيـد الحركـات مؤيـد العزمـات لـم يعهـد عليه الخذلـان فـي مصـاف قـط وقـد تقدمـت أخبـاره ووقائعه في أيام أستاذه علي بك وبعده واستكثر مـن شـراء المماليـك والعبيد حتى اجتمع عنده في الزمن القليل ما لا يتفق لغيره في الزمن الكثير وتقلدوا المناصب والأمريات‏.‏

فلما تمهدت البلاد بسعده المقرون ببأس أستاذ خالف عليه وضم المشردين وغمرهم بالإحسان واستمال بواقي أركان الدولة واستلين الجميع جانبه وجنحوا إليه وأحبـوه وأعانوه وتعصبوا له وقاتلوا بين يديه حتى أراحوا علي بك وخرج هاربًا من مصر إلى الشام واستقر المترجـم بمصـر وسـاس الأمـور وقلـد المناصـب وجبـى الأمـوال والغلـال وراسـل الدولة العثمانية وأظهر لهم الطاعة وقلد مملوكه إبراهيم بك إمارة الحج تلك السنـة وصـرف العلائف وعوائد العربان وأرسل الغلال للحرمين والصرر وتحرك علي بك للرجـوع إلـى مصـر وجيـش الجيـوش فلـم يهتم المترجم لذلك وكاد له كيدًا بأن جمع القرانصة والذين يظن فيهم النفاق وأسـر إليهـم أن يراسلـوا علـي بـك ويستعجلـوه في الحضور ويثقوا مساوئ للمترجم ومنفرات ويعدوه بالمخامرة معه والقيام بنصرته متى حضر وأرسلوها إليه بالشريطة السرية‏.‏

فراج عليه ذلـك واعتقد صحته وأرسل إليهم بالجوابات وأعادوا له الرسالة كذلك باطلاع مخدومهم وإشارته فعند ذلك قوي عزم علي بك على الحضور وأقبل بجنوده إلى جهة الديار المصرية فخرج إليه المترجم ولاقاه بالصالحية وأحضره أسيرًا كما تقدم‏.‏

ومات بعد أيام قليلة وانقضى أمره وارتاح المترجـم مـن قبلـه وجمـع باقـي الأمـراء المطروديـن والمشرديـن وأكرمهم واستخدمهم وواساهم واستوزرهم وقلدهم المناصب ورد إليهم بلادهم وعوائدهم واستعبدهم بالإحسان والعطايا واستبدلهم العز بعد الذل والهوان وراحة الأوطان بعد الغربة والتشريد والهجاج في البلدان‏.‏

فثبتت دولته وارتاحت النواحي من الشرور والتجاريد وهابته العربان وقطاع الطريق وأولاد الحرام وأمنت السبل وسلكت الطرق بالقوافل والبضائع ووصلت المجلوبات من الجهـات القبليـة والبحرية بالتجارات والمبيعات‏.‏

وحضر والي مصر خليل باشا وطلع إلى القلعة على العادة القديمة وحضر للمترجم من الدولة المرسومات والخطابات ووصل إليه سيف وخلعة فلبس ذلك فـي الديـوان ونـزل فـي أبهـة عظيمـة وعظـم شأنـه وانفـرد بإمـارة مصـر‏.‏

واستقـام أمره وأهمل أمر اتباع أستـاذه علـي بـك وأقـام أكثرهـم بمصـر بطـالًا‏.‏

وحضر إلى مصر مصطفى باشا النابلسي من أولاد العضم والتجأ إليه فأكرم نزله ورتب له الرواتب وكاتب الدولة وصالح عليه وطلب له ولاية مصـر فأجيـب إلـى ذلـك ووصلت إليه التقاليد والداقم في ربيع الثاني سنة ثمان وثمانين‏.‏

ووجه خليـل باشـا إلـى ولايـة جـدة وسافـر مـن القلـزم فـي جمـادى الثانيـة وتوفـي هنـاك وفـي أواخـر سنـة سبع وثمانيـن‏.‏

شـرع فـي بنـاء مدرستـه التـي تجاه الجامع الأزهر وكان محلها رباع متخربة فاشتراها من أربابها وهدمها وأمر ببنائها على هذه الصفة وهي على أرنيك جامع السنانية الكائن بشاطئ النيل ببولاق‏.‏

