المجلد الثاني - شهر جمادى الآخرة فيه حضر فرمان من الدولة

بنفي أربعة أغوات وهم عريف آغا وعلي آغا وإدريس آغا واسمعيل آغا فحنق لذلك جوهر آغا دار السعادة وشرع في كتابة مرافعة‏.‏

وفي عاشره وصل فرمان لاسمعيل كتخدا وخوطب فيه بلفظ الوزارة‏.‏

وفي يوم الأحد عمل اسمعيل باشا المذكور ديوانًا في بيته بالأزبكية وحضر الأمراء والمشايخ وقرأوا المكاتبة وفيها الأمر بحساب عابدي باشا وبعد انفضاض الديوان أمر الروزنامجي والأفندية بالذهاب الى عابدي باشا وتحرير حساب الستة أشهر من أول توت الى برمهات لأنها مدة اسمعيل باشا وما أخذه زيادة عن عوائده وأخذ منه الضربخانة وسلمها الى خازنداره وقطعوا راتبه من المذبح‏.‏

وفي عصريتها أرسل الى الوجاقلية والاختيارية فلما حضروا قال لهم اسمعيل باشا بلغني أنكم جمعتم ثمانمائة كيس فما صنعتم بها فقالوا دفعناها الى عابدي باشا وصرفها على العسكر‏:‏ فقال‏:‏ لأي شيء قالوا لقتل العدو قال والعدو قتل قالوا لا قال حينئذ إذا احتاج الحال ورجع العدو أطلب منكم كذلك قدرها قالوا ومن أين لنا ذلك قال إذًا اطلبوها منه واحفظوها عندكم في باب مستحفظان لوقت الاحتياج‏.‏

وفيه تواترت الأخبار باستقرار ابراهيم بك بمنفلوط وبنى له بها دارًا وصحبته أيوب بك وأما مراد بك وبقية الصناجق فإنهم ترفعوا الى فوق‏.‏

وفي يوم الاثنين حضر حسن كتخدا الجربان من الروم وكان اسمعيل بك أرسل يتشفع في حضوره بسعاية محمد آغا البارودي وعلى أنه لم يكن من هذه القبيلة لأنه مملوك حسن بك أبي كرش وحسن بك مملوك سليمان آغا كتخدا الجاويشية ولما حضر أخبر أن الأمراء الرهائن أرسلوهم الى شنق قلعة منفيين بسبب مكاتبات وردت من الأمراء القبالي الى بعض متكلمين الدولة مثل القزلار وخلافه بالسعي لهم في طلب العفو فلما حضر حسن باشا وبلغه ذلك نفاهم وأسقط رواتبهم وكانوا في منزله أعزاز ولهم رواتب وجامكية لكل شخص خمسمائة قرش في الشهر‏.‏

وفي عشرينه تحرر حساب عابدي باشا فطلع لاسمعيل باشا نحو ستمائة كيس فتجاوز له عن نصفها ودفع له ثلثمائة كيس وطلع عليه لطرف الميري نحوها أخذوا بها عليه وثيقة وسامحه الأمراء من حسابهم معه وهادوه وأكرموه وقدموا له تقادم وأخذ في أسباب الارتحال والسفر وبرز خيامه الى بركة الحج‏.‏

وفي أواخره ورد الخبر مع السعاة بوصول الأطواخ لاسمعيل باشا واليرق والداقم الى ثغر الاسكندرية‏.‏

في ثالثه يوم الاثنين سافر عابدي باشا من البر على طريق الشام الى ديار بكر ليجمع العساكر الى قتال الموسقو وذهب من مصر بأموال عظيمة وسافر صحبته اسمعيل باشا الأرنؤدي وأبقى اسمعيل باشا من عسكر القليونجية والأرنؤدية من اختارهم لخدمته وأضافهم إليه وفي عاشره وصلت الأطواخ والداقم الى الباشا فابتهج لذلك وأمر بعمل شنك وحراقة ببركة الأزبكية وحضر الأمراء الى هناك ونصبوا صواري وتعاليق وعملوا حراقة ووقدة ليلتين ثم ركب الباشا في صبح يوم الجمعة وذهب الى مقام الإمام الشافعي فزاره ورجع الى قبة العزب خارج باب النصر ونودي في ليلتها على الموكب فلما كان صبح يوم السبت خامس عشره خرج الأمراء والوجاقلية والعساكر الرومية والمصرلية واجتمع الناس للفرجة وانتظم الموكب أمامه وركب بالشعار القديم وعلى رأسه الطلخان والقفطان الأطلس وأمامه السعاة والجاويشية والملازمون وخلفه النوبة التركية وركب أمامه جميع الأمراء بالشعار والبيلشانات بزينتهم ونظامهم القديم المعتاد وشق القاهرة في موكب عظيم ولما طلع الى القلعة ضرب له المدافع من الأبراج وكان ذلك اليوم متراكم الغيوم وسح المطر من وقت ركوبه الى وقت جلوسه بالقلعة حتى ابتلت ملابسه وملابس الأمراء والعسكر وحوائجهم وهم مستبشرون بذلك وكان ذلك اليوم خامس برمودة القبطي‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عمل الديوان وطلع الأمراء والمشايخ وطلع الجم الكثير من الفقهاء ظانين وطامعين في الخلع فلما قرئ التقرير في الديوان الداخل خلع على الشيخ العروسي والشيخ البكري والشيخ الحريري والشيخ الأمير والأمراء الكبار فقط ثم أن اسمعيل بك التفت الى المشايخ الحاضرين وقال تفضلوا يا أسيادنا حصلت البركة فقاموا وخرجوا‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه أمر الباشا المحتسب بعمل تسعيرة وتنقيص الأسعار فنقضوا سعر اللحم نصف فضة وجعلوا الضاني بستة أنصاف والجاموسي بخمسة فشح وجوده بالأسواق وصاروا يبيعونه خفية بالزيادة ونزل سعر الأردب الغلة الى ثلاثة ريال ونصف بعد تسعة ونصف‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشرينه ورد مرسوم من الدولة فعمل الباشا الديوان في ذلك اليوم وقرأوه وفيه الأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر والدعاء بالنصر للسلطان على الموسقو فإنهم تغلبوا واستولوا على قلاع ومدن عظيمة من مدن المسلمين وكذلك يدعون له بعد الأذان في كل وقت وأمر الباشا بتقرير عشرة من المشايخ من المذاهب الثلاثة يقرأون البخاري في كل يوم ورتب لهم في كل يوم مائتين نصف فضة لكل مدرس عشرون نصفًا من الضربخانة ووعدهم بتقريرها لهم على الدوام بفرمان‏.‏

وفي يوم الأحد حضر الشيخ العروسي والمشايخ وجلسوا في القبلة القديمة جلوسًا عامًا وقرأوا أجزاء من البخاري واستداموا على ذلك بقية الجمعة وقرر اسمعيل بك أيضًا عشرة من الفقهاء كذلك يقرأون أيضًا البخاري نظيرًا لعشرة الأولى وحضر الصناع وشرعوا في البياض والدهان وجلاء الأعمدة وبطل ذلك الترتيب‏.‏

شهر شعبان المكرم في ثانيه نودي بإبطال التعامل بالزيوف المغشوشة والذهب الناقص وأن الصيارفة يتخذون لهم مقصات يقطعون بها الدراهم الفضة المنحسة وكذلك الذهب المغشوش الخارج وإذا كان الدينار ينقص ثلاثة قراريط يكون بطالًا ولا يتعامل به وإنما يباع لليهود الموردين بسعر المصاغ الى دار الضرب ليعاد جديدًا فلم يمتثل الناس لهذا الأمر ولم يوافقوا عليه واستمروا على التعامل بذلك في المبيعات وغيرها لأن غالب الذهب على هذا النقص وأكثر وإذا بيع على سعر المصاغ خسروا فيه قريبًا من النصف فلم يسهل بهم ذلك ومشوا على ما هم عليه مصطلحون فيما بينهم‏.‏

وفي أوائله أيضًا تواترت الأخبار بموت السلطان عبد الحميد حادي عشر رجب وجلوس ابن أخيه السلطان مصطفى مكانه وهو السلطان سليم خان وعمره نحو الثلاثين سنة وورد في أثر الإشاعة صحبة التجار والمسافرين دراهم وعليها اسمه وطرته ودعى له في الخطبة أول جمعة في شعبان المذكور‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسعه حضر علي بك الدفتردار من ناحية دجوة وسبب ذهابه إليها أن أولاد حبيب قتلوا عبد العلي بك بمنية عفيف بسبب حادثة هناك وكان ذلك العبد موصوفًا بالشجاعة والفروسية فعز ذلك على علي بك فأخذ فرمانًا من الباشا بركوبه على أولاد حبيب وتخريب بلدهم ونزل إليهم وصحبته باكير بك ومحمد بك المبدول وعندما علم الحبايبة بذلك وزعوا متاعهم وارتحلوا من البلد وذهبوا الى الجزيرة فلما وصل علي بك ومن معه الى دجوة لم يجدوا أحدًا ووجدوا دورهم خالية فأمروا بهدمها هدموا مجالسهم ومقاعدهم وأوقدوا فيها النار وعملوا فردة على أهل البلد وما حولها من البلاد وطلبوا منهم كلفًا وحق طرق وتفحصوا على ودائعهم وأمانتهم وغلالهم في جيرة البلاد مثل طحلة وغيرها فأخذوها وأحاطوا بزرعهم وما وجدوه بالنواحي من بهائمهم ومواشيهم ثم تداركوا أمرهم وصالحوه بسعي الوسائط بدراهم ودفعوها ورجعوا الى وطنهم ولكن بعد خرابها وهدمها‏.‏

وفيه أرسل الباشا سلحدار بخطاب للأمراء القبالي يطلب منهم الغلال والمال الميري حكم الاتفاق‏.‏

في رابعه وصل الى مصر آغا معين بإجراء السكة والخطبة باسم السلطان سليم شاه فعمل الباشا ديوانًا وقرأ المرسوم الوارد بذلك بحضرة الجمع والسبب في تأخيره لهذا الوقت الاهتمام بأمر السفر واشتغال رجال الدولة بالعزلة والتولية وورد الخبر أيضًا بعزل حسن باشا من رياسة البحر الى رياسة البر وتقلدا الصدارة وتولى عوضه قبطان باشا حسين الجردلي وأخبروا أيضًا بقتل بستحي باشا‏.‏

وفي أوائله أيضًا فتحوا ميري سنة خمسة مقدمة بعجلة‏.‏

وفي أواخره حضر عثمان كتخدا عزبان من الديار الرومية وبيده أوامر وفيها الحث على محاربة الأمراء القبالي والخطاب للوجاقلية وباقي الأمراء بأن يكونوا مع اسمعيل بك بالمساعدة والإذن لهم بصرف ما يلزم صرفه من الخزينة مع تشهيل الخزينة للدولة وفي عاشره وصل ططري وعلى يده أوامر منها حسن عيار المعاملة من الذهب والفضة وأن يكون عيار الذهب المصري تسعة عشر قيراطًا ويصرف بمائة وعشرين نصفًا بنقص أربعة أنصاف عن الواقع في الصرف بين الناس والاسلامبولي بمائة وأربعين وينقص عشرة والفندقلي بمائتين بنقص خمسة والريال الفرانسة بمائة بنقص خمسة أيضًا والمغربي بخمسة وتسعين بنقص خمسة أيضًا وهو المعروف بأبي مدفع والبندقي بمائتين وعشرة بنقص خمسة عشر فنزل الآغا وفي غايته خرج أمير الحاج غيطاس بك بالمحمل وركب الحجاج‏.‏

وفي منتصف شهر القعدة الموافق لعاشر مسرى القبطي أو في النيل المبارك أذرع الوفاء ونزل الباشا الى فم الخليج وكسر السد بحضرته على العادة وانقضى هذا العام بحوادثه وحصل في هذه السنة الازدلاف وتداخل العام الهلالي في الخراجي ففتحوا طلب المال الخراجي القابل قبل أوانه لضرورة الاحتياج وضيق الوارد بتعطيل الجهة القبلية واستيلاء الأمراء الخارجين عليها ووجه اسمعيل بك الطلب من أول السنة بباقي الحلوان الذي قرره حسن باشا ثم المال الشتوي ثم الصيفي وفي أثناء ذلك المطالبة بالفرد المتوالية المقررة على البلاد من الملتزمين ووجه على الناس قباح الرسل والمعينين من السراجين والدلاة وعسكر القليونجية فيدهمون الإنسان ويدخلون عليه في بيته مثل التجريدة الخمسة والعشرة بأيديهم البنادق والأسلحة بوجوه عابسة فيشاغلهم ويلاطفهم ويلين خواطرهم بالإكرام فلا يزدادون إلا قسوة وفظاظة فيعدهم على وقت آخر فيسمعونه قبيح القول ويشتطون في أجرة طريقهم وربما لم يجدوا صاحب الدار أو يكون مسافرًا فيدخلون الدار وليس فيها إلا النساء ويحصل منهم ما لا خير فيه من الهجوم عليهن وربما نططن من الحيطان أو ربما هربن الى بيوت الجيران وسافر رضوان بك قرابة علي بك الكبير الى المنوفية وأنزل بها كل بلية وعسف بالقرى عسفًا عنيفًا قبيحًا بأخذ البلص والتساويف وطلب الكلف الخارجة عن المعقول الى أن وصل الى رشيد ثم رجع الى مولد السيد البدوي بطندتا ثم عاد وفي كل مرة من مروره يستأنف العسف والجور وكذلك قاسم بك بالشرقية وعلي بك الحسني بالغربية وقلد اسمعيل بك مصطفى كاشف المرابط بقلعة طرا فعسف بالمسافرين الذاهبين والآيبين الى جهة قبلي فلا تمر عليه سفينة صاعدة أو منحدرة إلا طلبها إليه وأمر بإخراج ما فيها وتفتيشها بحجة أخذهم الاحتياجات للأمراء القبليين من الثيابوغيرها أو إرسالهم أشياء أو دراهم لبيوتهم فإن وجد بالسفينة شيئًا من ذلك نهب ما فيها من مال المسافرين والمتسببين وأخذه عن آخره وقبض عليهم وعلى الريس وحبسهم ونكل بهم ولا يطلقهم إلا بمصلحة وإن لم يجد شيئًا فيه شبهة أخذ من السفينة ما اختاره وحجزهم فلا يطلقهم إلا بمال يأخذه منهم وتحقق الناس فعله فصانعوه ابتداء تقية لشره وحفظًا لمالهم ومتاعهم فكان الذي يريد السفر الى قبلي بتجارة أو متاع يذهب إليه ببعض الوسائط ويصالحه بما يطيب به خاطره ويمر بسلام فلا يعرض له وكذلك الواصلون من قبلي يأتون طائعين الى تحت القلعة ويطلع إليه الريس والمسافرون فيصالحونه وعلم الناس هذه القاعدة واتبعوها وارتاحوا عليها في الجملة واستعوضوا الخسارة من غلو الأثمان وكذلك فعل نساء سائر الأمراء القبليين وهادينه وأرشونه عن إرسالهن الى أزواجهن من الملابس والأمتعة سرًا حتى كانوا في الآخر يرسلن إليه ما يرمن إرساله وهو يرسله بمعرفته وتأتي أجوبتهم على يده الى بيوتهن خفية واتخذ له يدًا وجميلًا وطوقهم منته بذلك وشاع في بلاد الأرنؤد وجبال الروملي رغبة اسمعيل بك في العساكر فوفدوا عليه بأشكالهم المختلفة وطباعهم المنحرفة وعدم أديانهم وانعكاس أوضاعهم فأسكن منهم طائفة بالجيزة وطائفة ببولاق وطائفة بمصر العتيقة وأجرى عليهم النفقات والعلوفات وجلب له الياسيرجية المماليك فاشترى منهم عدة وافرة وأكثرهم عزق ومشنبون وأجناس غير معهودة واستعملهم من أول وهلة في الفروسية ولم يدربهم في آداب ولا معرفة دين ولا كتاب كل ذلك حرصًا على مقاومة الأعداء وتكثير الجيش وتابع إرسال الهدايا والأموال والتحف الى الدولة وأحضر السروجية والصواغ والعقادين فوضعوا ستة سروج للسلطان وأولاده وذلك قبل موت السلطان عبد الحميد على طريقة وضع سروج المصريين بعبايات مزركشة وهي مع السرج والقصعة والقربوص مرصعة بالجواهر والبروق والذهب والركابات واللجامات والبلامات والشماريخ والسلاسل كلها من الذهب البندقي الكسر والرأس والرشمات كلها من الحرير المصنوع بالمخيش وسلوك الذهب وشماريخ المرجان والزمرد وجميع الشراريب من القصب المخيش وبها تعاليق المرجان والمعادن صناعة بديعة وكلفة ثمينة أقاموا في صناعة ذلك عدة أيام ببيت محمد آغا البارودي واشترى كثيرًا من الأواني والقدور الصيني الأسكي معدن وملأها بأنواع الشربات المصنوع من السكر المكرر كشراب البنفسج والورد والحماض والصندل المطيب بالمسك والعنبر وماء الورد والمربيات الهندية مثل مربى القرنفل وجوزبوا والبسباسة والزنجبيل والكابلي وأرسل ذلك مع الخزينة بالبحر صحبة عثمان كتخدا عزبان ومعها عدة خيول من الجياد وأقمشة هندية وعود وعنبر وظرائف وأرزوبن وأفاويه وماء الورد المكرر وغير ذلك ولم يتفق لأحد فيما تقدم من أمراء مصر أرسل مثل ذلك ولم نسمع به ولم نره في تاريخ فإن نهاية ما رأينا أن الأشربة يضعونها في ظروف من الفخار التي قيمة الظرف منها خمسة أنصاف أو عشرة حتى الذي يأتي من اسلامبول لخصوص السلطان وأما هذه فأقل ما فيها يساوي مائة دينار وأكثر من ذلك‏.‏

ومات في هذه السنة العلامة الماهر الحيسوب الفلكي أبو الإتقان الشيخ مصطفى الخياط صناعة أدرك الطبقة الأولى من أرباب الفن مثل رضوان أفندي ويوسف الكلارجي والشيخ محمد النشيلي والكرتلي والشيخ رمضان الخوانكي والشيخ محمد الغمري والشيخ الوالد حسن الجبرتي وأخذ عنهم وتلقى منهم ومهر في الحساب والتقويم وحل الأزياج والتحاويل والحل والتركيب وتحاويل السنين وتداخل التواريخ الخمسة واستخراج بعضها من بعض وتواقيعها وكبائسها وبسائطها ومواسمها ودلائل الأحكام والمناظرات ومظنات الكسوف والخسوف واستخراج أوقاتها ودقائقها مع الضبط والتحرير وصحة الحدس وعدم الخطأ وأقر له أشياخه ومعاصروه بالإتقان والمعرفة وانفرد بعد أشياخه ووفد عليه طلاب الفن وتلقوا عنه وأنجبوا وأجلهم عصرينا وشيخنا العلامة المتقن الشيخ عثمان ابن سالم الورداني أطال الله بقاءه ونفع به ولازم المترجم المرحوم الوالد مدة مديدة وتلقى عنه وحج معه في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف وسمعته يقول عنه الشيخ مصطفى فريد عصره في الحسابيات والشيخ محمد النشيلي في الرسميات وحسن أفندي قطه مسكين في دلائل الأحكام وكان يستخرج في كل عام دستور السنة من مقومات السيارة ومواقع التواريخ وتواقيع القبط والمواسم والأهلة ويعرب السنة الشمسية لنفع العامة وينقل منها نسخًا كثيرة يتناولها الخاص والعام يعلمون منها الأهلة وأوائل الشهور العربية والقبطية والرومية والعبرانية والتواقيع والمواسم وتحاويل البروج وغير ذلك والتمس منه الأستاذ سيدي أبو الإمداد أحمد بن وفا تحريك الكواكب الثابتة لغاية سنة ثمانين ومائة وألف فأجابه الى ذلك واشتغل به أشهرًا حتى أتم حساب أطولها وعروضها وجهاتها ودرجات ممرها ومطالع غروبها وشروقها وتوسطها وأبعادها ومواضعها بأفق عرض مصر بغاية التحقيق والتدقيق على أصول الرصد الجديد السمرقندي وقام له الأستاذ بأوده ومصرفه ولوازم عياله مدة اشتغاله بذلك وأجازه على ذلك إجازة سنية ومات سلطان الزمان السلطان عبد الحميد بن أحمد خان وتولى بعده ابن أخيه السلطان سليم ودخلت سنة أربع ومائتين وألف في المحرم وصلت الأخبار بأن الموسقو آغا روا على عدة قلاع وممالك إسلامية منها جهات الأوزي وكانت تغل على اسلامبول كالصعيد على مصر وان الاسلامبول واقع بها غلاء عظيم‏.‏

وفي أواخره حضر واحد آغا وبيده مرسومات بسبب الأمراء القبليين بأنهم إن كانوا تعدوا الجهات التي صالحوا عليها حسن باشا ولم يدفعوا المال ولا الغلال فلازم من محاربتهم ومقاتلتهم وإن لم يمتثلوا يخرجوا إليهم ويقاتلوهم فإن السلطان أقسم بالله أنه يزيل الفريقين ولا يقبل عذرهم في التأخير فقرأوا تلك المرسومات في الديوان ثم أرسلوها مع مكاتبات صحبة واحد مصرلي وآخر من طرف الآغا القادم بها وآخر من طرف الباشا‏.‏

وفي أوائل ربيع الأول رجع الرسل بجوابات من الأمراء القبليين ملخصها أنهم لم يتعدوا ما حدوده مع حسن باشا إلا بأوامر من عابدي باشا فإنه حدد لنا من منفلوط ثم اسمعيل بك بنى حاجزًا وقلاعًا وأسوارًا بطرا وذلك دليل وقرينة على أن ما راء ذلك يكون لنا وأنه اختص بالأقاليم البحرية وترك لنا الأقاليم القلبية ولا مزية للأمراء الكائنين بمصر علينا فإنه يجمعنا وإياهم أصل واحد وجنس واحد وإن كنا ظلمة فهم أظلم منا وأما الغلال والمال فإننا أرسلنا لهم جانب غلال فلم ترجع المراكب التي أرسلناها ثانيًا فيرسلوا لنا مراكب ونحن نعبيها ونرسلها وذكروا أيضًا أنهم أرسلوا صالح آغا كتخدا الجاويشية سابقًا الى اسلامبول ونحن في انتظار رجوعه بالجواب فعند رجوعه يكون العمل بمقتضى ما يأتي به من المرسومات ولا نخالف أمر السلطان‏.‏

وفي شهر جمادى الأولى وردت أخبار بعزل وزير الدولة وشيخ الإسلام وآغات الينكجرية ونفيهم وأن حسن باشا تولى الصدارة وهو بالسفر وأنه محصور بمكان يقال له اسمعيل لأن الموسقو أغاروا على ما وراء اسمعيل وأخذوا ما بعده من البلاد ثم أنه هادن الموسقو وصالحهم على خمسة أشهر الى خروج الشتاء وأن السلطان أحضر الأمراء المصرلية الرهائن المنفيين بقلعة ليميا وهم عبد الرحمن بك الابراهيمي وعثمان بك المرادي وسليمان كاشف وأما حسين بك فإنه مات بليميا ولما حضروا أنزلوهم في قناقات وعين لهم رواتب ويحضرهم السلطان في بعض الأحيان الى الميدان ويعملوا رماحة بالخيول وهو ينظر إليهم ويعجبه ذلك ويعطيهم أنعامًا وورد الخبر أيضًا أن صالح آغا وصل الى اسلامبول فصالح على الأمراء القبالي وتم الأمر بواسطة نعمان أفندي نجم باشا ومحمود بك وأرسلوا بالأوراق الى حسن باشا فحنق لذلك ولم يمضه وانحرف علي نعمان أفندي ومحمود بك وأمر بعزلهما من مناصبهما ونفيهما وإخراجهما من دار السلطنة فنفى نعمان أفندي الى أماسيه ومحمود بك الى جهة قريبة من اسلامبول وشاط طبيخهم وسافر صالح آغا من اسلامبول وفي شهر شعبان ورد الخبر بموت حسن باشا وكان موته في منتصف رجب وكأنه مات مقهورًا من الموسقو‏.‏

وفي ثاني عشر رمضان حصل زلزلة لطيفة في سادس ساعة من الليل‏.‏

وفيه أيضًا وصل ثلاثة أشخاص من الديار الرومية فأخذوا ودائع كانت لحسن باشا بمصر فتسلموها ممن كانت تحت أيديهم ورجعوا‏.‏

وفي ليلة الجمعة ثالث عشر شوال قبل الفجر احترق بيت اسمعيل بك عن آخره‏.‏

وفي خامس عشرينه عزل حسن كتخدا المحتسب من الحسبة وقلدوها رضوان آغا محرم من وجاق الجاويشية فأنهى حسن آغا أنه كان متكفلًا بجراية الجامع الأزهر فإن كان المتولي يتكفل بها مثله استمر فيها وإلا ردوا له المنصب وهو يقوم بها للمجاورين كما كان فلما قالوا لرضوان آغا ذلك فلم يسعه إلا القيام بذلك وهي دسيسة شيطانية لا أصل فإن أخبار الجامع الأزهر لها جهات بعضها معطل والناظر عليه علي بك الدفتردار وحسن آغا كتخداه يصل ويقطع من أي جهة أراد من الميري أو من خلافه فدس هذه الدسيسة يريد بها تعجيز المتولي ليرجع إليه المنصب ومعلوم أن المتولي لم يتقلد ذلك إلا برشوة دفعها ويلزم من نزوله عنها ضياع غرامته وجرسته بين أقرانه فما وسعه إلا القيام بذلك وفردها على مظالم الحسبة التي يأخذها من السوقة ويدفعها للخباز يصنع بها خبزًا للمجاورين والمنقطعين في طلب العلم ليكون قوتهم وطعامهم من الظلم والسحت المكرر وذلك نحو خمسة آلاف نصف فضة في كل يوم واشتهر ذلك وعلمه العلماء والمجاورون وغيرهم وربما طالبوه بالمنكسر أو اعتذروا بقولهم الضرورات تبيح المحظورات‏.‏

وفي ليلة السبت ثالث شهر الحجة الموافق لعاشر مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وكسر السد بحضرة الباشا والأمراء على العادة وجرى الماء في الخليج‏.‏

وفيه وقعت واقعة بين عسكر القليونجية والأرنؤدية بسوق السلاح وقتل بينهم جماعة من الفريقين ثم تحزبوا أحزابًا فكان كل من واجه حزبًا من الطائفة الأخرى أو انفرد ببعض منها قتلوه ووقع بينهم ما لا خير فيه وداخل الناس الخوف من ذلك فيكون الإنسان مارًا بالطريق فلا يشعر إلا وكرشة وطائفة مقبلة وبأيديهم البنادق والرصاص وهم قاصدون طائفة من أخصامهم بلغهم أنهم في طريق من الطرق واستمر هذا الأمر بينهم نحو خمسة أيام ثم أدرك القضية اسمعيل بك وفي أواخره حضر جماعة من الأرنؤد الى بيت محمد آغا البارودي وقبضوا منه مبلغ دراهم من علوفتهم ونزلوا عند الخليج المرخم وازدحموا في المركب فانقلب بهم وغرق منهم نحو ستة أنفار وقيل تسعة وطلع من طلع في أسوأ حال‏.‏

ذكر من مات في هذه السنة ومات في هذه السنة العلامة الرحالة الفهامة الفقيه المحدث المفسر المحقق المتبحر الصوفي الصالح الشيخ سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الشافعي الأزهري المعروف بالجمل ويعرف أبوه وجده بشتت ولد بمنية عجيل إحدى قرى الغربية وورد مصر ولازم الشيخ الحفني فشملته بركته وأخذ عنه طريق الخلوتية ولقنه الأسماء وأذن له واستخلفه وتفقه عليه وعلى غيره من فضلاء العصر مثل الشيخ عطية الأجهوري ولازم دروسه كثيرًا واشتهر بالصلاح وعفة النفس ونوه الشيخ الحفني بشأنه وجعله إمامًا وخطيبًا بالمسجد الملاصق لمنزله على الخليج ودرس بالأشرفية والمشهد الحسيني في الفقه والحديث والتفسير وكثرت عليه الطلبة وضبطت من إملائه وتقريراته وقرأ المواهب والشمائل وصحيح البخاري وتفسير الجلالين بالمشهد الحسيني بين المغرب والعشاء وحضره أكبر الطلبة ولم يتزوج وفي آخر أمره تقشف في ملبسه ولبس كساء صوف وعمامة صوف وطلسانًا كذلك واشتهر بالزهد والصلاح ويتردد كثيرًا لزيارات المشايخ والأولياء ولم يزل على حاله حتى توفي في حادي عشر القعدة من السنة‏.‏

