المجلد الأول - سنة إحدى وتسعين ومائة وألف

سنة إحدى وتسعين ومائة وألف

فيها في أوائل شهر ربيع الأول ورد أغا من الديار الرومية بطلب عساكر لسفر العجم فاجتمع الأمـراء وتشـاوروا في ذلك فاتفق رأيهم على إحضار إبراهيم طنان فأحضروه من المحلة وقلدوه إمارة ذلك‏.‏

وفيها في أوائل شهر جمادى الأولى وقعت حادثة في طائفة المغاربة المجاورين بالجامع الأزهر وذلـك أنـه آل إليهـم مكان موقوف وحجد واضع اليد ذلك والتجأ إلى بعض الأمراء وكتبوا فتوى فـي شـأن ذلـك واختلفوا في ثبوت الوقف بالإشاعة ثم أقاموا الدعاوى في المحكمة وثبت الحق للمغاربة ووقع بينهم منازعات وعزلوا شيخهم وولوا آخر وكان المندفع في الخصومة واللسانة شيخـًا منهـم يسمـى الشيـخ عبـاس والأميـر الملتجـئ إليـه الخصـم يوسـف بـك فلمـا ترافعوا وظهر الحق علـى خلـاف غـرض الأميـر حنـق لذلك ونسبهم إلى ارتكاب الباطل فأرسل من طرفه منن يقبض على الشيخ عباس المذكور من بين المجاورين فطردوا المعينين وشتموهم وأخبروا الشيخ أحمد الدرديـر فكتـب مراسلـة إلـى يوسـف بـك تتضمـن عدم تعرضه لأهل العلم ومعاندة الحكم الشرعي وأرسلها صحبة الشيخ عبد الرحمن الفرنوي وآخرين فندما وصلوا إليه وأعطوه التذكرة نهرهم وأمر بالقبض عليهم وسجنهـم بالحبـس‏.‏

ووصـل الخبـر إلـى الشيـخ الدرديـر وأهـل الجامـع فاجتمعـوا فـي صبحها وأبطوا الدروس والآذان والصلوات وقفلوا أبواب الجامع وجلس المشايخ بالقبلة القديمة وطلـع الصغـار على المنارات يكثرون الصياح والدعاء على الأمراء‏.‏

وأغلق أهل الأسواق القريبة الحوانيت وبلغ الأمراء ذلك فأرسلوا إلى يوسف بك فأطلق المسجونين وأرسل إبراهيم بك من طرفـه إبراهيـم أغـا بيـت المـال فلـم يأخـذ جوابـًا وحضـر الأغا إلى الغورية ونزل هناك ونادى بالأمان وأمر بفتح الحوانيت فبلغ مجاوري المغاربة ذلك فذهب إليه طائفة منهم وتبعهم بعض العوام وبأيديهم العصي والمسلوق وضربوا أتباع الآغا ورجموه بالأحجار فركب عليهم وأشهر فيهـم السلاح هو ومماليكه فقتل من مجاوري المغاربة ثلاثة أنفار وانجرح منهم كذلـك ومـن العامـة‏.‏

وذهـب الآغـا ورجـع الفريـق الآخـر وبقـي الهرج إلى ثاني يوم فحضر اسمعيل بك والشيخ السادات وعلي أغا كتخدا الجاويشية ووفـي أوائلـه أيضـًا أحضـر مراد بك شخصًا يقال له سليمان كاشف من أتباع يوسف بك وضربه علقة بالنبابيت لسبب من الأسباب فحقدها عليه يوسف بك واستوحش من طرفه‏.‏

وفي ثاني عشر جمادى الثانية قبض الآغا على إنسان شريف من أولاد البلد يسمى حسن المدابغـي وضربـه حتـى مـات وسبـب ذلـك أنـه كـان فـي جملـة مـن خرج على الآغا بالغورية يوم فتنة الجامع وكان إنسانًا لا بأس به‏.‏

وفي ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الثانية خرج اسمعيل بك جهة العادلية مغضبًا وسبب ذلك أن مراد بك زاد فـي العسـف والتعـدي خصوصـًا فـي طـرف اسمعيـل بـك وإبراهيـم بـك يسعـى بينهمـا فـي الصلـح واجتمعـوا فـي آخـر مجلـس عنـد إبراهيـم بـك فتكلـم اسمعيـل بك كلامًا مفحمًا وقال‏:‏ أنا تارك لكم مصر وإمارتها وجاعلكـم مثـل أولـادي ولا أريـد إلا المعيشـة وراحـة السـر وأنتـم لا تراعون لي حقًا وأمثال ذلك من الكلام‏.‏

فحضر في هذه الأيام إلى اسمعيل بك مركب غلال فأرسل مراد بك وأخذ ما فيها وعلم أن اسمعيل بك يغتاظ لذلك ثم اتفق مع بعض أغراضه أنهم يركبون من الغد إلى اسمعيل بك ويدخلون عليه في بيته ويقتلونه فعلم اسمعيل بك بذلك فركـب فـي الصباح وخرج إلى العادلية بعد أن عزل بيته وحريمه ليلًا وجلس بالأشبكية وركب مـراد بـك ذاهبـًا إلـى اسمعيـل بـك فوجـده قـد خـرج إلـى الأشبكيـة وكـان إبراهيم بك طلع إلى قصر حسـن أغـا فنزلـوا الأشرفيـة وأرسلـوا إلـى أهـل الجامـع تذكـرة بانفضاض الجمع وتمام المطلوب‏.‏

وكان ذلك عند الغروب فلـم يرضـوا بمجـرد الوعـد وطلبـوا الجامكية والجراية فركبوا ورجعوا وأصبح يوم الأربعاء والحال على ما هو عليه واسمعيل بك مظهر الاهتمام لنصرة أهل الأزهر فحضر مع الشيخ السادات وجلسوا بالجامع المؤيدي وأرسلوا للمشايخ تذكرة صحبة الشيخ إبراهيم السندوبي ملخصها أن اسمعيل بك تكفل بقضاء أشغال المشايـخ وقضـاء حوايجهـم وقبـول فتواهـم وصـرف جماكيهـم وجراياتهـم وذلـك بضمـان الشيخ السـادات لـه فلمـا حضر الشيخ إبراهيم بالتذكرة وقرأها الشيخ عبد الرحمن العريشي جهارًا وهو قائـم علـى أقدامـه‏.‏

فلمـا سمعوها أكثروا من الهرج واللغط وترددت الإرساليات والذهاب والمجيء بطـول النهـار ثـم اصطلحـوا وفتحـوا الجامـع فـي آخـر النهار وأرسلوا لهم في يوم الخميس جانبًا من دراهـم الجامكيـة‏.‏

ومـن جملـة مـا اشترطـوه فـي الصلـح عـدم مـرور الآغـا والوالـي والمحتسب من حارة الأزهـر وغيـر ذلـك شـروط لـم ينفـذ منهـا شـيء‏.‏

وعمـل إبراهيـم بـك ناظرًا على الجامع عوضًا عن الآغا وأرسل من طرفه جنديًا للمطبخ وسكن الاضطراب‏.‏

وبعد مضي أربعة أيام من هذه الحادثـة مـر الآغـا وبعـده الوالـي كذلـك فأرسـل المشايخ إلى إبراهيم بك يخبروه فقال‏:‏ إن الطريق يمر بها البر والفاجر ولا يستغني الحكام عن المرور‏.‏

وفـي أوائلـه أيضـًا أحضـر مراد بك شخصًا يقال له سليمان كاشف من أتباع يوسف بك وضربه بانفضاض الجمع وتمام المطلوب‏.‏

وكان ذلك عند الغروب فلـم يرضـوا بمجـرد الوعـد وطلبـوا الجامكية والجراية فركبوا ورجعوا وأصبح يوم الأربعاء والحال على ما هو عليه واسمعيل بك مظهر الاهتمام لنصرة أهل الأزهر فحضر مع الشيخ السادات وجلسوا بالجامع المؤيدي وأرسلوا للمشايخ تذكرة صحبة الشيخ إبراهيم السندوبي ملخصها أن اسمعيل بك تكفل بقضاء أشغال المشايـخ وقضـاء حوايجهـم وقبـول فتواهـم وصـرف جماكيهـم وجراياتهـم وذلـك بضمـان الشيخ السـادات لـه فلمـا حضر الشيخ إبراهيم بالتذكرة وقرأها الشيخ عبد الرحمن العريشي جهارًا وهو قائـم علـى أقدامـه‏.‏

فلمـا سمعوها أكثروا من الهرج واللغط وترددت الإرساليات والذهاب والمجيء بطـول النهـار ثـم اصطلحـوا وفتحـوا الجامـع فـي آخـر النهار وأرسلوا لهم في يوم الخميس جانبًا من دراهـم الجامكيـة‏.‏

ومـن جملـة مـا اشترطـوه فـي الصلـح عـدم مـرور الآغـا والوالـي والمحتسب من حارة الأزهـر وغيـر ذلـك شـروط لـم ينفـذ منهـا شـيء‏.‏

وعمـل إبراهيـم بـك ناظرًا على الجامع عوضًا عن الآغا وأرسل من طرفه جنديًا للمطبخ وسكن الاضطراب‏.‏

وبعد مضي أربعة أيام من هذه الحادثـة مـر الآغـا وبعـده الوالـي كذلـك فأرسـل المشايخ إلى إبراهيم بك يخبروه فقال‏:‏ إن الطريق يمر بها البر والفاجر ولا يستغني الحكام عن المرور‏.‏

العينـي فذهـب إلـى مـراد بـك ولمـا أشيـع خروج اسمعيل بك ركب يوسف بك وخرج غليه وتبعه محمد بك طبـل وحسـن بـك وإبراهيـم بـك طنـان وذو الفقـار بـك وغيرهـم‏.‏

ووصـل الخبـر إلـى إبراهيـم بك ومراد بك ومن انضم إليهم فركبوا وحضروا إلى القلعة وملكوا الأبـواب وامتلـأت الرميلـة والميـدان بعساكرهـم وصحبتهـم أحمـد بـك الكلارجـي ولاجيـن بـك وأيـوب بـك ورضوان بك وخليل بك ومصطفى بك واضطربت المدينة وأغلق الناس الدكاكين واستمروا على ذلك يوم السبت ويوم الأحد ويوم الاثنين ويوم الثلاثاء وتسحب من أهل القلعة جماعة خرجوا إلى اسمعيل بك ويوسـف بـك ومـن معهمـا وهـم اسمعيـل أغـا أخـو علي بك الغزاوي وأخوه سليم أغا وعبد الرحمن أغا أغات الينكجرية سابقًا فأرسل أهل القلعة إبراهيم أغا الوالي فجلس بباب النصر وأغلق البـاب ونـزل الباشـا إلـى بـاب العـزب‏.‏

فحضـر قاسـم كتخـدا عزبـان أمين البحرين وعبد الرحمن أغا وصحبتهم جماعة إلى باب النصر فأرسلوا إليهم طائفة من عسكر المغاربـة فضربـوا عليهـم بالرصاص وحمل عليهم الآخرون فشتتوهم ورجعوا إلى خلف وقتل من المغاربة أنفار وانجرح منهـم كذلـك وانتشـر البرانيـون حوالـي جهـات مصر وذهب منهم طائفة إلى جهة بولاق وفيهم محمد بك طبل فوجدوا طائفة من الكشاف والأجناد حضروا إلى بولاق لأجل العليق والتبن فوقعت بينهـم وقعـة فانهزموا إلى قصر عبد الرحمن كتخدا وأخذ أولئك العليق والتبن وطلع منهم طائفة إلى الجبل واشتد الحال وعظمت الفتنة فأراد الباشا إجراء الصلح فأرسل أيوب أغا ورجع بجواب عدم رضاهم بالصلح ثم أرسل إليهم أحمد جاويش المجنون فذهب ولم يرجع والتف عليهم فأرسل الباشا ولده وكتخداه سعيد بك مرارًا‏.‏

ثم دخل في يوم الأربعاء عبد الرحمن أغـا من باب النصر وشق من وسط المدينة وأمامه المنادي ينادي على الناس برفع بضائعهم من الحوانيـت فرفـع النـاس بواقـي بضائعهـم مـن الدكاكيـن ولـم يـزل سائـرًا حتـى وصل إلى باب زويلة ونزل بجامـع المؤيد وجلس به مقدار ساعتين ورتب عسكرًا هناك على السقائف والأسبلة ثم ركب راجعـًا وعـاد وصحبتـه إبراهيـم بك الطناني ومعهم عدة أجناد وعساكر وخرجوا من باب زويلة إلـى الـدرب الأحمـر إلـى جامـع المردانـي فجلسـوا عنـده إلـى بعـد الظهـر ثـم زحفـوا إلـى التبانـة إلـى قـرب المحجر وعملوا هناك متاريس ورتبوا بها جماعة وكذلك ناحية سويقة العزى فنزل إليهم جماعة من القلعة وتراموا بالرصاص وقطعوا الطرق على من بالقلعة إلى بعد العصر فنزل إليهم خيالة مدرعيـن فحمـل عليهـم عسكـر المغاربـة فوقـع منهـم أربعـة خيالـة وانجـرح لاجيـن بـك فحملـوه إلـى بيته في شنف وقتل أنفار من عسكر المغاربة وولى القلعاوية إلى جهة القلعة وبعد الغروب انفصل عنهم عسكر المغاربة ونكسوا أعلامهم وحضروا عند أجناسهم والتفوا عليهم ولاحت لوائح الخذلـان علـى مـن بالقلعـة ودخل عليهم الليل وانكف الفريقان‏.‏

وأصبح يوم الخميس فدخل الكثير من البرانيين إلـى المدينـة شيئـًا فشيئـًا وربطـوا فـي جميـع الجهـات حتـى انحصـروا بالقلعـة وأخـذوا ينقبـون عليهـم فلمـا شاهـدوا الغلـب فيهـم نزلـوا مـن بـاب الميـدان وذهبـوا جهـة البساتيـن إلى الصعيد فتخلف عنهم أحمد بك الكلارجي وأيوب بك وإبراهيم بك أوده باشه ولاجيـن بـك مجـروح وخـرج المتخلفـون إلـى اسمعيـل بـك ويوسـف بك وطلبوا منهما الأمان وانضموا إليهم‏.‏

وعندما أشيع نزول إبراهيم بك ومراد بك من القلعة هجم المراطبون بالمحجر وسوق السلاح على الرميلة ونهبوا خيامهم وعازقهم الذي بها وبالميدان حتى جمال الباشا وخيول الدلاة وذلك يوم الخميس قبل العصر بنصف ساعة فدخل اسمعيل بك ويوسف بك بعد العصر من ذلك اليوم من باب النصر وتوجهوا إلى بيوتهم وأصبح يوم الجمعة فشق عبد الرحمن أغا ونـادى بالأمـان والبيـع والشراء وراق الحال‏.‏

ولمـا كـان يـوم الأحـد ثاني عشرين جمادى الثانية طلعوا إلى الديون فخلع الباشا على اسمعيل بك ويوسف بك خلعتي سمور واستقر اسمعيل بك شيخ البلد ومدبر الدولة وقلدوا حسن بك الجداوي صنجقًا كما كان وكانت الصنجقية مرفوعة عنه من موت سيده علي بك وكذلك رضـوان بـك قرابـة علـي بـك قلـدوه صنجقيـة وقلدوا اسمعيل أغا أخا علي بك الغزاوي صنجقية أيضـًا وسكـن ببيـت إبراهيـم بك الكبير وقلدوا سليمان كاشف من أتباع يوسف بك وهو الذي كـان ضربه علقة مراد بك بالنبوت كما تقدم صنجقية ولقبه الناس أبا نبوت وقلدوا أيضًا سليم كاشف من أتباع اسمعيل بك صنجقية وقلدوا عبد الرحمن أغا أغاوية مستحفظان كما كان ومحمـد كاشف والي الشرطة‏.‏

وفي عشية ذلك اليوم أنزلوا سليمان أغا مستحفظان إلى بولاق وأنزلوه في مركب منفيًاإلى دمياط بعدما صودر في نحو أربعين ألف ريال‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه أنزلوا أيضًا سليمان كتخدا مستحفظان وعثمان كتخدا باش اختيـار مستحفظـان المعـروف بأبـي مسـاوق والأمير عبد الله أغا وأنزلوهم إلى المراكب ثم حصل عنهم العفو فردوهم إلى بيوتهم‏.‏

وفي ذلك اليوم طلعوا إلى الديوان فقلدوا ذا الفقار بك دفتردار عوضًا عن رضوان بك بلفيا وذلك بإشارة يوسف بك لكونه كان مع مراد بك وإبراهيم بك حتى أنه أراد أن يسلب نعمته فمنعه عنه اسمعيل بك‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثاني شهر رجب حضر عند يوسف بك حسن بك الجداوي وصحبتـه اسمعيـل بـك الصغيـر وهـو أخـو علـي بك الغزاوي وسليم بك الاسمعيلي وعبد الرحمن بك العلوي فجلسـوا معـه ساعة لطيفة بالمقعد المطل على البركة فجلس حسن بك أمامه وكان جالسًا على الدكـة المرتفعـة عـن المرتبـة وجلـس تحت شماله على المرتبة اسمعيل بك الصغير وسليم بك وعبد الرحمن بك استمر واقفًا وحادثوه في شيء وتناجوا مع بعضهم وتأخـر عنهـم الواقفـون مـن المماليـك والأجناد فسحب عبد الرحمن بك النمشاة وضرب بها يوسف بك فأراد أن يهم قائمًا فـداس علـى ملوطـة اسمعيـل بـك فوقـع علـى ظهـره فنزلـوه عليـه بالسيوف وضربوا في وجوه الواقفين طلـق بـارود فهربـوا إلـى خلـف ونـزل الضاربـون من القيطون وركبوا وذهبوا إلى اسمعيل بك فركب فـي تلـك الساعة وطلع إلى القلعة وأرسل اسمعيل كتخدا عزبان إلى الباشا وكان بقصر العيني بقصـد التنـزه فركـب مـن هنـاك وطلع إلى القلعة وجلس بباب العزب صحبة اسمعيل بك فلما بلغ الأمـراء الذيـن هـم خشداشيـن يوسـف بـك ركبـوا وخرجـوا مـن المدينة وذهبوا إلى قبلي وهم أحمد بك الكلارجي وذو الفقار بك ورضوان بك الجرجاوي فركـب خلفهـم طائفـة فلـم يدركوهـم وأرسلـوا إلـى محمد بك طبل فكرنك في بيته ونصب له مدافع وأبى من الخروج لأنه صار من المذبذبيـن‏.‏

فلمـا وقـع منـه ذلـك ذهـب إليـه حسـن بـك سـوق السلـاح وأخـذه بالأمان إلى اسمعيل بك بعدمـا نـزل إلـى بيتـه فأمـره أن يأخـذه عنـده فـي بيته فلما أصبح استأذنه في زيارة الإمام الشافعي فأذن له فركب إلى جهة القرافة وذهب إلى جهة الصعيد‏.‏

وانقضت الفتنة ودفن يوسف بك‏.‏

وفـي يـوم الخميـس طلعـوا إلـى الديـوان فخلـع الباشـا علـى اسمعيـل بـك الكبير فروة سمور وأقره على مشيخـة ابلـد وقلدوا حسن بك قصبة رضوان إمارة الحج عوضًا عن يوسف بك وقلدوا عبد الرحمن بك العلوي صنجقًا كما كان وقلدوا إبراهيم أغا خازندار واسمعيل بك الذي زوجه ابنتـه صنجقيـة وتلقـب بإبراهيـم بـك قشطـة وسكـن ببيت محمد بك وقلدوا حسين أغا خازندار اسمعيل بك سابقًا صنجقية أيضًا وسكن ببيت أحمد بك الكلارجي وقلدوا كاشفين أيضًا لاسمعيـل بـك يسمـى كـل واحـد منهمـا بعثمـان صنجقيـن وسكن أحدهما ببيت مصطفى بك الذي كـان سكـن محمد بك طبل وهو على بركة الفيل حيث جامع أزبك اليوسفي وهو الذي يسمى بعثمـان بـك طبـل وعثمـان الثانـي وهو الذي لقب بقفا الثور وسكن ببيت ذي الفقار المقابل لبيت بلفيـا وقلـدوا علـي أغـا جوخـدار اسمعيـل بـك صنجقيـة أيضـًا وسكن ببيت مراد بك عند الكبش وهـو ببيـت صالـح بـك الكبيـر وكـان يسكنـه سليمـان بـك أبـو نبـوت اليوسفـي‏.‏

وأمـا بيـت يوسـف بك فسكـن بـه سليـم بـك وقلـدوا يوسـف أغـا مـن أتبـاع اسمعيـل بـك واليًا ونفوا أيوب بك وسليمان بك إلى المنصورة‏.‏

وفي صبحها يوم الجمعة رابع شهر رجب الفرد الموافق لرابع مسرى القبطي نودي بوفاء النيل ونـزل الباشـا صبـح يوم السبت وكسر السد على العادة وجرى الماء إلى الخليج وعاد الباشا إلى القلعة‏.‏

وفـي سابعـه اتفقـوا على إرسال تجريدة إلى الصعيد وسر عسكرها اسمعيل بك الصغير وعينوا للتوجه صحبته حسن بك الجداوي وإبراهيم بـك الطنانـي وسليـم بـك الطنانـي وسلـم بـك الاسمعيلـي وإبراهيـم بـك أوده باشا وحسن بك الشرقاوي المعروف بسوق السلاح وقاسم كتخدا عزبـان وعلـي أغـا المعمـار وكـان غائبـًا بالمنيـة فلما قبل الجماعة تخلص وترك أحواله وغلاله وحضر إلى مصر وصحبته طائفة من الهوارة والعربان فلما حضر أرادوا أن يقلدوه صنجقية فامتنع من ذلك وشرعوا في تشهيل التجريدة وطلبوا طلبًا عظيمًا وصرف الباشا ألف كيس من الخزينة لنفقـة العسكـر وخلعـوا على الهوارة ومشايخ العربان ووعدوهم بالخير‏.‏

وفيه جاءت الأخبار بأن علـي بـك السروجـي ساق خلف محمد بك طبل فلحقه عند مكان تجاه البدرشين واحتاط به العربان وقتلوا مماليكه وشرد من نجا منهم وتفرق ونهبوا ما معه وعروه وسلموه لكاشف هناك مـن أتبـاع اسمعيـل بـك فوقـع فـي عرضـه وعـرض مشايـخ البلـد فألبسـوه حوائـج وهربـوه وصحبته اثنان من الأجناد فلما حضر علي بك السروجي أخبره العرب بما حصـل فأخـذ ذلـك الكاشـف وحضر صحبته إلى اسمعيل بك فضرب الكاشف علقة ونفاه‏.‏

وفيه ورد الخبر أيضًا عن ذي الفقار بك بأن العرب عروه أيضـًا فهـرب فلحقـوه وأرادوا قتلـه فألقى نفسه في البحر بفرسه وغرق ومات‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشر رجب برزت عساكر التجريدة إلى جهة البساتين‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشر رجب سافرت التجريدة برًا وبحرًا‏.‏

وفـي يـوم السبـت سادس عشرين رجب وصلت الأخبار بأن التجريدة تلاقت مع الأمراء القبالي ووقع بينهم معركة قوية فكانت الهزيمة على التجريدة‏.‏

فلما وصلت هذه الأخبار اضطرب اسمعيـل بك وتخبل غزله وكذلك أمراؤه ودخل في يومها الأجناد مشتتين مهزومين وكانت الوقعة يـوم الجمعـة فـي بياضـة مـن أعمـال الشـرق فكبسوهـم علـى حين غفلة وقت الفجر فركب علي أغا المعمار وقاسم كتخدا عزبان وإبراهيم بك طنان فحاربوا جهدهم فأصيب علي أغا وقاسم كتخـدا ووقعـت خيولهمـا وذلـك بعـد أن سـاق علـي أغا وصحبته رضوان أغا طنان وقصد مراد بك وضربه رضوان في وجهه بالسيف فلمحه خليل بك كوسه الإبراهيمي وضرب علي أغا بالقرابينـة فأصابتـه فـي عنقـه ووقـع فرسـه وسقـط ميتـًا‏.‏

فلمـا قتـل هذان الأميران ولي إبراهيم بك طنان فانهزم بقية الأمراء لأنه لم يكـن فيهـم أشجـع مـن هـؤلاء الثلاثـة وباقيهـم ليـس لـه دربـة فـي الحـرب وسر عسكر مقصوب ومريض واحتاط الأمراء القبليون بخيامهم وحملاتهم ومراكبهم بمـا فيهـا وكانـت نيفـًا وخمسمائـة مركـب وكان كبير العسكر في قنجة صغيرة فلما عاين الكسرة أسرع في الانحدار وكذلك بعض الأمراء انحدروا معه وباقيهم وصلوا في البر على هيئة شنيعة وكان اسمعيـل بـك بمصـر القديمـة ينتظـر أمـراء التجريـدة‏.‏

فلمـا حصـل ذلـك نـزل البـاش فـي يوم الأحد وخرج إلى الآثار وجلس مع الصنجق ونادوا بالنفير العام فخرج القاضي والمشايخ والتجار وأرباب الصنائـع والمغاربـة وأهل الحارات والعصب وغلقت الأسواق‏.‏

وخرج الناس في يوم الاثنين حتى ملأوا الفضاء فلما عاين ذلك اسمعيل بك وعلم أنك يحتاجون إلى مصروف ومأكل وأكثرهم فقراء وذلك غاية لا تدرك أشار على تجار المغاربة والأضاشات بالمكث ورجع بقية العامة وأرباب الحرف ومشايخ الأشاير والفقراء من أهل الزوايا والبيوت ووصل القبليون إلى حلوان وطمعوا في أخذ مصر بعد الكسرة قبل الاستعداد ثانيًا‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن أرسـل اسمعيل بك عدة من الأجناد وأصحبهم عسكر المغاربة ومعهم الجبخانة والمدافع فنصبوا المتاريس ما بين التبين وحلوان تجاه الأخصام وركب في ليلتها اسمعيل بك وأمراؤه وأجناده وأحضر الباشا قليون رومي من دمياط ورئيسه يسمى حسن الغاوي مشهور بمعرفة الحرب في البحر يشتمل ذلك القليون على خمسة وعشرين مدفعًا فأقلع به ليلًا تجاه العسكـر وارتفع حتى تجاوز مراكبهم وضرب بالمدافع على وطاقهم في البر وعلى مراكبهم في البحـر وسـاق جميع المراكب بما فيها ووقع المصاف واشتد الجلاد بين الفريقين فكان بينهم وقعة قوية وقتل فيها من أولئك رضوان بك الجرجاوي وخليل بك كوسه الإبراهيمـي وخازنـداره وكشاف وأجناد ووقعت على القبالي الهزيمة ولم يظهر مـراد بـك فـي هـذه المعركـة بسبـب جراحته‏.‏

ثـم هجمـوا علـى وطاقهـم وخيامهـم ونهبوهـا ونـزل محمـد بـك طبـل بفرسـه إلـى البحـر وغـرق ومـات‏.‏

ورجـع إبراهيـم بـك ومـراد بـك وهـو مجـروح ومصطفـى بـك وأحمد بك الكلارجي وأتباعهم وذهبـوا إلـى قبلـي وساقـوا خلفهم فلم يدركوهم‏.‏

ودخل اسمعيل بك والأمراء والأجناد والعسكر إلى مصر منصورين مؤيدين وكانت هذه النصرة بخلاف المظنون وكان رجوعهم يـوم الأربعـاء غرة شهر شعبان‏.‏

وفي ليلة السبت رابع شعبان حضر كاشف وصحبته جملة من المماليك وكان هذا الكاشف مأسورًا عند القبالي فلما انهزموا أذنوا له بالرجوع إلى بيته وانضـم إليـه عـدة مماليـك ماتـت أسيادهم فلما حضروا عند اسمعيل بك فرقهم على الأمراء‏.‏

وفـي سابعـه أحضـروا رمـة علـي أغـا المعمـار إلـى بيتـه فغسلـوه وكفنـوه وصلـوا عليـه فـي مشهد حافل ودفنوه بالقرافة‏.‏

وفيه تقلد حسن بك الجداوي ولاية جرجا وجاءت الأخبار بأن القبليين استقروا بشرق أولاد يحيى‏.‏

وفي أخر شعبان سافر حسن بك الجداوي إلى جرجا وصحبتـه كشـاف الولايـات وحكـام الأقاليم فضج لنزولهم ساحل البحر بسبب أخذهم المراكب‏.‏

وفي منتصف شهر رمضان ولدت امرأة مولودًا يشبه خلقة الفيل مثل وجهه وآذانه وله نابان خارجان من فمه وأبوه رجل جمال وامرأته لما رأت الفيل وكانت في أشهر وحامها نقلت شبهه في ولدها وأخذه الناس يفترجون عليه في البيوت والأزقة‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشرين شهر رمضان ركب أمراء اسمعيل بك وصناجقه وعساكره في آخـر الليـل واحتاطـوا ببيـت اسمعيـل بـك الصغيـر أخـي علـي بـك الغـزاوي فركـب فـي مماليكـه وخاصتـه وخرج من البيت فوجدوا الطرق كلها مسدودة بالعسكر والأجناد فدخل من عطفة الفرن يريد الفرار وخرج على جهة قنطرة عمر شاه فوجد العسكر والأجناد أماه وخلفه فصار يقاتلهم ويتخلـص منهـم مـن عطفـة إلـى عطفة حتى وصل إلى عطفة البيدق وأصيب بسيف على عاتقه وسقطت عمامته وصار مكشوف الرأس إلى أن وصل إلى تجاه درب عبد الحق بالأزبكيـة فلاقـاه عثمـان بـك أحـد صناجـق اسمعيـل بـك فـرده وسقـط واحتاطـوا بـه فنـزل علـى دكـان في أسوأ حال مكشوف الرأس والدم خارج من كركه فعصبوا رأسه بعمامة رجل جمال وأخذه عثمان بـك إلـى بيتـه وتركـه وذهـب إلـى سيـده فأخبـره فخلـع عليـه فروة وفرسًا مرختًا وأرسلوا إليه الوالي فخنقه ووضعوه في تابوت وأرسلوه إلى بيته الصغير فبات به ميتًا وأخرجوه في صبحها في مشهـد ودفنـوه‏.‏

وكـان اسمعيـل بـك قـد استوحش منه وظهر عليه في أحكامه وأوامره وكلما أبرم شيئًاعارضـه فيـه‏.‏

وازدحـم النـاس علـى بيتـه وأقبلـت إليه أرباب الخصومات والدعاوى وصار له عزوة كبيرة وانضم إليه كشاف واختيارية وحدثته نفسه بالانفراد وتخيل منه اسمعيل بك فتركه وما يفعله وأظهـر أنـه مرمـود فـي عينيـه وانقطـع بالحريـم مـن أول شهـر رمضـان ثـم سافـر فـي أواخـره فـي النيـل لزيـارة سيـدي أحمـد البدوي ثم رجع وبيت مع أتباعه ومن يثق به وقاموا عليه وقتلوا كما ذكر‏.‏

ولما انقضى أمره شرع اسمعيل بك في إبعاد ونفي من كان يلوذ به وينتمي إليه فأنزلوا إبراهيم بك بلفيا ومحمد أغا الترجمان وعلي كتخدا الفلاح وبعض كشاف إلى بولاق وأراد قتل أخيه سليم آغا المعروف بتمرلنك فاقتدى نفسه بثلاثين ألف ريال ثم نفوه ثالث شوال ونفي إبراهيم بك بلفيا إلى المحلة‏.‏

وفي تلك الأيام قرر اسمعيل بك على كل بلد من القرى ثلثمائة ريال وهي أول سيآته‏.‏

وفي يوم الأحد ثاني عشرين شوال عملوا موكب المحم وأمير الحاج حسن بك رضوان‏.‏

وفي يوم الخميس رابع ذي القعدة تقلد عبد الرحمن بك عثمان صنجقية وكانت مرفوعة عنه وكذلك علي بك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامنه سافرت تجريدة لجهة الصعية للأمراء القبالي لأنهم تقووا واستولوا على البلـاد وقبضـوا الخـراج وملكـوا مـن جرجـا إلـى فـوق وحسـن بك أمير الصعيد مقيم وليس فيه قدرة على مقاومتهم ومنعوا ورود الغلال حتى غلا سعرهـا فعينـوا لهـم التجريـدة وسـر عسكرهـا رضوان بك وعلي الجوخدار وسليم بك وإبراهيم بك طنان وحسن بك سوق السلاح‏.‏

وفـي يـوم الأحـد حـادي عشريـن القعدة خرج اسمعيل بك إلى ناحية دير الطين وعزم على التوجه إلى قبلي بنفسه وأرسل الباشا فرمانات لسائر الأمراء والجاقلية وأمرهم جميعًا بالسفر فخرجوا جميعًا ونصبوا وطاقاتهم عند المعادي ونزل الباشا وجلس بقصر العيني وطلبوا طلبًا عظيمًا‏.‏

وفي يوم الجمعة عدى اسمعيل بك إلى البر الثاني وترك بمصر عبد الرحمن أغا مستحفظان كتخدا ورضوان بك بلفيا وعثمان بك طبل وإبراهيم بك قشطة صهره وحسين بك ومقادم الأبـواب لحفـظ البلد فكان المقادم يدورون بالطوف في الجهات ليلًا ونهارًا مع هدوء سر الناس وسكون الحال في مدة غياب الجميع‏.‏

وفي سادس شهر الحجة وصلت مكاتبات من اسمعيل بك ومن الأمراء الذين بصحبته بأنهم وصلـوا إلـى المنيـة فلـم يجـدوا بهـا أحـدًا من القبليين وأنهم في أسيوط ومعهم اسمعيل أبو علي من كبار الهوارة‏.‏

وفي سابع عشره حضر الوجاقلية الذين كانوا بالتجريدة وحضر أيضًا أيوب أغا وكان عنـد القبالـي فحضـر عنـد اسمعيـل بـك بأمـان واستأذنـه فـي التوجـه إلـى بيتـه ليـرى عيالـه فأذن له وأرسله صحبة الوجاقلية وسبب رجوع الوجاقلية لما رأى اسمعيل بك بعد الأمـراء وأراد أن يذهـب خلفهم فأمرهم بالرجوع للتخفيف وانقضت هذه السنة‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان مـات الشريـف الصالـح المرشـد الواصـل السيـد محمـد هاشم الأسيوطي ولد بأسيوط وبيتهم يعرف ببيت فاضل نشأ ببلده على قدم الخير والصلاح وحضر دروس الشيخ حسن الجديري ثم ورد إلى مصر فحضر دروس كل من الشيخ محمد البليدي والشيخ محمد الشماوي والشيخ عطية الأجهوري وأخذ الطريق على الشيخ عبد الوهاب العفيفـي وكـان منقطعـاص للعبـادة متقشفـًا متواضعًا وكان غالب جلوسـه بالأشرفيـة ومسجـد الشيـخ مطهـر‏.‏

وكـان لا يزاحـم النـاس ولا يداخلهم في أحوال دنياهم ولهم فيه اعتقاد عظيم ويذهبون لزيارته ويقتبسون مـن إشارتـه واستخارتـه ويتبركـون بأجازتـه فـي الـأوراد والأسمـاء‏.‏

