واجتمعوا بالديوان ومعهم ما لخصوه واستأصلوه في الجملة فأما أمر المحاكم والقضايا فالأولى إبقاؤها على ترتيبها ونظامها وعرفوهم عن كيفية ذلك ومثل ذلك ما عليه أمر محاكم البلاد فاستحسنوا ذلك إلا أنهم قالوا يحتاج الى ضبط المحاصيل وتقريرها على أمر لا يتعداه القضاة ولا نوابهم فقرروا ذلك وهو أنه كان عشرة آلاف فما دونها يكون على كل ألف ثلاثون نصفًا وإذا كان المبلغ مائة يكون على الألف خمسة عشر فإن زاد على ذلك فعشرة واتفقوا على تقرير القضاة ونوابهم على ذلك وأما حجج العقارات فإنه أمر شاق طويل الذيل فالمناسب فيه والأولى أن يجعلوا عليها دراهم من بادئ الرأي ليسهل تحصيلها ويحسن عليها السكوت ويكون المحصول أعلى وأدنى وأوسط وبينوا القدر المناسب بتفصيل الأماكن وكتبوه وأبقوه حتى يرى الآخرون رأيهم فيه وانفض الديوان وفي ذلك اليوم نودي في الأسواق بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يومًا وقيدوا على مشايخ الأخطاط والحارات والقلقات بالفحص والتفتيش فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك فتصعد المرأة الى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون وكتبوا بذلك أوراقًا لصقوهم بحيطان الأسواق على عادتهم في ذلك.
وفيه حضر الى البيت البكري جم غفير من أولاد الكتاتيب والفقهاء والعميان والمؤذنين وأرباب الوظائف والمستحقين من الزمني والمرضى بالمرستان المنصوري وأوقاف عبد الرحمن كتخدا وشكوا من قطع رواتبهم وخبزهم لأن الأوقاف تعطل إيرادها واستولى على نظارتها النصارى القبط والشوام جعلوا ذلك مغنمًا لهم فواعدهم على حضورهم الديوان وينهوا شكواهم ويتشفع لهم فذهبوا راجعين.
وفيه قدمت مراكب من جهة الصعيد وفيها عدة من العسكر مجروحين.
وفيه وضعوا على التلال المحيطة بمصر بيارق بيضًا فأكثر الناس من اللغط ولم يعلموا سبب وفي يوم الأحد اجتمعوا في الديوان وأخذوا فيما هم فيه فذكروا أمر المواريث فقال ملطي مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث فأخبروه بفروض المواريث الشرعية فقال ومن أين لكم ذلك فقالوا من القرآن وتلوا عليهم بعض آيات المواريث فقال الإفرنج نحن عندنا لا نورث الولد ونورث البنت ونفعل كذا وكذا بحسب تحسين عقولهم لأن الولد أقدر على التكسب من البنت فقال ميخائيل كحيل الشامي وهو من أهل الديوان أيضًا نحن والقبط يقسم لنا مواريثنا المسلمون ثم التمسوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها فسايروهم ووعدوهم بذلك - وانفضوا وفي ذلك اليوم عزلوا محمد آغا المسلماني آغات مستحفظان وجعلوه كتخدا أمير الحاج واستقروا بمصطفى آغا تابع عبد الرحمن آغا مستحفظان سابقًا عوضًا عنه ونودي بذلك.
وفي يوم الاثنين عملوا لهم ديوانًا وكتبوا لهم كيفية قسمة المواريث وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك فاستحسنوا ذلك.
وفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى عملوا الديوان وأحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأقل ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخمسة والرواج والاتساع وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق وأرسلوا منها نسخًا للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون بصياح في الكلام نصر الله دين الإسلام فذهبوا الى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه وأوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر وفي ذلك الوقت حضر دبوي بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية وعطف على خط الصنادقية وذهب الى بيت القاضي فوجد ذلك الزحام فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة وتلك الأخطاط بالخلائق مزحومة فبادروا إليه وضربوه وأثخنوا جراحاته وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون ومسكوا أطراف الدائرة بمعظم أخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية الى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما حاذاها ولم يتعدوا جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت وجعلوا أحجارها متاريس للكرنكة لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع ولم يتحرك منهم أحد ولم يسارع وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر ولم تزل طائفة المحاربين في الأزقة متترسين فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية وبندقوا على متراس الشوائين وبه جماعة من مغاربة الفحامين فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية أزالوهم ذلك ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال وخرجت العامة عن الحد وبالغوا في القضية بالعكس والطرد وامتدت أيديهم الى النهب والخطف والسلب فهجموا على حارة الجوانية ونهبوا دور النصارى الشوام والأروام وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام وأخذوا الودائع والأمانات وسبوا النساء والبنات وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات وأكثروا من المعايب ولم يفكروا في العواقب وباتوا تلك الليلة سهرانين وعلى هذا الحال مستمرين وأما الإفرنج فإنهم أصبحوا مستعدين على تلال البرقية والقلعة واقفين وأحضروا جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبات ووقفوا مستحضرين ولأمر كبيرهم منتظرين وكان كبير الفرنسيس أرسل الى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة هذا والرمي متتابع من الجهتين وتضاعف الحال ضعفين حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر وجرروا عليه المدافع والقنبر وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا يا سلام من هذه الآلام يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال والكرب ركب المشايخ الى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ويكفهم كما تكف المسلمون عن القتال والحرب خدعة وسجال فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير واتهمهم في التقصير فاعتذروا إليه فقبل عذرهم وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك وتسامع الناس بذلك فردت فيهم الحرارة وتسابقوا لبعضهم بالبشارة واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب وانقضى النهار وأقبل الليل وغلب على الظن أن القضية لهاذل وأما الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين وعلى الرمي والقتال ملازمين ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والإفرنج أثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع الى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند إبليس وهدموا ما وجدوه من المتاريس ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا الى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا ارسالًا ركبانًا ورجالًا ثم دخلوا الى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول.
وتفرقوا بصحته ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه وأصبح يوم الثلاثاء فاصطف منهم خرب بباب الجامع فكل من حضر للصلاةيراهم فيكر راجعًا ويسارع وتفرقت طوائفهم بتلك النواحي أفواجًا واتخذوا السعي والطواف بها منهاجًا وأحاطوا بها إحاطة السوار ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش على النهب وآلة السلاح والضرب وخرجت سكان تلك الجهة يهرعوا وللنجاة بأنفسهم طالبون وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ويرغب الناس في سكناها ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع والفرنساوية لا يمرون بها إلا نادرًا ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع وانخفض على غير القياس المرفوع ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفًا مئينًا وألوفًا فإن مر بهم أحد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه.
ورفعوا القتلى والمطروحين من الإفرنج والمسلمين ووقف جماعة من الفرنسيس ونظفوا مراكز المتاريس وأزالوا ما بها من الأتربة والأحجار المتراكمة ووضعوها في ناحية لتصير طريق المرور خالية وتحزبت نصارى الشوام وجماعة أيضًا من الأروام الذين انتهبت دورهم بالحارة الجوانية ليشكوا لكبير الفرنسيس ما لحقهم من الزرية واغتنموا الفرصة في المسلمين وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين وضربوا فيهم المضارب وكأنهم شاركوا الإفرنج في النوائب وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لديهم إلا لكونهم منسوبين إليهم مع أن المسلمين الذين جاوروهم نهبهم الذعر أيضًا وسلبوهم وكذلك خان الملايات المعلوم الذي عند باب حارة الروم فيه بضائع المسلمين وودائع الغائبين فسكت المصاب على غصته واستعوض الله في قضيته لأنه إن تكلم لا تسمع دعواه ولا يلتفت الى شكواه وانتدب برطلمين للعسس على من حمل السلاح أو اختلس وبث أعوانه في الجهات يتجسسون في الطرقات فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم وما ينهيه النصارى من أبغاضهم فيحكم فيهم بمراده ويعمل برأيه واجتهاده.
ويأخذ منهم الكثير ويركب في موكبه ويسير وهم موثوقون بين يديه بالحبال ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال فيودعونهم السجونات ويطالبونهم بالمنهوبات ويقررونهم بالعقاب والضرب ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب ويدل بعضهم على بعض فيضعون على المدلول عليهم أيضًا القبض وكذلك فعل مثل ما فعله اللعين الآغا وتجبر في أفعاله وطغى.
وكثير من الناس ذبحوهم وفي بحر النيل قذفوهم ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله وطال بالكفرة بغيهم وعناديهم ونالوا من المسلمين قصدهم ومرادهم وأصبح يوم الأربع فركب فيه المشايخ أجمع وذهبوا لبيت صاري عسكر وقابلوه وخاطبوه في العفو ولاطفوه والتمسوا منه أمانًا كافيًا وعفوًا ينادون به باللغتين شافيًا لتطمئن بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية فوعدهم وعدًا مشوبًا بالتسويف وطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام وحرضهم على الخلاف والقيام فغالطوه عن تلك المقاصد فقال على لسان الترجمان نحن نعرفهم بالواحد فترجوا عنده في إخراج العسكر من الجامع الأزهر فأجابهم لذلك السؤال وأمر بإخراجهم في الحال وأبقوا منهم السبعين أسكنوهم في الخطة كالضابطين ليكونوا للأمور كالراصدين وبالأحكام متقيدين.
ثم أنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ اسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر الى جهة الشام وفحصوا عليهم فلم يجدوه وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا واتهم أيضًا ابراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعًا من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخيفين والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الآغا.
وفي يوم الأحد ثامن عشره توجه شيخ السادات وباقي المشايخ الى بيت صاري عسكر الفرنسيين وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الآغا وقائمقام والقلعة فقيل لهم وسعوا بالكم ولا تستعجلوا فقاموا وانصرفوا.
وفيه نادوا في الأسواق ولا أحد يشوش على أحد مع استمرار القبض على الناس وكبس البيوت بأدنى شبهة ورد بعضهم الأمتعة التي نهبت للنصارى.
وفيه توسط القلقجي لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على صاري عسكر فاختار منهم الشباب وأولي القوة وأعطاهم سلاحًا وآلات حرب ورتبهم عسكرًا ورئيسهم عمر المذكور وخرجوا وأمامهم البطل الشامي على عادة عسكر المغاربة وسافروا جهة بحري بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا أيضًا مركبين بها عدة من عساكرهم فحاربواهم وقاتلوهم فلما ذهب أولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشمًا وقتلوا كبيرها المسمى بابن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه وكان شيئًا كثيرًا جدًا وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخًا عوضًا عن أبيهم وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى إشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفًا وبأيديهم بناقدهم فيشير إليهم بألفاظ لغتهم كأن يقول مردبوش فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها ثم يقول مرش فيمشون صفوفًا الى غير ذلك.
وفيه سافر برطلمين الى ناحية سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين الى جهة الشرق فلم يدركهم وأخذ من في البلاد وعسف في تحصيلها ورجع بعد أيام.
وفي يوم الأربعاء خاطب الشيخ محمد المهدي صاري عسكر في أمر ابراهيم أفندي كاتب البهار وتلطف به بمعونة بوسليك المعروف بمدير الحدود وهو عبارة عن الروزنامجي ونقله من بيت الآغا الى داره وطلبوا منه قائمة كشف عما يتعلق بالمماليك بدفتر البهار.
وفي يوم الخميس سافر عدة من المراكب نحو الأربعين بها عسكر الفرنسيس الى جهة بحري.
وفي ليلة السبت رابع عشرينه حضر هجان من ناحية الشام وعلى يده مكاتبات وهي صورة فرمان وعليه طرة ومكتوب من أحمد باشا الجزار وآخر من بكر باشا الى كتخدائه مصطفى بك ومكتوب من ابراهيم بك خطابًا للمشايخ وذلك كله بالعربي ومضمون ذلك بعد براعة الاستهلال والآيات القرآنية والأحاديث والآثار المتعلقة بالجهاد ولعن طائفة الإفرنج والحط عليهم وذكر عقيدتهم الفاسدة وكذبهم ونحيلهم وكذلك بقية المكاتبات بمعنى ذلك فأخذها مصطفى بك كتخدا وذهب بها الى صاري عسكر فلما اطلع عليها قال هذا تزوير من ابراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة وأما أحمد باشا فهو رجل فضولي لم يكن واليًا بالشام ولا مصر لأن والي الشام ابراهيم باشا وأما والي مصر فهو عبد الله باشا بن العظم الذي هو الآن والي الشام فأنا أعلم بذلك وسيأتي بعد أيام والي ويقيم معه كما كانت المماليك مع الولاة.
وورد خبر أيضًا بانفصال محمد عزت عن الصدارة وعزل كذلك أنفار من رجال الدولة وفي مدة هذه الأيام بطل الاجتماع بالديوان المعتاد وأخذوا في الاهتمام في تحصين النواحي والجهات وبنوا أبنية على التلول المحيطة بالبلد ووضعوا بها عدة مدافع وقنابر وهدموا أماكن بالجيزة وحصنوها تحصينًا زائدًا وكذلك مصر العتيقة ونواحي شبرا وهدموا عدة مساجد منها المساجد المجاورة لقنطرة انبابة الرمة ومسجد المقس المعروف الآن بأولاد عنان على الخليج الناصري بباب البحر وقطعوا نخيلًا كثيرة وأشجار الجيزة التي عند أبي هريرة قطعوها وحفروا هناك خنادق كثيرة وغير ذلك وقطعوا نخيل جهة الحلي وبولاق وخربوا دورًا كثيرة وكسروا شبابيكها وأبوابها وأخذوا أخشابها لاحتياج العمل والوقود وغير ذلك.
وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس الى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صاري عسكر ليتحدث معهم فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم الى بيت قائمقام بدرب الجماميز وهو الذي كان به دبوي قائمقام المقتول وسكنه بعده الذي تولى مكانه فلما وصلوا بهم هناك عروهم من ثيابهم وصعدوا بهم الى القلعة فسجنوهم الى الصباح فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة وتغيب حالهم عن أكثر الناس أيامًا وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ الى مصطفى بك كتخدا الباشا وكلموه في أن يذهب معهم الى صاري عسكر ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظنًا منهم أنهم في قيد الحياة فركب معهم إليه وكلموه في ذلك فقال لهم الترجمان اصبروا ما هذا وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا الى الهروب وذهبوا الى البيوت والمساجد واختفت آراؤهم ورأوا في ذلك أقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم فذهب بعض المشايخ الى صاري عسكر وأخبروه بذلك وتخوف الناس فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين ومر الآغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان وسكن الحال وقيل إن بعض كبرائهم حضر عند القلق الساكن بالمشهد وجلس عنده حصة هؤلاء كانوا أتباعه ووقفوا ينتظرونه ولعل ذلك قصدًا للتخويف والإرهاب خشية من قيام فتنة لما أشيع قتل المشايخ المذكورين وهو الأرجح.
وفيه كتبوا أوراقًا وألصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس.
وفيه شرعوا في إحصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه.
وفيه أيضًا قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة وهي التي كانت تركت وسومح أصحابها وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة وبرطلوا القلقات والوسايط على إبقائها وكذلك دروب الحسينية فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها الى ما جمعوه من البوابات بالأزبكية ثم كسروا جميعها وفصلوا أخشابها ورفعوا بعضها على العربات الى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطبًا للوقود وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون وكسروها وعبروا منها الى السوق فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار وقتلوا القلق الذي هناك وخرجوا بدون مدافع ولا منازع.
وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ الى صاري عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قتل أبوه وكان معوقًا ببيت البكري فشفعهم فيه وأطلقوه.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم السبت سنة 1213.
فيه كتبوا عدة أوراق على لسان المشايخ وأرسلوها الى البلاد وألصقوا منها نسخًا بالأسواق والشوارع.
وصورتها: نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونبرأ الى الله من الساعين في الأرض بالفساد نعرف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعدما كانوا أصحابًا وأحبابًا لسوية وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت ولكن حصلت ألطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته.
وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة الى الفقراء والمساكين ولولاه لكانت العسكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر فعليكم أن لا تحركوا الفتن ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم فإن الله سبحانه وتعالى يؤتي ملكه من يشاء ويحكم ما يريد وتخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا من آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم وادفعوا الخراج الذي عليكم الدين النصيحة والسلام.
وفيه أمروا بقية السكان على بركة الأزبكية وما حولها بالنقلة من البيوت ليسكنوا بها جماعتكم المتباعدين منهم ليكون الكل في حومة واحدة وذلك لما دخلهم من المسلمين حتى أن الشخص منهم صار لا يمشي بدون سلاح بعد أن كانوا من حين دخولهم البلد لا يمشون به أصلًا إلا لغرض والذي لم يكن معه سلاح يأخذ بيده عصا أو سوطًا أو نحو ذلك وتنافرت قلوبهم من المسلمين وتحذروا منهم وانكف المسلمون عن الخروج والمرور بالأسواق من الغروب الى طلوع النهار ومن جملة من انتقل من الدرب الأحمر الى الأزبكية كفرلي المسمى بأبي خشبة وهو يمشي بها بدون معين ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة وكان من جملة المشار إليهم فيهم والمدبر لأمور القلاع وصفوف الحروب ولهم به عناية عظيمة واهتمام زائد كان يسكن ببيت مصطفى كاشف طرا وفي وقت الحادثة هجمت على الدار العامة ونهبوها وقتلوا منها بعض الفرنساوية وفر الباقون.
فأخبروا من بالقلعة الكبيرة فنزل منهم عدة وافرة وقف بعضهم خارج الدار بعد أن طردوا المزدحمين ببابها وضربوهم بالبندق ودخل الباقون فقتلوا من وجدوه بها من المسلمين وكانوا جملة كثيرة وكان بتلك الدار شيء كثير من آلات الصنائع والنظارات الغريبة والآلات الفلكية والهندسية والعلوم الرياضية وغير ذلك مما هو معدوم النظير كل آلة لا قيمة لها عند من يعرف صنعتها ومنفعتها فبدد ذلك كله العامة وكسروه قطعًا وصعب ذلك على الفرنسيس جدًا وقاموا مدة طويلة يفحصون عن تلك الآلات ويجعلون لمن يأتيهم بها عظيم الجعالات.
وممن قتل في وقعة هذه الدار الشيخ محمد الزهار.
وفي خامسه أفرجوا عن ابراهيم أفندي كاتب البهار وتوجه الى بيته.
وفي ثامنه قتلوا أربعة أنفار من القبط منهم إثنان من النجارين قيل إنهم سكروا في الخمارة ومروا في سكرهم وفتحوا بعض الدكاكين وسرقوا منها أشياء وقد تكرر منهم ذلك عدة مرار فاغتاظ لذلك القبطة.
وفيه كتبوا عدة أوراق وأرسلوا منها نسخًا للبلاد وألصقوا منها بالأخطاط والأسواق ذلك على لسان المشايخ أيضًا ولكن تزيد صورتها عن الأولى.
وصورتها نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين ويا سكان الأرياف من العربان والفلاحين أن ابراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات الى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات وادعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه بالكذب والبهتان.
وبسبب ذلك حصل لهم شدة الغم والكرب الزائد واغتاظوا غيظًا شديدًا من علماء مصر ورعاياها حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم وتركوا عيالهم وأوطانهم فأرادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بأنها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهارًا مع أغوات معينين ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الإفرنجية دائمًا يحبون المسلمين وملتهم ويبغضون المشركين وطبيعتهم أحباب لمولانا السلطان قائمون بنصرته وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته يحبون من والاه ويبغضون من عاداه ولذلك بين الفرنساوية والموسكوف غاية العداوة الشديدة من أجل عداوة المسكوف القبيحة الرديئة.
والطائفة الفرنساوية يعادون حضرة السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله تعالى ولا يبقون منهم بقية فننصحكم أيها الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية فيحصل لكم الضرر والهلاك ولا تسمعوا كلام المفسدين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين لتكونوا بأوطانكم سالمين وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين لأن حضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا على أنه لا ينازع أحدًا في دين الإسلام ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام ويرفع عن الرعية سائر المظالم ويقتر على أخذ الخراج ويزيل ما أحدثه الظلمة من المغارم فلا تعلقوا آمالكم بابراهيم ومراد وراجعوا الى مولاكم مالك الملك وخالق العباد فقد قال نبيه ورسوله الأكرم الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفيه أخرجوا من بيت نسيب ابراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة.
وفي خامس عشره حضر جماعة من الفرنساوية بباب زويلة وفتحوا بعض دكاكين السكرية وأخذوا منها سكرًا وضاع على أصحابه.
وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار فطلبوه وأمروه بإحضارهما فأحضرهما بعد الإنكار والحجد عدة مرار فوجدوا ضمنهما أسلحة وجواهر وسبح لؤلؤ وخناجر مجوهرة وغير ذلك.
وفي عشرينه كتبوا عدة أوراق مطبوعة وألصقوها بالأسواق مضمونها أن في يوم الجمعة حادي عشرينه قصدنا أن نطير مركبًا ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة فرنساوية فكثر لغط الناس في هذا كعادتهم فلما كان ذلك اليوم قبل العصر تجمع الناس والكثير من الإفرنج ليروا تلك العجيبة وكنت بجملتهم فرأيت قماشًا على هيئة الأدية على عمود قاتم وهو ملون أحمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال وفي وسطه مسرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها الى الدائرة وهي مشدودة ببكر وأحبال وأطراف الأحبال بأيدي أناس قائمين بأسطحة البيوت القريبة منها فلما كان بعد العصر بنحو ساعة أوقدوا تلك الفتيلة فصعد دخانها الى ذلك القماش وملأه فانتفخ وصار مثل البكرة وطلب الدخان الصعود الى مركزه فلم يجد منفذًا فجذبها معه الى العلو فجذبوها بتلك الأحبال مساعدة لها حتى ارتفعت عن الأرض فقطعوا تلك الحبال فصعدت الى الجو مع الهواء ومشت هنيهة لطيفة ثم سقطت طارتها بالفتيلة وسقط أيضًا ذلك القماش وتناثر منها أوراق كثيرة من نسخ الأوراق المبصومة فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها ولم يتبين صحة ما قالوه من أنها على هيئة مركب تسير في الهواء بحكمة مصنوعة ويجلس فيها أنفار من الناس ويسافرون فيها الى البلاد البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات بل ظهر أنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والأفراح.