ومات الإمام الفاضل العلامة الصالح المتجرد القانع الصوفي الشيخ علي ابن عمر بن أحمد بن عمر بن ناجي بن فنيش العوني الميهي الشافعي الضرير نزيل طندتا ولد بالميه إحدى قرى مصر وأول من قدمها جده فنيش وكان مجذوبًا من بني العونة العرب المشهورين بالبحيرة فتزوج بها وحفظ المترجم القرآن وقدم الجامع الأزهر وجوده على بعض القراء واشتغل بالعلم على مشايخ عصره ونزل طندتاء فتديرها ودرس العلم بالمسجد المجاور وللمقام الأحمدي وانتفع به الطلبة وآل به الأمر الى أن صار شيخ العلماء هناك وتعلم عليه غالب من بالبلد علم التجويد وهو فقيه مجود ماهر حسن التقرير جيد الحافظة يحفظ كثيرًا من النقول الغريبة وفيه أنس وتواضع وتقشف وانكسار وورد مصر في المحرم من هذه السنة ثم عاد الى طندتاء وتوفي في ثاني عشر ربيع الأول من السنة ولم يتعلل كثيرًا ودفن بجانب قبر سيدي مرزوق من أولاد غازي في مقام مبني عليه رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الفاضل التحرير الذي وقف الأدب عند بابه ولاذت أربابه بأعتابه النبيه النبيل واللوذعي الجليل قاسم بن عطاء الله المصري الأديب ولد بمصر وبها نشأ وقرأ في الفنون على بعض أهل عصره وحفظ الملحة والألفية وغيرهما واشتهر بفن الأدب والتوشيخ والزجل وكان يعرف أولًا بالزجال أيضًا لإتقانه فيه وصار وحيد عصره في هذه الفنون بحيث لا يجاريه أحد مع ما لديه من الارتجال في الشعر مع غاية الحسن وأما في فن التاريخ فإليه المنتهى مع السلاسة والتناسب وعدم التكلف فيه‏.‏

ومات الخواجا المعظم والناخودة المكرم الحاج أحمد آغا بن ملا مصطفى الملطيلي كان من أعيان التجار المشهورين وأرباب أهل الوجاهة المعتبرين عمدة في بابه عدة لأحبابه ومن يلوذ بجنابه وينتمي لسدته وأعتابه محتشمًا في نفسه مبجلًا بين أبناء جنسه توفي يوم الأربعاء ثاني عشرين القعدة ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات صاحبنا النبيه المفوه الفصيح المتكلم الكاتب المنشئ حسين ابن محمد المعروف بدرب الشمسي وهو أحد أخوة حسن أفندي من بيت المجد والرياسة والشرف والفضيلة وكان من نوادر العصر في الفصاحة واستحضار المسائل الغريبة والنكات والفوائد الفقهية الطبية وعنده حرص على صيد الشوادر وأدرك بمصر أوقاتًا ولذات في الأيام السابقة قبل أن يخرجهم علي بك من مصر في سنة اثنتين وثمانين ونفيهم الى الحجاز وبعد رجوعهم في سنة سبع وثمانين ولكن دون ذلك ولم يزل يرفل في حلل السيادة حتى تعلل نحو عشرين يومًا وتوفي في شهر رمضان من السنة وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن عند أسلافه وخلفه من بعده ابنه حسن جربجي الموجود الآن بارك الله فيه ورحم سلفه‏.‏ ومات

العمدة المفضل والملاد المبجل

الشيخ عبد الجواد بن محمد ابن عبد الجواد الأنصاري الجرجاوي الخير المكرم الجواد من بيت الثروة والفضل جدوده مالكية فتحنف كان من أهل المآثر في إكرام الضيوف والوافدين وله حسن توجه مع الله تعالى وأوراد وأذكار وقيام الليل يسهر غالب ليله وهو يتلو القرآن والأحزاب وورد مصر مرارًا وفي آخره انتقل إليها بعياله واشترى منزلًا واسعًا بحارة كتامة المعروفة الآن بالعينية وصار يتردد في دروس العلماء مع إكرامهم له ثم توجه الى الصعيد ليصلح بين جماعة من عرب العسيرات فقتلوه غيلة في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير المبجل صالح فندي كاتب وجاق التفجية وهو من مماليك ابراهيم كتخدا القزدغلي نشأ من صغره في صلاح وعفة وحبب إليه القراءة وتجويد الخط فجوده على حسن أفندي الضيائي والأنيس وغيرهما حتى مهر فيه وأجازوه على طريقتهم واصطلاحهم واقتنى كتبًا كثيرة وكان منزله مأوى ذوي الفضائل والمعارف وله اعتقاد حسن وحب في المرحوم الوالد ولا ينقطع عن زيارته في كل جمعة مرة أو مرتين وكان مترهفًا في مأكله وملبسه معتبرًا في ذاته وجيهًا منور الوجه والشيبة له من اسمه نصيب وعنده حزم ومماليكه أحمد مصطفى تمرض نحو سنة وعجز عن ركوب الخيل وصار يركب حمارًا عاليًا ويستند على أتباعه ولم يزل حتى توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى وانقضت هذه السنة‏.‏

واستهلت سنة خمس ومائتين وألف في حادي عشر المحرم ورد آغا وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على السنة الجديدة فعملوا له موكبًا وطلع الى القلعة وقرئ المقرر بحضرة الجمع وضربوا له مدافع‏.‏

وفي ذلك اليوم قبض اسمعيل بك على المعلم يوسف كساب معلم الدواوين وأمر بتغريقه في بحر النيل‏.‏

وفي صبحها نفوا صالحا آغا آغات الأرنؤد قيل إن السبب في ذلك أنه تواطأ مع الأمراء القبالي بواسطة المعلم يوسف المذكور على أنه لم يملكهم المراكب الرومية والقلاع التي بناحية طرا والجيزة وعملوا له مبلغًا من المال التزم به الذمي يوسف وكتب على نفسه تمسكًا بذلك وفيه كثر تعدي أحمد آغا الوالي على أهل الحسينية وتكرر قبضه وإيذاؤه لأناس منهم بالحبس والضرب وأخذ المال بل ونهب بعض البيوت وأرسل في يوم الجمعة ثاني عشرينه أعوانه بطلب أحمد سالم الجزار شيخ طائفة البيومية وله كلمة وصولة بتلك الدائرة وأرادوا القبض عليه فثارت طوائفه على أتباع الوالي ومنعوه منهم وتحركت حميتهم عند ذلك وتجمعوا وانضم إليهم جمع كثير من أهل تلك النواحي وغيرها وأغلقوا الأسواق والدكاكين وحضروا الى الجامع الأزهر ومعهم طبول وقفلوا أبواب الجامع وصعدوا على المنارات وهم يصرخون ويصيحون ويضربون على الطبول وأبطلوا الدروس فقال لهم الشيخ العروسي‏:‏ أنا أذهب الى اسمعيل بك في هذا الوقت وأكلمه في عزل الوالي وتخلص منهم بذلك وذهب الى اسمعيل بك فاعتذر بأن الوالي ليس من جماعته بل هو من جماعة حسن بك الجداوي وأمر بعض أتباعه بالذهاب إليه وإخباره بجمع الناس والمشايخ وطلبهم عزل الوالي فلم يرض بذلك وقال إن كان أنا أعزل الوالي تابعي يعزل هو الآخر الآغا تابعه ويعزل رضوان كتخدا المجنون من المقاطعة ويرفع مصطفى كاشف من طرا ويطرد عسكر القليونجية والأرنؤد وترددت بينهم الرسل بذلك ثم ركب حسن بك وخرج الى ناحية العادلية مثل المغضب وصار أحمد آغا الوالي يركب بجماعة كثيرة ويشق من المدينة ليغيظ العامة وكذلك يجمع من العامة خلائق كثيرة ووقع بينه وبينهم بعض مناوشات في مروره وانجرح بينهم جماعة وقتل شخصان ثم ركب المشايخ وذهبوا الى بيت محمد أفندي البكري وحضر هناك اسمعيل بك وطيب خاطرهم والتزم لهم بعزل الوالي ومر الوالي في ذلك الوقت على بيت الشيخ البكري وكثير من العامة مجتمع هناك ففزع فيهم بالسيف وفرق جمعهم وسار من بينهم وذهب في طريقه ثم زاد الحال وكثرت غوغاء الناس ومشوا طوائف يأمرون بغلق الدكاكين واجتمع بالأزهر الكثير منهم واستمرت هذه القضية الى يوم الثلاثاء ثالث صفر ثم طلع اسمعيل بك والأمراء الى القلعة واصطلحوا على عزل الوالي والآغا وجعلوهما صنجقين وقلدوا خلافهما الآغا من طرف اسمعيل بك والوالي من طرف حسن بك ونزل الوالي الجديد من الديوان الى الأزهر وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم ثم ركب الى بيته وانفض الجمع وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكب حمارًا ركب فرسًا‏.‏

وفي ليلة الجمعة خامس شهر صفر غيمت السماء غيمًا مطبقًا وسحت أمطار غزيرة كأفواه القرب مع رعد شديد الصوت وبرق متتابع متصل قوي اللمعان يخطف بالأبصار مستديم الاشتعال واستمر ذلك بطول ليلة الجمعة ويوم الجمعة والأمطار نازلة حتى سقطت الدور القديمة على الناس ونزلت السيول من الجبل حتى ملأت الصحراء وخارج باب النصر وهدمت الترب وخسفت القبور وصادف ذلك اليوم دخول الحجاج الى المدينة فحصل لهم غاية المشقة وأخذ السيل صيوان أمير الحاج بما فيه وانحدر به من الحصوة الى بركة الحج وكذلك خيام الأمراء وغيرهم وسالت السيول من باب النصر ودخلت البلد وامتلأت الوكائل بالمياه وكذلك جامع الحاكم وقتلت أناس في حواصل الخانات وصار خارج باب النصر بركة عظيمة متلاطمة بالأمواج وفي حصل أيضًا كائنة عبد الوهاب أفندي بشناق الواعظ وذلك أنه مات رجل من البشانقة من أهل بلده وكأنه قد جعله وصيًا على تركته فاستولى عليها واستأصلها وكان للرجل المتوفى شركة بناحية الاسكندرية فسافر المذكور الى الاسكندرية وحاز باقي التركة أيضًا ورجع الى مصر وحضر الوارث وطالبه بتركة مورثه فأظهر له شيئًا نزرًا فذهب الوارث الى القاضي فدعاه القاضي وكلمه في ذلك فقال له أنا وصي مختار وأنا مصدق وليس عندي خلاف ما سلمته له فقال له القاضي إنه يدعي عليك بكذا وكذا وعنده إثبات ذلك وطال بينهما الكلام وتطاول على القاضي واستجهله فطلع القاضي الى الباشا وشكا له فأمر بإحضاره فحضر في جمع الديوان وناقشوه فلم يتزلزل عن عناده الى أن نسب الكل الى الانحراف عن الحق فحنق الباشا منه وأمر برفعه من المجلس فقبضوا عليه وجروه وضربوه ورموا بتاجه الى الأرض وحبسوه في مكان وصادف أيضًا ورود مكتوب من ناحية المدينة من مفتيها كان أرسله المذكور إليه لسبب من الأسباب وذكر فيه الباشا بقوله التعيس الحربي وكذلك الأمراء بنحو ذلك فأرسله المفتي وأعاده على يد بعض الناس الى اسمعيل بك حقدًا منه عليه لكراهة خفية بينهما سابقة وأوصله اسمعيل بك أيضًا الى الباشا فازداد غيظًا وأرعد وأبرق وأحضر بشناق أفندي من محبسه وقت القائلة وأراه ذلك المكتوب فسقط في يده واعتذر فلطمه على وجهه ونتف لحيته وأراد أن يضربه بخنجره فشفع فيه أكابر أتباعه ثم أخذوه وسجنوه وأمر بمحاسبته على ما أخذه من التركة فحوسب وطولب وبقي بالحبس حتى وفى ما طلع عليه وشفع فيه علي بك الدفتردار وخلصه من الترسيم‏.‏

وفي أواخر صفر قلدوا أحمد بك الوالي المذكور كشوفية الدقهلية وعثمان بك الحسني الغربية وشاهين بك شرقية بلبيس وعلي بك جركس المنوفية وصار جماعة أحمد بك وأتباعه عند سفرهم يخطفون دواب الناس من الأسواق وخيول الطواحين ولما سرحوا في البلاد حصل منهم ما لا خير فيه من ظلم الفلاحين مما هو معلوم من أفعالهم‏.‏

وفي شهر ربيع الأول كمل بناء بيت اسمعيل بك وبياضه وأتمه على هيئة متقنة وترتيب في الوضع ونقل إليه قطع الأعمدة العظام التي كانت ملقاة في مكان الجامع الناصري الذي عند فم الخليج وجعلها في جدرانه وبنى به مقعدًا عظيمًا متسعًا ليس له مثيل في مقاعد بيوت الأمراء في ضخامته وعظمه وهو في جهة البركة وغرس بجانبه بستانًا عظيمًا وظن أن الوقت قد صفا له‏.‏

وفي أواخر شهر جمادى الأولى أشيع في الناس أن في ليلة السابع والعشرين نصف الليل يحصل زلزلة عظيمة وتستمر سبع ساعات ونسبوا هذا القول الى أخبار بعض الفلكيين من غير أصل واعتقده الخاصة فضلًا عن العامة وصمموا على حصوله من غير دليل لهم على ذلك فلما كانت تلك الليلة خرج غالب الناس الى الصحراء والى الأماكن المتسعة مثل بركة الأزبكية والفيل وخلافهما ونزلوا في المراكب ولم يبق في بيته إلا من ثبته الله وباتوا ينتظرون ذلك الى الصباح فلم يحصل شيء وأصبحوا يتضاحكون على بعضهم‏.‏

وفيه ابتدأ أمر الطاعون وداخل الناس منه وهم عظيم‏.‏

وفيه قلدوا عبد الرحمن بك عثمان وجعلوه صنجق الخزينة وشرعوا في تشهيله واجتهد اسمعيل بك في سفر الخزينة على الهيئة القديمة ولبس المناصب والسدادة وأرباب الخدم وقد بطل هذا الترتيب والنظام من نيف وثلاثين سنة فأراد اسمعيل بك إعادته ليكون له بذلك منقبة ووجاهة عند دولة بني عثمان فلم يرد الله بذلك وعاجله الرجز‏.‏

وفي شهر رجب زاد أمر الطاعون وقوي عمله بطول شهر رجب وشعبان وخروج عن حد الكثرة ومات به ما لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء ومن أمراء الألوف الصناجق نحو اثني عشر صنجقًا ومنهم اسمعيل بك الكبير المشار إليه وعسكر القليونجية والأرنؤد الكائنون ببولاق ومصر القديمة والجيزة حتى كانوا يجفرون حفر المن بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها وكان يخرج من بيت الأمير في المشهد الواحد الخمسة والستة والعشرة وازدحموا على الحوانيت في طلب العدد والمغسلين والحمالين ويقف في انتظار المغسل أو المغسلة الخمس والعشرة ويتضاربون على ذلك ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضًا أو ميتًا أو عائدًا أو معزيًا أو مشيعًا أو راجعًا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولًا في تجهيز ميت أو باكيًا على نفسه موهومًا ولا تبطل صلاة الجنائز من المساجد والمصليات ولا يصلي إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة وندر جدًا من يشتكي ولا يموت وندر أيضًا ظهور الطعن ولم يكن بحمى بل يكون الإنسان جالسًا فيرتعش من البرد فيدثر فلا يفيق إلا مخلطًا أو يموت من نهاره أو ثاني يوم وربما زاد أو نقص أو كان بخلاف ذلك وكان شبيهًا بفصل البقر الذي تقدم واستمر عمله الى أوائل رمضان ثم ارتفع ولم يقع بعد ذلك إلا قليلًا نادرًا ومات الآغا والوالي في أثناء ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما فماتا أيضًا واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة ولما مات اسمعيل بك تنازل الرياسة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار ثم اتفقوا على تأمير عثمان بك طبل تابع اسمعيل بك على مشيخة البلد وسكن ببيت سيده وقلدوا حسن بك قصبة رضوان أمير حاج ثم أنهم أظهروا الخوف والتوبة والإقلاع وإبطال الحوادث والمظالم وزيادات المكوس ونادوا بذلك وقلدوا أمراء عوضًا عن المقبورين من مماليكهم‏.‏

في غرة رمضان حضر ططري وعلى يده مرسوم بعزل اسمعيل باشا وأن يتوجه الى الموره وأن باشة الموره محمد باشا الذي كان بجدة في العام الماضي المعروف بعزت هو والي مصر فعملوا الديون وقرئت المرسومات فقال الأمراء لا نرضى بذهابك من بلدنا وأنت أحسن لنا من الغريب الذي لا نعرفه فقال وكيف يكون العمل ولا يمكن المخالفة فقالوا نكتب عرضحال الى الدولة ونرجو تمام ذلك فقال لا يتم ذلك فإن المتولي كأنكم به وصل الى الاسكندرية وعزم على النزول صبح تاريخه ثم أنهم اتفقوا على كتابة عرضحال بسبب تركة اسمعيل بك خوفًا من حضور معين بسبب ذلك وعين للسفرية الشيخ محمد الأمير‏.‏

وفي يوم الخميس الخامس عشر رمضان نزل الباشا من القلعة الى بولاق وقصد السفر على الفور وطلب المراكب وأنزل بها متاعه ويرقه فلما رأوا منه العجلة وعدم التأني وقصدهم تأخيره الى حضور الباشا الجديد ويحاسب على ما دخل في جهته فاجتمعوا عليه صحبة الاختيارية وكلموه في التأني فعارضهم وعاندهم وصمم على السفر من الغد فأغلظوا عليه في القول وقالوا له هذا غير مناسب يقال إن الباشا أخذ مال مصر وهرب فقال وأي شيء أخذته منكم قالوا له لابد من عمل حساب فإن الحساب لا كلام فيه ولابد من التأني حتى نعمل الحساب فقال أنا أبقي عندكم الكتخدا فحاسبوه نيابة عني والذي يطلع لكم في طرفي خذوه منه فلم يرضوا بذلك فقال أنا لابد من سفري إما اليوم أو غدًا فقاموا من عنده على غير رضا وأرسلوا الوالي والآغا يناديان على ساحل البحر على المراكب بأن كل من سافر بشيء من متاع الباشا أو بأحد من أتباعه يستأهل الذي يجري عليه وطردوا النواتية من المراكب ولم يتركوا في كل مركب إلا شخصًا واحدًا نوتيًا فقط وتركوا عند بيت الباشا جماعة حراسًا وفي حضر خازندار الباشا الجديد وأخبر بوصول مخدومه الى ثغر الاسكندرية ومعه خلعة القائمقامية لعثمان بك طبل ومكاتبة الى الأمراء بعدم سفر الملاقاة وأرباب الخدم على العادة وأخبر أنه واصل الى رسيد بالبحر بالنقاير فنزل لملاقاته آغات المتفرقة فقط‏.‏

وفيه رفعوا مصطفى كاشف من طرا وعملوه كتخدا عثمان بك شيخ البلد‏.‏

وفيه أشيع بأن عبد الرحمن بك الابراهيمي حضر من طريق الشام ومر من خلف الجبل وذهب الى سيده بالصعيد‏.‏

وفي غرة شوال يوم الجمعة وليلة السبت حضر الباشا الجديد الى ساحل بولاق فعملوا له اسقالة وركب الأمراء وعدوا الى بر انبابة وسلموا عليه وعدى صحبتهم وركب الى قصر العيني وأوكب في يوم الاثنين رابعه في موكب أقل من العادة بكثير الى القلعة من ناحية الصليبة وضربوا له مدافع من القلعة‏.‏

وفي ذلك اليوم سافر الشيخ محمد الأمير بالعرضحال وكانوا أخروا سفره الى أن وصل الباشا الجديد وغيروه بعد أن عرضوا عليه الأمر ثم أنهم عملوا حساب الباشا المعزول فطلع عليه للباشا المتولي مائتا كيس من ابتداء منصبه وهو سابع عشر رجب وللأمراء مبلغ أيضًا فسدد ذلك بعضه أوراق وبعضه نقد وبعضه أمتعة وأذنوا له بالسفر فشرع في نزول متاعه بالمراكب بطول يوم الخميس والجمعة وأراد أن يسافر يوم السبت ففي تلك الليلة وصل بشلي من الروم وبيده مرسوم فعمل الباشا في صبحها ديوانًا حضر فيه المشايخ والأمراء وأبرز الباشا المرسوم فكان مضمونه محاسبة الباشا المعزول من ابتداء شهر توت واستخلاص ما تأداه من ابتداء المدة فعند ذلك أرسلوا ثانية وحجروا عليه ونكتوا عزاله من المراكب وحبسوا النواتية ونادوا عليه ثاني مرة وذلك في سادس عشره‏.‏

وفيه تواردت الأخبار بأن الأمراء القبالي تحركوا الى الحضور الى مصر فإنه لما حصل ما حصل من موت اسمعيل بك والأمراء حضر مراد بك من أسيوط الى المنية وانتشر باقي الأمراء في المقدمة وعلى بعضهم الى الشرق ووصلت أوائلهم الى كفر العياط وأما ابراهيم بك فإنه لم يزل مقيمًا بمنفلوط ومنتظرًا ارتحال الحجاج ثم يسير الى جهة مصر فأرسلوا علي بك الجديد الى طرا عوضًا عن مصطفى كاشف وأرسلوا صالح بك الى الجيزة وأخذوا في الاهتمام‏.‏

وفيه حفر خندق من البحر الى المتاريس وفردوا فلاحين على البلاد للحفر مع اشتغالهم بأمور الحج ودعوا هم نقص مال الصرة وتعطيل الجامكية المضافة لدفتر الحرمين وتوجيه المعينين من القليونجية على الملتزمين‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشرينه حضر السيد عمر أفندي مكرم الأسيوطي بمكاتبة من الأمراء القبليين خطابًا الى شيخ البلد والمشايخ وللباشا سرًا‏.‏

وفيه سافر اسمعيل باشا المنفصل من بولاق بعد أن أدى ما عليه‏.‏

وفي يوم الاثنين خامس عشرينه خرج المحمل صحبة أمير الحاج حسن بك قصبة رضوان وفي يوم الثلاثاء اجتمعوا بالديوان عند الباشا وقرئت المكاتبات الواصلة عن الأمراء القبليين فكان حاصلها أننا في السابق طلبنا الصلح مع إخواننا والصفح عن الأمور السالفة فأبى المرحوم اسمعيل بك ولم يطمئن لطرفنا ولك شيء نصيب والأمور مرهونة بأوقاتها والآن اشتقنا الى عيالنا وأوطاننا وقد طالت علينا الغربة وعزمنا على الحضور الى مصر على وجه الصلح وبيدنا أيضًا مرسوم من مولانا السلطان وصل إلينا صحبة عبد الرحمن بك بالعفو والرضا والماضي لا يعاد ونحن أولاد اليوم وأن أسيادنا المشايخ يضمنون غائلتنا فلما قرئت تلك المكاتبة التفت الباشا الى المشايخ العروسي إن كان التفاقم بينهم وبين أمرائنا المصرية الموجودين الآن فإننا نترجى عندهم وإن كان ذلك بينهم وبين السلطان فالأمر لنائب مولانا السلطان ثم اتفق الرأي على مكاتبة جواب حاصله أن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه وذكرتم أنكم تائبون وقد تقدم منكم هذا القول مرارًا ولم نر له أثرًا فإن شرط التوبة رد المظالم وأنتم لم تفعلوا ذلك ولم ترسلوا ما عليكم من الميري في هذه المدة فإن كان الأمر كذلك فترجعوا الى أماكنكم وترسلوا المال والغلال ونرسل عرضحال الى الدولة بالإذن لكم فإن الأمراء الذين بمصر لم يدخلوها بسيفهم ولا بقوتهم وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك فإننا الجميع تحت الأمر وعلم على ذلك الجواب الباشا والمشايخ وسلموه الى السيد عمر وسافر به في يوم الثلاثاء المذكور ثم اشتغلوا بمهمات الحج وادعوا نقص مال الصرة ستين كيسًا ففردوها على التجار ودكاكين الغورية وارتحل الحاج من الحصوة وصحبته الركب الفاسي وذلك يوم السبت غايته وبات بالبركة وارتحل يوم الأحد غرة ذي القعدة‏.‏

وفي ذلك اليوم عملوا الديوان بالقلعة ورسموا بنفي من كان مقيمًا بمصر من جماعة القبليين فنفوا أيوب بك الكبير وحسن كتخدا الجربان الى طندتا وكتبوا فرمانًا بخروج الغريب وفرمانًا آخر بالأمن والأمان وأخذهما الوالي والآغا ونادوا بذلك في صبحها في شوارع البلد ونبهوا على تعمير الدروب وقفل أبواب الأطراف وأجلسوا عند كل مركز حراسًا‏.‏

وفي يوم الخميس نزل الآغا وأمامه المناداة بفرمان على الأجناد والطوائف والمماليك بالخروج الى وفيه وصل قاصد من الديار الرومية وهو آغا معين بطلب تركة اسمعيل بك وباقي الأمراء الهالكين بالطاعون فأنزلوه ببيت الزعفراني وكرروا المناداة بالخروج الى ناحية طرا وكل من تاجر بعد الظهر يستحق العقوبة‏.‏

وفي تلك الليلة وقت المغرب طلع الأمراء الى الباشا وأشاروا عليه بالنزول والتوجه الى ناحية طرا فنزل في صبحها وخرج الى ناحية طرا كما أشاروا عليه وكذلك خرج الأمراء وطاف الآغا والوالي بالشوارع وهما يناديان على الألضاشات المنتسبين الى الوجاقات بالصعود الى القلعة والباقي بالخروج الى متاريس الجيزة وطلع الأوده باشا والاختيارية وجلسوا في الأبواب‏.‏

وفي يوم السبت أشيع أن الأمراء القبليين يريدون التخريم من وراء الجبل الى جهة العادلية فخرج أحمد بك وصالح بك تابع رضوان بك الى جهة العادلية وأقاموا هناك للمحافظة بتلك الجهة وأرسلوا أيضًا الى عرب العائد فحضروا أيضًا هناك‏.‏

وفيه وصل القبليون الى حلوان ونصبوا وطاقهم هناك وأخذ المصريون حذرهم من خلف متاريس طرا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء توجه المشايخ الى ناحية طرا وسلموا على الباشا والأمراء ورجعوا وذلك بإشارة الأمراء ليشاع عند الأخصام أن الرعية والمشايخ معهم وبقي الأمر على ذلك الى يوم وفي صبح يوم الأربعاء نزل الآغا والوالي وأمامهم المناداة على الرعية والعامة الكافة بالخروج في صبح يوم الخميس صحبة المشايخ ولا يتأخر أحد وحضر الشيخ العروسي الى بيت الشيخ البكري وعملوا هناك جمعية وخرج الآغا من هناك ينادي في الناس ووقع الهرج والمرج وأصبح يوم الخميس فلم يخرج أحد من الناس وأشيع أن الأمراء القبليين نزلوا أثقالهم في المراكب وتمنعوا الى قبلي ويقولون إن قصدهم الرجوع وبقي الأمر على السكوت بطول النهار والناس في بهتة والأمراء متخيلون من بعضهم البعض وكل من علي بك الدفتردار وحسن بك الجداوي يسيء الظن بالآخر ولم يخطر بالبال مخامرة عثمان بك طبل ولا الباشا فإن عثمان بك تابع اسمعيل بك الخصم الكبير وقد تعين عوضه في إمارة مصر ومشيختها والباشا لم يكن من الفريقين فلما كان الليل تحول الباشا والأمراء وخرجوا الى ناحية العادلية وأخرجوا شركفلك صحبتهم وجملة مدافع وعملوا متاريس فما فرغوا من عمل ذلك إلا ضحوة النهار من يوم الجمعة وهم واقفون علي الخيول فلم يشعروا إلا والأمراء القبالي نازلون من الجبل بخيولهم ورجالهم لكنهم في غاية الجهد والمشقة فلما نزلوا وجدوا الجماعة والمتاريس أمامهم فتشاور المصريون مع بعضهم في الهجوم عليهم فلم يوافق عثمان بك على ذلك وثبطهم عن الإقدام ورجعوا جميع الحملة الى مصر ووقفوا على جرائد الخيل فتمنع القبليون وتباعدوا عنهم ونزلوا عند سبيل علام يأخذون لهم راحة حتى يتكاملوا فلما تكاملوا ونصبوا خيامهم واستراحوا الى العصر ركب مصطفى كاشف صهر حسن كتخدا علي بك وهو من مماليك محمد بك الالفي وصحبته نحو خمسة مماليك وذهب الى سيده ثم ركب محمد بك المبدول أيضًا بأتباعه وذهب الى مراد بك لأنه في الأصل من أتباعه ثم ركب مصطفى كاشف الغزاري وهو أخو عثمان بك طبل شيخ البلد وذهب أيضًا إليهم واستوثق لأخيه فكتب له ابراهيم بك بالحضور فلم يتمكن من الحضور إلا بعد العشاء الأخيرة حتى انفرد عن حسن بك وعلي بك فلما فعل ذلك وفارقهما سقط في أيديهما وغشي على علي بك ثم أفاق وركب مع حسن بك وصناجقه وهم عثمان بك وشاهين بك وسليم بك المعروف بالدمرجي الذي تآمر عوضًا عن علي بك الحبشي ومحمد بك كشكش وصالح بك الذي تآمر عوضًا عن رضوان بك العلوي وعلي بك الذي تآمر عوضًا عن سليم بك الاسماعيلي وذهب الجميع من خلف القلعة على طريق طرا وذهبوا الى قبلي حيث كانت أخصامهم فسبحان مقلب الأحوال ولما حضر عثمان بك وقابل ابراهيم بك أرسله مع ولده مرزوق بك الى مراد بك فقابله أيضًا ثم حضرت إليهم الوجاقلية والاختيارية وقابلوهم وسلموا عليهم وشرع أتباعهم في دخول مصر بطول ليلة السبت حادي عشرين شهر القعدة ولما طلع النهار دخلت أتباعهم بالحملات والجمال شيء كثير جدًا ثم دخل ابراهيم وشق المدينة ومعه صناجقه ومماليكه وأكثرهم لابسون الدروع ثم دخل بعده سليمان بك والآغا وأخوه ابراهيم بك الوالي ثم عثمان بك الشرقاوي وأحمد بك الكلارجي وأيوب بك الدفتردار ومصطفى بك الكبير وعلي آغا وسليم آغا وقائد آغا وعثمان بك الأشقر الابراهيمي وعبد الرحمن بك الذي كان باسلامبول وقاسم بك الموسقو وكشافهم وأغواتهم وأما مراد بك فإنه دخل من على طريق الصحراء ونزل على الرميلة وصحبته عثمان بك الاسماعيلي شيخ البلد وأمراؤه وهم محمد بك الألفي وعثمان بك الطنبرجي الذي كان باسلامبول أيضًا وكشافهم وأغواتهم واستمر انجرارهم الى بعد الظهر خلاف من كان متأخرًا أو منقطعًا فلم يتم دخولهم إلا في ثاني يوم وأما مصطفى آغا الوكيل فإنه التجأ الى الباشا وكذلك مصطفى كاشف طرا فأخذهما الباشا صحبته وطلعا الى القلعة ودخل الأمراء الى بيوتهم وباتوا بها ونسوا الذي جرى وأكثر البيوت كان بها الأمراء الهالكون بالطاعون وبقي بها نساؤهم ومات غالب نساء الغائبين فلما رجعوا وجدوها عامرة بالحريم والجواري والخدم فتزوجوهن وجددوا فراشهم وعملوا أعراسهم ومن لم يكن له بيت دخل ما أحب من البيوت وأخذه بما فيه من غير مانع وجلس في مجالس الرجال وانتظر تمام العدة إن كان بقي منها شيء وأورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم وأزواجهم‏.‏