ويسافـر لزيـارة سيـدي أحمد البدوي ثم يعود إلى خلوته وربما مكث عند بعـض اصدقائـه أيامـًا بقصـد البعـد عـن النـاس عندمـا يعلمـون استقراره بالخلوة ويزدحمون في بيته بالأزبكية وصلوا عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ الإمام الأديب الفاضل الفقيه أحد العلماء الأعلام الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي لازم الشمس الحفني وأخاه الشيخ يوسف وحضر دروس الشيخ علي العدوي والشيخ عيسى البراوي وأفتى ودرس‏.‏

وكان شافعي المذهب فسعى فيه جماعة عند الشيخ الحفني فأحضره وأثبت عليه بخطه ما نقل عنه فتوعده فلحق بالشيخ علي العدوي وانتقل لمذهب مالك وكان رحمه الله عالمًا محصلًا بحاثًا متفننًا غير عسر البديهة شاعرًا ماجنًا خليعًا ومع ذلك كانت حلقة درسه تزيد على الثلثمائة في الأزهر‏.‏

مات رحمه الله مفلوجًا وحين أصابه المرض رجع إلى مذهب الشافعي وقرأ ابن قاسم بمسجد قريب من منزله ويحمله الطلبة إلى المسجد فيقرأ وهو يتلعثم لتعقد لسانه بالفالج مع ما كان فيه من الفصاحة أولًا ثم برئ يسيرًا ولم يلبث أن عاوده المرض وتوفي إلى رحمة الله تعالى‏.‏ ومات

الأديب الماهر الشيخ رمضان بن محمد المنصوري الأحمدي

الشهير بالحمامي سبط آل الباز ولد بالمنصورة وقرأ المتون على مشايخ بلده وانزوى إلى شيخ الأدب محمد المنصوري الشاعر فرقاه في الشعر وهذبه وبه تخرج وورد إلى مصر مرارًا وسمعنا من قصائده وكلامه الكثيـر ولـه قصائـد سنيـة فـي المدائـح الأحمديـة تنشـد فـي الجمـوع‏.‏

وبينـه وبيـن الأديب قاسم وعبد القادر المدني محاورات ومداعبات وأخبر أنه ورد الحرمين مـن مـدة ومـدح كـلًا مـن الشريـف والوزيـر وأكابـر الأعيـان بقصائـد طنانـة كـان ينشـد منهـا جملة مستكثرة مما يدل على سعة باعه في الفصاحـة‏.‏

ولـم يـزل فقيـرًا مملقـًا يشكـو الزمـان وأهليـه ويـذم جنـي بنيـه وبآخـرة تـزوج امـرأة موسـرة بمصر وتوجه بها إلى مكة فأتاه الحمام وهو في ثغر جدة في سنة تاريخه‏.‏

ومات الأمير يوسف بك الكبير وهو من أمراء محمد بك الذهب أقره في سنة ست وثمانين وزوجه بأخته وشرع في بناء ولده على بركة الفيل داخل درب الحمام تجاه جامع الماس وكان يسلك إليها من هذا الدب ومن طرق الشيخ الظلام وكان هذا الدرب كثير العطف ضيـق المسالك فأخذ بيوته بعضهًا شراء وبعضها غصبًا وجعلها طريقًا واسعة وعليها بوابة عظيمة‏.‏

وأراد أن يجعل إمام باب داره رحبة متسعة فعارضه جامع خير بك حديد فعزم على هدمه ونقلـه إلـى آخـر الرحبـة واستمـر يعمـر فـي تلـك الـدار نحـو خمـس سنـوات‏.‏

وأخـذ بيت الداودية الذي بجـواره وهدمه جميعه وأدخله فيها وصرف في تلك الدار أموالًا عظيمة فكان يبني الجهة مناه حتى يتمها بعد تبليطها وترخيمها بالرخام الدقي الخردة المحكم الصنعة السقوف والأخشاب والرواشـن لـه شيطانـه فيهدمهـا إلى آخرها ويبنيها ثانيًا على وضع آخر‏.‏

وهكذا كان دأبه واتفق أنـه ورد إليـه مـن بلـاده القبليـة ثمانـون ألـف أردب غلـال فوزعهـا بأسرها على الموازنة في ثمن الجبس والجير والأحجار والأخشاب والحديد وغير ذلك‏.‏

وكان فيه حدة زائدة وتخليط في الأمور والحركـات ولا يستقـر بالمجلـس بـل يقـوم يقعـد ويصـرخ ويـروق حالـه فـي بعـض الأوقـات فيظهـر فيه بعض إنسانيـة ثـم يتغيـر ويتعكـر مـن أدنـى شـيء‏.‏

ولمـا مـات سيـده محمـد بـك وتولـى إمارة الحج ازداد عتوًا وعسفًا وانحرافًا خصوصًا مع طائفة الفقهاء والمتعممين لأمور نقمها عليهم منها أن شيخًا يسمى الشيخ أحمد صادومة وكان رجلًا مسنًا ذا شبية وهيبة وأصله من سمنود وله شهرة عظيمة وبـاع طويل في الروحانيات وتحريك الجمادات والسميات ويكلم الجن ويخاطبهم مشافهة ويظهرهم للعيان كما أخبرني عنه من شاهده وللناس اختلاف في شانه وكان للشيخ الكفراوي به التئام وعشرة ومحبة أكيدة واعتقاد عظيم ويخبر عنه أنه من الأولياء وأرباب الأحوال والمكاشفات بل يقول أنه هو الفرد الجامع ونوه بشأنه عند الأمراء وخصوصًا محمد بك أبا الذهب فراج حال كـل منهمـا بالآخـر‏.‏

فاتفـق أن الأمير المذكور اختلى بمحظيته فرأى على سوأتها كتابة فسألها عن ذلك وتهددها بالقتل فأخبرته أن المرأة الفلانية ذهبت بها إلى هذا الشيخ وهو الذي كتب لها ذلـك ليحببهـا إلـى سيدهـا فنـزل فـي الحـال وأرسـل فقبـض على الشيخ صادومة المذكور وأمر بقتله وإلقائه في البحر ففعلوا به ذلك وأرسل إلى داره فاحتاط بما فيها فأخرجوا منها أشياء كثيرة وتماثيـل ومنهـا تمثـال من قطيفة على هيئة الذكر فأحضروا له تلك الأشياء فصار يريها للجالسين عنده والمترددين عليه من الأمراء وغيرهم ووضع ذلك التمثال بجانبه على الوسادة فيأخذه بيده ويشير لمن يجلس معه ويتعجبون ويضحكون وعزل الشيخ حسن الكفراوي من إفتاء الشافعية ورفع عنه وظيفة المحمدية وأحضر الشيخ أحمد بن يوسف الخليفي وخلع عليه وألبسه فروة وقـرره فـي ذلـك عوضـًا عـن الشيـخ الكفـراوي‏.‏

واتفـق أيضًا أن الشيخ عبد الباقي ابن الشيخ عبد الوهاب العفيفـي طلـق علـى زوج بنـت أخيـه فـي غيابـه علـى يـد الشيـخ حسـن الجـداوي المالكـي علـى قاعدة مذهبه وزوجها من آخر وحضر زوجها من الفيوم وذهب إلى ذلك الأمير وشكا له الشيـخ عبـد الباقـي فطلبـه فوجده غائبًا في منية عفيف فأرسل إليه أعوانًا أهانوه وقبضوا عليه ووضعـوا الحديـد فـي رقبتـه ورجليـه وأحضـره فـي صـورة منكـرة وحبسـه فـي حاصـل أرباب الجرائم مـن الفلاحيـن‏.‏

فركـب الشيـخ علـي الصعيـدي العـدوى والشيـخ الحـداوي وجماعة كثيرة من المتعممين وذهبـوا إليـه وخاطبـه الشيـخ الصعيـدي فقـال لـه‏:‏ هـذا قـول فـي مذهـب المالكيـة معمول به فقال‏:‏ من يقول أن المرأة تطلق زوجها إذا غاب عنها وعندها ما تنفقه ومـا تصرفـه ووكيلـه يعطيهـا مـا تطلبـه ثـم يأتـي من غيبته فيجدها مع غيره‏.‏

فقالوا له‏:‏ نحن أعلم بالأحكام الشرعية‏.‏

فقال‏:‏ لو رأيت الشيخ الذي فسخ النكاح‏.‏

فقال الشيخ الجداوي‏:‏ أنا الذي فسخت النكاح على قاعدة مذهبـي‏.‏

فقـام علـى أقدامـه وصـرخ وقـال‏:‏ واللـه أكسـر رأسـك‏.‏

فصـرخ عليـه الشيـخ علـي الصعيدي وسبه وقال له‏:‏ لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميرًا‏.‏

فتوسط بينهم الحاضرون من الأمراء يسكنون حدته وحدتهم وأحضروا الشيخ عبد الباقي من الحبس فأخذوه وخرجوا وهم يسبونه وهو يسمعهم‏.‏

واتفق أيضًا أن الشيخ عبد الرحمـن العريشـي لمـا توفـي صهـره الشيـخ أحمد المعروف بالسقط وجعله القاضي وصيًا على أولاده وتركته وكان عليه ديون كثيرة أثبتها أربابها بالمحكمة واستوفوها وأخذ عليهم صكوكًا بذلك ذهبـت زوجـة المتوفـى إلى يوسف بك بعد ذلك بنحو ست سنوات وذكرت له أن الشيخ عبد الرحمن انتهب ميراث زوجها وتواطأ مع أرباب الديون وقاسمهم فيما أخذوه فأحضر الشيخ عبد الرحمن وكان إذ ذاك مفتي الحنفية وطالبه بإحضار المخلفات أو قيمتها فعرفه أنه وزعها على أرباب الديون وقسم الباقي بين الورثة وانقضى أمرها وأبرزله الصكوك والحجج ودفتر القسام فلم يقبل وفاتحه في عدة مجالس وهو مصر على قوله وطلبه للتركة‏.‏

ثم أحضره يومًا وحبسـه عنـد الخازنـدار فركب شيخ السادات إليه وكلمه في أمره وطلبه من محبسه‏.‏

فلما علم الشيخ عبد الرحمن حضور شيخ السادات هناك رمى عمامته وفراجته وتطور وصرخ وخرج يعدو مسرعًا ونزل إلى الحوش صارخًا بأعلى صوته وهو مكشوف الرأس فلما عاينه يوسف بك وهو يفعل ذلك احتد الآخر وكان جالسًا مع شيخ السادات في المقعد المطل على الحوش فقام على أقدامه وصار يصرخ على خدمه ويقول‏:‏ امسكوه اقتلوه ونحو ذلك وشيخ السادات يقـول لـه‏:‏ أي شـيء هـذا الفعـل اجلـس يا مبارك وأرسل إليه تابعة الشيخ إبراهيم السندوبي فنزل إليـه وألبسـه عمامتـه وفراجتـه ونـزل الشيـخ فركـب وأخـذ صحبتـه إلـى داره وتلافـوا القضيـة وسكتوهـا ثـم حصـل منـه مـا حصل في الدعوى المتقدمة وما ترتب عليها من الفتنة وقفل الجامع وقتـل الأنفـس وثقـل أمـره علـى مـراد بـك وأضمـر لـه السـوء فلمـا سافـر أميرًا بالحج في السنة الماضية قصد مراد بك اغتياله أو نفيه عند رجوعه بالحج واتفق مع أمرائه وضايع القضية وسافر إلى جهـة الغربيـة والمنوفيـة وعسـف فـي البلاد ويريد أن يجعل عوده على نصف الشهر في أوان رجوع الحج‏.‏

ووصل الخبـر إلـى يوسـف بـك فاستعجـل الحضـور فصـار يجعـل كـل مرحلتيـن فـي مرحلـة حتـى وصـل محترسـًا فـي سابـع صفـر قبل حضور مراد بك من سرحته وعندما قرب وصول مراد بك إلى دخول مصر ركب يوسف بك في مماليكه وطوائفه وعدده وخرج إلى خارج البلد فسعى إبراهيـم بـك بينهمـا وصالحهمـا واستمـرت بينهمـا المنافرة القلبية من حينئذ إلى أن حصل ما حصل وانضم إلى اسمعيل بك ثم قتله اسمعيل بك بيد حسن بك واسمعيل بك الصغير كما تقدم‏.‏

ومات الأمير علي أغا المعمار وهو من مماليك مصطفى بك المعروف بالقرد وخشداش صالح بك الكبيـر وكـان مـن الأبطـال المعروفيـن والشجعـان المعدوديـن فلمـا قتـل كبيرهـم صالـح بـك استمـر فـي بلـاد قبلي على ما يتعلق به من الالتزام ويدفع ما عليه من المال والغلال إلى أن استوحش محمد بك أبو الذهب من سيده علي بك وخرج إلى الصعيد وقتل خشداشة أيوب بك وتحقـق الأجانب بذلك صحة العداوة فأقبلوا على محمد بك من كل جانب برجالهم وأموالهم ومنهم علي أغا المذكور وكان ضخمًا عظيم الخلقة جهوري الصوت شهمًا يصدع بالكلام فأنس به محمد بك وأكرمه واجتهـد هـو فـي نصرتـه ومناصحتـه وجمـع إليـه الأمـراء والأجنـاد المنفييـن والمطرودين الذين شتتهم علي بك وقتل أسيادهم وكبار الهوارة الذين قهرهم علي بك أيضًا واستولـى علـى بلادهـم مثـل أولادهـم وأولـاد نصيـر وأولـاد وافي واسمعيل أبي علي وأبي عبد الله وغيرهـم وحضـر معـه الجميـع إلـى جهـة مصـر كمـا تقـدم‏.‏

ولمـا وصـولا إلـى تجـاه التبيـن وأبرج لهم علي بـك التجريـدة وأميرهـا علـي بـك الطنطـاوي خـرج علي أغا هذا إلى الحرب هو ومن معه وبأيديهم مساوق غلاظ قصيرة ولها جلب حديد وفي طفها أزيد من قبضة بها مسامير متينة محددة الـرؤوس إلـى خـارج يضربـون بهـا خـودة الفـارس ضربـة واحـد فتنخسـف في دماغه وكانت هذه من مبتكرات المترجم حتى أنه سمي بأبي الجلب‏.‏

ولما خلصت إمارة مصر إلى محمد بك جعل كتخداه اسمعيل أغا أخا علي بك الغزاوي المذكور فنقم عليه أمورًا فأهمله وأحضر علي أغا هـذا وخلـع عليـه وجعلـه كتخـداه فسـار فـي النـاس سيـرًا حسنـًا ويقضـي حوائـج النـاس من غير تطلع إلـى شـيء ويقـول الحـق ولو على مخدومه وكان مخدومه أيضًا يحبه ويرجع إلى رأيه في الأمور لما تحققه فيه من المناصحة وعدم الميل إلى هوى النفس وعرض الدنيا وكان يحب أهـل العلـم والفضل والقرآن ويميل بكليته إليهم مع لين الجانب والتواضع وعدم الأنفة‏.‏

ولما أنشأ محمد بك مدرستـه المحمدية تجاه الأزهر وقرر فيها الدروس كان يحضر معنا المترجم على شيخنا الشيخ علي العدوي في صحيح البخاري مع الملازمة واتخذ لنفسه خلوة بالمدرسة المذكورة يستريح فيها وتأتيه أرباب الحوائج فيقضي لهم أشغالهم وكان يلم بحضرة الشيخ محمد حفيد الأستاذ الحنفـي ويحبـه وأخـذ عنه طريق السادة الخلوتية وحضر دروسه مع المودة وحسن العشرة ويحضر ختوم دروس المشايخ ويقرأ عشرًا من القرآن بأعلى صوته عند تمام المجلس ومملوكه حسن أغا الـذي زوجـه ابنتـه واشتهر بعده وحج المترجم في السنة الماضية في هيئة جليلة وآثار جميلة‏.‏

وتوفي في وقعة بياضة قتيلًا كما تقدم‏.‏

ومات الأمير اسمعيل بك الصغير وهو أخو علي بك الغزاوي وهم خمسة أخوة‏:‏ علي بك واسمعيل بك هذا وسليم أغا المعروف بتمرلنك وعثمان وأحمد ولما تأمر علي بك كان أخوته الأربعيـة باسلامبـول مماليـك عند بشير أغا القزلار وأعتقهم وتسامعوا بإمارة أخيهم بمصر فحضر إليـه اسمعيـل وأحمـد وسليم واستمر عثمان باسلامبول وأقام اسمعيل وسليم وأحمد بمصر وعمل اسمعيـل كتخـدا عنـد أخيـه علي بك وعمل سليم خازندار عند إبراهيم كتخدا أيامًا ثم قامت عليـه مماليكـه وعزلـوه لكونـه أجنبيـًا مننهـم وصـار لهـم أمـرة وبيوت والتزام‏.‏

وتزوج اسمعيل بهانم ابنة رضـوان كتخدا الجلفي وهي المسماة بفاطمة هانم وذلك أن رضوان كتخدا كان عقد لها على مملوكـه علـي أغـا الذي قلده الصنجقية ولم يدخل بها ولما خرج رضوان كتخدا وخرج معه علي المذكور فيمن خرج كما تقدم وذهب إلى بغداد أرسل يطلبها إليه من مصر وأرسل لها مع وكيلـه عشـرة آلـاف دينـار وأشيـاء فلـم يسلمـوا فـي إرسالها وكتبوا فتوى بفسخ النكاح على قاعدة مذهب مالك وتزوجها اسمعيل أغا هذا وظهر ذكره بها وسكن بها فـي دار أبيهـا العظيمـة بالأزبكيـة وصـار من أرباب الوجاهة‏.‏

فلما استقل محمد بك أو الذهب بملك مصر بعد سيده استوزره وجعله كتخداه مدة وأراد أن يتزوج بالست سلن محظية رضوان كتخدا وكان تزوج بها أخوه علي بك ومات عنها فصرفه مخدومه محمد بك أبو الذهب وعرفه أنها ربما امتنعت عليـه مراعـاة لهـا ثـم ابنـة سيدهـا فركب محمد بك وأتى عند علي أغا كتخدا الجاويشية المجاور لسكنها بدرب السادات وأرسل إليها علي أغا فلم يمكنها الامتناع فعقد عليها وماتت هانم بعد ذلك وباع بيت الأزبكية لمخدومه محمد بك وبنى داره المجاورة لبيت الصابونجي وصرف عليها أموالها كثيرة وأضاف إليها البيت الذي عند باب الهواء المعـروف ببيـت المرحـوم مـن الشرايبيـة‏.‏

وسكنهـا مـدة وزوجـه محمـد بـك سرية من سراريه أيضًا ثم باع تلك الدار لأيوب بك الكبيـر وسكنهـا‏.‏

ولمـا سافـر محمـد بـك إلـى الشـام ومحاربـة الظاهـر عمـر أرسـل المترجـم مـن هاك إلى اسلامبـول بهدايـا وأمـوال للدولـة ومكاتبات بطلب ولاية مصر والشام وأجيب إلى ذلك‏.‏

وكتب له التقليـد وأعطـوه رقـم الـوزارة وتـم الأمر وأراد المسير بذلك إلى محمد بك فورد الخبر بموته فبطل ذلـك ورجـع المترجـم إلـى مصـر وأقـام بهـا فـي ثـروة إلـى أن حصلـت الوحشـة بيـن اسمعيـل بـك ويوسـف بك والجماعة المحمدية وكانت الغلبة عليهم فقلده اسمعيل بك الصنجقية وقدمه في الأمور ونوه بشأنه وأوهمه أنه يريد تفويض الأمور إليه لما يعلمه فيه من العقل والرئاسة فاغتر بذلك وباشر قتـل يوسـف بـك هـو وحسـن بـك الجـداوي كمـا تقـدم وظن أن الوقت صفا له‏.‏

فاندفع في الرئاسة وازدحمت الرؤوس عليه وأخذ في النقض والإبرام فعاجله اسمعيل بك وأحاطوا به وقتلوا كما ذكر وكان ذا دهاء ومعرفة وفيه صلابة وقوة جنان وخرم مع التواضع وتهذيب الأخلاق وكان يحب أهل العلم ويكره النصارى كراهـة شديـدة وتصـدى لأذيتهـم أيـام كتخدائيتـه لمحمـد بـك وكتـب فـي حقهـم فتـاوى بنقضهـم العهـد وخروجهـم عـن طرائفهـم التـي أخـذ عليهـم بهـا مـن أيـام سيدنا عمر رضي الله عنه ونادى عليهم ومنعهم من ركوب الحمير ولبسهم الملابس الفاخرة وشرائهم الجواري والعبيد واستخدامهم المسلمين وتقنع نسائهم بالبراقع البيض ونحو ذلك‏.‏

وكذلك فعل معهـم مثـل ذلـك عندمـا تلبـس بالصنجقيـة وكـان لـه اعتقـاد عظيـم فـي الشيـخ محمـد الجوهري ويسعى بكليته في قضاء أشغاله وحوايجه وكان لا بأس به‏.‏

ومـات الأميـر قاسـم كتخـدا عزبـان وكـان مـن مماليك محمد بك أبي الذهب وتقلد كتخدائية العزب وأمين البحرين وكان بطلًا شجاعًا موصوفًا ومال عن خشداشيته كراهة منه لأفعالهم حتى خرج إلى محاربتهم وقتل غفر الله له‏.‏

سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف فـي يـوم الخميـس سابـع المحـرم حضر اسمعيل كتخدا عزبان وبعض صناجق اسمعيل بك وفي يوم السبـت تاسعـه وصل اسمعيل بك وعدى من معادي الخبيري ودخل إلى مصر وذهب إلى بيته وكثر الهرج في الناس بسبب حضوره ومن وصل قبله على هذه الصورة‏.‏

ثم تبين الأمر بأن حسـن بك الجداوي وخشداشينه وهم رضوان بك وعبد الرحمن بك وسليمان كتخدا وتبعهم حسن بك سوق السلاح وأحمد بك شنن وجماعة الفلاح بأسرهم وكشاف ومماليـك وأجنـاد ومغاربة خامر الجميع على اسمعيل بك والتفوا على إبراهيم بك ومراد بك ومن معهم فعند ذلـك ركب اسمعيل بك بمن معه وطلب مصر حتى وصلها في أسرع وقت وهو في أشد ما يكون من القهر والغيظ‏.‏

وأصبح يوم الأربعاء فأرسل اسمعيل بك ومنع المعادي من التعدية‏.‏

وفي يوم الاثنين طلعوا إلى القلعة وعملـوا ديوانـًا عنـد الباشـا وحضـر الموجوديـن مـن الأمـراء والوجاقلية والمشايخ وتشاوروا في هذا الشأن فلم يستقر الرأي على شيء ونزلوا إلى بيوتهم وشرعوا في توزيع أمتعتهم وتعزيل بيوتهم واضطربت أحوالهم وطلب اسمعيل بك تجار إليها والمباشريـن وطلب منهم دراهم سلفة فدخل عليه الخبيري وأخبره بأن الجماعة القبليين وصلت أوائلها إلى البساتين وبعضهم وصل إلى بر الجيزة بالبر الآخر‏.‏

فلما تحقق ذلك أمر بالتحميل وخرجوا من مصر شيئًا فشيئًا من بعد العصر إلى رابع ساعة من الليل ونزلوا بالعادلية وذلك ليلـة الثلاثـاء رابـع عشـر المحـرم وهـم اسمعيـل بـك وصناجقـة إبراهيـم بـك قشطـة وحسيـن بـك وعثمـان بك طبل وعثمـان بـك قفـا الثـور وعلـي بـك الجوخـدار وسليـم بـك وإبراهيـم بـك طنـان وإبراهيـم أوده باشـه وعبـد الرحمـن أغـا مستحفظـان واسمعيل كتخدا عزبان ويوسف أغا الوالي وغيرهم وباتت النـاس فـي وجـل‏.‏

وأصبـح يـوم الثلاثـاء وأشيـع خروجهـم ووقع النهب في بيوتهم وركبوا في صبح ذلـك اليـوم وذهبـوا إلـى جهـة الشـام فكانـت مـدة إمـارة اسمعيـل بـك وأتباعـه علـى مصر في هذه المرة ستة أشهر وأيامًا بما فيها من أيام سفره إلى قبلي وجوعه‏.‏

وعدى مراد بك ومصطفى بك وآخـرون فـي ذلـك اليـوم وكذلـك إبراهيـم أغـا الوالـي الـذي كـان فـي أيامهـم وشـق المدينـة ونـادى بالأمان وأرسل إبراهيم بك يطلب من الباشا فرمانًا بالإذن بالدخول فكتب لهم الباشا فرمانًا وأرسله صحبة ولده وكتخدائه وهو سعيد بك‏.‏

فدخل بقية الأمراء يوم الأربعاء ما عدا إبراهيم بك فإنه بات بقصر العيني ودخل يوم الخميس إلى داره وصحبته اسمعيل أبو علي كبي من كبار الهوارة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن عشرة طلعوا إلى الديوان وقابلوا الباشا وخلع عليهم خلع القدوم ونزلوا إلى بيوتهم‏.‏

وفـي يـوم الخميـس حـادي عشرينـه طلعـوا أيضـًا إلى الديوان فخلع الباشا على إبراهيم بك واستقر في مشيخة البلد كما واستقر أحمد بك شنن صنجقًا كما كان وتقلد عثمان أغا خازندار إبراهيـم بـك صنجقيـة وهـو الـذي عرف بالأشقر وقلدوا مصطفى كاشف المنوفية صنجقية أيضًا وعلي كاشف أغات مستحفظان وموسى أغا من جماعة علي بك واليًا كما كان أيام سيده‏.‏

وفي أواخره وردت أخبار بأن اسمعيل بك ومن معه وصلوا إلى غزة واستقر المذكورين بمصر علوية ومحمدية والعلوية شامخة على المحمدية ويرون المنة لأنفسهم عليهم والفضيلة لهم بمخامرتهم معهم ولولا ذلك ما دخلوا إلى مصر ولا يمكن المحمدية التصرف في شيء إلا بإذنهم ورأيهم بحيث صاروا كالمحجوز عليهم لا يأكلون إلا ما فضل عنهم‏.‏

وفـي يـوم الخميس ثامن شهر من جمادى الأولى حضر إلى مصر إبراهيم بك أوده باشه من غزة مفارقـًا لاسمعيـل بـك وقـد كان أرسل قبل وصوله يستأذن في الحضور فأذنوا له وحضر وجلس في بيته وتخيل منه رضوان بك وقصد نفيه فالتجأ إلى مراد بك وانضم إليه‏.‏

فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى ركب مراد بك وخرج إلى مرمى النشاب منتفخًا من القهر مفكرًا في أمره مع العلوية فحضر إليه عبد الرحمن بك وعلي بك الحبشي من العلوية فعندما أراد عبـد الرحمـن بـك القيـام عاجلـه مـراد بـك ومـن معـه وقتلـوه وفـر علـي بـك الحبشي وغطى رأسه بفوقانيتـه وانـزوى فـي شجر الجميز فلم يروه‏.‏

فلما ذهبوا ركب وسار مسرعًا حتى دخل على حسـن بـك الجـداوي فـي بيتـه وركـب مـراد بـك وذهـب إلـى بيتـه‏.‏

واجتمـع علـى حسـن بك أغراضه وعشيرتـه وأحمـد بك شنن وسليمان كتخدا وموسى أغا الوالي وحسن بك رضوان أمير الحاج وحسن بك سوق السلاح وإبراهيم بك بلفيا وكرنكوا في بيت حسن بك الجداوي بالداودية وعملوا متاريس ي ناحية باب زويلة وناحية باب الخرق والسروجية والقنطرة الجديدة‏.‏

واجتمع علـى مـراد بـك خشداشينـه وعشيرتـه وهـم مصطفـى بـك الكبيـر ومصطفـى بك الصغير وأحمد بك الكلارجي وركب إبراهيم بك من قبة العزب وطلع إلى القلعة وملك الأبواب وضرب المدافع علـى بيـت حسـن بـك الجـداوي بالداوديـة وعملـوا متاريـس فـي ناحيـة بـاب زويلـة وناحية باب الخرق والسروجية والقنطرة الجديدة‏.‏

واجتمع على مراد بك خشداشينه وعشيرته وهم مصطفى بك الكبيـر ومصطفـى بـك الصغيـر وأحمـد بـك الكلارجـي وركـب إبراهيـم بـك مـن قبـة العزب وطلع إلى القلعـة وملـك الأبـواب وضـرب المدافـع علـى بيـت حسـن بـك الجـداوي ووقع الحرب بينهم بطول نهار يوم السبت وغلقت الأسواق والحوانيت وباتوا على ذلك ليلة الأحد ويوم الأحد والضرب من الفريقيـن فـي الأزقـة والحـارات رصـاص ومدافـع وقرابيـن ويزحفـون علـى بعضهـم تـارة ويتأخـرون أخرى وينقبون البيوت على بعضهم‏.‏

فحصل الضرر للبيوت الواقعة في حيزهم من النهب والحرق والقتـل‏.‏

ثـم أن المحمديـة تسلـق منهـم طائفـة مـن الخليـج وطلعـوا مـن عنـد جامـع الحيـن مـن بين المتاريس وفتحوا بيت عبد الرحمن أغا من ظاهره وملكوه وركبوا عليـه المدافـع وضربـوا علـى بيـت للجـداوى فعنـد ذلـك عايـن العلويـة الغلـب فركبوا وخرجوا من باب زويلة إلى باب النصر والمحمدية خلفهم شاهرين السيوف يخجون بالخيل فلما خرجوا إلى الخلاء التقوا معهم فقتل حسن بك رضـوان أميـر الحـاج وأحمـد بـك شنـن وإبراهيم بك بلفيا المعروف بشلاق وغيرهم أجناد وكشاف ومماليك وفر حسن بك الجداوي ورضوان بك وكان ذلك وقت القائلة من يوم الأحد وكـان يومـًا شديـد الحر‏.‏

ولم يقتل أحد من المحمديين سوى مصطفى بك الكبير أصابته رصاصة في كتفه انقطع بسببها أيامًا ثم شفي‏.‏

وأما حسن بك ورضوان بك فهربا في طائفة قليلة وخرج عليهما العربان فقاتلوهما قتالًا شديدًا وتفرقا من بعضهما وتخلص رضوان بـك وذهـب فـي خاصتـه إلـى شيبيـن الكـوم‏.‏

وأمـا حسـن بـك الجـداوي فلـم تزل العرب تحاوره حتى أضعفوه وتفرق مـن حوله وشيخ العرب سعد صحصاح يتبعه ثم حلق عليه رتعة شيخ عرب بلي فتقنطر به الحصان في مبلة كتان فقبضوا عليه وأخذوا سلاحه وعروه وكتفوه وصفعه رتيمة على قفاه ووجه ثم سحبوه بينهم ماشيًا على أقدامه وهو حاف وأرسلوا إلى الأمراء بمصر يخبرونهم بالقبض عليه وكان السيد إبراهيم شيخ بلقس لما بلغه ذلك ركب إليه وخلصه من تلك الحالة وفـك كتافـه وألبسـه ثيابـًا وأعطـاه دراهـم ودنانيـر‏.‏

فلمـا بلـغ الخبـر إبراهيم بك ومراد بك أرسلوا له كاشفـًا فلمـا حضـر إليـه وواجهـه لاطفـه ثـم دخـل إلـى مصـر وسـار إلـى بولـاق ودخل إلى بيت الشيخ أحمـد الدمنهوري فركب جماعة كثيرة من المحمدية وذهبوا إلى بولاق وطلبوه فامتنع منن إجابتهم فلـم يجسـروا علـى أخـذه قهـرًا مـن بيـت الشيـخ فداخلـه الوهـم وطلـع إلـى السطـح ونـط إلـى سطـح آخـر ولـم يـزل حتـى نـزل بالقرب من وكالة الكتان فصادف بعض المماليك فضربه وأخذ حصانه وركبه وذهب رامحًا بمفرده وأشيع هروبه فركبت الأجناد وحلقوا عليه الطرق فصار يقاتل من يدركه ولـم يجـد طريقـًا مسلوكـًا إلـى الخـلاء فدخـل المدينـة وذهـب إلـى بيت إبراهيم بك فوجده جالسًا مع مـراد بـك فاستجـار بإبراهيـم بـك فأجـاره وأمنـه ومكـث فـي بيتـه خمسـة أيـام وهـو كالمختـل فـي عقله ممـا قاسـاه مـن معاينـة المـوت مـرارًا‏.‏

ثـم رسمـوا لـه أن يذهـب إلـى جـدة وأرسلـوه إلى السويس في يوم الأربعاء ثامن عشرين جمادى الأولى في محفة‏.‏

فلما أنزل بالمركب أمر الريس أن يذهب به إلى القصير فامتنع فأراد قتله فذهب بالمركب إلى القصير فطلـع إلـى الصعيـد وأمـا حسـن بـك سوق السلاح فإنه التجأ إلـى حريـم إبراهيـم بـك وعلـي بـك الحبشـي وسليمـان كتخـدا دخـلا إلـى مقـام سيدي عبد الوهاب الشعراني وحمزة بك ذهب إلى بيته لكونه كان بطالًا فلم يداخله الرعب كغيـره وهـرب موسـى أغـا الوالـي إلى شبرا‏.‏

ثم أنهم رسموا بنفي علي بك الحبشي وحسن بك وسليمـان كتخـدا إلـى رشيـد وأحضـروا موسـى أغـا الوالـي إلـى بيته بشفاعة علي أغا مستحفظان وأرسلوا لرضوان بك الإذن بالإقامة في شيبين وبنى له بها قصرًا على البحر وجلس فيه وانقضت هذه الحادثة الشنيعة‏.‏

وفـي يـوم الخميـس غايـة جمـادى الأولـى عملـوا ديوانـًا بالقلعة وقلدوا أيوب بك الكبير صنجقية وكان اسمعيـل بـك رفعهـا عنـه ونفـاه إلـى دميـاط ثـم نقلـه إلـى طندتـا فلمـا رجـع خداشينه مع العلوية طلبوه إلى مصر وأرادوا رد صنجقيته فلم يرض حسن بك الجداوي فأقام بمصر معزولًا حتى وقعت هذه الحادثة فرجع كما كان‏.‏

وقلدوا أيوب بك كاشف خازندار محمد بك أبي الذهب كما كـان صنجقيـة أيضـًا وعرف بأيوب بك الصغير وقلدوا سليمان بك أبا نبوت صنجقية أيضًا كما كان وقلدوا إبراهيم أغا الوالي سابقًا صنجقية وركبوا في مواكبهم إلى بيوتهم وضربت لهم الطبلخانات‏.‏

وفـي يـوم الخميـس سابـع جمادى الثانية طلعوا إلى الديوان وقلدوا سليمان أغا مستحفظان سابقًا صنجقية وقلدوا يحيى أغا خازندار مراد بـك صنجقيـة أيضـًا وقلـدوا علـي أغـا خازنـدار إبراهيم بك صنجقية أيضًا وهو الذي عرف بعلي بك أباظة‏.‏

وفيـه حضـر إلـى مصـر سليمـان كتخـدا الشرايبـي كتخـدا اسمعيـل بـك وعلـى يده مكاتبة من اسمعيل بـك مضمونهـا يريـد الـإذن بالتوجـه إلـى أخميم أو إلى السرور رأس الخليج يقيم هناك ويبقى إبراهيم بك قشطة بمصر رهينة ويكون وكيله في تعلقاته وقبض فائظه والصلح أحسن وأولى فعملوا ديوانـًا وأحضـروا المشايـخ والقاضي وعرضوا عليهم تلك المكاتبة وتشاوروا في ذلك فانحط الرأي بـأن يرسلـوا له جوابًا بالسفر إلى جدة من السويس ويطلقوا له في كل سنة اربعين كيسًا وستة آلاف أردب غلال وحبوب وأن يرسل إبراهيم بك صهره كما قال إلى مصر ويكون كيلًا عنه ومن بصحبته من الأمراء يحضرون إلى مصر بالأمان ويقيمون برشيد ودمياط والمنصورة ونحو ذلك وأرسلوا المكاتبة صحبة سليم كاشف تمرلنك أخي اسمعيل بك المقتول وآخرين‏.‏