وفي تلك الليلة طاف منهم أنفار بالأسواق ومعهم مقاطف بها لحوم مسمومة فأطعموها للكلاب فمات منها جملة كثيرة فلما طلع النهار وجد الناس الكلاب مرمية وطرحى بالأسواق وهي موتى فاستأجروا لها من أخرجها الى الكيمان وسبب ذلك أنهم لما كانوا يمرون في الليل وهم سكوت كانت الكلاب تنبحهم وتعدو خلفهم ففعلوا بها ذلك وارتاحوا هم والناس منها.
وفي خامس عشرينه سافر عدة عساكر الى جهة مراد بك وكذلك الى جهة كرداسة بسبب العربان وكذلك الى السويس والصالحية وأخذوا جمال السقائين برواياها وحميرهم ولكن يعطونهم وفيه ظفروا بعدة ودائع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك وانقضى هذا الشهر وما حصل به من الحوادث الكلية والجزئية التي لا يمكن ضبطها لكثرتها.
منها أنهم أحدثوا بغيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية على هيئة مخصومة منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة وجعلوا على كل من يدخل إليه قدرًا مخصوصًا يدفعه أو يكون مأذونًا وبيده ورقة.
ومنها أنهم هدموا وبنوا بالمقياس والروضة وهدموا أماكن بالجيزة ومهدوا التل المجاور لنقطرة الليمون وجعلوا في أعلاه طاحونًا تدور في الهواء عجيبة وتطحن الأرادب من البر وهي بأربعة أحجار وطاحونًا أخرى بالروضة تجاه مساطب النشاب وهدموا الجامع المجاور لقنطرة الدكة وشرعوا في ردم جهات حوالي بركة الأزبكية وهدموا الأماكن المقابلة لبيت صاري عسكر حتى جعلوها رحبة متسعة وهدموا الأماكن المقابلة لها من الجهة الأخرى والجنائن التي خلف ذلك وقطعوا أشجارها وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدأ من حد بيت صاري عسكر الى قنطرة المغربي وجددوا القنطرة المذكورة وكانت آلت الى السقوط وفعلوا بعدها كذلك على الوضع والنسق بحيث صار جسرًا عظيمًا ممتدًا ممهدًا مستويًا على خط مستقيم من الأزبكية الى بولاق قسمين: قسم الى طريق أبي العلا وقسم يذهب الى جهة التبانة وساحل النيل وبطريقة الطريق المسلوكة الواصلة من طريق أبي العلا وجامع الخطيري الى ناحية المدابغ وحفروا في جانبي ذلك الجسر من مبدئه الى منتهاه خندقين وغرسوا بجانبه أشجارًا وسيسبانًا وأحدثوا طريقًا أخرى فيما بين باب الحديد وباب العدوى عند المكان المعروف بالشيخ شعيب حيث معمل الفواخير وردموا جسرًا ممتدًا ممهدًا مستطيلًا يبتدي من الحد المذكور وينتهي الى جهة المذبح خارج الحسينية وأزالوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والأشجار والتلول وقطعوا جانبًا كبيرًا من التل الكبير المجاور لنقطرة الحاجب وردموا في طريقهم قطعة من خليج بركة الرطلي وقطعوا أشجار بستان كاتب البهار المقابل لجسر بركة الرطلي وأشجار الجسر أيضًا والأبنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس وساروا على المنخفض بحيث صارت طريقًا ممتدة من الأزبكية الى جهة قبة النصر المعروفة بقبة العزب جهة العادلية على خط مستقيم من الجهتين.
وقيدوا بذلك أنفارًا منهم يتعاهدون تلك الطرق ويصلحون ما يخرج منها عن قالب الاعتدال بكثرة الدوس وحوافر الخيول والبغال والحمير وفعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن ولم يسخروا أحدًا في العمل بل كانوا يعطون الرجال زيادة عن أجرتهم المعتادة ويصرفونهم من بعد الظهيرة ويستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل وقلة الكلفة كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف يملؤها الفاعل ترابًا أو طينًا أو أحجارًا من مقدمها بسهولة بحيث تسع مقدار خمسة غلقان ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين ويدفعها أمامه فتجري على عجلتها بأدنى مساعدة الى محل العمل فيميلها بإحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة وكذلك لهم فؤوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع وغالب الصناع من جنسهم ولا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية على الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة وجعلوا جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية قلعة ومنارته برجًا ووضعوا على أسواره مدافع وأسكنوا به جماعة من العسكر وبنوا في داخله عدة مساكن تسكنها العسكر المقيمة به وكان هذا الجامع معطل الشعائر من مدة طويلة وباع نظاره منه أنقاضًا وعمدًا كثيرة.
ومنها أنهم أحدثوا على التل المعروف بتل العقارب بالناصرية أبنية وكرانك وأبراجًا ووضعوا فيها عدة من آلات الحرب والعساكر المرابطين فيه وهدموا عدة دور من دور الأمراء وأخذوا أنقاضها ورخامها لأبنيتهم وأفردوا للمديرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت مثل بيت قاسم بك وأمير الحاج المعروف بأبي يوسف وبيت حسن كاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخفره وصرف عليه أموالًا عظيمة من مظالم العبادة وعند تمام بياضه وفرشه حدثت هذه الحادثة ففر مع الفارين وتركه فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها فيحضرها له الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول الى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم وخصوصًا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعًا للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما يحير الأفكار ولقد ذهبت إليهم مرارًا وأطلعوني على ذلك.
فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم وهو قائم على قدميه ناظرًا الى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين وفي الأخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه من صخرة بيت المقدس وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني وكذلك صورة الأئمة المجتهدين وبقية الخلفاء والسلاطين ومثال اسلامبول وما بها من المساجد العظام كأياصوفية وجامع السلطان محمد وهيئة المولد النبوي وجمعية أصناف الناس لذلك وكذلك السلطان سليمان وهيئة صلاة الجمعة فيه وأبي أيوب الأنصاري وهيئة صلاة الجنازة فيه وصور البلدان والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد والصور والأشكال والأفلام المرسومة وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور والنبات والأعشاب وعلوم الطب والتشريح والهندسيات وجر الأثقال وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض ويعبرون عنه بقولهم شفاء شريف والبردة للبوصيري ويحفظون جملة من أبياتها وترجموها بلغتهم ورأيت بعضهم يحفظ سورًا من القرآن ولهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفهما واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت الى لغتهم في أقرب وقت وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بهم الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر المموه وهي تركب ببراريم مصنوعة محكمة كل آلة منها عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة بحيث إذا ركبت صارت آلة كبيرة أخذت قدرًا من الفراغ وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها الى المرئي وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير.
وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها ومعرفة مقاديرها وأجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظراتها وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن وغير ذلك وأفردوا لجماعة منها بيت ابراهيم كتخدا السناري وهم المصورون لكل شيء ومنهم اريجوا المصور وهو يصور صور الآدميين تصويرًا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ بجسم يكاد ينطق حتى أنه صور صورة المشايخ كل واحد على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان وعلقوا ذلك في بعض مجالس صاري عسكر وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمنًا طويلًا.
وكذلك أفردوا أماكن للمهندسين وصناع الدقائق وسكن الحكيم رويًا ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح وقدورًا عظيمة وبرامات وجعل له مكانًا أسفل وأعلى وبهما رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة وبها كذلك عدة من الأطباء والجرايحية.
وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي وبنوا فيه تنانير مهندمة وآلات تقاطير عجيبة الوضع وآلات تصاعيد الأرواح وتقاطير المياه وخلاصات المفردات وأملاح الأرمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات واستخراج المياه الجلاءة والحلالة وحول المكان الداخل قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات علي الرفوف والسدلات وبداخلها أنواع المستخرجات.
ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المفيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة فصب منها شيئًا في كأس ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى فعلا المآن وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجرًا أصفر فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا أزرق وبأخرى فجمد حجرًا أحمر ياقوتيًا وأخذ مرة شيئًا قليلًا جدًا من غبار أبيض وضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة انزعجنا منه فضحكوا منا وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة الفم فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص وأدخل معها أخرى على غير هيئتها وأنزلهما في الماء وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما وأتى آخر بفتيلة مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضًا وغير ذلك أمور كثيرة وبراهين حكيمة تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاجة فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف ويظهر له صوت وطقطقة وإذا مسك علقاتها شخص ولو خيطًا لطيفًا متصلًا بها ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى ارتج دنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة ومن لمس هذا اللامس أو شيئًا من ثيابه أو شيئًا متصلًا به حصل له ذلك ولو كانوا ألفًا أو أكثر ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا.
وأفردوا أيضًا مكانًا للنجارين وصناع الآلات والأخشاب وطواحين الهواء والعربات واللوازم لهم في أشغالهم وهندساتهم وأرباب صنائعهم ومكانًا آخر للحدادين وبنوا فيه كوانين عظامًا وعليها منافيخ كبار يخرج منها الهواء متصلًا كثيرًا بحيث يجذبه النافخ من أعلى بحركة لطيفة وصنعوا السندانات والمطارق العظام لصناعات الآلات من الحديد والمخارط وركبوا مخارط عظيمة لخرط القلوزات الحديد العظيمة ولهم فلكات مثقلة يديرها الرجال للمعلم الخراط للحديد بالأقلام المتينة الجافية وعليها حق صغير معلق مثقوب وفيه ماء يقطر على محل الخرط لتبريد النارية الحادثة من الاصطكاك وبأعلى هذه الأمكنة صناع الأمور الدقيقة مثل البركارات وآلات الساعات والآلات الهندسية المتقنة وغير ذلك.
شهر رجب سنة 1213 استهل بيوم الأحد في ثالثه قتلوا شخص من الأجناد يقال له مصطفى كاشف من جماعة حسين بك المعروف بشفت وكان قد فر مع الفارين ثم رجع من غير استئذان وأقام أيامًا مستترًا ببيت الشيخ سليمان الفيومي فسلمه لمصطفى آغا مستحفظان ليأخذ له أمانًا فأخبر الفرنسيس بشأنه وأغراهم عليه فأمروه بقتله فقطع رأسه وطافوا بها ينادون عليها بقولهم: هذا جزاء من يدلخ الى مصر بغير إذن الفرنسيس.
وفي يوم الخميس حضر كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب وصحبته سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها فلما حضر حبسوه بالقلعة قيل إنهم عثروا له على مكتوب أرسله وقت الفتنة السابقة الى سرياقوس لينهض أهل تلك النواحي في القيام ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس ولما حبسوه وحبسوا معه أربعة من الأجناد أيضًا.
وفيه أحدثوا مرمارًا يضربونه في كل يوم وقت الزوال لأن ذلك الوقت عندهم ابتداء اليوم.
وفي يوم الأربعاء عاشره نادوا في الأسواق بأن من أراد أن يشترى فرسًا أو حمارًا فليحضر يوم الجمعة ثالث عشره ببولاق ويشتري من الفرنساوية ما أحب ذلك وكتبوا بذلك أوراقًا وألصقوها بالأسواق والأزقة وهي مطبوعة وعليها الصورة ونصها: فليكن معلومًا عند كافة الرعايا المصرية أن في يوم الجمعة ثلاثة عشر من شهر رجب الساعة اثنين يباع في بولاق جملة خيل من المشيخة الفرنساوية فلأجل هذا المشترى كل من أراد أن يقتني خيلًا فمنحنا له الإجازة أنه يقتني كما يريد ويشاء.
وفي يوم الاثنين سادس عشره سافر صاري عسكر بونابرته الى السويس وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي وابراهيم أفندي كاتب البهار وأخذ معه أيضًا بعض المدبرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري والطون أبو طاقية وغيرهم وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة وبعض مدافع وعربات وتختروان وعدة جمال لحمل الذخيرة والماء والقومانية.
وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على تنظيم آخر وعينوا له ستين نفرًا منهم أربعة عشر يقال لهم خصوص وهم الذين يحضرون دائمًا ويقال لهم الديوان الخصوصي والديوان الديمومي.
والباقي بحسب الاقتضاء والأربعة عشر هم من المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي والبكري والفيومي ومن التجار المحروقي وأحمد محرم ومن النصارى القبطة لطف الله المصري ومن الشوام يوسف فرحات ومخاييل كحيل ورواحة الانكليزي وبودني وموسى كافر الفرنساوي ومعهم وكلاء ومباشرون من الفرنسيس ومترجمون وأما العمومي فأكثره مشايخ حرف وكتبوا بذلك طومارًا كبيرًا بصموا منه نسخًا كثيرة وأرسلوا منها نسخًا كثيرة للأعيان وألصقوا منها بالأسواق على العادة وأرسلوا الذين عينوا بالديوان أوراقًا بأسمائهم شبه التقارير وصورة صدر ذلك الطومار المكتتب في شأن ذلك وقد أوردت ذلك وإن كان فيه بعض طول للاطلاع على ما فيه من التمويهات على العقول والتسلق على دعوى الخواص من البشر بفاسد التخيلات التي تنادي على بطلانها بديهة العقل فضلًا عن النظر وهي مقولة على لسان بونابارته كبير الفرنسيس ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم من أمير الجيوش الفرنساوية خطابًا الى كافة أهالي مصر الخاص والعام نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخليين من المعرفة وإدراك العواقب سابقًا أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم لله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد فامتثلت أمره وصرت رحيمًا بكم شفوقًا عليكم ولكن كان حصل عندي غيظ وغم شديد بحسب تحريك هذه الفتنة بينكم ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وصلاح أموالكم من مدة شهرين والآن توجه خاطرنا الى ترتيب الديوان كما كان لأن حسن أحوالكم ومعاملتكم في المدة المذكورة إنسانًا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقًا أيها العلماء والأشراف أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره فلا يجد ملجأ ولا مخلصًا ينجيه مني في هذا العالم ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة وأعلموا أيضًا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي وقدر في الأزل أني أجيء من المغرب الى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أمرت به ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه وأعلموا أيضًا أمتكم أن القرآن لعظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل وأشار في آيات أخرى الى أمور تقع في المستقبل وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعًا الى صفاء النية وإخلاص الطوية فإن منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفًا من سلاحي وشدة سطوتي ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والذي يفعل ذلك يكون معارضًا لأحكام الله ومنافقًا وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب واعلموا أيضًا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يرد وأن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة والسلام.
ورتبوا لأرباب الديوان الديمومي شهرية تدفع إليهم نظير تقيدهم بمصالح العامة والدعاوى وما يترتب عليه النظام بينهم وبين المسلمين.
وفي ثامن عشره طافوا على الطواحين واختاروا من كل طاحون فرسًا أخذوها.
وفي رابع عشرينه حضر السيد المحروقي وكاتب البهار من السويس وكان ساري عسكر ذهب الى ناحية بلبيس فاستأذنوه في ذهابهم الى مصر فأذن لهم وأرسل معهم خمسين عسكريًا ليوصلوهم الى مصر فلما حضروا حكوا أن أهل السويس لما بلغهم مجيء الفرنساوية هربوا وأخلوا البلدة فذهبوا الى الطور وذهب البعض الى العرب بالبادية فنهب الفرنسيس ما وجدوه بالبندر من البن والمتاجر والأمتعة وغير ذلك وهدموا الدور وكسروا الأخشاب وخوابي الماء فلما حضر كبيرهم وكان متأخرًا عنهم كلمه التجار الذاهبون معه وأعلموه أن هذا الفعل غير صالح فاسترد من العسكر بعض الذي أخذوه ووعدهم باسترجاع الباقي أو دفع ثمنه بمصر وأن يكتبوا قائمة بالمنهوبات ثم إنه وجد مركبان حضرا الى قريب من السويس بهما بن ومتاجر فغرقت إحداهما فنزلت طائفة من الفرنسيس في مراكب صغار وذهبوا إليها في الغاطس وأخرجوها بالآلات ركبوها واصطنعوها من علم جر الأثقال وفي مدة إقامته بالسويس صار يركب ويتأمل في النواحي وجهات ساحل البحر والميل ليلًا ونهارًا وكان معه من الأم في هذه السفرة ثلاثة طيور دجاج محمرة ملفوفة في ورق وليس معه طباخ ولا فراش ولا فرش ولا خيمة وكل شخص من عسكره معه رغيف كبير مرشوق في طرف خربته يتزود منه ويشرب من سقاء لطيف من صفيح معلق في عنقه.
وفي يوم السبت حضر عدة من العسكر الفرنساوية من ناحية بلبيس ومعهم عدة من العربان نحو الثلاثين نفرًا موثقون بالحبال وأسروا أيضًا عدة من أولادهم ذكورًا وإناثًا ودخلوا بهم الى مصر يزفونهم بالطبول أمامهم ومعهم أيضًا ثلاثة حمول من حمول التجار وبعض جمال مما كان نهب منهم وفي ليلة الاثنين غايته حضر ساري عسكر من ناحية بلبيس الى مصر ليلًا وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العيايدة وخلافه رهائن وضربوا أبو زعبل والمنير وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم الى القاهرة وخلفهم أصحابهم رجالًا ونساء وصغارًا وفي ذلك اليوم قتلوا شيخ العرب سليمان الشواربي شيخ قليوب ومعه أيضًا ثلاثة رجال يقال لهم عرب اشرقية فأنزلوهم من القلعة الى الرميلة على يد الآغا وقطعوا رؤوسهم وحملوا جثة الشواربي مع رأسه في تابوت وأخذه أتباعه في بلده قليوب ليدفن هناك عند أسلافه وانقضى هذا الشهر وحوادثه الجزئية والكلية.
منها أن في ليلة السابع والعشرين منه أتت جماعة الى دار الشيخ محمد ابن الجوهري الكائن بالأزبكية بالقرب من باب الهواء فخلعوا الشباك المطل على البركة ودخلوا منهم وصعدوا الى أعلى الدار وكان بها ثلاثة من النساء الخدامات وابنة خدامة أيضًا وبواب الدار ولم يكن رب الدار بها ولا الحريم بل كانوا قد انتقلوا الى دار أخرى لما سكن معظم العسكر بالأزبكية فاستيقظ النساء وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة واختفت البنت في جهة وعاثوا في الدار وأخذوا متاعًا ومصاغًا ونزلوا واستيقظ البواب فاختفى خوفًا منهم فلما طلع النهار وشاع الخبر وكان ساري عسكر غائبًا فلم يقع كلام في شأن ذلك فلما قدم من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه فاغتم لذلك وأظهر الغيظ وذم فاعل ذلك لما فيه من العار الذي يلحقه واهتم في الفحص عمن فعل ذلك وقت.
ومنها كثرة تعدي القلقات وتشديدهم على وقود القناديل بالأزقة هم من أهل البلد وإذا مروا بالليل ووجدوا قنديلًا أطفأه الهواء وفرغ زيته سمروا الحانوت أو الدار التي هو عليها ولا يقلعون مسمارًا حتى صالحهم صاحبها على ما أحبوه من الدراهم وربما تعمدوا كسر القناديل لأجل ذلك واتفق أن المطر أطفأ عدة قناديل بسوق أمير الجيوش بسبب كونها في ظروف من الورق والجريد فابتل الورق وسال الماء فأطفأ القناديل فسمروا حوانيت السوق وأصبح أهلها صالحوا عليها ووقع مثل ذلك في طرق عديدة فجمعوا في ذلك اليوم جملة من الدراهم وأمثال ذلك حتى في الأزقة والعطف غير النافذة حتى كان الناس ليس لهم شغل إلا القناديل وتفقد حالها وخصوصًا في ليل الشتاء الطويل.
شهر شعبان المعظم سنة 1213 استهل بيوم الثلاثاء فيه قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل إنهم من المتسلقين على الدور.
وفيه أخبر بأن مراد بك ومن معه ترفعوا الى قبلي ووصلوا الى عقبة الهواء وكلما قرب منهم عسكر الفرنساوية انتقلوا وقبلوا ولقد داخلهم من الفرنساوية خوف شديد ولم يقع بينهم ملاقاة ولا قتال.