وفي يوم الأحد ركب سليم آغا ونادى على طرئفة القليونجية والأرنؤد والشوام بالسفر ولا يتأخر أحد وكل من وجد بعد ثلاثة أيام استحق ما ينزل به ثم أن المماليك صاروا كل من صادفوه منهم أو رأوه أهانوه وأخذوا سلاحه فاجتمع منهم طائفة وذهبوا الى الباشا فأرسل معهم شخصًا من الدلاة أنزلهم الى بولاق في المراكب وصار أولاد البلد والصغار يسخرون بهم ويصفرون عليهم بطول الطريق وسكن مراد بك ببيت اسمعيل بك وكأنه كان يبنيه من أجله‏.‏

وفي يوم الاثنين أيضًا طاف الآغا وهو ينادي على القليونجية والأرنؤد‏.‏

وفي يوم الخميس سادس عشرينه صعد الأمراء الى القلعة وقابلوا الباشا وكانوا يروه ولم يرهم قبل ذلك اليوم فخلع عليهم الخلع ونزلوا من عنده وشرعوا في تجهيز تجريدة الى الهاربين لأنهم حجزوا ما وجدوه من مراكبهم وأمتعتهم وكتب الباشا عرضحال في ليلة دخولهم وأرسله صحبة واحد ططري الى الدولة بحقيقة الحال وعينوا التجريدة ابراهيم بك الوالي وعثمان بك المرادي متقلدًا إمارة الصعيد وعثمان بك الأشقر وأحضر مراد بك حسن كتخدا علي بك بأمان وقابله وقيده بتشهيل التجريدة وعمل البقسماط ومصروف البيت من اللحم والخبز والسمن وغير ذلك ووجه عليه المطالب حتى صرف ما جمعه وحواه وباع متاعه وأملاكه ورهنها واستدان ولم يزل حتى مات بقهره وقلدوا علي آغا مستحفظان سابقًا وجعلوه كتخدا وفي حادي عشرين شهر الحجة الموافق لسابع عشر مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه ونزل الباشا الى قصر السد وحضر القاضي والأمراء وكسر السد بحضرتهم وعملوا الشنك المعتاد وجرى الماء في الخليج ثم توقفت الزيادة ولم يزد بعد الوفاء إلا شيئًا قليلًا ثم نقص واستمر يزيد قليلًا وينقص الى الصليب فضجت الناس وتشحطت الغلال وزاد سعرها وانكبوا على الشراء ولاحت لوائح الغلاء‏.‏

وفيه أيضًا شرع الأمراء في التعدي على أخذ البلاد من أربابها من الوجاقلية وغيرهم وأخذوا بلاد أمير الحاج‏.‏

وفيه صالح الباشا الأمراء على مصطفى آغا الوكيل وأخلوا له داره وقد كان سكن بها عثمان بك الأشقر فأخلاه له ابراهيم بك ونزل من القلعة إليه ولازم ابراهيم بك ملازمة كلية وكذلك مصطفى كاشف الذي كان بطرا لازم مراد بك واختص به وصار جليسه ونديمه‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان ومات شيخنا علم الأعلام والساحر اللاعب بالافهام الذي جاب في اللغة والحديث كل فج وخاض من العلم كل لج المذلل له سبل الكلام الشاهد له الورق والأقلام ذو المعرفة والمعروف وهو العلم الموصوف العمدة الفهامة والرحلة النسابة الفقيه المحدث اللغوي النحوي الأصولي الناظم الناثر الشيخ أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي هكذا ذكر عن نفسه ونسبه ولد سنة خمس وأربعين ومائة وألف كما سمعته من لفظه وروايته بخطه ونشأ ببلاده وارتحل في طلب العلم وحج مرارًا واجتمع بالشيخ عبد الله السندي والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي وعبد الله السقاف والمسند محمد ابن علاء الدين المزجاجي وسليمان بن يحيى وابن الطيب واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة وبالشيخ عبد الله ميرغني الطائفي في سنة ثلاث وستين ونزل بالطائف بعد ذهابه الى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين فقرأ على الشيخ عبد الله في الفقه وكثيرًا من مؤلفاته وأجازه وقرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة وأجازه بمروياته ومسموعاته قال‏:‏ وهو الذي شوقني الى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها وما فيها من المشاهد الكرام فاشتاقت نفسي لرؤياها وحضرت مع الركب وكان الذي كان وقرأ عليه طرفًا من الإحياء وأجازه بمروياته ثم ورد الى مصر في تاسع سفر سنة سبع وستين ومائة وألف وسكن بخان الصاغة وأول من عشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي والصعيدي والمدابغي وغيرهم وتلقى عنهم وأجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه واعتنى بشأنه اسمعيل كتخدا عزبان ووالاه بره حتى راج أمره وترونق حاله واشتهر ذكره عند الخاص والعام ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة وسافر الى الصعيد ثلاث مرات واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه وأكرمه شيخ العرب همام واسمعيل أبو عبد الله وأبو علي وأولاده نصير وأولاد وافي وهادوه وبروه وكذلك ارتحل الى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة وباقي البنادر العظيمة مرارًا حين كانت مزينة بأهلها عامرة بأكابرها وأكرمه الجميع واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظمًا نثرًا لو جمعت كانت مجلدًا ضخمًا وكناه سيدنا السيد أبو الأنوار بن وفا بأبي الفيض وذلك يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وذلك برحاب ساداتنا بني الوفا يوم زيارة المولد المعتاد ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنه بوكالة الصاغة وشرع في شرح القاموس حتى أتمه في عدة سنين في نحو أربعة عشر مجلدًا وسماه تاج العروس ولما أكمله أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائة وألف وأطلعهم عليه واغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة وكتبوا عليه تقاريظهم نثرًا ونظمًا فمن قرظ عليه شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي والشيخ أحمد الدردير والسيد عبد الرحمن العيدروس والشيخ محمد الأمير والشيخ حسن الجداوي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الزيات والشيخ محمد عبادة والشيخ محمد العوفي والشيخ حسن الهواري والشيخ أبو الأنوار السادات والشيخ علي القناوي والشيخ علي خرائط والشيخ عبد القادر بن خليل المدني والشيخ محمد المكي والسيد علي القدسي والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا والشيخ علي الشاوري والشيخ محمد الخربتاوي والشيخ عبد الرحمن المقري والشيخ محمد سعيد البغدادي الشهير بالسويدي وهو آخر من قرظ عليه وكنت إذ ذاك حاضرًا وكتبه نظمًا ارتجالًا وذلك في منتصف جمادى الثانية سنة أربعة وتسعين ومائة وألف‏.‏

ولما أنشأ محمد بك أبو الذهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر وعمل فيه خزانة للكتب واشترى جملة من الكتب ووضعها بها أنهوا إليه شرح القاموس هذا وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها وانفردت بذلك دون غيرها ورغبوه في ذلك فطلبه وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة ووضعه فيها ولم يزل المترجم يخدم العلم ويرقى في درج المعالي ويحرص على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون كعلم الإنسان والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائف المحدثين المتأخرين بالمتقدمين وألف في ذلك كتبًا ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة ثم انتقل الى منزل بسويقة اللالا تجاه جامع محرم أفندي بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي وذلك في أوائل سنة تسع وثمانين ومائة وألف وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه وهو يظهر لهم الغنى والتعفف ويعظهم ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقي ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب فأقبلوا عليه من كل جهة وأتوا الى زيارته من كل ناحية ورغبوا في معاشرته لكونه غريبًا وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم ويعرف باللغة التركية والفارسية بل وبعض لسان الكرج فانجذبت قلوبهم إليه وتناقلوا خبره وحديثه ثم شرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة المخرجين من حفظه على طرق مختلفة وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه ويكتب له سندًا بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك ثم أن بعض علماء الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة فقال لهم‏:‏ لابد من قراءة أوائل الكتب واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعدًا عن الناس فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخوني واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخوني أمام المسجد وخازن الكتب وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيره وتناقل في الناس سعي علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ مصطفى الطائي والشيخ سليمان الاكراشي وغيرهم للأخذ عنه فازداد شأنه وعظم قدره واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان والتمسوا منه تبيين المعاني فانتقل من الرواية الى الدراية وصار درسًا عظيمًا فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية وقد استغنى عنهم هو أيضًا وصار يملي على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثًا من المسلسلات أو فضائل الأعمال ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين وافتتح درسًا آخر في مسجد الحنفي وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر فازدادت شهرته وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم ودعاه كثير من الأعيان الى بيوتهم وعملوا من أجله ولائم فاخرة فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئًا من الأجزاء الحديثية كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده وبناته ونسائه من خلف الستائر وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ ويكتب الشيخ تحت ذلك صحيح ذلك وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة‏.‏

يقول الحقيراني كنت مشاهدًا وحاضرًا في غالب هذه المجالس والدروس ومجالس أخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم بخان الصاغة وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزاهة مثل غيط المعدية والأزبكية وغير ذلك فكنا نشغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ وفي أوراق كثيرة موجودة الى الآن وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار مثل مصطفى بك الاسكندراني وأيوب بك الدفتردار فسعوا الى منزله وترددوا لحضور مجالس دروسه وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال واشترى الجواري وعمل الأطعمة للضيوف وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية الى مصر وسمع به فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده وأصعده إليه وخلع عليه فروة سمور ورتب له تعيينًا من كلاره لكفايته من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة وغلالًا من الأنبار وأنهى الى الدولة شأنه فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفًا فضة في كل يوم وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائة وألف فعظم أمره وانتشر صيته وطلب الى الدولة في سنة أربع وتسعين فأجاب ثم امتنع وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق وطار ذكره في الأفق وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة وكثرت عليه الوفود من كل ناحية وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها رأس العجل وأرسلها الى أولاد السلطان عبد الحميد فوقع لهم موقعًا وكذلك أرسلوا له من طيور الببغا والجواري والعبيد والطواشية فكان يرسل من طرائف الناحية الى الناحية المستغرب من ذلك عندها ويأتيه في مقابلتها أضعافها وأتاه من طرائف الهند وصنعاء اليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة وماء الكادي والمربيات والعود والعنبر والعطرشاه بالأرطال وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى حتى أن أحدهم إذا ورد الى مصر حاجًا ولم يزره ولم يصله بشيء لا يكون حجه كاملًا فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده وحفظ ذلك أو كتبه ويستخبر من هذا عن ذاك بلطف ورقة فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده فيقول له فلان من بلدة كذا فلا يخلو ما أن يكون عرفه من غيره سابقًا أو عرف جاره أو قريبه فيقول له فلان طيب فيقول نعم سيدي ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح الى الغروب وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئًا ما فضة أو تمرًا أو شمعًا على قدر فقره وغناه وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها ويلتمسون منه الأجوبة فمن طفر منهم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة وحفظها معه كالتميمة ويرى أنه قد قبل حجه وإلا فقد باء بالخيبة والندامة وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده ودامت حسرته الى يوم ميعاده وقس على ذلك ما لم يقل وشرع في شرح كتاب إحياء العلوم للغزالي وبيض منه أجزاء وأرسل منها الى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس ويرغب في طلبه واستنساخه وماتت زوجته في سنة ست وتسعين فحزن عليها حزنًا كثيرًا ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية وعمل على قبرها مقامًا ومقصورة وستورًا وفرشًا وقناديل ولازم قبرها أيامًا كثيرة وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسو والقهوة والشربات واشترى مكانًا بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتًا صغيرًا وفرشه وأسكن به أمها ويبيت به أحيانًا وقصده الشعراء بالمراثي فيقبل منهم ذلك ويجزيهم عليه‏.‏

ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره ولما بلغ مالًا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض وترك الدروس والاقراء واعتكف بداخل الحريم وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة وأرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله خمسين إربًا من البر وأحمالًا من الأرز والسمن والعسل والزيت وخمسمائة ريال نقود وبقج كساوي أقمشة هندية وجوخًا وغير ذلك فردها وكان ذلك في رمضان وكذلك مصطفى بك الاسكندراني وغيرهما وحضر إليه فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما ورجعا من غير أن يواجهاه ولما حضر حسن باشا الصورة التي حضر فيها الى مصر لم يذهب إليه بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به وقدم له حصانًا معدودًا مرختًا بسرج وعباءة قيمته ألف دينارًا أعده وهيأه قبل ذلك وكانت شفاته عنده لا ترد وإن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال وقبل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها في رأسه ونفذ ما فيها في الحال وأرسل مرة الى أحمد باشا الجزار مكتوبًا وذكر له فيه أنه المهدي المنتظر وسيكون له شأن عظيم فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس الى الأماني ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمائم فكان يسر بذلك الى بعض من يرد عليه ممن يدعي المعارف في الجفور والزايرجات ويعتقد صحته بلا شك ومن قدم عليه من جهة مصر وأجمع سأله عن المترجم فإن أخبره وعرفه أنه اجتمع به وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء أحبه وأكرمه وأجزل صلته وإن وقع منه خلاف ذلك قطب منه وأقصاه عنه وأبعده ومنع عنه بره ولو كان من أهل الفضائل واشتهر ذلك عنه عند من عرف منه ذلك بالفراسة ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما واتفق أن مولاي محمدًا سلطان المغرب رحمه الله وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده وهو يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعاء فأرسل له في سنة إحدى ومائتين صلة لها قدر فردها وتورع عن قبولها وضاعت ولم ترجع الى اسلطان وعلم السلطان ذلك من جوابه فأرسل إليه مكتوبًا قرأته وكان عندي ثم ضاع في الأوراق ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة ويقول له‏:‏ إنك رددت الصلة التي أرسلناها إليك من بيت مال المسلمين وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقراء والمحتاجين فيكون لنا ولك أجر ذلك إلا أنك رددتها وضاعت ويلومه أيضًا على شرحه كتاب الإحياء ويقول له‏:‏ كان ينبغي أن تشغل وقتك بشيء نافع غير ذلك ويذكر وجه لومه له في ذلك وما قاله العلماء وكلامًا مفحمًا مختصرًا مفيدًا رحمه الله تعالى وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس وشرح الإحياء تأليفات كثيرة منها كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مما وافق فيه الأئمة الستة وهو كتاب نفيس حافل رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روي عنه في الاعتقاديات ثم في العمليات على ترتيب كتب الفقه والنفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية جمع فيه أسانيد العيدروس وهي في نحو عشرة كراريس والعقد الثمين في طرق الإلباس والتلقين وحكمة الإشراق الى كتاب الآفاق وشرح الصدر في شرح أسماء أهل بدر في عشرين كراسًا ألفها لعلي أفندي درويش وألف باسمه أيضًا التفتيش في معنى لفظ درويش ورسائل كثيرة جدًا منها رفع نقاب الخفا عمن انتمى الى وفا وأبي الوفا وبلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب وإعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام وزهر الأكمام المنشق عن جيوب الإلمام بشرح صيغة سيدي عبد السلام ورشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري ورشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق والقول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت وتنسيق قلائد المنن في تحقيق كلام الشاذلي أبي الحسن ولقط اللآلي من الجوهر الغالي وهي في أسانيد الأستاذ الحفني وكتب له إجازته عليه في سنة سبع وستين وذلك سنة قدومه الى مصر والنوافح المسكية على الفوائح الكشكية وجزء في حديث نعم الأدام الخل وهدية الإخوان في شجرة الدخان ومنح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية وإتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي وبذل المجهود في تخريج حديث شيبتي هود والمربي الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية ورسالة في المناشي والصفين وشرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني علي تفسير سورة يونس وتفسير على سورة يونس مستقل على لسان القوم وشرح على حزب البر الشاذلي وتكملة على شرح حزب البكري الفاكهي من أوه فكمله للشيخ أحمد البكري ومقامة سماها إسعاف الاشراف وأرجوزة في الفقه نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي وحديقة الصفا في والدي المصطفى وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي ورسالة في طبقات الحفاظ ورسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي وليس من الكرم الى آخره وعقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني والتعليقة على مسلسلات ابن عقيلة والمنح العلية في الطريقة النقشبندية والانتصار لوالدي النبي المختار وألفية السند ومناقب أصحاب الحديث وكشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام ورفع الشكوى لعالم السر والتزجوى وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب ورفع الكلل عن العلل ورسالة سماها قلنسوة التاج ألفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بن بدير المقدسي وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر وذلك في سنة اثنتين وثمانين ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهوري ويكتب عليها تقريظًا ففعل ذلك وكتب إليه يستجيزه فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج وأصيب بالطاعون في شهر شعبان وذلك أنه صلى الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره فطعن بعد ما فرغ من الصلاة ودخل الى البيت واعتقل لسانه تلك الليلة وتوفي يوم الأحد فأخفت زوجته وأقاربها موته حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخائر والأمتعة والكتب المكلفة ثم أشاعوا موته يوم الاثنين فحضر عثمان بك طبل الاسماعيلي ورضوان كتخدا المجنون وادعى أن المتوفى أقامه وصيًا مختارًا وعثمان بك ناظرًا بسبب أن زوج أخت الزوجة من أتباع المجنون يقال له حسين آغا فلما حضروا وصحبتهما مصطفى أفندي صادق أخذوا ما أحبوه وانتقوه من المجلس الخارج وخرجوا بجنازته وصلوا عليه ودفن بقبر أعده لنفسه ذلة اليوم لاشتغال الناس بأمر الطاعون وبعد الخطة ومن علم منهم وذهب بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيد رقية ولم يعلم بموته أهل الأزهر لم يدرك الجنازة ومات رضوان كتخدا في أثر ذلك واشتغل عثمان بك بالإمارة لموت سيده أيضًا وأهمل أمر تركته فأحرزت زوجته وأقاربه متروكاته ونقلوا الأشياء الثمينة والنفيسة الى دارهم ونسي أمره شهورًا حتى تغيرت الدولة وتملك الأمراء المصريون الذين كانوا بالجهة القبلية وتزوجت زوجته برجل من الأجناد من أتباعهم فعند ذلك فتحوا التركة بوصاية الزوجة من طرف القاضي خوفًا من ظهور وارث وأظهروا ما انتفوه مما انتقوه من الثياب وبعض الأمتعة والكتب والدشتات وباعوها بحضرة الجمع فبلغت نيفًا ومائة ألف نصف فضة فأخذ منها بيت المال شيئًا وأحرز الباقي مع الأول وكانت مختلفاته شيئًا كثيرًا جدًا أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته وممن يسعى في خدمته ومهماته أنه حضر إليه في يوم السبت وطلب الدخول لعيادته فأدخلوه إليه فوجده راقدًا معتقل اللسان وزوجته وأصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق الى الليوان ورأيت كومًا عظيمًا من الأقمشة الهندية والمقصبات والكشميري والفراء من غير تفصيل نحو الحملين وأشياء في ظروف وأكياس لا أعلم ما فيها قال ورأيت عددًا كثيرًا من ساعات العب الثمينة مبددًا على بساط للقاعة وهي بغلافات بلادها قال فجلست عند رأسه حصة وأمسكت يده ففتح عينيه ونظر إلي وأشار كالمستفهم عما هم فيه ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه فقمت عنه قال ورأيت في الفسحة التي أمام القاعة قدرًا كثير من شمع العسل الكبير والصغير والكافوري المصنوع والخام وغير ذلك مما لم أره ولم ألتفت إليه ولم يترك ابنًا ولا ابنة ولم يرثه أحد من الشعراء‏.‏

وكان صفته ربعة نحيف البدن ذهبي اللون متناسب الأعضاء معتدل اللحية قد وخطه الشيب في أكثرها مترفها في ملبسه ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض ولها عذبة مرخية على قفاه ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فتر وطرفها الآخر داخل طي العمامة وبعض أطرافه ظاهر وكان لطيف الذات حسن الصفات بشوشًا بسومًا وقورًا محتشمًا مستحضرًا للنوادر والمناسبات ذكيًا لوذعيًا فطنًا ألمعيًا روض فضله نضير وماله في سعة الحفظ نظير جعل الله مثواه قصور الجنان وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران ومات

الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة ذو الفضائل الجمة

والتحقيقات المهمة الذكي الألمعي النحوي المعقولي الفقيه النبيه الشيخ عمر البابلي الشافعي الأزهري تفقه على علماء العصر وحضر الشيخ عيسى البراوي والشيخ الصعيدي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عبد الباسط السنديوني وتمهر في العلوم وقرأ الدروس وأخذ طريق الخلوتية على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء ولازمه في مجالسه وأوارده ملازمة كلية ولوحظ بأنظاره وتزوج بزوجة الشيخ أحمد أخي الشيخ حسن المقدسي الحنفي وكانت مثرية فترونق حاله وتجمل بالملابس وعرفته الناس وماتت زوجته المذكورة لا عن عصبة فحاز ميراثها والتزم بحصة كانت لها بقرية يقال لها دار البقر فعند ذلك اتسعت عليه الدنيا وسكن دارًا واسعة واقتنى الجواري والخدم ومواشي وأبقارًا وأغنامًا واستأجر أرضًا قريبة يزرعها بالبرسيم تغدو إليها المواشي وتروح كل يوم من أيام الربيع ثم تزوج ببنت شيخه الشيخ محمود بعد وفاته وأقام منعمًا معها في رفاهية من العيش مع ملازمته للإقراء والإفادة الى أن أدركه الأجل المحتوم وتوفي في هذه السنة بالطاعون وكان إنسانًا حسنًا جم الفرائد والفوائد مهذب الأخلاق لين الطباع حسن المعاشرة جميل الأوصاف رحمه الله تعالى‏.‏

ومات العمدة الفاضل الواعظ عبد الوهاب بن الحسن البوسنوي السراي المعروف ببشناق أفندي قدم مصر سنة تسع وستين ومائة وألف ووعظ بمساجدها وأكره الأمراء للجنسية ثم توجه الى الحرمين وقطن بمكة ورتب له شيء معلوم على الوعظ والتدريس ومكث مدة ثم حصلت فتنة بين الأشراف والأتراك فنهب بيته وخرج هاربًا الى مصر فالتجأ الى علمائها فكتبوا له عرضًا الى الدولة بمعرفة ما جرى عليه فعين له شيء في نظير ما ذهب من متاعه وتوجه الى الحرمين فلم يقر له بمكة قرار ولم يمكنه الامتزاج مع رئيس مكة لسلاقة لسانه واستطالته في كل من دب ودرج فتوجه الى الروم ومكث بها أيامًا حتى حصل لنفسه شيئًا من معلوم آخر فأتى الى مكة وصار يطلع على الكرسي ويتكلم على عادته في الحط على أشراف مكة وذمهم والتشنيع عليهم وعلى أتباعهم وذكر مساويهم وظلمهم فأمر شريف مكة بالخروج منها الى المدينة فخرج إليها وقد حنق غيظًا على الشريف فلما استقر بالمدينة لف عليه بعض الأوباش ومن ليس له ميل الى الشريف فصار يطلع على الكرسي ويستطيل بلسانه عليه ويسبه جهرًا وغرة مرافقة أولئك معه وأن الشريف لا يقدر أن يأتي لهم بحركة فتعصبوا وزادوا نفورًا وأخرجوا الوزير الذي هو من طرف الشريف وكاتبوا الى الدولة برفع يد الشريف عن المدينة مطلقًا وأنه لا يحكم فيهم أبدًا وإنما يكون الحاكم شيخ الحرم فقط وأرسلوا بالعرض مفتي المدينة فكتب لهم على مقتضى طلبهم خطابًا الى أمير الحاج الشامي والى الشريف ولما أحس الشريف بذلك تنبه لهذه الحادثة وعرف أن أصلها من أنفار بالمدينة أحدهم المترجم واستعد للقاء أمير الحاج بعسكر جرار على خلاف عادته ورام مناواته إن برز منه شيء خلاف ما عهد منه فلما رأى أمير الحاج ذلك الحال كتم ما عنده وأنكر أن يكون عنده شيء من الأوامر في حقه ومضى لنسكه حتى إذا رجع الى المدينة تنمر وتشمر وكاد أن يأكل على يده من التندم والحسرة وذهب الى الشام ولما خلت مكة من الحجاج جرد الشريف عسكرًا على العرب فقاتلوه وصبر معهم حتى ظفر بهم ودخل المدينة فجأة ولم يكن ذلك يخطر ببالهم قط فما وسعهم إلا أنهم خرجوا للقائه فآنسهم وأخبرهم أنه ما أتى إلا لزيارة جده عليه الصلاة والسلام وليس له غرض سواه فاطمأنوا بقوله وشق سوق المدينة بعسكره وعبيده حتى دخل من باب السلام وتملى من الزيارة وأقبلت عليه أرباب الوظائف مسلمين فأكرمهم وكساهم فلما آنس منهم الغفلة أمر بإمساك جماعة من المفسدين الذين كانوا يحفرون وراءه فاختفى باقيهم وتسللوا وهرب منهم خفية بالليل جماعة وكان المترجم أحد من اختفى في بيته ثلاثة أيام ثم غير هيئته وخرج حتى أتى مصر ومشى على طريقته في الوعظ وعقد له مجلسًا بالمشهد الحسيني وخالط الأمراء وحضر درسه الأمير يوسف بك ومال إليه وألبسه فروة ودعاه الى بيته وأكرمه وتردد إليه كثيرًا وكان يلجه ويرفع منزلته ويسمع كلامه وينصت الى قوله ولديه بعض معرفة بالعلم على طريقة بلادهم واستمر بمصر وسكن بحارة الروم ورتب له بالضربخانة مائة ونصف فضة في كل يوم لمصروفه وصار له وجاهة عند أبناء جنسه إلى أن وقع له ما وقع مع اسمعيل باشا بسبب الوصاية على التركة كما مر ذلك آنفًا وحط من قدره وأهانه وحبسه نحو ثلاثة أشهر ثم أفرج عنه بشفاعة علي بك الدفتردار وانزوى خاملًا في داره الى أن مات في أوائل شعبان بالطاعون سامحه الله تعالى‏.‏

ومات الجناب المكرم المبجل المعظم جامع العارف وحاوي اللطائف الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقب بالرشيدي الرومي الأصل مولي المرحوم علي آغا بشير دار السعادة المكتب المصري اشتراه سيده صغيرًا وهذبه ودربه وشغله بالخط فاجتهد فيه وجوده على عبد الله الأنيس وكان ليوم إجازته محفل نفيس جمع فيه المرؤوس والرئيس ثم زوجته ابنته وجعله خليفته ولم يزل في حال حياة سيده معتكفًا على المشق والتسويد معتنيًا بالتحرير والتجويد الى أن فاق أهل عصره في الجودة في الفن وجمع كل مستحسن ولما توفي شيخ المكتبين المرحوم اسمعيل الوهبي جعل المرجم شيخًا باتفاق منهم لما أعطى من مكارم الشيخ وطيب الأخلاق وتمام المروءة وحسن تلقي الواردين وجميل الثناء عليه من أهل الدين وألف من أجله شيخنا السيد محمد مرتضى كتاب حكمة الإشراق الى كتاب الآفاق جمع فيه ما يتعلق بفنهم مع ذكر أسانيدهم وهو غريب في بابه يستوقف الراتع في مريع هضابه ولم يزل شيخًا ومتكلمًا على جماعة الخطاطين والكتاب وعميدهم الذي يشار إليه عند الأرباب نسخ بيده عدة مصاحف وأحزاب وأما نسخ الدلائل فكثرتها لا تدخل تحت الحساب الى أن طافت به المنية طواف الوداع ونثرت عقد ذلك الاجتماع وبموته انقرض نظام هذا الفن‏.‏