وفيـه رسمـوا بنفـي إبراهيـم بـك أوده باشـه وسليمـان كتخـدا الشرايبـي وكـان أشيـع تقليـد إبراهيـم بك الصنجقيـة فـي ذلـك اليـوم وتهيـأ لذلـك وحضـر في الصباح عند إبراهيم بك فلما دخل رأى عنده مـراد بـك فاختليـا معـه فأخـرج إبراهيـم بـك من جيبه مكتوبًا مسكوه عليه من اسمعيل بك خطابًا لـه مضمونـه أنـه بلغنـا مـا صنعت في إيقاع الفتنة بين الجماعة وهلاك الطائفة الخائنة وفيه أن يأخذ مـن الرجـل المعهـود كـذا مـن النقـود يوزعهـا علـى جهـات كناهـا لـه وربنـا يجمعنا في خير‏.‏

فلما تناوله مـن إبراهيـم بـك وقـرأه قـال فـي الجـواب‏:‏ كـل منكـم لا يجهـل مكايـد اسمعيـل بك وأنكر ذلك بالكلية‏.‏

فلـم يقبلـوا عـذره ولـم يصدقوه وقام وذهب إلى بيته‏.‏

فأرسلوا خلفه محمد كتخدا أباظة فأخذه وصحبتـه مملوكيـن فقـط ونـزل بـه إلـى بولاق ونفوه إلى رشيد وكذلك نفوا سليمان كتخدا الشرايبي واحتاطوا بموجود إبراهيم بك‏.‏

وفـي يوم الاثنين حادي عشر جمادى الثانية وصل إبراهيم باشا والي جدة وذهب إلى العادلية وجلس هناك بالقصر حتى شهلوه وسفروه إلى السويس بعدما ذهبوا إليه وودعوه وكان سفره يـوم الأحـد سابـع عشـر جمـادى الثانيـة‏.‏

وفـي ذلـك اليـوم حضـر جماعـة مـن الأجنـاد مـن ناحيـة غزة من الذين كانوا بصحبة اسمعيل بك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرة ركب الأمراء وطلعوا إلى باب الينكجرية والعزب وأرسلوا إلى الباشا كتخدا الجاويشبة وآغـات المتفرقـة والترجمـان وكاتـب حوالـة وبعـض الاختياريـة يأمرونـه بالنزول إلى بيت حسن بك الجداوي وهو بيت الداودية‏.‏

فلما قالوا له ذلك طلعوا إلى حوش الديـوان واجتمعـوا بـه حتـى امتـلأ منهـم فارتعـب الباشـا منهـم فركـب من ساعته ونزل من القلعة إلى بيت الداودية وأحضروا الجمال وعزلوا متاعه في ذلك اليوم فكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة‏.‏ وفي

يوم الجمعة حادي عشرين شهر رجب الموافق لعاشر مسـري القبطـي

كـان وفـاء النيـل المبارك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشرين شهر شعبان حضر من أخبر أن جماعة من الأجناد حضروا من ناحية غزو وصحبتهم عبد الرحمن أغا مستحفظان على الهجن ومروا من خلف الجرة وذهبوا إلىقبلـي وتخلـف عنهـم عبـد الرحمـن أغـا فـي حلـوان لغـرض مـن الأغـراض ينتظـره فـي مصـر فركب من ساعتـه مـراد بـك فـي عـدة وذهبـوا إلـى حلـوان ليلًا على حين غفلة واحتاطوا بها وبدار الأوسية وقبضوا على عبد الرحمن أغا وقطعوا رأسه ورجع مراد بك وشق المدينة والرأس أمامه على رمـح ثـم أحضـروا جثتـه إلـى بيتـه الصغيـر بالكعكييـن وغسلـوه وكفنـوه وخرجوا بجنازته وصلوا عليه بالماردانـي‏.‏

ثـم ألحقـوا بـه الـرأس فـي الرميلـة ودفنـوه بالقرافـة‏.‏

ومضـى أمـره وزاد النيـل فـي هـذه السنة زيادة مفرطة حتى انقطعت الطرقات من كل ناحية واستمر إلى آخر توت‏.‏

وفـي أواخـر رمضـان هـرب رضوان بك على من شيبين الكوم وذهب إلى قبلي فلما فعل ذلك عينـوا إبراهيـم بـك الوالـي فنـزل إلـى رشيـد وقبـض علـى علـي بـك الحبشـي وسليمـان كتخـدا وقتلهمـا وأما إبراهيم بك أوده باشه فهرب إلى القبطان واستجار به‏.‏

وفي تاسع عشر شوال خرج المحمل والحجاج صحبة أمير الحاج رضوان بك بلفيا وسافر من وفيه جاءت الأخبار بورود اسمعيل باشا والي مصر إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشرين شوال ركب محمد باشا عزت منن الداودية وذهب إلى قصر العيني ليسافر‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث ذي القعدة نزل الباشا في المراكب وسافر إلى بحري‏.‏

وفـي منتصـف شهر القعدة المذكور نزل أرباب العكاكيز وهم علي أغا كتخدا جاوجان وآغات المتفرقة والترجمان وكاتب حوالة وأرباب الخدم وسافروا لملاقاة الباشا الجديد‏.‏

من مات في هذه السنة من أعيان العلماء والمشاهير مـات الشيـخ الإمـام العلامـة المتفنـن أوحد الزمان وفريد الأوان أحمد ابن عبد المنعم بن يوسف بن صيـام الدمنهـوري المذاهبي الأزهري ولد بدمنهور الغربية سنة 1101 وقدم الأزهر وهو صغير يتيـم لـم يكفلـه أحـد فاشتغـل بالعلـم وجـال فـي تحصيلـه واجتهـد فـي تكميله وأجازه علماء المذاهب الأربعـة وكانـت لـه حافظـة ومعرفـة فـي فنـون غريبـة وتآليـف وأفتى على المذاهب الأربعة ولكن لم ينتفع بعمله ولا بتصانيفه لبخله في بذله لأهله ولغير أهله وربما يبيح في بعض الأحيان لبعض الغربـاء فوائـد نافعـة وكـان لـه دروس في المشهد الحسيني في رمضان يخلطها بالحكايات وبما وقع له حتـى يذهـب الوقـت‏.‏

وولـي مشيخـة الجامـع الأزهـر بعـد وفـاة الشيـخ الحفنـي وهابتـه الأمـراء لكونـه كـان قـوالًا للحـق أمـارًا بالمعـروف سمحـًا بمـا عنده من الدنيا‏.‏

وقصدته الملوك من الأطراف وهادته بهدايا فاخرة وسائر ولاة مصر من طرف الدولـة كانـوا يحترمونـه وكـان شهيـر الصيـت عظيـم الهيبة منجمعًا عن المجالس والجمعيات‏.‏

وحج سنة 1177 مع الركب المصري وأتى رئيس مكة وعلماؤها لزيارته وعاد إلى مصر‏.‏

وتوفي يوم الأحد عاشر شهر رجب من السنة المذكورة وكـان مسكنـه ببولاق وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًا وقرئ نسبه إلى أبي محمد البطل الغازي ودفن بالبستان وكان آخر من أدركنا من المتقدمين‏.‏

ومات الإمام العلامة المحقق والفهامة المدقق شيخنا الشيخ مصطفى ابن محمد بن يونس الطائي الحنفـي ولـد بمصـر سنة 1138 وتفقه على والده وبه تخرج وبعد وفاة والده تصدر في مواضعه ودرس وأفتى وكان إمامًا ثبتًا متقنًا مستحضرًا مشاركًا في العلوم والرياضيات فرضيًا حيسوبًا ولـه مؤلفـات كثيـرة فـي فنـون شتى تدل على رسوخه وكتب شرحًا على الشمائل وحاشية على الأشموني أجاد فيها وكان رأسًا في العلوم والمعارف توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات سيدي أبو مفلح أحمد بن أبي الفوز بن الشهاب أحمد بن أبي العز محمد بن العجمي ويعرف بالشيشيني وكان كاتب الكني بمنزل السادات الوقائية وكان إنسانًا حسنًا بهيًا ذا تودد ومروءة وعنده كتب جيدة يعير منها لمن يثق له للمطالعة والمراجعة‏.‏

توفي يوم السبت آخر المحرم‏.‏

ومات شيخنا الإمام القطب وجيه الدين أبو المراحم عبد الرحمن الحسيني العلوي العيدروسي التريمي نزيل مصر ولد بعد الغروب ليلة الثلاثاء تاسع صفر سنة 1125 ووالده مصطفى بن شيخ مصطفى بن علي زين العابدين ابن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن القطب الأكبـر عبـد اللـه العيـدروس بـن أبـي بكـر السكـران بـن القطـب عبـد الرحمن السقاف ابن محمد مولى الدويلـة بـن علـي بـن علـوي بـن محمـد مقـدم التربـة بتريـم ابـن علـي بـن محمـد بـن علـي بـن علـوي بـن محمـد بـن علـوي بـن عبـد اللـه بـن أحمـد العراقـي بـن عيسـى النقيـب بـن محمـد بـن علـي بـن جعفـر الصـادق بن محمد ابن علي بن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب وأمـه فاطنـة ابنـة عبـد اللـه الباهـر ابـن مصطفـى بـن زين العابدين العيدروس نشأ على عفة وصلاح في حجر والده وجده وأجازه والده وجده وألبساه الخرقة وصافحاه وتفقه على السيـد وجيـه الديـن عبـد الرحمـن بـن عبـد اللـه بلفقيـه وأجازه بمروياته‏.‏

وفي سنة 1153 توجه صحبة والده إلى الهند فنزلا بندر الشحر واجتمع بالسيـد عبـد اللـه بن عمر المحضار العيدروس فتلقن منه الذكر وصافحه وشابكه والبسه الخرقة وأجازه إجازة مطلقة مع والده ووصلا بندر سورت واجتمع بأخيه السيد عبد الله الباصر وزارا مـن بهـا مـن القرابـة والأوليـاء ودخـلا مدينة بروج فزارا محضار الهند السيد أحمد بن الشيخ العيـدروس وذلـك ليلـة النصـف مـن شعبـان سنـة واحـد وستيـن‏.‏

ثـم رجعـا إلى سورة وتوجه والده إلـى تريـم وتـرك المترجـم عنـد أخيـه وخالـه زيـن العابديـن ابن العيدروس‏.‏

وفي أثناء ذلك رجع إلى بلـاد جـادة وظهـرت لـه فـي هـذه السفـرة كرامـات عـدة ثم رجع إلى سورت وأخذ إذ ذاك من السيد مصطفـى ابـن عمـر العيـدروس والحسيـن بن عبد الرحمن بن محمد العيدروس والسيد محمد فضل الله العيدروس إجازة السلاسل والطرق وألبسه الخرقة ومحمد فاخر العباسـي والسيـد غلـام علي الحسيني والسيد غلام حيدر الحسيني والبارع المحدث حافظ يوسف السورتي والعلامة عزيز الله الهندي والعلامة غياث الدين الكوكبي وغيرهم وركب من سورت إلى اليمن فدخل تريم وجدد العهد بذوي رحمه وتوجه منها إلى مكة للحج وكانت الوقفة نهار الجمعة‏.‏

ثم زار جده صلى الله عليه وسلم وأخذ هناك عن الشيخ محمد حياة السندي وأبي الحسن السندي وغبراهيم بن قيض الله السندي والسيد جعفر بن محمد البيتي ومحمد الداغستاني ورجع إلى مكـة فأخـذ عـن الشيـخ السنـد السيد عمر بن أحمد وابن الطيب وعبد الله ابن سهل وعبد الله بن سليمان ما جرمي وعبد الله بن جعفر مدهور ومحمد باقشير ثم ذهب إلى الطائف وزار الحبر بن عباس ومدحه بقصائد واجتمع إذ ذاك بالشيخ السيد عبد الله ميرغني وصار بينهما الـود الـذي لا يوصـف‏.‏

وفـي سنـة ثمان وخمسين أذن له بالتوجه إلى مصر فنزل إلى جدة وركب منها إلى السويس ومصر هرعت إليه أكابر مصر من العلماء والصلحاء وأربـاب السجاجيـد والأمـراء وصـارت لـه معهم المطارحات والمذاكرات ما هو مذكور في رحلته وجمع حواسه لنشر الفضائل وأخلاها عن السوي وهرعت إليه الفضلاء للأخذ والتلقي وتلقـى هـو عـن كـل مـن الشيخ الملوي والجوهري والحفني وأخيه يوسف وهم تلقوا عنه تبركًا وصار أوحد وقته حالًا وقالًا مع تنويه الفضلاء به وخضعت له أكابر الأمراء على اختلـاف طبقاتهـم وصـار مقبـول الشفاعـة عندهـم لا تـرد رسائلـه ولا يـرد سائلـه وطـار صيتـه فـي المشـرق والمغـرب‏.‏

وفي أثناء هذه المـدة تعـددت لـه رحلـات إلـى الصعيـد الأعلـى وإلـى طندتـا وإلى دمياط وغلى رشيد وإسكندرية وفوة وديروط واجتمع بالسيـد علـي الشاذلـي وكـل منهمـا أخـذ عـن صاحبـه‏.‏

وزار سيـدي إبراهيـم الدسوقـي ولـه فـي كـل هـؤلاء قصائـد طنانـة‏.‏

ثـم سافر إلى الشام فتوجه إلى غزة ونابلس ونـزل بدمشـق ببيـت الجناب حسين أفندي المرادي وهرعت إليه علماء الشام وأدباؤها وخاطبوه بمدائح واجتمع بالوزير عثمان باشـا فـي ليلـة مولـد النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فـي بيـت السيـد علـي أفنـدي المـرادي ثـم رجـع إلـى بيـت المقدس وزار وعاد إلى مصر وتوجه إلى الصعيد ثم عاد إلى مصـر وزار السيـد البـدوي ثـم ذهـب إلـى دميـاط‏.‏

كعادتـه فـي كـل مـرة ثـم رجـع إلى مصر ثم توجه إلى رشيد ثم الإسكندرية ومنها إلى اسلامبول فحصل له بهـا غايـة الحـظ والقبـول ومـدح بقصائـد هرعـت إليه الناس أفواجًا ورتب له في حوالي مصر كل يوم قرشان ولم يمكث بها إلا نحـو أربعيـن يومـًا وركـب منهـا إلـى بيـروت ثـم إلـى صيدا ثم إلى قبرص ثم إلى دمياط وذلك غاية شعبـان سنـة تسعيـن‏.‏

ثـم دخـل المنصـورة وبـات بهـا ليلـة ثم دخل مصر في سابع عشر رمضان‏.‏

وكان مدة مكثه في الهند عشرة أعوام وحج سبع عشرة مرة منها ثلاث بالجمعة وسفره من الحجـاز إلـى مصـر ثلـاث مـرات وللصعيـد سـت مـرات ولدميـاط ثمـان مـرات‏.‏

ولـم يـزل يعلو ويرقى إلى أن توفـي ليلـة الثلاثـاء ثانـي عشر محرم من هذه السنة وخرجوا بجنازته من بيته الذي تحت قلعة الكبش بمشهد حافل وصلي عليه بالجامع الأزهر وقرئ نسبه على الدكة وصلي عليه إمامًا الشيخ أحمد الدردير ودفن بمقام ولي الله العتريس تجاه مشهد السيدة زينب ورثي بمراث كثيرة ربما يأتي ذكرها في تراجم العصريين ولم يخلف بعده مثله رحمه الله‏.‏

ومات الوجيه المبجل عبـد السلـام أفنـدي بـن أحمـد الأزرجانـي مـدرس المحموديـة كـان إمامـًا فاضلًا محققًا له معرفة بالأصول قرأ العلوم ببلاده وأتقن في المعقول والمنقول وقدم مصر ومكث بها مدة ولما كمل بناء المدرسة المحمودية بالحبانية تقرر مدرسًا فيها وكان يقرأ فيها الدرر لمنلاخسرو وتفسير البيضاوي ويورد أبحاثًا نفيسة‏.‏

وكان في لسانه جبسة وفي تقرير عسر وبأخرة تولى تولى إمامتها وتكلف في حفظ بعض القرآن وجوده على الشيخ عبـد الرحمـن الأجهوري المقرئ وابتنى منزلًا نفيسًا بالقرب من الخلوتي وكان له تعلق بالرياضيات وقرأ على المرحوم الوالد أشياء من ذلك واقتني آلات فكلية نفيسة بيعت في تركته‏.‏

مات بعد أن تعلل بالحصبـة أيامـًا فـي يـوم الثلاثـاء سـادس جمـادى الأولـى من السنة ولم يخلف بعده في المحمودية مثله وجاهة وصرامة واحتشامًا وفضيلة رحمه الله‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة والحبـر الفهامـة الشيـخ أحمـد بـن عيسـى بن أحمد ابن عيسى بن محمد الزبيري الشافعي البراوي ولد بمصر وبها نشأ وقرأ الكثير على والده وبه تفقه وحضر دروس مشايخ الوقـت فـي المعقـول والمنقـول وتمهـروا نجـب وعـد من أرباب الفضائل‏.‏

ولما توفي والده أجلس مكانه بالجامـع الأزهـر واجتمـع علي طلبة أبيه وغيرهم واستمرت حلقة درس والده على ما هي عليها مـن العظـم والجلالـة والرونـق وإفـادة الطلبـة وكـان نعـم الرجـل صلاحـًا وصرامـة‏.‏

توفـي بطندتـا في ليلة الأربعـاء ثالـث شهـر ربيع الأول فجأة وجيء به إلى مصر فغسل في بيته وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بتربة المجاورين رحمه الله‏.‏

ومـات الوجيـه المبجـل بقيـة السلـف سيـدي عامـر بـن الشيـخ عبـد الله الشبراوي تربى في عز ودلال وسيادة ورفاهية وكان نبيلًا إلا أنه لم يلتفت إلى تحصيل المعارف والعلوم ومع ذلك كان يقتني الكتـب النفيسـة ويبـذل فيهـا الرغائب واستكتب عدة كتب بخط المرحوم الشيخ حسن الشغراوي المكتب وهو فـي غايـة الحسـن والنورانيـة‏.‏

ومـن ذلـك مقامـات الحريـري وشروحهـا للزمزمي وغيره وجلدها وذهبها ونقشوا اسمه في البصمات المطبوعة في نقش الجلود بالذهب وعندي بعض على هذه الصورة ورسم باسمه الشيخ محمد النشيلي عدة آلات فلكية وأرباع وبسائـط وغيـر ذلـك واعتنى بتحريرها وإتقانها وأعطاه في نظير ذلك فوق مأموله وحوى من كل شـيء أظرفـه وأحسنـه مـع أن الـذي يـرى ذاتـه يظنـه غليـظ الطبـع‏.‏

توفـي رحمـه الله يوم الجمعة تاسع عشرين المحرم من السنة‏.‏

ومـات العلامـة الفقيـه الفاضـل الشيـخ محمـد سعيـد بـن محمد صفر ابن محمد بن أمين المدني الحنفي نزيل مكة والمدرس بحرمها تفقه على جماعة من فضلاء مكة وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة والشيخ تاج الدين القلعي وطبقتهما وبالمدينة على الشيخ أبي الحسن السندي الكبير وغيـره وكـان حسـن التقريـر لمـا يمليـه فـي دروسـه حضـره السيـد العيـدروس في بعض دروسه وأثنى عليـه‏.‏

وفـي آخـر عمـره كـف بصـره حزنـًا علـى فقـد ولـده‏.‏

وكان من نجباء عصره أرسله إلى الروم وكـان زوجـًا لابنـة الشيـخ ابـن الطيـب فغـرق فـي البحـر‏.‏

وفـي أثنـاء سنـة 1174 ورد مصـر ثـم توجه إلـى الـروم علـى طريق حلب فقرأ هناك شيئًا من الحديث وحضره علماؤها ومنهم الشيخ السيد أحمد بن محمد الحلوى وذكره في جملة شيوخه وأثنى عليه ورجع إلى الحرمين وقطن بالمدينة المنـورة‏.‏

ومـن مؤلفاتـه الأربعـة أنهـار فـي مـدح النبـي المختـار صلـى اللـه عليـه وسلـم وله قصيدة مدح بهـا الشيـخ العيـدروس‏.‏

ولما حج الشيخ أحمد الحلوي في سنة تسعين اجتمع به بالمدينة المنورة وذاكـره بالعهد القديم فهش له وبش واستجاز منه ثانيًا فأجازه ولم يزل على حاله المرضية من عبادة وإفادة حتى توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن أغا أغات مستحفظان وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وتقلد الأغاوية في سنـة سبعيـن كمـا تقـدم واستمـر فيهـا إلـى سنـة تسـع وسبعيـن‏.‏

فلمـا نفـي علـي بـك النفيـة الأخيـرة عزلـه خليـل بـك وحسيـن بـك وقلـدوا عوضـه قاسـم أغـا فلمـا رجـع علـي بك ولاه ثانيًا وتقلد قاسم أغا صنجقًا فاستمر فيها إلى سنة ثلاث وثمانين فعزله وقلد عوضه سليم أغا الوالي وقلد موسـى أغـا واليـًا عوضـًا عـن سليـم المذكـور وكلاهمـا من مماليكه‏.‏

وأرسل المترجم إلى غزة حاكمًا وأمـره أن يتحيـل علـى سليـط‏.‏

ويقتلـه‏.‏

وكـان رجـلًا ذا سطوة عظيمة وفجور فلم يزل يعمل الحيلة عليـه حتـى قتلـه فـي داره وأرسـل برأسـه إلـى علـي بـك بمصـر وهـي أول نكتـة تمـت لعلي بك بالشام وبهـا طمـع فـي استخلـاص الشـام فلمـا حصلـت الوحشـة بيـن محمـد بـك وسيـده علـي بك انضوى إلى محمد بك‏.‏

فلما استبد بالأمر قلده أيضًا الأغاوية فاستمر فيها مدته‏.‏

ولما مات محمد بك انحـرف عليـه مـراد بـك وعزلـه وولـى عوضـه سليمـان أغـا وذلـك فـي سنـة تسعيـن ولما وقعت المنافرة بيـن اسمعيـل بـك والمحمديـة انضم إلى اسمعيل بك ويوسف بك واجتهد في نصرتهما وصار يكر ويفر ويجمع الناس ويعمل المتاريس ويعضد المتاريس ويعمل الحيل والمخادعات ويذهب ويجيء الليل والنهار حتى تم الأمر وهرب إبراهيم بك ومراد بك واستقر اسمعيل بك ويوسف بك فقلداه الأغاوية أيضًا فاستمر فيها مدته فلما خرج اسمعيل بك إلى الصعيد محاربًا للمحمديين تركه بمصر فاستقل بأحكامها وكذلك مدة غياب محمد بك بالشام‏.‏

فلما خان العلوية اسمعيل بـك وانضمـوا إلـى المحمديـة ورجـع اسمعيـل بـك علـى تلـك الصـورة كما ذكر خرج معه إلى الشام إلى أن تفـرق أمرهـم فـأراد التحـول إلـى جهـة قبلـي فانضم معه كثير من الأجناد والمماليك وساروا إلى أن وصلوا قريبًا من العادلية فأرسل مملوكًا له أسود ليأتيه بلوازم من داره ويأتيـه بحلـوان فإنـه ينتظـره هنـاك وحلوان كانت في التزامه وعدى مع الجماعة من خلف الجبل ونزلوا بحلوان وركبوا وساروا وتخلف هو عنهم للقضاء المقدر ينتظر خادمه فبات هنـاك‏.‏

وحضـر بعـض العـرب وأخبـر مـراد بـك فأرسـل الرصـد لذلـك العبـد وركب هو في الحال وأتاه الرصد بالعبد في طريق ذهابه فاستخبره فأعلمه بالحقيقة بعد التنكر فسار مستعجلًا إلى أن أتى حلوان واحتاط بها وهجمت طوائفه على دوار الأوسية وأخذوه قبضًا باليد وعروه ثيابه حتى السراويل سحبوه بينهـم عريانـًا مكشـوف الـرأس والسوأتين وأحضروه بين يدي مراد بك فلما وقعت عينه عليه أمر بقطع يديه وسلموه لسواس الخيل يصفعونه ويضربونه على وجهه ثم قطعوا رقبته حزًا بسكين ويقولون له‏:‏ انظر قرص البرغوث يذكرونه قوله لمن كان يقتله‏:‏ لا تخف يا ولدي إنما هي كقرصة البرغوث ليسكن روع المقتول على سبيل الملاطفة‏.‏

فكانوا يقولون ذلك على سبيل التبكيت‏.‏

ودخـل مـراد بـك فـي صبحهـا برأسـه أمامـه علـى رمـح ودفـن كمـا ذكـر ولـم يأت بعده في منصبه من يدانيـه فـي سياسـة الأحكـام والقضايـا والتحيلـات على المتهومين حتى يقروا بذنوبهم وكان نقمة الله على المعاكيس وخصوصًا الخدم الأتراك المعروفين بالمسراجين‏.‏

واتفق له في مبادئ ولايته أنه تكرر منه أذيتهـم فشكـوا منـه إلـى حسيـن بـك المقتـول فخاطبـه فـي شأنهـم فقـال لـه‏:‏ هـؤلاء أقبـح خلـق اللـه وأضرهـم علـى المسلميـن وأكثرهـم نصـارى ويعملـون أنفسهـم مسلمين ويخدمونكم ليتوصلوا بذلك إلـى إيـذاء المسلميـن وإن شككـت فـي قولـي أعطنـي إذنـًا بالكشـف عليهم لأمير المختون من غيره‏.‏

فقـال لـه الصنجـق‏.‏

افعـل مـا بـدا لـك‏.‏

فلمـا كان في ثاني يوم هرب معظم سراجين الصنجق ولم يتخلف منهم إلا من كان مسلمًا ومختونًا وهو القليل فتعجب حسين بك من فطانته ومن ذلك الوقت لم يعارضه في شيء يفعله وكذلك علي بك ومحمد بك‏.‏

ولما خالف محمد بك على سيده وانفصل عنه وذهب إلى قبلي وانضم إليه خشداشه أيوب بك وتعاقدا وتحالفا على المصحـف والسيـف ونكث أيوب بك العهد وقضى محمد بك عليه بقطع يده ولسانه أرسل إليه عبـد الرحمـن أغـا هـذا ففعـل به ذلك ولما حضر إليه ليمثل به ودخل إليه وصحبته الجلاد وصار يقول للجلاد‏:‏ ارفق بسيدي ولا تؤلمه ونحو ذلك‏.‏

ولما ملك محمد بك ودخل مصر أرسله إلى عبـد اللـه بـك كتخـدا الباشـا الـذي خامـر علـى سيـده وانضـم إلـى علـي بـك فذهـب إليـه وقبـض عليه ورمى عنقه في وسط بيته ورجع برأسه إلى مخدومه وباشر الحسبة مدة مع الأغاوية‏.‏

وكان السوقة يحبونه وتولى ناظرًا على الجامع الأزهر مدة وكان يحب العلماء ويتأدب مع أهل العلم ويقبـل شفاعتهـم ولـه دهقنـة وتبصـر فـي الأمور وعنده قوة فراسة وشدة حزم حتى غلب القضاء على حزمه عفا الله عنه‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن بك وهو من مماليك علي بك وصناجقه الذين أمرهم ورقاهم فهو خشـداش محمـد بـك أبـي الذهب وحسن بك الجداوي وأيوب بك ورضوان بك وغيرهم‏.‏

وكان موصوفًا بالشجاعة والإقدام فلما انقضت أيام علي بك وظهر أمر محمد بك خمل ذكره مـع خشدشينه إلى أن حصلت الحادثة بين المحمدين واسمعيل بك فرد لهم أمرياتهم إلا عبد الرحمن هـذا فبقـي علـى حالـه مـع كونـه ظاهـر الذكـر‏.‏

فلمـا كـان يوم قتل يوسف بك وكان هو أول ضارب فيه‏.‏

وهرب في ذلـك اليـوم مـن بقـي مـن المحمـد وأخـرج باقيهـم منفييـن ردوا لـه صنجقيتـه كمـا كـان ثـم طلع مع خشداشينه لمحاربتهم بقبلي ثم والسوا على اسمعيل بك وانضموا إليهم ودخلوا معهم إلى مصر كما ذكر‏.‏

ثم وقع بينهم التحاقد والتزاحم على إنفاذ الأمر والنهي‏.‏

وكان أعظم المتحاقدين عليهم مراد بك وهم له كذلك وخيل الفريقان من بعضهم البعض وداخل المحمدية الخوف الشديد من العلوية إلى أن صاروا لا يستقرون في بيوتهم فلازموا الخروج إلى خارج المدينة والمبيت بالقصور‏.‏

وخرج إبراهيم بك وأتباعه إلى جهة العادلية ومراد بك وأتباعه إلى جهة مصر القديمة‏.‏

فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى أصبح مراد بك منتفخ الـأوداج مـن القهـر فاختلـى مـع مـن يركـن إليهـم من خاصته وقال لهم‏:‏ إني عازم في هذا اليوم على طلب الشر مع الجماعة‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف نفعل‏.‏

قال‏:‏ نذهب إلى مرمى النشاب ولا بد أن يأتينا منهم من يأتي فكل من حضر عندنا منهم قتلناه ويكون ما يكون بعد ذلك‏.‏

ثم ركب ونزل بمصاطب النشاب وجلس ساعة فحضر إليه عبد الرحمن بك المذكور وعلي بك الحبشـي فجلسا معه حصة ومراد بك يكـرر لأتباعـه الإشـارة بضربهمـا وهـم يهابـون ذلـك ففطـن لـه سلحدار عبد الرحمن بك فغمز سيده برجله فهم بالقيام فابتدره مراد بك وسحـب بالتـه وضربه في رأسه فسحب الآخر بالته وأراد أن يضربه فألقى بنفسه من فوق المصطبة إلى أسفل وعاجل أتباع مراد بك عبد الرحمن بك وقتلوه‏.‏

وفي وقت الكبكبة غطى علي بك الحبشي رأسه بجوخته واختفى في شجر الجميز وركب في الحال مراد بك وجمع عشيرته وأرسـل إلـى إبراهيـم بـك فحضـر مـن القبـة إلـى القلعـة وكـان ما ذكر واستمر عبد الرحمن بك مرميًا بالمصطبة حتى حضر إليه أتباعه وشالوه ودفنوه بالقرافة‏.‏

ومـات الأميـر أحمد بك شنن وأصله مملوك الشيخ محمد شنن المالكي شيخ الأزهر فحصل بينه وبيـن ابـن سيـده وحشـة ففارقـه ودخـل فـي سلـك الجنديـة وخدم علي بك وأحبه ورقاه وأمره إلى أن قلده كتخدا االجاويشية فلم يزل منسوبًا إليه ومنضمًا إلى أتباعه‏.‏

وتقلد الصنجقية وصاهره حسن بك الجداوي وتزوج بابنته وبنى لها البيت بدرب سعادة ولم يزل حتى قتل في هذه الواقعة وكان فيه لين جانب ظاهري ويعظم أهل العلم ويظهر لهم المحبة والتواضع‏.‏

ومات الأمير إبراهيم بك طنان وهو من مماليك حسن أفندي مملوك إبراهيم أفندي المسلماني وكانوا عدة وعزوة معروفيـن ومشهوريـن فـي البيـوت القديمـة ومنهـم مصطفـى جربجـي وأحمـد جربجـي‏.‏

ثـم لمـا ظهـر أمـر علـي بـك انتسبـوا إليـه وخرجـوا مـع محمـد بك عندما ذهب لمحاربة خليل بك وحسين بك كشكش ومن معهم بناحية المنصورة فوقع في المقتلة أحمد جربجي المذكور وأعجب بهم محمـد بـك فـي تلـك الواقعـة فأحبهـم وضمهـم إليـه ولازمـوه فـي الأسفـار والحروبـات‏.‏

ولمـا خالف علي سيده علي بك وهرب إلى الصعيد خرجوا معه كذلك ومات مصطفى جربجي علـى فراشه بمصر أيام علي بك وصار كبيرهم والمشار إليه فيهم إبراهيم جربجي‏.‏

فلما رجع محمـد بـك وتعيـن فـي رياسة مصر قلده صنجقًا ونوه بشأنه وأنعم عليه وأعطاه بلادًا مضافة إلى بلاده منها سندبيس ومنية حلفة وباقي الأمانة‏.‏

وكان عسوفًا ظالمًا الفلاحين لا يرحمهم وله مقدم من أقبح خليقة اللـه مـن منيـة حلفـة فيغـري بالفلاحيـن ويسجنهـم ويعذبهـم ويستخلـص لمخدومـه منهـم الأمـوال ظلمـًا وعدوانـًا‏.‏

فلما حصلت تلك الحادثة وهرب إبراهيم بك المذكور مع اسمعيل بك اجتمع الفلاحون على ذلك المقدم وقتلوه وحرقوه بالنار‏.‏

وكان إبراهيم بك هذا ملازمـًا علـى زيـارة ضرائـح الأوليـاء فـي كـل جمعـة يركب بعد صلاة الصبح إلى القرافة ويزور قبور البستان وقبور أسلافه ثم يذهب إلى زيارة الشافعي ويخرج منه ماشيًا فيزور الليث ومـا جاوزهما من المشاهد المعروفة كيحيى الشييه والسادات الثعالبة والعز وابن حجر وابن جماعة وابـن أبـي جمـرة وغيـر ذلـك وكـان هذا دأبه في كل جمعة‏.‏

ولما وقعت الحوادث خرج مع اسمعيل بـك إلـى غـزة فلمـا سافر اسمعيل بك ونزل البحر تخلف عنه ومات ببعض ضياع الشام وظهر له بمصر ودائع أموال لها صورة‏.‏

ومـات الأميـر إبراهيـم بـك بلفيا المعروف بشلاق وهو مملوك عبد الرحمن أغا بلفيا بن إبراهيم بك وعبـد الرحمـن أغـا هذا هو أخو خليل بك‏.‏

وكان علي بك ضمه إليه وأعجبه شجاعته فقلده صنجقًا وصار من جملة صناجقه وأمرائه ومحسوبًا منهم‏.‏

فلما حصلت هذه الحادثة كان فيهم وقتل معهم‏.‏

ومـات الأميـر الكبير حسن بك رضوان أمير الحاج وهو مملوك عمر بك بن حسين رضوان تقلد الصنجقيـة بعـد مـوت سيـده وجلـس فـي بيتـه وطلـع أميـرًا بالحـج سنة ثمان وسبعين وتسع وسبعين وعمـل دفتـردار مصـر ثـم عـزل عنهـا وطلـع بالحـج فـي سنـة إحـدى وثمانيـن وسنـة اثنتيـن وثمانين وقلد رضوان بك مملوكه صنجقًا‏.‏

فلما تملك علي بك نفى رضوان بك هذا فيمن نفاهم في سنة واحـد وثمانيـن ثـم رده ثـم نفـاه مـع سيـده بعـد رجوعه من الحج في سنة ثلاث وثمانين إلى مسجد وصيـف ثم نقل إلى المحلة الكبرى فأقام بها إلى سنة إحدى وتسعين فكانت مدة إقامته بالمحلة نحـو ثمـان سنيـن‏.‏