وفيه قدمت رباعة تحمل البن الذي حضر من السويس بالمركب الداو يصحبه جماعة من الفرنساوية لخفارتها من قطاع الطريق.وفي
على أهل تلك الخطة وما جاورها بفتح الحوانيت والأسواق لأجل مولد الحسين وشدد في ذلك ووعد من أغلق حانوته بتسميره وتغريمه عشرة ريال فرانسة مكافأة له على ذلك وكان السبب في ذلك والأصل فيه أن هذا المولد ابتدعه السيد بدوي بن فتيح مباشر وقف المشهد فكان قد اعتراه مرض الحب الإفرنجي فنذر على نفسه هذا المولد إن شفاه الله تعالى فحصلت له بعض إفاقة فابتدأ به وأوقد في المسجد والقبة قناديل وبعض شموع ورتب فقهاء يقرأون القرآن بالنهار مدارسة وآخرين بالمسجد يقرأون بالليل دلائل الخيرات للجزولي ثم زاد الحال وانضم إليهم كثير من أهل البدع كجماعة العفيفي والسمان والعربي والعيسوية فمنهم من يتحلق ويذكر الجلالة ويحرفها وينشد له المنشدون القصائد والموالات ومنهم من يقول أبياتًا من بردة المديح للبوصيري ويجاوبهم آخرون مقابلون لهم بصيغة صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأما العيسوية فهم جماعة من المغاربة وما دخل فيهم من أهل الأهواء ينسبون الى شيخ من أهل المغرب يقال له سيدي محمد بن عيسى وطريقتهم أنهم يجلسون قبالة بعضهم صفين ويقولون كلامًا معوجًا بلغتهم بنغم وطريقة مشوا عليها وبين أيديهم طبول ودفوف يضربون عليها على قدر النغم ضربًا شديدًا مع ارتفاع أصواتهم وتقف جماعة أخرى قبالة الذين يضربون بالدفوف فيضعون أكتافهم في أكتاف بعض لا يخرج واحد عن الآخر ويلتوون وينتصبون ويرتفعون وينخفضون ويضربون الأرض بأرجلهم كل ذلك مع الحركة العنيفة والقوة الزائدة بحيث لا يقوم هذا المقام إلا كل من عرف بالقوة وهذه الحركات والإيقاعات على نمط الضرب بالدفوف فيقع بالمسجد دوي عظيم وضجات من هؤلاء ومن غيرهم من جماعة الفقراء كل أحد له طريقة وكيفية تباين الأخرى هذا مع ما ينضم الى ذلك من جمع العوام وتحلقهم بالمسجد للحديث والهذيان وكثرة اللغط والحكايات والأضاحيك والتلفت الى حسبان الغلمان الذين يحضرون للتفرج والسعي خلفهم والافتتان بهم ورمي قشور اللب والمكسرات والمأكولات في المسجد وطواف الباعة بالمأكولات على الناس فيه وسقاة الماء فيصير المسجد بما اجتمع فيه من هذه القاذورات والعفوش ملتحقًا بالأسواق الممتهنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم زاد الحال على ذلك بقدوم جماعة الأشاير من الحارات البعيدة والقريبة وبين أيديهم مناور القناديل والجوامع العظيمة التي تحملها الرجال والشموع والطبول والزمور ويتكلمون بكلام محرف يظنون أنه ذكر وتوسلات يثابون عليها وينسبون من يلومهم أو يعترضهم الى الاعتزال والخروج والزندقة وغالبهم السوقة وأهل الحرف السافلة ومن لا يملك قوت ليلته فتجد أحدهم يجتهد بقوة سعيه ويبيع متاعه أو يستدين الجملة من الدراهم ويصرفها في وقود القناديل وأجرة الطبالة والزمارة وكل يجتمع عليه ما هو من أمثاله من الحرافيش ثم يقطع ليلته تلك سهرانًا ويصبح دايخًا كسلانًا ويظن أنه بات يتعبد ويذكر ويتهجد واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين ولم يزدد الناذر لذلك إلا مرضًا ومقتًا واستجلب خدمة الضريح ما لاح لهم من خساف العقول مثل الشمع والدراهم واتخذوا ذلك حبالة لأكل أموال الناس بالباطل فلما حصلت هذه الحادثة بمصر ترك هذا المولد في جملة المتروكات ثم حصلت الفتنة التي حصلت وسكن هذا الفرنساوي في خط المشهد الحسيني لضبط تلك الجهة وفيه مسايرة ومداهنة فصار يظهر المحبة للمسلمين ويلاطفهم ويدخل بيوت الجيران ويقبل شفاعة المتشفعين ويجل الفقهاء ويعظمهم ويكرمهم وأبطل وقوف عسكره بالسلاح كعادتهم في غير هذه الجهة وكذلك منع ما يفعله القلقات من أنواع التشديد على الناس في مثل القناديل فاطمأن به أهل الخطة وتراجعوا للبكور الى الصلاة في المساجد بعد تخوفهم من العسكر الذي رتب معهم وتركهم التكبير فلما أنسوا به وعرفوا أخلاقه رجعوا لعادتهم ومشوا بالليل أيضًا بدون فزع وخوف وترجمانه على مثل طريقته وهو رجل شريف من أهل حلب كان أسيرًا بمالطة فاستخلصه الفرنسيس من جملة ما استخلصوه من أسرى مالطة وقدم معهم مصر فلما أجلس هذا الضابط الخط كان ترجمانه يهوديًا فاحتال بعض أعيان الجهة ورتب هذا الشريف المذكور ليكون فيه راحة للناس ففتح له قهوة بالخط بالقرب من دار مخدومه وجمع الناس للجلوس فيها والسهر حصة من الليل وأمرهم بعدم غلق الحوانيت مقدارًا من الليل كعادتهم القديمة فاستأنسوا بالاجتماعات والتسلي والخلاعات وعم ذلك جهات تلك الخطة ووافق ذلك هوى العامة لأن أكثرهم مطبوع على المجون والخلاعة وتلك هي طبيعة الفرنساوية فصاروا يجتمعون عنده للسمر والحديث واللعب والممازحة ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين أيضًا فانساق الحديث لذكر هذا المولد الشهري وما يقع في لياليه من الجمعيات والمهرجان وحسنوا له إعادته فوافقهم على ذلك وأمر بالمناداة وفتح الحوانيت ووقود القناديل وشدد في ذلك.
وفي يوم الأربعاء كتبوا أوراقًا بتطيير طيارة ببركة الأزبكية مثل التي سبق ذكرها وفسدت.
فاجتمعت الناس لذلك وقت الظهر وطيروها وصعدت الى الأعلى ومرت الى أن وصلت تلال البرقية وسقطت ولو ساعدها الريح وغابت عن الأعين لتمت الحيلة وقالوا إنها سافرت الى البلاد البعيدة بزعمهم.
وفيه سافر الخواجة مجلون الى الصعيد واليًا على جرجا لتحرير البلاد وقبض الأموال والغلال المتأخرة بالنواحي للغز.
وفيه سافرت قافلة بها أحمال كثيرة ومواش ونساء إفرنجيات وصناديق قيل إنهم أرسلوها الى الطور وصحبتهم عدة من العسكر.
وفي يوم الخميس عاشره حضر طائفة من العسكر الفرنساوي الى وكالة ذي الفقار بالجمالية ففتحوا طبقة كانت لكتخدا علي باشا الطرابلسي وأخذوا ما وجدوه بها من الأمتعة وختموا عدة حواصل وطباق بذلك الخان وبالوكالة الجديدة وغيرها للمسافرين والهاربين والقليونجية.
وضبطوا ما بها وقبضوا على جماعة من الأتراك والقليونجية التجار وسجنوهم بالقلعة وصاروا يفتشون على من بقي منهم بالقاهرة وبولاق خصوصًا الكرتلية الذين كانوا عسكرًا لمراد بك وأخذوا الكثير من نصارى الأروام والقليونجية الذين كانوا مع مراد بك وبعضهم كان بمصر فأدخلوهم في عسكرهم وزيوهم بزيهم وأعطوهم أسلحة وانتظموا في سلكهم.
وفيه تواترت الأخبار أن علي باشا ونصوح باشا فارقا مراد بك وذهبا من خلف الجبل على وفيه نادوا بإبطال القناديل التي توقد في الليل على البيوت والدكاكين وأن يوقدوا عوضها في وسط السوق مجامع في كل مجمع أربع قناديل بين كل مجمع ثلاثون ذراعًا ويقوم بذلك الأغنياء دون الفقراء ولا علاقة للقلقات في ذلك ففرح بذلك فقراء الناس وانفرجت عنهم هذه الكربة.
وفيه نادوا أيضًا أن كل من كان له دعوى شرعية أو ظلامة فليذهب الى العلماء والقاضي.
وفيه ذهب طائفة من العسكر وضربوا عرب الكوامل ورجعوا بمنهوباتهم من الغنم والمعز والدجاج والاوز والحمير وغير ذلك.
وفيه حضر رجل من ناحية غزة يطلب أمانًا للست فاطمة زوجة مراد بك ولابنة المرحوم محمد أفندي البكري وزوجها الأمير ذي الفقار وخشداشينه والخطاب للشيخ خليل البكري.
فعرض ذلك على ساري عسكر وترجى عنده فكتب له أمانًا بحضورهم وأرسل لهم نفقة وكان ذلك حيلة منهم لتأتيهم النفقة وبعض الاحتياجات وأخبر ذلك الرسول أن عبد الله باشا ابن العظم بغزة وابراهيم بك ومن معه خارج البلد وهم في ضيق وحصر وحيز عنهم داخل البلد.
وفيه ذهب عدة من العسكر الفرنساوية الى قطيا وشرعوا في بناء أبنية هناك وأشيع سفر ساري عسكر الى جهة الشام والإغارة عليها.
وفي ليلة الأحد ثالث عشره كان انتقال الشمس لبرج الدلو وهو أول شهر من شهورهم وعملوا وفي يوم الاثنين رابع عشره نادى المحتسب على اللحم الضاني بسبعة أنصاف الرطل وكان بثمانية واللحم الجاموسي بخمسة وكان بستة.
وفيه ذهب طائفة من العسكر وضربوا عرب العيايدة نواحي الخانكة وقتلوا منهم طائفة ونهبوهم ووجدوا من منهوبات الناس وأمتعة عسكر الفرنساوية وأوسلحتهم جملة فأخذوا ذلك مع ما أخذوه وأحضروا معهم بعض رجال ونساء حبسوهم بالقلعة وفيه ذهب عدة من العسكر الى صنافير واجهور الورد وقرنفيل وكفر منصور وبلاد أخرى للتفتيش على العرب فأخذوا ما وجدوه للعرب من بهائم وغيرها والذي عصى عليهم ضربوه ونهبوه أيضًا ونهبوا جمالًا وبهائم ممن لم يعص أيضًا ودخلوا بذلك المدينة فصاروا يبيعون البقرة بريالين وثلاثة والنعجة وابنها بريال فاشترى غالب ذلك نصارى القبط.
وفي يوم السبت قتلوا بالقلعة نحو التسعين نفرًا وغالبهم من المماليك الذين وجدوهم هاربين في البلاد والذين عس عليهم الخبيث الآغا وبرطلمين والقلقات ووجدوهم مختفين في البيوت.
وفيه قبضوا على خمسة أنفار من اليهود وامرأتين فألقوا الجميع في بحر النيل وفيه نادوا بأن كل من اشترى شيئًا من منهوبات العرب التي نهبتها العسكر يحضره لبيت صاري عسكر.
وفيه كثر الاهتمام والحركة بسفر الفرنسيس الى جهة الشام وطلبوا وهيؤوا جملة من الهجن وأحضروا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط ثم رسموا على الأهالي عدة كبيرة من الحمير وكذلك عدة من البغال فطلب شيخ الحمارة وأمر بجمع ذلك وكذلك الركبدارية أمرهم بجمع البغال فاختفى غالب أصحاب الحمير وخاف الناس على حميرهم فامتنع خروج السائقين الذين ينقلون الماء بالقرب على الحمير وسقائين الجمال والبراسمية فحصل للناس ضيق بسبب ذلك.
وفي يوم الاثنين حادي عشرينه كتبوا أوراقًا ولصقوها بالأسواق على العادة ونصها: الحمد لله وحده هذا خطاب الى جميع أهل مصر من خاص وعام من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الأنام علماء الإسلام والوجاقات والتجار الفخام نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية وعفا عفوًا شاملًا وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد آغا بالأزبكية ورتبه من أربعة عشر شخصًا أصحاب معرفة وإتقان خرجوا بالقرعة من ستين رجلًا كان انتخبهم بموجب فرمان وذلك لأجل قضايا حوايج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره ومزيد حبه بمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيره رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم وقد اقتص من عسكره الذين أساؤوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري وقتل منهم اثنين بقراميدان وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي الى أدنى مقام لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس خصوصًا مع النساء الأرامل فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله إلا كل خسيس ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس لأنه بلغه أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم ومراده رفع الظلم عن كامل الخلق ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل الى بحر السويس لتخف أجرة الحمل من مصر الى قطر الحجاز الأفخم وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق فاشتغلوا بأمر دينكم وأسباب دنياكم واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الاستقامة لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم ومن كانت له حاجة فليأت الى الديوان بقلب سليم إلا من كان له دعوى شرعية فليتوجه الى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية بخط السكرية والسلام عن أفضل الرسل على الدوام.
وفيه أرسلوا الوالي لينبه على السقائين بنقل الماء وعدم التعرض لهم ولحميرهم. وفي
وطلب كبير الفرنساوية بونابارته أن يأخذ معه مصطفى بك كتخدا الباشا المتولي أمير الحاج ويأخذ أيضًا قاضي العسكر بجمقشي زاده وأربعة أنفار من المتعممين وهم الفيومي والصاوي والعريشي والدواخلي وجماعة أيضًا من التجار والوجاقلية ونصارى القبط والشوام.
وفي سادس عشرينه نادوا للناس بالأمان وفتح الأسواق ليلًا في رمضان حكم المعتاد.
وفيه انتقل قائمقام من بيته المطل على بركة الفيل وهو بيت ابراهيم بك الوالي وسكن بيت أيوب بك الكبير المطل على بركة الفيل وانتقلوا جميعهم الى بركة الأزبكية.
وفيه أعرض حسن آغا محرم المحتسب لساري عسكر أمر ركوبه المعتاد لإثبات هلال رمضان فرسم له بذلك على العادة القديمة فاحتفل لذلك المحتسب احتفالًا زائدًا وعمل وليمة عظيمة في بيته أربعة أيام أولها السبت وآخرها الثلاثاء دعا في أول يوم العلماء والفقهاء والمشايخ والوجاقلية وغيرهم وفي ثاني يوم التجار والأعيان وكذلك ثالث يوم ورابع يوم دعا أيضًا أكابر الفرنساوية وأصاغرهم وركب يوم الثلاثاء بالأبهة الكاملة زيادة عن العادة وأمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم وشق القاهرة على الرسم المعتاد ومر على قائمقام وأمير الحاج وساري عسكر بونابارته ثم رجع بعد الغروب الى بيت القاضي بين القصرين فأثبتوا هلال رمضان ليلة الأربعاء ثم ركب من هناك بالموكب وأمامه المشاعل الكثيرة والطبول والزمور والنقاقير والمناداة بالصوم وخلفه عدة خيالة عارية رؤوسهم وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشيع مهول وانقضى شهر شعبان وحوادثه.
فمنها أن أهل مصر جروا على عادتهم في بدعهم التي كانوا عليها وانكمشوا عن بعضها واحتشموها خوفًا من الفرنسيس فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد ورخصوا لهم وسايروهم رجعوا إليها وانهمكوا في عمل مواليد الأضرحة التي يرون فرضيتها وأنها قربة تنجيهم بزعمهم من المهالك وتقربهم الى الله زلفى في المسالك فرمحوا في غفلاتهم مع ما هم فيه من الأسر وكساد غالب البضائع وغلوها وانقطاع الأخبار ومنع الجالب ووقوف الانكليز في البحر وشدة حجزهم على الصادر والوارد حتى غلت أسعار جميع الأصناف المجلوبة من البحر الرومي وانقطع أثر كثير من أرباب الصنائع التي كسدت لعدم طلابها واحتاجوا الى التكسب بالحرف الدنيئة كبيع الفطير وقلي السمك وطبخ الأطعمة والمأكولات والأكل في الدكاكين وإحداث عدة قهاوي وأما أرباب الحرف الدنيئة الكاسدة فأكثرهم عمل حمارًا مكاريًا حتى صارت الأزقة خصوصًا جهات العسكر مزدحمة بالحمير التي تكرى للتردد في شوارع مصر فإن للفرنسيس بذلك عناية عظيمة ومغالاة في الأجرة بحيث أن الكثير منهم يظل طول النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجري به مسرعًا في الشارع وكذلك تجتمع الباعة منهم ويركبون الحمير ويجهدونها في المشي والإسراع وهم يغنون ويضحكون ويصيحون ويتمسخرون ويشاركهم المكارية في ذلك كما أن لهم العناية وبذل الأموال والتردد الى حانات الراح والتغالي في شراء الفواكه والبوأطي والأقداح.
ومن طبعهم في الشرب أنهم يتعاطون لحد النشوة وترويح النفس فإن زادوا عن ذلك الحد لا يخرجون من منازلهم ومن سكر وخرج الي السوق ووقع منه أمر مخل عاقبوه وعزروه.
ومنها ترفع أسافل النصارى من القبط والشوام والأروام واليهود وركوبهم الخيول وتقلدهم بالسيوف بسبب خدمتهم للفرنسيس ومشيهم الخيلاء وتجاهرهم بفاحش القول واستذلالهم المسلمين كل ذلك بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد والحال الحال والمركوز في الطبع مازال والبعض استهوته الشياطين ومرق والعياذ بالله من الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها تواتر الأخبار من ابتداء شهر رجب بأن رجلًا مغربيًا يقال له الشيخ الكيلاني كان مجاورًا بمكة والمدينة والطائف فلما وردت أخبار الفرنسيس الى الحجاز وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز ويدعوهم الى الجهاد ويحضرهم على نصرة الحق والدين وقرأ بالحرم كتابًا مؤلفًا في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس وبذلوا أموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين وركبوا البحر الى القصير مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه.
فورد الخبر في أواخره أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد وبعض أتراك ومغاربة ممن كان خرج معهم مع غز مصر عند وقعة انبابة وركب الغز معهم أيضًا وحاربوا الفرنسيس فلم تثبت الغز كعادتهم وانهزموا وتبعهم هوارة الصعيد والمتجمعة من القرى وثبت الحجازيون ثم انكفوا لقلتهم وذكلك بناحية جرجا وهرب الغز والمماليك الى ناحية اسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي وعثمان بك حسن تابعه ووقع بين أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة بعدة مواضع وينفصل الفريقان بدون طائل.
ومنها أن الفرنسيس عملوا كرنتيلة بجزيرة بولاق وبنوا هناك بناء فيحجزون بها القادمين من السفار أيامًا معدودة كل جهة من الجهات القبلية لذلك وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة وأن هذا الشيخ صار يعظ الناس والبحرية بحسبها والله أعلم.
ثم استهل شهر رمضان المعظم بيوم الأربعاء سنة 1213.
فيه أخذ بونابارته في الاهتمام بالسفر الى جهة الشام وجهزوا طلبًا كثيرًا وصاروا في كل يوم يخرج منه طائفة بعد طائفة.
وفي يوم السبت عمل ساري عسكر ديوانًا وأحضر المشايخ والوجاقات وتكلم معهم في أمر خروجه للسفر وأنهم قتلوا المماليك الفارين بالصعيد وأجلوا باقيهم الى أقصى الصعيد وأنهم متوجهون الى الفرقة الأخرى بناحية غزة فيقطعونهم ويمهدون البلاد الشامية لأجل سلوك الطريق ومشي القوافل والتجارات برًا وبحرًا لعمار القطر وصلاح الأحوال وأننا نغيب عنكم شهرًا ثم نعود وعند عودنا نرتب النظام في البلاد والشرائع وغير ذلك فعليكم ضبط البلد والرعية في مدة غيابنا ونبهوا مشايخ الأخطاط والحارات كل كبير يضبط طائفته خوفًا من الفتن مع العسكر المقيمين بمصر فالتزموا له بذلك وكتبوا له أوراقًا مطبوعة على العادة في معنى ذلك وألصقوها بالطرق وفي ذلك اليوم خرج القاضي ومصطفى كتخدا الباشا والمشايخ المعينون للسفر الى جهة العادلية وخرج أيضًا عدة كبيرة من عسكرهم ومعهم أحمال كثيرة حتى الأسرة والفرش والحصر وعدة مواهي ومحفات للنساء والجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيت الأمراء وتزيا أكثرهن بزي نسائهم الإفرنجيات وغير ذلك.
وفي يوم الأحد خامسه ركب ساري عسكر الفرنسيس وخرج أيضًا الى العادلية وذلك في الساعة الرابعة بطالع الحمل وفيه القمر في تربيع زحل وأبقى بمصر عدة من العسكر بالقلعة والأبراج التي بنوها على التلول وقائمقام وبوسليك وساري عسكر ويزه بجملة من العسكر في الصعيد وكذلك سواري عسكر الأقاليم كل واحد معه عسكر في جهة من الجهات وأخذ معه المديرين وأصحاب المشورة والمترجمين وأرباب الصنائع منهم كالحدادين والنجارين ومهندسي الحروب وكبيرهم أبو خشبة بمصر ثم تراسل المتخلفون في الخروج كل يوم تخرج منهم جماعة.
وفي يوم الثلاثاء سابعه انتدب للنميمة ثلاثة من النصارى الشوام وعرفوهم أن المسلمين قاصدون الوثوب على الفرنسيس في يوم الخميس تاسعه فأرسل قائمقام خلف المهدي والآغا فأحضرهما وذكر لهما ذلك فقالا له: هذا كذب لا أصل له وإنما هذه نميمة من النصارى كراهة منهم في المسلمين ففحص عمن اختلق ذلك فوجدهم ثلاثة من النصارى الشوام فقبضوا عليهم وسجنوهم بالقلعة حتى مضى يوم الخميس فلم يظهر صحة ما نقلوه فأبقاهم في الاعتقال ثم أن نصارى الشوام رجعوا الى عادتهم القديمة في لبس العمائم السود والزرق وتركوا لبس العمائم البيض والشيلان الكشميري الملونة والمشجرات وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك ونبهوا أيضًا بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولًا ولا يتجاهرون بالأكل ولا يشربون الدخان ولا شيئًا من ذلك بمرأى منهم كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية حتى أن بعض الرعية من الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان فانتهزه فرد عليه ردًا شنيعًا فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخطة فرفعهما الى قائمقام فسأل من النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك فأخبروه أن من عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يأكلون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدًا فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله.
وفي تاسع عشرينه أحضروا مراد آغا تابع سليمان بك الآغا ومعه آخر من الأجناد من ناحية قبلي فأصعدوهما القلعة قبل قتلهما.