ومات صاحبنا الأديب الماهر والنبيه الباهر نادرة العصر وقرة عين الدهر عثمان بن محمد بن حسين الشمسي وهو أحد الأخوة الأربعة أكثرهم معرفة وأغزرهم أدبًا وأغوصهم في استخراج الدقائق واستنتاج الرقائق وأمهم جميعًا الشريفة رقية بنت السيد طه الحموي الحسيني ولد المترجم بمصر وربي في حجر أبويه وتعلق من صغره بمعرفة الفنون الغريبة فنال طرفًا منها حسنًا يليق عند المذاكرة وعرف الفرائض واستخرج منها طرقًا غريبة في استحقاق المواريث في قسم الغرماء في شبابيك وله سليقة شعرية مقبولة وله معرفة باللغة جيدة يطالع كتبها ويحل عقدها ويسأل عن غرائب الفن ويغوص بذهنه على كل مستحسن ولقد نظم فرائض الدين وأسماء أهل بدر وغير ذلك وبالجملة أنه كان من محاسن الزمان توفي رحمه الله في أواخر شعبان مطعونًا وخلف ولديه محمد جربجي وحسين جربجي أحياهما الله حياة طيبة ومات الأجل المبجل بقية السلف ونتيجة الخلف الوجيه الصالح النبيه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد شيخ سجادة جده سيدي عبد الوهاب الشعراني مات أبوه الشيخ أحمد في سنة أربع وثمانين وتركه صغيرًا دون البلوغ فكفلته أمه فتولى السجادة الشيخ أحمد من أقاربه وتزوج بأمه وسكن بدارهم ولما شب المترجم وترشد اشترك معه بالمناصفة ثم توفي الشيخ أحمد المذكور فاستقل بذلك ونشأ في عز وعفاف وصلاح وحسن حال ومعاشرة ومودة وعمر البيت حسًا ومعنى وأحيا مآثر أجداده وأسلافه وكان شديد الحياء والحشمة والتواضع والانكسار والخشية والحلم والتؤدة ومكارم الأخلاق ولما تم كماله بدا زواله واخترمته في شبابه يد الأجل فقطعت شمس عمره منطقة الأمل وخلف ابنًا صغيرًا يسمى سيدي قاسمًا بارك الله فيه ومات أعز الأخوان وأخص الأصدقاء والخلان النجيب الصالح والأريب الناجح شقيق النفس والروح وصحبته باب الخير والفتوح المتفنن النبيه سيدي ابراهيم بن محمد الغزالي بن محمد الدادة الشاريبي من أجل أهل بيت الثروة والمجد والعز والكرم وهو كان مسك ختامهم وبموته انقرض بقية نظامهم وقد تقدم استطراد بعض أوصافه في ترجمة المرحوم سيدي أحمد رفيق المرحوم رضوان كتخدا الجلفي ومنها حرصه على فعل الخير ومكارم الأخلاق وتقديم الزاد ليوم المعاد والصدقات الخفية والأفعال المرضية التي منها تفقد طلبة العلم الفقراء والمنقطعين ومواساتهم ومعونتهم وكان يشتري المصاحف والألواح الكثيرة ويفرقها بيد من يثق به على مكاتب أطفال المسلمين الفقراء معونة لهم على حفظ القرآن ويملأ الأسبلة للعطاش ولا يقبل من فلاحينه زيادة على المال المقرر ويعاون فقراءهم ويقرضهم التقاوى واحتياجات الزراعة وغيرها ويحسب لهم هداياهم من أصل المال وكان يتفقه على العلامة الشيخ محمد العقاد المالكي ويحضر دروسه في كل يوم وبعد وفاته لازم حضور الشيخ عبد العليم الفيومي وكان ينفق عليه وعلى عياله ويكسوهم ولم يزل سمح السجية بسام الثنية الى أن بغته الطاعون حالًا وكان موته ارتجالًا فنضبت جداوله واستراحت حساده وعواذله وكان الله حسنة في صحائف الأيام والليالي وروضة تنبت الشكر في رياض المعالي‏.‏

فلو بعت يومًا منه بالدهر كله لفكرت دهرًا ثانيًا في ارتجاعه‏.‏

ومات أيضًا من بيتهم الأجل المكرم أحمد جلبي بن الأمير علي وكان شابًا لطيف الذات مليح ومات أيضًا من بيتهم الأمير عثمان بن عبد الله معتوق المرحوم محمد جربجي وكان من أكابر بيتهم وبقية السلف من طبقتهم ذا وجاهة وعقل وحشمة وجلالة قدر‏.‏

ومات أيضًا من بيتهم الأمير رضوان صهر أحمد جلبي المذكور وكان إنسانًا لا بأس به أيضًا ومات من بيتهم عدد كثير من النساء والصبيان والجواري في تلك الأيام المبددة منهم ومن غيرهم عقد النظام‏.‏

ومات الصنو الفريد والعقد النضيد الذكي النبيه من ليس له في الفضل شبيه صاحبنا الأكرم وعزيزنا الأفخم ابراهيم جلبي بن أحمد آغا البارودي نشأ مع أخويه علي ومصطفى في حجر والدهم في رفاهية وعز ولما مات والدهم في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف تزوجته والدتهم وهي ابنة ابراهيم كتخدا القازدغلي بمحمد خازندار زوجها وهو محمد آغا الذي اشتهر ذكره بعد ذلك فكفل أولاد سيده المذكورين وفتح بيتهم وعانى المترجم تحصيل الفضائل وطلب العلم ولازم حضور الدروس بالأزهر في كل يوم وتقيد بحضور الفقه على السيد أحمد الطحطاوي والشيخ أحمد الخانيوشي وفي المعقول على اليخ محمد الخشني والشيخ علي الطحان حتى أدرك من ذلك الحظ الأوفر وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار ما يحتاج إليه من المسائل النقلية والعقلية وترونق بالفضائل وتحلى بالفواضل الى أن اقتنصه في ليل شبابه صياد المنية وضرب ومات أيضًا بعده بيومين أخوه سيدي علي وكان جميل الخصائل مليح الشمائل رقيق الطباع يشنف بحسن ألفاظه الأسماع اخترمته المنية وحالت بساحة شبابه الرزية‏.‏

ومات الصاحب الأمثل والأجل الأفضل حاوي المزايا المنزه عن النقائص والرزايا عبد الرحمن أفندي بن أحمد المعروف بالهلواتي كاتب كبير باب تفكشيان من أعيان أرباب الأقلام بديوان مصر كان اشتغل بطلب العلم ولازم حضور الأشياخ وحصل في المعقول والمنقول ما تميز به عن غيره من أهل صناعته مع حسن الأخلاق وجميل الطباع وحضر على الشيخ مصطفى الطائي كتاب الهداية في الفقه مشاركًا لنا وأخذ أيضًا الحديث عن السيد مرتضى وسمع معنا عليه كثيرًا من الأجزاء والمسلسلات والصحيحين وغير ذلك وألف حاشية على مراقي الفلاح واقتنى كتبًا نفيسة وكان يباحث ويناضل مع عدم الادعاء وتهذيب النفس والسكون والتؤدة والإمارة والسيادة الى أن أجاب الداعي ونعته النواعي واضمحل حال أبيه بعده وركبته الديون وجفاه الأخدان والمجنون وصار بحالة يرثى لها الشامت ويبكي حزنًا عليه من يسمع ذكره من الناعت الى أن توفي بعد بنحو سنتين‏.‏

ومات الأمير المبجل والنبيه المفضل علي بن عبد الله الرومي الأصل مولى الأمير أحمد كتخدا صالح اشتراه سيده صغيرًا فتربى في الحريم وأقرأه القرآن وبعض متون الفقه وتعلم الفروسية وكان بيته موردًا للأفاضل فكان يكرمهم ويحترمهم ويتعلم منهم العلم ثم أعتقه وأنزله حاكمًا في بعض ضياعه ثم رقاه الى أن عمله رئيسًا في باب المتفرقة وتوجه أميرًا على طائفته صحبة الخزينة الى الأبواب السلطانية مع شهامة وصرامة ثم عاد الى مصر وكان ممن يعتقد في شيخنا السيد علي المقدسي ويجتمع به كثيرًا وكان له حافظة جيدة في استخراج الفروع وأتقن فن رمي النشاب الى أن صار أستاذا فيه وانفرد في وقته في صنعة القسي والسهام والدهانات فلم يلحقه أهل عصره وأضر بعينيه وعالجهما كثيرًا فلم يفده فصبر واحتسب ومع ذلك فيرد عليه أهل فنه ويسألونه فيه ويعتمدون على قوله ويجيد القسي تركيبًا وشدًا ولقد أتاه وهو في هذه الضرارة رجل من أهل الروم اسمه حسن فأنزله في بيته وعلمه هذه الصنعة حتى فاق في زمن قليل أقرانه وسلم له أهل عصره وسمع المترجم عن شيخنا المذكور أكثر الصحيح بقراءة كل من الشريفين الفاضلين سليمان بن طه الأكراشي وعلي بن عبد الله بن أحمد وذلك بمنزله المطل على بركة الفيل وكذلك سمع عليه المسلسل بالعيد بشرطه وحديثين مسلسلين بيوم عاشورًا تخريج السيد المذكور وأشياء أخر ضبطت عند كاتب الأسماء وأخذ الإجازة من الشيخ اسمعيل بن أبي المواهب الجلبي وكان عنده كتب نفيسة في كل فن رحمه الله‏.‏

ومات الشاب اللطيف المهذب الظريف الذي يحكي بأدبه سنا الملك وابن العفيف محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب أبوه مولى اللقاسم الشرايبي مات أبوه في حداثته وكان مولد سنة أربع وستين ومائة وألف وكفله صهره سليمان بن محمد الكاتب أحد كتاب المقاطعة بالديوان ونشأ في الرفاهية والنعم وعانى طلب العلم فنال منه ما أخرجه من ربقة الجهل وتعلق بالعروض وأخذ عنه الشيخ محمد بن ابراهيم العوفي المالكي فبرع فيه ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه فيه ما لا يلزم توفي في غرة شعبان من السنة‏.‏

ومات الصنو الفريد والنادرة الوحيد النبيه اللبيب والمفرد العجيب الفاضل الناظم الناثر سيدي عثمان بن أحمد الصفائي المصري تقدم ذكره في ترجمة والده أحمد أفندي كاتب الروزنامة بديوان مصر ونشأ هو في ظل النعمة والرفاهية وقرأ النحو والمنطق على كل من الشيخ علي الطحان والشيخ مصطفى المرحومي حتى مهر فيهما وكان يباحث ويناضل ويناقش أهل العلم في المسائل العقلية والنقلية وقرأ علم العروض وأتقن نظم الشعر وجمع الظروف وكان فيه نوع من الخلاعة واللهو وله تخميس على البردة وأشعار كثيرة ولم يزل رافلًا في حلل السعادة حتى حلت بساحة شبابه الشهادة وتوفي مطعونًا بمليج وهو ذاهب لموسم المولد الأحمدي بطندتا في شهر رجب وقد ناهز الأربعين وحضروا به الى مصر محمولًا على بعير فغسل وكفن ودفن عند والده رحمه الله‏.‏

ومات الخواجا المعظم والتاجر المكرم السيد أحمد ابن السيد عبد السلام المغربي الفاسي نشأ في حجر والده وتربى في العز والرفاهية حتى كبر وترشد وأخذ وأعطى وباع واشترى وشارك وعامل واشتهر ذكره وعرف بين التجار ومات أبوه واستقر مكانه في التجارة عرفته الناس زيادة عن أبيه وصار يسافر الى الحجاز في كل سنة مقومًا مثل أبيه وبنى داره ووسعها وأضاف إليها دكة الحسبة التي بجوار الفحامين وأنشأ دارًا عظيمة أيضًا بخط الساكت بالأزبكية وانضوى إليه السيد أحمد المحروق وأحبه واتحد به اتحادًا كليًا وكان له أخ من أبيه بالحجاز يعرف بالعرايشي من أكابر التجار ووكلائهم المشهورين ذو ثروة عظيمة فتوفي وصادف وصول المترجم حينئذ الى الحجاز فوضع يده على ماله ودفاتره وشركاته وتزوج بزوجته وأخذ جواره وعبيده ورجع الى مصر واتسع حاله زيادة على ما كان عليه وعظم صيته وصار عظيم التجار وشاه البندر وسلم قياده وزمامه في الأخذ والعطاء وحساب الشركاء الى السيد أحمد المحروقي وارتاح إليه لحذقه ونباهته ونجابته وسعادة جده ولم يزل على ذلك حتى اخترمته المنية وحالت بينه وبين الأمنية وتوفي في شعبان مطعونا وغسل وكفن وصلي عليه بالمشهد الحسيني في مشهد حافل بعد العشاء الأخيرة في المشاعل ودفن عند أبيه بزاوية العربي بالقرب من الفحامين والتجأ السيد أحمد المحروقي الى السيد آغا البارودي كتخدا اسمعيل بك فسعى إليه وأقره مكانه وأقامه عوضه في كل شيء وتزوج بزوجاته وسكن داره واستولى على حواصله وبضائعه وأمواله ونما أمره من حينئذ وأخذ وأعطى ووهب وصانع الأمراء وأصحاب الحل والعقد حتى وصل الى ما وصل إليه وأدرك ما لم يدركه غيره فيما سمعنا ورأينا كما قيل‏:‏ وإذا السعادة لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان ومات الأمير الكبير اسمعيل بك وأصله من مماليك ابراهيم كتخدا وانضوى الى علي بك بلوط قبان فجعله اشراقه وأقره ونوه بشأنه وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم وزوجه بهانم ابنة ابراهيم كتدخا وعمل لهما مهمًا عظيمًا ببركة الفيل شهرًا كاملًا في سنة أربع وسبعين كما تقدم ذكر ذلك وكان من المهمات الجسيمة والمواسم العظيمة التي لم يتفق نظيرها بعده بمصر ولم يزل منظورًا إليه في الإمارة مدة علي بك وأرسله في سرياته واعتمده في مهماته وبعثه الى سويلم بن حبيب بتجريدة فلم يزل يحاربه حتى هزمه وفر الى البحيرة فلحقه هناك ولم يزل يتبعه ويرصده حتى قتله وحضر برأسه الى مخدومه وذلك في أواخر سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف‏.‏

وسافر الى الشام صحبة محمد بك أبي الذهب لمقاتلة عثمان باشا ابن العظم وأغاروا على البلاد الشامية وحاربوا يافا أربعة أشهر حتى ملكوها وسافر قبل ذلك في تجاريد الصعيد وحضر غالب مواقف الحروب مع محمد بك ومستقلًا الى أن بدت الوحشة بين محمد بك وسيده علي بك وخرج مع محمد بك الى الصعيد وجرى بينهما الدم بقتله أيوب بك فأخرج إليه علي بك جردة عظيمة احتفل بها احتفالًا زائدًا وأميرها المترجم فلما التقى الجمعان ألقى عصاه وخامر على مولاه وانضم بمن معه الى محمد بك فشد عضده وخان مخدومه وحصل ما حصل من تقلبهم واستيلائهم كما ذكر واستمر مع محمد بك يراعي حرمته ويقدمه على نفسه ولا يبرم أمرًا إلا بعد مشاورته ومراجعته وتقلد الدفتردارية وأميرًا على الحج سنتين بشهامة وسير حسن ولما مات محمد بك لم تطمح نفسه للتصدر في الرياسة والإمارة بل تركها لأتباعه وقنع بحاله وإقطاعه ولزم داره التي عمرها بالأزبكية فناكدوه وطمعوا فيما لديه وقصد مراد بك اغتياله فخرج الى خارج وتبعه المغرضون له ويوسف بك وغيره وحصل ما هو مسطر ومشروح في محله من تملكه وقتله يوسف بك واسمعيل بك الصغير بمساعدة العلوية ثم غدروا به حتى آل الأمر به الى الخروج الى البلاد الشامية وافتراق جمعه ثم سافر الى الروم مع بعض أتباعه ومماليكه وذهب منه غالب ما اجتمع لديه من الأموال وذهب الى اسلامبول فأقام بها مدة ثم نفوه الى شنق قلعة وخرج منها بحيلة تحيلها على حاكمها ثم ركب البحر الى درنة ووصل خبر ذلك الى الأمراء بمصر فخرج مراد بك ليقطع عليه الطريق الموصلة الى قبلي وأرصد له عيونًا ينتظرونه بالطريق وأقام على ذلك شهورًا فلم يقفوا له على خبر وهو يتنقل عند العربان حتى أنه اختفى عند بعضهم نيفًا وأربعين يومًا في مغارة ثم أنه تحيل وأرسل من ألقى الى مراد بك أنه مر من الجهة الفلانية بمعرفة الرصد المقيمين فحنق مراد بك وركب في الحال ليقطع عليه الطريق وتفرق الجمع من ذلك المكان فعند ذلك اجتاز اسمعيل بك ذلك الموضع وعداه في زي بعض العربان وخلص الى القضاء الموصل للبلاد القبلية وذهب مراد بك في نهاية مشواره فلم ير أثرًا لذلك الخبر فرجع الى المكان الذي عرفوه سلوكه فوجد المرابطين على ما هم عليه من التيقظ الى أن تحقق عنده أنه تحيل بذلك ومر وقت ارتحال مراد بك من ذلك الموضع فرجع بخفي حنين ولم يزل حتى كان ما كان ووصل حسن باشا على الصورة المتقدمة ورجع الى مصر وتملكها واستقل بإمارتها بعد ثغر به تسع سنين ومقاساته الشدائد وظن أن الوقت قد صفا له واستكثر من شراء المماليك واحترقت داره وبناها أحسن مما كانت عليه وحصن المدينة وسورها من عند طرا والجيزة وحصنها تحصينًا عظيمًا من الجبل الى البحر من الجهتين حتى أنه لما أصيب بالطاعون أحضر أمراءه وقال لعثمان بك طبل بحضرتهم أنت كبير القوم الباقية فافتح عينك وشد حيلك فإني حصنت لكم البلد وصيرتها بحيث لو ملكتها امرأة لم يقدر عليها عدو وتمرض يومين ومات في الثالث سادس عشر شعبان من السنة وكان أميرًا جليلًا كفؤًا للإمارة جهوري الصوت عظيم الهمة بعيد الغور كبير التدبير يحب الصلحاء والعلماء ويتأدب معهم ويواسيهم ويقبل شفاعتهم ويكرمهم وله فيهم اعتقاد عظيم حسن ولما مات غسل وكفن وصلي عليه في مصلى المؤمنين ودفن بتربة علي بك مع سيدهما ابراهيم بك كتخدا بالقبر من ضريح الإمام الشافعي بالقرافة ولم يفلح بعده خليفته عثمان بك وأضاع مملكته وسلمها لأخصامه وأخصام سيده‏.‏

ومات الأمير رضوان بك وهو ابن أخت علي بك الكبير أمره وقلده الصنجقية وجعله من الأمراء الكبار فلما مات خاله واستقل بالمملكة محمد بك انزوى وارتفعت عنه الآمرية وأقام بطالًا هو وحسن بك الجداوي مدة أيام محمد بك فلما مات محمد بك وظهر بالإمارة ابراهيم بك ومراد بك لم يزل على خموله الى أن وقع التفاقم بينهم وبين اسمعيل بك فانضم هو وحسن بك الى اسمعيل بك وساعداه فرد لهما آمرياتهما ونوه بشأنهما ثم نافقا عليه وخذلاه عندما سافر معهما الى قبلي وكانا هما السبب في غربته المدة الطويلة كما ذكر ثم وقع لهما ما وقع مع المحمدية وذهبا الى الجهة القبلية وأقاما هناك فلما رجع اسمعيل بك من غيبته انضم إليهما ثانيًا ولم يزل معهما وافترق منهما المترجم وحضر الى مصر وانضم الى المحمدية ولما حضر حسن باشا وخرج معهم رجع ثانيًا بأمان واستمر بمصر حتى حضر اسمعيل بك وحسن بك فأقام معهم أميرًا ومتكلمًا وتصادق مع علي بك كتخدا الجاويشية وعقد معه المؤاخاة ونزل مرارًا الى الأقاليم وعسف بالبلاد ولما سافر حسن باشا وخلالهما الجو فجر وتجبر وصار يخطف الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم تعدى شره لكثير من الفقراء ولم يزل هذا شأنه حتى أطفأ صرصر الموت شعلته وحل بساحته الطاعون ولم يفلته وأراح الله منه العباد وكان أشقر خبيثًا‏.‏

ومات الأمير الأصيل رضوان بك بن خليل بن ابراهيم بك بلفيا من بيت المجد والعز والسيادة والرياسة وبيتهم من البيوت الجلية القديمة الشهيرة بمصر ولم يكن بمصر بيت عريق في الإمارة والسيادة إلا بيتهم وبيت قصبة رضوان وجميع أمراء مصر تنتهي سلسلتهم إليهما وبيت القازدغلية أصل منشتهم ومغرس سيادتهم من بيت بلفيا كما تقدم لأن ابراهيم بك بلفيا جد المترجم مملوك مصطفى بك ومصطفى بك مملوك حسن آغا بلغيا وهو سيد مصطفى كتخدا القازدغلي ومصطفى هذا كان سراجًا عند حسن آغا ورقاه وأمره حتى جعله كتخذا باب مستحفظان ونما أمره وعظم شأنه وباض وأفرخ فجميع طائفة القازدغلية تنتهي نسبتهم إليه كما ذكر ذلك غير مرة ولما توفي خليل بك والد المترجم في سنة خمس وثمانين بالحجاز في إمارته على الحج وترك أخاه عبد الرحمن آغا وولده رضوان هذا ورجع بالحج عبد الرحمن آغا المذكور وبعد استقرارهم اجتمعت أعيان بيتهم وأرادوا تقليد عبد الرحمن آغا صنجقًا عوضًا عن أخيه فأبى ذلك فاتفقوا على تقليد ابن أخيه رضوان المذكور فكان كذلك وقلدوه الإمارة وفتح بيتهم وأحيا مآثرهم وانضم إليه أتباعهم وسار سيرًا حسنًا بعقل ورياسة لولا لثغة في لسانه وتقلد أمير الحج سنة 1192 وكان كفؤًا لها وطلع ورجع في أمن وراحة ورخاء ولم يزل في سيادته حتى توفي في هذه السنة واضمحل بيتهم بموته وماتت أعيانهم وعظماؤهم وخرب البيت بالكلية وانمحت آثارهم وانطفأت أنوارهم وبطلت خيراتهم وخمدت حركاتهم ومن جملة ما رأيته من خيراتهم وخمدت حركاتهم ومن جملة ما رأيته من خيراتهم في أيام رضوان بك هذا مائة قارئ من الحفظة يقرأون القرأن كل يوم في الأوقات الخمسة في كل وقت عشرون قارئًا وقس على ذلك‏.‏

ومات الأمير سليمان بك المعروف بالشابوري وأصله من مماليك سليمان كاويش القازدغلي فهو خشداش حسن كتخدا الشعراوي تقلد الإمارة والصنجقية سنة تسع وستين ونفي مع حسن كتخدا المذكور وأحمد جاويش المجنون كما تقدم في سنة ثلاث وسبعين فلما كانت أيام علي بك وورد من الديار الرومية طلب الإمداد من مصر للغز وأرسل علي بك فأحضر المترجم وقلده إمارة السفر فخرج بالعسكر في موكب على العادة القديمة وسافر بهم الى الديار الرومية وذلك سنة ثلاث وثمانين ورجع بعد مدة وأقام بطالًا محترمًا مرعي الجانب ينافق كبار الدولة وانضم الى مراد بك فكان يجالسه ويسامره ويكرمه المذكور فلما حضر حسن باشا كان هو من جملة المتآمرين فلما استقر اسمعيل بك في إمارة مصر اعتنى به وقدمه ونظمه في عداد ومات الأمير الجليل عبد الرحمن بك عثمان وهو مملوك عثمان بك الجرجاوي الذي قتل في واقعة قراميدان أيام حمزة باشا سنة تسع وسبعين كما تقدم فقلدوا عبد الرحمن هذا عوضه في الصنجقية فكان كفؤًا لها وكان متزوجًا ببنت الخواجا عثمان حسون التاجر العظيم المشهور المتوفى في أيام الأمير عثمان بك ذي الفقار وخلف منها ولده حسن بك وكان المترجم حسن السيرة سليم الباطن والعقيدة محبوب الطباع جميل الصورة وجيه الطلعة وكان محمد بك أبو الذهب يحبه ويجله ويعظمه ويقبل قوله ولا يرد شفاعته وكان يميل بطبعه الى المعارف ويحب أهل العلم والفضائل ويجيد لعب الشطرنج ومن مآثره أنه عمر جامع أبي هريرة الذي بالجيزة على الصفة التي هو عليها الآن وبنى بجانبه قصرًا وذلك في سنة ثمان وثمانين ولما أتمه وبيضه عمل به وليمة عظيمة وجمع علماء الأزهر في يوم الجمعة وبعد انقضاء الصلاة صعد شيخنا الشيخ علي الصعيدي على كرسي وأملى حديث من بنى لله مسجدًا بحضرة الجمع وكان شيخنا السيد محمد مرتضى حاضرًا وباقي العلماء والمشايخ والحقير في جملتهم وكنت حررت له المحراب على انحراف القبلة ثم انتقلنا الى القصر ومدت الأسمطة وبعدها الشربات والطيب وكان يومًا سلطانيًا توفي رحمه الله في شعبان بمنزله الذي بقيسون جوار بيت الشابوري ودفن عند سيده بالقرافة‏.