فلمـا تملـك اسمعيـل بـك أحضـره إلـى مصر وقلده إمارة الحج سنة واحد وتسعين كمـا ذكـر فلمـا انضـم العلويـة إلـى المحمديـة ورجعـوا إلـى مصر وهرب اسمعيل بك بمن معه إلى الشام لـم يخـرج معه وبقي بمصر لكونه ليس من قبيلتهم وانضوى إلى العلوية كغيره لظنهم نجاحهم فوقع لهـم مـا وقـع وقتـل مـع أحمـد بـك شنـن بشيـر أو أوتـوا بهمـا إلـى بيوتهما وكل منهما ملفوف في قطعة خيمة ودفن حسن بك المذكور عليه رحمة الله وكان أميرًا جليلًا مهذبًا كريم الأخلـاق ليـن الجانب يحب أهل الصلاح والعلم وعاشر بالمحلة صاحبنا الفاضل اللبيب الأديب الشيخ شمس الديـن السمربائـي الفراغلـي وأحبـه واغتبط به كثيرًا وأكرمه وحجزه عنده مدة إقامته بالمحلة ومنعه عن الذهاب إلى بلده إلا لزيارة عياله فقط في بعض الأحيان ثم يعود إليه سريعًا ويستوحش لغيابه عنه فكان لا يأتنس إلا به‏.‏

وللشيخ شمس الدين فيه مدائح ومقامات وقصائد‏.‏

سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف في يوم السب خامس المحرم وصل إلى مصر اسمعيل باشا والي مصر وبات ببر انبابة ليلة السبت المذكور وركب الأمراء في صبحها وقابلوه ورجعوا وعدى الآخر وركب إلى العادلية وجلس بالقصر وتولى أمر السماط مصطفى بك الصغير‏.‏

وفـي يـوم الثلاثاء من المحرم ركب الباشا بالموكب ودخل من باب النصر وشق القاهرة وطلع إلى القلعـة وعملـوا لـه شنكـًا ومدافع ووصل الخبر بنزول اسمعيل بك إلى البحر وسفره من الشام إلى الروم وغاب أمره‏.‏

وفـي أواخر شهر ربيع الأول وقعت حادثة بالجامع الأزهر بين طائفة الشوام وطائفة الأتراك بين المغـرب والعشـاء فهجـم الشـوام على الأتراك وضربوهم فقتلوا منهم شخصًا وجرحوا منهم جماعة فلمـا أصبحـوا ذهـب الأتـراك إلى إبراهيم بك وأخبروه بذلك فطلب الشيخ عبد الرحمن العريشي مفتـي الحنفيـة والمتكلـم على طائفة الشوام وسأله عن ذلك فأخبره عن أسماء جماعة وكتبهم في ورقة وعرفه أن القاتلين تغيبوا وهربوا ومتى ظهروا أحضرهم إليه ولما توجه من عنده تفحص إبراهيـم بـك عـن مسميـات الأسمـاء فلـم يجد لهم حقيقة فأرسل إلى الشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهـر وأحضـر بقيـة المشايـخ وطلـب الشيـخ عبـد الرحمن فتغيب وللم يجدوه فاغتاظ إبراهيم بك ومـراد بـك وعزلـوه عـن الإفتاء وأحضروا الشيخ محمد الحريري وألبسوه خلعة ليكون مفتي الحنفية عوضًا عن الشيخ عبد الرحمن وحثوا خلفه بالطلب ليخرجوه من البلدة منفيًا فشفع فيه شيخ السادات وهرب طائفة الشوام بأجمعهم وسمر الأغا رواقهم ونادوا عليهم‏.‏

واستمر الأمر على ذلك أيامًا ثم منعوا المجادلة والطبرية من دخول الرواق ويقطع من خبزهم مائة رغيف تعطى للأتراك دية المقتول وكتب بذلك محضر باتفاق المشايخ والأمراء وفتحوا الرواق ومرض الشيخ العريشي من قهره وتوفي رابع جمادى الأولى‏.‏

وفي أواخر شهر جمادى الثانية توفي الشيخ محمد عبادة المالكي‏.‏

وفيه جاءت الأخبار بأن حسن بك ورضوان بك قوي أمرهم وجمعوا جموعًا وحضروا إلى دجرجـا والتـف عليهـم أولـاد همـام والجعافـرة واسمعيـل أبو علي فتجهز مراد بك وسافر قبله أيوب بـك الصغيـر ثـم سافـر هـو أيضـًا فلمـا قربوا من دجرجا ولى القبالي وصعدوا إلى فوق فأقام مراد بـك فـي دجرجـا إلـى أوائـل رجـب وقبـض على اسمعيل أبي علي وقتله ونهب ماله وعبيده وفرق بلاده على كشافه وجماعته‏.‏ وفي

منتصف شهر رجب

ظهر بمصر وضواحيها مرض سموه بأبي الركب وفشا في الناس قاطبة حتى الأطفال وهو عبارة عن حمى ومقدار شدته ثلاثة أيام وقـد يزيـد علـى ذلـك وينقص بحسب اختلاف الأمزجة ويحدث وجعًا في المفاصل والركب والأطراف ويوقف حركة الأصابـع وبعـض ورم ويبقـى أثـره أكثر من شهر ويأتي الشخص على غفلة فيسخن البدن ويضرب على الإنسان دماغه وركبه ويذهب بالعرق والحمام وهو من الحوادث الغريبة‏.‏

وفي عشرين رجب وصل مراد بك من ناحية قبلي وصحبته منهوبات وأبقار وأغنام كثيرة‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه الموافق لثاني شهر مسرى القبطي وفا النيل المبارك ثم زاد في ليلتها زيادة كثيرة حتى علا على السد وجرى الماء في الخليج بنفسه وأصبح الناس فوجدوا الخليج جاريًا وفيه المراكب فلم تحصل الجمعية ولم ينزل الباشا على العادة‏.‏

وفـي أواخـر شهـر شعبـان وصـل إلـى مصـر قابجي باشا وبيده أوامر بعزل اسمعيل باشا عن مصر ويتوجه إلى جدة وأن إبراهيم باشا والي جدة يأتي إلى مصر وفرمان آخر بطلب الخزينة‏.‏

وفي شهر شوال وصلت الأخبار بموت علي بك السروجي وحسن بك سوق السلاح بغزة‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشر شوال عمل موكب المحمل وخرج الحجاج وأمير الحاج مراد بك وخـرج فـي موكـب عظيـم وطلـب كثيـر وتفاخـر وماجـت مصـر وهاجـت فـي أيـام خروج الحج بسبب الأطلاب وجمع الأموال وطلب الجمال والبغال والحمير وغصبوا بغال الناس ومن وجوده راكبًا على بغلة أنزلوه عنها وأخذوها منه قهرًا فإن كان من الناس المعتبرين أعطـوه ثمنهـا وإلا فـلا وغلـت أسعارهـا جـدًا ولـم يعهـد حـج مثـل هـذه السنـة فـي كـل شـيء‏.‏

وسافـر فيـه خلائـق كثيرة من سائـر الأجنـاس وسافـر صحبـة مـراد بـك أربـع صناجـق وهـم عبـد الرحمـن بـك عثمان وسليمان بك الشابوري وعلي بك المالطي وذو الفقار بك وأمراء وأغوات وغير ذلك أكابـر كثيـرة وأعيـان وتجار‏.‏

وفيه حضر واحد أغا وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على مصر كما كان وكان لما أتاه العزل نـزل مـن القلعـة فـي غرة رمضان وصام رمضان في مصر العتيقة‏.‏

ولما انقضى رمضان تحول إلى العادلية ليتوجه إلى السويس ويذهب إلى جدة حسب الأوامر السابقة فقدر الله بموت إبراهيم باشـا وحضـر التقريـر لـه بالولايـة ثانيـًا فركـب فـي يـوم الاثنيـن سـادس القعدة وطلع إلى القلعة من باب الجبل‏.‏

مات الشيخ الفقيه الإمام الفاضل شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي الأزهري ولد بقلعة العريش من أعمال غزة وبها نشأ وحفظ بعض المتون ولما مر عليه الشيخ العارف السيـد منصـور السرمينـي فـي بلـده وجه متيقظًا نبيهًا وفيه قوة استعدادية وحافظة جيدة فأخذه صحبته في صورة معين فـي الخدمـة وورد معـه مصـر فكـان ملازمـًا لـه لا يفارقـه وأذن لـه بالحضور في الأزهـر فكـان يحضـر دروس الشيـخ أحمـد البيلـي وغيـره فـي النحـو والمعقـول‏.‏

ولمـا توجـه السيد المشار إليه إلى البلاد تركه ليشتغل بالعلم فلازم الشيخ أحمد السليماني ملازمة جيدة وحضر عليه غالب الكتب المستعلمة في المذهب وحضر دروس الشيـخ الصعيـدي والشيـخ الحنفي ولقنه الذكر وأجازه وألبسه التاج الخلوتي‏.‏

ثم اجتمع بالمرحوم الوالد حسـن الجبرتـي ولازمه ملازمة كلية ودرجه في الفتوى ومراجعة الأصول والفروع وأعانه على ذلك وجد أن الكتب الغريبة عند المرحوم فترونق ونوه بشأنه وعرفه الناس وتولى مشيخة رواق الشوام وبه تخـرج الحقيـر فـي الفقـه‏.‏

فـأول مـا حضـرت عليـه متن نور الإيضاح للعلامة الشرنبلالي ثم متن الكنز وشرحه لملا مسكين والدر المختار شرح تنور الأبصار ومقدار النصف من الدرر وشرح السيد علي السراجية في الفرائض‏.‏

وكان له قوة حافظة وجودة فهم وحسن ناطقة فيقرر ما يطالعـه منـن المـواد عـن ظهـر قلبـه مـن حفظـه بفصاحـة مـن غيـر تلعثـم ولا تركيـز‏.‏

وحـج فـي سنة تسع وسبعيـن مـن القلـزم منفـردًا متقشفـًا وأدرك بالحرميـن الأخيـار وعـاد إلـى مصـر وحصلت له جذبة في سنـة سـت وثمانيـن وتـرك عيالـه وانسلـخ عـن حالـه وصار يأوي إلى الزوايا والمساجد ويلقي دروسًا مـن الشفـاء وطـرق القـوم وكلـام سيـدي محـي الديـن والغزالـي‏.‏

ثـم تراجـع قليـلًا وعـاد إلى حالته الأولى ولمـا توفـي مفتـي الحنفيـة الشيـخ أحمد الحماقي تعين المترجم في الإفتاء وعظم صيته وتميز على أقرانـه واشتـرى دارًا حسنـة بالقرب من الجامع الأزهر وهي التي كانت سكن الشيخ الحفني في السابق وتعرف بدار القطرسي‏.‏

وتردد الأكابر والأعيان إليه وانكبت عليه أصحاب الدعاوى والمستفتـون وصـار لـه خـدم وأتباع وفراشون وغير ذلك‏.‏

وسافر إلى اسلامبول بعد موت الأمير محمد بك لقضاء بعض الأغراض وقرأ هناك كتاب الشفاء ورجع إلى مصر وكان كريم النفس سمحًا بما في يده يحب إطعام الطعام ويعمل عزائم للأمراء ويخلع عليهم الخلع ولما زاد انحطاط الشيـخ أحمـد الدمنهـوري وتبيـن قـرب وفاتـه وفـراغ أجلـه ناقـت نفس المترجم لمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلماء فأحب الاستيلاء عليها والتوصل إليها بكيفية وطريقة فحضر مع شيخ البلد إبراهيم بك إلى الجامع الأزهر وجمع الفقهاء والمشايخ وعرفهم أن الشيخ أحمد الدمنهوري أقامه وكيلًا عنه وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهوري فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة وساعده استمالـة الأمراء وكبار الأشياخ والشيخ أبو الأنوار السادات وما مهده معهم في تلك الأيام وكاد يتم الأمر فانتدب لنقـض ذلـك بعـض الشافعيـة الخامليـن وذهبـوا إلـى الشيـخ محمـد الجوهـري وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكري وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل الشيـخ أحمـد العروسـي والشيـخ أحمـد السمنـودي والشيـخ حسـن الكفـراوي وغيرهم وكتبوا عرضحـال إلـى الأمـراء مضمونـه أن مشيخـة الأزهـر مـن مناصـب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبدًا وخصوصًا إذا كان آفاقيًا وليس من أهل البلدة‏.‏

فإن الشيخ عبد الرحمـن كذلـك وموجـود فـي العلمـاء الشافعيـة مـن هـو أهـل لذلـك فـي العلـم والسـن وأنهـم اتفقـوا علـى أن يكـون المتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بم فتوقفوا وأبوا وثارت فيهم العصبية وشددوا في عدم النقض ورجع الجواب للمشايخ بذلك فقاموا على ساق وشدد الشيخ محمد الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم وخرجوا إلى القرافة وجلسوا بجامع الإمام الشافعي وباتوا به‏.‏

وكان ذلك ليلة الجمعة واجتماع الناس للزيارة فهرعت الناس واجتمع الكثير من العامة ينظرون فيما يؤول إليه هذا الأمر وكان للأمراء اعتقاد وميـل للشيـخ محمـد بـن الجوهـري وكذلـك نساؤهـم وأغواتهـم بسبـب تعففـه عنهم وعدم دخول بيوتهم ورد صلاتهم وتميزه بذلـك عـن جميـع المتعمميـن‏.‏

فسعـى أكثرهـم فـي أنفـذا غرضـه وراجعـوا مـراد بـك وأوهموه حصول العطب له ولهم أو ثوران فتنـة فـي البلـاد وحضـر إليهـم علـي أغـا كتخـدا الجاويشة وحاججهم وحاججوه ثم قال وتوجه وحضر مراد بك أيضًا للزيـارة فكلمـه الشيـخ محمـد وقـال‏:‏ لا بـد مـن فـروة تلبسهـا للشيـخ العروسـي وهـو يكـون شيخـًا على الشافعية وذاك شيخًا على الحنفية كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي وقد جئنا إليـه وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يخشى عليك‏.‏

فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة وركب مراد بك متوجهًا وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك ولم يكن الأمراء رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمـة‏.‏

فذهـب الشيـخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور‏.‏

واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمراء فألبسوه فروة أيضًا فتفاقم الأمر وصاروا حزبين وتعصب للمترجم طائفـة الشـوام للجنسيـة وطائفـة المغاربـة لانضمـام شيخهـم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر وتوعدوا منن كان مع الفرقة الأخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع وابن الجوهري يسوس القضية ويستميل الأمراء وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن أسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك واحتد الأمراء الأتراك للجنسية وأكدوا في طلب المحاققة وتصدى العريشـي للشـوام المـذب عنهم وحصل منهم ما حصل لأجل خلاصهم‏.‏

فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديـق عـدوًا وانحـرف عنـه الأمـراء وطلبـوه فاختفـى وعيـن لطلبه الوالي وأتباع الشرطة وعزلوه من الإفتاء أيضًا‏.‏

وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فاختفوا وفروا وغابوا عن الأعين فأغلقوا رواقهم وسمروه أيامًا ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفًا وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقـارش فـي شـيء ولا يتداخـل فـي أمـر فعنـد ذلـك اختلى بنفسه وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القـرآن ونزلـت لـه نزلـة فـي أنثييـه من القهر فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه وتوفي في ليلة الخميس سابع جمادى الأولى من السنة وجهز بصباحه وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل وحضره مراد بك وكثير من الأمراء وعلي أغا كتخدا الجاويشية ودفن برحاب السادة الوقائيـة وذلـك بعـد الحادثـة بتسعـة وثلاثيـن يومـًا رحمه الله تعالى‏.‏

ومن آثاره رسالة ألفها في سر الكنـى باسـم السيـد أبـي الأنـوار بـن وفـي أجـاد فيها ووصلت إلى زبيد وكتب عليها الشيخ عبد الخالق بن الزين حاشية وقرظ عليها الشيخ العروسي والشيخ الصبان وله غير ذلك‏.‏

ومات الشريف السيد قاسم بن محمد التونسي كان إمامًا في الفنون وله يد طولى في العلوم الخارجة مثل الطب والحرف وكان معه وظيفة تدريس الطب بالبيمارستان المنصور وتولـى مشيخـة رواق المغاربـة مرتيـن والأولـى استمـر فيهـا مـدة وفـي تلـك المـدة حصلـت الفتن ثم عزل عنها وأعاد الدروس في مدرسة السيوفيين المعروفة الآن بالشيخ مطهر ولـه تقريـظ علـى المدائـح الرضوانية جمع الشيخ الأكاوي أحسن فيا وكان ذا شهامة وصرامة في الدين صعبًا في خلقه وربمـا أهـان بعـض طائفـة النصارى عند معارضتهم له في الطريق وأهين بسبب ذلك من طرف بعض الأمراء وتحزبت له العلماء وكادت أن تكون فتنة عظيمة ولكن الله سلم‏.‏

توفي بعد أن تعلل كثيرًا وهو متولي مشيخة رواقهم وهي المرة الثانية وكان له باع في النظم والنثر فمنها مدائحه في الأمير رضوان كتخدا الجلفي له فيه عدة قصائد فرائد مذكورة في الفوائح الجنانية‏.‏

ومات الإمام الفهامة الألمعي الأديب واللوذعي النجيب الشيخ محمد لهلباوي الشهير بالدمنهوري اشتغـل بالعلـم حتـى صـار إمامـًا يقتدى به ثم اشتغل بالطريق وتلقن الأسماء وأخذت عليه العهود وصار خليفة مجازًا بالتلقين والتسليك وحصل به النفع‏.‏

وكان فقيهًا دراكًا فصيحًا مفوهًا أديبًا شاعـرًا لـه بـاع طويـل فـي النظـم والنثـر والإنشـاء ولمـا تملـك علـي بك بعد موت شيخه الحفني طلبه إليـه وجعلـه كاتـب إنشائـه ومراسلاتـه وأكرمـه إكرامـًا كثيرًا ومدحه بقصائد ولم يزل منضويًا إليه مدة دولته‏.‏

ومـات السيـد قاسـم بـن محمـد بـن محمد علي بن أحمد بن عامر بن عبد الله ابن جبريل بن كامل بـن حسـن بـن عبد الرحمن بن عثمان بن رمضان بن شعبان ابن أحمد بن رمضان بن محمد بن القطب أبي الحسن علي بن محمد ابـن أبـي تـراب علـي بـن أبـي عبـد اللـه الحسيـن بـن إبراهيـم بـن محمـد بن أحمد ابن محمد بن محمد بن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الحسن بن اسمعيل الديباج بن إبراهيـم بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أحد الأشراف الصحيحي النسـب بمصـر فجـده أبـو جعفـر يعـرف بالثـج لثجثجـة فـي لسانه وحفيده الحسين بن إبراهيم يعرف بابـن بنـت الروبـدي وحفيـده علـي بـن محمـد مدفـون بالصعيـد في بلد يقال له دمشاوباشم والمترجم هو والد السيدين الجليلين اسمعيل وإبراهيم المتقدم ذكرهما صحح هذا النسب شيخنا السيد محمد مرتضى كما ترى وكان حمام البابا في ملكه مما خلفه له سلقه فكان يجلس فيه وكان شيخًا مهيبًا معمرًا منور الشيبة كريم الأخلاق متعففًا مقبلًا على شأنه رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الإمام العارف الصوفي الزاهد أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن سعيد بن حم الكتانـي السوسـي ثـم التونسـي ولـد بتونس ونشأ في حجر والده في عفة وصلاح وعفاف وديانة وقـرأ عليـه وعلـى شيـخ الجماعـة سيـدي محمد الغرباوي وعلى آخرين وتكمل في العلوم والمعارف مـع صفـاء ذهنه وسرعة إدراكه وتوقد خاطره وكمال حافظته وكان والده يحبه ويعتمد على ما يقولـه فـي تحريـر نقلـه ويصـرح بذلـك فـي أثنـاء درسـه‏.‏

وقـد بلـغ المترجـم مـن الصلـاح والتقـوى إلـى الغاية واشتهر أمره في بلاد أفريقية اشتهارًا كليًا حتى أحبه الصغير والكبير وكان منفردًا عن الناس منقبضـًا عن مجالسهم فلا يخرج من محله إلا لزيارة ولي أو في العيدين لزيارة والده وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مرارًا فلم يقبلها وعرضت عليه توليـة المـدارس التـي كانـت بيـد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها وعكف نفسه على مذاكرة العلوم مع خواص أصحابه ومطالعة الكتب الغريبة واجتمع عنده منها شيء كثير وكان يرسل في كل سنة قائمة إلى شيخنا السيد مرتض فيشتري له مطلوبه وكان يكاتبه ويراسله كثيرًا‏.‏

ومـات الفقيـه الأديـب الماهر أحمد بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي نزيل الإسكندرية وأمه شريفة من ذرية السيد عيسى بن نجم خفير بحر البرلس كان حسن المحاورة ولديه فضل ويحفظ كثيرًا من الأشياء منها المقامات الحريرية وغيرها من دواوين الشعر‏.‏

وناب عن القضاء في الثغر مدة وكـان يتـردد إلـى مصـر أحيانـًا وجمـع عـدة دواوين شعرية من المتقدمين والمتأخرين نحو المائتين وطالع كثيرًا منها مما لم يملكه‏.‏

ولم يزل على حالة مرضية حتى توفي بالثغر سنة تاريخه‏.‏

ومات الشيخ الصالح المعمر خالد أفندي بن يوسف الديار بكرلي الواعظ كان يعظ الأتراك بمكة على الكرسي ثم ورد مصر ولازم حضور الأشياخ بمصر والوعظ للأتراك وحضر معنا كثيرًا علـى شيخنـا السيـد محمـد مرتضـى فـي دروس الصحيـح بجامـع شيجـون فـي سنـة 1190 وفـي الأمالي والشمائل في جامع أبي محمود الحنفي وأخبر أنه دخل دمشق وحضر دروس الشيخ اسمعيل الجعلوني وأجازه وأدرك جلة الأشياخ بديار بكر والرها وأزروم‏.‏

وكان رجلًا صالحًا منكسـرًا ولـه مـرأى حسنـة ولا زال على طريقته في الحب والملازمة حتى مرض أيامًا وانقطع في بيته ومات في رابع جمادى الأولى‏.‏

ومات الشيخ الفقيه الكامل والنجيب الفاضل أحد العلماء الأعلام وأوحد فضلاء الأنام الشيخ محمـد بـن عبـادة بـن بـري العـدوي ينتهي نسبه إلى علي أبي صالح المدفون بالعلوة في بني عدي قدم إلى مصـر سنـة 1164 وجـاور بالأزهـر وحفـظ المتـون ثـم حضـر شيـوخ الوقـت ولـازم دروس علماء العصر ومهر في الفنون وتفقه على علماء مذهبه من المالكية مثل الشيخ علي العدوي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ خليل والشيخ الدردير والبيلي وأخذ المعقولـات عـن شيخه الشيخ علي العدوي الصعيدي وغيره ولازمه ملازمة كليه وانتسب إليه حسًا ومعنى وصار من نجباء تلامذته ودرس الكتب الكبار في الفقـه والمعقـول ونـوه الشيـخ بفضلـه وأمـر الطلبة بالأخذ عنه وصار له باع طويل وذهن وقاد وقلم سيال وفصاحة في اللسان والتقرير وصواب في التحرير وقوة استعداد واستحضار وسليقة‏.‏

ومن تآليفه حاشية على شذور الذهـب لابـن هشـام متداولـة بأيـدي الطلبة نافعة وحاشية على مولد النبي صلى الله عليه وسلم للغيطي وابن حجر والهدهدي وحاشية على شرح بن جماعة في مصطلح الحديث وحاشية عجيبـة علـى جمـع الجوامـع وعلـى السعـد والقطـب وعلـى أبي الحسن وحاشية على شرح الخرشي وعلـى فضائـل رمضـان وكتابـة محـررة علـى الورقـات والرسالـة العضديـة وعلـى آداب البحث والاستعـارات‏.‏

ولـم يـزل يملـي ويقـرئ ويفيـد ويحـرر ويجيـد حتـى وافـاه الحمـام وتوفـي في أواخر شهر جمـادى الثانيـة مـن السنـة بعد أن تعلل بعلة الاستسقاء سنين وكان يقرأ ليالي المواسم مثل نصف شعبان والمعراج وفضائل رمضان وغير ذلك نيابة عن شيخه الشيخ علي الصعيدي العدوي ويجتمع بدرسه الجم الكثير من طلبة العلم والعامة رحمه الله‏.‏

ومـات الأميـر علـي بـك السروجـي وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وإشرافات علي بك أمره وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم ولقب بالسروجي لكونه كان سكنًا بخط السروجية‏.‏

ولما أمره علـي بـك هـو وأيـوب بـك مملوكـه ركـب معمهـا إلـى بيـت خليـل بـك بلفيـا وخطـب لعلـي بـك هـذا أخـت خليـل بـك وهـي ابنـة إبراهيـم بلفيـا الكبيـر وعقـد عقـده عليهـا ثم خطب لأيوب بك ابنة خليل بك وعقـد للأخـرى علـى أيـوب بـك فـي ذلـك المجلـس وشربـوا الشربـات وفرقـوا المحـارم والهدايـا وانصرفـوا وعملـوا العـرس بعـد أن جهزهما بما يليق بأمثالهما وزفوا واحدة بعد أخرى إلى الزوج‏.‏

ولمـا حصلـت الوحشـة بيـن المحمديـة واسمعيـل بـك انضـم إلـى اسمعيـل بـك لكونـه خشداشـه وخـرج إلى الشام صحبته فلما سافر اسمعيل بك إلى الديار الرومية تخلفه المترجم مع من تخلف ومات ببعض ضياع الشام كما ذكر‏.‏

ومـات أيضـًا الأميـر حسـن بـك المعـروف بسـوق السلـاح لسكنه في تلك الخطة ببيت الست البدوية وأصله مملوك صفية جارية الشيخ أبي المواهب البكري وكان بن أخيها فاشترته واستمر في خدمـة الشيـخ أبـي المواهـب إلـى أن مات فسلك في طريق الأجناد وخدم علي بك إلى أن جعله كاشفًا في جهة من الجهات القبلية فأقام بها إلى أن خالف محمد بك على سيده علي بك وذهـب إلى قبلي واجتمعت عليه الكشاف والأجناد وكان حسن هذا من جملة من حضر إليه بمالـه ونوالـه وخيامـه وحضـر محمـد بـك إلـى مصـر وملكهـا مـن سيده علي بك‏.‏

ولم يزل حسن هذا فـي خدمـة محمـد بـك أبـي الذهـب فرقاه في الخدم والمناصب وصنجقه ولم يزل في الإمارة مدة محمـد بـك وأتباعـه إلـى أن خـرج مـع من خرج صحبة اسمعيل بك ومات ببعض ضياع الشام والله الموفق‏.‏

سنة أربع وتسعين ومائة وألف فيهـا فـي يـوم الخميـس حـادي عشـر صفـر دخـل الحجـاج إلـى مصـر وأميـر الحـاج مراد بك ووقف لهم العربان في الصفرة والجديدة وحصروا الحجاج بين الجبال وحاربوهم نحو عشر ساعات ومات كثير من الناس والغزو الأجناد ونهبت بضائع وأحمال كثيرة وكذلك من الجمال والدواب والعرب بأعلى الجبال والحج أسفل كل ذلك والحج سائر‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب اجتمع الأمراء وأرسلوا إلى الباشا أرباب العكاكيز وأمروه بالنـزول مـن القلعـة معـزولًا فركـب فـي الحـال ونـزل إلـى مصـر العتيقـة ونقلـوا عزالـه ومتاعـه فـي ذلـك اليوم واستلموا منه الضربخانة وعمل إبراهيم بك قائمقام مصر‏.‏

فكانت مدة ولاية اسمعيل باشا في هـذه المـرة ثمانيـة أشهـر تنقص ثلاثة أيام وكان أصله رئيس الكتاب باسلامبول من أرباب الأقلام‏.‏

وكـان مـراد بـك هـذا أصهـل مـن مماليكـه فباعـه لبعـض التجـار فـي معارضـة وحضـر إلـى مصـر ولـم يزل حتى صار أميرها‏.‏

وحضر سيده هذا في أيام إمارته وهو الذي عزله من ولايته ولكن كان يتأدب معه ويهابه كثيرًا ويذكر سيادته عليهن وكان هذا الباشا أعوج العنق للغاية وكان قد خـرج لـه خـراج فعالجـه بالقطع فعجزت العروق وقصرت فاعوج عنقه وصارت لحيته عند سدره ولا يقدر على الالتفات إلا بكليته إلا أنه كان رئيسـًا عاقـلًا صاحـب طبيعـة ويجـب المؤانسـة والمسامرة‏.‏

ولما حضر إلى مصر وسمع بأوصاف شيخنا الشيخ محمود الكردي أحبه واعتقده وأرسل له هدية وأخذ عليه العهد بواسطة صديقنا نعمان أفندي وكان به آنسًا وقلده أمين الضربخانة‏.‏

ولما أخذ العهد على الشيخ أقلـع عـن استعمـال البـرش وألقـاه بظروفـه وقلـل مـن استعمال الدخان‏.‏

وكان عنـده أصنـاف الطيـور المليحـة الأصـوات وعمـل بستانـًا لطيفـًا فـي الفسحة التي كانت بداخل السراية وزرع بها أصناف الزهور والغرس والورد والياسمين والفل وبوسطه قبة على أعمدة لطيفة من الرخام وحولها حاجز من السلك النحاس الرفيع الأصفر وبداخلها كثير من عصافير القنارية وعمل لهم أوكارًا يأوون إليها ويطيرون صاعدين هابطين بداخـل القبة ويطرب لأصواتهم اللطيفة وأنغامهم العذبة وذلك خلاف ما في الأقفاص المعلقة في المجالس وتلك الأقفاص كلها بديعة الشكل والصنعة‏.‏

ولما أنزله على هذه الصورة انتهب الخدم تلك الطيور والأقفاص وصاروا يبيعونها في أسواق المدينة على الناس‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة عاشـر شعبـان الموافـق لسابع مسرى القبطي أوفى النيل المبارك وكسر السد في صبحها يوم السب بحضرة إبراهيم بك قائمقام مصر والأمراء‏.‏

وفـي أواخـر شعبـان شـرع الأمـراء فـي تجهيز تجريدة وسفرها إلى جهة قبلي لاستفحال أمر حسن بك ورضوان بك فإنه انضم إليهم كثير من الأجناد وغيرهم وذهب إليهم جماعة اسمعيل بك وهـم إبراهيـم بـك قشطـة وعلـي بك الجوخدار وحسين بك وسليم بك من خلف الجبل فعندما تحققـوا ذلـك أخـذوا فـي تجهيـز تجريـدة وأميرهـا مـراد بـك وصحبتـه سليمـان بـك أبـو نبـوت وعثمـان بـك الأشقر ولاجين بك ويحيى بك وطلبوا الاحتياجات واللوازم وحصل منهم الضرر وطلب مراد بك الأموال من التجار وغيرهم مصادرة وجمعوا المراكب وعطلوا الأسباب وبرزوا بخيامهم إلى جهة البساتين‏.‏

وفيه حضر من الديار الرومية أمير أخور وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على السنة الجديدة فوجده معزولًا وأنزلوه في بيت بسويقة العزى‏.‏

وفي يوم الخميس عشرين شوال وكان خروج المحمل والحجاج صحبة أمير الحج مصطفى بك الصغير‏.‏

من مات في هذه السنة مـات السيـد الأجـل الوجيـه الفاضـل السيـد محمـد بـن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن مصطفى بن القطب الكبير سيدي محمد دمرداش الخلوتي ولد بزاوية جده ونشـأ بهـا ولمـا توفـي والـده السيـد عثمان جلس مكانه في خلافتهم وسار سيرًا حسنًا مع الأبهة والوقار وتردد الأفاضل إليه على عادة أسلافه‏.‏

وكان يعاني طلب العلم مع الرفاهية وبعض الخلاعة ولازم المرحوم الوالد هو وأولاده السيد عثمان والسيد محمد المتولي إلا آن في مطالعة الفقه الحنفي وغيره في كل يوم بالمنزل ويحضرون أيضًا بالأزهر وعلى الأشياخ المترددين عليهم بالزاوية مثل الشيخ محمد الأمير والشيخ محمد العروسي والشيخ محمد بن اسمعيـل النفـراوي والشيـخ محمـد عرفـة الدسوقـي وغيرهم وكان إنسانًا حسن العشرة والمودة‏.‏

توفي في رابع عشر رمضان من السنة ودفن بزاويتهم عند أسلافهم‏.‏

ومات الفقيه النبيه المتقن المتفنن الأصولي النحوي المعقولي الجدلي الشيخ مصطفـى المعـروف بالريـس البولاقـي الحنفـي كـان فـي الأصـل شافعـي المذهـب ثـم تحنف وتفقه على الشيخ الاسقاطي والسيد سعودي والدلجي وحضر المعقولات على الشيخ علي الصعيدي والشيخ علي قايتباي والإسكندراني وكان ملازمًا للسيد سعودي فلما توفي لازم ولده السيد إبراهيم ولـم تطـل أيامه فلما مات لازم الشيخ الوالد حسن الجبرتي ملازمة كلية في المدينة وبولاق وكان يحبه لنجابته واستحضاره ونوه بشأنه ولاحظه بأنظـاره وأخـذ لـه تدريـس الحنفيـة بجامـع السنانيـة وجامـع الواسطـي وعاونـه في أمور من الأحكام العامة ببولاق حتى اشتهر ذكره بها وعظم شأنه عند أهلها وصار بيته مثل المحكمة في القضايا والدعاوى والمناكحات والخصومات وكان فيه شهامة وقوة جنان وصلابة رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

ومات الولي الصالح الفاضل الشيخ عبد الله بن محمد بن حسين السندي نزيل المدينة المنورة المشهور بجمعة حضر دروس الشيخ محمد حياة السندي وغيره من الواردين وجـاور بالمدينـة نحـوًا مـن أربعيـن سنـة وانتفـع به طلبة المدينة واشتهرت بركنه‏.‏

فكل من قرأ عليه شيئًا فتح الله عليه وصار من العلماء وكان ذا كرم ومروءة وحياء وشفقة توفي في هذه السنة‏.‏

ومات الشيخ الصالح الوجيه أحمد بن عبد الله الرومي الأصل المصري المكتب الخطاط الملقب بالشكـري جـود الخـط علـى جماعـة من المشاهير ومهر فيه حتى برع وأجيز وأجاز على طريقتهم ونسخ بيده عدة مصاحف ودلائل الخيرات وغير ذلك وانتفع به الناس انتفاعًا عامًا واشتهر خطه في الآفاق وأجاز لجماعة وكان وجيهًا منور الشيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى نظيـف الثيـاب حسـن الأخلـاق مهذبـًا متواضعـًا‏.‏

توفـي عشية يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

سنة خمس وتسعين ومائة وألف في منتصف المحرم قبض إبراهيم بك على إبراهيم أغا بيت المال المعروف بالمسلماني وضربه بالنبابيت حتى مات وأمر بإلقائه في بحر النيل فألقوه وأخرجه عياله بعد أيام من عند شبر وفي يوم السبت سادس عشر صفر نزل الحجاج ودخلوا إلى مصر صحبة المحمل وأمير الحاج مصطفى بك في يوم الثلاثاء تاسع عشرة‏.‏

وفيه جاءت الإخباريات اسمعيل بك وصل من الديار الرومية إلى ادرنه وطلع من هناك ويمل يزل يتحيل حتى خلص إلى الصعيد وانضم إلى حسن بك ورضوان بك وباقي الجماعة‏.‏

وفـي أواخـر شهـر صفـر وصلـت الأخبـار مـن ناحيـة قبلـي بـأن مـراد بـك خنـق إبراهيم بك أوده باشا قيل أنه اتهمه بمكاتبات إلى اسمعيل بك وحبس جماعة آخرين خلافه‏.‏

وفيه وصلت الأخبار بورود باشا إلى ثغر سكندرية واليًا على مصر وهو محمد باشا ملك‏.‏

وفـي سـادس جمـادى الأولـى وصـل مـراد بـك ومـن معـه إلـى مصـر وصحبنـه إبراهيـم بـك قشطـة صهر اسمعيـل بـك وسليـم بـك أحـد صناجـق اسمعيـل بـك بعدمـا عقـد الصلـح بينه وبينهم وأحضر هؤلاء صحبتـه رهائـن وأعطى لاسمعيل بك اخميم وأعمالها وحسن بك قنا وقوص وأعمالها ورضوان بـك اسنـا ولـم تـم الصلـح بينـه وبينهـم علـى ذلـك أرسـل لهـم هدايـا وتقادم وأحضر صحبته من ذكر فكانـت مـدة غيابـه ثمانيـة أشهـر وأيامـًا ولم يقع بينهم مناوشات ولا حرب بل كانوا يتقدمون بتقدمه ويتأخرون بتأخره حتى تم ما تم‏.‏

وفي منتصف شهر جمادى الأولى سافر علي أغا كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وفـي غـرة شهـر رجـب وصـل الباشـا إلى بر انبابة وبات هناك وعدت الأمراء في صبحها للسلام عليه ثم ركب إلى العادلية‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن ركـب الباشـا بالموكـب مـن العادلية ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وطلع إلى القلعة وضربوا له المدافع من باب الينكرجية وكان وجيهًا جليلًا منور الوجه والشيبة‏.‏

وفي يوم الخميس عملوا الديوان وحضر الأمراء والمشايخ وقرئ التقليد بحضرتهم وخلع على الجميع الخلع المعتادة‏.‏

وفي يوم الأحد المبارك ليلة النصف من شعبان الموافق لأول مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك ونزل الباشا وكسروا السد بحضرته على العادة صبح يوم الاثنين‏.