وفي خامس عشرينه ورد الخبر بأن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش وطاف رجل من أتباع الشرطة ينادي في الأسواق أن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش وأسروا عدة من المماليك وفي غد يعملون شكنًا ويضربون مدافع فإذا سمعتم ذلك فلا تفزعوا فلما أصبح يوم الأحد حضر المماليك المذكورة وهم ثمانية عشر مملوكًا وأربعة من الكشاف وهم راكبون الحمير ومتقلدون بأسلحتهم ومعهم نحو المائة من عسكر الفرنسيس وأمامهم طبلهم وخرج بعض الناس فشاهدهم ولما وصلوا الى خارج القاهرة حيث الجامع الظاهري خرج الآغا وبرطلمين بطوافيهما ينتظرانهم ومعهم طبول وبيارق وطوائف ومشوا معهم الى الأزبكية من الطريق التي أحدثوها ودخلوا بهم الى بيت قائمقام فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم فذهبوا الى بيوتهم وفيهم أحمد كاشف تابع عثمان بك الأشقر وآخر يقال له حسن كاشف الدويدار وكاشفان آخران وهما يوسف كاشف الرومي واسمعيل كاشف تابع أحمد كاشف المذكور وكان من خبرهم أنهم كانوا مقيمين بقلعة العريش وصحبتهم نحو ألف عسكري مغاربة وأرنؤد فحضر لهم الفرنسيس الذين كانوا في المقدمة في أواخر شعبان فأحاطوا بالقلعة وحاربوهم من داخلها ونالوا منهم ما نالوه ثم حضر إليهم ساري عسكر بجموعه بعد أيام وألحوا في حصارهم فأرسل من بالعريش الى غزة فطلب نجدة فأرسلوا لهم نحو السبعمائة وعليهم قاسم بك أمين البحرين فلم يتمكنوا من الوصول الى القلعة لتحلق الفرنساوية بها وإحاطتهم حولها فنزلوا قريبًا من القلعة فكبستهم عسكر الفررنسيس بالليل فاستشهد قاسم بك وغيره وانهزم الباقون ولم يزل أهل القلعة يحاربون ويقاتلون حتى فرغ ما عندهم من البارود والذخيرة فطلبوا عند ذلك الأمان فأمنوهم ومن القلعة أنزلوهم وذلك بعد أربعة عشر يومًا فلما نزلوا على أمانهم أرسلوهم الى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم فحضروا الى مصر كما ذكر وأخذوا سلاحهم وخلوا سبيلهم وصاروا يترددون عليهم ويظمونهم ويلاطفونهم ويفرجونهم على صنائعهم وأحوالهم.
وأما العسكر الذين كانوا معهم بقلعة العريش فبعضهم انضاف إليهم وأعطوهم جامكية وعلوفة وجعلوهم بالقلعة مع عسكر من الفرنسيس والبعض لم يرض بذلك فأخذوا سلاحه وأطلقوهم في حال سبيلهم وذهب الفرنسيس الى ناحية غزة وفي ذلك اليوم بعد الظهر عملوا الشنك الموعود به وضربوا عدة مدافع بالقلعة والأزبكية وأظهر النصارى الفرح والسرور بالأسواق والدور وأولموا في بيوتهم الولائم وغيروا الملابس والعمائم وتجمعوا للهو والخلاعة وزادوا في القبح والشناعة.
وفي يوم الأربعاء توفي أحمد كاشف المذكور فجأة وفي عصر ذلك اليوم حضر جماعة من الفرنسيس نحو الخمسة والعشرين هم راكبون الهجن وعلى رؤوسهم عمائم بيض ولابسون برانس بيضًا على أكتافهم فذهبوا الى بيت قائمقام بالأزبكية فلما أصبح يوم الخميس عملوا الديوان وقرأوا المكاتبة التي حضرت مع الهجانة حاصلها أن الفرنسيس أخذوا غزة وخان يونس وأخبار مختلفة.
منها أنهم وجدوا ابراهيم بك ومن معه ارتحلوا من هناك وكانوا أرسلوا حريمهم وأثقالهم الى جبل نابلس وقيل بل تحاربوا معهم وانهزموا وفي ذلك اليوم بعد العصر بنحو عشرين درجة حضر عدة من الفرنسيس ومهم كبير منهم وهم راكبون الخيول وعدة من المشاة وفيهم جماعة لابسون عمائم بيضًا وجماعة أيضًا ببرانيط ومعهم نفير ينفخ فيه وبيدهم بيارق وهي التي كانت عند المسلمين على قلعة العريش الى أن وصلوا الى الجامع الأزهر فاصطفوا رجالًا وركبانًا بباب الجامع وطلبوا الشيخ الشرقاوي فسلموه تلك البيارق وأمروه برفعها ونصبها على منارات الجامع الأزهر فنصبوا بيرقين ملونين على المنارة الكبيرة ذات الهلالين عند كل هلال بيرقًا وعلى منارة أخرى بيرقًا ثالثًا وعند رفعهم ذلك ضربوا عدة مدافع من القلعة بهجة وسرورًا وكان ذلك ليلة عيد الفطر فلما كان عند الغرب ضربوا عدة مدافع أيضًا إعلامًا بالعيد وبعد العشاء الأخيرة طاف أصحاب الشرطة ونادوا بالأمان وبخروج الناس على عادتهم لزيارة القبور بالقرافتين والاجتماع لصلاة العيد وأن يلبسوا أحسن ثيابهم ولما ملكوا العريش كتبوا أوراقًا وأرسلوها الى البلاد ونصها: فرمان عام موجه من أمير الجيوش الى أهالي الشام قاطبة: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من طرف بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية الى حضرة المفتين والعلماء وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله تعالى بعد السلام نعرفكم أننا حررنا لكم هذه السطور نعلمكم أننا حضرنا في هذا الطرف لقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم والى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه والى أي سبب أيضًا أرسل عساكره الى قلعة العريش بذلك هجم على أراضي مصر فلا شك كان مراده إجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه فأما أنتم يا أهالي الأطراف المشار إليها فلم نقصد لكم أذية ولا أدنى ضرر فأنتم استمروا في محلكم ووطنكم مطمئنين ومرتاحين وأخبروا من كان خارجًا عن محله ووطنه أن يرجع ويقيم في محله ووطنه ومن قبلنا عليكم ثم عليهم الأمان الكافي والحماية التامة ولا أحد يتعرض لكم في مالكم وما تملكه يدكم وقصدنا أن القضاة يلازمون خدمهم ووظائفهم على ما كانوا عليه وعلى الخصوص أن دين الإسلام لم يزل معتزًا ومعتبرًا والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين.
إذ كل خير يأتي من الله تعالى وهو يعطي النصر لمن يشاء ولا يخفاكم أن جميع ما تأمر به الناس ضدنا فيغدو باطلًا ولا نفع لهم به لأن كل ما نضع به يدنا لابد من تمامه للخير والذي يتظاهر بالغدر يهلك ومن كل ما حصل تفهمون جيدًا أننا نقمع أعداءنا ونعضد من يحبنا.
وعلى الخصوص من كوننا متصفين بالرحمة والشفقة على الفقراء المساكين.
ولما أخذوا غزة أرسلوا طومارًا بصورة الواقعة وبصموه نسخًا وقرئ بالديوان وألصقوا نسخه المطبوعة بالأسواق وصورته: بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين نخبر أهل مصر وأقاليمها أنه حضر فرمان مكتوب من غزة من حضرة الجنرال اسكندر يرتبه خطابًا الى حضرة ساري عسكر دوجا وكيل الجيوش بمصر يخبره فيه بأن العساكر الفرنساوية باتوا ليلة تسعة عشر شهر رمضان في خان يونس وفي فجر تلك الليلة توجهوا سائرين الى ناحية غزة فكشفوا قبل الظهر بساعة عسكر المماليك وعسكر الجزار جالسين تجاه غزة فتوجه إليهم الجنرال مرارًا مع عساكر الفرنساوية من خيالة ومشاة مراده اغتيال عسكر المماليك وعسكر الجزار فلما انتبهوا له فروا هاربين ووقع بينه وبين أطراف العساكر بعض مضاربة يسيرة لم ينجرح فيها إلا شخصان من الفرنساوية مات عسكري واحد ومات من عسكر المماليك والجزار ناس قلائل وحين تشاغل ساري عسكر مراد بالمضاربة والمقاتلة دخل حضرة ساري عسكر كلهبر الذي كان حاكمًا بالاسكندرية وكان ساكنًا بالأزبكية الى بندر غزة وملكها من غي ر معارض له ووجدوا فيها حواصل مشحونة بالذخائر من بقسماط وشعير وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعًا وحاصلًا كبيرًا مملوءًا بالخيام الكثيرة وجللًا وبنبات مهيئات محضرات كصنعة الإفرنج هذا ما وقع لملكهم لغزة وقد أخبرناكم على ما وقع في كيفية ملك العريش سابقًا فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء الله وتأدبوا في أحكام مولاكم الذي خلقكم وسواكم والسلام ختام.
وانقضى شهر رمضان ووقع به قبل ورود هذه الأخبار من السكون والطمأنينة وخلو الطرقات من العسكر وعدم مرور المتخلفين منهم إلا في النادر واختفائهم بالليل جملة كافية وانفتاح الأسواق والدكاكين والذهاب والمجيء وزيارة الإخوان ليلًا والمشي على العادة بالفوانيس ودونها واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوي ووقود المساجد صلاة التراويح وطواف المسحرين والتسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار فيما عدا المجلوبات من الأقطار.
ومنها أن الفرنساوية صاروا يدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للإفطار والسحور ويعملون لهم الولائم ويقدمون لهم الموائد على نظام المسلمين وعادتهم ويتولى أمر ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينًا لخواطرهم ويذهبون هم أيضًا ويحضرون عندهم الموائد ويأكلون معهم في وقت الإفطار ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم ووقع منهم من المسايررة للناس وخفض الجانب ما يتعجب منه والله أعلم.
شهر شوال سنة 1213 استهل بيوم الجمعة وفي صبح ذلك اليوم ضربوا عدة مدافع لشنك العيد واجتمع الناس لصلاة العيد في المساجد والأزهر واتفق أن إمام الجامع الأزهر نسي قراءة الفاتحة في الركعة الثانية فلما سلم أعاد الصلاة بعدما شنع عليه الجماعة وخرج الرجال والنساء لزيارة القبور.
فانتبذ بعض الحرافيش نواحي تربة باب النصر وأسرع في مشيه هو يقول: نزلت عليكم العرب يا ناس فهاجت الناس وانزعجت النساء ورمحت الجعيدية والحرافيش وخطفوا ثياب النساء وأزرهن وما صادفوه من عمائم الرجال وغير ذلك واتصل ذلك بتربة المجاورين وباب الوزير والقرافة حتى أن بعض النساء مات تحت الأرجل ولم يكن لهذا الكلام صحة وإنما ذلك من مخترعات الأوباش لينالوا أغراضهم من الخطف بذلك.
وفيه ركب أكابر الفرنسيس وطافوا على أعيان البلد وهنوهم بالعيد وجاملهم الناس بالمدارة وفي أوائله وردت الأخبار بأن الأمراء المصرية القبليين تفرقوا من بعضهم فذهب مراد بك وآخرون الى نواحي ابراهيم بك ومنهم من ذهب الى ناحية أسوان والألفي عدى بجماعته الى ابر الشرقي.
وفي خامسه قدم الشيخ محمد الدواخلي من ناحية القرين متمرضًا وكان بصحبته الصاوي والفيومي متخلفين بالقرين وسبب تخلفهم أن كبير الفرنسيس لما ارتحل من الصالحية أرسل الى كتخدا الباشا والقاضي والجماعة الذين بصحبتهم يأمرهم بالحضور الى الصالحية لأنهم كانوا يباعدون عنه مرحلة فلما أرادوا ذلك بلغهم وقوف العرب بالطريق فخافوا من المرور.
فذهبوا الى العرين فأقاموا هناك واتخذ عسكر الفرنسيس جمالهم فأقاموا بمكانهم فتقلق هؤلاء الثلاثة وخافوا سوء العاقبة ففارقوهم وذهبوا للقرين وتخلف عنهم الفيومي فأقام مع كتخدا الباشا والقاضي فحصل للدواخلي توعك فحضر الى مصر وبقي رفيقاه في حيرة.
وفي سابعه أحضر الآغا رجلًا ورمى عنقه عند باب زويلة وشنق امرأة على شباك السبيل تجاه الباب والسبب في ذلك أن الفرنساوي حاكم خط الخليفة وجهة الركبية ويسي دلوي أحضر باعة الغلال بالرميلة وصادرهم ومنعهم من دفع معتاد الوالي فاجتمعوا وذهبوا الى كبير الفرنسيس الذي يقال له شيخ البلد وشكوا إليه وكان الأمير ذو الفقار حاضرًا وهو يسكن تلك الجهة فعضدهم وعرف شيخ البلد عن شكواهم فأرسل شيخ البلد الى دلوي فانتهره وأمره برد ما أخذه فأخبره أتباعه أن ذا الفقار هو الذي عضدهم وأنهى شكواهم الى كبيرهم فقام دلوي المذكور ودخل على ذي الفقار في بيته وسبه وشتمه بلغته وفزع عليه ليضربه فلما خرج من عنده قام وذهب الى كبيرهم وأخبره بفعل دلوي معه فأمر بإحضاره وحبسه بالقلعة.
ثم أخبر بعض الناس شيخ البلد أن التعرض الذي وقع من دلوي لباعة الغلة إنما هو بإغراء خادمه وعرفه أن خادمه المذكور مولع بامرأة رقاصة من الرميلة تأتيه بأشكالها هو وأضرابه وترقص لهم تلك المرأة في القهوة التي بخطهم ليلًا ونهارًا وتبيت معهم في البيت ويصبحون على حالهم فلما حبس أميرهم اختفوا فدلوا على الرجل والمرأة فقبضوا عليهما وفعلوا بهما ما ذكر ولا بأس بما حصل.
وفي ثامنه يوم الجمعة نودي في الأسواق بموكب كسوة الكعبة المشرفة من قراميدان والتنبيه باجتماع الوجاقات وأرباب الأشاير وخلافهم على العادة في عمل الموكب فلما أصبح يوم السبت اجتمع الناس في الأسواق وطريق المرور وجلسوا للفرجة فمروا بذلك وأمامها الوالي والمحتسب وعليهم القفاطين والبينشات وجميع الأشاير بطبولهم وزمورهم وكاساتهم ثم برطلمين كتخدا مستحفظان وأمامه نفر الينكجرية من المسلمين نحو المائتين أو أكثر وعدة كثيرة من نصارى الأروام بالأسلحة والملازمين بالبراقع وهو لابس فروة عظيمة ثم مواكب القلقات ثم موكب ناظر الكسوة وهو تابع مصطفى كتخدا الباشا وخلفه النوبة التركية فكانت هذه الركبة من أغرب المواكب وأعجب العجائب لما اشتملت عليه من اختلاف الأشكال وتنوع الأمثال واجتماع الملل وارتفاع السفل وكثرة الحشرات وعجائب المخلوقات واجتماع الأضداد ومخالفة الوضع المعتاد وكان نسيج الكسوة بدار مصطفى كتخدا المذكور وهو على خلاف العادة من نسجها بالقلعة.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشره حضر عدة من الفرنسيس وهم راكبون الهجن ومعهم عدة بيارق وأْلام بعد الظهر وأخبروا أن الفرنسيس ملكوا قلعة يافا وبيدهم مكاتبة من ساري عسكرهم بالإخبار عما وقع فلما كان يوم الخميس واجتمع أرباب الديوان فقرأ عليهم تلك المراسلة بعد تعريبها وترصيفها على هذه الكيفية وهي عن لسان رؤساء الديوان الى الكافة وذلك بإلزامهم وأمرهم بذلك.
وصورتها: بسم الله الرحمن الرحيم مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد سبحان الحكم العدل الفاعل المختار ذي البطش الشديد هذه صورة تمليك الله سبحانه وتعالى جمهور الفرنساوية لبندر يافا من الأقطار الشامية نعرف أهل مصر وأقاليمها من سائر البرية أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث عشرين رمضان ووصلوا الى الرملة في الخامس والعشرين منه في أمن واطمئنان فشاهدوا عسكر أحمد باشا الجزار هاربين بسرعة قائلين الفرار الفرار.
ثم أن الفرنساوية وجدوا في الرملة ومدينة لد مقدارًا كبيرًا من مخازن البقسماط والشعير ورأوا فيها ألفًا وخمسمائة قربة مجهزة جهزها الجزار يسير بها الى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين ومراده أن يتوجه إليها بأشرار العربان من سطح الجبل ولكن تقادير الله تفسد المكر والحيل قاصدًا سفك دماء الناس مثل عوائده الشامية وتجبره وظلمه مشهور لأنه تربية المماليك الظلمة المصرية ولم يعلم من خسافة عقله وسوء تدبيره أن الأمر لله كل شيء بقضائه وتدبيره وفي سادس عشرين شهر رمضان وصلت مقدمات الفرنساوية الى بندر يافا من الأراضي الشامية وأحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية وأرسلوا الى حاكمها وتحيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل به وبعسكره الدمار فمن خسافة رأيه وسوء تدبيره سعى في هلاكه وتدميره ولم يرد لهم جواب وخالف قانون الحرب والصواب.
وفي أواخر ذلك اليوم السادس والعشرين تكاملت العساكر الفرنساوية على محاصرة يافا وصاروا كلهم مجتمعين وانقسموا على ثلاثة طوابير: الطابور الأول توجه على طريق عكا بعيدًا عن يافا أربع ساعات وفي السابع والعشرين من الشهر المذكور أمر حضرة ساري عسكر الكبير بحفر خنادق حول السور لأجل أن يعملوا متاريس أمينة وحصارات متقنة حصينة لأنه وجد سور يافا ملآنًا بالمدافع الكثيرة ومشحونة بعسكر الجزار الغزيرة.
وفي تاسع عشرين الشهر لما قرب حفر الخندق الى السور مقدار مائة وخمسين خطوة أمر حضرة ساري عسكر المشار إليه أن ينصب المدافع على المتاريس وأن يضعوا أهوان القنبر بإحكام وتأسيس وأمر بنصب مدافع أخر بجانب البحر لمنع الخارجين إليهم من مراكب المينا.
لأنه وجد في المينا بعض مراكب أعدها عسكر الجزار للهروب ولا ينفع الهروب من القدر المكتوب ولما رأت عساكر الجزار الكائنون بالقلعة المحاصرون أن عسكر الفرنساوية قلائل في رأي العين للناظرين لمداراة الفرنساوية في الخنادق وخلف المتاريس غرهم الطمع فخرجوا لهم من القلعة مسرعين مهرولين وظنوا أنهم يغلبون الفرنساوية فهجم عليهم الفرنسيس وقتلوا منهم جملة كثيرة في تلك الواقعة وألجؤوهم للدخول ثانيًا في القلعة.
وفي يوم الخميس غاية شهر رمضان حصل عند ساري عسكر شفقة قلبية وخاف على أهل يافا من عسكره إذا دخلوا بالقهر والإكراه فأرسل إليهم مكتوبًا من رسول مضمونه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له بسم الله الرحمن الرحيم من حضرة ساري عسكر اسكندر برتيه كتخدا العسكر الفرنساوي الى حضرة حاكم يافا نخبركم أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته أمرنا أن نعرفك في هذا الكتاب أن سبب حضوره الى هذا الطرف إخراج عسكر الجزار فقط من هذه البلدة لأنه تعدى بإرسال عسكره الى العريش ومرابطته فيها والحال أنها من إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا فلا يناسبه الإقامة بالعريش لأنها ليست من أرضه فقد تعدى على ملك غيره ونعرفكم يا أهل يافا أن بندركم حاصرناه من جميع أطرافه وجهاته وربطناه بأنواع الحرب وآلات المدافع الكثيرة والجلل والقنابر وفي مقدار ساعتين ينقلب سوركم وتبطل آلاتكم وحروبكم ونخبركم أن حضرة ساري عسكر المشار إليه لمزيد رحمته وشفقته خصوصًا بالضعفاء من الرعية خاف عليكم من سطوة عسكره المحاربين إذا دخلوا عليكم بالقهر أهلكوكم أجمعين فلزمنا أننا نرسل لكم هذا الخطاب أمانًا كافيًا لأهل البلد والأغراب ولأجل ذلك أخر ضرب المدافع والقنابر الصاعدة عنكم ساعة فلكية واحدة وإني لكم لمن الناصحين وهذا آخر جواب الكتاب فجعلوا جوابنا حبس الرسول مخالفين للقوانين الحربية والشريعة المطهرة المححمدية وحالًا في الوقت والساعة هيج ساري عسكر واشتد غضبه على الجماعة وأمر بابتداء ضرب المدافع والقنابر الموجب للتدمير وبعد مضي زمان يسير تعطلت مدافع يافا المقابلة لمدافع المتاريس وانقلب عسكر الجزار وبال وتنكيس وفي وقت الظهر من هذا اليوم انخرق سور يافا وارتج له القوم ونقب من الجهة التي ضرب فيها المدافع من شدة النار ولا راد لقضاء الله ولا مدافع وفي الحال أمر حضرة ساري عسكر بالهجوم عليهم وفي أقل من ساعة ملكت الفرنساوية جميع البندر والأبراج ودار السيف في المحاربين واشتد بحر الحرب وهاج وحصل النهب فيها تلك الليلة. وفي
من حضرة ساري عسكر الكبير ورق قلبه على أهل مصر من غني وفقير الذين كانوا في يافا وأعطاهم الأمان وأمرهم برجوعهم الى بلدهم مكرمين وكذلك أمر أهل دمشق وحلب برجوعهم الى أوطانهم سالمين لأجل أن يعرفوا مقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته يعفو عند المقدرة ويصفح وقت المعذرة مع تمكينه ومزيد إتقانه وتحصينه وفي هذه الواقعة قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف وأما الفرنساوية فلم يقتل منهم إلا القليل والمجروحون منهم ليسوا بكثير وسبب ذلك سلوكهم الى القلعة من طريق أمينة خافية عن العيون وأخذوا ذخائر كثيرة وأموالًا غزيرة وأخذوا المراكب التي في المينة واكتسبوا أمتعة غالية ثمينة ووجدوا في القلعة أكثر من ثمانين مدفع ولم يعلموا مع مقادير الله أن آلات الحرب لا تنفع فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء الله ولا تعترضوا على أحكام الله وعليكم بتقوى الله واعلموا أن الملك لله يؤتيه من يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.
فلما تحقق الناس هذا الخبر تعجبوا وكانوا يظنون بل يتيقنون استحالة ذلك خصوصًا ف المدة القليلة ولكن المقضي كائن.
وفي يوم الجمعة خامس عشره شق جماعة من أتباع الشرطة في الأسواق والحمامات والقهاوي ونبهوا على الناس بترك الفضول والكلام واللغط في حق الفرنسيس ويقولون لهم: من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر فلينته ويترك الكلام في ذلك فإن ذلك مما يهيج العداوة وعرفوهم أنه إن بلغ الحاكم من المتجسسين عن أحد تكلم في ذلك عوقب أو قتل فلم ينتهوا وربما قبض على البعض وعاقبوه بالضرب والتغريم.