فرتب لنقل الأتربة وحمل الجير والرماد والطين عدة كبيرة من قطارات البغـال وكذلـك الجمـال لشيل الأحجار العظيمة كل حجر واحد على جمل وطحنوا لها الجبس الحلواني المصيـص ورمـوا أساسها في أوائل شهر الحجة ختام السنة المذكورة ولما تم عقد قبتها العظيمة وما حولها من القباب المعقودة على اللواوين وبيضوها ونقشوا داخـل القبـة بالألـوان والأصبـاغ وعمل لها شبابيك عظيمة كلها من النحاس الأصفر المصنوع وعمل بظاهرها فسحة مفروشة بالرخام المرمر وبوسطها حنفية وحولها مساكن لمتصوفة الأتراك وبداخلها عدة كراسي راحة وكذلـك بدورهـا العلـوي وبأسفـل مـن ذلـك ميضـأة عظيمـة تمتلئ بالماء من نوفرة بوسطها تصب في صحن كبير من الرخام المصنوع نقلوه إليها من بعض الأماكن القديمة ويفيض منه فيملأ الميضأة وحول الميضأة عدة كراسي راحة وأنشأ ساقية لذلك فحفروها وخرج ماؤها حلوًا فعد ذلك أيضًا من سعده مع أن جميع الآبار والسواقي التي بتلك الخطة ماؤها في غاية الملوحة وأنشأ سفـل ذلـك صهريجـًا عظيمـًا يمـلأ فـي كـل سنة من ماء النيل وحوضًا عظيمًا لسقي الدواب وعمل بأعلـى الميضـأة ثلاثـة أماكـن برسـم جلوس المفتين الثلاثة يجلسون بها حصة من النهار لإفادة الناس بعد إملاء الدروس وقرر فيها الشيخ أحمد الدردير مفتي المالكية والشيخ عبد الرمن العريشي مفتـي الحنفيـة والشيـخ حسـن الكفـراوي مفتـي الشافعيـة‏.‏

ولمـا تـم البنـاء فرشـت جميعها بالحصر ومن فوقها الأبسطة الرومي من داخل وخارج حتى فرجات الشبابيك ومساكن الطباق‏.‏

ولما استقر جلوس المفتين المذكورين بالثلاثة أماكن التي أعدت لهم أضر بهم الرائحة الصاعدة إليهم من المراحيـض التـي مـن أسفـل وأعلمـوا الأميـر بذلـك فأمر بإبطالها وبنوا خلافها بعيدًا عنها وتقرر في خطابتها الشيخ أحمد الراشدي وغالب المدرسين بالأزهر مثل الشيخ علي الصعيدي مدرس البخاري والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الرحمـن العريشـي والشيـخ حسن الكفراوي والشيخ أحمد يونس والشيخ أحمد السمنودي والشيخ علي الشنويهي والشيخ عبـد اللـه اللبـان والشيـخ محمد الحفناوي والشيخ محمد الطحلاوي والشيخ حسن الجداوي والشيخ أب الحسـن القلعـي والشيـخ البيلـي والشيـخ محمد الحريري والشيخ منصور المنصوري والشيخ أحمد جاد الله والشيخ محمد المصيلحي ودرسا ليحيى أفندي شيخ الأتراك‏.‏

وتقرر السيد عباس إمامـًا راتبـًا بها وفي وظيفة التوقيت الشيخ محمد الصبان وجعل بها خزانة كتب عظيمة وجعل خازنها محمد أفندي حافظ وينوب عنه الشيخ محمد الشافعي الجناجـي ورتـب للمدرسيـن الكبـار فـي كـل يـوم مائـة وخمسيـن نصفـًا فضـة ولمن دونهم خمسون نصفًا وكذلك للطلبة منهم من له عشرة أنصاف في كل يوم ومنهم من له أكثر وأقل ويقدر عدد الدراهم أرادب من البرفي كل سنـة‏.‏

ولمـا انتهـى أمرهـا وصلـى بهـا الجمعـة فـي شهـر شعبـان سنـة ثمـان وثمانيـن حضـر الأميـر المذكـور واجتمع المشايه والطلبة وأرباب الوظائف وصلوا بها الجمعة وبعد انقضاء الصلاة جلس الشيخ الصعيدي علـى الكرسـي وأملـى حديـث مـن بنـى للـه مسجـدًا ولـو كفحـص قطـاة بنـى اللـه لـه بيـت فـي الجنة‏.‏

فلما انقضى ذلك أحضرت الخلع والفراوي فألبس الشيخ الصعيدي والشيخ الراشدي الخطيـب والمفتيـن الثلاثـة فـراوي سمـور وباقـي المدرسيـن فـراوي نافـا بيضـا وأنعـم فـي ذلـك اليـوم علـى الخدمة والمؤذنين وفرق عليهم الذهب والبقاشيش وتنافس الفقهاء والأشياخ والطلبة وتحاسدوا وتفاتنـوا ووقـف علـى ذلـك أمانـة قويسنا وغيرها والحوانيت التي أسفل المدرسة ولم يصرف ذلك إلا سنـة واحـدة فـإن المترجـم سافـر فـي أوائـل سنـة تسع وثمانين إلى البلاد الشامية كما تقدم ومات عناك ورجعوا برمته وتآمر أتباعه وتقاسموا البلاد فيما بينهم ومن جملتها أمانة قويسنا الموقوفة فبـرد أمـر المدرسة وعوضوا عن ذلك الوكالة التي أنشأها علي بك ببولاق لمصرف أجرة وعليق الأثوار بعدما أضعفوا المعاليم ونقصوها ووزعوا عليهم ذلك الإيراد القليل ولم يزل الحال يتناقص ويضعـف حتـى بطـل منهـا غالـب الوظائـف والخـدم إلـى أن بطـل التوقيـت والـآذان بـل والصلـاة في أكثر الأوقات وأخلق فرشها وبسطها وعتقت وبليت وسرق بعضها وأغلق أحد أبوابها المواجه للقبوة الموصـل للمشهد الحسيني بل أغلقت جميعها شهورًا مع كون الأمراء أصحاب الحل والعقد أتباع الواقـف ومماليكـه لكـن لمـا فقـدت منهم القابلية واستولى عليهم الطمع والتفاخر والتنافس والتغاضـي خـوف الفشـل وتفـرق الكلمـة مـن الانحـراف عـن الأوضاع ظهر الخلل في كل شيء حتى في الأمور الموجبة لنظام دولتهم وإقامة ناموسهم كما يتضح ذلك فيما بعد‏.‏