من مات في هذه السنة من الأئمة والأعيان

توفـي شيخنـا الإمـام العـارف كعبة كل ناسك عمدة الواصلين وقدوة السالكين صاحب الكرامات الظاهرة والإشارات الباهرة شخينا وأستاذنا الشيخ محمود الكردي الخلوتي حضر إلى مصر متجردًا مجاهدًا مجتهدًا في الوصول إلى مولاه زاهدًا كل ما سوأه فأخذ العهد وتلقن الذكر من الأستاذ شمس الدين الحفني وقطع الأسماء وتنزلت عليه الأسرار وسطعت على غرته الأنوار وأفيـض علـى نفسه القدسية أنواع العلوم المدنية‏.‏

وله رسالة في الحكم ذكر أن سبب تأليفه لها أنـه رأى الشيـخ محـي الديـن العربـي رضـي اللـه عنـه فـي المنـام أعطاه مفتاحًا وقال له‏:‏ افتح الخزانة‏.‏

فاستيقـظ وهـي تدور على لسانه ويرد على قلبه أنه يكتبها‏.‏

قال‏:‏ فكنت كلما صرفت الوارد عنـي عـاد إلـي فعلمـت أنـه أمـر إلهي فكتبتها في لمحة يسيرة من غير تكلف كأنما هي تملي على لسانـي مـن قلبـي وقـد شرحهـا خليفته شيخ الإسلام والمسلمين سيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر شرحًا لطيفًا جامعًا مانعًا استخرج به من كنوز معانيها ما أخفاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وشرحها أيضًا أحد خلفائه الأستاذ العلامة السيد عبد القـادر بـن عبـد اللطيف الرافعي البياري العمري الحنفي الطرابلسي شكر الله صنيعهما ذكر في أولها ترجمة الأستاذ كما سمعه من لفظه أن مولده ببلدة صاقص من بلاد كـوران ونشـأ فـي المجاهـدة وهـو ابـن خمـس عشـرة سنـة صائـم الدهـر محيـي الليـل كلـه فـي مسجـد ببلدتـه معـروف حتى اشتهـر أمره وقصده الناس بالزيارة فهجر ذلك المكان وصار يأوى الخراب خارج بلدته بحيث لا يشعـر بـه أحـد‏.‏

وأخبرني غير مرة أنه كان لا يغمه بالليل إلا سماع صوت الديكة لإنذارها بطلوع النهـار لمـا يجده في ليله من المواهب والأسرار‏.‏

وكان جل نومه في النهار وكثيرًا ما كان يجتمع بالخضـر عليـه السلـام فيـراه بمجـرد مـا ينـام فيذكـر اللـه معـه حتـى يستيقـظ‏.‏

وكـان لا يفتر عن ذكر الله لا نومـًا ولا يقظـة‏.‏

وقـال مـرة‏:‏ جميـع مـا فـي كتـب إحيـاء العلـوم للغزالـي عملـت به قبل أن أطالعه فلما طالعتـه حمـدت اللـه تعالـى علـى توقيفـه إيـاي وتوليتـه تعليمـي مـن غيـر معلـم‏.‏

وكان كثير التقشف من الدنيا يأكل خبز الشعير وفي بيته يصنع خاص دقيق البر وكثيرًا ما كان يلومه أخوه على ذلك وكان أخوه الكبير كثير اللوم له على ما يفعله من مجاهداته وتقشفاته‏.‏

ولما مات والده ترك ما يخصـه مـن إرثـه لهـم وكـان والـده كثيـر المـال والخير وعليق دوابه في كل ليلة أكثر من نصف غرارة من الشعير‏.‏

ولما صار عمره ثمان عشرة سنة رأى في منامه الشيخ محمد الحفناوي فقيل له‏:‏ هذا شيخك فتعلق قلبه به وقصده بالرحلة حتى قدم مصر واجتمع به وأخذ عنه الطريق الخلوتيـة وسلـك علـى يديـه بعـد أن كـان على طريقة القصيري رضي الله عنه‏.‏

وقال له في مبدأ أمـره‏:‏ يـا سيـدي إنـي أسلـك علـى يديـك ولكـن لا أقـدر على ترك أوراد الشيخ علي القصيري فأقرأ أوراده وأسلـك طريقتـك‏.‏

فأجابـه الشيـخ إلـى ذلـك ولـم يشدد عليه في ترك أوراد الشيخ القصيري لما عرفه من صدقه مع المذكور فلازمه مدة طويلـة ولقنـه أسمـاء الطريقـة السبعـة فـي قطـع مقاماتها وكتب له إجازة عظيمة شهد له فيها بالكمال والترقي في مقامات الرجال وأذن لـه بالإرشـاد وتربية المريدين‏.‏

فكان الشيخ في آخر أمره إذا أراد أحد أن يأخذ عنه الطريق يرسله إلى الشيخ محمود ويقول لغالب جماعته‏:‏ عليكم بالشيخ محمود فإني لولا أعلم من نفوسكم ما أعلم لأمرتكم كلكم بالأخذ عنه والانقياد له‏.‏

ولما قدم شيخ شيخه السيد مصطفى البكري لازمه وأخذ عنه كثيرًا من علم الحقائق وكان كثير الحب فيه فلما رآه لا يقرأ أوراد الطريقـة الخلوتية ويقتصر على أوراد القصيري عاتبه في ذلك وقال له‏:‏ أيليق بك أن تسلك على أيدينا وتقرأ أوراد غيرنا إما أن تقرأ أورادنا أو أن تتركنا‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي أنتم جعلكـم اللـه رحمـة للعالمين وأنا أخاف من الشيخ القصيري إن تركت أوراده وشيء لازمته في صغري لا أحب أن أتركـه فـي كبـري‏.‏

فقال له السيد البكري‏:‏ استخر الله وانظر ماذا ترى لعل الله يشرح صدرك‏.‏

قال‏:‏ فاستخرت الله العظيم ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم والقصيري عن يمينه والسيد البكري عن يساره وأنا تجاههم فقال القصيري للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أليست طريقتي على طريقتك أليست أورادي مقتبسة من أنوارك فلم يأمر السيد البكري هذا بترك أورادي فاقل السيد البكري يا رسول الله رجل سلك على أيدينا وتولينا تربيته أيحسن منه أن يقرأ أوراد غيرنا ويهجر أورادنا فقال الرسول عليه السلام لهما اعملا فيه القرعة واستيقظ الشيخ من منامه فأخبر السيد البكري فقال له السيد معنى القرعة انشراح صدرك انظـره واعمل به قال الشيخ رضي الله عنه‏:‏ ثم بعد ليلة وأكثر رأيت سيدي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في المنام وهو يقول لي يا محمود خليك مع ولدي السيد مصطفى ورأى ورد سحر الذي ألفه المذكور مكتوبًا بين السماء والأرض بالنور المجسم كل حرف منه مثل الجبل فشرح الله بعد ذلك صدره ولازم أوراد السيد البكري وأخذ من أوراد القصيري ما استطاع‏.‏

وأخبـر رضـي اللـه عنـه أنـه رأى حضـرة الرسـول صلـى اللـه عليه وسلم في بعض المرائي وكان جمع الفقـراء فـي ليلـة مباركـة وذكـر اللـه تعالـى بهـم إلـى الفجـر وكـان معـه شـيء قليـل مـن الدنيا فورده على قلبـه وارد زهـد ففـرق مـا كـان معـه علـى المذكورين وفي أثناء ذلك صرخ من بيان الجاعة صارخ يقول الله بحال قوي فلما فرغوا قال للشيخ يا سيدي سمعت هاتفًا يقول يا شيخ محمود ليلتك قبلـت عند الله تعالى قال ثم إني بعدما صليت الفجر نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلـم قـال لـي يـا شيـخ محمـود ليلتـك قبلـت عنـد اللـه تعالـى وهات يدك حتى أجازيم فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد الشيخ والسيد البكري حاضر بالمجلس فأخذ يده ووضع يده الشريفة بين يديهما وقال أريد أن أخاوي بينك وبين السيد البكري وأتخاوى معكما الناجي منا يأخذ بيد أخيـه فاستيقـظ فرحـًا بذلـك فلـم يلبـث إلا يسيـرًا ورسـول السيد البكري يطلبه فتوضأ وذهب إلى زيارته وكان من عادته أنه يزوره كل يوم ولا يدخل عليه إلا على طهارة فلما رآه قال له ما أبطـاك اليـوم عن زيارتنا فقال له يا سيدي سهرنا البارحة الليل كله فنمت وتأخرت عنكم فقال له السيد هل من بشارة أو إشارة فقلت يا سيدي البشارة عندكم فقال قل ما رأيت قال فتعجبت من ذلك وقلت يا سيدي رأيت كذا وكذا فقال يا ملا محمود منامك حق وهذه مبشـرة لنـا ولـك فإنـه صلـى اللـه عليـه وسلـم ناج قطعًا ونحن ببركته ناجون ومناقبه رضي الله عنه كثيـرة لا تحصـر‏.‏

وكـان كثيـر المـرأى لرسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم قـل مـا تمـر بـه ليلـة إلا ويراه فيها وكثيـرًا مـا يـرى رب العـزة في المنام ورآه مرة يقول له يا محمود إني أحبك وأحب من يحبك فكان رضـي اللـه عنـه يقـول مـن أحبنـي دخـل الجنة‏.‏

وقد أذن لي أن أتكلم بذلك وأما مجاهداته فالديمة المـدرار كمـا قالـت عائشـة رضـي اللـه عنهـا فـي جنابـه صلـى اللـه عليـه وسلـم كان عمله ديمة وأيكم يستطيـع عمـل رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم‏.‏

وبلـغ مـن مجاهداتـه رضـي اللـه عنـه أنه لما ضعف عـن القيـام فـي الصلـاة لعـدم تماسكـه بنفسـه صنـع لـه خشبـة قائمة يستند عليها ولم يدع صلاة النقل قائمًا فضلًا عن الفرض ولم يدع صلاة الليل والوظائف التي عليه مرتبة في حال من الأحوال وكـان لا ينـام مـن الليـل إلا قليلًا وكان ربما بمضي عليه الليل وهو يبكي وربما تمر عليه الليلة كلها وهـو يـرد آيـة مـن كتـاب اللـه تعالـى‏.‏

وكثيـرًا مـا كـان يقتصـر علـى الخبـز والزيـت ويؤكـل في بيته خواص الأطعمة وكان غالب أكله الرز بالزيت وتارة بالسمن البقري وقـل مـا تـراه فـي خلوتـه أو مـع أصحابه إلا وهو مشغول فـي وظائـف أوراد‏.‏

وقـال لـي مـرة ربمـا أكـون مـع أولـادي ألاعبهـم وأضاحكهـم وقلبـي فـي العالـم العلـوي فـي السمـاء الدنيـا أو الثانية أو الثالثة أو العرش وكثيرًا ما كان تفيض على قلبه معرفة الحق سبحانه وتعالى فيجعل يبكي ولا يشعر به جليسه‏.‏

وقلت يومًا للعـارف باللـه تعالـى خليفتـه سيـدي محمـد يديـر القدسـي من كرامات الأستاذ أنه لا يسمع شيئًا من العلم إلا حفظه ولا يزول من ذهنه ولو بعد حين فقال لي رضي الله عنه بل الذي يعد من كرامات الشيخ أنه لا يسمع شيئًا من العلم النافع إلا ويعمل به في نفسه ويداوم عليه‏.‏

فقلت صدقـت هـذا واللـه حاله وكنت مرة أسمعته رياض الرياحين لليافعي فلما أكملته قال لي بمحضر من أصحابه هل يوجد الآن مثل هؤلاء الرجال المذكورين في هذا الكتاب تكون لهم الكرامات فقـال لـه بعـض الحاضريـن الخيـر موجـود يا سيدي في أمة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال الشيخ وقد وقع لي في الطريق أبلغ من ذلـك وأحكـي لكـم عمـا وقـع لـي فـي ليلتـي هـذه‏:‏ كنـت قاعـدًا أقـرأ فـي أورادي فعطشت وكان الزمن مصيفًا والوقت حارًا وأم الأولاد نائمة فكرهت أن أوقظها شفقة عليهـا فمـا استتـم هـذا الخاطـر حتـى رأيـت الهـواء قـد تجسم لي ماء حتى صرت كأني في غدير مـن المـاء ومـا زال يعلـو حتـى وصـل إلـى فمـي فشربـت مـاء لـم أشـرب مثلـه ثـم أنـه هبـط حتـى لم يبق قطرة ماء ولم يبتـل منـي شـيء‏.‏

وبـردت ليلـة فـي ليالـي الشتـاء بـردًا شديـدًا وأنـا قاعـد أقـرأ فـي وردي وقـد سقـط عنـي حرامـي الـذي أتغطـى به وكان إذا سقط عنه غطاؤه لا يستطيع أني رفعه بيده لضعف يده قال فأردت أن أوقظ أم الأولاد فأخذتني الشفقة عليها فما تم هذا الخاطر حتى رأيـت كانونًا عظيمًا ملآنًا من الجمر وضع بين يدي وبقي عندي حتى دفئ بدني وغلب وهج النـار علـي فقلـت فـي سـري هـذه النـار حسيـة أم هـي خيـال فقربـت إصبعـي منها فلذعتني فعلمت أنهـا كرامـة من الله تعالى ثم رفعت‏.‏

والحاصل أن مناقبه رضي الله عنه لا تكاد تنحصر وكان لكلامـه وقـع فـي النفـوس عظيـم إذا تكلم كأنما كلماته خرزات نظمن في جيد حسناء لا ينطق إلا بحكمة أو موعظة أو مسائل دينية أو حكاية تتضمن جوابًا عن سـؤال يسألـه بعـض الحاضريـن بقلبه ولا تكاد تسمع في مجلسه ذكر أحد بسوء وكان كثير الشفقة والرحمة على خلق الله لا سيما أرباب الذنوب والمعاصي كثير التواضع كثير الإحسان للفقراء والمساكين لا يمسـك مـن الدنيا شيئًا جميع ما يأتيه ينفقه في طاعة الله‏.‏

ما أمسك بيده درهمًا ولا ينارًا قط آخذًا بالـورع فـي جميـع أمـوره ليـس له هم إلا أمور الآخرة لا يهتم لشأن الدنيا أقبلت أو أدبرت كفاه الله مؤنة الدنيا عنده خادم يقبض ما يأتي له من الدنيا ويصرف عليه فلا يزيد ذلك على حاجته ولا ينقص شيئًا قال السيد شارح الرسالة خدمته نحو عشر سنوات ما رأيته ارتكب صغيرة قط وللأستاذ رضي الله عنه رسالة سماها السلوك لأبناء الملوك وهي صورة مكتوب من إملائه أرسله إلى رجل من أعيان المغرب يقال له ابن الظريف وكان الشيخ رضي الله عنه أرسـل لـه جوابـًا عن مكاتبة أرسلها فأرسل مراسلة أخرى والتمس الجواب يكون متضمنًا بعض النصائح فأملى تلك المراسلة فبلغت نحو ستة كراريس وصارت كتابًا عظيم النفع سارت به الركبان وانتفع به القاصي والداني وكتب عليه كثير من العلماء وكانت وفاة الأستاذ رضي الله عنه ثالث المحرم من هذه السنة وتولى غسله الشيخ سليمان الجمل وصلي عليه بالأزهر ودفن بالصحراء بجوار السيد مصطفى البكرى رضي الله عنهما‏.‏

ومات الأديب الماهر واللبيب الشاعر الشيخ علي بن عنتـر الرشيـدي كـان متضلعـًا فصيحـًا مفوهًا له موشحات ومقاطيع كثيرة ونظم البحور الستة عشر كلها بالاقتباس منها قوله فـي الطويل‏:‏ أطلت الجفا فأسمح بوصلك يا رشا ولا تبدلن وعد الكئيب بضده فعولن مفاعيلن فعولـن مفاعلـن ولا تحسبـن اللـه مخلـف وعده وقال في المديد ومنه الاكتفاء‏:‏ في مديـد الهجـر قـال اللواحـي دع هواه فالغرام جنون فاعلاتن فاعلن فاعلاتن واصطبر عن حبه قلـت كونـوا وقال في الرجز‏:‏ كملت محاسن منيتي فهديت في روض غدا في وجنتيـه نضيـرا وقال في الرجز‏:‏ ارجزفاني في هوى حلو اللما مسى الورى أضحيت صبا هائما مستفعلـن مستفعلـن مستفعلن إن قل صبري قال صبر قل وما وقال في الوافر‏:‏ بوافـر لوعتـي صل يا غزالي فكل متيم فإن وبالي مفاعلتن مفاعلتن فعولن ويبقـى وجه ربك ذو الجلال وقال في البسيط‏:‏ بسطت في شادن حلو اللما غزلي وقلت جدلي بوصل منك يا أملي مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن فقال لي خلق الإنسان من عجل وقال في الرمل‏:‏ قد رملت الوصف فيـه قائـلًا مذبـدًا الهنـدى من أهدا به فاعلاتن فاعلاتن فاعلن قـل هـو الرحمـن آمنـا بـه وقال في الخفيف‏:‏ خفـف الهجـر عـن فـؤاد كليم وامل كاس الوصال لي يا نديمي وله ديوان شعر مشهور ولم يزل حتى مات بالثغر في ربيع الأول من السنة‏.‏

ومـات الشيـخ الصالـح الديـن بقيـة السلـف ونتيجة الحلف الشيخ أحمد ابن محمد بن أحمد بن عبد المنعم بن أبي السرور البكري الشافعي شيخ سجادة البكرية بمصر كان صاحب همة ومروءة وديانـة وعفـاف ومحبـة وإنصاف وتولى بعد موت أبيه فسار سيرًا وسطًا مع صفاء الباطن وكان الغالـب عليه الجذب والصلاح والسلوك على طريق أهل الفلاح مع أوراد وأذكار يشتغل بها توفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الثاني من السنة وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن عند أسلافه قرب مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه‏.‏

ومات الإمام الفصيح المعتقد الشهير الذكر الشيخ إبراهيم بن محمد بـن عبـد السلـام الرئيـس الزمزمي المكي الشافعي مؤقت حرم الله الأمين ولد بمكة سنة 1110 وسمع من ابن عقيلـة وعمـر بـن أحمـد بـن عقيل والشيخ سالم البصري والشيخ عطاء الله المصري وابن الطيب وحضر على الشيخ أحمد الأشبولي الجامع الصغير وغيره وأخذ عن السيد عبد الله ميرغني ومن الورادين من أطراف البلاد كالشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ عمر الدعوجي والشيخ أحمد الجوهري وأجازه شيخنا السيد عبد الرحمن العيدروس بالذكر على طريقة السادة النقشبندية وألف باسمه رسالة سماها البيان والتعليم لمتبع ملة إبراهيم ذكر فيها سنده وأجازه السيد مصطفـى البكـري فـي الخلوتيـة وجعلـه خليفتـه فـي فتـح مجالـس الذكـر وفـي ورد سحر ولازم المرحوم الوالـد حسـن الجبرتـي سنـة مجاورتـه بمكـة وهـي سنـة خمـس وخمسين ملازمة كلية وأخذ عنه علم الفلـك والأوفـاق والاستخراجـات والرسم وغير ذلك ومهر في ذلك واقتنى كتبًا نفيسة في سائر العلوم بددها أولاده من بعده وباعوها بأبخس الأثمان‏.‏

وكان عنده من جملة كتبه زيج الراصد الغيبـك السمقرنـدي نسخة شريفة بخط العجم في غاية الجودة والصحة والإتقان وعليها تقييدات وتحريرات وفوائد شريفة لا يسمح الدهر بمثل تلك النسخة وكنت كثيرًا ما أسمع من المرحوم الوالـد ذكرهـا ومدحتهـا ونسخـة الوالد مكتوب عليها بخط رستم شاه ما نصه‏:‏ قد اشترينا هذا الكتـاب فـي دار سلطنـة هـراة باثنـي عشـر ألف دينار‏.‏

وتحت ذلك اسمه وختمه‏.‏

فلما كان في سنـة سـت وتسعيـن ورد علينـا بعـض الحجـاج الجزائرية وسألني عن كتب يشتريها من جملتها الزيج المذكـور وأرغبني في زيادة الثمن فلم تسمح نفسي بشيء من ذلك ثم سافر إلى الحج ورجع وأتاني ومع خادمه رزمة كبيرة فوضعها بين أيدينا وفتحها وأخرج منها نسخة الزيج المذكورة وفرجنـي عليهـا وقـال‏:‏ أيهمـا أحسـن نسختك التي ضننت بها أو هذه‏.‏

وكنت لم أرها قبل ذلك فرأيتها شقيقتها وتزيد عنها في الحسن بصغر حجمها وكثرة التقييدات بهامشها وطيارات كثيرة بداخلها في المسائل المعضلة مثل التسييرات والانتهاءات والنمودارات وغير ذلك وجميعها بحسن الخط والوضع فرأيتها المخدرة التي كشف عنها القناع وإنما هي المعشوقة بالسماع فقلت له‏:‏ كيـف وصلـت إلـى هـذه اليتيمـة ومـا مقدار ما دفعته فيها من المهر والقيمة‏.‏

فأخبرني أنه اشتراها مـن ابـن الشيخ بعشرين ريالًا وكتاب المجسطي وكتاب التبصرة وشرح التذكرة ونسخة البارع في غايـة الجودة وزيج ابن الشاطر وغير ذلك من الكتب التي لا توجد في خزائن الملوك وكلها بمثل ذلك الثمن البخس‏.‏

فقضيت أسفًا وأخذ الجميع مع ما أخذ وذهب إلى بلاده‏.‏

وهكذا حال الدنيا ولم يزل المترجم على حالة حميدة واشتهر أمره في الآفاق وعرف بالصلاح والفضل وأتته الهدايـا والمراسلـات من جميع الأطراف والجهات حتى لحق بربه عز وجل سابع عشر ربيع الأول من السنة‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن محمد الباقاني الشافعي النابلسي سمع الأولية من محمد بن محمد الخليلي ورافق الشيخ السفاريني في بعض شيوخه من أهل البلد وأجازه السيـد مصطفـى البكـري فـي الورد والطريقة ورد مصر أيام توليه المرحوم مصطفى باشا طوقان وكان له مذاكـرة حسنـة وورع وصلـاح وعبـادة وانتفـع بـه الطلبـة فـي بلاده ثم عاد إلى بلاده فتوفي في ثالث جمادى الثانية‏.‏

ومات الأجل المفوه الشريف الفاضل السيد حسين بن شرف الدين ابن زين العابدين بن علاء الديـن بـن شـرف الديـن بـن موسـى بـن يعقـوب ابـن شـرف الديـن بـن يوسف بن شرف الدين بن عبد اللـه بـن أحمـد أبـي ثـور ابـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن عبـد الجبـار الثـوري المقدسـي الحنفـي جـده الأعلـى أحمـد بـن عبـد اللـه دخـل حيـن فتح بيت المقدس راكبًا على ثور فعرف بأبي ثور وأقطعه الملك العزيز عثمان بن يوسف بن أيوب ديرمار يقوص وبه دفن وذلك في سنة خمسمائة وأربعـة وتسعين وجده الأدنى زين العابدين أمه الشريفة راضية بنت السيد محب الدين محمد بن كريم الديـن عبـد الكريـم ابـن داود بـن سليمـان بـن محمـد بـن داود بـن عبـد الحافـظ بن أبي الوفاء محمد بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن السيد زكي الدين سالم الحسيني الوفائي البدري المقدسي ومن هنا جاء لحفيده المترجم الشرف وهي أخت الجد الرابع للسيد علي المقدسي ويعـرف المترجـم أيضـًا بالعسيلي وكأنه من طرف الأمهات ولد ببيت المقدس وبها نشأ وقرأ شيئًا من المبـادئ ثـم ارتحـل إلـى دمشـق فحضـر دروس الشيـخ اسمعيـل العجلونـي ولازمـه وأجـازه بمروياته وجود الخط على مستعد زاده فمهر فيه وكتب بخطه أشياء ودخل مصر ونزل في رواق الشوام بالأزهر وأقبل على تحصيل العلم والمعارف فحضر دروس مشايخ الوقت كالشبراوي والحفني والجوهري ولازم السيد البليدي واستكتب حاشية على البيضاوي وسافر إلـى الحرميـن وجـاور بهمـا وأخـذ عن الشيخ محمد حياة والشيخ ابن الطيب ثم قدم مصر وتوجه منها لدار ملك الورم وأدرك بها بعض ما يروم وعاشر الأكابر وعرف اللسان وصار منظورًا إليـه عنـد الأعيـان ثـم قـدم مصـر مع بعض أمراء الدولة في أثناء سنة 1172 وانضوى إلى الشيخ السيـد محمـد أبـي هـادي بـن وفـا وكان صغير السن فألفه وأحبه وأدبه وصار يذاكره بالعلم واتحد معـه حتـى صـار مشـارًا إليـه فـي الأمـور معـولًا عليـه في المهمات‏.‏

ولما تولى نقابة السادة الأشراف مضافـة إلـى خلافـة الوفائيـة كـان هـو كالكتخـدا لـه فـي أحواله معتمدًا عليه في أفعاله وأقواله وداوم علـى ذلـك برهـة مـن الزمـان وهو نافذ الكلمة مسموع المقال حسن الحركات والأحوال إلى أن توفي الشيخ المشار إليه فضاقت مصر عليه فتوجه إلى دار السلطة وقطنها واتخذها دارًا وسكنها وأقبـل علـى الإفـادة ونشـر العلـوم بالإعـادة‏.‏

وبلغنـي أنـه كتـب فـي تلـك الأيام شرحًا على بعض متون الفقـه في مذهب الإمام وصار مرجع الخواض والعوام مقبولًا بالشفاعة عند أرباب الدولة حتى وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله وكان أودع جملة من كتبه بمصر فأرسل بوقفها برواق الشوام فوضعوها في خزانة لنفع الطلبة‏.‏

ومات الفقيه العلامة الصالح المعمر الشيخ عبد الله بن خزام أبو الطوع الفيومي وغيره وقدم الجامـع الأزهـر فأخـذ عـن فضـلاء عصره وهو أحد من يشار إليه في بلده بالفضل وتولى الإفتاء فسـار بغايـة التحـري وبلغني من تواضعه أنه كانيأتي إليه أحد العوام فيقول له‏:‏ حاجتي في بلد كذا فقم معي حتى تقضيها‏.‏

فيطيعه ويذهب معه الميلين والثلاثة ويقضيها وقد تكرر ذلك منه وكان له في كل يوم صدقات الخبز على الفقراء والمساكين يفرقها عليهم بيده ولا يشمئز وكانت له معرفة تامة في علم المذهب وغيره من الفنون الغريبة كالفلك والهيئة والميقات وعند آلات لذلك‏.‏

وكان إنسانًا حسنًا جامعًا لأدوات الفضائل‏.‏

توفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الثاني من السنة ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد الحباك الشافعي الشاذلي تفقه على الشيخ عيسى البراوي وبه تخرج وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد كشك وإليه انتسب ولما توفي جعل شيخـًا علـى المريديـن وسـار فيهـم سيـرًا مليحـًا‏.‏

وكـان يصلي إمامًا بزاوية بقلعة الجبل وكان شيخًا حسن العشرة لطيف المجاورة طارحًا للنكات متواضعًا وقد صارت له مريدون وأتباع خاصة غير أتباع شيخه توفي في يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان من السنة‏.‏

ومات من الأمراء الأمير إبراهيم بك أوده باشه خنقه مراد بك عفا الله عنه والمسلمين‏.‏

سنة ست وتسعين ومائة وألف فيها في صفر نزل مراد بك وسرح بالأقاليم البحرية وطاف البلاد الشرقية وطلب منهم أموالًا وفـرض عليهـم مقاديـر من المال عظيمة وكلفًا وحق طرق معينين وغير ذلك ما لا يوصف ثم نزل إلى الغربية وفعل بها كذلك ثم إلى المنوفية‏.‏

وفي منتصف شعبان ورد أغا بطلب محمد باشا ملك إلى الباب ليتولى الصدارة فنزل من القلعة إلى قصر العيني وأقام بقية شهر شعبان ونزل في غرة رمضان وسافر إلى سكندرية‏.‏

فكانـت مـدة ولايتـه ثلاثـة عشـر شهـرًا ونصفـًا‏.‏

وهاداه الأمراء ولم يحاسبوه على شيء‏.‏

ونزل في غايـة الإعـزاز والإكـرام وكـان مـن أفاضـل العلماء متضلعًا من سائر الفنون ويحب المذاكرة والمباحثة والمسامرة وأخبار التواريخ وحكايات الصالحين وكلام القـوم وكـان طاعنـًا فـي السـن منور الشيبة متواضعًا وحضر الباشا الجديد في أواسط رمضان ونزل إليه الملاقاة وحضر إلى مصـر فـي عاشـر شـوال وطلعـوه قصر العيني فبات به وركب بالموكب في صبحها ومر من جهة الصليبة وطلع إلى القلعة وذلك على خلاف العادة‏.‏

وفيه جاءت الأخبار على أيدي السفار الواصلين من اسلامبول بأنه وقع بها حريق عظيم لم يسمـع بمثلـه واحتـرق منهـا نحو الثلاثة أرباع واحترق خلق كثير في ضمن الحريق وكان أمرًا مهولًا وبعد ذلك حصل بها فتنة أيضًا ونفوا الوزير عزت محمد باشا وبعض رجال الدولة‏.‏

وفـي ليلـة السبت ثامن عشر القعدة هرب سليم بيك وإبراهيم بك قشطة وتبعهم جماعة كثيرة نحو الثمانين فخرجوا ليلًا على الهجن وجرائد الخيل وذهبوا إلى الصعيد وأصبح الخبر شائعًا بذلك فارتبك إبراهيم بك ومراد بك ونادى الأغا والوالي بترك الناس المشي من بعد العشاء‏.‏

من توفي في هذه السنة من الأعيان توفي الأستاذ الوجيه العظيم السيد محمد أفندي البكري الصديقـي نقيـب السـادة الأشـراف بالديار المصرية كان وجيهًا مبجلًا محشتمًا سار في نقابة الأشراف سيرًا حسنًا مع الإمارة وسلوك الإنصاف وعدم الاعتساف ولما توفي ابن عمه الشيخ أحمد شيخ السجادة البكرية تولاهـا بعـده بإجمـاع الخـاص والعـام مضافـة لنقابـة الأشراف فحاز المنصبين وكمل له الشرفان‏.‏

ولم يقـم فـي ذلـك إلا نحـو سنـة ونصـف‏.‏

وتوفـي يـوم السبـت عاشـر شعبان فحضر مراد بك إلى منزله وخلع على ولده السيد محمد أفندي ما كان على والده من مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف وجهز وكفن وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية وصلوا عليه بالجامع الأزهر في مشهد حافل ودفن بمشهد أجداده بالقرافة‏.‏

ومـات الشريـف العفيـف الوفي الصديق محمد بن زين بأحسن جمل الليل الحسيني باعلوى التريمي الأصل نزيل الحرمين سكـن بهمـا مـدة واتصـل بخدمـة الشيـخ القطيـب السمـد الشيـخ باعبـود فلوحظ بأنظاره وكان يحترمه ويعترف بمقامه ويحكي عن بعض مكاشفاته ووارداته وصحب كلًا من القطب السيد عبد الله مدهر وعارفة وقتها الشريفة فاطمة العلوية والشيخ محمد ابن عبـد الكريـم السمـان والشيخ عبد الله ميرغني وجماعة كثيرين من السادة والواردين على الحرمين مـن الأفاضـل وله محاورة لطيفة ولديه محفوظة ومعرفة بدقائق علم الطب وسليقة في التصوف‏.‏

ورد إلى مصر سنة 1181 هو عائد من الروم واجتمع بأفاضلها وعاشر شيخنا السيد محمد مرتضى وأفاده وأرشده إلى أمور مهمة وسافر صحبته لزيارة الشهداء بدمياط ولاقاه أهلها بالاحتـرام‏.‏

ثـم توجـه إلـى الحرميـن الشريفيـن وأقـام هنـاك واجتمـع بـه الشيـخ محمـد الجوهـري وآخـاه في الصحبة وكان مع ما أعطي من الفضائل يتجر بالبضائع الهندية ويتعلل بما يتحصل منها وبآخره سافر إلى الديار الهندية وبها توفي في هذه السنة‏.‏

ومات العمدة الفاضل واللوذعي الكامل الرحلة الدراكة بقية السلف الورع الصالح الزاهدالشيخ موسى بن داود الشيخوني الحنفي إمام جامع شيبون وخطيبه وخازن كتبه وكان إنسانًا حسنًا عظيم النفس منور الشيبة ضخم البدن فقيهًا مستحضرًا المناسبات مهذب النفس لين الجانب تقيًا معتقدًا ولما وقف الأمير أحمد باشجاويش كتبه التي جمعها وضعها بخزانة كتب الوقف تحت يد المترجم لاعتقاده فيه الديانة والصيانة رحمهما الله تعالى‏.‏