ومات في أثره ولده حسن بك المذكور وكان فطنًا نجيبًا ويكتب الخط الجيد ويميل بطبعه الى الفضائل وذويها منزهًا عما لا يعنيه من النقائص والرذائل عوض الله شبابه الجنة ومات الأمير سليم بك الاسماعيلي من مماليك اسمعيل بك قلده الإمارة في سنة إحدى وتسعين وخرج مع سيده الى الشام ثم رجع الى مصر بعد سفر سيده الى الروم وأقام بها بطالًا في بيته بجوار المشهد الحسيني ببعض خدم قليلة ويذهب الى المسجد في الأوقات الخمسة فيصلي مع الجماعة ويتنقل كثيرًا ولم يزل على ذلك حتى رجع سيده الى مصر فرد له إمارته ورجع الى داره الكبيرة وتقلد إمارة الحج في سنة اثنتين ونزل الى إقليم المنوفية وجمع المال والجمال ورجع وطلع بالحج وعاد في أمن وأمان ولم يزل في إمارته حتى توفي بالطاعون في هذه السنة وكان طوالًا جسيمًا خيره أقرب من شره‏.‏

ومات الأمير علي بك المعروف بجركس الاسماعيلي وهو من مماليك اسمعيل بك أيضًا وقلده الإمارة في مدته السابقة وأسكنه ببيت صالح بك الذي بالكبش ولما تغرب سيده حضر الى مصر وأقام خاملًا وسكن بالكعكين وكان لطيفًا مهذبًا خفيف الروح ضحوك السن يحب العلماء والصلحاء ويتأدب معهم ويكرمهم ولما مات خشداشة ابراهيم بك قشطة تزوج بعده بزوجته بنت اسمعيل بك ولم يزل حتى توفي بعد سيده بأيام قليلة‏.‏

ومات الأمير غيطاس بك وهو من بيت صالح بك تابع مصطفى بك القرد وكان يعرف أولًا بغيطاس كاشف تقلد الإمارة في سنة مائتين وتولى إمارة الحج في سنة 1201 فسار فيها سيرًا حسنًا وطلع بالحج ورجع مستورًا واستمر أميرًا الى أن مات على فراشه بالطاعون في بيته بخط باب اللوق فقلدوا بعده مملوكه صالح إمارته وهو موجود الى الآن في الأحياء وكان المترجم أميرًا جليلًا محتشمًا قليل التبسم من رآه ظنه متكبر السكون جاشه وكان لا بأس به في الجملة‏.‏ ومات

الأمير علي بك الحسني

وهو من مماليك حسن بك الجداوي قلده الإمارة في أيام حسن باشا وتزوج بزوجة مصطفى بك الداودية المعروف بالاسكندراني وكان لطيف الذات جميل الطباع سهل الانقياد قليل العناد توفي في رجب من السنة بالطاعون ودفن بالمشهد الحسيني بمدفن القضاة ووجدت عليه زوجته وجدًا كثيرًا‏.‏

ومات الأمير رضوان كتخدا وهو من مماليك أحمد كتخدا المجنون تنقل في المناصب حتى تولى كتخدائية الباب بجشمة وشهامة وعقل وسكون ولما استقل اسمعيل بك في إمارة مصر نوه بشأنه وأحبه وصار في تلك الأيام أحد المتكلمين المشار إليهم في الأمر والنهي ونفاذ الكلمة والرياسة وكان قريبًا الى الخير واشتهر أكثر من سيده وصار له أولاد وعزوة وأتباع ومماليك وبنى لأكبر أولاده دارًا بدرب سعادة وسكن هو في بيت أستاذه توفي في أواخر شهر شعبان ومات الأمير عثمان آغا مستحفظان الجلفي وأصله من مماليك رضوان كتخدا الجلفي وتربى عند خليل بك شيخ البلد القازدغلي ولم يزل يتنقل في خدم الأمراء ومعاشرتهم حتى تقلد الأغاوية في أيام اسمعيل بك ثم عزل عنها وتولاها ثانيًا أيامًا قليلة ومات أيضًا بالطاعون وخلف شيئًا كثيرًا من المال والنوال أخذه جميعه حسن بك الجداوي لأنه كان منضويًا إليه وفي طريقتهم أنهم يرثون من يكون منسبًا إليهم أو جارًا لهم وكان إنسانًا لا بأس به ومحضره خير ويحب اقتناء الكتب والمسامرة في الأخبار والنوادر مع ما فيه من نوع البلادة‏.‏

ومات الأمير المبجل حسن أفندي شقبون كاتب الحوالة وأصله مملوك أحمد أفندي مملوك مصطفى أفندي شقبون نشأ في الرياسة وخدمة الوزراء والأكابر وحاز شيئًا كثيرًا من الكتب النفيسة والتي بخط الأعاجم والفارسية والخطوط التعليق المكلفة والمذهبة والمصورة مثل كليلة ودمنة وشاهنامة وديوان حافظ والتواريخ التي من هذا القبيل المصور بها صور الملوك البديعة الصنعة والإتقان الغالية الثمن النادرة الوجود وكان قريبًا الى الخير محتشمًا في نفسه توفي أيضًا بالطاعون وتبددت كتبه وذخائره‏.‏

ومات الأمير محمد آغا البارودي وهو مملوك أحمد آغا مملوك ابراهيم كتخدا القازدغلي رباه سيده وجعله خازنداره وعقد له على ابنته فلما توفي سيده في سنة ثمان وثمانين طلقها وتزوج بزوجة سيده هانم بنت ابراهيم كتخدا من الست البارودية وهي أم أولاده ابراهيم وعلي ومصطفى الذين تقدم ذكرهم والتي كان عقد عليها كانت من غيرها فتزوجها حسن كاشف من أتباعهم تنبه المترجم وتداخل في الأمراء والأكابر وانضوى الى حسن كتخدا الجربان عندما كان كتخدا مراد بك فقلده في الخدم والقضايا وأعجبه سياسته وحسن سعيه فارتاح إليه وكان حسن كتخدا المذكور تعتريه النوازل فينقطع بسببها أيامًا بمنزله فينوب عنه المترجم في الكتخدائية عند مراد بك فيحسن الخدمة والسياسة وتنميق الأمور ويستجلب له المصالح فأحبه وأعجب به وقلده الأمور الجسيمة وجعله أمين الشون فعند ذلك اشتهر ذكره ونما أمره واتسع حاله وانفتح بيته وقصدته الناس وتردد إليه الأعيان في قضاء الحوائج ووقفت ببابه الحجاب واتخذ له ندماء وجلساء من اللطفاء وأولاد البلد يجلس معهم حصة من الليل ينادمونه ويسامرونه ويضاحكونه ويشرب معهم وماتت زوجته ابنة سيد سيده من بنت البارودي فزوجه مراد بك أكبر محاظيه أم ولده أيوب وأتت الى بيته بجهاز عظيم وصار بذلك صهرًا لمراد بك وزادت شهرته ورفعته فلما حصلت الحوادث ووصل حسن باشا وخرج مراد بك من مصر فلم يخرج معه واستمر بمصر وقبض عليه اسمعيل بك وحبسه مع عمر كاشف ببيته ثم نقلهما الى القلعة بباب مستحفظان مدة فلم يزل المترجم حتى صالح عن نفسه وأفرج عنه وتقيد بخدمة اسمعيل بك وتداخل معه حتى نصبه في كتخدائيته وأحبه واحتوى علي عقله فسلم إليه قياده في جميع أشغاله وارتاح إليه وجعله أمين الشون والضربخانة وغيرهما فعظم شأنه وارتفع قدره وطار صيته بالأقاليم المصرية وكثر الازدحام ببابه وجبيت إليه الأموال وصار الإيراد إليه والمصرف من يده فيصرف جماكي العسكر ولوازم الدولة وهداياها ومصاريف العمائر والتجاريد واحتياجات أمير الحاج وغير ذلك بتؤدة وزياقة وحسن طريقة من غير جلبة ولا عسف ولا شعور لأحد من الناس بشيء من ذلك وكل شيء سأل عنه مخدومه أو أشار بطلبه أو فعله وجده حاضرًا ولم يشتغل أمراء الحاج في زمن اسمعيل بك بشيء من لوازم الحج بل كان هو يقضي جميع اللوازم من الجمال والأرحال والقرب والخيش والعليق والذخيرة التي تسافر في البحر والبر وعوائد العرب وكساويهم والهجن والبغال وأرباب الصيت وغير ذلك ليلًا ونهارًا في أماكن بعيدة عن داره تحت أيدي مباشريه الذين وظفهم وأقامهم في ذلك بحيث إذا اقتضى لأحدهم شيئًا أتاه وأسر له في أذنه فيوجهه بطرف كلمة ولا يشعر أحد من الجالسين معه بشيء وإذا كان وقت خروج المحمل فلا يرى أمير الحاج إلا جميع احتياجاته ولوازمه حاضرة مهيأة على أتم ما يكون وأكمله وزوج ابنة سيده لخازنداره علي آغا وعمل لهما مهمًا عظيمًا عدة أيام وحضر اسمعيل بك والأمراء والأعيان وأرسلوا إليه الهدايا العظيمة وكذلك جميع التجار والنصارى والكتاب القبط ومشايخ البلدان وبعد تمام أيام العرس ولياليه بالسماعات والآلات والملاعيب والنقوط عملوا للعروس زفة بهيئة لم يسبق نظيرها ومشى جميع أرباب الحرف وأرباب الصنائع من كل طائفة عربة وفيها هيئة صناعتهم ومن يشتغل فيها مثل القهوجي بآلته وكانونه والحلواني والفطايري والحباك والقزاز بنول حتى مبيض النحاس والحيطان والمعاجيني وبياعين البز وأرباب الملاهي والنساء المغنيين وغيرهم كل طائفة في عربة وكان مجموعها نيفًا وسبعين حرفة وذلك خلاف الملاعيب والبهالوين والرقاصين والجنك ثم الموكب وبعده الأغوات والحريم والملازمون والسعاة والجاويشية وبعدها عربة العروس من صناعة الإفرنج بديعة الشكل وبعدها مماليك الخزنة والملبسون الزروخ وبعدهم النوبة التركية والنفيرات وكانت زفة غريبة الوضع لم يتفق مثلها بعدها وبلغ المترجم في هذه الأيام من العظمة ما لم يبلغه أحد من نظرائه وكان إذا توجهت همته الى أي شيء أتمه على الوجه الذي يريد ويقبل الرشوة وإذا أحب إنسانًا قضى له أشغاله كائنة ما كانت من غير شيء فلما مات مخدومه اسمعيل بك وتعين في الإمارة بعده عثمان بك طبل استوزره أيضًا وسلمه قياده في جميع أموره وهو الذي أشار عليه بممالأته الأمراء القبليين عندما تضايق خناقه من حسن بك الجداوي ومناكدته له فكاتبهم سرًا بسفارته وأطعمهم في الحضور وتمكينهم من مصر ومات المترجم في أثناء ذلك في غرة رمضان وذلك بعد ومات الصنو الوحيد والفريد النبيه محمد أفندي بن سليمان أفندي ابن عبد الرحمن أفندي بن مصطفى أفندي ككليويان ويقال لها في اللغة العامية جمليان نشأ في عفة وصلاح وخير وطلب العلم وعانى الجزئيات والرياضيات ولازم الشيخ المرحوم الوالد وقرأ عليه كثيرًا من الحسابيات والفلكيات والهيئة والتقويم ومهر في ذلك وانتظم في عداد أرباب المعارف واشترى كتبًا كثيرة في الفن واستكتب وكتب بخطه الحسن واقتنى الآلات والمستظرفات وحسب وقوم الدساتير السنوية عشرة أعوام مستقبلة بأهلتها وتواريخها وتواقيعها ورسم كثيرًا من الآلات الغريبة والمنحرفات وكان شغله وحسابه في غاية الضبط والصحة والحسن وكان لطيف الذات مهذب الأخلاق قليل الادعاء جميل الصحبة وقورًا مات أيضًا بالطاعون في شعبان وتبددت كتبه وآلاته‏.‏

ومات أيضًا الخدن الشقيق والمحب الشفيق النجيب الأريب الأمير رضوان الطويل وهو من مماليك علي كتخدا الطويل وكان من هذا القبيل متولعًا من صغره بهذا الفن وقرأ على الشيخ المتقن الشيخ عثمان الورداتي وغيره وأنجب وحسب ورسم واشتغل فكره بذلك ليلًا نهارًا ورسم الأرباع الصحيحة المتقنة الكبيرة والصغيرة والمزاول والمنحرفات وغير ذلك من الآلات المبتكرة والرسميات الدقيقة واتسع باعه في ذلك واشتهر ذكره الى أن قطفت يد الأجل نواره ومات الجناب المكرم والاختيار المعظم الأمير اسمعيل أفندي الخلوتي اختيار جاويشان كان رجلًا من أعيان الاختيارية في وقته معروفًا صاحب حشمة ووقار ومعرفة بالسياسة وأمور الرياسة ولم يزل حتى توفي في شهر شعبان سنة 1205 بالطاعون‏.‏

ومات أيضًا الجناب المكرم محمد أفندي باشقلفة وهو مملوك يوسف أفندي باشقلفة وخشداش محمد أفندي ثاني قلفة وعبد الرحمن أفندي وكان مليح الذات جميل الصفات تقلد كتابة هذا القلم عندما تلبس السيد محمد باشقلفة بكتابة الروزنامه فسار فيها سيرًا حسنًا وحمدت مساعيه الى أن وافاه الحمام وسارت نواعيه‏.‏

ومات أيضًا النبيه اللطيف والمفرد العفيف أحمد أفندي الوزان بالضربخانة وكان إنسانًا حسنًا جميل الأوضاع مترهف الطباع محتشمًا وقورًا ودودًا محبوبًا لجميع الناس‏.‏

سنة ست ومائتين وألف استهل شهر محرم بيوم الأربعاء وفيه عينوا صالح آغا كتخدا الجاويشية الى السفر الى الديار الرومية وصحبته هدية وشربات وأشياء وصالح آغا هذا هو الذي بعثوه قبل ذلك لإجراء الصلح على يد نعمان أفندي ومحمود بك وكاد أن يتم ذلك وأفسد ذلك حسن باشا ونفي نعمان أفندي بذلك السبب وذلك قبل موت حسن باشا بأربعة أيام فلما رجعوا الى مصر في هذه المرة عينوه أيضًا للإرسالية لسابقته ومعرفته بالأوضاع وكان صالح آغا هذا عندما حضروا الى مصر سكن ببيت البارودي وتزوج بزوجته فلما كان خامس المحرم ركب الأمراء لوداعه ونزل من مصر القديمة‏.‏

وفيه هبط النيل ونزل مرة واحدة وذلك في أيام الصليب ووقف جريان الخليج والترع وشرقت الأراضي فلم يرو منها إلا القليل جدًا فارتفعت الغلال من السواحل والرقع وضجت الناس وأيقنوا بالقحط وأيسوا من رحمة الله وغلا سعر الغلة من ريالين الى ستة وضجت الفقراء وعيطوا على الحكام فصار الآغا يركب الى الرقع والسواحل ويضرب المتسببين في الغلة ويسمرهم في آذانهم ثم صار ابراهيم بك يركب الى بولاق ويقف بالساحل وسعر الغلة بأربعة ريال الأردب ومنعهم من الزيادة على ذلك فلم ينجح وكذلك مراد بك كرر الركوب والتحريج على عدم الزيادة فيظهرون الامتثال وقت مرورهم فإذا التفتوا عنهم باعوا بمرادهم وذلك من كثرة ورود الغلا ودخول المراكب وغالبها للأمراء وينقلونها الى المخازن والبيوت وفي أوائل صفر وصل قاصد وعلى يده مرسوم بالعفو والرضا عن الأمراء فعملوا الديوان عند الباشا وقرأوا المرسوم وصورة ما بنى عليه ذلك أنه لما حضر السيد عمر أفندي بمكاتبتهم السابقة الى الباشا يترجون وساطته في إجراء الصلح أرسل مكاتبة في خصوص ذلك من عنده وذكر فيها أن من بمصر من الأمراء لا طاقة لهم بهم ولا يقدرون على منعهم ودفعهم وأنهم واصلون وداخلون على كل حال فكان هذا المرسوم جوابًا عن ذلك وقبول شفاعة الباشا والإذن لهم بالدخول بشرط التوبة والصلح بينهم وبين إخوانهم فلما فرغوا من قراءة ذلك ضربوا شنكًا ومدافع‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر حضر الشيخ الأمير الى مصر من الديار الرومية ومعه مرسومات خطابًا للباشا والأمراء فركب المشايخ ولاقوه من بولاق وتوجه الى بيته ولم يأت للسلام عليه أحد من الأمراء وأنعمت عليه الدولة بألف قرش ومرتب بالضربخانة في كل يوم وقرأ هناك البخاري عند الآثار الشريفة بقصد النصرة‏.‏

وفي شهر ربيع الأول عمل المولد النبوي بالأزبكية وحضر مراد بك الى هناك واصطلح مع محمد أفندي البكري وكان منحرفًا عنه بسبب وديعته التي كان أودعها عنده وأخذها حسن باشا فلما حضر الى مصر وضع يده على قرية كان اشتراها الأفندي من حسن جلبي بن علي بك الغزاوي وطلب من حسن جلبي ثمن القرية الذي قبضه من الشيخ ليستوفي بذلك بعض حقه وطال النزاع بينهما بسبب ذلك ثم اصطلحا على قدر قبضه مراد بك منهما وحضر مراد بك وفيه عملوا ديوانًا عند الباشا وكتبوا عرضحال بتعطيل الميري بسبب شراقي البلاد‏.‏

وفيه سافر محمد بك الألفي الى جهة شرقية بلبيس‏.‏

وفيه حضر ابراهيم بك الى مسجد أستاذه للكشف عليه وعلى الخزانة وعلى ما فيها من الكتب ولازم الحضور إليه ثلاثة أيام وأخذ مفتاح الخزانة من محمد أفندي حافظ وسلمه لنديمه محمد الجراحي وأعاد لها بعض وقفها المرصد عليها بعد أن كانت آلت الى الخراب ولم يبق بها غير البواب أمام الباب‏.‏

وفي شهر ربيع الثاني قرروا تفريدة على تجار الغورية وطيلون وخان الخليلي وقبضوا على أنفار أنزلوهم الى التكية ببولاق ليلًا في المشاعل ثم ردوهم ووزع كبار التجار ما تقرر عليهم على فقرائهم بقوائم وناكد بعضهم بعضًا وهرب كثير منهم فسمروا دورهم وحوانيتهم وكذلك فعلوا بكثير من مساتير الناس والوجاقلية وضج الخلائق من ذلك‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى كتبوا فرمانًا بقبض مال الشراقي ونودي به في النواحي وانقضى شهر كيهك القبطي ولم ينزل من السماء قطرة ماء فحرثوا المزروع ببعض الأراضي التي طشها الماء وتولدت فيها الدودة وكثرت الفيران جدًا حتى أكلت الثمار من أعلى الأشجار والذي سلم من الدودة من الزرع أكله الفار ولم يحصل في هذه السنة ربيع للبهائم إلا في النادر جدًا ورضي الناس بالعليق فلم يجدوا التبن وبلغ حمل الحمار من قصل التبن الأصفر الشبيه بالكناسة الذي يساوي خمسة أنصاف قبل ذلك مائة نصف ثم انقطع مرور الفلاحين بالكلية بسبب خطف السواس واتباع الأجناد فصار يباع عند العلافين من خلف الضبة كل حفان بنصفين الى غير ذلك‏.‏

وفي حضر صالح آغا من الديار الرومية‏.‏

وفي شهر شوال سافر أيضًا بهدية ومكاتبات الى الدولة ورجالها‏.‏

وفي شهر القعدة وردت الأخبار بعزل الصدر الأعظم يوسف باشا وتولية محمد باشا ملكًا وكان صالح آغا قد وصل الى الاسكندرية فغيروا المكاتبات وأرسلوها إليه‏.‏

وفيه حضر آغا بتقرير لوالي مصر على السنة الجديدة وطلع بموكب الى القلعة وعملوا له شنكًا‏.‏

وفي أواخر شهر الحجة شرع ابراهيم بك في زواج ابنته عديلة هانم للأمير ابراهيم بك المعروف بالوالي أمير الحج سابقًا وعمر لها بيتًا مخصوصًا بجوار بيت الشيخ السادات وتغالوا في عمل الجهاز والحلي والجواهر وغير ذلك من الأواني والفضيات والذهبيات وشرعوا في عمل الفرح ببركة الفيل ونصبوا صواري أمام البيوت الكبار وعلقوا فيها القناديل ونصب الملاعيب والملاهي أرباب الملاعيب وفردت التفاريد على البلاد وحضرت الهدايا والتقادم من الأمراء والأكابر والتجار ودعا ابراهيم بك باشا فنزل من القلعة وحضر صحبته خلع وفرًا ومصاغ للعروس من جوهر وقدم له ابراهيم بك تسعة عشر من الخيل منها عشرة معددة وسجة لؤلؤ وأقمشة هندية وشبقات دخان مجوهرة وعملوا الزفة في رابع المحرم يوم الخميس وخرجت من بيت أبيها في عربة غريبة الشكل صناعة الإفرنج في هيئة كمال من غير ملاعيب ولا خزعبلات والأمراء والكشاف وأعيان التجار مشاة أمامها‏.‏

وفيه حضر عثمان بك الشرقاوي وصحبته رهائن حسن بك الجداوي وهم شاهين بك وسكن في مكان صغير وآخرون‏.‏

وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك انفصل من حسن بك ومن معه وسافر على جهة القصير وذهب الى جدة‏.‏

وأما من مات في هذه السنة مات الإمام الذي لمعت أفق الفضل بوارقه وسقاه من مورده النمير عذبه ورائقه لا يدرك بحر وصفه الإغراق ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان لها في مضمار الفضل السباق العالم النحرير واللوذعي الشهير شيخنا العلامة أبو العرفان الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي ولد بمصر وحفظ القرآن والمتون واجتهد في طلب العلم وحضر أشياخ عصره وجهابذة مصره وشيوخه فحضر على الشيخ الملوي شرحه الصغير على السلم وشرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد وشرح المكودي على الإلفية وشرح الشيخ خالد على قواعد الإعراب وحضر على الشيخ حسن المدابغي صحيح البخاري بقراءته لكثير منه وعلى الشيخ محمد العشماوي الشفا للقاضي عياض وجامع الترمذي وسنن أبي داود وعلى الشيخ أحمد الجوهري شرح أم البراهين لمصنفها بقراءته لكثير منها وعلى الشيخ السيد البليدي صحيح مسلم وشرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني وتفسير البيضاوي وشرح رسالة الوضع للسمرقندي وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام وعلى الشيخ محمد الحفناوي صحيح البخاري والجامع الصغير وشرح المنهج والشنشوري على الرجبية ومعراج النجم الغيطي وشرح الخزرجية لشيخ الإسلام وعلى الشيخ حسن الجبرتي التصريح على التوضيح والمطول ومتن الجغميني في علم الهيئة وشرح الشريف الحسيني على هداية الحكمة قال‏:‏ وقد أخذت عنه في الميقات وما يتعلق به وقرأت فيه رسائل عديدة وحضرت عليه في كتب مذهب الحنفية كالدر المختار على تنوير الأبصار وشرح ملا مسكين علي الكنز وعلى الشيخ عطية الأجهوري شرح المنهج مرتين بقراءته لأكثره وشرح جمع الجوامع للحلي وشرح التلخيص الصغير للسعد وشرح الأشموني على الألفية وشرح السلم للشيخ الملوي وشرح الجزرية لشيخ الإسلام والعصام على السمرقندية وشرح أم البراهين للحفصي وشرح الآجرومية لريحان آغا وعلى الشيخ على العدوي مختصر السعد على التلخص وشرح القطب على الشمسية وشرح شيخ الإسلام على ألفية المصطلح بقراءته لأكثره وشرح بن عبد الحق على ابسملة لشيخ الإسلام ومتن الحكم لابن عطاء الله رحمهم الله تعالى أجمعين قال‏:‏ وتلقيت طريق القوم وتلقين الذكر على منهج السادة الشاذلية على الأستاذ عبد الوهاب العفيفي المرزوقي وقد لازمته المدة الطويلة وانتفعت بمدده ظاهرًا وباطنًا قال‏:‏ وتلقيت طريق ساداتنا آل وفا سقانا الله من رحيق شرابهم كؤوس الصفا عن ثمرة رياض خلفهم ونتيجة أنوار شرفهم على الأكابر والأصاغر ومطمح أنظار أولي الأبصار والبصائر أبي الأنوار محمد السادات ابن وفا نفحنا الله وإياه بنفحات جده المصطفى وهو الذي كناني على طريقة أسلافه بأبي العرفان وكتب لي سنده عن حاله السيد شمس الدين أبي الإشراق عن عمه السيد أبي الخير عبد الخالق عن أخيه السيد أبي الإرشاد يوسف عن والده الشيخ أبي التخصيص عبد الوهاب عن ولد عمه السيد يحيى أبي اللطف الى آخر السند هكذا نقلته من خط المترجم رحمه الله تعالى ولم يزل المترجم يخدم العلم ويدأب في تحصيله حتى تمهر في العلوم العقلية والنقلية وقرأ الكتب المعتبرة في حياة أشياخه وربى التلاميذ واشتهر بالتحقيق والتدقيق والمناظرة والجدل وشاع ذكره وفضله بين العلماء بمصر والشام وكان خصيصًا بالمرحوم الشيخ الوالد اجتمع به من سنة سبعين ومائة وألف ولم يزل ملازمًا له على حبه ومودته مع الحقير وانضوى الى أستاذنا السيد أبي الأنوار بن وفا ولازمه ملازمة كلية وأشرقت عليه أنواره ولاحت عليه مكارمه وأسراره ومن تآليف حاشيته على الأشموني التي سارت بها الركبان وشهد بدفتها أهل الفضائل والعرفان وحاشية على شرح العصام على السمرقندية وحاشية على شرح الملوي على السلم ورسالة في علم البيان ورسالة عظيمة في آل البيت ومنظومة في علم العروض وشرحها ونظم أسماء أهل بدر وحاشية على آداب البحث ومنظومة في مصطلح الحديث ستمائة بيت ومثلثات في اللغة ورسالة في الهيئة وحاشية على السعد في المعاني والبيان ورسالتان على البسملة صغرى وكبرى ورسالة في مفعل ومنظومة في ضبط رواة البخاري ومسلم وكان في مبدأ أمره وعنفوان عمره معانقًا للخمول والإملاق متكلًا على مولاه الرزاق يستجدي مع العفة ويستدر من غير كلفة وتنزل أيامًا في وظيفة التوقيت بالصلاحية بضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما جدده عبد الرحمن كتخدا وسكن هناك مدة ثم ترك ذلك ولما بنى محمد بك أبو الذهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضًا في وظيفة توقيتها وعمر له مكانًا بسطحها سكن فيه بعياله فلما اضمحل أمر وقفه تركه واشترى له منزلًا صغيرًا بحارة الشنواني وسكن به ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططر زاده وكان متضلعًا من العلوم والمعارف وسمع بالمترجم والشيخ محمد الجناحي واجتمعا به أعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما وكذلك سليمان أفندي الرئيس فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله بالملابس وركب البغال وتعرف أيضًا باسمعيل كتخدا حسن باشا وتردد إليه قبل ولايته فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه بره ورتب له كفايته في كل يوم بالضربخانة والجزية وخرجا من كلاره من لحم وسمن وأرز وخبز وغير ذلك وأعطاه كساوي وفراء وأقبلت عليه الدنيا وازداد وجاهة وشهرة وعمل فرحًا وزوج ابنه سيدي علي فأقبل عليه الناس بالهدايا وسعوا لدعوته وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة وألبس ابنه فروة يوم الزفاف وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس وكان ذلك في مبادئ ظهور الطاعون في العام الماضي وتوعك الشيخ المترجم بعد ذلك بالسعال وقصبة الرئة حتى دعاه داعي الأكام وفجأة الحمام ليلة الثلاثاء من شهر جمادى الأولى من السنة وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالبستان تغمده الله بالرحمة والرضوان وخلف ولده الفاضل الصالح الشيخ علي بارك الله فيه‏.‏

ومات السيد السند الإمام الفهامة المعتمد فريد عصره ووحيد شامه ومصره الوارد من زلال المعارف على معينها المؤيد بأحكام شريعة جده حتى أبان صبح يقينها السيد العلامة أبي المودة محمد خليل بن السيد العارف المرحوم علي بن السيد محمد بن القطب العارف بالله تعالى السيد محمد مراد بن علي الحسيني الحنفي الدمشقي أعاد الله علينا من بركات علومهم في الدنيا والآخر من بيت العلم والجلاة والسيادة والعز والرياسة والسعادة والمترجم وإن لم نره لكن سمعنا خبره ووردت علينا منه مكاتبات ووشى طروسه المحبرات وتناقل إلينا أوصافه الجميلة ومكارم أخلاقه الجليلة كان شامة الشام وغرة الليالي وأيام أورق عوده بالشام وأثمر ونشأ بها في حجر والده والدهر أبيض وقرأ القرآن على الشيخ سليمان الديركي المصري وطالع في العلوم والأدبيات واللغة التركية والإنشاء والتوقيع ومهر وأنجب واجتمعت فيه المحاسن الحسية والمزايا المعنوية مع ألطف خلق يسعى اللطف لينظر إليه ورقيق محاسن يقف الكمال متحيرًا لديه وأنا وإن لم يقع لي عليه نظر بالعين فسماع الأخبار إحدى الروايتين ولما توفي والده المرحوم تنصب مكانه مفتي الحنفية بالديار الشامية ونقيب الأشراف بإجماع الخاص والعام وسار فيها أحسن سير وزين بمآثره العلوم النقلية وملك بنقد ذهنه جواهرها السنية فكانت تتيه به على سائر البقاع بقاع الشام ويفتخر به عصره على جميع الليالي والأيام فلاتزال تصدح ورق الفصاحة في ناديها وتسير الركبان بما فيه من المحاسن رائحها وغاديها ونور فضله باد وموائده ممدودة لكل حاضر وباد وكان رحمه الله مغرمًا بصيد الشوارد وقيد الأوابد واستعلام الأخبار وجمع الآثار وتراجم العصرين على طريق المؤرخين وراسل فضلاء البلدان البعيدة ووصلهم بالهدايا والرغائب العديدة والتمس من كل جمع تراجم أهل بلاده وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر يحسب وسع همته واجتهاده وكان هو السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى والتمس منه نحو ذلك فأجابه لطلبته ووعده بأمنيته فعند ذلك تابعه بالمراسلات وأتحفه بالصلات المترادفات وشرع شيخنا المرحوم في جمع المطلوب بمعونة الفقير ولم يذكر السبب الحامل على ذلك وجمع الحقير أيضًا ما تيسر جمعه وذهبت به يومًا وعنده بعض الشاميين فأطلعته عليه فسر بذلك كثيرًا وطارحني وطارحته في نحو ذلك بسمع من المجالس ولم يلبث السيد إلا قليلًا وأجاب الداعي وتنوسي هذا الأمر شهورًا ووصل نعي السيد الى المترجم والصورة الواقعة وكانت أوراق السيد مختومًا عليها فعند ذلك أرسل إلي كتابًا وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من أوراقه وضم ما جمعه الفقير وما تيسر ضمه أيضًا وإرساله وانتقل المترجم بعد ذلك لأمور أوجبت رحلته منها الى حلب الشهباء كما ذكر لي ذلك في مراسلاته في سنة خمس ومائتين وألف وهناك عصفت رياح المنية بروضه الخصيب وهصرت يد الردى يانع غصنه الرطيب فاحتضر وأحضر بأمر الملك المقتدر لازال جدثه روضة من رياض الجنان ولا برح مجرى لجداول الرحمة والرضوان وذلك في ومات