وبالجملـة فـإن المترجـم كان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة وسعدًا وحزمًا وعزمًا وحكمًا وسماحة وحلمًا وكان قريبًا للخير يحب العلمـاء والصلحـاء ويميـل بطبعـه إليهـم ويعتقـد فيهـم ويعظمهم وينصت لكلامهم ويعطيهم العطايا الجزيلة ويكره المخالفين للدين ولم يشتهر عنه شيء من الموبقات والمحرمات ولا ما يشينه في دينه أو يخل بمروءته بهي الطلعة جميل الصورة أبيض اللون معتدل القامة والبدن مسترسل اللحية مهاب الشكل وقورًا محتشمًا قليل الكلام والالتفات ليـس بمهـدأ ولا خـوار ولا عجـول مبجلًا في ركوبه وجلوسه يباشر الأحكام بنفسه ولولا ما فعله آخـرًا مـن الإسـراف فـي قتل أهل يافا بإشارة وزرائه لكانت حسناته أكثر من سيآته‏.‏

ولم يتفق لأميـر مثلـه فـي كثـرة المماليـك وظهـور شأنهـم فـي المـدة اليسيـرة وعظـم أمرهـم بعـده وانحرفـت طباعهم عن قبول العدالة ومالوا إلى طرق الجهالة واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم وزادوا عن سوابقهـم وألفـوا المظالـم وظنوها مغانم وتمادوا على الجور وتلاحقوا في البغي على الفور إلى أن حصل ما حصل ونزل بهم وبالناس ما نزل‏.‏

وسيتلى عليك من ذلك أنباء وأخبار وما حل بالإقليم بسببهم من الخراب والدمار والله تعالى أعلم‏.‏

سنة تسعين ومائة وألف كـان سلطـان العصـر فيها السلطان عبد الحميد بن أحمد خان العثماني ووالي مصر الوزير محمد باشـا عـزت الكبيـر وأمراؤهـا إبراهيـم بـك ومـراد بيـك مملوكـًا محمـد بيك أبي الذهب وخشداشينهما أيـوب بيـك الكبيـر ويوسـف بيـك أميـر الحـاج ومصطفى بيك الكبير وأحمد بيك الكلارجي وأيوب بيـك الصغيـر ومحمـد بيـك طبـل وحسـن بيـك سـوق السلـاح وذو الفقـار بيك ولاجين بيك ومصطفى بيك الصغير وعثمان بيك الشرقاوي وخليل بيك الإبراهيمي ومن البيوت القديمة حسن بيك قصبة رضوان ورضوان بيك بلفيا وإبراهيم بيك طبان وعبد الرحمن بيك عثمان الجرجاوي وسليمـان بيـك الشابـوري وبقايـا اختياريـة الوجاقات مثل أحمد باشجاويش أرنؤد وأحمد جاويـش المجنـون واسمعيـل أفنـدي الخلوتـي وسليمـان البرديسـي وحسن أفندي درب الشمسي وعبد الرحمن أغا مجرم ومحمد أغا محرم وأحمد كتخدا المعروف بوزير وأحمد كتخدا الفلاح وباقي جماعة الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وغيرهم والأمراء والنهي للأمراء المحمديـة المتقـدم ذكرهـم وكبيرهم وشيخ البد إبراهيم بيك ولا ينفذ أمر بدون اطلاع قسيمة مراد بيك واسمعيل بيك الكبير متنزه ومنعكف في بيته وقانع بإيراده وبلاده ومنزو عن التداخل فيهم من موت سيدهم وعمر داره التي بالأزبكية وأقام بها‏.‏

وفيهـا فـي يـوم الخميـس سابـع شهـر صفر وصل الحج إلى مصر ودخل الركب وأمير الحاج يوسف بيك‏.‏