وفي ذلك اليوم كان التحويل الربيعي وانتقال الشمس الى برج الحمل وهو أول شهر من شهورهم فعملوا ليلة السبت شنكًا وحراقة وسواريخ وتجمعوا بدار الخلاعة نساء ورجالًا وتراقصوا وتسابقوا وأوقدوا سراجًا وشموعًا وغير ذلك وأظهر الأقباط والشوام مزيد الفرح والسرور.
وفي يوم السبت المذكور أرسلوا الأعلام والبيارق التي أحضروها من قلعة يافا وعدتها ثلاثة عشر وفيها من له طلائع فضة كبار الى الجامع الأزهر وكانوا أنزلوا أعلام قلعة العريش قبل ذلك بيوم من أعلى المنارات وأرسلوا بدلها أعلام يافا وعملوا لها موكبًا بطائفة من العسكر يقدمهم طبلهم وخلفهم الآغا بجماعته وطائفته والمحتسب ومدبرو الديوان وخلفهم طبل آخر يضربون عليه بإزعاج شديد وخلف ذلك الطبل جماعة من العسكر يحملون البنادق على أكتافهم كالطائفة الأولى وبعدهم عدة من العسكر على رؤوسهم عمائم بيض يحملون تلك الأعلام الكبار والبيارق المذكورة وخلفهم جماعة خيالة من كبار العسكر وآخرون راكبون على حمير المكارية فلما وصلوا الى باب الجامع الأزهر رتبوا تلك الأعلام ووضعوها على أعلى الباب الكبير فوق المكتب منشورة وبعضها على الباب الآخر من الجهة الأخرى عند حارة كتامة المعروفة الآن بالعينية ولم يصعدوا منها على المنارات كما صنعوا في أعلام العريش.
وفي يوم الأحد سابع عشره رتبوا أوامر وكتبوها في أوراق مبصومة وألصقوها بالأسواق إحداها بسبب مرض الطاعون وأخرى بسبب الضيوف الأغراب ومضمون الأولى بتقاسيمه ومقالاته خطابًا لأهل مصر وبلاق ومصر القديمة ونواحيها: إنكم تمتثلون هذه الأوامر وتحافظون عليها ولا تخالفوها وكل من خالفها وقع له مزيد الانتقام والعقاب الأليم والقصاص العظيم وهي المحافظة من تشويش الكبة وكل من تيقنتم أو ظننتم أو توهمتم أو شككتم فيه ذلك في محل من المحلات أو بيت أو وكالة أو ربع يلزمهم ويتحتم عليكم أن تعملوا كرنتيلة ويجب قفل ذلك المكان ويلزم شيخ الحارة أو السوق الذي فيه ذلك أن يخبر حالًا قلق الفرنساوية حاكم ذلك الخط والقلق يخبر شيخ البلد قائمقام مصر وأقاليمها ويكون ذلك فورًا.
وكذلك كل ملة من سكان مصر وأقاليمها وجوانبها والأطباء إذا تحققوا وعلموا حصول ذلك المرض يتوجه كل طبيب الى قائمقام ويخبره ليأمره بما هو مناسب للصيانة والحفظ من التشويش وكل من كان عنده خبر من كبار الأخطاط أو مشايخ الحارات وقلقات الجهات ولم يخبر بهذا المرض يعاقب بما يراه قائمقام ويجازى مشايخ الحارات بمائة كرباج جزاء للتقصير وملزوم أيضًا من أصابه هذا التشويش أو حصل في بيته لغيره من عائلته أو عشيرته وانتقل من بيته الى آخر أن يكون قصاصه الموت وهو الجاني على نفسه بسبب انتقاله وكل رئيس ملة في خط إذا لم يخبر بالكبة الواقعة في خطه أو بمن مات بها أيضًا حالًا فوريًا كان عقاب ذلك الرئيس وقصاصه الموت والمغسل إن كان رجلًا أو امرأة إذا رأى الميت أنه مات بالكبة أوشك في موته ولم يخبر قبل مضي أربع وعشرين ساعة كان جزاؤه وقصاصه الموت وهذه الأوامر الضرورية بلزوم أغات الينكجرية وحكام البلد الفرنساوية والإسلامية تنبيه الرعية واستيقاظهم لها فإنها أمور مخفية وكل من خالف حصل له مزيد الانتقام من قائمقام وعلى القلقات البحث والتفتيش عن هذه العلة الردية لأجل الصيانة والحفظ لأهل البلد والحذر من المخالفة والسلام.
ومضمون الثانية: الخطاب السابق من ساري عسكر دوجا الوكيل وحاكم البلد دسني قائمقام يلزم المدبرين بالديوان أنهم يشهرون الأوامر وينتبهوا لها وكل من خالف يحصل له مزيد الانتقام وهو أنه يتحتم ويلزم صاحب كل خمارة أو وكالة أو بيت الذي يدخل في محله ضيف أو مسافر أو قادم من بلدة أو إقليم أن يعرف عنه حالًا حاكم البلد ولا يتأخر عن الإخبار إلا مدة أربعة وعشرين ساعة يعرفه عن مكانه الذي قدمه منه وعن سبب قدومه وعن مدة سفره ومن أي طائفة أو ضيفًا أو تاجرًا أو زائرًا أو غريمًا مخاصمًا لابد لصاحب المكان من إيضاح البيان والحذر ثم الحذر من التلبيس والخيانة وإذا لم يقع تعريف عن كامل ما ذكر في شأن القادم بعد الأربعة وعشرين ساعة بإظهار اسمه وبلده وسبب قدومه يكون صاحب المكان متعديًا ومذنبًا وخائنًا وموالسًا مع المماليك.
ونخبركم معاشر الرعايا وأرباب الخمامير والوكائل أن تكونوا ملزومين بغرامة عشرين ريالًا فرانسة في المرة الأولى وأما في المرة الثانية فإن الغرامة تضاعف ثلاث مرات ونخبركم أن الأمر بهذه الأحكام مشترك بينكم وبين الفرنسيس الفاتحين للخمامير والبيوت والوكائل والسلام.
وفيه اجتمعوا بالديوان وتفاوضوا في شأن مصطفى بك كتخدا الباشا المولى أمير الحاج وهو أنه لما ارتحل مع ساري عسكر وصحبته القاضي والمشايخ الذين عينوا للسفر والوجاقلية والتجار وافترق منهم عند بلبيس وتقدم هو الى الصالحية ثم أنهم انتقلوا الى العرين فحضر جماعة من العساكر المسافرين فاحتاجوا الى الجمال فأخذوا جمالهم فلما وصل ساري عسكر الى وطنه أرسل يستدعيهم الى الحضور فلم يجدوا ما يحملون عليه متاعهم وبلغهم أن الطريق مخيفة من العرب فلم يمكنهم اللحاق به فأقاموا بالعرين بالعين المهملة عدة أيام وأهمل أمرهم ساري عسكر ثم أن الشيخ الصاوي والعريشي والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر ففارقوهم وذهبوا الى القرين بالقاف وحصل للدواخلي توعك وتشويش فحضر الى مصر كما تقدم ذكر ذلك وانتقل مصطفى بك المذكور والقاضي وصحبتهم الشيخ الفيومي وآخرون من التجار والوجاقلية الى كفور نجم وأقاموا هناك أيامًا واتفق أن الصاوي أرسل الى داره مكتوبًا وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمورًا غير لائقة.
فلما حضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمين في مصر وقرأوه وبحثوا عن الأمور اللائقة فأولها بعض المشايخ أنه قصر في حقهم والاعتناء بشأنهم فسكتوا وأخذوا في التفحص.
فظهر لهم خيانته ومخامرته عليهم واجتمع عليه الجبالي وبعض العرب العصاة وأكرمهم وخلع عليهم وانتقل بصحبتهم الى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف وجعل يقبض منهم الأموال وحين كانوا على البحر مر بهم مراكب تحمل الميرة والدقيق الى الفرنسيس بدمياط فقاطعوا عليهم وأخذوا منهم ما معهم قهرًا وأحضروا المراكبية بالديوان فحكوا على ما وقع لهم معه فأثبتوا خيانة مصطفى بك المذكور وعصيانه وأرسلوا هجانًا بإعلام ساري عسكرهم بذلك.
فرجع إليهم بالجواب يأمرهم فيه بأن يرسلوا له عسكرًا ويرسلوا الى داره جماعة ويقبضون عليه ويختمون على داره ويحبسون جماعته.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه عينوا عليه عسكرًا وأرسلوا الى داره جماعة ومعهم وكلاء فقبضوا على كتخدائه الذي كان ناظرًا على الكسوة وعلى ابن أخيه ومن معهم وأودعوهم السجن بالجيزة وضبطوا موجوداته وما تركه مخدومه بكر باشا بقائمة وأودعوا ذلك بمكان بالقلعة فوجدوا غالب أمتعة الباشا وبرقه وملابسه وعبي الخيل والسروج وغيرها شيئًا كثيرًا.
وجدوا بعض خيول وجمال أخذوها أيضًا فانقبض خواطر الناس لذلك فإنهم كانوا مستأنسين بوجوده ووجود القاضي ويتوسلون بشفاعتهما عند الفرنسيس وكلمتهما عندهم مقبولة وأوامرهما مسموعة ثم انهم أرسلوا أمانًا للمشايخ والوجاقلية والتجار بالحضور الى مصر مكرمين ولا بأس عليهم.
وفيه ورد الخبر بأن السيد عمر أفندي نقيب الأشراف حضر الى دمياط وصحبته جماعة من أفندية الروزنامة الفارين مثل عثمان أفندي العباسي وحسن أفندي كاتب الشهر ومحمد أفندي ثاني قلفة وباش جاجرت والشيخ قاسم المصلي وغيرهم وذلك أنهم كانوا بقلعة يافا فلما حاصرها الفرنساوية وملكوا القلعة والبلد لم يتعرضوا للمصريين وطلبهم إليه وعاتبهم على نقلهم وخروجهم من مصر وألبسهم ملابس وأنزلهم في مركب وأرسلهم الى دمياط من البحر.
وفي يوم الاثنين نادوا في الأسواق على المماليك والغز والأجناد الأغراب بأنهم يحضرون الى بيت الوكيل ويأخذون لهم أورقًا بعد معرفتهم والتضمين على أنفسهم ومن وجد من غير وثيقة في يده بعد ذلك يستأهل الذي يجري عليه وسبب ذلك إشاعة دخول الكثير منهم الى مصر خفية وفي يوم الثلاثاء نادوا في الأسواق والشوارع بأن من أراد الحج فليحج في البحر من السويس صحبة الكسوة والصرة وذلك بعد أن عملوا مشورة في ذلك.
وفيه حضر إمام كتخدا الباشا ومعه مكتوب فيه الثناء على الفرنساوية وشكر صنيعهم واعتنائهم بعملهم موكب الكسوة والدعاء لهم وأنه مستمر على مودته ومحبته معهم ويطلب منهم الإجازة بالحضور الى مصر ليسافر بصحبة الكسوة والحجاج فإن الوقت ضاق ودخل أوان السفر للحج وفي آخر المكتوب: وإن بلغكم من المنافقين عنا شيء فهو كذب ونميمة فلا تصدقوه فقرئ كتابه بالديوان فلما فهمه الفرنسيس كذبوه ولم يصغوا إليه وقالوا إن خيانته ثبتت عندنا فلا ينفعه هذا الاعتذار ثم كتبوا له جوابًا وأرسلوه صحبة إمامه مضمونه إن كان صادقًا في مقالته فليذهب الى جهة ساري عسكر بالشام وأمهلوه ست ساعات بعد وصول الجواب إليه وإن تأخر زيادة عليها كان كاذبًا في مقالته وأمروا العسكر بمحاربته والقبض عليه.
وفيه كتبوا أوراقًا ونادوا بها في الشوارع وهي: يا أهل مصر نخبركم أن أمير الحاج رفعوه عن سفره بالحاج بسبب ما حصل منه وأن أهل مصر علماء ووجاقات ورعايا لم يخالطوه في هذا الأمر ولم ينسب لهم شيء فالحمد لله الذي برأ أهل مصر من هذه الفتنة وهم حاضرون سالمون غانمون ما عليهم سوء ومن كان مراده الحج يؤهل نفسه ويسافر صحبة الصرة والكسوة في البحر والمراكب حاضرة والمعينون المحافظون من أهل مصر صحبة الحاج حاضرون يكون في علمكم أن تكونوا مطمئنين واتركوا كلام الحشاشين.
وفي يوم السبت غايته حضر المشايخ والوجاقات والتجار ما خلا القاضي فإنه لم يحضر وتخلف مع مصطفى كتخدا وانقضى هذا الشهر وما تجدد به من الحوادث التي منها أن الفرنساوية عملوا جسرًا من مراكب مصطفة وعليها أخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب من قصر العيني الى الروضة قريبًا من موضع طاحون الهواء تسير عليه الناس بدوابهم وأنفسهم الى البر الآخر وعملوا كذلك جسرًا عظيمًا من الروضة الى الجيزة.
ومنها أن توت الفلكي رسم في فسحة دارهم العليا ببيت حسن كاشف جركس خطوط البسيطة لمعرفةفضل الدائر لنصف النهار على البلاط المفروش بطول الفسحة ووضع لها بدل الشاخص دائرة مثقوبة بثقب عديدة في أعلى الرفوف مقابلة لعرض الشمس ينزل الشعاع من تلك الثقب ويمر على الخطوط المرسومة المقسومة ويعرف منه الباقي للزوال ومدارات البروج شهرًا شهرًا وعلى كل برج صورته ليعلم منه درجة الشمس ورسم أيضًا مزولة بالحائط الأعلى على حوش المكان الأسفل المشترك بين الدارين بشاخص على طريق وضع المنحرفات والمزاول ولكن لساعات قبل الزوال وبعده خلاف الطريق المعروفة عندنا بوقت العصر وفضل دائر الغروب وقوس الشفق والفجر وسمت القبلة وتقسيم الدرج وأمثال ذلك لأجل تحقيق أوقات العبادة وهم لا يحتاجون الى ذلك فلم يعانوه ورسم أيضًا بسيطة على مربعة من نحاس أصفر منزلة بخطوط عديدة في قاعدة عامود قصير طوله أقل من قامة قايم بوسط الجنينة وشاخصها مثلث من حديد يمر ظل طرفه على الخطوط المتقاطعة وهي متقنة الرسم والصناعة وحولها معاريفها واسم واضعها بالخط الثلث العربي المجود حفرًا في النحاس وفيها تنازيل الفضة على طريقة أوضاع العجم وغير ذلك.
ومنها أنهم لما سخطوا على كتخدا الباشا وقبضوا على أتباعه وسجنوهم وفيهم كتخداه الذي كان ناظرًا على الكسوة فقيدوا في النظر على مباشرة إتمامها صاحبنا السيد اسمعيل الوهبي المعروف بالخشاب أحد العدول بالمحكمة فنقلها لبيت أيوب جاويش بجوار مشهد السيدة زينب وتمموها هناك وأظهروا أيضًا الاهتمام بتحصيل مال الصرة وشرعوا في تحرير دفتر الإرسالية الخاصة.
واستهل شهر القعدة بيوم الأحد سنة 1213 في سادسه يوم الجمعة حضرت هجانة من الفرنسيس ومعهم مكاتبة مضمونها أنهم أخذوا حيفا وبعدها ركبوا على عكا وضربوا عليها وهدموا جانبًا من سورها وأنهم بعد أربعة وعشرين ساعة يملكونها وأنهم استعجلوا في إرسال هذه الهجانة لطول المدة والانتظار لئلا يحصل لأصحابهم القلق فكونوا مطمئنين وبعد سبعة أيام نحضر عندكم بسلام.
وفيه حضرت مغاربة حجاج الى بر الجيزة فتحدث الناس وكثر لغطهم وتقولوا بأنهم عشرون ألفًا حضروا لينقذوا مصر من الفرنسيس فأرسل الفرنسيس للكشف عليهم فوجدوهم طائفة من خلايا وقرى فاس مثل الفلاحين فأذنوا لهم في تعدية بعض أنفار منهم لقضاء أشغالهم فحضر شخص منهم الى الفرنسيس ووشى إليهم أنهم قدموا لمحاربهتم والجهاد فيهم وأنهم اشتروا خيلًا وسلاحًا وقصدهم إثارة فتنة فأرسل الفرنسيس إليهم جماعة ينظرون في أمرهم فذهبوا إليهم وتكلموا معهم ومع كبيرهم وعن الذي نقل عنهم فقالوا: إنما جئنا بقصد الحج لا لغيره.
ثم رجعوا وصحبتهم كبير المغاربة فعملوا الديوان في صبحها وأحضروه وكذلك أحضروا الرجل الذي وشى عليهم فتكلموا مع كبير المغاربة وسألوه وناقشوه فقال: إنا لم نأت إلا بقصد الحج فقيل له ولأي شيء تشترون الأسلحة والخيول فقال نعم لازم لنا ذلك ضرورة فقيل له إنه نقل عنكم أنكم تريدون محاربة الفرنساوية وتقولون الجهاد أفضل من الحج فقال هذا كلام لا أصل له فقيل له إن الناقل لذلك رجل منكم فقال إن هذا الرجل حرامي أمسكناه بالسرقة وضربناه فحمله الحقد على ذلك وإن هذه البلاد ليست لنا ولا لسلطاننا حتى نقاتل عليها ولا يصح أن نقاتلكم بهذه الشرذمة القليلة وليس معنا إلا نصف قنطار بارود ثم اتفقوا معه على أن يجمعوا سلاحهم ويقيم كبيرهم عندهم رهينة حتى يعدى جماعته ويسافروا ويلحقهم بعد يومين بالسلاح فأجابهم الى ذلك فشكروه وأهدوا له هدية فلما كان يوم السبت خرجت عدة من العسكر الى بولاق ومعهم مدفعان ليقفوا للمغاربة حتى يعدوا البحر ويمشوا معهم الى العادلية فلما رأى الناس خروج العسكر والمدافع فزعوا في المدينة وبولاق ورمحوا كعادتهم في كرشاتهم وصياحهم وأشاعوا أن الفرنسيس خرجت لقتال المغاربة فأغلقوا غالب الأسواق والدكاكين وأمثال ذلك من تخيلاتهم فلم يعد المغاربة ذلك اليوم وعدوا في ثاني يوم ومشى معهم عسكر الفرنسيس الى العادلية وهم يضربون الطبول وأمامهم مدفع وخلفهم مدفع مع جملة من العساكر.
وفي يوم الثلاثاء عاشره سافر عدة من عسكر الفرنسيس الى عرب الجزيرة فإن مصطفى بك كتخدا الباشا ذهب إليهم والتجأ لهم فعينوا عليهم تلك العساكر.
وفي يوم الأربعاء فرجوا عن جماعة من القليونجية وغيرهم الذين كانوا محبوسين بالقلعة وفيهم المعلم نقولا النصراني الأرمني الذي كان رئيس مركب مراد بك الحربية التي أنشأها بالجيزة وأسكنوه ببيت حسن كتخدا بباب الشعرية.
وفيه حضر بن شديد شيخ عرب الحويطات بأمان وكان عاصيًا فأعطوه الأمان وخلعوا عليه وسفروا معه قافلة دقيق وبقسماط العسكر بالشام.
وفي يوم السبت حادي عشرينه حضر مجلون من الناحية القبلية وصحبته أموال البلاد والغنائم من بهائم وخلافها.
وفيه عملوا كرنتيلة عند العادلية لمن يأتي من بر الشام من العسكر الى ناحية شرق اطفيح بسبب محمد بيك الألفي.
وفيه حضر الذين كانوا ذهبوا الى عرب الجزيرة فضربوهم ونالوا منهم بعض النيل وأما مصطفى بك فلم تعلم عنه حقيقة حال قيل إنه ذهب الى الشام.
وفي خامس عشرينه وصلت مراسلة من المذكور خطابًا للمشايخ بالشام ويرجون الإفراج عن قريبه وكتخدائه ويتحفظون على الأمتعة التي أخذوها فإنها من متعلقات الدولة فلما أطلعوهم على تلك المكاتبة قالوا لا يمكن الإفراج عن المذكورين حتى نتحقق أنه ذهب الى ساري عسكر ويأتينا منه خطاب في شأنه فإنه من الجائز أنه يكذب في قوله.
وفيه ثبت أن محمد بك الألفي مر من خلف الجبل وذهب الى عرب الجزيرة ومعه من جماعته نحو المائة وقيل أكثر والتف عليه الكثير من الغز والمماليك المشردين بتلك النواحي وقدم له وفي سابع عشرينه لخص الفرنساوية طومارًا قرئ بالديوان وطبع منه عدة نسخ وألصقت بالأسواق على العادة وكان الناس أكثروا من اللغط بسبب انقطاع الأخبار عن الفرنسيس المحاصرين لعكا والروايات عمن بالصعيد والكيلاني والأشراف الذين معه وغير ذلك.
وصورتها: من محفل الديوان الكبير بمصر بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين نخبر أهل مصر أجمعين أنه حضر جواب من عكا من حضرة ساري عسكر الكبير خطابًا منه الى حضرة ساري عسكر الوكيل بثغر دمياط تاريخه تاسع القعدة سنة تاريخه.