فيها تسحب أيضًا جماعة من الكشاف والمماليك وذهبوا إلى قبلي فشرعوا في تجهيز جريدة وعـزم مـراد بـك علـى السفـر وأخـذ فـي تجهيز اللوازم فطلب الأموال فقبضوا على كثير من مساتير الناس والتجار والمتسببين وحبسوهم وصادروهم في أموالهم وسلبوا ما بأيديهم‏.‏

فجمعوا من المال ما جاوز الحد ولا يدخل تحت العد‏.‏

وفـي منتصـف ربيـع الآخـر بـرز مراد بك للسفر وأخرج خيامه إلى جهة البساتين وخرج صحبته الأمير لاجين بك وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر وسليمان بك أبو نبوت وكشافهم ومماليكهم وطوائفهم وسافروا بعد أيام‏.‏

وفـي أواخـر جمـادى الثانية وردت الأخبار بأن رضوان بكم قرابة علي بك حضر إلى مراد بك وانضم إليه فلما فعل ذلك انكسرت قلوب الآخرين وانخذلوا ورجعوا القهقرى ورجع مراد بك أيضًا إلى مصر في منتصف شهر رجب وترك هناك مصطفى بك وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر‏.‏

وفي يوم الخميس سادس عشرين رجب اتفق مراد بك وإبراهيم بك على نفي جماعة من خشادشينهم وهـم إبراهيـم بـك الوالـي وأيـوب بـك الصغيـر وسليمـان بـك الأغـا ورسمـوا لأيـوب بـك أن يذهـب إلـى المنصـورة فأبـى وامتنـع مـن الخـروج فذهـب إليه حسن كتخدا الجربان كتخدا مراد بك واحتال عليه فركب وخرج إلى غيط مهمشة ثم سافر إلى المنصورة‏.‏

وأما إبراهيم بك الوالي فركـب بطوائفـه ومماليكـه وعدى إلى بر الجيزة فركب خلفه علي بك أباظة ولاجين بك وحجزوا هجنه وجماله عند المعادي وعدوا خلفه فأدركوه عند الأهرام فاحتالوا عليه وردوه إلى قصر العينـي ثـم سفـروه إلـى ناحيـة السـرو ورأس الخليـج‏.‏

وأمـا سليمـان بك فإنه كان غائبًا بإقليم الغربية والمنوفية يجمع من الفلاحين فردًا وأموالًا ومظالم فلما بلغه الخبر رجع إلى منوف فحضر إليه المعينون لنفيه وأمروه بالذهاب إلى المحلة الكبرى فركب بجماعته وأتباعه فوصل إلى مسجد الخضر فاجتمع بأخيه إبراهيم بك الوالي هناك فأخذه صحبته وذهبا إلى جهة البحيرة‏.‏

وفي يوم الأحد غاية شهر رجب طلع الأمراء إلى الديوان وقلدوا خمسة من أغوات الكشاف صناجق وهم عبد الرحمن خازندار إبراهيم بك سابقًا وقاسم أغا كاشف المنوفية سابقًا وعـرف بالموسقـو وهـو مـن مماليـك محمـد بـك وأشـراف إبراهيـم بـك وحسيـن كاشـف وعـرف بالشفت بمعنى اليهودي وعثمان كاشف ومصطفى كاشف السلحدار وهؤلاء الثلاثة من طرف مراد بك‏.‏ وفي

شهـر شعبان وردت الأخبار من ثغر سكندرية بوصول باشا إلى الثغر

واسمه محمد باشا السلحدار واليًا على مصر فنزل الباشا القديم من القلعة إلى القصر بشاطئ النيل‏.‏

وفيـه وصلـت الأخبـار بـأن سليمـان بـك وإبراهيـم بـك رجعـوا مـن ناحيـة البحيرة إلى كندتا وجلسوا هناك وأرسلوا جوابات إلى الأمراء بمصر بذلك وأنهم يطلبون أن يعينون لهم ما يتعيشون به‏.‏

وفيه أرسلوا خلعة إلى عثمان بك الشرقاوي بأن يستقر حاكمًا بجرجا وطلبوا مصطفى بك وسليمان بك أبا نبوت وعثمان بك الأشقر للحضور إلى مصر فحضروا واستقر عثمان بك الشرقاوي بجرجا‏.‏

وفي غرة رمضان هرب سليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي من طندتا وعدوا إلى شرقية بلبيس ومروا من خلف الجبل وذهبوا إلى جهة الصعيد ورجع علي كتخدا ويحيى كتخدا سليمان بك إلى مصر بالحملة والجمال وبعض مماليك وأجناد‏.‏

وفي أواخر رمضان هرب أيضًا أيوب بك من المنصورة وذهب إلى الصعيد أيضًا وتواترات الأخبـار بأنهـم اجتمعـوا مـع بعضهـم واتفقـوا على العصيان فأرسلوا لهم محمد كتخدا أباظة وأحمد أغا جمليان وطلبوهم إلى الصلح ويعينون لهم أماكن يقيمون بها ويرسلون لهم احتياجاتهم فأتوا ذلك فطلبوا عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك للحضور فامتنعا أيضًا وقالا‏:‏ لا نحضر ولا نصلح إلا أن رجع إخواننا رجعنـا معهـم ويـردون لهـم أمرياتهـم وبلادهـم وبيوتهـم ويعطلـوا مـن صنجقوه وأمروه عوضهم‏.‏

فلما حضر الجواب بذلك شرعوا في تجهيز تجريدة وأخذوا يفتشون أماكن الأمراء المذكورين فأخذوا ما وجدوه بمنزل مصطفى بك واتهموا أناسًا بأمانات وودائـع لمصطفـى بـك وعثمـان بـك الشرقـاوي منهـم الدالي إبراهيم وغيره فجمعوا بهذه النكتة أموالًا كثيرة حقًا وباطلًا‏.‏

وفي يوم الخميس عشرين شهر شوال كان خروج المحمل والحجاج وأمير الحاج مصطفى بك الكبير ولمـا انقضـى أمـر الحـج بـرزوا للتجريـدة وأميرهـا إبراهيـم بـك الكبيـر وجمعـوا المراكـب وحجزوهـا مـن أربابهـا وعطلـوا أسباب التجار والمسافرين وجمعوا الأموال كما تقدم من المصادرات والمتلزمين والفلاحين وغير ذلك وكان أمرًا مهولًا أيضًا وبعد أيام وصل الخبر بأن إبراهيم بك ضمهم للصلح واصطلح معهم وأنه واصل صحبتهم جميعًا‏.‏

وفـي سـادس عشـر ذي القعـدة حضـر إبراهيـم بـك ووصـل بعـده الجماعـة ودخلوا إلى مصر وسكنوا فـي بيـوت صغـار مـا عـدا عثمـان بـك ومصطفـى بـك فإنهـم نزلـوا في بيوتهم وحضر صحبتهم أيضًا علـي بـك وحسيـن بـك الاسمعيليـة فلـم يعجـب مـراد بـك مـا فعلـه إبراهيـم بك ولكن أسره في نفسه ولم يظهره وركب للسلام على إبراهيم بك فقط في الخلاء ولم يذهب إلى أحد من القادمين وسكـن الحـال علـى ذلـك أيامـًا وشـرع إبراهيـم بـك فـي إجـراء الصلـح وصفاء الخاطر بينهم بين مراد بك وأمرهم بالذهاب إليه فذهبوا إليه وسلموا عليه ثم ركب هم الآخر إليهم ما عدا الثلاثة المعزوليـن وكـل ذلـك وهـو ينقـل فـي متـاع بيتـه وتعزيـل مـا فيـه ثـم إنـه ركـب فـي يـوم الجمعة وعدى إلى جزيرة الذهب وتبعه كشافـه وطوائفـه وأرسـل إلـى بولـاق وأخـذ منهـا الـأرز والغلـة والشعيـر والبقسمـاط وغيـر ذلـك فأرسـل لـه إبراهيـم بك الجين بك وسليمان بك أبا نبوت ليردوه عن ذلك فنهرهـم وطردهـم فرجعـوا ثـم إنـه عـدى إلـى ناحيـة الشـرق وذهـب إلـى قبلـي وتبعـه أغراضه وأتباعه وحملته من البر والبحر‏.‏

وفـي هـذه السنة قصر مد النيل وانهبط قبل الصليبة بسرعة فشرقت الأراضي القبلية والبحرية وعزت الغلال بسبب ذلك وبسبب نهب الأمراء وانقطاع الوارد من الجهة القبلية وشطح سعر القمح إلى عشرة ريالات الأردب واشتد جوع الفقراء‏.‏

ووصل مراد بك إلى بني سويف وأقام هناك وقطع الطريق على المسافرين ونهبوا كل ما مر بهم في المراكب الصاعدة والهابطة‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان توفي الفقيه النبيه العمدة الفاضل حاوي أنواع الفضائل الشيخ أحمد ابن الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد السجاعي الشافعي الأزهري ولد بمصر ونشأ بها وقرأ على والده وعلى كثيـر مـن مشايـخ الوقـت وتصـدر للتدريـس فـي حياة أبيه وبعدموته في مواضعه وصار من أعيان العلماء وشارك في كل علم وتميز بالعلوم الغريبة ولازم الوالد وأخذ عنه علم الحكمة والهداية وشرحها للقاضي زاده قراءة بحث وتحقيق والجغميني ولقط الجواهر والمجيب والمقنطر وشرح أشكال التأسيس وغير ذلك وله في تلك الفنون تعاليق ورسائل مفيدة وله براعة في التأليف ومعرفة باللغة وحافظة في الفقه‏.‏

ومن تآليفه شرح على دلائل الخيرات كالحاشية مفيد وشرح على أسماء الله الحسنى قرظ عليه الشيخ عبد الله الأدكاوي رحمه الله تعالى هذا وكان ممن منحه الله أسرارها وأظهر أنوارها فأوضح من معانيها ما خفي ومنح طلابها كنزًا يتنافس في مثله أنبل الفضلاء وأفضل النبلاء أحمد الاسم محمود الصفات على الفعل حسن القول والذات نجل العالم العلامة العمدة الفهامة كعبة الأفضال وقبلة الإجلال من تقصر عن تعداد محاسنه ولو طولت باعي مولانا الشيخ أحمد السجاعي حفظ الله عليه نجله الرشيد وأراه منه ما يسـر القريـب والبعيـد وحيـن لمحت عيني ما كتب مما حقه أن يرقم بدل الحبر بالذهب عوذته بالله من عين كل حسود وعلمت أنه إن شاء الله تعالى سيسود وتطأ أخمصه أعناق الأسود‏.‏

وسمع المترجم معنا كثيرًا على شيخنا السيد محمد مرتضى من الأمالي وعدة مجالس من البخاري وجـزء بـن شاهـد الجيـش والعوالـي المرويـة عـن أحمـد عـن الشافعـي عن مالك عن نافع عن ابن عمر المسمـاة بسلسلـة الذهـب وغيـر ذلـك‏.‏

ومـن فوائـد المترجم أنه رأى في المنام قائلًا يقول له‏:‏ من قال كـل يـوم يا الله الجبار يا قهار يا شديد البطش ثلثمائة وستين مرة أمن من الطاعون‏.‏

توفي ليلة الاثنين سادس عشر صفر من السنة بعد أن تعلـل بالاستسقـاء وصلـي عليـه بالغـد بالجامـع الأزهر ودفن عند أبيه بالبستان رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الشيخ الصالح الناسك الصوفي الزاهد سيدي أحمد بن علي ابن جميل الجعفري الجولي السوسـي مـن ولـد جعفـر الطيار ولد بالسوس واشتغل بالعلم قليلًا على علماء بلاده ثم ورد إلى مصر في 1182 فحج ورجع وقرأ معنا على الشيخ الوالد كثيرًا من الرياضيات مع مشاركة سيدي محمد وسيدي أبـي بكـر ولـدي الشيـخ التـاودي بـن سـودة حيـن وردا مـع أبيهمـا فـي تلـك السنـة للحج والشيخ سالم القيرواني ثم غلب عليه الجذب فساح وذهب إلى الروم مجاهدًا وأصيب بجارحـات فـي بدنـه وعولـج حتى برأ وتعلم اللغة التركية وعرضت عليه الدنيا فلم يقبلها والغالب عليـه إخفـاء الحـال‏.‏

وورد إلـى مصـر فـي سنـة إحـدى وتسعيـن وتـزوج بمصـر وأقـام بهـا مـع كمال العفة والديانة سلامة الباطن والانجماع عن الناس مع صفاء الخاطر والذوق المتين والميل إلى كتب الشيـخ الأكبـر والشعرانـي وزيـارة القرافتيـن فـي كـل جمعـة علـى قدميـه‏.‏

أحببـت لقـاء الله تعالى توفي في ثالث ربيع الأول من السنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

ومـات العمـدة العلامـة والحبـر الفهامة قدوة المتصدرين ونخبة المفهمين النبيه المتفنن الشيخ محمد بن إبراهيـم بـن يوسف الهيتمي السجيني الشافعي الأزهري الشهير بأبي الإرشاد ولد سنة 1154 وحفظ القرآن وتفقه على الشيخ المدابغي والبراوي والشيخ عبد الله السجيني وحضر دروس الشيخ الصعيدي وغيـره وأجـازه أشيـاخ العصـر وأفتـى ودرس وتولـى مشيخـة رواق الشراقـوة بالأزهـر بعـد وفـاة خالـه الشيـخ عبـد الـرؤوف واشتهـر ذكره وانتظم في عداد المشايخ المشار إليهم بالأزهـر وفـي الجمعيـات والمجالـس عنـد الأمـراء ونظـار الأزهر وفي الأخبار وله مؤلفات في الفنون وكتـب حاشيـة علـى الخطيـب علـى أبـي شجـاع إلا أنهـا لم تكمل ورسائل في مستصعبات المسائل بالمنهج وصنف رسالة تتعلق بنداء المؤمنين بعضهم بعضًا في الجنة‏.‏

توفي في أواخر القعدة‏.‏

ومات الإمام الهمام والعلامة المقدام المتقن المتفنن المفيد الشيخ يوسف الشهير برزة الشافعـي الأزهري أحد العلماء المحصلين والأجلاء المفيدين تفقه على الشيخ العلامة الشيخ أحمد رزة وإليه انتسب وبه اشتهر وحضر على كل من الشيخ الحفناوي والشيخ أحمد البجيرمي والشيخ عيسى البرواي ودرس الفقه والمعقول بالأزهر وأفاد وأفتى وصار في عداد المتصدرين المشار إليهـم مـن الانجمـاع والحشمـة والكمـال والرئاسـة وحسن الحال ولم يتداخل كغيره في الأمور المخلة‏.‏

ولم يزل مقبلًا على شأنه حتى توفي في عاشر جمادى الأولى من السنة‏.‏

ومـات الشيخ الصالح الورع علي بن عبد الله مولى الأمير بشير جلبه مولاه من بلاد الروم وأدبه وحبب إليه السلوك فلازم الشيخ الحفني ملازمة كلية وأخذ عنه الطريق وحضر دروسه وسمع الصحيـح علـى السيـد مرتضى بتمامة في منزله بدرب الميضأة بالصليبة وكذلك مسلم وأبو داود وغير ذلك من الأجزاء الحديثة ومسلسلات بن عقيلة بشروطها وغالبها بقراءة السيد حسين الشيخونـي‏.‏

وكـان إنسانـًا حسنـًا حلو المعاشرة كثير التودد لطيف الصحبة مكرمًا محسنًا خيرًا له بر وصدقات خفية توفي في يوم الأحد تاسع عشرين رجب بعد أن تعلل بالفتق عن كبر وصلي عليه بسبيل المؤمنين ودفن بالقرب من شيخنا محمود الكردي بالصحراء‏.‏

وكان منور الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار وهيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الشيخ الصالح عيسى بن أحمد القهاوي الوقاد بالمشهد الحسيني وخادم النعال بالموضع المذكور كان رجلًا مسنًا سخيًا بما يملك مطعامًا للواردين من الغرباء المنقطعين وأدرك جماعة من الصالحين وكان يحكي لنا عليهم أمورًا غريبة وله مع الله حال وفي فهم كلام القوم ذوق حسن وللناس فيـه اعتقـاد عظيـم‏.‏

وفـي أخـرة أعجـزة الهـرم والقعـود فتوجـه إلـى طندتـا فـي آخـر ربيـع الثانـي ومكث هناك برحاب سيدي أحمد البدوي إلى أن توفي يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الثانيـة ودفـن عند مقام الولي الصالح سيدي عز الدين خارج البلد في موضع كان أعده السيد محمد مجاهد لنفسه فلم يتفق دفنه فيه‏.‏

ومات العلامة الفاضل المحدث الصوفي الشيخ أحمد بن أحمد بن أحمد ابن جمعة البجيرمـي الشافعـي قـرأ علـى أبيـه وحضـر درس العشمـاوي والعزيـزي والجوهـري والشيـخ أحمـد سابق والحفني وآخرين ودرس واكب على إقراء الحديث وألف في الفن وانتفع به الناس وكان يسكن في خانقاه سعيد السعداء مع سكون الأخلاق والانجماع عن الناس وملازمة محله ولا زال يفيد ويسمع حتى وافاه الحمام في يوم الجمعة ثاني رمضان وكانت جنازته خفيفة لاشتغال الناس بالصيام وكان يخبر والده أن جنازته كانت خفيفة رحمه الله‏.‏

ومـات الفاضـل المبجل سيدي عيسى جلبي بن محمود بن عثمان ابن مرتضى القفطانجي الحنفي المصري ولد بمصر ونشأ صالحًا في عفاف وصلاح وديانة وملازمة لحضـور دروس الأشيـاخ وتفقه على فضلاء وقته مثل الشيخ الوالد والشيخ حسن المقدسي وأخذ العربية والكلام عن الشيخ محمـد الأميـر والشيـخ أحمـد البيلـي وغيرهمـا واقتنـى كتبـًا نفيسـة وكـان منزلـه مـوردًا للفضـلاء وكـان يعـزم عليهـم ويعمل لهم الضيافات في كل عام ببستان خارج مصر يعرف ببستان القفطانجي ورثه عن آبائه وكان نعم الرجل مودة وصيانة رحمه الله تعالى وسامحه‏.‏

سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فيهـا فـي المحـرم سافـر مـراد بـك إلـى منيـة بـن خصيـب مغضبـًا وجلـس هنـاك‏.‏

وفيـه حضر إلى مصر محمـد باشـا والـي مصـر فأنزولـه بقصـر عبـد الرحمـن كتخـدا بشاطـئ النيـل فأقـام بـه يوميـن ثـم عملـوا له موكبًا وطلع إلى القلعة من تحت الربع على الدرب الأحمر‏.‏

وفي منتصفه اتفق رأي إبراهيم بك والأمراء الذين معه علـى إرسـال محمـد أفنـدي البكـري والشيـخ أبـي الأنوار شيخ السادات والشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر إلى مراد بك ليأخذوا خاطره ويطلبوه للصلح مع خشادشينه ويرجع إليهم ويقبلوا شروطه ما عدا إخراج أحد من خشداشينهـم‏.‏

فلمـا سافـروا إليـه وواجهـوه وكلمـوه في الصلح تعلل بأعذار وأخبر أنه لم يخرج من مصر إلا هروبًا خوفًا على نفسه فإنه تحقق عنده توافقهم على غدره فإن ضمنتم وحلفتم لي بالأيمـان أنـه لا يحصل لي منهم ضرر وافقتكم على الصلح وإلا فدعوني بعيدًا عنهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ لسنا نطلع على القلوب حتى نحلف ونضمن ولكن الذي نظنه ونعتقده عدم وقوع ذلك بينكم لأنكم أخوة ومقصودنا الراحة فيكم وبراحتكم ترتاح الناس وتأمن السبل فأظهر الامتثال ووعد بالحضـور بعـد أيـام وقـال لهـم‏:‏ إذا وصلتـم إلـى بنـي سويـف ترسلـون لـي عثمـان بـك الشرقـاوي وأيوب بك الدفتردار لأشترك عليهم شروطي فإن قبلوها توجهت معهم وإلا عرفت خلاصي معهم‏.‏

وانفصلـوا عنـه علـى ذلـك وودعـوه وسافـروا وحضـروا إلـى مصر في ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر وفي ذلك اليوم وصل الحجاج إلى مصر ودخل أمير الحج مصطفى بك بالمحمل في يوم الأحد‏.‏

وفـي يـوم السـب مستهـل ربيـع الـأول خـرج الأمـراء إلـى ناحيـة معادي الخبير وحضر مراد بك إلى بر الجيـزة وصحبتـه جمـع كبيـر مـن الغز والأجناد والعربان والغوغاء من أهل الصعيد والهواراة ونصبوا خيامهم ووطاقهم قبالتهم في البر الآخر فأرسل إليه إبراهيم بك عبد الرحمـن بـك عثمـان وسليمـان بـك الشابـوري وآخريـن فـي مركـب فلمـا عـدوا إليـه لـم يـأذن لهـم في مقابلته وطردهم ونزل أيضـًا كتخـدا الباشـا وصحبتـه اسمعيـل أفنـدي الخلوتـي فـي مراكـب أخـرى ليتوجهـوا إليه أيضًا لجريان الصلح فلما توسطوا البحر ووافق رجوع الأوليـن ضربـوا عليهـم بالمدافـع فكـادت تغـرق بهـم السفن ورجعوا وهم لا يصدقون بالنجاة‏.‏

فلما رأى ذلك إبراهيم بك ونظر امتناعه عن الصلح وضربـه بالمدافـع أمـر هو الآخر بضرب المدافع عليهم نظير فعلهم‏.‏

وكثر الرمي بينهم من الجهتين على بعضهم البعض وامتنع كل من الفريقين عن التعدية إلى الجهة الأخرى وحجزوا المعادي من الطرفيـن‏.‏

واستمـر الحـال بينهـم علـى ذلك من أول الشهر إلى عشرين منه واشتد الكرب والضنك على الناس وأهـل البلـاد وانقطعـت الطـرق القبليـة والبحريـة بـرًا وبحـرًا وكثـر تعـدي المفسديـن وغلت الأسعار وشح وجود الغلال وزادت أسعارها‏.‏

وفي تلك المـدة كثـر عبـث المفسديـن وأفشـح جماعـة مـراد بـك فـي النهـب والسلـب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات ولم يتركوا على وجه الأرض عودًا أخضر وعين لقبض الأموال من الجهات وغرامات الفلاحين وظن الناس حصول الظفـر لمـراد بـك واشتـد خوف الأمراء بمصر منه‏.‏

وتحدث الناس بعزم إبراهيم بك على الهروب فلما كان ليلة الخميس المذكور أرسل إبراهيم بك المذكور خمسة من الصناجق وهم سليمان بـك الأغـا وسليمـان أبـو نبـوت وعثمـان بـك الأشقر وإبراهيم بك الوالي وأيوب بك فعدوا إلى البر الآخـر بالقـرب من انبابة ليلًاوساروا مشاة فصادفوا طابورًا فضربوا عليهم بالبندق فانهزموا منهم وملكوا مكانهم وذلك بالقرب من بولاق التكرور كل ذلك والرمي بالمدافع متصل من عرضي إبراهيـم بـك‏.‏

ثـم عـدى خلفهـم جماعـة أخرى ومعهم مدفعان وتقدموا قليلًا من عرضي مراد بك وضربوا على العرضي بالمدفعين فلم يجبهم أحدًا فباتوا على ذلك وهم على غاية من الحذر والخـوف‏.‏

وتتابـع بهـم طوائفـه وخيولهم فلما ظهر نور النهار نظروا فوجدوا العرضي خاليًا وليس به أحد وارتحل مراد بك ليلًا وترك بعض أثقاله ومدافعه فذهبوا إلى العرضي وأخذوا ما وجدوه وجلسوا مكانه ونهب أوباشه المراكب التي كانت محجوزة للناس‏.‏

وعدى إبراهيم بك وتتابعوا في التعدية وركبوا خلفهم إلى الشيمي فلم يجدوا أحدًا فأقاموا هناك السبت والأحد والاثنين والثلاثاء ورجع إبراهيم بك وبقية الأمراء إلى مصر ودخلوا بيوتهم‏.‏

وانقضت هذه الفتنـة الكذابـة علـى غيـر طائـل ولـم يقع بينهم مصاف ولا مقاتلة وهرب مراد بك وذهب بمن معه وفي أواخر شهر جمادى الأولى اتفق رأي إبراهيم بك على طلب الصلح مع مراد بك فسافر لذلـك لاجيـن بـك وعلـي أغا كتخدا جاووجان وسبب ذلك أن عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك ومصطفـى بـك وسليمـان بـك وإبراهيـم بـك الوالـي تحزبـوا مـع بعضهم وأخذوا ينقضون على إبراهيم بك الكبير واستخفوا بشأنه وقعدوا له كل مرصد وتخيل منهم وتحرز وجرت مشاجرة بين أيوب بك وعلي أغا كتخدا جاوجان بحضرة إبراهيم بك وسبه وشتمه وأمشك عمامته وحل قولانـه وقـال لـه‏:‏ ليـس هـذا المنصـب مخلـدًا عليـك فاغتـاظ إبراهيـم بك لذلك وكتمه في نفسه وعز علـي علـي أغا لأنه كان بينه وبين مراد بك فاجتمع إليه الأمراء وتكلموا معه فقال‏:‏ نصطلح مع أخينـا أولـى مـن التشاحـن ونزيل الغل من بيننا لأجل راحتنا وراحة الناس ويكون كواحد منا وإن حصـل منـه خلـل أكـون أنـا وأنتـم عليـه‏.‏

وتحالفـوا علـى ذلك وسافر لاجين بك وعلي أغا وبعد أيام حضـر حسـن كتخـدا الجريـان كتخـدا مـراد بـك إلـى مصـر واجتمع بإبراهيم بك ورجع ثانيًا وأرسل إبراهيـم بـك صحبتـه ولـده مـرزوق بك طفلًا صغيرًا ومعه الدادة والمرضعة فلما وصلوا إلى مراد بك أجاب بالصلح وقدم لمرزوق بك هدية وتقادم ومن جملتها بقرة ولابنتها رأسان‏.‏

وفـي عاشر رجب حضر مرزوق بك وصحبته حسن كتخدا الجربان فأوصله إلى أبيه ورجع ثانيًا إلى مراد بك وشاع الخبر بقدوم مراد بك وعمل مصطفى بك وليمة وعزم من بصحبته وفـي ثانـي يـوم اجتمعوا عند إبراهيم بك وقالوا له‏:‏ كيف يكون قدوم مراد بك ولعله لا يستقيم حاله معنا فقال لهم‏:‏ حتى يأتي فإن استقام معنا فيها وإلا أكون أنا وأنتم عليه‏.‏

فتحالفـوا وتعاهدوا وأكدوا المواثيق‏.‏

فلما كان يوم الجمعة وصل مراد بك إلى غمازة فركب إبراهيم بك علـى حيـن غفلـة وقـت القائلـة فـي جماعتـه وطائفتـه وخـرج إلـى ناحيـة البساتيـن ورجـع من الليل وطلع إلـى القلعـة وملك الأبواب ومدرسة السلطان حسن والرميلة والصليبة والتبانة وأرسل إلى الأمراء الخمسة يأمرهم بالخروج من مصر وعين لهم أماكن يذهبون إليها فمنهم من يذهب إلى دمياط ومنهم من يذهب إلى المنصورة وفارسكور فامتنعوا من الخروج واتفقوا على الكرنكة والخلاف ثـم لـم يجـدوا لهـم خلاصـًا بسبـب أن إبراهيـم بـك ملـك القلعـة وجهاتها ومراد بك واصل يوم تاريخه وصحبته السواد الأعظم من العساكر والعربان ثم إنهم ركبوا وخرجوا بجمعيتهـم إلـى ناحيـة القليوبية ووصل مراد بك لزيارة الإمام الشافعي فعندما بلغه خبر خروجهم ذهب من فوره من خلـف القلعـة ونـزل علـى الصحـراء وأسـرع فـي السيـر حتـى وصـل إلـى قناطر أبي المنجا ونزل هناك وأرسل خلفهم جماعة فلحقوهم عند شبراشهاب وأدركهم مراد بك والتطموا معهم فتقنطـر مراد بك بفرسه فلحقوه وأركبوه غيره فعند ذلـك ولـى راجعـًا وانجـرح بينهـم جماعـة قلائـل وأصيـب سليمـان بـك برصاصـة نفـذت مـن كتفـه ولـم يمـت ورجـع مـراد بـك ومـن معه إلى مصر على غير طائل وذهب الأمراء الخمسة المذكورون وعدوا على وردان وكان بصحبتهم رجـل مـن كبـار العـرب يقـال لـه طرهونـه يدلهـم علـى الطريـق الموصلـة إلـى جهـة قبلـي فسـار بهـم في طريق مقفرة ليس بها ماء ولا حشيش يومًا وليلة حتى كادوا يهلكون من العطش وتأخر عنهم أناس من طوائفهم وانقطعوا عنهم شيئًا فشيئًا إلى أن وصلوا إلى ناحية سقارة فرأوا أنفسهم بالقرب من الأهرام فضاق خناقهم وظنوا الوقوع فأحضروا الهجن وأرادوا الركوب عليها والهروب ويتركوا أثقالهـم فقامـت عليهم طوائفهم وقالوا لهم‏:‏ كيف تذهبون وتتركونا مشتتين‏.‏

وصار كل من قدر علـى خطـف شـيء أخـذه وهـرب فسكنـوا عن الركوب وانتقلوا من مكانهم إلى مكان آخر‏.‏

وفي وقت الكبكبة ركب مملوك من مماليكهم وحضر إلى مـراد بـك وكـان بالروضـة فأعلمـه الخبـر فأرسـل جماعـة إلـى الموضـع الـذي ذكـره لـه فلـم يجـدوا أحدًا فرجعوا واغتم أهل مصر لذهابهم إلى جهـة قبلـي لمـا يترتـب علـى ذلك من التعب وقطع الجالب مع وجود القحط والغلاء‏.‏

وبات الناس في غم شديد‏.‏

فلما طلع نهار يوم الأربعاء حادي عشرين رجب شاع الخبر بالقبض عليهم وكـان مـن أمرهم أنهم لما وصلوا إلى ناحية الأهرام ووجدوا أنفسهم مقابلين البلد أحضروا الدليل وقالوا له‏:‏ انظر لنا طريقًا تسلك منه فركب لينظر في الطريق وذهب إلى مراد بك وأخبره بمكانهم فأرسل لهم جماعة فلمـا نظروهـم مقبليـن عليهـم ركبـوا الهجـن وتركـوا أثقالهـم وولـوا هاربين وكانوا كمنوا لهم كمينًا فخرج عليهم ذلك الكمين ومسكوا بزمامهم من غير رفع سلاح ولا قتال وحضروا بهم إلى مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك مراكب وأنزل كل أمير في مركب وصحبته خمسة مماليك وبعض خدام وسافروا إلى جهة بحري فذهبوا بعثمان بـك وأيـوب بـك إلـى المنصـورة ومصطفى بك إلى فارسكور وإبراهيم بك الوالي إلى طندتا وأما سليمان بك فاستمر ببولاق التكرور حتى برأ جرحه‏.‏

وفي منتصف شهر رمضان اتفق الأمراء المنفيون على الهروب إلى قبلي فأرسلوا إلى إبراهيم بك الوالي ليأتي إليهم من طندتا وكذلك إلى مصطفى بك من فارسكور وتواعدوا على يوم معلـوم بينهـم فحضـر إبراهيـم بـك إلـى عثمـان بـك وأيـوب بـك خفيـة فـي المنصورة وأما مصطفى بك فإنه نزل في المراكب وعدى إلى البر الشرقي بعد الغروب وركب وسافر فركب خلفه رجل يسمى طه شيخ فارسكور وكان بينه وبين مصطفى بك خرازة وأخذ صحبته رجلًا يسمى الأشقر في نحو ثلثمائة فارس وعدوا خلفه فحلقوه آخر الليل والطريق ضيقة بين البحر والأرز المزروع فلم يمكنهم الهروب ولا القتال‏.‏

فأراد الصنجـق أن يذهـب بمفـرده فدخـل فـي الـأرز بفرسه فانغرز في الطين فقبضوا عليه هو وجماعته فعروهم وأخذوا ما كان معهم وساقوهم مشـاة إلـى البحـر وأنزلوهـم المراكـب وردوهـم إلـى مكانهـم محتفظيـن عليهم‏.‏

وأرسلوا الخبر إلى مصر بذلـك‏.‏

وأمـا الجماعـة الذيـن فـي المنصـورة فإنهـم انتظـروا مصطفـى بـك فـي الميعـاد فلـم يأتهم ووصلهم الخبـر بمـا وقـع لـه فركب عثمان بك وإبراهيم بك وساروا وتخلف أيوب بك المنصورة فلما قربوا من مصر سبقتهم الرسل إلى سليمان بك فركب من الجيزة وذهب إليهما وذهبوا إلى قبلي وأرسل مراد بك محمد كاشف الألفي وأيوب كاشف فأخـذا مصطفـى بـك مـن فارسكـور وتوجها به إلى ثغر سكندرية وسجنوه بالبرج الكبير‏.‏

وعرف من أجل ذلك بالإسكندراني‏.‏

وأحضـروا أيـوب بـك إلـى مصـر وأسكنـوه فـي بيـت صغيـر وبعـد أيـام ردوه إلى بيته الكبير وردوا له الصنجقية أيضًا في منتصف شوال‏.‏

وفـي يـوم الاثنين سادس شهر شوال الموافق التاسع عشر مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك ونزل الباشا يوم الثلاثاء في عربة وكسر السد على العادة‏.‏

وفي يـوم الاثنيـن حـادي عشريـن شـوال كـان خـروج المحمـل صحبـة أميـر الحـاج مصطفـى بـك الكبيـر فـي موكـب حقيـر جـدًا بالنسبـة للمواكـب المتقدمـة ثـم ذهـب إلى البركة في يوم الخميس وقد كان تأخر له مبلغ من مال الصرة وخلافها فطلب ذلك من إبراهيم بك فأحاله على مراد بك من الميري الذي طرفه وطرف أتباعه وأحال عليه أمير الحاج وركب من البركة راجعًا إلى مصر وتركه وإياه فلم يسع مراد بك غلا الدفع وتشهيل الحج وعاد إلى مصر وخرج إلى قصره بالروضة وأرسل إلى الجماعة الذين بالوجه القبلي فلما علم إبراهيم بك بذلك أرسل إليه يستعطفـه وترددت بينهما الرسل من العصر إلى بعد العشاء ونظر إبراهيم بك فلم يجد عنده أحدًا من خشداشينـه‏.‏

واجتمـه وأكلهـم علـى مـراد بك فضاق صدره وركب إلى الرميلة فوقف بها ساعة حتى أرسل الحملة صحبة عثمان بك الأشقر وعلي بك أباظة وصبر حتى ساروا وتقدموا عليـه مسافـة ثـم سـار نحـو الجبـل وذهـب إلـى قبلـي وصحبتـه علـي أغـا كتخـدا الجاويشيـة وعلـي أغا مستحفظان والمحتسب وصناجقه الأربعة فلما بلغ مراد بك ركوبه وذهابه ركب خلفهم حصة من الليل ثم رجع إلى مصر وأصبح منفردًا بها وقلد قائد أغا أغات مستحفظان وصالح أغا الوالي القديم وجعله كتخدا الجاويشية وحسن أغا كتخدا ومصطفى بك محتسب وأرسل إلى محمد كاشف الألفي ليحضر مصطفى بك من محبسه بغثر إسكندرية ونادى بالأمان في البلد وزيادة وزن الخبز وأمر بإخراج الغلال المخزونة لتباع على الناس‏.‏