وفـي ليلـة الجمعـة تاسع صفر وقع حريق بالأزبكية وذلك في نصف الليل بخطة الساكت احترق فيها عدة بيوت عظام وكان شيئًا مهولًا ثم إنها عمرت في أقرب وقت والذي لم يقدر على العمارة باع أرضه فاشتراها القـادر وعمرهـا فعمـر رضـوان بيـك بلفيـا دارًا عظيمـة وكذلـك الخواجـا السيـد عمـر غـراب والسيـد أحمـد عبد السلام والحاج محمود محرم بحيث أنه لم يأت النيل وفيها سقط برع بسوق الغورية ومات فيه عدة كثيرة من الناس تحت الردم ثم إن عبد الرحمن أغا مستحفظان أخذ تلك الأماكن من أربابهـا شـراء وأنشـأ الحوانيـت والربـع علوهـا والوكالـة المعروفة الآن بوكالة الزيت والبوابة التي يسلك منها من السوق‏.‏

وفيهـا حضـر جماعة من الهنود ومعهم فيل صغير ذهبوا به إلى قصر العيني وأدخلوه بالإسطبل الكبيـر وهـرع الناس للفرجة عليه ووقف الخدم على أبواب القصر يأخذون من المتفرجين دراهم وكذلك سواسة الهنود جمعوا بسببه دراهم كثيرة وصار الناس يأتون إليه بالكعك وقصـب السكر ويتفرجون على مصه في القصب وتناوله بخرطومه وكان الهنود يخاطبونه بلسانهم ويفهم كلامهم وإذا أحضروه بين يدي كبير كلموه فيبرك على يديه ويشير بالسلام بخرطومه‏.‏

وفيهـا فـي شهـر رمضـان تعصـب مـراد بيـك وتغيـر خاطـره على إبراهيم بيك طنان ونفاه إلى المحلة الكبيرة وفرق بلاده على من أحب ولم يبق له إلا القليل‏.‏

وفيها شرع الأمير اسمعيل بك في عمل مهم لزواج ابنه وهي من زوجته هانم بنت سيدهم إبراهيـم كتخـدا الـذي كـان تزوجهـا في سنة أربع وسبعين بالمهم المذكور في حوادث تلك السنة وكـان ذلـك المهـم فـي أوائـل شهـر ذي الحجـة وكـان قبـل هـذا المهـم حصـل بينـه وبين مراد بك منازعة ومخاصمة وسببها أن مراد بك أراد أن يأخذ من اسمعيل بك السر ورأس الخليج فوقع بينهما مشاحنـة ومخاصمـة كـاد يتولـد منهـا فتنـة فسعـى فـي الصلـح بينهمـا إبراهيـم بك فاصطلحا على غل وشـرع فـي أثـر ذلـك اسمعيـل بـك فـي عمـل الفـرح فاجتمعـوا يـوم العقـد فـي وليمـة عظيمـة ووقـف مراد بك وفرق المحارم والمناديل على الحاضرين وهو يطوف بنفسه على أقدامه وعمل المهم أيامًا كثيـرة ونـزل محمـد باشـا عزت باستدعاء إلى بيت اسمعيل بك وعندما وصل إلى حارة قوصول نزل الأمراء بأسرهم مشاة على أقدامهم لملاقاته فمشوا جميعًا أمامه على أقدامهـم وبأيديهـم المباخر والقماقم ولم يزالوا كذلك حتى طلع إلى المجلس ووقفوا في خدمته مثل المماليك حتى انقضى الطعام والشربات وقدموا له الهدايا والتقادم والخيول الكثيرة المسمومة ولما انقضت أيام الولائم زفوا العروس إلى زوجها إبراهيم أغا الذي صنجقه اسمعيل بك وهو خازنداره ومملوكه ويسمونـه قشطة وكانت هذه الزفة من المواكب الجليلة ومشى فيها الفيل وعليه خلعة جوخ أحمر فكان ذلك من النوادر‏.‏

ومـات فـي هـذه السنـة الفقيه المتفنن العلامة الشيخ أحمد بن محمد ابن محمد السجاعي الشافعي الأزهـري ولـد بالسجاعيـة قـرب المحلة وقدم الأزهر صغيرًا فحضر دروس الشيخ العزيزي والشيخ محمد السجيني والشيخ عبده الديوي والسيد علي الضرير فقهـر ودرس وأفتـى وألـف وكـان ملازمـًا علـى زيـارة قبور الأولياء ويحيي الليالي بقراءة القرآن مع صلاح وديانة وولاية وجذب وله مع الله حال غريب وهو والد الشيخ الأوحد أحمد الآتي ذكره في تاريخ موته‏.‏