يخبر فيه أننا أرسلنا لكم نقيرتين لدمياط الأولى أرسلنا في خمسة وعشرين شوالًا والثانية في ثمانية وعشرين منه أخبرناكم فيهما عن مطلوبنا إرسال جانب جلل وذخائر الى عساكرنا المحافظين في غزة ويافا لأجل زيادة المحافظة والصيانة وأما من قبل العرضي فإن الجلل عندنا كثيرة والذخائر والمآكل والمشارب والخيرات غزيرة حتى أنها زادت عندنا الجلل بكثرة جمعناها مما رمته الأعداء فكأن أعداءنا أعانونا ونخبركم أننا عملنا لغمًا مقدار عمقه ثلاثون قدمًا وسرنا به حتى قربناه الى السور الجواني بمسافة نحو ثمانية عشر قدمًا وقد قربت عساكرنا من الجهة التي تحارب فيها حتى صار بينهم وبين السور ثمانية وأربعون قدمًا بمشيئة الله تعالى عند وصول كتابنا إليكم وقبل إتمام قراءته عليكم نكون ظافرين بملك قلعة عكا أجمعين فإننا تهيأنا الى دخولها يأتيكم خبر ذلك بعد هذا الكتاب وأما بقية إقليم الشام وما يلي عكا من البلاد فإنهم لنا طائعون وبالاعتناء ومزيد المحبة راغبون يأتوننا بكل خير عظيم ويحضرون لنا أفواجًا بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم وهذا من فضل الله علينا ومن شدة بغضهم الجزار باشا ونخبركم أيضًا أن الجنرال بونوت انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام خيالة ومشاة فقابلهم بثلثمائة عسكري مشاة من عسكرنا فكسروا التجريدة المذكورة وأوقع منهم نحو ستمائة نفس ما بين مقتول ومجروح وأخذ منهم خمسة بيارق وهذا أمر عجيب لم يقع نظيره في الحروب أن ثلثمائة نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة هذا آخر كتاب ساري عسكر الكبير الى وكيله بدمياط وأرسل إلينا بالديوان حضرة الوكيل ساري عسكر دوجا الوكيل بمصر المحروسة يخبرنا بصورة هذا المكتوب ويأمرنا أننا نلزم الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والإنصاف ويتركوا الكذب والخراف فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين فإن حضرة ساري عسكر دوجا الوكيل بلغه أن أهل مصر وأهل الأرياف يتكلمون بكلام لا أصل له من قبل الأشراف والحال أن الأشراف الذين يذكرونهم ويكذبون عليهم جاءت أخبارهم من حضرة ساري عسكر الصعيد يخبر الوكيل دوجا بأن الأشراف المذكورين الذين صحبة الكيلاني قد مزقوا كل ممزق وانهزموا وتفرقوا فلم يكن الآن في بلاد الصعيد شيء يخالف المراد وسلم من الفتن والعناد فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في الهلاك والتلاف وامسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار والأولى للعاقل اشتغاله بأمر دينه ودنياه وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله وقضاه فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يحاسب هذا شأن أهل الكمال يتركون القيل والقال ويشتغلون بإصلاح الأحوال ويرجعون الى الكبير المتعال والسلام.
وفي هذا الشهر كتبوا أوراقًا بأوامر ونصها: من محفل الديوان العمومي الى جميع سكان مصر وبولاق ومصر القديمة إننا قد تأملنا وميزنا أن الواسطة الأقرب والأيمن لتلطيف أو لمنع الخطر الضروري وهو تشويش الطاعون عدم المخالطة مع النساء المشهورات لأنهن الواسطة الأولى للتشويش المذكور فلأجل ذلك حتمنا ورتبنا ومنعنا الى مدة ثلاثين يومًا من تاريخه أعلاه لجميع الناس إن كان فرنساويًا أو مسلمًا أو روميًا أو نصرانيًا أو يهوديًا من أي ملة كان كل من أدخل الى مصر أو بولاق أو مصر القديمة النساء المشهورات إن كان في بيوت العسكر أو من كان داخل المدينة فيكون قصاصه بالموت كذلك من قبل النساء والبنات المشهورات بالعسكر إن دخلن من أنفسهن أيضًا يقاصصن بالموت.
من حوادث هذا الشهر أنه حضر الى القلزم مركبان انكليزيان وقيل أربعة ووقفوا قبالة السويس وضربوا مدافع ففر أناس من سكان السويس الى مصر وأخبروا بذلك أنهم صادفوا بعض داوات تحمل البن والتجارة فحجزوها ومنعوها من الدخول الى السويس.
ومنها أن طائفة من عرب البحيرة يقال لهم عرب الغز جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا الى الرحمانية ورشيد وهم يقتلون من يجدونه من الفرنسيس وغيرهم وينهبون البلاد والزروعات.
ومنها أن الكيلاني المذكور آنفًا توفي الى رحمة الله تعالى وتفرقت طائفته في البلاد حتى أنه حضر منهم جملة الى مصر وكان أكثر من يخامر عليهم أهل بلاد الصعيد فيوهمونهم معاونتهم وعند الحروب يتخلون عنهم وبعض البلاد يضيفون ويسلط عليهم الفرنسيس فيقبضون عليهم.
ومنها أنه حضر الى مصر الأكثر من عسكر الفرنسيس الذين كانوا بالجهة القبلية وضربوا في حال رجوعهم بني عدي من بلاد الصعيد مشهورة وكان أهلها ممتنعين عليهم في دفع المال والكلف ويرون في أنفسهم الكثرة والقوة والمنعة فخرجوا عليهم وقاتلوهم فملك عليهم الفرنسيس تلًا عاليًا وضربوا عليهم بالمدافع فأتلفوهم وأحرقوا جرونهم ثم كبسوا عليهم وأسرفوا في قتلهم ونهبهم وأخذوا شيئًا كثيرًا وأموالًا عظيمة وودائع جسيمة للغز وغيرهم من مساتير أهل البلاد القبلية لظن منعتهم وكذلك فعلوا بالميمون.
في ثانيه خرج نحو الألف من عسكر الفرنسيس للمحافظة على البلاد الشرقية لتجمع العرب والمماليك على الألفي وكذلك تجمع الكثير من الفرنسيس وذهبوا الى جهة دمنهور وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدعى المهدوية ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد وصحبته نحو الثمانين نفرًا فكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم الى الجهاد فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضروا الى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية واستمر أيامًا كثيرة تجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.
وفيه أشيع أن الألفي حضر الى بلاد الشرقية وقاتل من بها من الفرنسيس ثم ارتحل الى الجزيرة.
وفي سابعه حضر جماعة من فرنسيس الشام الى الكرنتيلة بالعادلية وفيهم مجاريح وأخبر عنهم بعضهم أن الحرب لم تزل قائمة بينهم وبين أحمد باشا بعكا وأن مهندس حروبهم المعروف بأبي خشبة عند العامة واسمه كفرللي مات وحزنوا لموته لأن كان من دهاتهم وشياطينهم وكان له معرفة بتدبير الحروب ومكايد القتال وإقدام عن المصاف مع ما ينضم لذلك من معرفة الأبنية وكيفية وضعها وكيفية أخذ القلاع ومحاصرتها.
وفي يوم الأربعاء كان عيد النحر وكان حقه يوم الخميس وعند الغروب من تلك الليلة ضربوا مدافع من القلعة أعلامًا بالعيد وكذلك عند الشروق ولم يقع في ذلك العيد أضحية على العادة لعدم المواشي لكونها محجزوة في الكرنتيلة في شغل عن ذلك.
ومن الحوادث في ذلك اليوم أن رجلًا روميًا من باعة الرقيق عنده غلام مملوك ساكن في طبقة بوكالة ذي الفقار بالجمالية خرج لصلاة العيد ورجع الى طبقته فوجد ذلك الغلام متقلدًا بسلاح ومتزييًا بمثل ملابس القليونجية فقال له من أين لك هذا اللباس فقال من عند جارنا فلان العسكري فأمره بنزع ذلك لم يستمع له ولم ينزعها فشتمه ولطمه على وجهه فخرج من الطبقة وحدثته نفسه بقتل سيده ورجع يريد ذلك فوجد عند سيده ضيفًا فلم يتجاسر عليه لحضور ذلك الضيف فوقف خارج الباب ورآه سيده فعرف من عينه الغدر فلما قام ذلك الضيف قام معه وخرج وأغلق الباب على الغلام فصعد الغلام على السطح وتسلق الى سطح آخر ثم تدلى بحبل الى أسفل الخان وخرج الى السوق وسيفه مسلول بيده ويقول: الجهاد يا مسلمين اذبحوا الفرنسيس ونحو ذلك من الكلام ومر الى جهة الغورية فصادف ثلاثة أشخاص من الفرنسيس فقتل منهم شخصًا وهرب الإثنان ورجع على إثره والناس يعدون خلفه من بعد الى أن وصل الى درب بالجمالية غير نافذ فدخله وعبر الى دار وجدها مفتوحة وربها واقف على بابها والفرنسيس تجمع منهم طائفة وظنوا ظنونًا أخر وبادروا الى القلاع وحضرت منهم طائفة من القلق يسألون عن ذلك المملوك وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم ثم لم تزل الفرنسيس تسأل عن ذلك المملوك والناس يقولون لهم ذهب من هنا حتى وصلوا الى ذلك الدرب فدخلوه فلما أحس بهم نزع ثيابه وتدلى ببئر في تلك الدار فدخلوا الدار وأخرجوه من البئر وأخذوه وسكنت الفتنة فسألوه عن أمره وما السبب في فعله ذلك.
فقال إنه يوم الأضحية فأحببت أن أضحي على الفرنسيس وسألوه عن السلاح فقال إنه سلاحي فجسوه لينظروا في أمره وطلبوا سيده فوجدوه عند الشيخ المهدي وأخذوا بعض جماعة من أهل الخان ثم أطلقوهم بدون شرر وأخذوا سيده من عند المهدي وحبسوه وحضر الآغا وبرطلمين الى الخان بعد العشاء وطلبوا البواب والخانجي والجيران وصعدوا الى الطباق وفتشوا على السلاح حتى قلعوا البلاط فلم يجدوا شيئًا وأرادوا فتح الحواصل فمنعهم السيد أحمد بن محمود محرم فخرجوا وأخذوا معهم الخانجي وجيران الطبقة وجملة أنفار وحبسوهم أيضًا وقتلوا المملوك في ثاني يوم واستمر الجماعة في الحبس الى أن أطلقوهم بعد أيام عديدة من الحادثة.
وفي ذلك اليوم أيضًا مر نصراني من الشوام على المشهد الحسيني وهو راكب على حمار فرآه ترجمان ضابط الخطة ويسمى السيد عبد الله فأمره بالنزول إجلالًا للمشهد على العادة.
فامتنع فانتهزه وضربه وألقاه على الأرض فذهب ذلك النصراني الى الفرنسيس وشكا إليهم السيد عبد الله المذكور فأحضروه وحبسوه فشفع فيه مخدومه فلم يطلقوه وادعى النصراني أنه كان بعيدًا عن المشهد وأحضر من شهد له بذلك وأن السيد عبد الله متهور في فعله وادعى أنه ضاع له وقت ضربه دراهم كانت في جيبه واستمر الترجمان محبوسًا عدة أيام حتى دفع تلك الدراهم وهي ستة آلاف درهم.
وفيه أرسل فرنسيس مصر الى رئيس الشام ميرة على جمال العرب نحو الثمانمائة جمل وذهب صحبتها برطلمين وطائفة من العسكر فأوصلوها الى بلبيس ورجعوا بعد يومين.
وفيه حضر الى السويس تسعة داوات بها بن وبهار وبضائع تجارية وفيها لشريف مكة نحو خمسمائة فرق بن وكانت الانكليز منعتهم الحضور فكاتبهم الشريف فأطلقوهم بعد أن حددوا عليهم أيامًا مسافة التنقيل والشحنة وأخذوا منهم عشورًا وسامح الفرنسيس بن الشريف من العشور لأنه أرسل لهم مكاتبة بسبب ذلك وهدية قبل وصول المراكب الى السويس بنحو عشرين يومًا وطبعوا صورتها في أوراق وألصقوها بالأسواق وهي خطاب لبوسليك.
من مات في هذه السنة من الأعيان ومن له ذكر في الناس مات الإمام العمدة الفقيه العلامة المحقق الفهامة المتقن المتفنن المتجرعين أعيان الفضاء الأزهرية الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي ولد ببني عدي سنة إحدى وأربعين ومائة وألف وبها نشأ فقرأ القرآن وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية حتى تمهر في العلوم وبهر فضله في الخصوص والعموم وكان له قريحة جيدة وحافظة غريبة يملي في تقريره خلاصة ما ذكره أرباب الحواشي مع حسن سبك والطلبة يكتبون ذلك بين يديه وقد جمع من تقاريره على عدة كتب كان يقرأها حتى صارت مجلدات وانتفع بها الطلبة انتفاعًا عامًا ودرس في حياة شيخه سنينًا عديدة واشتهر بالفتوح وكان الشيخ الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته وكان في اتصاف زائد وتؤدة ومروءة وتوجه الى الحق ولديه أسرار ومعارف وفوائد وتمائم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المئيني العددي والحرفي وطرائق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك ولما توفي الشيخ محمد حسن جلس موضعه للتدريس بإشارة من أهل الباطن ولما توفي الشيخ أحمد الدردير ولى مشيخة رواق الصعايدة وله مؤلفات منها مسائل كل صلاة بطلت على الإمام وغير ذلك.
ولم يزل على حالته وإفادته وملازمة دروسه والجماعة حتى توفي في هذه السنة ودفن في تربة المجاورين رحمة الله تعالى عليه.ومات
قرأ على والده وتفقه وأنجب ولم يزل ملازمًا لدروسه حتى توفي والده فتصدر للتدريس في محله.
واجتمعت عليه طلبة أبيه وغيرهم ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه ويأتي إليه الفلاحون من جيزة بلاده بقضاياها وخصوماتهم وأنكحتهم فيقضي بينهم ويكتب لهم الفتاوى في الدعاوى التي يحتاجون فيها الى المرافعة عند القاضي وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه ويسمعون لقوله ويمتثلون لأحكامه وربما أتوه بهدايا ودراهم.
واشتهر ذكره وكان جسيمًا عظيم اللحية فصيح اللسان ولم يزل على حالته حتى اتهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة ولم يعلم له قبر.
ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري تفقه على أشياخ العصر وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الأجهوري وغيرهم وتصدر للإقراء والتدريس والإفادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني ويحضر درسه فيه الجم الغفير من العامة ويستفيدون منه ويقرأ به كتب الحديث كالبخاري ومسلم وكان حسن الإلقاء سلس التقرير جيد الحافظة جميل السيرة مقبلًا على شأنه ولم يزل ملازمًا على حالته حتى اتهم في إثارة الفتنة وقتل بالقلعة شهيدًا بيد الفرنسيس في أواخر جمادى الأولى من السنة ولم يعلم له قبر.
ومات الشاب الصالح والنبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري.
حفظ القرآن والمتون وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي واليراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ أحمد العمروسي وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي وأنجب وأملى دروسًا بجامع الكردي بسويقة اللالا وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح ولم يزل ملازمًا على حاله حتى اتهم أيضًا في حادثة الفرنسيس وقتل مع من قتل شهيدًا بالقلعة.
ومات العمدة الشهير الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني تولى شيخًا على العميان المذكورين بعد وفاة الشيخ الشبراوي وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم أموالًا عظيمة وعقارات فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلًا وعينًا ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان فلا يجد بدًا من الدفع وإن كانت غلاله معطلة صالحة بما أحب من الثمن وله أعوان يرسلهم الى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة ويطحن منها على طواحينه دقيقًا ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود ويعجن نخالته خبزًا لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف الهار بالأسواق والأزقة وتغنيهم بالمدائح والخرافات وقراءة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك ومن مات منهم ورثة الشيخ المترجم المذكور وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت وفيهم من وجد له الموجود العظيم ولا يجد له معارضًا في ذلك واتفق أن الشيخ الحفني نقم عليه في شيء فأرسل إليه من أحضره موثوقًا مكشوف الرأس مضروبًا بالنعالات على دماغه وقفاه من بيته الى بيت الشيخ بالموسكي بين ملأ العالم ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته وتسمع كلمته ويقال قال الشيخ كذا وكذا وأمر الشيخ بكذا وصار يلبس الملابس والفراوي ويركب البغال وأتباعه محدقة به.
وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات واشترى السراري البيض والحبش والسود وكان يفرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على تولية كبر إثارة الفتنة التي أصابته وغيره وقتل فيمن قتل بالقلعة ولم يعلم له قبر وكان ابنه معوقًا ببيت البكري فلما علم بموته قلق وكاد يخرج من عقله خوفًا على ما يعلم مكانه من مال أبيه حتى خلص في ثاني يوم بشفاعة المشايخ ولم يكن مقصودًا بالذات بل حضر ليعود أباه فحجزه القومة عليهم زيادة في ومات الأجل المفوه العمدة الشيخ اسمعيل البراوي بن أحمد البراوي الشفعي الأزهري وهو ابن أخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر تصدر بعد وفاة والده في مكانه وكان قليل البضاعة إلا أنه تغلب عليه النباهة واللسانة والسلاطة والتداخل وذلك هو الذي أوقعه في حبائل الفرنساوية وقتل مع من قتل شهيدًا ولم يعلم له قبر غفر الله لنا وله.
ومات الوجيه الأجل الأمثل السيد محمد كريم وخبره أنه كان في أول أمره قبانيًا يزن البضائع في حانوت بالثغر وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة فلم يزل يتقرب الى الناس بحسن التودد ويستجلب خواطر حواشي الدولة وغيرهم: من تجار المسلمين والنصارى ومن له وجاهة وشهرة في أبناء جنسه حتى أحبه واشتهر ذكره في ثغر الإسكندرية ورشيد ومصر واتصل بصالح بك حتى كان وكيلًا بدار السعادة وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد وتملكها وضواحيها واسترق أهلها وقلد أمرها لعثمان خجا فاتحد به وبمخدومه السيد محمد المذكور واتصل بمراد بك بعد صالح آغا فتقرب إليه ووافق منه الغرض ورفع شأنه على أقرانه وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر ونفذت كلمته وأحكامه وتصدر لغالب الأمور وزاد في المكوسات والجمارك ومصادرات التجار خصوصًا من الإفرنج ووقع بينه وبين السيد شهبة الحادثة التي أوجبت له الاختفاء بالصهريج وموته فيه فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الاسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور وطالبوه بالمال وضيقوا عليه وحبسوه في مركب ولما حضروا الى مصر وطلعوا الى قصر مراد بك وفيها مطالعته بأخبارهم وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم فاشتد غيظهم عليه فأرسلوا وأحضروه الى مصر وحبسوه فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرار فلم يمكن الى أن كانت ليلة الخميس.
فحضر إليه مجلون وقال له: المطلوب منك كذا وكذا من المال وذكر له قدرًا يعجز عنه وأجله اثنتي عشرة ساعة وإن لم يحضر ذلك القدر وإلا يقتل بعد مضيها فلما أصبح أرسل الى المشايخ والى اسيد أحمد المحروقي فحضر إليه بعضهم فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث وصار يقول لهم اشتروني يا مسلمون وليس بيدهم ما يفتدونه به وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشيء يصيبه وذلك في مبادئ أمرهم فلما كان قريب الظهر وقد انقضى الأجل أركبوه حمارًا واحتاط به عدة من العسكر وبأيديهم السيوف المسلولة ويقدمهم طبل يضربون عليه وشقوا به الصليبة الى أن ذهبوا الى الرميلة وكتفوه وربطوه مشبوحًا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبوت وطافوا بها بجهات الرميلة والمنادي يقول: هذا جزاء من يخالف الفرنسيس ثم إن أتباعه أخذوا رأسه ودفنوها مع جثته.
وانقضى أمره وذلك يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول.
ومات الأمير ابراهيم بك الصغير المعروف بالوالي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب.
وتقلد الزعامة بعد موت أستاذه ثم تقلد الإمارة والصنجقية في أواخر جمادى الأولى سنة 1192.
وهو أخو سليمان بك المعروف بالآغا وعندما كان هو واليًا كان أخوه أغات مستحفظان وأحكام مصر والشرطة بينهما وفي سنة سبع وتسعين تعصب مراد بك وابراهيم بك على المترجم وأخرجوه منفيًا هو وأخوه سليمان بك وأيوب بك الدفتردار ولما أمروه بالخروج ركب في طوائفه ومماليكه وعدى الى بر الجيزة فركب خلفه علي بك أباظة ولاجين بك ولحقوا حملته عند المعادي فحجزوها وأخذوها وأخذوا هجنه ومتاعه وعدوا خلفه فأدركوه عند الأهرام فاحتالوا عليه وردوه الى قصر العيني ثم سفروه الى ناحية السرو ورأس الخليج فأقام بها أيامًا وكان أخوه سليمان بك بالمنوفية فلما أرسلوا بنفيه الى المحلة ركب بطوائفه وحضر الى مسجد الخضيري وحضر إليه أخوه المترجم وركبا معًا وذهبا الى جهة البحيرة ثم ذهبا الى طندتا ثم ذهبا الى شرقية بلبيس ثم توجها من خلف الجبل الى جهة قبلي وكان أيوب بك بالمنصورة فلحق بهما أيضًا وكان بالصعيد عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك فالتفا عليهما وعصى الجميع وأرسل مراد بك وابراهيم بك محمد كتخدا أباظة وأحمد آغا شويكار الى عثمان بك ومصطفى بك يطلبانهما الى الحضور فأبيا وقالا: لا نرجع الى مصر إلا بصحبة إخواننا وإلا فنحن معهم أينما كانوا ورجع المذكوران بذلك الجواب فجهزوا لهم تجريدة وسافر بها ابراهيم بك الكبير وضمهم وصالحهم وحضر بصحبة الجميع الى مصر فحنق مراد بك ولم يزل حتى خرج مغضبًا الى الجيزة ثم ذهب الى قبلي وجرى بينهما ما تقدم ذكره من إرسال الرسل ومصالحة مراد بك ورجوعه وإخراج المذكورين ثانيًا فخرجوا الى ناحية القليوبية وخرج مراد بك خلفهم ثم رجعوهم الى جهة الأهرام وقبض مراد بك عليهم ونفيهم الى جهة بحري وأرسل المترجم الى طندتا ثم ذهبوا الى قبلي خلا مصطفى بك وأيوب بك ثم رجعوا الى مصر بعد خروج مراد بك الى قبلي واستمر أمرهم على ما ذكر حتى ورد حسين باشا وخرج الجميع وجرى ما تقدم ذكره وتولى المترجم إمارة الحاج ولم يسافر به ولما رجعوا الى مصر بعد الطاعون وموت اسمعيل بك ورجب بك صاهره ابراهيم بك الكبير وزوجه ابنته كما تقدم ولم يزل في سيادته وإمارته حتى حضر الفرنساوية ووصلوا الى بر انبابة ومات هو في ذلك اليوم غريقًا ولم تظهر رمته وذلك يوم السبت سابع صفر من السنة.