الإمام المفوه من غذي بلبان الفضل وليدًا

وعد لبيد إذا قيس بفصاحته بلديًا من له في المعالي أرومة وفي مغارس الفضل جرثومة الحسين ابن النور على بن عبد الشكور الحنفي الطائفي الحريري الفقه والإنشاء ويعرف بالمتقي من أولاد الشيخ علي المتقي مبوب الجامع الصغير من أكبر أصحاب الشيخ السيد عبد الله ميرغني ولد بالطائف وبها نشأ وتكمل في الفنون العرفانية وتدرج في المواهب الإحسانية وأحبه السيد عبد الله وتعلق بأذياله وشرب من صفو الأوهام وأخذ بالحرمين عن عدة علماء كرام وشارك في العلوم ونافس في المنطوق والمفهوم إلا أنه غلب عليه التصوف وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف وبينه وبين شيخنا العيدروس مودة أكيدة ومحبة عتيدة ومحاورات ومذاكرات وملاطفات ومصافاة وقد ورد علينا مصر في سنة 174 وسكن ببيت الشيخ محسن على الخليج وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم فأعاد روض الأنس نضيرًا وماء المصافاة نميرًا ودخل الشام وحلب وبها أخذ عن جماعة في أشياء منهم السيد اسمعيل امواهبي فقد عده من شيوخه وأثنى عليه ودخل بلاد الروم وأنعم بالمروم وعاد الى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام‏.‏

ولليسد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له وهي بليغة مطولة وغير ذلك مطارحات كثيرة وللمترجم مؤلفات حسان وكلها على ذوق أهل العرفان منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة وشرحها مزجًا كأصلها على لسان القوم ولما حج الشيخ التاودي بن سودة كتبها عنه ووصل بها المغرب ونوه بشأنها حتى كتبت منها عدة نسخ ونوه بشأن صاحبها حتى عين له سلطان المغرب بصرة في كل سنة تصل إليه مع الركب والناس في المترجم مختلفون فمنهم من يصفه بالبراعة والكمال وأولئك الذين رأوا كلامه فبهرهم نظامه ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد ويرميه بالحلول والاتحاد وهو إن شاء الله تعالى مبرأ مما نسب إليه ولما اجتمع به العلامة محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري ونزل في منزله فكان أنيسًا له في سائر أحواله قال اختبرته حق الاختبار فلم أجد له إلا لسانًا وهو مثار وبعد أشهر تبرم عن ملازمته واتخذ له حجرة في الحرم وعزل نفسه عنه فالتزم وحكى لي من أموره أشياء غريبة والمترجم معذور فإن ساداتنا المغاربة ليس لهم تحمل في سماع كلام مثل كلامه لأنهم ألفوا ظاهر الشريعة ولم يدخل على أذهانهم نوادر أهل العرفان ولا تسوروا حصونها المنيعة ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل ومواهبهم تصل إليه في كل قليل وكان له ولد يسمى جعفرًا ورد علينا مصر في سنة خمس وثمانين وأقام معنا برهة يغدو إلينا ويبيت ويروح لزيارة بعض أحباب أبيه بمصر ويذهب معنا لبعض المنتزهات إذ ذاك ولم يزل حتى اخترمته المنية سامحه الله ولم يخلف بعده مثله‏.‏

استهل المحرم بيوم الخميس والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها وانتشارهم بالمدينة حتى ملؤوا الأسواق والأزقة رجالًا ونساء وأطفالًا يبكون ويصيحون ليلًا ونهارًا من الجوع ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع وفيه أيضًا هبط النيل قبل الصليب بعشرة أيام وكان ناقصًا عن ميعاد الري نحو ذراعين فارتجت الأحوال وانقطعت الآمال وكان الناس ينتظرون الفرج بزيادة النيل فلما نقص انقطع أملهم واشتد كربهم وارتفعت الغلال من السواحل والعرصات وغلت أسعارها عما كانت وبلغ الأردب ثمانية عشر ريالًا والشعير بخمسة عشر ريالًا والفول بثلاثة عشر ريالًا وكذلك باقي الحبوب وصارت الأوقية من الخبز بنصف فضة ثم اشتد الحال حتى بيع ربع الويبة بريال وآل الأمر الى أن صار الناس يفتشون على الغلة فلا يجدونها ولم يبق للناس شغل ولا حكاية ولا سمر بالليل والنهار في مجالس الأعيان وغيرهم إلا مذاكرة القمح والفول والأكل ونحو ذلك وشحت النفوس واحتجب المساتير وكثر الصياح والعويل ليلًا ونهارًا فلا تكاد تقع الأرجل إلا على خلائق مطروحين بالأزقة وإذا وقع حمار أو فرس تزاحموا عليه وأكلوه نيًا ولو كان منتنًا حتى صاروا يأكلون الأطفال ولما انكشف الماء وزرع الناس البرسيم ونبت أكلته الدودة وكذلك الغلة فقلب أصحاب المقدرة الأرض وحرثوها وسقوها بالماء من السواقي والنطالات والشواديف واشتروا لها التقاوي بأقصى القيم وزرعوها فأكله الدود أيضًا ولم ينزل من السماء قطرة ولا أندية ولا صقيع بل كان في أوائل كيهلك شرودات وأهوية حارة ثقيلة ولم يبق بالأرياف إلاالقليل من الفلاحين وعمهم الموت والجلاء‏.‏

وفي أواخر شهر ربيع الأول حضر صالح آغا من الديار الرومية وعلى يده مرسومات بالعفو وثلاث خلع إحداها للباشا والأخريان لابراهيم بك ومراد بك فاجتمعوا بالديوان وقرأوا المرسومات وضربوا مدافع وأحضر صحبته صالح آغا وكالة دار السعادة وانتزعها من مصطفى آغا واستولى على ملابلها‏.‏

وفيه وصلت غلال رومية وكثرت بالساحل فحصل للناس اطمئنان وسكون ووافق ذلك حصاد الذرة فنزل السعر الى أربعة عشر ريالًا الأردب وأما التبن فلا يكاد يوجد وإذا وجد منه شيء فلا يقدر من يشتريه على إيصاله لداره أو دابته بل يبادر لخطفه السواس وأتباع الأجناد في الطريق وإذا سمعوا واستشعروا بشيء منه في مكان كبسوا عليه وأخذوه قهرًا فكان غالب مؤونة الدواب قصب الذرة الناشف ويشرح الكثير من الفقراء والشحاذين في نواحي الجسور فيجمعون ما يمكنهم جمعه من الحشيش اليابس والنجيل الناشف ويأتون به ويطوفون به في الأسواق ويبيعونه بأغلى الأثمان ويتضارب على شرائه الناس وإن صادفهم السواس والقواسة وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك الدفتردار لما سافر من القصير طلع على المويلح وركب من هناك مع العرب الى غزة وأرسل سرًا الى مصر وطلب رجلًا نصرانيًا من أتباعه فذهب إليه صحبة الهجان بمطلوبات وبعض احتياجات ولما وصل الى جهة غزة أرسل الى أحمد باشا الجزار يعلمه بوصوله فأرسل لملاقاته خيلًا ورجالًا فذهب إليه وصحبته نحو الثلاثين نفرًا لا غير فلما وصل الى قرب عكا خرج إليه أحمد باشا ولاقاه ووجهه الى حيفا ورتب لهم بها رواتب وأما مراد بك فإنه خرج الى بر الجيزة من أول السنة وجلس في قصر اسمعيل بك الذي عمره هناك واشتغل بعمل جبخانة وآلات حرب وبارود وجلل وقنابر وطلب الصناع والحدادين وشرع في إنشاء مراكب وغلايين رومية وزاد في بناء القصر ووسعه وأنشأ به بستانًا عظيمًا وغير ذلك وسافر عثمان بك الشرقاوي الى ثغر الاسكندرية وجبى الأموال في طريقه من البلاد‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشرين ربيع الآخر وخامس كيهك القبطي أمطرت السماء مطرًا متوسطًا وفرح به الناس‏.‏

وفي يوم السبت غرة جمادى الأولى عدى مراد بك من بر الجيزة فدخل الى بيته وأخبروا عن عثمان بك الشرقاوي أنه رجع الى رشيد ثم في رابعه حضر المذكور الى مصر وفي ليلة الخميس خرج مراد بك وابراهيم بك وباقي أمرائهم الى جهة العادلية فأقاموا أيامًا قليلة ثم ذهب مراد بك الى ناية أبو زعبل وكذلك ابرهيم بك الوالي وصحبته جماعة من الأمراء الى ناحية الجزيرة في وقت خروجهم نهب أتباعهم ما صادفوه من الدواب وصاروا يكبسون الوكائل التي بباب الشعرية ويأخذون ما يجدونه من جمال الفلاحين السفارة وحميرهم نهبًا فأما مراد بك فإنه لما وصل الى أبو زعبل وجد هناك طائفة من عرب الصوالحة في خيشهم لا جنية لهم فنهبهم وأخذ أغناهم ومواشيهم وقتل منهم نحو خمسة وعشرين شخصًا ما بين غلمان وشيوخ وأقام هناك يومًا وقبض على مشايخ البلد أبي زعبل وحبسهم وقرر عليهم غرامة أحد عشر ألف ريال ولم يقبل فيهم شفاعة أستاذهم وشتمه وضربه بالعصا وأما عرب الجزيرة فإنهم ارتحلوا من أماكنهم‏.‏

وفي شهر شعبان وقع الاهتمام بسد خليج الفرعونية بسبب احتراق البحر الشرقي ونضوب مائه وظهرت بالنيل كيمان رمل هايلة من حد المقياس الى البحر المالح وصار البحر الغربي سلسلو جدول تخوضه الأولاد الصغار ولا يمر به إلا صغار القوارب وانقطع الجالب من جميع النواحي إلا ما تحمله المراكب الصغار بأضعاف الأجرة وتعطلت دواوين المكوس فأرسلوا الى سد الترعة رجلًا مسلماني وصحبته جماعة من الإفرنج وأحضروا الأخشاب العظيمة ورتبوا عمل السد قريبًا من كفر الخضرة وركبوا آلات في المراكب ودقوا ثلاث صفوف خوابير من أخشاب طوال فلما أتموا ذلك كانت اصناع فرغت من تطبيق ألواح في غاية الثخن شبه البوابات العظام وهي مسمرة بمسامير عظيمة ملحومة بالرصاص وصفائح الحديد مثقوبة بثقوب مقاسة على ما يوازيها من نجوش منجوشة بالخوابير المركوزة في الماء فإذا نزلوا ببوابة ألحموها بتلك الخوابير وتبعتهم الرجال بالجوابي المملوءة بالحصا والرمل من أمام ومن خلف وتبع ذلك الرجال الكثرة بغلقان الأتربة والطين ففعلوا ذلك حتى قارب التمام ولم يبق إلا اليسير ثم حصل الفتور في العمل بسبب أن المبرش على ذلك أرسل لمراد بك بالحضور وليكون إتمامها بحضرته ويخلع عليه ويعطيه ما وعده به من الأنعام فلم يحضر مراد بك وغلبهم الماء وتلف جانب من العمل وكان أيوب بك الصغير حاضرًا وفي نفسه أن لا يتم ذلك لأجل بلاده فأصبح مرتحلًا وتركوا العمل وانفض الجمع وقد أقام العمل في ذلك من أوائل شعبان الى أواسط شوال ثم نزل إليها جماعة آخرون وطبوا جملة مراكب موسوقة بالأحجار وشرعوا في عمل سد المكان القديم عن فم الترعة ودقوا أيضًا خوابير كثيرة وألقوا أحجارًا عظيمة وفرغت الأحجار فأرسلوا بطلب غيرها فلم تسعفهم القطاعون فشرعوا في هدم الأبنية القديمة والجوامع التي بساحل النيل وقلعوا أحجار الطواحين التي بالبلاد القريبة من العمل واستمروا على ذلك حتى قويت الزيادة ولم يتم العمل ورجعوا كالأول وذهب في ذلك من الأموال والغرامات والسخرات وتلف من المراكب والأخشاب وفي أوائل شوال ورد الخبر بأن علي بك سافر من عند أحمد باشا الى اسلامبول صحبة قبجي معين فلما قرب من اسلامبول أرسلوا من وجهه الى برصا ليقيم بها ورتبوا له كفايته في كل شهر خمسمائة قرش رومي‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات السيد الإمام العارف القطب عفيف الدين أبو السيادة عبد الله ابن ابراهيم بن حسن بن محمد أمين بن علي ميرغني بن حسن بن مير خورد ابن حيدر بن حسن بن عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد بن علي بن ابراهيم ابن يحيى بن عيسى بن أبي بكر بن علي بن محمد بن اسمعيل ابن ميرخورد البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن بن علي الهادي ابن محمد الجواد الحسيني المتقي المكي الطائفي الحنفي الملقب بالمحجوب ولد بمكة وبها نشأ وحضر في مباديه دروس بعض علمائها كالشيخ النخلي وغيره واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي وكان إذ ذاك أوحد عصره في المعارف فانتسب إليه ولازمه حتى رقاه وبعد وفاته جذبته عناية الحق وأرته من المقامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فحينئذ انقطعت الوسايط وسقطت الوسائل فكان أويسيًا تلقيه من حضرة جده صلى الله عليه وسلم كما أشار الى ذلك شيخنا السيد مرتضى عندما اجتمع به بمكة في سنة 1163 وأطلعه على نسبه الشريف وأخرجه إليه من صندوق قال‏:‏ وطلبت منه الإجازة وإسناد كتب الحديث فقال‏:‏ غنى عنه‏:‏ قال فعلمت أنه أويسي المقام ومدده من جده عليه الصلاة والسلام وانتقل الى الطائف بأهله وعياله في سنة ست وستين وشرف تلك المشاهد ومآثر شهيرة ومفاخرة كثيرة وكراماته كالشمس في كبد السماء وكالبدر في غيهب الظلماء وأحواله في احتجابه عن الناس مشهورة وأخباره في زهده عن الدنيا على ألسنة الناس مذكورة ومن مؤلفاته كتاب فرائض وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين والكوكب الثاقب وشرحه وسماه رفع الحاجب عن الكوكب الثاقب وله ديوانان متضمنان لشعره أحدهما المسمى بالعقد المنظم على حروف المعجم والثاني عقد الجواهر في نظم المفاخر ومنها المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز صلى الله عليه وسلم اختصره من الجامع وذيله وكنوز الحقائق والبدر المنير وهو في أربعة كراريس وقد شرحه العلامة سيدي محمد الجوهري وقرأه دروسًا ومنها شرح صيغة القطب بن مشيش ممزوجًا وهو من غرائب الكلام ومنها مشارق الأنوار في الصلاة والسلام على النبي المختار توفي رضي الله عنه في هذه السنة‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن يوسف الشنواني المصري الشافعي المكنى بأبي العز المكتب الخطاط ويعرف أيضًا بحجاج وأمه الشريفة خاصكية ابنة القاضي جلبي بن أحمد العراقي من ذرية القطب شهاب الدين العراقي دفين شنوان الغرف بالمنوفية حفظ القرآن وجوده على الشيخ أحمد بن اسمعيل الأفقم ومهر فيه وأجيز فنسخ بيده كثيرًا من المصاحف ونسخ الدلائل والكتب الكبار منها الإحياء للغزالي والأمثال للميداني وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة وفي غضون ذلك تردد على جملة من الشيوخ كالشهابين الملوي والجوهري وأخذ عنهما أشياء والشمس الحفني والشيخ حسن المدابغي ومحمد بن النعمان الطائي في آخرين وأحبوه وجاور بالحرم سنة ثم عاد الى مصر ولازم معنا كثيرًا على شيخنا السيد مرتضى في حضور الحديث فسمع البخاري بطرفيه ومسلمًا بطرفيه وسنن أبي داود الى قريب ثلثيه وغالب الشمائل للترمذي وثلاثيات البخاري وثلاثيات الدارمي والحلية لأبي نعيم من أوله الى مناقب العشرة وأجزاء كثيرة بحدودها في ضمن إجازته بأسانيدها وكان نعم الرجل صحبة وديانة وحفظًا للنوادر من الأشعار والحكايات وأصيب المترجم بكريمتيه عوضه الله دار الثواب من غير سابقة عذاب ولا عتاب توفي في سابع عشرين جمادى الأولى من السنة‏.‏

ومات الإمام الفقيه المحدث البارع المتبحر عالم المغرب الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطالب بن سودة المري الفاسي التاودي ولد بفاس سنة 1128 وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الناصري شارح الاكتفاء والشفاء ولامية الزقاق وغيرها والشهاب أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي قرأ عليهما الموطا وغيره والشهاب أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي قرأ عليه المنطق والكلام والبيان والأصول والتفسير والحديث وكان في أكثرها هو القارئ بين يديه مدة مديدة وأذن له في إقراء الصحيح في حياته فألقى دروسًا بين يديه وكان يوده ويسر به ويقدمه على سائر الطلبة ولما توفي ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائة وألف بالطاعون تزاحم ذو الوجاهات فيمن يلحده في قبره فكان الشيخ هو المتولي لذلك دون غيره وتلك كرامة له ورضوا بذلك قال‏:‏ وكلمته يومًا في شأن الحج متمنيًا له ذلك فقال لي مشيرًا الى شيخه سيدي عبد العزيز الدباغ إن الناس قالوا لي جعلناك في حق فلا تخرج من هذه البلدة وأنت ستحج وأعطيك ألف دينار وألف مثقال إن شاء الله تعالى قال‏:‏ ولم تك نفسي تحدثني بالحج يومئذ ولم يخطر ببال ومنهم الفقيه المتواضع صاحب التآليف أبو عبد الله محمد ابن قاسم جسوس لازمه مدة وقرأ عليه كتبًا منها رسالة بن أبي زيد ومختصر خليل ثلاث ختمات مع مطالعة شروح وحواش والحكم والشمائل وجميع الصحيح من غير فوت شيء منه ومنهم حافظ المذهب الفقيه القاضي أبو البقاء يعيش بن الزغاوي الشاوي قرأ عليه رجز بن عاصم ولامية الزقاق وطرفًا من الصحيح توفي سنة 1150 كان منزله بالدوخ في أطراف المدينة فنزل به اللصوص ليلًا فدافع عن حريمه وقاتلهم حتى قتل شهيدًا رحمه الله ومنهم قاضي الجماعة ومفتي الإمام أبو العباس أحمد بن أحمد الشدادي الحسني قرأ عليه المختصر الخليلي من أوله الى الوديعة أو العارية وسمع عليه بعض التفسير من أوله ومنهم الفقيه الزاهد القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد التماق قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد والحكم والتفسير من أوله الى سورة النساء ومنهم الإمام الناسك الزاهد أبو عبد الله محمد بن جلون قرأ عليه الآجرومية وختم عليه الألفية مرتين والمختصر الخليلي من أوله الى اليمين ولم يكن له نظير في الضبط والإتقان والتحرير وهو أول شيخ أخذ عليه وذلك قبل البلوغ وكان إذا قام من دروسه عرض على نفسه ما قاله فيجده لا يدع منه حرفًا واحدًا ومنهم سيبويه زمانه أبو عبد الله سيدي محمد ابن الحسن الجندوز قرأ عليه الألفية فكان يملي من حفظه في أثنائه الشروح والحواشي وشروح الكافية والتسهيل والرضى والمعنى والشواهد وغير ذلك مما يستجاد ويستغرب وقرأ عليه السلم والتلخيص ومن إنصافه أنه لما قرب أواخره بلغه أن الشيخ بن مبارك يريد أن يقرأه فقام مع جماعة وذهب إليه ليسمع منه وهذا من حسن إنصافه واعترافه بالحق ومنهم أبو العباس أحمد بن علال الوجاري قرأ عليه الألفية بلفظه ثلاث مرات وشيئًا من التسهيل والمغني وقد ذكر له بعض الشيوخ عن ابن هشام أنه قرأ الألفية ألف مرة فقال له بعض من سمعه‏:‏ وكم قرأتها قال‏:‏ أما المائة فجزتها فهؤلاء عشرة شيوخ كذا لخصتها من إجازة المترجم للشيخ أحمد ابن علي بن عبد الوهاب بن الحاج الفاسي في تاسع جمادى الثانية سنة ثلاث وألف وحج المترجم فقدم مصر سنة إحدى وثمانين ورجع سنة 1182 وعقد درسًا حافلًا بالجامع الأزهر برواق المغاربة فقرأ الموطأ بتمامه وحضره غالب الموجودين من العلماء وأجاد في تقريره وأفاد وسمع عليه الكثير أوائل الكتب الستة والشمائل والحكم وغيرها وأجاز ولقي بمكة أبا زيد عبد الرحمن بن أسلم اليمني وأبا محمد حسين بن عبد الشكور صاحب الشيخ عبد الله الميرغني والشيخ ابراهيم الزمزمي وغيرهم وبالمدينة أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان وأبا الحسن السندي وعبد الله جعفر الهندي وغيرهم وأجازوه وأجازهم وعاد الى مصر واجتمع بفاضلها كالجوهري والصعيدي وحسن الجبرتي والطحلاوي والسيد العيدروس والشيخ محمود الكردي وعيسى البراوي والبيومي والعربان وعطية الأجهوري وكان صحبته ولداه سيدي محمد وهو الأكبر وسيدي أبو بكر خالي العذار جميل الصورة وتردد على الشيخ الوالد كثيرًا وتلقى عنه بعض الرياضيات وترك عنده ولديه المذكورين مدة إقامته بمصر فكنا نطالع معهما سوية صحبة الشيخ سالم القيرواني والشيخ أحمد السوسي ونسهر غالب الليل نراعي المطالع والمغارب وممرات الكواكب بالسطح حذاء خيط المساترة ونراجع الشيخ فيما يشكل علينا فهمه وهو معنا في ناحية أخرى وأوقفت سيدي أبا بكر على طريق رسم ربع الدائرة المقنطر والمجيب توفي سيدي محمد بفاس سنة 1192 ومن تآليف المترجم حاشية قوله وأرخه الى آخره ابتداء التاريخ من الزاي الى زج مع حساب السنين بثلاثمائة على قاعدة المغاربة إلا أنه يزيد واحدًا عن سنة الوفاة فلعله مات سنة أربع وتسعين ومائة وألف كما يظهر ذلك بحساب التاريخ على البخاري في أربع مجلدات وحاشية على الزرقاني شارع خليل وشرحان على الأربعين النووية ومناسك حج وشرح الجامع لسيدي خليل وشرح تحفة بن عاصم في القضاء والأحكام والمنحة الثابتة في الصلاة الفائتة وفتح المتعال فيما ينتظم منه بيت المال وحاشية على بن جزي المفسر وحاشية على البيضاوي لم تكمل وشرح المشارق للصاغاني ومنظومة فيما يختص بالنساء وكلفه سلطان المغرب خطة القضاء في سنة 1203 فقبلها كرهًا وكانت فتاويه مسددة وأحكامه مؤيدة مع غاية التحرز والصيانة والإتقان وبالجملة فكان عين الأعيان في عصره ومصره شهير الذكر وافر الحرمة مهيب الصورة يغلب جلاله على جماله قليل التبسم ولما توفي مولاي محمد سلطان المغرب ووقع الاختلاف والاضطراب بين أولاده اجتمع الخاصة والعامة على رأي المترجم فاختار المولى سليمان وبايعه على الأمر بشرط السير على الخلافة الشرعية والسنن المحمدية وبايعه الكافة بعده على ذلك وعلى نصرة الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمحارم وكان كذلك ولم يزل المترجم على طريقته الحميدة حتى توفي في هذه السنة وتوفي بعده ابنه سيدي أبو بكر في سنة عشر ومائتين وألف ومات الإمام العلامة والوجيه الفهامة الشيخ أحمد بن محمد بن جاد الله ابن محمد الخناني المالكي البرهاني وجده الأخير يعرف بأبي شوشة وله مقام يزار بأم خنان بالجيزة نشأ في طلب العلم وحضر أشياخ الوقت ولازم السيد البليدي وصار معيدًا لدروسه بالأزهر والأشرفية وانتفع بملازمته له انتفاعًا كليًا وانتسب إليه وأجازه إجازة مطولة بخطه ونوه بشأنه فلما توفي شيخه المذكور تصدر لإقراء الحديث مكانه بالمشهد الحسيني واجتمع عليه الناس وحضره من كان ملازمًا لحضور شيخه من تجار المغاربة وغيرهم واعتقدوا صلاحه وتحبب إليهم وواسوه بالصلاة والزكوات والنذور وواظب الإقراء بالأزهر أيضًا وزيارة مشاهد الأولياء وإحياء لياليها بقراءة القرآن والذكر ويقوم‏:‏ دائمًا من الثلث الأخير من الليل ويذهب الى المشهد الحسيني ويصلي الصبح بغلس في جماعة وزاد اعتقاد الناس فيه واتسعت دنياه مع المداومة على استجلابها وإمساكها وبآخره اشترى دارًا عظيمة بحارة كنامة المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الأزهر وانتقل إليها وسكنها وكان يخرج لزيارة قبور المجاورين في كل يوم جمعة قبل الشمس فنزل العرب في بعض الجمع الى بين الكيان فأراد الهروب وكان جسيمًا فسقط من على بغلته على خربته فانكسر زره وحمل الى داره وعالج نفسه شهورًا حتى عوفي قليلًا ولم يزل تعاوده الأمراض حتى توفي رحمه الله وما رأيته قط إلا وهو يتلو قرآنًا أو يطالع كتابًا سامحه الله تعالى‏.‏

ومات الإمام الفاضل الصالح النجيب المفوه الناجح الشيخ محمد ابن أحمد بن خضر الخربتاوي المالكي الأزهري قرأ على والده وحضر دروس شيخنا الشيخ علي العدوي الصعيدي وبه تخرج وأنجب في العلوم وله سليقة جيدة في النثر والنظم وحصل كتبًا نفيسة المقدار زيادة على الذي ورثه من والده وله محبة في آل البيت ومدائح كثيرة وهو ممن قرظ على شرح القاموس لشيخنا السيد محمد مرتضى تقريظًا بديعًا ولم يزل المترجم مقبلًا على شأنه مواظبًا على دروسه حتى توفي في هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومات الأجل الصالح الناسك المسلك العارف الشيخ محمد بن عبد الحافظ أفندي أبو ذاكر الخلوتي الحنفي أخذ الطريق عن السيد مصطفى البكري والشيخ الحفني وحضر الفقه على العلامة الشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الحماقي وأدرك الإسقاطي والمنصوري ولم يتزوج قط وكف بصره سنة 1181 وانقطع في بيته إحدى وعشرين سنة بمفرده وليس عنده قريب ولا غريب ولا جارية ولا عبد ولا من يخدمه في شيء مطلقًا وبيته متسع جهة التبانة وبابه مفتوح دائمًا وعنده الأغنام والدجاج والإوز والبط والجميع مطلوقون في الحوش وهو يباشر علفهم وإطعامهم وسقيهم الماء بنفسه ويطبخ طعامه بنفسه وكذلك يغسل ثيابه واشتهر في الناس بأن الجن تخدمه وليس ببعيد لأنه كان من أهل المعارف والأسرار ويأتي إليه الكثير من الطلبة للأخذ عنه والتلقي منه وكان له يد طولى في كل شيء ومشاركة جيدة في العلوم والمعارف والأسماء والروحانيات والأوفاق واستحضار تام في كل ما يسأل عنه وعنده عدة كثيرة من السنانير ويعرفها بالواحدة بأسمائها وأنسابها وألوانها ويقول هذه تحفة بنت بستانة وهذه كمونة بنت ياسمين وهذه فلانة أخت فلانة الى غير ذلك توفي رحمه الله تعالى في شهر شوال من هذه السنة‏.‏

ومات الإمام العلامة والرحلة الفهامة المعمر المتقدم الشيخ مصطفى المرحومي الشافعي ولد بمحلة المرحوم بالمنوفية وقرأ القرآن وحفظه وجوده وحضر الى مصر المتون وتفقه على الأشياخ المتقدمين كالدفري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والملوي والحفني وغيرهم ومهر في المعقول والمنقول وأملى الدروس بالأزهر وجامع أزبك وانتفع به الناس وكان يتردد الى بيوت بعض الأعيان ويحبونه ويكرمونه ويستفيدون من فوائده ونوادره وكان له حافظة واستحضار للمناسبات والأشعار واللطائف لا يمل حديثه ومفاكهته توفي في هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومات الإمام العلامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي النحرير الفصيح المتقن المتفنن الشيخ علي الشهير بالطحان الأزهري المصري حضر شيوخ العصر ولازم الشيخ الملوي والجوهري وكان معيد الدروس الأخير وبه تخرج وكان يقرأ الكتب ويقرر الدروس بدون مطالعة إلا أنه كان يغلب عليه الملل والسآمة وحب البطالة غالب أيامه ولا يتعفف عن الدنيا من أي وجه كان ويطلبها وإن قلت وكانت سليقته جيدة في النثر والنظم وله منظومة في الفقه ومنظومة في المنطق ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى ومنظومة في العروض ومنظومة في البيان ومنظومة في الطب وله لاميتان على محاكاة لأمية بن الوردي كبرى الملوي على السمرقندية توفي في أواخر شعبان من السنة‏.‏