توفي المترجم رحمه الله تعالى في عصر يوم الأربعاء ثامن عشرين ذي القعدة‏.‏

ومات الشيخ الإمام الفقيه العلامة الشيخ عطية بن عطية الأجهوري الشافعي البرهاني الضرير ولد بأجهور الورد إحدى قرى مصر وقـدم مصـر فحضـر دروس الشيـخ العشمـاوي والشيـخ مصطفـى العزيـزي وتفقه عليهما وعلى غيرهما وأتقن في الأصول وسمع الحديث ومهر في الآلات وأنجب ودرس المنهج والتحرير مرارًا وكذا جمع الجوامع بمسجد الشيخ مطهر وله في أسباب النزول مؤلف حسن في بابه جامع لما تشتت من أبوابه وحاشية على الجلالين مفيدة وكذلك حاشية على شرح الزرفاني على البيقونية في مصطلح الحديث وغير ذلك وقد حضر عليه غالـب علمـاء مصر الموجودين واعترفوا بفضله وأنجبوا ببركته وكان يتأنى في تقريره ويكرر الإلقاء مـرارًا مراعاة للمستملين الذين يكتبون ما يقوله ولما بنى المرحوم عبد الرحمن كتخدا هذا الجامع المعروف الآن بالشيخ مطهر الذي كان أصله مدرسة للحنفية وكانت يعرف بالسيوفيين بنى للمترجم بيتًا بدهليزها وسكن فيه بعياله وأولاده‏.‏

توفي في أواخر رمضان‏.‏

ومات الشيخ الفاضل النجيب احمد بن محمد بن العجمي الشافعي كان شابًا فهيمًا داركًا ذا حفظ جيد حضر على علماء العصر وحصل المعقول والمنقول وأدرك جانبًا من العلوم والمعارف ودرس وأملى ولـو عـاش لانتظـم فـي سلـك أعاظـم العلمـاء ولكـن اخترمتـه المنيـة فـي يـوم الاثنيـن حـادي عشرين جمادى الآخرة‏.‏

ومات الشيخ الصالح الورع الناسك أحمد بن نور الدين المقدسي الحنفي إمام جامع قجماس وخطيبه بالدرب الأحمر وهو أخو الشيخ حسن المقدسي مفتي السادة الحنفية شارك أخاه الشيخ حسنًا المذكور في شيوخه واشتغل بالعلم وكان شيخًا وقورًا بهي الشكل مقبلًا على شأنه منجمعًا عن الناس‏.‏

توفي ليلة الاثنين سادس عشر ربيع الأول‏.‏

ومات الفقيه الفاضل الشيخ إبراهيم بن خليل الصيحاني الغزي الحنفي ولد بغزة وبها نشأ وقرأ بعـض المتـون علـى فضـلاء بلده وورد الجامع الأ‏.‏

هر فحضر الدروس ولازم المرحوم الوالد حسنًا الجبرتـي وتلقـى عنـه الفقـه وبعـض العلـوم الغريبـة ثـم عـاد إلـى غـزة وتولـى الإفتـاء بالمذهب وكان يرسل إلى الوالـد فـي كـل سنـة جانبـًا مـن المـوز المـر فـي غلـق مقـدار عشريـن رطـلًا فنخـرج دهنـه ونرفعـه فـي الزجاج لنفع الناس في الدهن ومعالجات بعض الأمراض والجروحات ولم يزل على ذلك حتى ارتحل إلى دمشق وتولى أمانة الفتوى بعد الشيخ عبد الشافي فـي فسـار أحسـن سيـر‏.‏

وتوفـي بهـا فـي هذه السنة في عشر التسعين رحمه الله‏.‏

ومات الفقيه الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد بن نصر بن هيكل ابن جامع الشنويهي تفقه على جماعة من فضلاء العصر وكان يحضر درس الحديث في كل جمعة على السيد البليدي ودرس بالأزهـر وانتفـع بـه الطلبـة وكـان مشهورًا بمعرفة الفروع الفقهية وكان درسه حافلًا جدًا وله حـظ فـي كثـرة الطلبـة وكـان الأشيـاخ يتضايقـون مـن حلقـة درسـه فيطردونه من المقصورة فيخرج إلى الصحن فتملأ حلقة درسه صحن الجامع وفـي بعـض الأحيـان ينتقـل إلـى مدرسـة السنانيـة بجماعته وكان يخطب بجامع الأشرفية بالوراقين وخطبته لطيفة مختصرة وقرأ المنهج مرارًا وكان شديـد الشكيمـة علـى نهـج السلـف الـأول لا يعـرف التصنع وكان يخبر عن نفسه أنه كان كثير الرؤيا للنبـي صلـى اللـه عليه وسلم إنه لما تنزل مدرسًا في المحمدية من جملة الجماعة انقطع عنه ذلك وكان يبكي ويتأسف لذلك‏.‏

توفـي فـي ثامـن عشـر شعبـان وأملـى نسبـه علـى الدكـة إلـى سيدنـا علـي رضي الله عنه‏.‏

ومـات الأميـر الكبيـر الشهيـر عثمـان بـك الفقـاري بإسلامبـول فـي هـذه السنـة وكان مدة غربته ببرصا واسلامبول نيفًا وأربعًا وثلاثين سنة وقد تقدم ذكره وذكر مبدأ أمره وظهوره وسبب خروجه مـن مصـر مـا يغنـي عـن إعـادة بعضـه وهـو أمـر مشهـور وإلـى الـآن بيـن النـاس مذكور حتى أنهم جعلوا سنة خروجه تاريخًا يؤرخون به وفياتهم ومواليدهم فيقولون ولد فلان سنة خروج عثمان بك ومات فلان بعد خروج عثمان بك بسنة أو شهر مثلًا‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن كتخدا وهو بن حسن جاويش القزدغلي أستاذ سليمـان جاويـش أستـاذ ابراهيـم كتخـدا مولـى جميـع الأمـراء المصرييـن الموجوديـن الـآن‏.‏