وفـي ليلـة الثلاثـاء خامـس القعـدة حضـر مصطفـى بـك ونـزل فـي بيتـه أميـرًا وصنجقـًا علـى عادته كما كان‏.‏

وفيه قلد مراد بك مملوكه محمد كاشف الألفي صنجقًا وكذلك مصطفى كاشـف الإخميمـي وفـي يـوم الأحـد سابـع عشـر القعـدة حضـر عثمـان بك الشرقاوي وسليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي وسليمان بك أبو نبوت وكان مراد بك أرسل يستدعيهم كما تقدم‏.‏

فلما حضروا إلى مصر سطنوا بيوتهم كما كانوا على إمارتهم‏.‏

وفي أواخره وصل واحد أغا من الدولة وبيده مقرر للباشا على السنة الجديدة فطلب الباشا الأمراء لقراءاته عليهم فلمع يطلع منهم أحد وأهمل ذلك مراد بك ولم يلتفت إليه‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر الحجة رسم مراد بك بنفي رضوان رضوان بك قرابة علي بك الكبير الذي كان خامر على اسمعيل بك وحسن بك الجداوي وحضر مصر صحبة مراد بك كمـا تقـدم وانضـم إليـه وصار من خاصته فلما خرج إبراهيم بك من مصر أشيع أنه يريد صلحه مع اسمعيل بك وحسن بك فصار رضوان بك كالجملة المعترضة فرسم مراد بك بنفيه فسافر من ليلته إلى الإسكندرية‏.‏

وفـي يـوم السبـت خامـس عشـرة أرسـل مـراد بـك إلى الباشا وأمره بالنزول فأنزلوه إلى قصر العيني معـزولًا وتولى مراد بك قائم مقام وعلق الستور على بابه فكانت ولاية هذا الباشا أحد عشر شهرًا سوى الخمسة أشهر التي أقامها بغثر سكندرية وكانت أيامه كلها شدائد ومحنًا وغلاء‏.‏

وفي أواخـر شهـر الحجـة شـرع مـراد بـك فـي إجـراء الصلـح بينـه وبيـن إبراهيـم بـك فأرسـل لـه سليمـان بك الأغا والشيخ أحمد الدردير ومرزوق بك ولده فتهيئوا وسافـروا فـي يـوم السبـت ثامـن عشرينه‏.‏

وانقضت هذه السنـة كالتـي قبلهـا فـي الشـدة والغـلاء وقصـور النيـل والفتـن المستمـرة وتواتـر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان وإحداث أنواع المظالم ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهـم واشتـد كربهـم وطفشـوا من بلادهم فحولوا الطلب على الملتزمين وبعثوا لهم المعينين في بيوتهم فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى فيؤخذ ويحبس ويكلف بطلب أضعاف ما يقدر عليه وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقيلة‏.‏

ولما تحقق التجار عدم الرد استعوضوا خساراتهم من زيادة الأسعـار ثـم مـدوا أيديهـم إلـى المواريث فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده سواء كان له وارث أو لا‏.‏

وصار بيت المـال مـن جملـة المناصـب التـي يتولاهـا شـرار النـاس بجملـة مـن المـال يقـوم بدفعـه في كل شهر ولا يعارض فيما يفعـل في الجزئيات وأما الكليات فيختص بها الأمير‏.‏

فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء إلا مـن تداركـه الله برحمته أو اختلس شيئًا من حقه فإن اشتهروا عليه عوقب على استخراجه‏.‏

وفسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع وكثر الحسد والحقد فـي النـاس لبعضهـم البعـض‏.‏

فيتتبـع الشخـص عـورات أخيـه ويدلـي بـه إلـى الظلـم حتـى خـرب الإقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحـرام وفقـد الأمـن ومنعـت السبـل إلا بالخفـارة وركـوب الغـرر وجلـت الفلاحون من بلادهم من الشراقي والظلم وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجـوع ويأكلـون مـا يتساقـط فـي الطرقـات مـن قشـور البطيخ وغيره فلا يجد الزبال شيئًا يكنسه من ذلك واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميتات من الخيل والحمير والجمال فإذا خرج حمار ميت تزاحموا عليه وقطعوه وأخذوه ومنهم من يأكله نيئًا من شدة الجوع ومات الكثير مـن الفقـراء بالجوع‏.‏

هذا والغلاء مستمر والأسعار في الشدة وعز الدرهم والدينار من أيدي الناس وقل التعامـل إلا فيمـا يؤكـل وصـار سمـر النـاس وحديثهم في المجال ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير ولولا لطف الله تعالى ومجيء الغلال من نواحي الشام والروم لهلكت أهـل مصـر مـن الجـوع‏.‏

وبلـغ الـأردب من القمح ألفًا وثلثمائة نصف فضة والفول والشعير قريبًا من ذلك وأما بقية الحبوب والأبزار فقل أن توجد‏.‏

واستمر ساحل الغلة خاليًا من الغلال بطول السنـة والشـون كذلك مقفولـة وأرزاق النـاس وعلائفهـم مقطوعـة وضـاع النـاس بيـن صلحهـم وغبنهـم وخـروج طائفـة ورجـوع الأخرى ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها‏.‏

وإذا سئل المستقر في شيء تعلل بما ذكر‏.‏

ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب أنها حيل على سلب الأموال والبلاد وفخاخ ينصبونها ليصيدوا بها اسمعيل بك‏.‏

وفي أواخره وصلت مكاتبة من الديار الحجازية عن الشريف سرور ووكلاء التجار خطابًا للأمـراء والعلمـاء بسبـب منـع غلـال الحرميـن وغلـال المتجـر وحضـور المراكـب مصبـرة بالأتربـة والشكوى من زيادة المكوسات عن الحد فلما حضرت قرئ بعضها وتغوفل عنها وبقي الأمر على ذلك‏.‏

رجع لخبر العجلة التي لها رأسان وهو أنه لما أرسل إبراهيم بك ولده مرزوق بك غلامًا صغيرًا لمصالحة الأمير مراد بك أعطاه هدية ومن جملتها بقرة وخلفها عجلة برأسين وحضر بهما إلى مصر وشاع خبرها فذهبت بصحبة أخينا وصديقنا مولانا السيد اسمعيل الوهبي الشهير بالخشاب فوصلنا إلى بيـت أم مرزوق بك الذي بحارة عابدين ودخلنا إلى اسطيل بعض السواس فرأينا بقرة مصفرة اللـون مبيـاض وابنتها خلفها سواد ولها رأسان كاملتا الأعضاء وهي تأكل بفم إحدى الرأسين وتشتر بفم الرأس الثانية فتعجبنا من عجيب صنع الله وبديع خلقتـه فكانـت مـن العجائـب الغريبـة من مات في هذه السنة من أعيان الناس مـات الشيـخ الفقيه الصالح المشارك الشيخ درويش بن محمد بن محمد ابن عبد السلام البوتيجي الحنفي نزيل مصر حضر دروس كل من الشيخ محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي وغيرهم وتميز في معرفة فروع الفقه وأفتى ودرس وكان إنسانًا حسنًا لا بأس به توفي في هذه السنة‏.‏ ومات

العمدة العلامة والرحلة الفهامة المفوه المتكلم المتفقه

النحوي الأصولي الشيخ عبد الله بن أحمد المعروف باللبان الشافعي الأزهري أحد المتصدرين في العلماء الأزهرية حضر أشياخ الوقت كالملوى والجوهري والحفني والصعيدي والشعماوي والدفري وتمهر في الفقه والمعقول وقرأ الـدروس وختـم الختـوم وتنـزل أيامـًا عند الأمير إبراهيم كتخدا القازدغلي واشتهر ذكره في الناس وعنـد الأمـراء بسبـب ذلـك وتحمـل حالـه وكـان فصيحـًا ملسانًا مفوهًا يخشى من سلاطة لسانه في المجالس العلمية والعرفيـة‏.‏

وسافـر مـرة إلـى اسلامبـول فـي بعـض الإرساليـات وذلـك سنـة سـت وثمانيـن عندما خرج علي بك من مصر ودخل محمد بك وكان بصحبة أحمد باشجاويش أرنؤد‏.‏

ومات العلامة الشيخ عبد الرحمن جاد الله البناني المغربي وبنانة قرية من قرى منستير بأفريقية ورد إلى مصر وجاور بالجامع الأزهر وحضر دروس الشيخ الصعيدي والشيخ يوسف الحفني والسيد محمد البليدي وغيرهم من أشياخ العصر ومهر في المعقول وألف حاشية على جمع الجوامع اختصر فيها سياق بن قاسم وانتفع بها الطلبة ودرس برواق المغاربة وأخذ الحديث عن الشيخ أحمد الإسكندري وغيره وتولى مشيخة رواقهم مرارًا بعد عـزل السيـد قاسـم التونسـي وبعـد عـزل الشيـخ أبـي الحسن القلعي فسار فيها سيرًا حسنًا‏.‏

ولم يتزوج حتى مات‏.‏

ومن آثاره ما كتبه على المقامة التصحيفية للشيخ عبد الله الأدكاوي‏.‏

ولم يزل مواظبًا على التدريس ونفع الطلبة حتى تعلل أيامًا وتوفي ليلة الثلاثاء ختام شهر صفر‏.‏

ومات الشيخ الفاضل العلامة عبد الرحمن بن عمر الأجهـوري المالكـي المقـرى سبـط القطـب الخضيري أخذ علم الأداء عن كل من الشيخ محمد بن علي السراجي إجازة في سنة 1156 وعن الشيخ عبد ربه ابن محمد السجاعي إجازة في سنة أربع وخمسين وعن شمس الدين السجاعي في سنـة ثلـاث وخمسيـن وعـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن يوسـف القسطمطينـي جـود عليـه إلـى قوله المفلحون بطريقة الشاطبية والتيسير بقلعة الجبل حين ورد مصر حاجًا في سنـة ثلـاث وخمسين وعلى الشيخ أحمد بن السماح البقري والشهاب الإسقاطي وآخرين وأخذ العلوم عن الشبـراوي والعمـاوي والسجينـي والشهـاب النفـراوي والشمس الحفني وأخيه الشيخ يوسف والشيخ الملوي وسمع الحديث من الشيخ محمد الدفري والشيخ أحمد الإسكندراني محمـد بـن محمـد الدقاق وأجازه الجوهري في الأحزاب الشاذلية وكذا يوسف بن ناصر وأجازه السيد مصطفى البكري في الخلوتية والأوراد السرية ودخل الشام فسمع الأولية على الشيخ مصطفى الخليجي ومكث هناك مدة ودخل حلب فسمع من جماعة وعاد إلى مصر فحضر على السيد البليدي فـي تفسيـر البيضـاوي بالأزهـر وبالأشرافيـة وكـان السيد يعتني به ويعرف مقامه‏.‏

وله سليقة تامة فـي الشعـر ولـه مؤلفـات منهـا الملتـاذ فـي الأربعة الشواذ ورسالة في وصف أعضاء المحجوب نظمًا ونثـرًا وشـرح تشنيـف السمـع ببعـض لطائـف الوضع للشيخ العيدروس شرحين كاملين قرظ عليهما علماء عصره‏.‏

ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويجيد ودرس بالأزهر مدة في أنواع الفنون وأتقن العربية والأصول والقراءات وشارك في غيرها وعين للتدريس في السنانية ببولاق فكان يقرأ فيها الجامع الصغير ويكتب على أطراف النسخة من تقاريره المبتكرة ما لو جمع لكان شرحًا حسنًا‏.‏

وتوفي المترجم رحمه الله تعالى في سابع عشرين رجب‏.‏

ومات الأجل المبجل والعمدة المفضل الحسيب النسيب السيد محمد بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمـد بـن تـاج العارفيـن بـن أحمـد بـن عمـر ابـن أبـي بكـر بـن محمـد بـن أحمـد بـن علـي بـن حسيـن بـن محمـد بـن شرشيـق بـن محمـد ابـن عبـد العزيـز بـن عبـد القادر الحسيني الجيلي المصري ويعرف بابن بنت الجيزي من بيت العز والسيادة والكرامة والمجادة جدهم تاج العارفين تولى الكتابة بباب النقابـة ولا زالـت فـي ولـده مضافـة لمشيخـة السـادة القدريـة ومنزلهـم بالسبع قاعات ظاهر الموسكي مشهور بالثروة والعز وكان المترجم اشتغل بالعلم حتى أدرك منه حظًا وافرًا وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار النكات والمسائل والفروع وكان ذا وجاهة وهيبة واحتشام وانجمـاع عـن النـاس ولهـم منـزل ببركـة جنـاق يذهبـون إليـه فـي أيـام النيـل وبعـض الأحيان للنزاعة توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة وتولى منصبه أخوه السيد عبد الخالق‏.‏

ومـات السيـد الفاضـل السالـك علـى بـن عمـر بـن محمـد بـن علـي بـن أحمد بن عبد الله بن حسن بن أحمـد بـن يوسـف بن إبراهيم بن أحمد ابن أبي بكر بن سليمان بن يعقوب بن محمد بن القطب سيدي عبد الرحيم القناوي الشريف الحسيني ولد بقنا وقدم مصر وتلقن الطريقة عن الأستاذ الحفني ثم حبب إليه السياحة فورد الحرمين وركب من جدة إلى سورت ومنها إلى البصرة وبغداد وزار من بهما من المشاهد الكرام ثم دخل المشهد فزار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم دخل جراسان ومنها إلى غزنين وكابل وقندهار واجتمع بالسلطان أحمد شاه فأكرمه وأجزل له العطاء ثم عاد إلى الحرمين وركب من هناك إلى بحر سيلان فوصل إلى بنارس واجتمع بسلطانها وذهب إلى بلاد جاوة ثم رجع إلى الحرمين ثم سار إلى اليمن ودخل صنعاء واجتمع بإمامها ودخل زبيد واجتمع بمشايخها وأخذ عنهم واستأنسوا به وصـار يعقـد لهـم حلـق الذكـر على طريقته وأكرموه ثم عاد إلى الحرمين ثم إلى مصر وذلك سنة اثنتيـن وثمانيـن وكانت مدة غيبته نحو عشرين سنة‏.‏

ثم توجه في آخر هذه السنة إلى الصعيد واجتمع بشيخ العرب همام رحمه الله تعالى فأكرمه إكرامًا زائدًا ودخل قنا فزار جده ووصل رحمة ومكث هناك شهورًا ثم رجع إلى مصر وتوجه إلى الحرمين من القلزم وسافر إلى اليمن وطلع إلى صنعاء ثم عاد إلى كوكبان وكان إمامها إذ ذاك العلامة السيد إبراهيـم بـن أحمـد الحسينـي وانتظـم حالـه وراج أمـره وشـاع ذكره وتلقن منه الطريقة جماعة من أهل زبيد واستمال بحسن مذاكرته ومداراته طائفة من الزيدية ببلدة تسمى زمرمر‏.‏

وهي بلدة باليمـن بالجبال وهم لا يعرفون الذكر ولا يقولون بطرق الصوفية فلم يزل بهم حتى أحبوه وأقام حلقة الذكـر عندهـم وأكرمـوه ثـم رجـع مـن هنـاك إلى جدة وركب من القلزم إلى السويس‏.‏

ووصل مصر سنة أربع وتسعين فنزل بالجمالية فذهبت إليه بصحبته شيخنا السيد مرتضى وسلمنا عليه وكنت أسمع به ولم أره قبل ذلك اليوم فرأيت منه كمال المودة وحسن المعاشرة وتمام المروءة وطيـب المفاكهـة وسمعـت منـه أخبـار رحلتـه الأخيـرة وترددنـا عليـه وتـردد علينـا كثيرًا وكان ينزل في بعض الأحيان إلى بولاق ويقيم أيامًا بزاوية علي بك بصحبة العلامة الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ بدوي الهيتمي وحضر إلى منزلي ببولاق مرارًا باستدعاء وبدون استدعاء ثم تزوج بمصر وأتى إليه ولده السيد مصطفى من البلاد زائرًا وما زال على حاله في عبادة وحسن توجه إلى الله مع طيب معاشرة وملازمة الأذكار وصحبة العلماء الأخيار حتى تمرض بعلة الاستسقـاء مـدة حتـى توفـي ليلـة الثلاثـاء غـرة جمـادى الأولـى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافـة بيـن يـدي شيخـه الحفنـي‏.‏

وكـان ابنـه غائبـًا فحضـر بعـد مـدة مـن موتـه فلم يحصل من ميراثه إلا شيئًا نزرًا وذهب ما جمعه من سفر الله حيث ذهب‏.‏

ومات الوجيه النبيل والجليل الأصيل السيد حسين باشيجاويش الأشراف بن إبراهيم كتخدا تفكجيـان بـن مصطفـى أفنـدي الخطـاط كـان إنسانـًا حسنـًا جامعـًا للفضائـل واللطـف والمزايا واقتنى كتبًا كثيرة في الفنون وخصوصًا في التاريخ وكان مألوف الطباع ودودًا شريف النفس مهذب الأخلاق فلم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير محمد كتخدا أباظة وأصله من مماليك محمد جربجي الصابونجي ولما مات سيده كمـا تقـدم تركـه صغيـرًا فخـدم ببيتهم ثم عند حسين بك المقتول ولم يزل ينمو ويترقى في الخدم حتـى تقلـد كتخدائيـة محمـد بـك أبـي الذهـب فسـار فيهـا بشهامـة وصرامـة ولـم يزل مبجلًا بعده في أيام مماليكه معدودًا من الأمراء وله عزوة مماليك وأتباع حتى تعلل ومات في هذه السنة‏.‏

ومات التاجر الخير الصدوق الصالح الحاج عمر بن عبد الوهاب الطرابلسي الأصل الدمياطي سكن دمياط مدة وهو يتجر واختص بالشيخ الحفني فكان يأتي غليه في كل عام يـزوره ويراسله بالهدايا ويكرم مـن يأتـي مـن طرفـه وكـان منزلـه مـأوى الوافديـن مـن كـل جهـة ويقـوم بواجب إكرامهم وكان من عادته أنه لا يأكل مع الضيوف قط إنما يخدم عليهم ما داموا يأكلون ثـم يأكـل مـع الخـدم وهـذا مـن كمـال التواضع والمروءة‏.‏

وإذا قرب شهر رمضان وفد عليه كثيرة من مجاوري رواق الشوام بالأزهر وغيره فيقيمون عنده حتى ينقضي شهر الصوم في الإكرام ثم يصلهـم بعـد ذلـك بنفقـة وكسـاوي ويعـودون مـن عنده مجبورين‏.‏

وفي سنة ثلاث وثمانين حصلت له قضية مع بعض أهل الذمة التجار بالثغر فتطاول عليه الذمي وسبه فحضر إلى مصر وأخبر الشيخ الحفني فكتبوا له سؤالًا في فتوى وكتب عليه الشيخ جوابًا وأرسله إلى الشيخ الوالد فكتـب علـي جوابـًا وأطنـب فيـه ونقل من الفتاوى الخيرية جوابًا عن سؤال رفع للشيخ خير الدين الرملـي فـي مثـل هـذه الحادثـة بحـرق الذمـي ونحـو ذلـك وحضـر ذلك النصراني في أثر حضور الحاج عمـر خوفـًا علـى نفسـه وكـان إذ ذاك شوكـة الإسلـام قويـة فاشتغـل مع جماعة بمعونة كبار النصارى بمصر بعد أن تحققوا حصول الانتقام وفتنوهم بالمال فأدخلوا على شكوكا وسبكوا الدعوى في قالب آخر وذلك أنه لم يسبه بالألفاظ التي ادعاها الحاج عمر وأنه بعد التسابب صالحه وسامحه وغيروا صورة السؤال الأول بذلك وأحضروه إلى الوالد فامتنع من الكتابة عليه فعاد به الشيخ حسن الكفراوي فحلف لا يكتب عليه ثانيًا أبدًا وتغير خاطر الحاج عمر من طـرف الشيـخ واختل اعتقاده فيه وسافر إلى دمياط ولم يبلغ قصده من النصراني ومات الشيخ بعد هذه الحادثة بقليل‏.‏

وانتهت رياسة مصر إلى علي بك وارتفع شأن النصارى في أيامه بكاتبه المعلم رزق والمعلم إبراهيم الجوهري فعملوا على نفي المترجم من دمياط فأرسلوا له من قبض عليه في شهر رمضان ونهبوا أمواله من حواصله وداره ووضعوا في رقبته ورجليه القيد وأنزلوه مهانًا عريانًا مع نسائه وأولاده في مركب وأرسلوه إلى طرابلس الشام فاستمر بها إلـى أن زالـت دولـة علـي بـك واستقـل بإمارة مصر محمد بك وأظهر الميل إلى نصرة الإسلام فكلم السيد نجم الدين الغزي محمد بك في شأن رجوعه إلى دمياط فكان أن يجيب لذلك وكنت حاضـرًا فـي ذلـك المجلـس والمعلـم ميخاييـل الجمـل والمعلـم يوسـف بيطـار وقـوف أسفل السدلة يغمزان الأمير بالإشارة في عدم الإجابة لأنه من المفسدين بالثغر ويكون السبب في تعطيل الجمارك فسوف السيد نجم الدين بعد أن كان قرب من الإجابة‏.‏

فلما تغيرت الدولة وتنوسيت القضية وصـار الحـاج عمـر كأنه لم يكن شيئًا مذكورًا رجع إلى الثغر وورد علينا مصر وقد تقهقر حاله وذهبـت نضارتـه وصـار شيخـًا هرمـًا ثـم رجـع إلـى الثغـر واستمـر بـه حتـى توفـي فـي السنـة وكـان لـه مع الله حال يداوم على الإذكار ويكثر من صلـاة التطـوع ولا يشتغـل إلا بمـا يهمـه رحمـه اللـه تعالى‏.‏

ومات الأمير الجليل إبراهيم كتخدا البركاوي وأصله مملوك يوسف كتخدا عزبان البركاوي نشأ في سيـادة سيـده وتولـى فـي مناصـب وجاقهـم وقـرأ القـرآن فـي صغـره وجـود الخـط وحبـب إليـه العلـم وأهله‏.‏

ولما مات سيده كان هو المتعين في رئاسة بيتهم دون خشداشينه لرئاسته وشهامته ففتـح بيـت سيده وانضم إليه خشداشينه وأتباعه واشترى المماليك ودربهم في الآداب والقراءة وتجويد الخط وأدرك محاسن الزمن الماضي‏.‏

وكان بيته مأوى الفضلاء وأهل المعارف والمزايا والخطاطيـن واقتنـى كتبـًا كثيـرة جدًا في كل فن وعلم حتى أن الكتاب المعدوم إذا احتيج إليه لا يوجد إلا عنده ويعير للناس ما يرومونه من الكتب للانتفاع في المطالعة والنقل وبآخره اعتكف فـي بتـه ولـازم حاله وقطع أوقاته في تلاوة القرآن والمطالعة وصلاة النوافل إلى أن توفي في هذه السنة وتبددت كتبه وذخائره رحمه الله تعالى‏.‏

سنة تسع وتسعين ومائة وألف استهل العام بيوم الاثنين فكان الفال بالمنطق وأخذت الأشياء في الانحلال قليلًا‏.‏

وفي سابعه جاءت الأخبار بأن الجماعة المتوجهين لإبراعيم بك في شأن الصلح وهم الشيخ الدردير وسليمان بك الآغ ومرزوق جلبي اجتمعوا بإبراهيم بك فتكلموا معه في شأن ذلك فأجاب بشروط منها أن يكون هو على عادته أمير البلد وعلي أغا كتخدا الجاويشيه على منصبه‏.‏

فلما وصل الرسول بالمكاتبة جمـع مـراد بـك الأمـراء وعرفهـم ذلـك فأجابـوا بالسمـع والطاعة وكتبوا جواب الرسالة وأرسلوها صحبة الذي حضر بها‏.‏

وسافر أيضًا أحمد بك الكلارجي أغا أمين البحرين في حادي عشرة‏.‏

وفي عشرينه وصلت الأخبار بأن إبراهيم بك نقض الصلح الذي حصل وقيل أن صلحه كان مداهنة لأغراض لا تتم له بدون ذلك فلما تمت احتج بأشياء أخر ونقض ذلك‏.‏

وفي سادس صفر حضر الشيخ الدردير وأخبر بما ذكر وأن سليمان بك وسليم أغا استمروا معه‏.‏

وفـي منتصفـه وصـل الحجاج من أمير الحاج مصطفى بك وحصل الحجاج في هذه السنة مشقة عظيمـة مـن الغـلاء وقيـام العربـان بسبـب عوائدهـم القديمة والجديدة ولم يزوروا المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام لمنع السبل وهلك عالم كثير من الناس والبهائم من الجوع وانقطـع منهـم جانـب عظيـم‏.‏

ومنهـم مـن نـزل فـي المراكـب إلـى القلـزم وحضر من السويس إلى القصير ولـم يبـق إلا أميـر الحـج وأتباعـه ووقفـت العربـان لحجـاج المغاربـة في سطح العقبة وحصروهم هناك ونهبوهـم وقتلوهـم عـن آخرهـم ولـم ينـج منهـم غـلا نحـو عشرة أنفار‏.‏

وفي أثناء نزول الحج وخروج الأمـراء لملاقـاة أميـر الحـج هـرب إبراهيـم بك الوالي وهو أخو سليمان بك الأغا وذهب إلى أخيه بالمنية وذهب صحبته من كان بمصر من أتباع أخيه وسكن الحال أيامًا‏.‏

وفي أواخر شهر صفر سافر أيوب بك الكبير وأيوب بك الصغير بسبب تجديد الصلح فلما وصلـوا إلـى بنـي سويف حضر إليهم سليمان بك الأغا وعثمان بك الأشقر باستدعاء منهم ثم أجاب إبراهيم بك إلى الصلح ورجعوا جميعًا إلى المنية‏.‏

وفـي أوائـل ربيـع الـأول حضـر حسـن أغـا بيـت المـال بمكاتبـات بذلك وفي أثر ذلك حضر أيوب بك الصغيـر وعثمـان بـك الأشقـر فقابـلا مـراد بكوقـدم مـراد بـك لعثمـان بـك تقـادم ثـم رجـع أيـوب بـك إلى المنية ثانيًا‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع ربيع الثاني وصل إبراهيم بك الكبير ومن معه من الأمراء إلى معادي الخبيري بالبر الغربي فعدى إليه مراد بك وباقي الأمـراء والوجاقليـة والمشايـخ وسلمـوا عليـه ورجعـوا إلـى مصـر وعـدى فـي أثرهـم إبراهيـم بـك ثـم حضـر إبراهيـم بـك فـي يـوم الثلاثاء إلى مصر ودخل إلى بيته وحضر إليه في عصريتها مراد بك في بيته وجلس معه حصة طويلة‏.‏

وفـي يـوم الأحـد عاشـره عمـل الديـوان وحضرت لإبراهيم بك الخلع من الباشا فلبسها بحضرة مراد بك والأمراء والمشايخ وعند ذلك قام مراد بك وقبل يده وكذلك بقية الأمراء وتقلد علي أغاء كتخـدا الجاويشية كما كان وتقلد علي أغا أغات مستحفظان كما كان فاغتاظ لذلك قائد أغا الـذي كـان ولـاه مـراد بـك وحصـل لـه قلـق عظيم وصار يترامى على الأمراء ويقع عليهم في رجوع منصبـه وصـار يقـول‏:‏ إن لـم يـردوا إلـي منصبـي وإلا قتلـت علـي أغـا‏.‏

وصمـم إبراهيـم بـك علـى عدم عـزل علـي أغـا واستوحـش علـي أغـا وخـاف على نفسه من قائد أغا ثم أن أبراهيم بك قال‏:‏ إن عـزل علـي أغـا لا يتولاها قائد أغا أبدًا‏.‏

ثم إنهم لبسوا سليم أغا أمين البحرين وقطع منها أمل قائد أغا وما وسعه إلا السكوت‏.‏

وفي منتصف جمادى الآخرة خرج عثمان بك المذكور بمماليكه وأجناده مسافرًا إلى الصعيد بنفسه ولم يسمع لقولهم ولم يلبس تقليدًا لذلك على العادة فأرسلوا له جماعة ليردوه فأبى من الرجوع‏.‏

وفيه كثر الموت بالطاعون وكذلك الحميات ونسي الناس أمر الغلاء‏.‏

وفي يوم الخميس مات علي بك أباظة الإبراهيمي فانزعج عليه إبراهيم بـك وكـان الأمـراء خرجـوا بأجمعهـم إلـى ناحيـة قصـر العينـي ومصـر القديمـة خوفـًا مـن ذلـك‏.‏

فلما مات علي بك وكثير من مماليكهم داخلهم الرعب ورجعوا إلى بيوتهم‏.‏

وفي يوم الأحد طلعوا إلى القلعة وخلعوا علي لاجين بك وجعلوه حاكم جرجًا ورجع إبراهيم بك إلى بيته أيضًا وكان إبراهيم بك إذ ذاك قائمقام‏.‏

وفيه مات أيضًا سليمان بك أبو نبوت بالطاعون‏.‏

وفي منتصف رجب خف أمر الطاعون‏.‏

وفـي منتصـف شعبـان ورد لخبـر بوصـول بـاش مصـر الجديـد إلى ثغر سكندرية وكذلك باش جدة ووقـع قبـل ورودهمـا بأيام فتنة بالإسكندرية بين أهل البلد وأغات القلعة والسردار بسبب قتيل من أهل البلد قتله بعض أتباع السردار فثار العامة وقبضوا على السردار وأهانوه وجرسوه على حمار وحلقوا نصف لحيته وطافوا به البلد وهو مكشوف الرأس وهم يضربونه ويصفعونه بالنعالات‏.‏

وفيـه أيضـًا وقعـت فتنـة بيـن عربـان البحيـرة وحضـر منهـم جماعـة إلـى إبراهيـم بـك وطلبـوا منـه الإعانـة على أخصامهم فكلم مراد بك في ذلك فركب مراد بك وأخذهم صحبته ونزل إلى البحيرة فتواطـأ معـه الأخصـام ورشـوه سـرًا فركـب ليـلًا وهجـم علـى المستعينيـن بـه وهـم في غفلة مطمئنين فقتل منهم جماعة كثيرة ونهب مواشيهم وإبلهم وأغنامهم ثم رجع إلى مصر بالغنائم‏.‏

وفـي غايـة شعبـان حضـر باشـة جـدة إلـى ساحـل بولـاق فركـب علـي أغا كتخدا الجاويشية وأرباب وفي غرة رمضان ثارت فقراء المجاورين والقاطنين بالأزهر وقفلوا أبواب الجامع ومنعـوا منـه الصلوات‏.‏

وكان ذلك يوم الجمعة فلم يصل فيه ذلك اليوم وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له ومسجد المشهد الحسيني وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره وتبعهم في ذلك الجعدية وأرذال السوقة‏.‏

وسبب ذلك قطع رواتبهم وأخبازهم المعتادة واستمروا على ذلك إلى بعد العشاء فحضر سليم أغا أغات مستحفظان إلى مدرسة الأشرفية وأرسل إلى مشايخ الأروقة والمشار إليهم في السفاهة وتكلـم معهـم ووعدهم والتزم لهم بإجراء رواتبهم فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن شهر شوال الموافق لتاسع مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك وكانت زيادتـه كلها في هذه التسعة أيام فقط ولم يزد قبل ذلك شيئًا واستمر بطول شهر أبيب وماؤه أخضر فلما كان أول شهر مسرى زاد في ليلة واحدة أكثر من ثلاثة أذرع واستمرت دفعات الزيادة حتى أوفى أذرع الوفاء يوم التاسع وفيه وقع جسر بحر أبي المنجا بالقلوبية فيعينوا له أميـرًا فأخـذ معـه جملة أخشاب ونزل وصحبته ابن أبي الشوارب شيخ قليوب وجمعوا الفلاحين ودقوا له أوتادًا عظيمة وغرقوا به نحو خمسة مراكب واستمروا في معالجة سده مدة أيام فلم ينجع من ذلك شيء وكذلك وقع ببحر مويس‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن ثامـن عشـر القعـدة سافـر كتخـدا الجاويشيـة وصحبتـه أربـاب الخدم إلى الإسكندرية لملاقاة الباشا والله تعالى أعلم‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات الشيخ الإمام العارف المتفنن المقرئ المجود الضابط الماهر المعمر الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين الشافعي الأحمدي ثم الخلوتي السمنودي الأزهري المعروف بالمنير ولد بسمنود سنـة 1099 وحفـظ القـرآن وبعـض المتـون وقـدم الجامـع الأزهـر وعمره عشرون سنة فجود القرآن على الإمام المقرئ علي بن محسن الرملي وتفقه على جماعة منهـم الشيـخ شمـس الديـن محمـد السجيمي والشيخ علي أبي الصفا الشنواني وسمع الحديث على أبي حامد البديري وأبي عبد الله محمد بن محمد الخليلي وأجازه في سنة 1132 وأجازه كذلـك الشيـخ محمد عقيلة في آخرين وأخذ الطريقة ببلده على سيدي علي زنفل الأحمدي ولما ورد مصـر اجتمـع بالسيـد مصطفـى البكري فلقنه طريقة الخلوتية وانضوى إلى الشيخ شمس الدين محمد الحفني فقصر نظره عليه واستقام به عهده فأحياه ونور قلبه واستفاض منه فلم يكن ينتسـب فـي التصوف إلا إليه‏.‏

وحصل جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق على عدة من الرجال وكان ينزل وفق المائة في المائة وهو المعروف بالمئيني ويتنافس الأمراء والملوك لأخذه منـه وأحـدث فيهـا طرقـًا غريبة غير ما ذكره أهل الفن وقد أقرأ القرآن مدة وانتفع به الطلبة وقرأ الحديـث‏.‏

وكـان سنـده عاليـًا فتنبـه بعـض الطلبـة فـي الأواخـر فأكثـروا الأخـذ عنـه‏.‏

وكان صعبًا في الإجازة لا يجيز أحدًا إلا إذا قرأ عليه الكتاب الذي يطلب الإجازة فيه بثمامه ولا يرى الإجازة المطلقة ولا المراسلة حتى أن جماعة من أهالي البلاد البعيدة أرسلوا يطلبون منه الإجازة فلم يرض بذلك وهذه الطريقة في مثل هذه الأزمان عسرة جدًا‏.‏

وفي أواخره انتهى إليه الشأن وأشيـر إليـه بالبنـان وذهبـت شهرتـه في الآفاق وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق وكف بصره وانقطـع إلـى الذكـر والتدريـس فـي منزلـه بالقـرب مـن قنطـرة لموسكـي داخـل العطفـة بسويقـة الصاحب ولازم الصوم نحو ستين عامًا ووفدت عليه الناس من كل جهة وعمر حتى ألحق الأحفاد بالأجداد وأجاز وخلف وربما كتـب الإجـازات نظمـًا علـى هيئـة إجـازات الصوفيـة لتلامذتهـم فـي الطريـق ولـم يـزل يبـدي ويعيـد ويعقـد حلـق الذكـر ويفيـد إلـى أن وافاه الأجل المحتوم في هـذه السنـة وجهـز وكفـن وصلـي عليـه بالأزهر في مشهد حافل وأعيد إلى الزاوية الملاصقة لمنزله وكثر عليه الأسف‏.‏