ومات الإمام العلامة النبيه الوجيه الفاضل المستعد الشيخ يوسف ابن عبد الله بن منصور الينبلاويني الشهير برزه الشافعي تفقه على بلدية الشيخ أحمد رزة وحضر دروس الشيخ الحفني والشيخ البراوي والشيخ عطية والشيخ الصعيدي وغيرهم من الأشياخ وأنجب ودرس وأفاد ولازم الإقراء وكان إنسانًا وجيهًا وحتشمًا ساكن الجأش وقورًا بهي الشكل قانعًا بحاله لا يتداخل كغيره في أمور الدنيا مجمل الملابس لا يزيد على ركوب الحمار في بعض الأحيان لبعض الأمور الضرورية ولم يزل حتى تعلل وتوفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات العلامة المفيد المفوه المجيد الشيخ عبد الرحمن بن علي بن الإمام العلامة عبد الرؤوف البشبيشي نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وحضر الأشياخ وتفقه في مذهب أبيه وجده وهم شافعيون واجتمع بالشيخ الوالد ولازمه ملازمة كلية وحضر عليه في مذهب أبي حنيفة وحفظ كثيرًا من الفروع الغريبة في المذهب والرياضيات وأقرأني في حال الصغر شيئًا من القرآن وحروف الهجاء وكان به بعض رعوته فانتقل الى مذهب أبي حنيفة وأخبر الوالد بذلك يظن سروره في انتقاله فلامه على فعله وانحط قدره عنده من ذلك الوقت وذلك بعد موت والده في سنة 187 وأملق حاله وتكدر باله وسافر بآخره الى دمياط وأقام بها مدة يفتي على مذهب الحنفية وراج أمره هناك لشغور الثغر عن مثله ثم قدم مصر لأمر عرض له فأقام بمصر وأراد بيع داره ليصرف ثمنها في شؤونه فلم يجد من يشتريها بالثمن المرغوب وكان إنسانًا حسنًا يذاكر بفوائد مع حسن المعرفة وصحة الذهن وربما تعلق ببعض فنون غريبة ولذا قل حظه رحمه الله في هذه السنة وحيدًا في داره وهو جالس‏.‏ ومات

المجذوب المعتقد السيد علي البكري

أقام سنينًا متجردًا ويمشي في الأسواق عريانًا ويخلط في كلامه وبيده نبوت طويل يصحبه معه في غالب أوقاته وقد تقدم ذكره وذكر المرأة التي تبعته المعروفة بالشيخة أمونة وكان يحلق لحيته وللناس فيه اعتقاد عظيم وينصتون الى تخليطاته ويوجهون ألفاظه ويؤلونها على حسب أغراضهم ومقتضيات أحوالهم ووقائعهم وكان له أخ من مساتير الناس فحجر عليه ومنعه من الخروج وألبسه ثيابًا ورغب الناس في زيارته وذكر مكاشفاته وخوارق كراماته فأقبل الناس عليه من كل ناحية وترددوا لزيارته من كل جهة وأتوا إليه الهدايا والنذور وجروا على عوائدهم في التقليد وازدحم عليه الخلائق وخصوصًا النساء فراج بذلك أمر أخيه واتسعت دنياه ونصبه شبكة لصيده ومنعه من حلق لحيته فنبتت وعظمت وسمن بدنه وعظم جسمه من كثرة الأكل والراحة وقد كان قبل ذلك عريانًا شقيانًا يبيت غالب لياليه بالجوع طاويًا من غير أكل بالأزقة في الشتاء والصيف وقيد به من يخدمه ويراعيه في منامه ويقظته وقضاء حاجته ولايزال يحدث نفسه ويخلط في ألفاظه وكلامه وتارة يضحك وتارة يشتم ولابد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزائرين وذوي الحاجات فيعدون ذلك كشفًا واطلاعًا على ما في نفوسهم وخطرات قلوبهم ويحتمل أن يكون كذلك فإنه كان من البله المجاذيب المستغرقين في شهود حالهم وسبب نسبتهم هذه أنهم كانوا يسكنون بسويقة البكري لا أنهم من البكرية ولم يزل هذا حاله حتى توفي في هذه السنة واجتمع الناس لمشهده من كل ناحية ودفنوه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي في قطعة من المسجد وعملوا على قبره مقصورة ومقامًا يقصد للزيارة واجتمع عند مدفنه في ليال وميعادات قراء ومنشدون وازدحم عند أصناف الخلائق ويختلط النساء بالرجال ومات أخوه أيضًا بعده بنحو ومات الوجيه المكرم والنبيه المفخم مصطفى بن صادق أفندي اللازجي الحنفي ولد سنة 174 ونشأ في حجر والده وحفظ القرآن وبعض المتون في صغره وحفظ البرجلي والشاهدي ومهر في اللغة التركية وتفقه على أبيه وقرأ عليه علم الصرف وحضر على بعض الأشياخ ولازم الشيخ محمد الفرماوي وأخذ عنه النحو وقرأ عليه مختصر السعد وغيره برواق الجيرت بالأزهر ثم تصدر للإفادة والمطالعة لطلبة الأتراك المجاورين برواق الأروام ولبس له تاجًا وفراجة وعمل له مجلس وعظ على كرسي بالجامع المؤيدي وذلك قبل نبات لحيته وكان وسيمًا جسيمًا بهي الطلعة أبيض اللون رابي البدن فاجتمع لسماع وعظه ومشاهدة ذاته كثير من الناس من أبناء العرب والأتراك والأمراء والأجناد فيقرر لهم بالعربي والتركي بفصاحة وطلاقة لسان وممن كان يحضره علي آغا مستحفظان وهام فيه وأحبه وصار يتردد إليه كثيرًا ويذهب هو أيضًا الى داره كثيرًا وكان والده متوليًا على وقف اسكندر ومشيخة التكية بباب الخرق فكان هو المتكلم على ذلك عوضًا عن أبيه واتفق أنه حاسب المباشر على ذلك وهو الشيخ أحمد الصفطة وطالبه بما تأخر عليه فما طلبه فأغرى به علي آغا المذكور فطلب الشيخ أحمد المذكور ونكل به وشهره وعلقه على شباك السبيل بباب الخرق بقاووقه وهيئته واجتمع الناس للفرجة عليه يومًا كاملًا ثم أطلقه فاشتهر أمر المترجم وهابه الناس وأكثر من الترداد الى بيوت الأمراء وعظموه وأحبوه وأكرموه لاتحاد الجنسية وارتباط الحيثية ولما توفي مصطفى أفندي شيخ رواقهم انتبذ هو لطلب المشيخة وذهب الى مراد بك فألبسه فروة على مشيخة الرواق فتعصب أهل الرواق وأبوا مشيخته عليهم لحداثة سنه واجتمعوا وذهبوا الى مراد بك فزجرهم ونهرهم وطردهم فرجعوا بقهرهم وسكتوا واستمر شيخًا عليهم يأتي الى الرواق في كل يوم ويقرأ لهم الدرس كما كان من قبله واشتهر ذكره وعظمت لحيته وصار ذا وجاهة عظيمة وسكن دارًا عظيمة جهة التبانة من وقف رواقهم ودعا إليه الأعيان والأكابر وعمل لهم ولائم وقدم لهم التقادم والهدايا واحتفل به مصطفى آغا الوكيل وسعى له في أشغاله وكاتب الدولة في شأنه فأرسلوا له مرتبًا بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفًا في كل يوم واتسع حاله وأقبلت عليه الدنيا من كل جهة ومات أبوه في سنة أربع ومائتين وألف وكان ذا مكنة وحرص فأحرز مخلفاته أيضًا وباع تركته وكان سليط اللسان في حق الناس فاتفق له أنه لما حضر حسن باشا الى مصر فحضر مرة الى زيارة المشهد الحسيني وجلس مع الشيخ السادات والشيخ البكري فدخل عليهم المترجم فجلس هنيهة ثم قام فسأل عنه حسن باشا فأخبره الشيخ السادات عن أحواله وتكلمه في حق الناس فأمر بنفيه فانزعج عليه والده ثم ذهب الى حسن باشا وكلمه فرق له ورحم شيبته وأمر برد ابنه فرجع من ليلته ولم يزل يستعى ويتحيل حتى أحضر حسن باشا الى داره وجدد معه صداقة وصحبة حتى كاد أن يأخذه صحبته ولم يزل في فوعته وفورته حتى غار ماء حياته وانغلق عن الفتح باب قبره عند مماته وهو مقتبل الشبيبة في هذه السنة‏.‏

ومات الشيخ المحترم المبجل الشيخ أحمد بن الإمام العلامة سالم النفراوي المالكي نشأ في حجر والده في رفاهية وتنعم ورياسة ولما مات والده تعصب له الشيخ عبد الله الشبراوي وحاز له وظائف والده وتعلقاته وأجلسه للإقراء في مكان درس أبيه وأمر جماعة أبيه بالحضور عليه وكان الشيخ علي الصعيدي من أكبر طلبة أبيه فتطلع للجلوس في محله وكان أهلًا لذلك فعارضه الشيخ الشبراوي وأقصاه وصدر ولده لذلك مع قلة بضاعته ولتغة في لسانه فحقد ذلك في نفس الشيخ الصعيدي سنينًا وكان المترجم ذا دهاء ومكر وتصدى للقضايا والدعاوي واتخذ له أعوانًا واشتهر ذكره وعد من الكبار وترددت إليه الأمراء والأعيان وصار ذا صولة وهيبة ولما ظهر شأن علي بك كان يرعى له حقه وحالته التي وجده عليها ويقبل شفاعته ويكرمه حتى أنه كان يأتي إليه بداره التي بالجيزة فلما مات علي بك وانتقلت الرياسة الى محمد بك وكان له عناية بالشيخ الصعيدي ويسمع لقوله وكان السيد محمد بدوي بن فتيح القباني مباشر المشهد الحسيني يعلم كراهة الشيخ الصعيدي الباطنية للمترجم فيرصد الوقت الذي يحضر فيه الشيخ الصعيدي عند الأمير ويفتح مذاكرته والتكلم في حقه فيساعده الشيخ ويظهر المكمون في نفسه من المترجم ويذكرون مساويه وقبائحه وما بيده من الوظائف بغير حق وما تحت نظارته من الأوقاف المتخربة حتى أوغروا صدر الأمير عليه فنزع منه وظائفه وفرقها على من أشاروا عليه بتقليده إياها وأهانه فعند ذلك تسلطت عليه الألسن وكثرت فيه الشكاوى وتجاسر عليه الأنذال وتطاول عليه الأرذال وهدموا بيته الذي بالجيزة لأنه كان تعدى في بنائه وأخذ قطعة من الطريق التي يسلك منها الناس فعند ذلك خمل ذكره وبرد أمره واستمر على ذلك حتى توفي في هذه السنة غفر الله له وسامحه بمنه وكرمه‏.‏

سنة ثمان ومائتين وألف فيها أوفى النيل أذرعه في سادس عشر المحرم الموافق لثامن عشر مسرى القبطي وأول برج السنبلة وفيها انحلت الأسعار وبورك في رمي الغلال حتى أن الفدان الواحد زكا بقدر خمسة أفدنة وبلغ النيل الى الزيادة المتوسطة وثبت الى أول بابه وشمل الماء غالب الأرض بسبب التفات الناس لسد المجاري وحفر الترع وإصلاح الجسور‏.‏

وفي أوائل شهر صفر وصل قابجي من الديار الرومية بطلب مال المصلحة والحلوان فأنزلوه في دار وهادوه ورتبوا له مصروفًا‏.‏

ومن الحوادث أن الناس انتظروا جاويش الحاج وتشوفوا لحضوره ولم يذهب إليهم في هذه السنة ملاقاة بالوش ولا بالازلم وأرسل ابراهيم بك هجانًا يستخبر عن الحجاج فذهب ورجع ليلة الثالث والعشرين من شهر صفر وأخبر أن العرب تجمعوا على الحج من سائر النواحي عند مغاير شعيب ونهبوا الحجاج وكسروا المحمل وأحرقوه وقتلوا غالب الحجاج والمغاربة معهم وأخذوا أحمالهم ودوابهم ونهبوا أثقالهم وانجرح أمير الحج وأصابه ثلاث رصاصات وغاب خبره ثلاثة أيام ثم أحضره العرب وهو عريان في أسوأ حال وأخذوا النساء بأجمالهن والذي تبقى منهم أدخلوه الى قلعة العقبة وتركهم الهجان بها من غير ماء ولا زاد فنزل بالناس من الغم والحزن تلك الليلة ما لا مزيد عليه ثم إنهم عينوا محمد بك الألفي وعثمان بك الأشقر ليسافرا بسبب ذلك فخرجا في يوم الخميس سابع عشرين صفر وخطف أتباعهم في ذلك اليوم ما صادفوه من الجمال والبغال والحمير وقرب السقائين التي تنقل الماء من الخليج ونهبوا الخبز من الطوابين والمخابز والكعك والعيش من الباعة وفي يوم خروجهم وصل جماعة من الحجاج ودخلوا في أسوأ حال من العري والجوع والتعب فلما وصلوا الى نخل تلاقوا مع باقي الحجاج على مثل ذلك ووجدوا أمير الحاج ذهب الى غزة وصحبته جماعة من الحجاج وأرسل يطلب الأمان ولم يزوروا المدينة في هذه السنة وأرسل من صرة المدينة اثنين وثلاثين ألف ريال مع عرب حرب ضاع في هذه الحادثة من الأموال والمحزوم شيء كثير جدًا وأخبروا أن مواسم هذا العام كان من أعظم المواسم لم يتفق مثله من مدة مديدة وفي يوم الاثنين غرة ربيع الأول دخل باقي الحجاج على مثل حالة من وصل منهم قبل ذلك وفي صبحها يوم الثلاثاء عملوا الديوان بالقلعة واجتمع الأمراء والوجاقلية والمشايخ وقرئ المرسوم الذي حضر بصحبة الآغا فكان مضمونه طلب الحلوان والخزينة وقدر ذلك تسعة آلاف وأربعمائة كيس وعشرة آلاف وخمسة وأربعون نصفًا فضة تسلم ليد الآغا المعين من غير تأخير‏.‏

وفيه عملوا على زوجات أمير الحاج ثلاثين ألف ريال وأرسلوا الى بيت حسن كاشف المعمار فأخذوا ما فيه من الغلال وغيرها لأنه قتل في معركة العرب مع الحجاج وألبسوا زوجته الخاتم قهرًا عنها ليزوجوها لمملوك من مماليك مراد بك وهي بنت علي آغا المعمار ووجدت على زوجها وجدًا عظيمًا وأرسلت جماعة لإحضار رمته من قبره الذي دفن فيه في صندوق على هيئة تابوت‏.‏

وفيه شرع الأمراء في عمل تفريدة على البلاد بسبب الأموال المطلوبة وقرروها عال وهو أربعمائة ريال ووسط ثلثمائة والدون مائة وخمسون وكتبوا أوراقها على الملتزمين ليحصلوها منهم‏.‏

وفي يوم الخميس سافر حسن كتخدا أيوب بك بأمان لعثمان بك ليحضره من غزة ووصل المتسفرون بجثة حسن كاشف المعمار‏.‏

وفي عشرين جمادى الأولى وصل عثمان بك طبل الاسماعيلي أمير الحاج الى مصر مكسوف البال ودخل الى بيته‏.‏

وفيه حضر الصدر الأعظم يوسف باشا الى الاسكندرية ليتوجه الى الحجاز فاعتنى الأمراء بشأنه وأرسلوا له ملاقاة وتقادم وهدايا وفرشوا له قصر العيني ووصل الى مصر وطلع من المراكب الى قصر العيني وأرسلوا له تقادم وضيافات ثم حضروا للسلام عليه في زحمة وكبكبة فخلع على ابراهيم بك ومراد بك خلعًا ثمينة وقدم لهما حصانين بسرجين مرختين ثم نزل الباشا المتولي بعد يومين وسلم عليه ورجع القلعة وأقاموا لخفارته عبد الرحمن بك الابراهيمي جلس بالقصر المواجه لقصر العيني وقد تخيلوا من حضوره وظنوا ظنونًا وفي يوم الأحد ثالث جمادى الثانية طلع يوسف باشا الى القلعة باستدعاء من الباشا المتولي فجلس عنده الى بعد الظهر ونزل في موكب حافل الى محله بقصر العيني وأرسل له ابراهيم بك ومراد بك مع كتخدائهم هدية وهي خمسمائة أردب قمح ومائة أردب أرز وتعبيات أقمشة هندية وغير ذلك وأقام بالقصر أيامًا وقضوا أشغاله وهيؤوا له اللوازم والمراكب بالسويس وركب في أواسط جمادى الثانية وذهب الى السويس ليسافر الى جدة من القلزم وانقضت هذه السنة وحوادثها واستهلت أخرى‏.‏

من مات فيها من الأعيان ومن سارت بذكرهم الركبان مات نادرة الدهر وغرة وجه العصر إنسان عين الأقاليم فريد عقد المجد النظيم جامع الفضائل والمحاسن ومظهر اسم الظاهر والباطن من لبس رداء النجابة في صباه ولاح عنوان المكارم على صحائف علاه ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن أبيه وجده الحسيب النسيب والنجيب الأريب السيد محمد أفندي البكري الصديقي شيخ سجادة البكرية ونقيب السادة الأشراف بمصر المحمية تقلد بعد والده المنصبين وورث عنه السيادتين فسار فيهما سيرة الملوك ونثر فرائد المكارم من أسلاك السلوك فجوده حدث عن البحر ولا حرج وبراعة منطقه تلتج سلب الألباب والمهج مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال وأخبار غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان زمانه كأنه عروس الفلك فكم قال له الدهر أما الكمال فلك ولم يزل كذلك الى أن آذنت شمسه بالزوال وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال وقطفت زهرة شبابه وقد سقتها دموع أحبابه وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثامن وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه وبالجملة فهو كان مسك الختام قلما تسمح بمثله الأيام ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي‏.‏

ومات علامة العلوم والمعارف وروضة الآداب الوريقة وظلها الوارف جامع المزايا والمناقب شهاب الفضل الثاقب الإمام العلامة الشيخ أحمد ابن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي الأزهري ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية وعلى الشمس الحفني الصيح مع شرحه للقسطلاني ومختصر بن أبي جمرة والشمائل وابن حجر على الأربعين والجامع الصغير وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الاطفيجي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الأجهوري وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة وكان معيدًا لدروسه وسمع عليه الصحيح بجامع مرزه ببولاق وسمع من الشيخ ابن الطيب الشمائل لما ورد مصر متوجهًا الى الروم وحضر دروس الشيخ يوسف الفني والشيخ ابراهيم الحلبي وابراهيم بن محمد الدلجي ولازم الشيخ الوالد وأخذ عنه وقرأ عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقائق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهداية وقاضي زادة وغير ذلك وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثيرًا واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العربان فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي رضي الله عنه كما تقدم واختاروه لهذه الخطة العظيمة فكان كذلك واستمر شيخ الجامع على الإطلاق ورئيسهم بالاتفاق يدرس ويعيد ويملي ويفيد ولم يزل يراعي للحقير حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة وسمعت من فوائده كثيرًا ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه وشرح جمع الجوامع للجلال المحلي والمطول وعصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك وكان رقيق الطباع مليح الأوضاع لطيفًا مهذبًا إذا تحدث نفت الدر وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر ولم تزل كؤوس فضله على اطلبة مجلوة حتى ورد موارد الموت ودعاه الله تعالى بجوار الجنان وتلقاه جدثه بروح رحمة ورضوان وذلك في حادي عشرين شعبان وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بمدفن صهره الشيخ العريان تغمده الله بالرحمة والرضوان ومن تآليفه شرح على نظم التنوير في إسقاط التدبير للشيخ الملوي وهو نظم وحاشية على الملوي على السمرقندية وغير ذلك وخلف أولاده الأربعة كلهم فضلاء أذكياء نبلاء أحدهم الذي تعين بالتدريس في محله بالأزهر العلامة اللوذعي والفهامة الألمعي شمس الدين السيد محمد وأخوه النبيل الفاضل المتقن شهاب الدين السيد أحمد وأخوه الذكي اللبيب والفهيم النجيب السيد عبد الرحمن والنبيه الصالح والمفرد الناجح السيد مصطفى بارك الله فيهم‏.‏

ومات الخواجة المعظم والملاذ المفخم حائز رتب الكمال وجامع مزايا الأفضال سيدي الجامع محمود بن محرم أصل والده من الفيوم واستوطن مصر وتعاطى التجارة وسافر الى الحجاز مرارًا واتسعت دنياه وولد له المترجم فتربى في العز والرفاهية ولما ترعرع وبلغ رشده وخالط الناس وشارك وباع واشترى وأخذ وأعطى ظهرت فيه نجابة وسعادة حتى كان إذا مسك التراب صار ذهبًا فانجمع والده وسلم له قياد الأمور فاشتهر ذكره ونما أمره وشاع خبره بالديار المصرية والحجازية والشامية والرومية وعرف بالصدق والأمانة والنصح فأذعنت له الشركاء والوكلاء ووثقوا بقوله ورأيه وأحبه الأمراء المصرية وتداخل فيهم بعقل وحشمة وحسن سير وفطانة ومداراة وتؤدة وسياسة ولطف وأدب وحسن تخلص في الأمور الجسيمة وعمر داره ووسعها وأتحفها وزخرفها وأنشأ بها قاعة عظيمة وأمامها فسحة مليجة الشكل وحول القاعة بستان بديع المثال وهي مطلة عليه من الجهتين وزوج ولده سيدي أحمد الموجود الآن وعمل له مهمًا عظيمًا دعا إليه الأكابر والأعيان والتجار وتفاخر فيه الى الغاية وعمر مسجدًا بجوار بيته بالقرب من حبس الرحبة فجاء في غاية الإتقان والحسن والبهجة ووقف عليه بعض جهات ورتب فيه وظائف وتدريسًا وبالجملة كان إنسانًا حسنًا وقورًا محتشمًا جميل الطباع مليح الأوضاع ظاهر العفاف كامل الأوصاف حج في هذه السنة من القلزم ورجع في البر مع الحجاج في إمارة عثمان بك الشرقاوي على الحج في أحمال مجملة وهيئة زائدة مكملة فصادفتهم شوبة فقضي عليه فيها ودفن بالخوف ولم يخلف في بابه مثله رحمه الله‏.‏

ومات الأمير حسن كاشف المعمار وأصله مملوك محمود بك وأعطاه لعلي آغا المعمار أخذه صغيرًا ورباه ودربه في الأمور وزوجه ابنته وعمل لزواجهما مهمًا وولائم ولما مات سيده قام مقامه وفتح بيته ووضع يده على تعلقاته وبلاده ونما أمره وانتظم في سلك الأمراء المحمدية لكونه في الأصل مملوك محمد بك وخشداشهم وكان رئيسًا عاقلًا ساكن الجأش جميل الصورة واسع العينين أحورهما ولما حج في هذه السنة وخرجت عليهم العرب ركب وقاتلهم حتى مات شهيدًا ودفن بمغاير شعيب ونهب متاعه وأحماله وحزنت عليه زوجته الست حفيظة ابنة علي آغا حزنًا شديدًا وأرسلت مع العرب ونقلته الى مصر ودفنته عند أبيها بالقرافة وزوجته المذكورة هي الآن زوجة لسليمان بك المرادي‏.‏

ومات الأمير شاهين بك الحسني وقد تقدم أنه كان حضر الى مصر رهينة وسكن ببيت بالقرب من الموسكي وهو مملوك حسن بك الجداوي أمره أيام حسن باشا وسكن ببيت مصطفى بك الكبير الذي على بركة الفيل المعروف سابقًا بشكر فره وصار من جملة الأمراء المعدودين ولما مات اسمعيل بك وحصل على ما تقدم من قدوم المحمديين وخروجهم فحضر المترجم صحبة عثمان بك الشرقاوي رهينة عن سيده وأقام بمصر وكان سبب موته أن إنسانًا كلمه عن أصول الصبغة التي تنبت بالغيطان ولها ثمر يشبه عنب الديب في عناقيد يصبغ منه القراشون مياه القناديل في المواسم والأفراح وإن من أكل من أصولها شيئًا أسهله إسهالًا مفرطًا ولم يذكر له المسكن لذلك ولعله كان يجهله فأرسل من أتى له بشيء منها من البستان وأكل منه فحصل له إسهال مفرط حتى غاب عن حسه ومات وتسكين فعلها إذا بلغت غايتها أن يمتص شيئًا من الليمون المالح فإنها تسكن في الحال ويفيق الشخص كأن لم يكن به شيء ومات الأمير أحمد بك الوالي بقبلي وهو أيضًا مملوك حسن بك الجداوي وقد تقدم ذكره ووقائعه مع أهل الحسينية وغيرهم في أيام زعامته‏.‏

لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم واتخذ مراد بك الجيزة سكنًا وزاد في عمارته واستولى على غالب بلاد الجيزة بعضها بالثمن القليل وبعضها غصبًا وبعضها معاوضة واتخذ صالح آغا أيضًا له دارًا بجانبه وعمرها وسكنها بحريمه ليكون قريبًا من مراد بك‏.‏

وفي سابع عشرين المحرم الموافق لعشرين شهر مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وكسر السد في صبحها بحضرة الباشا والأمراء وجرى الماء في الخليج‏.‏

وفي شهر صفر ورد الخبر بوصول صالح باشا والي مصر الى اسكندرية وأخذ محمد باشا في أهبة السفر ونزل وسافر الى جهة اسكندرية‏.‏

وفي عشرين شهر ربيع الأول وصل صالح باشا الى مصر وطلع الى القلعة‏.‏

وفي أواخره ورد الخبر بوصول تقليد الصدارة الى محمد باشا عزت المنفصل عن مصر وورد عليه التقليد وهو باسكندرية وكان صالح آغا الوكيل ذهب صحبته ليشيعه الى اسكندرية فأنعم إليه بفرمان مرتب على الضربخانة باسم حريمه ألف نصف فضة في كل يوم‏.‏

وفي ليلة السبت خامس عشر ربيع الثاني أمطرت السماء مطرًا غزيرًا قبل الفجر وكان ذلك آخر بابه القبطي‏.‏

وفي شهر الحجة وقع به من الحوادث أن الشيخ الشرقاوي له حصة في قرية بشرقية بلبيس حضر إليه أهلها وشكوا من محمد بك الألفي وذكروا أن أتباعه حضروا إليهم وظلموهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه واستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر الى الأزهر وجمع المشايخ وقفلوا أبواب الجامع وذلك بعد ما خاطب مراد بك وابراهيم بك فلم يبديا شيئًا ففعل ذلك في ثاني يوم وقفلوا الجامع وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت ثم ركبوا في ثاني يوم واجتمع عليهم خلق كثير من العامة وتبعوهم وذهبوا الى بيت الشيخ السادات وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة بحيث يراهم ابراهيم بك وقد بلغه اجتماعهم فبعث من قبله أيوب بك الدفتردار فحضر إليهم وسلم عليهم ووقف بين يديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا له‏:‏ نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها فقال‏:‏ لا يمكن الإجابة الى هذا كله فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات فقيل له‏:‏ هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك والأمير يكون أميرًا بالإعطاء لا بالأخذ فقال‏:‏ حتى أبلغ وانصرف ولم يعد لهم بجواب وانفض المجلس وركب المشايخ الى الجامع الأزهر واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية وباتوا بالمسجد وأرسل ابراهيم بك الى المشايخ يعضدهم ويقول لهم أنا معكم وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي وأرسل الى مراد بك يخيفه عاقبة ذلك فبعث مراد بك يقول‏:‏ أجيبكم الى جميع ما ذكرتموه إلا شيئين ديوان بولاق وطلبكم المنكسر من الجامكية ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم وندفع لكم جامكية سنة تاريخه أثلاثًا ثم طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم فذهبوا إليه بالجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر ورجعوا من عنده وباتوا على ذلك تلك الليلة وفي اليوم الثالث حضر الباشا الى منزل ابراهيم بك واجتمع الأمراء هناك وأرسلوا الى المشايخ فحضر الشيخ السادات والسيد النقيد والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير وكان المرسل إليهم رضوان كتخدا ابراهيم بك فذهبوا معه ومنعوا العامة من السعي خلفهم ودار الكلام بينهم وطال الحديث وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق ويبطلوا رفع الظلم المحدثة والكشوفيات والتفاريد والمكوس ما عدا ديوان بولاق وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم الى أموال الناس ويرسلوا صرة الحرمين والعوائد المقررة من قديم الزمان ويسيروا في الناس سيرة حسنة وكان القاضي حاضرًا بالمجلس فكتب حجة عليهم بذلك وفرمن عليها الباشا وختم عليها ابراهيم بك وأرسلها الى مراد بك فختم عليها أيضًا وانجلت الفتنة ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة وهم ينادون حسب ما رسم ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية وفرح الناس وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة ونزل عقيب ذلك مراد بك الى دمياط وضرب عليها الضرائب العظيمة وغير ذلك‏.‏