وخبـره ومبـدأ إقبال الدنيا عليه أنـه لمـا مـات عثمـان كتخـدا القازدغلـي واستولـى سليمـان جاويـش الجوخـدار على موجوده ولم يعط المترجم الذي هو ابن سيد أستاذه شيئًا ولم يجد من ينصفه في إيصال حقه من طائفة باب الينكجريـة حسـدًا منهـم وميـلًا لأهوائهـم وأغراضهـم فحنـق منهم وخرج من بابهم وانتقل إلى وجاق العـزب وحلـف أنـه لا يرجـع إلى وجاق الينكجرية ما دام سليمان جاويش الجوخدار حيًا وبر في قسمه فإنه لما مات سليمان جاويش ببركة الحاج سنة 1152 كما تقدم بادر سليمان كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا واستأذن عثمان بك في تقليد عبد الرحمـن جاويـش السردارية عوضًا عن سليمان جاويش لأنه وارثه ومولاه وأحضروه ليلًا وقلدوه ذلك وأحضر الكاتب والدفاتر وتسلـم مفاتيـح الخشخانـات والتركـة بأجمعهـا وكـان شيئـًا يجـل عـن الوصـف وكذلك تقاسيط البلاد ولم تطمع نفس عثمان بك لشيء من ذلك وأخذ المترجم غرضه من بـاب العـزب ورجع إلى باب الينكجرية ونما أمره من حينئذ وحج صحبة عثمان بك في سنة خمس وخمسين وأقام هناك إلى سنة إحدى وستين فحضر مع الحجاج وتولى كتخدا الوقت سنتيـن وشـرع فـي بنـاء المساجـد وعمـل الخيـرات وإبطـال المنكـرات فأبطـل خمامير حارة اليهود فأول عماراتـه بعد رجوعه السبيل والكتاب الذي يعلوه بين القصرين وجاء في غاية الظرف وأحسن المباني وأنشأ جامع المغاربة وعمل عند بابه سبيـلًا بمنـارة وصهريـج وكتـاب ومدفـن السيـد السطوحية وأنشأ بالقرب من تربة الأزبكية سقاية وحوضًا لسقي الدواب ويعلوه كتاب وفي الحطابة كذلك وعند جامع الدشطوطي كذلك وأنشأ وزاد في مقصور الجامع الأزهر مقدار النصف طولًا وعرضًا يشتمل على خمسين عامودًا من الرخام تحمل مثلها من البوائك المقوصرة المرتفعـة المتسعـة مـن الحجـر المنحـوت وسقـف أعلاهـا بالخشـب النفـي وبنـى به محرابًا جديدًا ومنبرًا وأنشـأ لـه بابـًا عظيمـًا جهة حارة كتامة وبنى بأعلاه مكتبًا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام من أطفال المسلمين القرآن وبداخله رحبة متسعة وصهريج عظيم وسقاية لشرب العطاش المارين وعمل لنفسه مدفنًا بتلك الرحبة وعليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة وبها أيضًا رواق مخصوص بمجاوري الصعائدة المنقطعين لطلب العلم يسلك إليه من تلك الرحبة بدرج يصعد منه إلى الرواق وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزائن كتـب وبنـى بجانب ذلك الباب منارة وأنشأ بابًا آخر جهة مطبخ الجامع وعليه منارة أيضًا‏.‏

وبنى المدرسة الطيبرسية وأنشأها نشوأ جديدًا وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية المقابلة لهـا مـن داخـل البـاب الكبيـر الـذي أنشـأه خارجهمـا جهـة القبـو الموصـل للمشهـد الحسينـي وخان الجراكسة وهو عبارة عن بابين عظيمين كل باب بمصراعين وعلى يمينهما منارة وفوقه مكتب أيضًا وبداخله على يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة وأنشأ لها ساقية لخصوص إجراء المال إليهـا وبداخـل بـاب الميضأة درج يصعد منه للمنارة ورواق البغداديين والهنود فجاء هذا الباب ومـا بداخلـه مـن الطيبرسيـة والآقبغاويـة والأورقـة مـن أحسـن المبانـي فـي العظم والوجاهة والفخامة وعمل عند باب القبـة الصهريـج والمقصـورة الكبيـرة التـي بهـا ضريح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فيما بين المسجد ودهليـز القبـة وفـرش طريـق القبـة بالرخـام الملـون يسلـك إليـه بدهليـز طويـل متسـع وعليـه بوابـة كبيرة من داخـل الدهليـز البرانـي وعلـى الدهليـز البرانـي مـن كلتا الجهتين بوابتان‏.‏