ومات الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية وأصله مملوك سليمان أفندي من خشداشين كتخدا ابراهيم القازدغلي وكان سيده المذكور رغب عن الإمارة ورضي بحاله وقنع بالكفاف ورغب في معاشرة العلماء والصلحاء وفي الانجماع عن أبناء جنسه والتداخل في شؤونهم وكان يأتي في كل يوم الى الجامع الأزهر ويحضر دروس العلماء ويستفيد من فوائدهم ولازم دروس الشيخ أحمد السليماني من الفقه الحنفي الى أن مات فتقيد بحضور تلميذه الشيخ أحمد الغزي كذلك واقترن في حضوره بالشيخ عبد الرحمن العريشي وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة مجردًا عن العلائق فكان يعيد معه الدروس فاتحد به لما رأى فيه من النجابة فجذبه الى داره وكساه وواساه واستمر يطالع معه في الفقه ويعيد معه الدروس ليلًا وزوجه وأغدق عليه وكان هو مبدأ زواجه ولم يزل ملازمًا حتى توفي سليمان أفندي المذكور في سنة 1175 فتزوج المترجم بزوجة سيده واستمر هو وخشداشه الأمير أحمد بمنزل أستاذهما وتتوق نفس المترجم للترفع والإمارة فتردد الى بيوت الأمراء كغيره من الأجناد فقلده علي بك الكبير كشوفية شرق أولاد يحيى في سنة 1182 فتقلدها بشهامة وقتل البغاة وأخاف الناحية وجمع منها أموالًا واستمر حاكمها بها الى أن خالف محمد بك أبو الذهب على سيده علي بك.
وخرج من مصر الى الجهة القبلية فلما وصل الى الناحية كان المترجم أول من أقبل عليه بنفسه وما معه من المال والخيام فسر به محمد بك وقربه وأدناه ولم يزل ملازمًا لركابه حتى جرى ما جرى وتملك محمد بك الديار المصرية فقلده أغاوية المتفرقة أيامًا قليلة ثم خيره في تقليد الصنجقية أو كتخدا الجاويشية فقال له حتى استخير في ذلك وحضر الى المرحوم الشيخ الوالد وذكر له ذلك فأشار عليه بأن يتقلد كتخدا الجاويشية فإنه منصب جليل واسع الإيراد وليس على صاحبه تعب ولا مشقة غفر ولا سفر تجاريد ولا كثرة مصايف فكان كذلك وذلك في سنة ست وثمانين وسكن ببيت سليمان آغا كتخدا الجاويشية بدرب الجماميز على بركة الفيل ونما أمره واتسع حاله واشتهر وانتظم في عداد الأمراء ولم يزل على ذلك الى أن مات محمد بك فاستقل بإمارة مصر ابراهيم بك ومراد بك فكان المترجم ثالثهما واتحد بابراهيم بك اتحادًا عظيمًا حتى كان ابراهيم بك لا يقدر على مفارقته ساعة زمانية وصار معه كالأخ الشقيق والصاحب الشفيق وصار في قبول ووجاهة عظيمة وكلمة نافذة في جميع الأمور ولم يزل على ذلك حتى حضر حسن باشا بالصورة المتقدمة وخرج ابراهيم بك ومراد بك وباقي الأمراء فتخلف عنهم المترجم وقد كان راسل حسن باشا سرًا فلما استقر حسن باشا أقبل عليه وسلمه مقاليد الأمور وقلده الصنجقية وأضاف إليه الدفتردارية وفوض إليه جميع الأمور الكلية والجزئية فانحصرت فيه رياسة مصر وصار عزيزها وأميرها ووزيرها وقائد جيوشها ولا يتم أمر إلا عن مشورته ورأيه واجتمع ببيته الدواوين وقلد الأمريات والمناصب كما يختار وقرب وأدنى وأبعد وأقصى من يختار واشتهر ذكره في إقليم مصر والشام والروم وأشار بتقليد مراد كاشف الصنجقية وإمارة الحاج وسموه محمد بك المبدول كراهة في اسم مراد واشتهر بالمبدول ونجز له لوازم الحاج والصرة في أيام قليلة وسافر بالحاج على النسق المعتاد وشهل أيضًا التجاريد والعساكر خلف ولما استهل رمضان أرسل لجميع الأمراء والأعيان البلكات والكساوي لهم ولحريمهم ومماليكهم بالأحمال وكذلك الى العلماء والمشايخ حتى الفقهاء الخاملين المحتاجين وظن أن الوقت قد صفا له ولم يزل على ذلك حتى استقر اسمعيل بك وسافر حسن باشا وظهر له أمر حسن بك الجداوي وخشداشينه أخذ يناكد المترجم ويعارضه في جميع أموره وهو يسامح له في كل ما يتعرض له فيه ويساير حاله بينهم ويكظم غيظه ويكتم قهره وهو مع ذلك وافر الحرمة واعتراه صداع في رأسه وشقيقة زاد ألمه بها ووجعه أشهرًا وأتلف إحدى عينيه وعوفي قليلًا واستمر على ذلك حتى وقع الطاعون بمصر سنة خمس ومات ابن له مراهق أحزنه موته وكذلك ماتت زوجته وأكثر جواريه ومماليكه ومات اسمعيل بك وأمراؤه ومماليكه ورضوان بك العلوي وبقي هو وحسن بك الجداوي فتجاذبا الإمارة ولم يرض أحدهما بالآخر فوقع الاتفاق على تأمير عثمان بك طبل تابع اسمعيل بك ظنًا منهما أنه يصلح لذلك وأنه لا يمالئ الأعداء فكان الأمر بخلاف ذلك وكره الإمارة هو أيضًا لمناكدة حسن بك له وراسل الأمراء القبليين سرًا حتى حضر وأعلى الصورة المتقدمة وقصد حسن بك وعلي بك الاستعداد لحربهم وخرجوا الى ناحية طرا وتأهبوا لمبارزتهم وصار عثمان بك يثبطهما ويظهر لهما أنه يدبر الحيل والمكايد ولم يعلما ضميره ولم يخطر ببالهما ولا غيرهما خيانته.
بل كان كل منهما يظن بالآخر حتى حصل ما تقدم ذكره في محله وفر المترجم وحسن بك الى ناحية قبلي فاستمر هناك مدة ثم انفصل عن حسن بك وسافر من القصير الى بحر القلزم وظلع الى المويلح وأرسل بعض ثقاته فأخذ بعض الاحتياجات سرًا وذهب من هناك الى الشام واجتمع بأحمد باشا الجزار ونزل بحيفا وأقام بها مدة راسل الدولة في أمره فطلبوه إليهم فلما قرب من اسلامبول أرسلوا إليه من أخذه وذهب به الى برصا فأقام هناك وعينوا له كفايته في كل شهر وولد له هناك أولاد ثم أحضروه في حادثة الفرنسيس وأعطوه مراسيم الى ابراهيم باشا ساري عسكر في ذلك الوقت فلما وصل بيروت راسل أحمد باشا وأراد الاجتماع به وعلم أحمد باشا ما بيده من المرسومات الى ابراهيم باشا فتنكر له وانحرف طبعه منه وأرسل إليه يأمره بالرحيل وصادف ذلك عزل ابراهيم باشا فارتحل مقهورًا الى نابلس فمات هناك بقهره وحضر من بقي من مماليكه الى مصر وسكنوا بداره التي بها مملوكه عثمان كاشف وابنته التي تركها بمصر صغيرة وقد كبرت وتأهلت للزواج فتزوج بها خازنداره الذي حضر وهو الى الآن مقيم معها صحبة خشداشينه ببيتها الذي بدرب الحجر.
وكان المترجم أميرًا لا بأس به يميل الى فعل الخير حسن الاعتقاد ويحب أهل العلم والفضائل ويعظمهم ويكرمهم ويقبل شفاعاتهم وفيه رقة طبع وميل للخلاعة والتجاهر غفر الله له وسامحه.
ومات أيضًا الأمير أيوب بك الدفتردار وهو من مماليك محمد بك تولى الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه وقد تقدم ذكره غير مرة وكان ذا دهاء ومكر ويتظاهر بالانتصار للحق وحب الأشراف والعلماء ويشتري المصاحف والكتب ويحب المسامرة والمذاكرة وسير المتقدمين.
ويواظب على اصلاة في الجماعة ويقضي حوائج السائلين والقاصدين بشهامة وصرامة وصدع للمعاند خصوصًا إذا كان الحق بيده ويتعلل كثيرًا بمرض البواسير وسمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدل على ذلك وعلى موته في حربهم.
ولما حصل ذلك وحضروا الى بر انبابة عدى المترجم قبل بيومين وصار يقول أنا بعت نفسي في سبيل الله فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعدما توضأ وصلى ركعتين وركب في مماليكه.
وقال اللهم إني نويت الجهاد في سبيلك واقتحم مصاف الفرنساوية وألقى نفسه في نارهم.
واستشهد في ذلك اليوم وهي منقبة اختص بها دون أقرانه بل ودون غيرهم من جميع أهل مصر.
ومات الأمير صالح بك أمير الحاج في تلك السنة وهو أيضًا من مماليك محمد بك أبي الذهب وتولى زعامة مصر بعد ابراهيم بك الوالي وأحسن فيها السيرة ولم يتشك منه أحد ولم يتعرض لأحد بأذية وتقلد أيضًا كتخدا الجاويشية عندما خرج ابراهيم بك مغاضبًا لمراد بك.
وكان خصيصًا به فلما اصطلحا ورجع ابراهيم بك وعلي آغا كتخدا الجاويشية تقلد على منصبه كما كان واستمر المترجم بطالًا لكنه وافر الحرمة معدودًا في الأعيان ولما خرجوا من مصر في حادثة حسن باشا أرسله وخشداشينه الى الروم وكاد يتم لهم الأمر فقبض عليه حسن باشا وكان إذ ذاك بالعرضي في السفر ولما رجعوا الى مصر بعد موت اسمعيل بك سكن ببيت البارودي وتزوج بزوجته وهي أم أيوب التي كان سرية مراد بك ثم سافر ثانيًا الى الروم بمراسلة وهدية وقضى أشغاله ورجع بالوكالة وأخذ بيت الحبانية من مصطفى آغا وعزله من وكالة دار السعادة وسكن بالبيت واختص بمراد بك اختصاصًا زائدًا وبنى له دارًا بجانبه بالجيزة وصار لا يفارقه قط وصار هو بابه الأعظم في المهمات وكان فصيح اللسان مهذب الطبع يفهم بالإشارة يظن من يراه أنه من أولاد العرب لطلاقة لسانه وفصاحة كلامه ويميل بطبعه الى الخلاعة وسماع الألحان والأوتار ويعرف طرقها ويباشر الضرب عليها بيده ثم ولي الصنجقية وتقلد إمارة الحج سنة 1213 وتمم أشغاله وأموره ولوازمه على ما ينبغي وطلع بالحج في تلك السنة في أبهة عظيمة على القانون القديم في أمن وأمان ورخاء وسخاء وراج موسم التجار في تلك السنة الى الغاية وفي أيام غيابه بالحج وصل الفرنساوية الى القطر المصري وطار إليهم الخبر بسطح العقبة وأرسلوا من مصر مكاتبة بالأمان وحضوره بالحج في طائفة قليلة فأرسل إليهم ابراهيم بك يطلبهم الى بلبيس فعرج المترجم بالحاج الى بلبيس وجرى ما تقدم ذكره ولم يزل حتى مات بالديار الشامية وبعد مدة أرسلت زوجته فأحضرت رمته ودفنتها بمصر بتربة المجاورين.
ومات العمدة الفاضل والتحرير الكامل الفقيه العلامة السيد مصطفى الدمنهوري الشافعي تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية.
واشتهر بنسبته إليه ولما ولي مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند الأكابر والأعيان وكان عاقلًا ذكيًا وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية وكان يكتب على الفتاوي على لسان شيخه المذكور ويتحرى الصواب وعبارته سلسة جيدة وكان له شغف بكتب التاريخ وسير المتقدمين واقتنى كتبًا في ذلك مثل كتاب السلوك والخلط للمقريزي وأجزاء من تاريخ العيني والسخاوي وغير ذلك ولم يزل حتى ركب يومًا بغلته وذهب لبعض أشغاله فلما كان بخطة الموسكي قابله خيال فرنساوي يخج فرسه فجفلت بغلة السيد مصطفى المذكور وألقته من على ظهرها وصادف حافر فرس الفرنساوي أذنه فرض صماخه فلم ينطق ولم يتحرك فرفعوه في تابوت الى منزله ومات من ليلته رحمه الله.
ومات عبد الله كاشف الجرف وهو عبد اسمعيل كاشف الجرف تابع عثمان بك ذي الفقار الكبير وكان معروفًا بالشجاعة والإقدام كسيده وأدرك بمصر إمارة وسيادة ونفاذ كلمة.
واشترى المماليك الكثيرة والخيول المسومة والجواري والعبيد وعنده عدة من الأجناد والطوائف وعمر دارًا عظيمة داخل الدرب المحروق ولم يزل حتى قتل يوم السبت تاسع صفر بحرب الفرنساوية بانبابة وكان جسيمًا أسود ذا شهامة وفروسية مشهورة وجبروت.
ثم دخلت سنة أربع عشر ومائتين وألف استهل شهر المحرم بيوم الأربعاء فيه حضر جماعة من الفرنسيس الى العادلية فضربوا خمسة مدافع لقدومهم فلما كان في ثاني يوم عملوا الديوان وأبرزوا مكتوبًا مترجمًا ونسخته: صورة جواب من العرضي قدام عكا وفي سابع عشرين فريبال الموافق لحادي عشر شهر الحجة 1213 من بونابارته ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية الى محفل ديوان مصر نخبركم عن سفره من بر الشام الى مصر فإني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم نسافر بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه ونصل عندكم بعد خمسة عشر يومًا وجائب معي جملة محابيس بكثرة وبيارق ومحقت سراية الجزار وسور عكا وبالقنبر هدمت البلد ما أبقيت فيها حجرًا على حجر وجميع سكانها انهزموا من البلد الى طريق البحر والجزار مجروح ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت ومن جملة ثلاثين مركبًا موسوقة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا وأخذنا منها أربعة موقرة مدافع والذي أخذ هذه الأربعة فرقاطة من بتوعنا والباقي تلف وتبهدل والغالب منهم عدم وإني بغاية الشوق الى مشاهدتكم لأني بشوف أنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم لكن جملة فلاتية دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس ومنتوره مات من تشويش هذا الرجل صعب علينا جدًا والسلام.
منتوره هذا ترجمان ساري عسكر وكان لبيبًا متبحرًا ويعرف باللغة التركية والعربية والرومية والطلياني والفرنساوي ولما عجز الفرنساوية عن أخذ عكا وعزموا على الرجوع الى مصر أرسل بونابارته مكاتبة الى الفرنساوية المقيمين بمصر يقول فيها إن الأمر الموجب للانتقال عن محاصرة عكا خمسة عشر سببًا.
الأول الإقامة تجاه البلدة وعدم الحرب ستة أيام الى أن جاءت الانكليز وحصنوا عكا باصطلاح الإفرنج.
الثاني الستة مراكب التي توجهت من الاسكندرية فيها المدافع الكبار أخذها الانكليز قدام يافا.
الثالث الطاعون الذي وقع في العسكر ويموت كل يوم خمسون وستون عسكريًا.
الرابع عدم الميرة لخراب البلاد قريب عكا.
السادس بلغنا توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد.
السابع المغربي محمد الذي صار له جيش كبير وادعى أنه من سلاطين المغرب.
الثامن ورود الانكليز تجاه الاسكندرية ودمياط.
التاسع ورود عمارة الموسقو قدام رودس.
العاشر ورود خبر نقض الصلح بين الفرنساوية والنيمساء.
الحادي عشر ورود جواب مكتوب منا لتيبو أحد ملوك الهند كنا أرسلناه قبل توجهنا لعكا.
وتيبو هذا هو الذي كان حضر الى اسلامبول بالهدية التي من جملتها طائران يتكلمان بالهندية والسرير والمنبر من خشب العود وطلب منه الإمداد والمعاونة على الانكليز المحاربين له في بلاده فوعدوه ومنوه وكتبوا له أوراقًا وأوامر وحضر الى وذلك في سنة 1202 أيام السلطان عبد الحميد وقد سبقت الإشارة إليه في حوادث تلك السنة وهو رجل كان مقعدًا تحمله أتباعه في تخت لطيف بديع الصنعة على أعناقهم ثم إنه توجه الى بلاد فرانسا واجتمع بسلطانها وذلك قبل حضوره الى مصر واتفق معه على أمر في السر لم يطلع أحد غيرهما ورجع الى بلاده على طريق القلزم فلما قدم الفرنساوية لمصر كاتبه كبيرهم بذلك السر لأنه اطلع عليه عند قيام الجمهور وتملكه خزانة كتب السلطان ثم إن تيبو المذكور بقي في حرب الانكليز الى أن ظفروا به الثاني عشر موت كفرللي الذي عملت المتاريس بمقتضي رأيه وإذا تولى أمرها غيره يلزم نقضها ويطول الأمر وكفرللي هذا هو المعروف بأبي خشبة المهندس.
الثالث عشر سماع أن رجلًا يقال له مصطفى باشا أخذه الانكليز من اسلامبول ومرادهم أن يرموه على بر مصر.
الرابع عشر أن الجزار أنزل ثقله بمراكب الانكليز وعزم على أنه عندما تملك البلد ينزل في مراكبهم ويهرب معهم.
الخامس عشر لزوم ومحاصرة عكا ثلاثة شهور أو أربعة وهو مضر لكل ما ذكرناه من الأسباب انتهى.وفي
وحضرت مكاتبة من كبير الفرنساوية أنه وصل الى اصالحية وأرسل دوجا الوكيل ونبه على الناس بالخروج لملاقاته بموجب ورقة حضرت من عنده يأمر بذلك.
فلما كان ليلة الجمعة عاشره أرسلوا الى المشايخ والوجاقات وغيرهم فاجتمعوا بالأزبكية وقت الفجر بالمشاعل ودقت الطبول وحضر الحكام والقلات بمواكب وطبول وزمور ونوبات تركية وطبول شامية وملازمون وجاويشية وغير ذلك وحضر الوكيل وقائمقام وأكابر عساكرهم وركبوا جميعًا بالترتيب من الأزبكية الى أن خرجوا الى العادلية فقابلوا ساري عسكر بونابارته هناك وسلموا عليه ودخل معهم الى مصر من باب النصر بموكب هائل بعساكرهم وطبولهم وزمورهم وخيولهم وعرباتهم ونسائهم وأطفالهم في نحو خمس ساعات من النهار الى أن وصل الى داره بالأزبكية وانفض الجمع وضربوا عدة مدافع عند دخولهم المدينة وقد تغيرت ألوان العسكر القادمين واصفرت ألوانهم وقاسوا مشقة عظيمة من الحر والتعب وأقاموا على حصار عكا أربعة وستين يومًا حربًا مستقيمًا ليلًا ونهارًا وأبلى أحمد باشا وعسكره بلاء حسنًا وشهد له الخصم.
وفيه قبضوا على اسمعيل القلق الخربطلي وهو المتولي كتخدا العزب وكان ساكنًا بخط الجمالية وأخذوا سلاحه وأصعدوه الى القلعة وحبسوه والسبب في ذلك أنه عمل في تلك الليلة وليمة ودعا أحبابه وأصدقاءه وأحضر لهم آلات اللهو والطرب وبات سهرانًا بطول الليل فلما كان آخر الليل غلب عليهم السهر والسكر فناموا الى ضحوة النهار وتأخر عن الملاقاة فلما أفاق ركب ولاقاهم عند باب النصر فنقموا عليه بذلك وفعلوا معه ما ذكر ولما وصل ساري عسكر الفرنساوية الى داره بالأزبكية تجمع هناك أرباب الملاهي والبهالوين وطوائف الملاعبين والحواة والقرادين والنساء الراقصات والخلابيض ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم واستمروا على ذلك ثلاثة أيام وفي كل يوم من تلك الأيام يعملون شنكًا وحراقات ومدافع وسواريخ ثم انفض الجمع بعد ما أعطاهم ساري عسكر دراهم وبقاشيش.
وفي يوم الأحد عزلوا دستان قائمقام وتولى عوضه دوجا الذي كان وكيلًا عن ساري عسكر.
وتهيأ المعزول للسفر الى جهة بحري وأصبح مسافرًا وصحبته نحو الألف من العسكر وسافر أيضًا منهم طائفة الى جهة البحيرة.
وفيه طلبوا من طوائف النصارى دراهم سلفة مقدار مائة وعشرين ألف ريال.
وفي خامس عشره أرسلوا الى زوجات حسن بك الجداوي وختموا على دورهن ومتاعهن وطالبوهن بالمال وذلك لسبب أن حسن بك التف على مراد بك وصار يقاتل الفرنسيس معه.
وقد كانت الفرنسيس كاتبت حسن بك وأمنته وأقرته على ما بيده من البلاد وأن لا يخالف ويقاتل مع الأخصام فلم يقبل منهم ذلك فلما وقع لنسائه ذلك ذهبن الى الشيخ محمد المهدي ووقعن عليه فصالح عليهن بمبلغ ثلاثة آلاف فرانسة.
وفي تاسع عشره هلك مخاييل كحيل النصراني الشامي وهو من رجال الديوان الخصوصي فجأة وذلك لقهره وغمه وسبب ذلك أنهم قرروا عليه في السلفة ستة آلاف ريال فرانسة وأخذ في تحصيلها ثم بلغه أن أحمد باشا الجزار قبض على شريكه بالشام واستصفى ما وجده عنده من وفيه كتبوا أوراقًا وطبعوها وألصقوها بالأسواق وذلك بعد أن رجعوا من الشام واستقروا وهي من ترصيف وتنميق بعض الفصحاء.