ومات الإمام العلامة والرحلة الفهامة بقية المحققين وعمدة المدققين الشيخ المعمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الوهاب السمنودي المحلي الشافعي من بيت العلم والصلاح والرشد والفلاح وأصلهم من سمنود ولد هو بالمحلة وقدم الجامع الأزهر وحضر على الشمس السجيني والعزيزي والملوي والشبراوي وتكمل في الفنون الغربية وتلقى عن السيد على الضرير والشيخ محمد الغلاني الكشناوي مشاركًا للشيخ الوالد والشيخ ابراهيم الحلبي وعاد الى المحلة فدرس في الجامع الكبير مدة ثم أتى الى مصر بأهله وعياله ومكث بها وأقرأ بالجامع الأزهر درسًا وتردد الى الأكابر والأمراء وأجلوه وقرأ في المحمدية بعد موت الشنويهي في المنهج وانضوى الى الشيخ أبي الأنوار السادات ويأتي إليه في كل يوم وكان إنسانًا حسنًا بهي الشكل لطيف الطباع عليه رونق وجلالة جميل المحادثة حسن الهيئة توفي بعد أن تعلل دون شهر عن مائة وست عشرة سنة كامل الحواس إذا قام نهض نهوض الشباب ودفن ببستان المجاورين وكان يتكتم سني عمره رحمه ومات الإمام العلامة واللوذعي الفهامة رئيس المحققين وعمدة المدققين النحوي المنطقي الجدلي الأصولي الشيخ أحمد بن يونس الخليفي الشافعي الأزهري من قرابة الشهاب الخليفي ولد سنة 131 كما سمعته من لفظه وقرأ القرآن وحفظ المتون وحضر على كل من الشبراوي والحفني وأخيه الشيخ يوسف والسيد البليدي والشيخ محمد الدقري والدمنهوري وسالم النفراوي والطحلاوي والصعيدي وسمع الحديث على الشهابين الملوي والجوهري ودرس وأفاد بالجامع الأزهر وتقلد وظيفة الإفتاء بالمحمدية عندما انحرف يوسف بك على الشيخ حسن الكفراوي كما تقدم فاتخذ الشيخ أحمد أبا سلامة أمينًا على فتاويه لجودة استحضاره في الفروع الفقهية وله مؤلفات منها حاشية على شرح شيخ الإسلام على متن السمرقندية في آداب البحث وأخرى على شرح الملوي في الاستعارات وأخرى على شرح المذكور على السلم في المنطق وأخرى على شرح شيخ الإسلام على آداب البحث وأخرى على شرح الشمسية في المنطق وأخرى على متن الياسمينية في الجبر والمقابلة وشرح على أسماء التراجم ورسالة متعلقة بالأبحاث الخمسة التي أوردها الشيخ الدمنهوري ولازم الشيخ الوالد مدة وتلقى عنه بعض العلوم الغريبة وكملها بعد وفاته على تلميذه محمود أفندي النيشي وكان جيد التقرير غاية في التحرير ويميل بطبعه الى ذوي الوسامة والصور الحسان من الجدعان والشبان فإذا رجع من درسه خلع زي العلماء ولبس زي العامة وجلس بالأسواق وخالط الرفاق ويمشي كثيرًا بين المغرب والعشاء بالخفيفة نواحي داره جهة بين السيارج وغيرها ويرى في بعض الأحيان على تلك الصورة في الأوقات المذكورة في نواح بعيدة عن داره وسافر مرة الى جهة قبلي في سفارة بين الأمراء أيام عابدي باشا ولم يزل على ذلك الى أن توفي في أوائل رجب من هذه السنة سامحه الله‏.‏ ومات

العمدة الجليل والنبيه النبيل العلامة الفقيه المفوه الشريف الضرير

السيد عبد الرحمن بن بكار الصفاقسي نزيل مصر قرأ في بلاده على علماء عصره ودخل كرسي مملكة الروم فأكرم وانسلخ عن هيئة المغاربة ولبس ملابس المشارقة مثل التاج والفراجة وغيرها وأثرى وقدم الى مصر وألقى دروسًا بالمشهد الحسيني وتأهل وولد له ولد به فضيلة ونجابة واتحد بشيخ السادات الوقائية السيد أبي الأنوار فراج حاله وزاده شوكته على أبناء جنس وتردد الى الأمراء وأشير إليه ودرس كتاب الغرر في مذهب الحنفية وتولى مشيخة رواق المغاربة بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن البناني وسار فيها أحسن سيرة مع شهامة وصرامة وفصاحة لفظ في الإلقاء وكان جيد البحث مليح المفاكهة والمحادثة واستحضار اللطائف والمناسبات ليس فيه عربدة ولا فظاظة ويميل بطبعه الى الحظ والخلاعة وسماع الألحان والآلات المطربة توفي رحمه الله في هذه السنة وولى بعده على مشيخة رواقهم الشيخ سالم بن مسعود‏.‏

ومات الفقيه العلامة الصالح الصوفي الشيخ أحمد بن أحمد السماليجي الشافعي الأحمدي المدرس بالمقام الأحمدي بطندتاء ولد ببلده سماليج بالمنوفية وحفظ القرآن وحضر على الشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الخشني والشيخ أحمد الدردير ورجع الى طندتاء فاتخذها سكنًا وأقام بها يقرئ دروسًا ويفيد الطلبة ويفتي على مذهبه ويقضي بين المتنازعين من أهالي البلاد فراج أمره واشتهر ذكره بتلك النواحي ووثقوا بفتياه وقوله وأتوه أفواجًا بمكانه المسمى بالصف فوق باب المسجد المواجه لبيت الخليفة وتزوج بامرأة جميلة الصورة من بلد الفرعونية وولد منها ولد سماه أحمد كأنما أفرغ في قالب الجمال وأودع بعينيه السحر الحلال فلما ترعرع حفظ القرآن والمتون وحضر على أبيه في الفقه والفنون وكان نجيبًا جيد الحافظة يحفظ كل شيء سمعه من مرة واحدة ونظم الشعر من غير قراءة شيء في علم العروض أول ما رأيته في سنة 1189 في أيام زيارة سيدي أحمد البدوي فحضر إلي وسلم علي وآنسني بحسن ألفاظه وجذبني بسحر ألحاظه ولما بلغ زوجه والده بزوجتين في سنة واحدة ولم يزل يجتهد ويشتغل حتى مهر وأنجب ودرس لجماعة من الطلبة وحضر الى مصر مع والده مرارًا وتردد علينا واجتمع بنا كثيرًا في مواسم الموالد المعتادة الى أن اخترمته في شبابه المنية وحالت بينه وبين الأمنية وذلك في سنة ثلاث ومائتين وخلف ولدًا صغيرًا استأنس به جده المترجم وصبر على ومات الرجل المعظم والملاذ المفخم الأمير حسين بن السيد محمد الشهيد بدرب الشمس القادري وأبوه محمد أفندي كاتب صغير بوجاق التفكجيان وهو ابن حسين أفندي باش اختيار تفكجيان تابع المرحوم حسن جوربجي تابع المرحوم رضوان بك الكبير الشهير صاحب العمارة ولما مات والد المترجم اجتمع الاختيارية وقلدوا ابنه المذكور منصب والده في بايه وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة وألف ونوه بشأنه وفتح بي أبيه وعد في الأعيان واشتهر ذكره وكان نجيبًا نبيهًا ولم يزل حتى صار من أرباب الحل والعقد وأصحاب المشورة ولما استقل علي بك بإمارة مصر أخرجه هو وإخوته من مصر ونفاهم الى بلاد الحجاز فأقاموا بها سبع سنوات الى أن استقل محمد بك الإمارة فأحضرهم وأكرمهم ورد إليهم بلادهم فاستمروا بمصر لا كالحالة الأولى مع الوجاهة والحرمة الوافرة وكان إنسانًا حسنًا فطنًا طعرف مواقع الكلام ويكره الظلم وهو الى الخير أقرب واقتنى كتبًا كثيرة نفيسة في الفنون وخصوصًا في الطب والعلوم الغريبة ويسمح بإعارتها لمن يكون أهلًا لها ولما حضرته الوفاة أوصى أن لا يخرجوا جنازته على الصورة المعتادة بمصر بل يحضرها مائة شخص من القادرية يمشون أمامه في المشهد وهم يقرأون الصمدية سر الأغير وأوصى لهم بقدر معلوم من الدراهم فكان كذلك‏.‏

ومات الأمير محمد آغا بن محمد كتخدا أباظة وقد تقدم أنه كان تولى الحسبة في أيام حسن باشا وسار فيها سيرًا بشهامة وأخاف السوقة وعاقبهم وزجرهم واتفق أنه وزن جانبًا من اللحم وجده مع من اشتراه ناقصًا وأخبره عن جزاره فذهب إليه وكملها بقطعة من جسد الجزار ثم انفصل عن ذلك وعمل كتخدا عند رضوان بك الى أن مات رضوان بك ولم يزل معدودًا في عداد الأمراء الأكابر الى أن توفي في هذه السنة‏.‏

ومات العمدة الصالح الورع الصوفي الضرير الشيخ محمد السقاط الخلوتي المغربي الأصل خليفة شيخنا الشيخ محمود الكردي حضر الى مصر وجاور بالأزهر وحضر على الأشياخ في فقه مذهبه وفي المعقول وأخذ الطريق على شيخنا الشيخ محمود المذكور ولقنه الأسماء على طريق الخلوتية والأوراد والأذكار وانسلخ من زي المغاربة وألبسه الشيخ التاج وسلك سلوكًا تامًا ولازم الشيخ ملازمة كلية بحيث أنه لا يفارق منزله في غالب أوقاته ولاحت عليه الأنوار وتحلى بحلل الأبرار وأذن له الشيخ بالتلقين والتسليك ولما انتقل الى رحمة الله تعالى صار هو خليفته بالإجماع من غير نزاع وجلس في بيته وانقطع للعبادة واجتمع عليه الجماعة في ورد العصر والعشاء ولقن الذكر للمريدين وسلك الطريق للطالبين وانجذبت القلوب إليه واشتهر ذكره وأقبلت عليه الناس ولم يزل على حسن حاله حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل‏.‏

ومات الذمي المعلم ابراهيم الجوهري رئيس الكتبة الأقباط بمصر وأدرك في هذه الدولة بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة مع طول المدة بمصر ما لم يسبق لمثله من أبناء جنسه فيما نعلم وأول ظهوره من أيام المعلم رزق كاتب علي بك الكبير ولما مات علي بك والمعلم رزق ظهر أمر المترجم ونما ذكره في أيام محمد بك فلما انقضت أيام محمد بك وترأس ابراهيم بك قلده جميع الأمور فكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات حتى دفاتر الروزنامة والميري وجميع الإيراد والمنصرف وجميع الكتبة والصيارف من تحت يده وإشارته وكان من دهاقين العالم ودهاتهم لا يعزب عن ذهنه شيء من دقائق الأمور ويداري كل إنسان بما يليق به من المداراة ويحابي ويهادي ويواسي ويفعل ما يوجب انجذاب القلوب والمحبة ويهادي ويبعث الهدايا العظيمة والشموع الى بيوت الأمراء وعند دخول رمضان يرسل الى غالب أرباب المظاهر ومن دونهم الشموع والهدايا والأرز والسكر والكساوي وعمرت في أيامه الكنائس وديور النصارى وأوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان ورتب لها المرتبات العظيمة والأرزاق الدارة والغلال وحزن ابراهيم بك لموته وخرج في ذلك اليوم الى قصر العيني حتى شاهد جنازته وهم ذاهبون به الى المقبرة وتأسف على فقده تأسفًا زائد وكان ذلك في شهر القعدة من السنة‏.‏

لم يقع بها شيء من الحوادث التي يعتني بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم‏.‏

وفيها في غرة شهر الحجة عزل صالح باشا ونزل الى قصر العيني ليسافر فأقام هناك أيامًا وسافر الى الاسكندرية‏.‏

ومات بها الإمام العلامة المفيد الفهامة عمدة المحققين والمدققين الصالح الورع المهذب الشيخ عبد الرحمن النحراوي الأجهوري الشهير بمقرى الشيخ عطية خدم العلم وحضر فضلاء الوقت ودرس وتمهر في المعقول والمنقول ولازم الشيخ عطية الأجهوري ملازمة كلية وأعاد الدروس بين يديه واشتهر بالمقرئ وبالأجهوري لشدة نسبته الى الشيخ المذكور ودرس بالجامع الأزهر وأفاد الطلبة وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ الحفني ولقنه الأذكار وألبسه الخرقة والتاج وأجازه بالتلقين والتسليك وكان يجيد حفظ القرآن بالقراءات ويلازم المبيت في ضريح الإمام الشافعي في كل ليلة سبت يقرأ مع الحفظة بطول الليل وكان إنسانًا متواضعًا لا يرى لنفسه مقامًا يحمل طبق الخبز على رأسه ويذهب به الى الفران ويعود به الى عياله فإن اتفق أن أحدًا رآه ممن يعرفه حمله عنه وإلا ذهب به ووقف بين يدي الفران حتى يأتيه الدور ويخبز له وكان كريم النفس جدًا يجود وما لديه قليل ولم يزل مقبلًا على شأنه وطريقته حتى نزلت به الباردة وبطل شقه واستمر على ذلك نحو السنة وتوفي الى رحمة الله تعالى غفر الله له‏.‏

ومات العمدة العلامة والرحلة الفهامة الفقيه الفاضل ومن ليس له في الفضل مناضل الشيخ حسن بن سالم الهواري المالكي أحد طلبة شيخنا الصعيدي لازمه في دروسه العامة وحصل بجده ما به ناموس جاهه أقامه وبعد وفاة شيخه ولي مشيخة رواق الصعايدة وساس فيهم أحسن سياسة بشهامة زائدة مع ملازمته للدروس وتكلمه في طائفته مع الرئيس والمرؤوس وكان فيه صلابة زائدة وقوة جنان وشدة تجارى واشترى خرابة بسوق القشاشين بالقرب من الأزهر وعمرها دارًا لسكنه وتعدى حدوده وحاف على أماكن جيرانه وهدم مكتب المدرسة السنانية وكان مكتبًا عظيمًا ذا واجهتين وعامودين وأربع بوائك وزاوية جداره من الحجر النحيت عجيبة الصنعة في البروز والإتقان فهدمه وأدخله في بنائه من غير تحاش أو خشية لوم مخلوق أو خوف خالق وأوقف أعوانه من الصعايدة المنتسبين للمجاورة وطلب العلم يسخرون من يمر بهم من حمير الترابين وجمال الأعيان المارين عليهم فيستعملونها في نقل تراب الشيخ لأجل التبرك إما قهرًا أو محاباة ويأخذ من مياسير الناس والسوقة دراهم على سبيل القرض الذي لا يرد وكذلك المؤن حتى تممها على هذه الصورة وسكن فيها وأحدق به الجلاوزة من الطلبة يغدون ويروحون في الخصومات والدعاوى ويأخذون الجعالات والرشوات من المحق والمبطل ومن خالف عليهم ضربوه وأهانوه ولو عظيمًا من غير مبالاة ولا حياء ومن اشتد عليهم اجتمعوا عليه من كل فج حتى بوابين الوكائل وسكان الطباق وباعة النشوق وينسب الكل الى الأزهر ومن عذلهم أو لامهم كفروه ونسبوه الى الظلم والتعدي والاستهزاء بأهل العلم والشريعة وزاد الحال وصار كل من رؤساء الجماعة شيخًا على انفراده يجلس في ناحية ببعض الحوانيت يقضي ويأمر وينهي وفحش الأمر الى أن نادى عليهم حاكم الشرطة فانكفوا ومرض شيخهم بالتشيخ شهورًا وتوفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الإمام الفقيه العلامة والفاضل الفهامة عثمان بن محمد الحنفي المصري الشهير بالشامي ولد بمصر وتفقه على علماء مذهبه كالسيد محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ حسن المقدسي والشيخ الوالد وأتقن الآلات ودرس الفقه في عدة مواضع وبالأزهر وانتفع به الناس وقرأ كتاب الملتقى بجامع قوصون وكان له حافظة جيدة واستحضار في الفروع ولا يمسك بيده كراسًا عند القراءة ويلقي التقرير عن ظهر قلب مع حسن السبك وألف متنًا مفيدًا في المذهب ثم حج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقطن بالمدينة وطلب عياله في ثاني عام وباع ما يتعلق به وتجرد على المجاورة ولازم قراءة الحديث والفقه بدار الهجرة وأحبه أهل المدينة وتزوج وولد له أولاد ثم تزوج بأخرى ولم يزل على ذلك حتى توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة‏.‏

ومات العمدة الفاضل المفوه النبيه المناضل الحافظ المجود الأديب الماهر صاحب الشيخ شمس الدين بن عبد الله بن فتح الفرغلي المحمدي الشافعي البربائي نسبة الى سبرباي قرية بالغربية قرب طندتا وبها ولد ونسبه يرجع الى القطب سيدي الفرغلي المحمدي من ولد سيدنا محمد بن الحنفية صاحب أبي تيج من قرى الصعيد تفقه على علماء عصره وأنجب في المعارف والفهوم وعانى الفنون فأدرك من كل فن الحظ الأوفر ومال الى فن الميقات والتقاويم فنال من ذلك ما يرومه وألف في ذلك وصنف زيجًا مختصرًا دل على سعة باعه ورسوخه في الفن ومعرفة القواعد والأصول ودقائق الحساب ونهج مسك الأدب والتاريخ والشعر ففاق فيه الأقران ومدح الأعيان وصاحبناه وساجلناه كثيرًا عندما كان يأتينا مصر وبطندتا في الموالد المعتادة فكان طودًا راسخًا وبحرًا زاخرًا مع دماثة الأخلاق وطيب الأعراق ولين العريكة وحسن العشرة ولطف الشمائل والطباع وكان يلي نيابة القضاء ببلده وبالجملة فكان عديم النظير في أقرانه لم أر من يدانيه في أوصافه الجميلة وله مصنفات كثيرة منها الضوابط الجليلة في الأسانيد العلية ألفه سنة 1177 وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلامة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط وسليقته في الشعر عذبة رائقة كلامه بديع مقبول في سائر أنواعه من المدح والرثاء والتشبيب والغزل والحماسة والجد والهزل وله ديوان جمع فيه أمداحه صلى الله عليه وسلم وسماه عقود الفرائد توفي في شهر ربيع الأول من السنة ببلده ودفن هناك رحمه الله تعالى‏.‏

سنة إحدى عشرة واثنتي عشرة ومائتين وألف لم يقع فيهما من الحوادث التي تتشوف لها النفوس أو تشتاق إليها الخواطر فتقيد في بطون الطروس سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل وموجبات ترادف البلاء المتراسل ووقوع الإنذارات الفلكية والآيات المخوفة السماوية وكلها أسباب عادية وعلامات من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات فبالنظر في ملكوت السموات والأرض يستدلون وبالنجم هم يهتدون فمن أعظم ذلك حصول الخسوف الكلي في منتصف شهر الحجة ختان سنة اثنتي عشرة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر وحضر طائفة الفرنسيس إثر ذلك في أوائل السنة التالية كما سيأتي خبر ذلك مفصلًا إن شاء الله تعالى‏.‏

من مات في هذين العامين ممن له ذكر وشهرة مات العمدة العلامة والفقيه الفهامة الشيخ علي بن محمد الأشبولي الشافعي كان والده أحد العدول بالمحكمة الكبرى وكان ذا ثروة وشهرة ولما كبر ولده المترجم حفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم وحضر الدروس وتفقه على أشياخ الوقت ولازم الشيخ عيسى البراوي وتمهر في المعقول وأنجب وتصدر ودرس وانتظم في سلك الفضلاء والنبلاء وصار له ذكر وشهرة ووجاهة ومات والده فأحرز طريفه وتالده وكان لأبيه دار بحارة كتامة المعروفة بالعينية بقرب الأزهر وأخرى عظيمة بقناطر السباع على الخليج وأخرى بشاطئ النيل بالجيزة فكان ينتقل في تلك الدور ويتزوج حسان النساء مع ملازمته للإقراء والإفادة وحدثته نفسه بمشيخة الأزهر وكان بيده عدة وظائف وتداريس مثل جامع الآثار والنظامية ولم يباشرها إلا نادرًا ويقبض معلومها المرتب لها ولم يزل حتى تعلل وتوفي سنة 111‏.‏

ومات الأديب الماهر الصالح الجليس الأنيس السيد ابراهيم بن قاسم ابن محمد بن محمد بن علي الحسني الرويدي المكتب المكنى بأبي الفتح ولد بمصر كما أخبر عن نفسه سنة 1127 وحفظ القرآن وجوده على الشيخ الحجازي غنام وجود الخط على الشيخ أحمد بن اسمعيل الأفقم على الطريقة المحمدية فمهر فيه وأجازه فكتب بخطه الحسن الفائق كثيرًا من المصاحف والأحزاب والدلائل والأدعية والقطع وأشير إليه بالرياسة في الفن وكان إنسانًا حسنًا متمشدقًا يحفظ كثيرًا من نوادر الأشعار وغرائب الحكايات وعجائب المناسبات وروايتها على أحسن أسلوب وأبلغ مطلوب وسمعت كثيرًا من إنشاده لم يعلق بذهني منها شيء وقد تفرد بمحاسن لم يشاركه فيها أهل عصره منها صحة الوضع وتكمله على أصوله بغاية التحرير توفي سنة إحدى عشرة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات النبيه الأريب والفاضل النجيب الناظم الناثر المفوه اسمعيل أفندي بن خليل بن علي بن محمد بن عبد الله الشهير بالظهوري المصري الحنفي المكتب كان إنسانًا حسنًا قانعًا بحاله يتكسب بالكتابة وحسن الخط وقد كان جوده وأتقنه على أحمد أفندي الشكري وكتب بخطه الحسن كثيرًا من الكتب والسبع المنجيات ودلائل الخيرات والمصاحف وكان له حاصل يبيع به من القهوة بوكالة البقل بقرب خان الخليلي وله معرفة جيدة بعلم الموسيقى والألحان وضرب العود وينظم الشعر وله مدائح وقصائد وموشحات توفي رحمه الله تعالى سنة 1211 ومات الأجل الأمثل والوجيه الأوحد المبجل حسين أفندي قلفة الشرقية والده الأمير عبد الله من مماليك داود صاحب عيار وتربى المترجم عند محمد أفندي البرقوقي وزوجه ابنته‏.‏

وعانى قلم الكتابة واصطلاح كتابة الروزنامة ومهر في ذلك فلما توفي محمد أفندي كتابة الروزنامة قلده قلفة الشرقية ولم تطل مدى محمد أفندي ومات بعد شهرين فاستولى المترجم على تعلقاته وراج أمره واشترى بيتًا جهة الشيخ الظلام وانتقل إليه وسكن به وساس أموره واشتهر ذكره وانتظم في عداد الأعيان واقتنى السراري والجواري والمماليك والعبيد وكان إنسانًا لا بأس به جميل الأخلاق حسن العشرة مع الرفاق مهذب الطباع لين العريكة واقفًا على حدود الشريعة لا يتداخل فيما لا يعنيه مليح الصورة والسيرة توفي رحمه الله أيضًا سنة 1211‏.‏

ومات العمدة العلامة النبيه الفهامة بضعة السلالة الهاشمية وطراز العصابة المطلبية الفصيح المفوه السيد حسين بن عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن أحمد بن أحمد بن حمادة المنزلاوي الشافعي خطيب جامع المشهد الحسيني وأم أبيه السيد عبد الرحمن فاطمة بنت السيد محمد العمري ومنها أتاه الشرف حضر على الشيخ الملوي والحفني والجوهري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والشيخ البسيوني والشيخ خليل المغربي وأخذ أيضًا عن سيدي محمد الجوهري الصغير والشيخ عبد الله إمام مسجد الشعراني والشيخ سعودي الساكن بسوق الخشب وتضلع بالعلوم والمعارف وصار له ملكة وحافظة ولسانة واقتدار تام واستحضار غريب وينظم الشعر الجيد والنثر البليغ وأنشأ الخطب البديعة وغالب خطبه التي كان يخطب بها بالمشهد الحسيني من إنشائه على طريقة لم يسبق إليها وانضوى الى الشيخ أبي الأنوار السادات وشملته أنواره ومكارمه ويصلي به في بعض الأحيان ويخطب بزاويتهم أيام المواسم ويأتي فيهما بمدائح السادات وما تقتضيه المناسبات توفي في منتصف شهر شعبان من السنة غفر الله لنا وله‏.‏

وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون‏.‏

في يوم الأحد العاشر من شهر محرم الحرام من هذه السنة وردت مكاتبات على يد السعاة من ثغر الاسكندرية ومضمونها أن في يوم الخميس ثامنه حضر الى الثغر عشرة مراكب من مراكب الانكليز ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر وبعد قليل حضر خمسة عشر مركبًا أيضًا فانتظر أهل الثغر ما يريدون وإذا بقارب صغير واصل من عندهم وفيه عشرة أنفار فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلد والرئيس إذ ذاك فيها والمشار إليه بالإبرام والنقض السيد محمد كريم الآتي ذكره فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم فأخبروا أنهم انكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن فقالت رسل الانكليز‏:‏ نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه فلم يجيبوهم لذلك وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل فاذهبوا عنا فعندها عادت رسل الانكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الاسكندرية وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ثم إن أهل الثغر أرسلوا الى كاشف البحيرة ليجمع العربان ويأتي معهم للمحافظة بالثغر فلما قرئت هذه المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والأراجيف‏.‏

ثم ورد في ثالث يوم بعد ورود المكاتيب الأول مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة فاطمأن الناس وسكن القيل والقال وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتمادًا على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم‏.‏

فلما كان يوم الأربعاء العشرون من الشهر المذكور وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بأن في يوم الاثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيس كثيرة فأرسوا في البحر وأرسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض أهل البلد فلما نزلوا إليهم عوقوهم عندهم فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب الى جهة العجمي وطلعوا الى البر ومعهم آلات الحرب والعساكر فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد فعندها خرج أهل الثغر وما انضم إليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا أمكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم وانهزم الكاشف ومن معه من العربان ورجع أهل الثغر الى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الإفرنج البلد وانبث فيها الكثير من ذلك العدد كل ذلك وأهل البلد لهم بالرمي يدافعون وعن أنفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون فلما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال وليس ثم عندهم للقتال استعداد لخلو الأبراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبته طلب أهل الثغر الأمان فأمنوهم ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم أنزلوهم ونادى الفرنسيس بالأمان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فألزمهم بجمع السلاح وإحضاره إليه وأن يضعوا الجوكار في صدورهم فوق ملبوسهم والجوكار ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك مستديرة في قدر الريال سوداء وحمراء وبيضاء توضع بعضها فوق بعض بحيث تكون كل دائرة أقل من التي تحتها حتى تظهر الألوان الثلاثة كالدوائر المحيط بعضها ببعض ولما وردت هذه الأخبر مصر حصل للناس انزعاج وعول أكثرهم علي الفرار والهجاج وأما ما كان من حال الأمراء بمصر فإن ابراهيم بك ركب الى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لأنه كان مقيمًا بها واجتمع باقي الأمراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مكاتبة بخبر هذا الحادث الى اسلامبول وأن مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم وانفض المجلس على ذلك وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله على طريق البرلياتية بالترياق من العراق وأخذوا في الاستعداد للثغر وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه الى الجسر الأسود فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقه وعلي باشا الطرابلسي وناصف باشا فإنهم كانوا من أخصائيه ومقيمين معه بالجيزة وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والبارود وسار من البر مع العساكر الخيالة وأما الرجال وهم الألداشات القلينجية والأروام والمغاربة فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور ولما ارتحل من الجسر الأسود أرسل الى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة طولها مائة ذراع وثلاثون ذراعًا لتنصب على البغاز عند برج مغيزل من البر الى البر لتمنع مراكب الفرنسيس من العبور لبحر النيل وذلك بإشارة علي باشا وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع ظنًا منهم أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر وأنهم يعبرون في المراكب ويقاتلونهم وهم في المراكب وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم النجدة وكان الأمر بخلاف ذلك فإن الفرنسيس عندما ملكوا الاسكندرية ساروا في طريق البر الغربي من غير ممانع وفي أثناء خروج مراد بك والحركة بدت الوحشة في الأسواق وكثر الهرج بين الناس والأرجاف وانقطعت الطرق وأخذت الحرامية في كل ليلة تطرق أطراف البلد وانقطع مشي الناس من المرور في الطرق والأسواق من المغرب فنادى الآغا الوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلًا وتعليق القناديل على البيوت والدكاكين وذلك لأمرين‏:‏ الأول ذهاب الوحشة من القلوب وحصول الاستئناس والثاني الخوف من الدخيل في البلد‏.‏

وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا الى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا الى فوة ونواحيها والبعض طلب الأمان وأقام ببلده وهم العقلاء وقد كانت الفرنسيس حين دخولهم بالاسكندرية كتبوا مرسومًا وطبعوه وأرسلوا منه نسخًا الى البلاد التي يقدمون عليها تطمينًا لهم ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صحبتهم وحضر منهم جملة الى بولاق وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو بيومين ومعهم منه عدة نسخ ومنهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطة ويعرفون باللغات‏.‏

وصورة ذلك المكتوب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية يظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي فحضر الآن ساعة عقوبتهم وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأزابكة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دوتهم يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعيد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا أيضًا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره فما أطاعوا أصلًا إلا لطمع أنفسهم طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم طوبى أيضًا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقًا الى الخلاص ولا يبقى منهم أثر‏.‏

المادة الأولى - جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم المادة الثانية - كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار‏.‏

المادة الثالثة - كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضًا تنصب صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه‏.‏

المادة الرابعة - المشايخ في كل بلد يختمون حالًا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها‏.‏

المادة الخامسة - الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئنًا وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عالي أدام الله إجلال السلطان العثماني أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية‏.‏

تحريرًا بمعسكر اسكندرية في 13 شهر سيدور سنة 1213 من إقامة الجمهور الفرنساوي يعني في آخر شهر محرم سنة هجرية اه - بحروفه‏.‏

وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا الى نواحي فوة ثم الى الرحمانية‏.‏