وعمر أيضًا لمشهد النفيسي ومسجده وبنى الصهريج على هذه الهيئة الموجودة وجعل لزيارة النساء طريقًا بخلاف طريق الرجال‏.‏

وبنى أيضًا مشهد السيد زينب بقناطر السباع ومشهد السيدة سكينة بخط الخليفة والمشهـد المعـروف بالسيـدة عائشـة بالقـرب مـن بـاب القرافـة والسيـدة فاطمـة والسيـدة رقية والجامـع والرباط بحارة عابدين وكذلك مشهد أبي السعود الجارحي على الصفة التي هو عليها الآن ومسجد شرف الدين الكردي بالحسينية‏.‏

ومسجدًا بخط الموسكي وبنى للشيخ الحنفي دارًا بجـوار ذلك المسجد وينفذ إليه من داخل‏.‏

وعمر المدرسة السيوفية المعروفة بالشيخ مطهر بخطبات الزهومة وبنى لوالدته بها مدفنًا‏.‏

وأنشأ خارج باب القرافة حوضًا وسقاية وصهريجًا وجدد المارستان المنصوري وهـدم أعلـى القبـة الكبيـرة المنصوريـة والقبـة التـي كانـت بأعلـى الفسحـة مـن خـارج ولـم يعـد عمارتهما بل سقف قبة المدفن فقط وترك الأخرى مكشوفة ورتب له خيرات وأخبازًا زيادة على البقايا القديمة ولما عزم على ترميمه وعمارتـه أراد أن يحتـاط بجهات وقفه فلم يجد له كتاب وقفف ولا دفترًا وكانت كتب أوقافه ودفاتره في داخل خزانة المكتب فاحترقت بما فيها من كتب العلم والمصاحف ونسخ الوقفيات والدفاتر ووقفه يشتمل على وقف الملك المنصور قلاون الكبير الأصلي ووقف ولده الملك الناصر محمد ووقف بن الناصر أبي الفدا اسمعيل بل وغير ذلك من مرتبات الملوك من أولادهم ثم إنه وجد دفترًا من دفاتر الشطب المستجدة عند بعض المباشرين وذلك بعد الفحص والتفتيش فاستدل به على بعض الجهات المحتكرة‏.‏

وللمترجم عمائر كثيرة وقناطر وجسور في بلاد الأرياف وبلاد الحجاز حيـن كـان مجـاورًا هنـا‏.‏

وبنـى القناطـر بطندتـا فـي الطريـق الموصلـة إلـى محلـة مرحـوم والقنطـرة الجديدة الموصلـة إلـى حـارة عابديـن مـن انحيـة الخلوتـي علـى الخليج وقنطرة بناحية الموسكي ورتب للعميان الفقـراء الأكسيـة الصوف المسماة بالزعابيط فيفرق عليهم جملة كثيرة من ذلك عند دخول الشتاء فـي كـل سنة فيأتون إلى داره أفواجًا في أيام معلومة ويعودون مسرورين بتلك الكساوي وكذلك المؤذنون يفرق عليهم جملة من الإجرامات الطولونية يرتدون بها وقت التسبيح في ليالي الشتاء وكذلك يفرق جملة من الحبر المحلاوي والبر الصعيدي والملايات والأخلاف والبوابيج القيصرلي علـى النسـاء الفقيـرات والأرامـل ويخـرج عنـد بيتـه فـي ليالـي رمضـان وقت الإفطار عدة من القصاع الكبـار المملـوءة بالثريـد المسقـي بمـرق اللحـم والسمـن للفقـراء المجتمعيـن ويفرق عليهم النقيب هبر اللهم النضيج فيعطى لكل فقير جعله وحصته في يده وعندما يفرغون من الأكل يعطى لكل واحد منهـم رغيفيـن ونصفـي فضـة برسـم سحـوره إلـى غيـر ذلـك‏.‏

ومن عمائره القصر الكبير المعروف به بشاطـئ النيـل فيمـا بيـن بولـاق ومصـر القديمـة وكـان قصـرًا عظيمًا من الأبنية الملوكية وقد هدم في سنة 1205 بيد الشيخ علي بن حسن مباشرًا لوقف وبيعت أنقاضه وأخشابه ومات المباشر المذكور بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر‏.‏

ومن عمائره أيضًا دار سكنه بحارة عابدين وكانت من الدور العظيمة المحكمة الوضع والاتقان لا يماثلها دار بمصر في حسنها وزخرفة مجالسها وما بها من النقوش والرخام والقيشاني والذهب المموه واللازورد وأنواع الأصباغ وبديع الصنعة والتأنق والبهجة وغرس بها بستانًا بديعًا بداخله قاعة متسعة مربعة الأركان بوسطها فسقية مفروشة بالرخام البديع الصنعة وأركانها مركبة على أعمدة من الرخام الأبيض وغير ذلك من العمارات حتى اشتهر ذكره بذلك وسمي بصاحـب الخيـرات والعمائـر فـي مصـر والشـام والـروم وعـدة المساجـد التـي أنشأهـا وجدهـا وأقيمـت فيهـا الخطبـة والجمعة والجماعة ثمانية عشر مسجدًا وذلك خلـاف الزوايـا والأسبلـة والسقايـات والمكاتـب والأحـواض والقناطـر والمربـوط للنسـاء الفقيرات والمنقطعـات‏.‏