ومـات الشيـخ الإمام الفاضل الصالح علي بن علي بن علي بن علي بن مطاوع العزيزي الشافعي الأزهري أدرك الطبقة الأولى من المشايخ كالشيخ مصطفى العزيـزي والشيـخ محمـد السحيمـي والدفري والملوي وأضرابهم وتفقه عليهم ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلبة وقرأ دروسًا بمشهـد شمـس الديـن الحنفـي وكـان يسكـن فـي بولـاق ويأتـي كـل يوم إلى مصر لإلقاء الدروس‏.‏

وكان إنسانـًا حسنـًا صبـورًا محتسبـًا فصيحـًا مفوهـًا لـه اعتقـاد فـي أهـل اللـه‏.‏

توفـي تاسـع ربيـع الثانـي سنة تسع وتسعين هذه‏.‏ ومات

الإمام الصالح الناسك المجود السيد علي بن محمد العوضي البدري

الرفاعي المعروف بالقراء وهو والد صاحبنا العلامة السيد حسن البدري ولد بمصر وحفظ القرآن وجوده على شيـخ القـراء شهـاب الدين أحمد بن عمر الاسقاطي وبه تخرج وأقرأ القرآن بالسبعة كثيرًا بالجامع الأزهر وبرواق الأروام وانتفع به الطلبة طبقة بعد طبقـة‏.‏

وكـان لـه معرفـة ببعـض الأسـرار والروحانيات وغير ذلك‏.‏

ومـات الاختيـار المفضـل المبجـل علـي بن عبد الله الرومي الأصل مولى درويش أغا المعروف الآن بمحرم أفندي باش اختيار وجاق الجاويشية كان لكونه خدم عنده وهو صغير اشتغل بالخط وجوده على المرحوم حسن الضيائي وعبد الله الانبس وأدرك الطبقة منهم ومهر فيه وأنجب ولم يكونا أجازاه فعمل له مجلسًا في منزل المرحوم علي أغا وكيل دار السعادة واجتمع فيه أرباب الفن من الخطاطين وأجازه حسن أفندي الرشدي مولى علي أغا المشار إليه وكان يومًا مشهودًا‏.‏

ولقب بدرويش وكتب بخطه كثيرًا وحج سنة 1171 واجتمع بالحرمين على الأفاضل وتلقى منهم أشياء وعاد إلى مصر واجتمع بأديب عصره محمد بن عمر الخوانكي أحد تلامذة الشهاب الخفاجي فتعلق بعنايته بالأدب وصار في محفوظيته جملة من أشعاره وقصائده وجملة من قصائد الأرجاني وجملة من المقامات الحريرية وعني بحفظ القرآن فحفظه على كبره وتعب فيـه وحفـظ أسمـاء أهـل بـدر وكـان دائمـًا يتلوهـا‏.‏

ولأجله ألف شيخنًا السيد محمد مرتضى شرح الصـدر فـي شـرح أسمـاء أهـل البـدر فـي عشريـن كراسـًا والتفتيـش فـي معنـى لفظ درويش كراسًا‏.‏

ولازم المذكور منذ قدم مصر وسمع عليه مجالس من الصحيح والمسلسل بالأسودين وبالعيد والشمائـل والأمالـي وجـود عليـه شيخنـا المذكـور فـي الخط وقد صاهرت المترجم وتزوجت بربيبته في أواخر سنة خمس وتسعين برغبة منه وهي أم الولد خليل فتح الله عليه ولما حصلت النسابـة والمصاهـرة حولته بعياله إلى منزلي لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعايش‏.‏

ولما عاشرته بلـوت منـه خيـرًا ودينـًا وصلاحـًا وكان لا ينام من الليل إلا قليلًا ويتبتل إلى مولاه تبتيلًا فيصلي ما تيسر من النوافل ثم يكمل بتلاوة القرآن المرتلـة مـع التدبـر لمعانـي الآيـات المنزلـة وكـان حسـن السمـت نظيـف الثيـاب عظيـم الشيبـة منـور الوجـه وجيه الطلعة مهيب الشكل سليم الطويلة مقبول الروحانية ملازمًا على حضور الجماعة حريصًا على إدراك الفضائل‏.‏

توفي جمادى الأولى عن نيف وتسعين سنة ولم تهن قواه ولم يسقط له سن ويكسر اللوز بأسنانه ودفناه بجوار الإمام أبي جعفر الطحاوي لأنه كان ناظرًا عليه رحمه الله‏.‏

ومات الأستاذ الفاضل والمستعد الكامل ذو النفحات والإشارات السيد علي بن عبد الله بن أحمد العلوي الحنفي سبط آل عمر صاحبنا ومرشدنا ووالده أصله من توقاد وولد هو في مصر سنة 1173 وعاني الفنون ومهر وأنجب في كل شيء عاناه في أقل زمن بحيث أنه إذا توجهت همته لعلم من العلوم الصعبة وطالع فيه أدركه وأظهر مخبئاته وثمراته وألف فيه وأظهر عجائب أسراره ومعانيه في زمن قليل وكان حاد الذهن جدًا دراكًا قوي الحافظة يحفظ كل شيء سمعه أو مر عليه ببصره ولازم في مبتدأ أمره شيخنا السيد محمد مرتضى كثيرًا وقرأ عليه الفصيح لثعلب وفقه اللغة للثعالبي وأدب الكاتب لابن قتيبة في مجالس دراية وسمع منه كثيـرًا مـن شرحـه علـى القامـوس وكتـب عنـه بيده أجزاء كثيرة وقرأ عليه الصحيح في اثني عشر مجلسًا في رمضان سنة ثمان وثمانين وسمع عليه أيضًا الصحيح مرة ثانية مشاركًا مع الجماعة مناوبة في القراءة في أربع مجالس ومدة القراءة من طلوع الشمس إلى بعد كل عصر وصحيح مسلـم فـي ستـة مجالـس مناوبـة بمنـزل الشيـخ بخـان الصاغـة‏.‏

وكتـب الأمالـي والطبـاق وضبط الأسماء وقلد خط الصلاح الصفدي في وضعه فأدركه وقرأ عليه أيضًا المقامات الحريرية ورسائل في التصريـف وغيـر ذلـك مما لا يدخل تحت الضبط لكثرته‏.‏

وسمع المسلسل بالعيد وبالأسودين التمر والماء‏.‏

وسمع عليه أوائل الكتب الستة والمعاجم والمسانيد في سنة تسعين بمنهل شيخه مع الجماعة وجزء نبيط بن شريط الأشجعي وبلدانيات السلفي وبلدانيات بن عساكر وأحاديث عاشـوراء تخريـج المنـذري وأحاديـث يـوم عرفة تخريج بن فهد وعوالي بن مالك وثلاثيات البخاري والدارمي وجزأ فيه أخبار الصبيان والخلعيات بتماماها وهي عشرون جزءًا وعرف المترجم العالي من النازل واجتمع بشخينا السيد العيدروس وقربه وأدناه ولازمه وقرأ عليه أشياء من كتب الصوفية ومال إليـه وصـار ينطـق بالشعـر وأقبـل علـى الـأدب والتصـوف ولا زال كذلـك حتى صـار يتكلـم بكلـام عـال‏.‏

وألـف كتابـًا فـي علـم الأوفـاق فـي كراريـس لطيفـة علـى نسـق عجيـب مفيـد وامتـزج بالروحانيـة حتـى أنـي رأيته ينزل الوفق في الكاغد ويضعه على راحة كفه فيرتعش ويلتف ببعضه ثم ينبسط بنفسه كما كان وإذا أخذه غيره ووضعه على مثل وضعه لا يتحرك أبـدًا‏.‏

ومـارس فـي علـم الرمـل أيامـًا فـأدرك منتهـاه واستخـرج منـه مـا لا يستخـرج الممارس فيه سنين مـن الضميـر والمـدة وغيـر ذلـك فـي أسـرع وقـت وألـف فيـه كتابًا لخص فيه قواعده من غير مشقة‏.‏

ومـارس فـي الفلكيـات مـع سليمـان أفنـدي كنيـاذ وصنـف فيـه وفـي غيره‏.‏

وبآخره انجمع عن خلطة الناس وأقبل على ربه وكان قد تزوج بامرأة وكانت تؤذيه وتشتمه وربما كانت تضربه وهو صابر عليها مقبل على شأنه وألف أورادًا وأحزابًا وأسماء على طريقة الأسماء السهر وردية عجيبة المشرب بنفس عال غريب وصار يتكلم بكلام لا يطرق الأسماع نظيره ولم يزل على ذلـك حتـى تعلـل ولحق بربه وتوفي في سادس ربيع الأول من السنة وأعقب ولدًا من تلك المرأة التي كان تزوج بها وبالجملة والإنصاف أنه كان من آيات الله الباهرة‏.‏

ودفن بالقرافة بتربة علي أغا صالح رضي الله عنا وعنه ورحمنا أجمعين‏.‏

ومات الشيخ الفقيه الدراكة العلامة السيد سليمان بن طه بن أبي العباس الحريثي الشافعي المقري الشهير بالأكراشي وهي قرية شرقي مصر وحفظ القرآن على الشيخ مصطفى العزيزي خادم النعال بمشهد السيدة سكينة وأعاده بالعشر على الشيخ عبد الرحمن الأجهوزي المقري وأجازه في محفل عظيم في جامع ألماس وسمع وحضر دروس فضلاء وقته ومهر فـي فقـه المذهب ودرس في جامع الماس وغيره وسمع مـن شيخنـا السيـد مرتضـى المسلسـل بالأوليـة بشرطه والمسلسل بالعيد وبالمحبة وبالقسم وبقراءة الفاتحة في نفس واحد وبالالباس والتحكيم وسمـع الصيحيـن بطرفيهمـا فـي جماعـة بجامـع شيخـون بالصليبـة وسمـع أجـزاء البلدانيـات للحافظ أبي طاهر السلفي وجزء النيل وجزء يوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك‏.‏

وله تآليف وجميعات ورسائـل فـي علـوم شتـى‏.‏

ولمـا اجتمع بشيخنا المذكور ورأى ملازمة السيد علي المترجم آنفًا به في أكثر أوقاته ونظر نجابته وما فيه من قوة الفهم والاستعـداد لامـه علـى ملازمتـه للسيـد وانقطاعه عن بقية العلوم وقال له‏:‏ هذا شيء سهل يمكن تحصيله في زمن قليل وقد قرأت وحصلت ما فيه الكفاية والأولى أن تشغل بعض الزمن بتحصيل المعقولات وغيرها فإن مثلك لا يقتصـر علـى فـن مـن الفنـون والاقتصـار ضيـاع‏.‏

فقبـل منـه واشتغل عليه وعلى غيره وانقطع بسبب الاشتغال عن كثرة الترداد على الشيخ كعادته وعلم ذلك فانحراف على كل منهما وبالخصوص على السيد علي وصعب عليه جدًا وأدى ذلك إلى الانقطاع الكلي‏.‏

ولما مات الشيخ العزيزي تنزل المترجم في مشيخة القراء بمقام السيدة نفيسة رضي الله عنها وكان إنسانًا حسنًا جامعًا للفضائل وحضر معنا الهداية في فقه الحنفية على شيخنا المرحوم العلامـة الشيـخ مصطفـى الطائـي الحنفـي وكـان يناقـش فـي بعـض المسائـل المخالفـة لمذهبه إلى أن وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومـات أوحـد الفضـلاء وأعظـم النبـلاء العلامـة المحقـق والفهامـة المدقـق الفقيـه النبيـه الأصولـي المعقولـي المنطقي الشيخ أبو الحسن بن عمر القلعي ابن علي المغرب المالكي قدم إلى مصر في سنة 1154 وكان لديه استعداد وقابلية وحضر أشياخ الوقت مثل البليدي والملوى والجوهري والحفنـي والضيـخ الصعيـدي واتحد بالشيخ الوالد وزوجه زوجة مملوكه مصطفى بعد وفاته وهي خديجـة معتوقـة المرحـوم الخواجا المعروف بمدينة وأقامت معه نحو الأربعين سنة حتى كبر سنها وهرمت وتسرى عليها مرتين ولما حضر المرحوم محمد باشا راغب واليًا على مصر اجتمع به ومارسـه وأحبـه وشـرح رسالتـه التـي ألفهـا فـي علـم العـروض والقوافـي ولمـا عزل راغب وذهب إلى دار السلطنة وتولى الصدارة سافر إليه المترجم فأجله وأكرمه ورتب له جامكيـة بالضربخانـة بمصر ورجع إلـى مصـر وتولـى مشيخـة رواق المغاربـة ثلـاث مـرات بشهامـة وصرامـة زائـدة‏.‏

وسبب عزله في المرة الوسطى أن بعض المغاربة تشاجر مع الشيخ علي الشنويهي وانتصر هو للمغاربة لحمية الجنسية ونهر الشيخ علي فذهب الشيخ علي واشتكاه إلى علي بك في أيام إمارته أحضره علي بك فتطاول على الشيخ علي بحضرة الأمير وادعى الشيخ علي أنه لطمه على وجهه في الجامع فكذبه المترجم فحلف الشيخ علي بالله على ذلك فقال له المترجم‏:‏ احلف بالطلاق فاغتاظ منه الأمير علي بك وصرفهما وأرسل في الحال وأحضر الشيخ عبد الرحمن البناني وولاه مشيخة الرواق وعزل الشيخ أبا الحسن وانكسف باله لذلك ثم أعيد بعد مـدة إلى المشيخة وكان وافر الحرمة نافذ الكلمة معدودًا من المشايخ الكبار مهاب الشكل منور الشيبة مترفهًا في ملبسه ومأكله يعلوه حشمة وجلالة ووقار إذا مر راكبًا أو ماشيًا قام الناس إليه وبادروا إلى تقبيل يده حتى صار ذلك لهم عادة وطبيعة لازمة يرون وجوبها عليهم‏.‏

وللمترجم تأليفات وتقييدات وحواش نافعة منها حاشية علي الأخضري على سلمه وحاشية علـى رسالـة العلامـة محمـد أفنـدي الكرمانـي فـي علـم الكلـام فـي غايـة الدقـة تدل على رسوخه في علم المنطق والجدل والمعاني والبيان والمعقولات وشرح على ديباجة شرح العقيدة المسماة بأم البراهين للإمام السنوسي وله كتـاب ذيـل الفوائـد وفرائـد الزوائـد علـى كتـاب الفوائـد والصلـاة والعوائد وخواص الآيات والمجربات التي تلقاها من أفواه الأشياه وكتاب في خواص سورة يس وغير ذلك‏.‏

وأخذ عن المرحوم الوالد كثيرًا من الحكميات والمواقف والهداية للأبهري والهيئة والهندسـة‏.‏

ولـم يـزل مواظبـًا علـى تردده عليه وزيارته في الجمعة مرتين أو ثلاثة ويراعي له حق المشيخـة والصحبـة فـي حياتـه وبعدهـا وكـان سليم الباطن مع ما فيه من الحدة إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ المعتقد عبد الله بن إبراهيم بن أخي الشيخ الكبير المعروف بالموافي الشافعي السندوبي الرفاعي نزيل المنصورة ولد ببلده منية سندوب سنة 1140 وحفظ القرآن وبعض المتون وقدم المنصورة فمكث تحت حيازة عمه في عفة وصلاح وحضر دروس الشيخ أحمد الجالـي وأخيـه محمـد الجالـي وانتفـع بهمـا فـي فقـه المذهب فلما توفي عمه في سنة إحدى وستين أجلس مكانه في زاويتـه التـي أنشأهـا عمـه فـي مؤخـر الجامـع الكبيـر بالمنصـورة وسلـك علـى نهجـه فـي أحياء الليالي بالذكر وتلاوة القرآن وكان يختم في كل يوم وليلة مرة وربى التلاميذ وصارت له شهرة زائدة مع الانجماع عن الناس لا يقوم لأحد ولا يدخل دار أحد وفيه الاستئناس وعند فوائـد يذاكر بها ويشتغل دائمًا بالمطالعة والمذاكرة واعتقده الخاص والعام‏.‏

ولما سافرنا إلى دمياك سنـة تسـع وثمانيـن وجزنا بالمنصورة وطلعناها ذهبنا إلى جامعها الكبير ودخلنا إليه في حجرته فوجدته جالسًا على فراش عال بمفرده بجانب ضريح عمه وهو رجل نير بشوش فرحب بنا وفـرح بقدومنـا وأحضـر لنـا طبقـًا فيـه قراقيـش وكعـك وشريـك وخبـز يابـس ولبـن وبوسطـه دقـة وجبـن فأكلنا ما تيسر وسقانا قهوة في فنجان كبير وتحدث معنا ساعة ودعـا لنـا بخيـر وودعنـاه وسافرنا في الوقـت‏.‏

ولـم أره غيـر هـذه المـرة‏.‏

وهـو إنسـان حسـن جامـع للفضائـل توفـي فـي السنـة ولـم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات السيد الإمام العلامة الفقيه النبيه السيد مصطفى بن أحمد ابن محمد البنوفري الحنفي أخذ الفقه عن والده وعن السيد محمد أبي السعود والشيخ محمد الدلجـي والشيـخ الزيـادي وغيرهـم وحضـر المعقول على علماء العصر كالشيخ عيسى البراوي وغيره ودرس في محل والده بالقرب من رواق الشوام إلا أنه لم يكن له حظ في الطلبة فكان يأتي كل يوم الجامع ويجلس وحـده ساعـة ثم يقوم ويذهب إلى بيته بسويقة العزى وكان لا يعرف التصنع وفيه جذب ويعود المرضي كثير الأغنياء والفقراء توفي في السنة رحمه الله‏.‏

ومـات العلامـة المتقـن والفهامـة المتفنـن أحـد الأعلـام الرواسخ وشيخ المشايخ الفقيه النحوي الأصولي المعقولي المنطقي ذو المعاني والبيان وحلال المشكلات بإتقان الصالح لقانع الورع الزاهد الشيـخ محمـد بـن محمـد بـن محمـد بـن مصطفى بن خاطر الفرماوي الأزهري الشافعي البهوتي نسبة إلى قبيلة البهتة جهة الشرق ولد بمصر رباه والده وحفظ القرآن والمتون وحضر على أشياخ العصـر الملـوي والجوهري والطحلاوي والبراوي والبليدي والصعيدي والشيخ علي قايتباي والمدابغي والأجهوري وأنجب فق الفقه والمعقول ودرس وأفاد الطلبة واشتهر بالفتوح على كل من أخذ عنه حتى صار له المشيخة على غالب أهل العلم من الطبقة الثانية‏.‏

وكان مذهب النفس جدًا لين الجانب متواضعًا منكسر النفس لا يرى لنفسه مقامًا يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلًا على شأنه ملازمًا على الاشتغال والإفادة والمطالعة‏.‏

وممـا اتفـق لـه أنـه قـرأ البخـاري والمنهـج صبية النهار والقطب على الشمسية في الضحوة والاشوني وقـت الظهـر وابـن عقيـل بعـد العصـر والشنشوري بعد المغرب كل ذلك في آن واحد ويحضره في ذلـك جـل الأفاضـل وهـذا لـم يتفـق لغيـره مـن أقرانـه ولـم يـزل علـى حالتـه حتى توفي في آخر يوم من رجب من السنة وخلف ولده العمدة الفاضل الصالح الشيخ مصطفى على قدم والده وأسلافه من الإفادة وملازمة الإقراء أعانه الله على وقته ونفع به‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة والنحرير الفهامة محمد بن عبد ربه ابن علي العزيزي الشهير بابن السـت ولدسنـة 1118 بمصر وسبب تسميته بابن الست أن والدته كانت سرية رومية اشتراها أبوه وأولدها إياه وكان قد تزوج بحرائر كثيرة فلم يلدن إلا الإناث حتى قيل أنه ولد له نحو ثمانين بنتًا فاشترى أم ولده هذا فولدته ذكرًا ولم تلد غيره ففرح به كثيرًا ورباه في عز ورفاهية وقرأ القرآن مع الشيخ علي العدوي في مكتب واحد فلذلك اعتشر بالمالكية وصار مالكي المذهب‏.‏

ولما ترعرع أراد الانتقال إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فرأى الشافعي في المنام وأشار عليه بعدم الانتقال فاستمر مالكي المذهب وتفقه على الشيخ سالم النفراوي واللقاني والشبراملسي وسمع على الشيخ عبد ابن علي النمرسي المسلسـل بالأوليـة وأوائل الكتب الستة وسنن النسائي الصغرى المسماة بالمجتبي والمسلسل بالمصافحة والمشابكة والسبحـة وغيـر ذلـك وأخـذ عليه أيضًا ملا عصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الجزرية لشيخ الإسلام وأوائل تفسير القاضي البيضاوي مع البحث والتدقيق وأجازه بما يجوز له وعنه روايته بشرطه وأخذ المعقول عن الشيخ أحمد الملوي والشيخ عبده الديوى والشيخ الاطفيحي والخليفي وأخذ طريق الشاذليـة عـن الشيـخ أحمـد لجوهـري والشيـخ الملـوي وهمـا أخذاها عن سيدي عبد الله بن محمد المغرب القصري الكنكسي‏.‏

وكان المترجم على قدم السلـف لا يتداخل في أمور الدنيا ولا يتفاخر في ملبس ولا يركب دابة ولا يدخل بيت أمير ولا يشتغل بغير العلم ومدارسته ويشهد له معاصروه بالفضل وإتقان العلوم والديانة‏.‏

وسمعت منه المسلسل بالأولية وأجازني بمسموعاته ومروياته وتلقيت عنه دائرة الشاذلي وأجازني بوضعهـا ورسمها ونقطة مركزها كل ذلك في مجلس واحد بمنزلي ببولاق بشاطئ النيل سنة 1190‏.‏

وكان يجيئني ويودني ويقول لي‏:‏ أنت ابن خالتي لكون والدتي ووالدته من السراري‏.‏

وصنف حاشيـة علـي الزرقانـي علـى العزيـة وهـي مستعملـة بأيدي الطلبة وديباجة وخاتمة على أبي الحسن على الرسالة وخاتمة على شرح الخرشي وديباجة على أيساغوجي في المنطق وحاشية علي الحفيد على العصام وتكملة على العشماوية وشرحًا على آية الكرسي وشرحًا على الحوضية فـي التوحيـد ولـم يـزل مقبـلًا على شأنه وحاله حتى توفي في هذه السنة عن أربع وثمانين سنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومـات السيـد الأجـل المبجـل السيـد أحمـد بـن عبـد الفتـاح بن طه بن عبد الرزاق الحسيني الحموي القـادري ولد أبوه السيد عبد المفتاح بحماه وارتحل بكريميه رقية وفاطمة ابنة السيد طه فزوج الأولى بأحد أعيان مصر بن حسين الشمسي وهي أم أولاده حسن وحسين وعثمان ومحمود ورضوان وتزوجت السيدة فاطمة بعلي أفندي البكري أخي سيدي بكري الصديقي فأولدها محمد أفندي نقيب السادة الأشراف وهو والد محمد أفندي الأخير وأقام والده السيد عبد الفتـاح بمصـر مـدة وتنـزل فـي بعـض المناصـب ثـم توجـه إلـى ملك الروم فأكرمه ووجه له بعناية بعض الأعيان نقابة الأشراف بمصر وحضر إلى مصر وقرئ المرسوم الوارد بذلك وكاد أن يتم لـه الأمـر فلـم يمكـن مـن ذلـك بتوقيـة بعـض الأمراء وحنقوا عليه حيث توجه من مصر إلى الروم خفية ولم يأخذ منهم عرضًا وجعل له شيء معلوم من بيت النقابة وبقي ممنوعًا عنها‏.‏

وكان سيدًا محتشمًا فصيح اللسان بهي الشكل وتزوج ببنت سيدي مكي الوارثي وولد له منها السيد أحمـد المترجـم وتربى ببنت سيدي مكي الوارثي وولد له منها السيد أحمد المترجم وتربى في العـز والرفاهيـة ببيتهم المعروف بهم بالأزبكية بخط الساكت وكان إنسانًا حسنًا مترفهًا في مأكله وملبسه منجمعًا عن الناس إلا لمقتضيات لا بد له منها‏.‏

توفي رحمه الله في هذه السنة ولم يعقب‏.‏

ومات الشيخ الصالح الماهر الموفق علي بن خليل شيخ القبان بمصر وكـان ماهـرًا فـي علـم الحسـاب ومعرفة الموازين والقرسطون المعروف بالقبان ودقائقه وصناعته ولما عني المرحوم الوالد أمـر الموازيـن وتصحيحها وتحريرها في سنة اثنتين وسبعين وصنف في ذلك العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين طالعه عليه وتلقاه عنه مع مشاركة الشيخ حسن بن ربيع البولاقي وأتقنا ذلك وتميـزا بـه دون أهـل فنهمـا‏.‏

وكـان المترجـم إنسانـًا بشوشـًا منـور الشيبـة ولديه آداب ونوادر ومناسبات وحج مرارًا أو أثرى وتمول ثم تقهقر حاله ولزم بيته إلى أن توفي في هذا العام ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومـات الشريـف الحسيب النسيب السيد مصطفى بن السيد عبد الرحمن العيدروس وهو مقتبل الشيبية وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بمقام العتريس تجاه مشهد السيد زينب وكانت وفاته رابع عشرين ربيع الأول من السنة رحمه الله‏.‏

سنة مائتين وألف كان أول المحرم يوم الجمعة وفي ذلك اليوم وصل الباشا الجيد إلى برانبابة واسمه محمد باشا يكـن فبـات ليلـة الجمعـة هنـاك وفـي الصباح ذهب إليه الأمراء وسلموا عليه على العادة وعدوا به إلـى قصـر العينـي فجلـس هنـاك إلـى يـوم الاثنيـن رابعـه وركـب بالموكـب وشق من الصليبة وطلع إلى وفـي يـوم الخميـس ثانـي عشـر صفـر حضـر مبشـر الحـاج بمكاتيـب العقبـة وأخبـر أن الحجـاج لم يزوروا المدينة أيضًا في هذه السنة مثل العام الماضي بسبب طمع أمير الحاج في عدم دفع العوائد للعربـان وصـرة المدينـة وأن أحمـد باشـا أميـر الحـاج الشامـي أكـد عليه في الذهاب وأنعم عليه بجملة مـن المـال والعليـق والذخيـرة فاعتـل بـأن الأمـراء بمصـر لـم يوفوا له العوائد ولا الصرة في العام الماضي وهذا العام واستمر على امتناعه‏.‏

وحضر الشريف سرور شريف مكة وكلمه بحضرة أحمد باشا وقال‏:‏ إذا كان كذلك فنكتب عرض محضر ونخبر السلطان بتقصير الأمراء وتضع عليه خطـك وختمـك وللسلطـان النظـر بعـد ذلك‏.‏

فأجاب إلى ذلك ووضع خطه وختمه وحضر إليهم الجاويـش فـي صبحهـا فخلعـوا عليـه كالعـادة ورجع بالملاقاة وخرج الأمراء في ثاني يوم إلى خارج بأجمعهم ونصبوا خيامهم‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن وصـل الحجـاج ودخلـوا إلـى مصـر ونـزل أميـر الحـج بالجنبلاطيـة ببـاب النصـر ولـم ينزل بالحصـورة أولًا علـى العـادة وركب في يوم الثلاثاء ودخل بالمحمل بموكب دون المعتاد وسلم المحمل إلى الباشا‏.‏

وفي يوم الأربعاء اجتمع الأمراء ببيت إبراهيم بك وأحضروا مصطفى بك أمير الحج وتشاجر معه إبراهيم بك ومراد بك بسبب هذه الفعلة وكتابة العرضحال وادعوا عليه أنه تسلم جميع الحمائـل وطلبـوا منـه حسـاب ذلـك واستمـروا علـى ذلـك إلـى قـرب المسـاء‏.‏

ثـم أن مـراد بـك أخـذ أميـر الحـاج إلـى بيتـه فبـات عنـده وفـي صبحهـا حضـر إبراهيـم بـك عنـد مراد بك وأخذ أمير الحاج إلى بيتـه ووضعـه فـي مكـان محجـوزًا عليـه وأمـر الكتـاب بحسابـه فحاسبـوه فاستقـر في طرفه مائة ألف ريال وثلاثة آلاف وذلك خلاف ما على طرفه من الميرى‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة طلـع إبراهيم بك إلى القلعة وأخبر الباشا بما حصل وأنه حبسه حتى يوفي ما استقر بذمته فاستمر أيامًا وصالح وذهب إلى بيته مكرمًا‏.‏

وفي ذلك اليوم بعد صلاة الجمعة ضج مجاور والأزهر بسبب أخبازهم وقفلوا أبواب الجامع فحضـر إليهـم سليـم أغـا والتـزم لهـم بإجـراء رواتبهـم بكـرة تاريخـه فسكنـوا وفتحـوا الجامـع وانتظـروا ثاني يوم فلم يأتهم شيء فأغلقوه ثانيًا وصعدوا على المنارات يصيحون فحضر سليم أغا بعد العصر ونجز لهم بعض المطلوبات وأجرى لهم الجراية أنامًا ثم انقطع ذلك‏.‏

وتكرر الغلق والفتح مرارًا‏.‏

وفي ليلة خروج الأمـراء إلـى ملاقـاة الحجـاج ركـب مصطفـى بـك الإسكنـدري وأحمـد بـك الكلارجي وذهبا إلى جهة الصعيد والتفا على عثمان بك الشرقاوي ولاجين بك وتقاسموا الجهات والبلاد وأفحشوا في ظلم العباد‏.‏

وفـي منتصف ربيع الأول شرع مراد بك في السفر إلى جهة بحري بقصد القبض على رسلان والنجار قطاع الطريق فسافر وسمع بحضوره المذكوران فهربا فأحضر بن حبيب وابن حمـد وابن فودة وألزمهم بإحضارهما فاعتـذروا إليـه فحبسهـم ثـم أطلقهـم علـى مـال وذلـك بيـت القصيد وأخذ منهم رهائن ثم سار إلى طملوها وطالب أهلها برسلان ثم نهب وسلب أموال أهلهـا وسبى نساءهم وأولادهم ثم أمر بهدمها وحرقها عن آخرها ولم يزل ناصبًا وطاقه عليها حتى أتى على آخرها هدمًا وحرقًا وجرفها بالجراريف حتى محوا أثرها وسووها بالأرض وفـرق كشافـه فـي مـدة إقامتـه عليهـا فـي البلـاد والجهـات لجبـي الأمـوال وقـرر علـى القرى ما سولته له نفسه ومنع من الشفاعة وبث المعينين لطلب الكلف الخارجة عن المعقول فإذا استوفوها طلبوا حق طرقهم فإذا استوفوها طلبوا المقرر وكل ذلك طلبًا حثيثًا وإلا أحرقوا البلدة ونهبوها عن آخرهـا ولـم يـزل فـي سيـره علـى هـذا النسق حتى وصل إلى رشيد فقرر على أهلها جملة كبيرة من المال وعلى التجار وبياعي الأرز فهرب غالب أهلها وعين على إسكندرية صالح أغا كتخدا الجاويشية سابقًا وقرر له حق طريقه خمسة آلاف ريال وطلب من أهل البلد مائة ألف ريال وأمر بهدم الكنائس فلما وصل إلى إسكندرية هربت تجارها إلى المراكب وكذلك غالب النصارى فلم يجد إلا قنصل الموسقو فقال‏:‏ أنا أدفع لكم المطلوب بشـرط أن يكـون بموجـب فرمان من الباشا أحاسب به سلطانكم فانكف عن ذلك وصالحوه على كراء طريقه ورجع وارتحل مراد بك من رشيد‏.‏

ولما وصل إلى جميجون هدمها عن آخرها وهدم أيضًا كفرد سوق واستمر هو ومن معه يعبثون بالأقاليم والبلاد حتى أخربوها وأتلفوا الزروعات إلى غرة جمـادى الأولـى‏.‏

فوصلـت الأخبـار بقدومـه إلـى زنكلـون ثـم ثنـى عنانـه وعـرج علـى جهـة الشرق يفعل بهـا فعلـه بالمنوفية والغربية وأما صناجقه الذين تركهم بمصر فإنهم تسلطوا على مصادرات الناس فـي أموالهـم وخصوصـًا حسين بك المعروف بشفت بمعنى يهودي فإنه تسلط على هجم البيوت ونهبها بأدنى شبهة‏.‏

وفـي عصريـة يـوم الخميـس المذكـور ركـب حسيـن بك المذكور بجنوده وذهب إلى الحسينية وهجم على دار شخص يسمى أحمد سالم الجزار متولي رياسة دراويش الشيخ البيومي ونهبه حتى مصاغ النساء والفراش ورجع والناس تنظر إليه‏.‏

وفي عصريتها أرسل جماعة من سراجينه بطلب الخواجا محمود ابـن حسـن محـرم فلاطفهـم وأرضاهم بدراهم وركب إلى إبراهيم بك فأرسل له كتخداه وكتخدا الجاويشية فتلطفوا به وأخذوا خاطره وصرفوه عنه وعبى له الخواجا هدية بعد ذلك وقدمها إليه‏.‏

وفـي صبحهـا يـوم الجمعـة ثـارت جماعـة مـن أهالـي الحسينيـة بسبـب مـا حصـل في أمسه من حسين بك وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول والتف عليهم جماعة كثيرة من أوبـاش العامـة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق وذهبوا إلى الشيـخ الدرديـر فوافقهـم وساعدهـم بالكلـام وقال لهم‏:‏ أنا معكم‏.‏

فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه وطلع منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول وانتشروا بالأسواق في حالة منكـرة وأغلقـوا الحوانيـت‏.‏

وقـال لهـم الشيـخ الدرديـر‏:‏ فـي غـد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكـم وننهـب بيوتهـم كمـا ينهبـون بيوتنـا ونمـوت شهـداء أو ينصرنـا اللـه عليهـم‏.‏

فلما كان بعد المغرب حضـر سليـم أغـا مستحفظـان ومحمـد كتخـدا أنـؤد الجلفـي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه وخافوا من تضاعف الحال وقالوا للشيخ‏:‏ اكتب لنا قائمـة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون‏.‏

واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا وركب الشيـخ فـي صبحهـا إلـى إبراهيـم بـك وأرسـل إلـى حسيـن بـك فأحضـره بالمجلـس وكلمـه فـي ذلـك فقـال في الجواب‏:‏ كلنا نهابون أنت تنهب مراد بك ينهب وأنا أنهب كذلك‏.‏

وانفض المجلس وبردت القضية‏.‏

وفـي عقبهـا بأيـام قليلـة حضـر مـن انحية قبلي سفينة وبها تمر وسمن وخلافه فأرسل سليمان بك الأغـا وأخـذ مـا فيهـا جميعـه وادعـى أن لـه عنـد أولـاد وافـي مـالًا منكسـرًا ولـم يكـن ذلك لأولاد وافي وإنمـا هو لجماعة يتسببون فيه من مجاوري الصعايدة وغيرهم فتعصب مجاورو الصعايدة وأبطلوا دروس المدرسين وركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ محمد المصيلحي وآخرون وذهبوا إلى بيت إبراهيم بك وتكلموا معه بحضرة سليمان بك كلامًا كثيرًا مفحمًا‏.‏

فاحتج سليمـان بـك بـأن ذلـك متاع أولاد وافي وأنا أخذته بقيمته من أصل مالي عندهم فقالوا هذا لم يكـن لهـم وإنمـا هـؤلاء ربابـه نـاس فقـراء فـإن كـان لـك عنـد أولـاد وافـي شـيء فخـذه منهم فرد بعضه وذهب بعضه‏.‏