وكـان لـه فـي هندسـة الأبنيـة وحسـن وضـع العمائـر ملكـة يقتـدر بهـا علـى ما يروعه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة‏.‏

ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر من الزيـادة والعمـارة التـي تقصـر عنهـا همـم الملوك لكفاه ذلك وأيضًا المشهد الحسيني ومسجده والزيني والنفيسـي وضـم لوقفـه ثلاث قرى من بلاد الأرز بناحية رشيد وهي تفينة وديبي وحصة كتامة وجعـل إيرادهـا ومـا يتحصـل من غلة أرزها لمصارف الخيرات وطعام الفقراء والمنقطعين وزاد في طعـام المجاوريـن بالأزهـر ومطبخهـم الهريسـة فـي يومـي الاثنيـن والخميـس وقد تعطل غالب ذلك في هذا التاريخ الذي نحن فيه لغاية سنة 1220 بسبب استيـلاء الخـراب وتوالـي المحـن وتعطـل الأسبـاب‏.‏

ولـم يـزل هـذا شأنـه إلـى أن استفحـل أمـر علـي بـك وأخرجـه منفيـًا إلـى الحجـاز وذلـك فـي أوائـل شهـر القعـدة 1178 فأقـام بالحجـاز اثنتـي عشـرة سنـة فلمـا سافـر يوسـف بـك أميرًا بالحاج في السنـة الماضيـة صمـم علـى إحضـاره صحبتـه إلـى مصـر فأحضـره فـي تختـروان وذلـك فـي سابع شهر صفـر سنـة 1190 وقـد استولـى عليـه العـي والهـرم وكـرب الغربـة فدخـل إلى بيته مريضًا فأقام أحد عشر يومًا ومات فغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته في مشهد حافـل حضـره العلمـاء والأمـراء والتجـار ومؤذنـو المساجـد وأولـاد المكاتـب التـي أنشأهـا ورتب لهم فيها الكساوي والمعاليم في كل سنة وصلوا عليه بالأزهر ودفن بمدفنه الذي أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلي‏.‏

ولم يخلـف بعـده مثلـه رحمـه اللـه‏.‏

ومن مساويه قبول الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهـم واقتـدى بـه فـي ذلـك غيـره حتـى صـارت سنـة مقـررة وطريقـة مسلوكـة ليست منكرة وكذلك المصالحـة علـى تركـات الأغنياء التي لها وارث ومن سيآته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررهـا وعم الإقليم خرابها وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها معاضدته لعلي بك ليقوى به على أرباب الرئاسة فلم يزل يلقي بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض ويسلط عليهم علي بك المذكور حتى أضعف شوكات الأقوياء وأكد العداوة بين الأصفياء واشتد ساعد علي بك فعنـد ذلـك التفـت إليـه وكلـب بنابـه عليـه وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه فلم يجد عند ذلك مـن يدافـع عنـه وأقـام هـذه المـدة فـي مكـة غريبـًا وحيـدًا وأخـرج أيضـًا فـي اليـوم الـذي أخرجـه فيه نيفًا وعشرين أميرًا من الاختيارية كما تقدم‏.‏

فعند ذلك خلا لعلي بك وخشداشينه الجو فباضوا وأفرخـوا وامتد شرهم إلى الآن الذي نحن فيه كما سيتلى عليك بعضه فهو الذي كان السبب بتقديـر اللـه تعالـى فـي ظهـور أمرهـم فلـو لـم يكـن لـه مـن المسـاوئ إلا هـذه لكفـاه ولمـا رجع من الحجاز متمرضـًا ذهـب إليـه إبراهيـم بـك ومـراد بـك وباقـي خشداشينهم ليعودوه ولم يكن رآهم قبل ذلك فكـان مـن وصيتـه لهـم‏:‏ كونـوا مـع بعضكـم واضبطـوا أمركـم ولا تداخلـوا الأعـادي بينكـم‏.‏

وهذا بدل عن قوله أوصيكم بتقوى الله تعالى وتجنبوا الظلم وافعلوا الخير فإن الدنيا زائلة وانظروا حالي ومالـي أو نحـو ذلك هكذا أخبرني من كان حاضرًا في ذلك الوقت وكان سليط اللسان ويتصنع الحماقة فغفر الله لنا وله رأيته مرة وأنا إذ ذاك في سن التمييز قبل أن ينفى إلى الحجاز وهو مـاش فـي جنـازة مربـوع القامـة أبيـض اللـون مسترسـل اللحية ويغلب عليها البياض مترفهًا في ملبسه معجبًا بنفسه يشار إليه بالبنان‏.‏