وصورتها: من محفل الديوان الخصوصي بمحروسة مصر خطابًا لأقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحيرة النصيحة من الإيمان قال تعالى في محكم القرآن: ولا تتبعوا خطوات الشيطان وقال تعالى وهو أصدق القائلين في الكتاب المكنون: ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فعلى العاقل أن يتدبر في الأمور قبل أن يقع في المحذور نخبركم معاشر المؤمنين أنكم لا تسمعوا كلام الكاذبين فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وقد حضر الى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية حضرة بونابارته محب الملة المحمدية ونزل بعسكره في العادلية سليمًا من العطب والأسقام ودخل الى مصر من باب النصر يوم الجمعة في موكب عظيم وشنك جليل فخيم وصحبته العلماء والوجاقات السلطانية وأرباب الأقلام الديوانية وأعيان التجار المصرية وكان يومًا عظيمًا مشهودًا وخرجت أهل مصر لملاقاته فوجدوه وهو الأمير الأول بذاته وصفاته وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه شرح الله صدره للإسلام والذي أشاع عنه الأخبار الكاذبة العربان الفاجرة والغز الهاربة ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية وتدمير أهل الملة الإسلامية وتعطيل الأموال الديوانية لا يحبون راحة العبيد وقد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم أن بطش ربك لشديد وقد بلغنا أن الألفي توجه الى الشرقية مع بعض المجرمين من عربان بلي والعيايدة الفجرة المفسدين يسعون في الأرض بالفساد وينهبون أموال المسلمين إن ربك لبالمرصاد ويزورون على الفلاحين المكاتيب الكاذبة ويدعون أن عساكر السلطان حاضرة والحال أنها ليس بحاضرة فلا أصل لهذا الخبر ولا صحة لهذا الأثر وإنما مرادهم وقوع الناس في الهلاك والضرر مثل ما كان يفعل ابراهيم بك في غزة حيث كان ويرسل فرمانات بالكذب والبهتان ويدعي أنها من طرف السلطان ويصدقه أهل الأرياف خسفاء العقول ولا يقرأون العواقب فيقعون في المصائب وأهل الصعيد طردوا الغز من بلادهم خوفًا على أنفسهم وهلاك عيالهم وأولادهم فإن المجرم يؤخذ مع الجيران وقد غضب الله على الظلمة ونعوذ بالله من غضب الديان فكان أهل الصعيد أحسن عقلًا من أهل بحري بسبب هذا الرأي السديد ونخبركم أن أحمد باشا الجزار سموه بهذا الاسم لكثرة قتله الأنفس ولا يفرق بين الأخيار والأشرار وقد جمع الطموش الكثيرة من العسكر والغز والعرب وأسافل العشيرة وكان مراده الاستيلاء على مصر وأقاليمها وأحبوا اجتماعهم عليه لأجل أخذ أموالها وهتك حريمها ولكن لم تساعده الأقدار والله يفعل ما يشاء ويختار وقد كان أرسل بعض هذه العساكر الى قلعة العريش ومراده أن يصل الى قطيا فتوجه حضرة ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية وكسر عسكر الجزار الذين كانوا في العريش ونادوا: الفرار الفرار بعدما حصل بعسكرهم القتل والدمار وكانوا نحو ثلاثة آلاف وملك قلعة العريش وأخذ غزة وهرب من كان فيها وفروا ولما دخل غزة نادى في رعيتها بالأمان وأمر بإقامة الشعائر الإسلامية وإكرام العلماء والتجار والأعيان ثم انتقل الى الرملة وأخذ ما فيها من بقسماط وأرز وشعير وقرب أكثر من ألفي قربة كبار كان قد جهزها الجزار لذهابه الى مصر ثم توجه الى يافا وحاصرها ثلاثة أيام ثم أخذها وأخذ ما فيها من ذخائر الجزار بالتمام ومن نحوسات أهلها أنهم لم يرضوا بأمانه ولم يدخلوا تحت طاعته وإحسانه فدور فيهم السيف من شدة غيظه وقوة بأسه وسلطانه وقتل منهم نحو أربعة آلاف أو يزيدون بعدما هدم سورها وأكرم من كان بها من أهل مصر وأطعمهم وكساهم وجهزهم في المراكب الى مصر وغفرهم بعسكره خوفًا عليهم من العربان وأجزل عطاياهم وكان في يافا نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار هلكوا جميعًا وبعضهم ما نجاه إلا الفرار ثم توجه من يافا الى جبل نابلس فكسر من كان فيه من العساكر بمكان يقال له فاقوم وحرق خمسة بلاد من بلادهم وما قدر كان ثم أخرب سور عكا وهدم قلعة الجزار التي كانت حصينة لم يبق فيها حجر على حجر حتى إنه يقال كان هناك مدينة وقد كان بني حصارها وشيد بنيانها في نحو عشرين من السنين وظلم في بنيانها عباد الله وهكذا عاقبة بنيان الظالمين ولما توجه إليه أهل بلاد الجزار من كل ناحية كسرهم كسرة شنيعة فهل ترى لهم من باقية نزل عليهم كصاعقة من السماء ثم توجه راجعًا الى مصر المحروسة لأجل شيئين: الأول: أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر والوعد عند الحردين.
والسبب الثاني: أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحركون في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان فلما حضر سكنت الفتنة وزالت الأشرار والفجرة من الرعية وحبه لمصر وأقاليمها شيء عجيب ورغبته في الخير لأهلها ونيلها بفكره وتدبيره المصيب ويرغب أن يجعل فيها أحسن التحف والصناعة ولما حضر من الشام أحضر معه جملة من الأسارى من خاص وعام وجملة مدافع وبيارق اغتنمها في الحروب من الأعداء والأخصام فالويل كل الويل لمن عاداه والخير كل الخيرلمن والاه فسلموا يا عباد الله وارضوا بتقدير الله وامتثلوا لأحكام الله ولا تسعوا في سفك دمائكم وهتك عيالكم ولا تتسببوا في نهب أموالكم ولا تسمعوا كلام الغز الهربانين الكاذبين ولا تقولوا إن في الفتنة إعلاء كلمة الدين حاشا الله لم يكن فيها إلا الخذلان وقتل الأنفس وذل أمة النبي عليه الصلاة والسلام.
والغز والعربان يطمعوكم ويغروكم لأجل أن يضروكم فينهبوكم وإذا كانوا في بلد وقدمت عليهم الفرنسيس فروا هاربين منهم كأنهم جند إبليس ولما حضر ساري عسكر الى مصر أخبر أهل الديوان من خاص وعام أنه يحب دين الإسلام ويعظم النبي عليه الصلاة والسلام ويحترم القرآن ويقرأ منه كل يوم بإتقان وأمر بإقامة شعائر المساجد الإسلامية وإجراء خيرات الأوقاف السلطانية وأعطى عوائد الوجاقلية وسعى في حصول أقوات الرعية فانظروا هذه الألطاف والمزية ببركة نبينا أشرف البرية وعرفنا أن مراده أن يبني لنا مسجدًا عظيمًا بمصر لا نظير له في الأقطار وأنه يدخل في دين النبي المختار عليه أفضل الصلاة وأتم السلام انتهى بحروفه.
وكان أشيع بمصر قبل مجيئهم وعودهم من الشام بأن ساري عسكر بونابارته مات بحرب عكا وتناقله الناس وأنهم ولوا أخلافه فهذا هو السبب في قولهم في ذلك الطومار: وقد حضر سليمًا من العطب فوجدوه هو الأمير الأول بذاته وصفاته الى آخر السياق المتقدم.
وفي ثاني عشرينه أرسل ساري عسكر جماعة من العسكر وقبضوا على ملا زاده ابن قاضي العسكر ونهبوا بعضًا من ثيابه وكتبه وطلعوا به الى القلعة فانزعج عليه عياله وحريمه ووالدته انزعاجًا شديدًا وفي صبحها اجتمع أرباب الديوان بالديوان وحضر إليهم ورقة من كبير الفرنسيس قرئت عليهم مضمونها أن ساري عسكر قبض على ابن القاضي وعزله وأنه وجه إليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخًا من العلماء يكون من أهل مصر ومولودًا بها يتولى القضاء ويقضي بالأحكام الشرعية كما كانت الملوك المصرية يولون القضاء برأي العلماء للعلماء فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم: إننا جميعًا نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي فإنه إنسان غريب ومن أولاد الناس الصدور وإن كان والده وافق كتخدا الباشا في فعله فولده مقيم تحت أمانكم والمرجو انطلاقه وعوده الى مكانه فإن والدته وجدته وعياله في وجد وحزن عظيم عليه وساري عسكر من أهل الشفقة والرحمة وتكلم الشيخ السادات بنحو ذلك وزاد في القول بأن قال: وأيضًا إنكم تقولوا دائمًا إن الفرنساوية أحباب العثمانية وهذا ابن القاضي من طرف العثملي فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم وخصوصًا عند العامة فأجاب الوكيل بعدما ترجم له الترجمان بقوله لا بأس بالشفاعة ولكن بعد تنفيذ أمر ساري عسكر في اختيار قاض خلافه وألا تكونوا مخالفين ويلحكم الضرر بالمخالفة فامتثلوا وعملوا القرعة فطلعت الأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي ثم كتبوا عرضحال بصورة المجلس والشفاعة وكتب عليه الحاضرون وذهب به الوكيل الى ساري عسكر وعرفه بما حصل وبما تكلم به الشيخ السادات فتغير خاطره عليه وأمر بإحضاره آخر النهار فلما حضر لامه وعاتبه فتكلم بينهما الشيخ محمد المهدي ووكيل الديوان الفرنساوي بالديوان حتى سكن غيظه وأمره بالانصراف الى منزله بعد أن عوقه حصة من الليل فلما أصبح يوم الجمعة عملوا جمعية في منزل دوجا قائمقام وركبوا صحبته الى بيت ساري عسكر ومعهم الشيخ أحمد العريشي فألبسه فروة مثمنة وركبوا جميعًا الى المحكمة الكبيرة بين القصرين ووعدهم بالإفراج عن ابن القاضي بعد أربع وعشرين ساعة وقد كانت عياله انتقلوا من خوفهم الى دار السيد أحمد المحروقي وجلسوا عنده ولما كان في ثاني يوم أفرجوا عنه ونزل الى عياله وصحبته أرباب الديوان والآغا ومشوا معه في وسط المدينة ليراه الناس ويبطل القيل والقال.
وفي تلك الليلة قتلوا شخصين: أحدهما علي جاويش رئيس الريالة الذي كان بالاسكندرية عند حضور الفرنسيس والثاني قبطان آخره فلم يزالا بمصر يحبسونهما أيامًا ثم يطلقونهما فحبسوهما آخرًا فلم يطلقوهما حتى قتلوهما.
وفي صبيحة ذلك اليوم قتلوا شخصين أيضًا من الأتراك بالرميلة.
وفيه أفرجوا عن زوجات حسن بك الجداوي.
وفي ثامن عشرينه جمعوا الوجاقلية وكتبوا أسماءهم.
وفي تاسع عشرينه قبضوا على ثلاثة أنفار أحدهم يسمى حسن كاشف من أتباع أيوب بك الكبير وآخر يسمى أبو كلس والثالث رجل تاجر من تجار خان الخليلي يسمى حسين مملوك الدالي ابراهيم فسجنوهم بالقلعة فتشفع الشيخ السادات في حسين التاجر المذكور فأطلقوه على خمسة آلاف فرانسة.
فيه أفرجوا عن بعض قرابة كتخدا الباشا وكان محبوسًا بالجيزة ثم نقل الى القلعة مع كتخدا قريبه فأطلق وبقي الآخر.
وفي يوم الأحد ثالثه حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقًا من دمياط الى مصر وكان مقيمًا هناك من بعد واقعة يافا ونزل مع الذين أنزلوهم من يافا الى البحر وفيهم عثمان أفندي العباسي وحسن أفندي كاتب الشهر وأخوه قاسم أفندي وأحمد أفندي عرفة والسيد يوسف العباسي والحاج قاسم المصلي وغيرهم فمنهم من عوق بالكرنتيلة ومنهم من حضر من البر خفية فحضر بعض الأعيان لملاقاة السيد عمر وركبوا معه بعد أن مكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق حتى وصل الى داره وتوجه في ثاني يوم مع المهدي وقابل ساري عسكر فبش له ووعده بخير ورد إليه بعض تعلقاته واستمر مقيمًا بداره والناس تغدو وتروح إليه على العادة.
وفي رابعه حضر أيضًا حسن كتخدا الجربان بأمان وكان بصحبته عثمان بك الشرقاوي وفيه أشيع أن مراد بك ذهب الى ناحية البحيرة فرارًا من الفرنسيس الذين بالصعيد.
وفي خامسه قتلوا عبد الله آغا أمير يافا وكان أخذ أسيرًا وحبس ثم قتل.
وفيه قتل أيضًا يوسف جربجي أبو كلس ورفيقه حسن كاشف.
وفي سادسه عمل الشيخ محمد المهدي وليمة عرس لزواج أحد أولاده ودعا ساري عسكر وأعيان الفرنساوية فتعشوا عنده وذهبوا.
وفيه أحضروا أربعة عشر مملوكًا أسرى وأصعدوهم الى القلعة قيل إنهم كانوا لاحقين بمراد بك بالبحيرة فآووا الى قبة يستظلون بها وتركوا خيولهم مع السواس فنزل عليهم طائفة من العرب فأخذوا الخيول فمروا مشاة فدل الفلاحون عليهم عسكر الفرنسيس فمسكوهم وقيل إهم آووا الى بلده وطلبوا منهم غرامة فصالحوهم فلم يرضوا بذلك بدون ما طلبوا فوعدوهم بالدفع من الغد وكانوا أكثر من ذلك وفيهم كاشف من جماعة عثمان بك الطنبرجي فذهب الفلاحون الى الفرنسيس وأعلموهم بمكانهم فحضروا إليهم ليلًا وفر من فر منهم وقتل من قتل وأسر الباقي وأما الكاشف فيسمى عثمان التجأ الى كبير الفرنسيس فحماه وأخذه عنده وأحضروا الأسرى الى مصر وعليهم ثياب زرق وزعابيط وعلى رؤوسهم عراقي من لباد وغيره وأصعدوهم الى القلعة وقتلوا منهم في ثاني ليلة أشخاصًا.
وفي تاسعه أحضروا أيضًا ستة أشخاص من المماليك وأصعدوهم الى القلعة وفي ذلك اليوم قتلوا أيضًا نحو العشرة من الأسرى المحابيسز.
وفي يوم الأحد عاشره ركب في عصريته ساري عسكر وعدى الى بر الجيزة وتبعته العساكر ولم يعلم سبب ذلك ولما صاروا بالجيزة ضربوا نجع البطران ودهشور بسبب نزول مراد بك عندهم وفي هذا اليوم ظهر أن مراد بك رجع ثانيًا الى الصعيد وشاع الخبر أيضًا أن عثمان بك الشرقاوي وسليمان آغا الوالي وآخرين مروا من خلف الجبل وذهبوا الى ناحية الشرق فخرج عليهم جماعة من العسكر وفيهم برطلمين يني الرومي رئيس عسكر الأروام ومعهم عدة وافرة من أخلاط العسكر أروام وقبط والمماليك المنضمة إليهم وبعض فرنساوية.
فأدركوهم بالقرب من بلبيس وأتوهم من خلاف الطريق المسلوكة فدهموهم على حين غفلة.
وكان عثمان بك يغتسل فلما أحسوا بهم بادروا للفرار وركبوا وركب عثمان بك بقميص واحد على جسده وطاقية فوق رأسه وهربوا وتركوا ثيابهم ومتاعهم وحملتهم وقدور الطعام على النار ولم يمت منهم إلا مملوكان وأسروا منهم إثنين ووجدوا على فراش عثمان بك مكاتبة من ابراهيم بك يستدعيهم الى الحضور إليه بالشام.
وفي ليلة الاثنين حادي عشره وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الاسكندرية وأبي قير وأخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية الى أبي قير فتبين أن حركة الفرنساوية وتعديتهم الى البر الغربي بسبب ذلك وأخذوا صحبتهم جرجس الجوهري وفي ضحوة اليوم الثاني عدى الكثير من العسكر أيضًا واهتم حنا بينو المتولي على بحر بولاق بجمع المراكب وشحنها بالقومانية والذخيرة وداخل الفرنساوية من ذلك وهم كبير ولما عدى كبيرهم الى بر الجيزة أقام يوم الاثنين عند الأهرام حتى تجمعت العساكر وبعث بالمقدمة.
وركب هو في يوم الثلاثاء ثاني عشره وأرسل مكتوبًا الى أرباب الديوان بالسلام عليهم والوصية بالمحافظة وضبط البلد والرعية كما فعلوا في غيبته السابقة.
وفي سادس عشره ورد الخبر بأن عثمان خجا وصل الى قلعة أبي قير صحبة السيد مصطفى باشا فضربوا على القلعة وقاتلوا من بها من الفرنشاوية وملكوها وأسروا من بقي بها وعثمان خجا هذا هو الذي كان متوليًا إمارة رشيد من طرف صالح بك وحج معه ورجع صحبته الى اشام فلما توفي صالح بك سافر الى الديار الرومية وحضر صحبة مصطفى باشا المذكور.
فلما تحققت هذه الأخبار كثر اللغط في الناس وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى الشوام فقال المسلم للنصراني إن شاء الله تعالى بعد أربعة أيام نشتفي منكم وكلام من هذا المعنى فذهب هذا النصراني الى الفرنسيس مع عصبة من جنسه وأخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين إثارة فتنة فأرسل قائمقام الى الشيخ المهدي وتكلم معه في شأن ذلك وحاججه وأصبحوا فاجتمعوا بالديوان فقام المهدي خطيبًا وتكلم كثيرًا ونفى الريبة وكذب أقوال الأخصام وشدد في تبرئة المسلمين عما نسب إليهم وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى وهذا المقام من مقاماته المحمودة ثم جمعوا مشايخ الأخطاط والحارات.
وفي ثامن عشره وردت أخبار وعدة مكاتيب لكثير من الأعيان والتجار وكلها على نسق واحد تزيد عن المائة مضمونها بأن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الاسكندرية في ثالث ساعة من يوم السبت سادس عشر صفر فصار الناس يحكي بعضهم لبعض ويقول ابعض: أنا قرأت المكتوب الواصل الى فلان التاجر ويقول الآخر مثل ذلك ولم يكن لذلك أصل ولا صحة ولم يعلم من فعل هذه الفعلة واختلق هذه النكتة ولعلها من فعل بعض النصارى البلديين ليوقعوا بها فتنة في الناس ينشأ منها القتل فيهم والأذية لهم وسبحان الله علام الغيوب.
وفي ليلة الأربعاء عشرينه أشيع أن الفرنساوية تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير.
وأخذوا مصطفى باشا أسيرًا وكذلك عثمان خجا وغيرهم وأخبر الفرنسيس أنه حضرت لهم مكاتبة بذلك من أكابرهم فلما طلع النهار ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل وباقي القلاع المحيطة وبصحن الأزبكية وعملوا في ليلتها أعني ليلة الأربعاء حراقة بالأزبكية من نفوط وبارود وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه وصلت عدة مراكب وبها أسرى وعساكر جرحى وكذلك يوم الجمعة تاسع عشرينه حضرت مكاتبة من الفرنسيس بحكاية الحالة التي وقعت لم أقف على صورتها.
واستهل ربيع الأول بيوم السبت سنة 1214 في ثانيه وصلت مراكب من بحري وفيها جرحى من الفرنساوية.
وفيه قبضوا على الحاج مصطفى البشتيلي الزيات من أعيان أهالي بولاق وحبسوه ببيت قائمقام والسبب في ذلك أن جماعة من جيرانه وشوا عنه بأنه يدخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة قدور مملوءة بالبارود فكبسوا على الحواصل فوجدوا بها ذلك أخبر الواشي فأخذوها وقبضوا عليه وحبسوه كما ذكر ثم نقلوه الى القلعة.
وفي سادسه حضر أيضًا جملة من العسكر وكثر لغط الناس على عادتهم في رواية الأخبار.
وفيه حضرت حجاج المغاربة ووصلت صحبة الحج الشامي وأخبروا أنهم حجوا صحبته وأمير الحاج الشامي عبد الله باشا ابن العظم.
وفي ليلة الأحد تاسعه حضر ساري عسكر الفرنساوية بونابارته ودخل الى داره بالأزبكية وحضر صحبته عدة أناس من أسرى المسلمين وشاع الخبر بحضوره فذهب كثير من الناس الى الأزبكية ليتحققوا الخبر على جليته فشاهدوا الأسرى وهم وقوف في وسط البركة ليراهم الناس ثم أنهم صرفوهم بعد حصة من النهار فأرسلوا بعضهم الى جامع الظاهر خارج الحسينية وأصعدوا باقيهم الى القلعة وأما مصطفى باشا ساري عسكر فإنهم لم يقدموا به لمصر بل أرسلوه الى الجيزة مكرمًا وأبقوا عثمان خجا بالاسكندرية ولما استقر بونابارته في منزله ذهب للسلام عليه المشايخ والأعيان وسلموا عليه فلما استقر بهم المجلس قال لهم على لسان الترجمان إن ساري عسكر يقول لكم إنه لما سافر الى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه وأما في هذه المرة فليس كذلك لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون بل يموتون عن آخرهم فكنتم فرحانين ومستبشرين وكنتم تعارضون الآغا في أحكامه وإن المهدي والصاوي ما هم بونو أي ليسوا بطيبين ونحو ذلك وسبب كلامه هذا الحكاية المتقدمة التي حبسوا بسببها مشايخ الحارات فإن الآغا الخبيث كان يريد أن يقتل في كل يوم أناسًا بأدنى سبب فكان المهدي والصاوي يعارضانه ويتكلمان معه في الديوان ويوبخانه ويخوفانه سوء العاقبة وهو يرسل الى ساري عسكر فيطالعه بالأخبار ويشكو منهما فلما حضر عاتبهم في شأن ذلك فلاطفوه حتى انجلى خاطره وأخذ يحدثهم على ما وقع له من القادمين الى أبي قير والنصر عليهم وغير ذلك.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره عمل المولد النبوي بالأزبكية ودعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وسواريخ ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلًا وإسراج قناديل واصطناع مهرجان وورد الخبر بأن الفرنسيس أحضروا عثمان خجا ونقلوه من الاسكندرية الى رشيد فدخلوا به البلد وهو مكشوف الرأس حافي القدمين وطافوا به البلد يزفونه بطبولهم حتى وصلوا به الى داره فقطعوا رأسه تحتها ثم رفعوا رأسه وعلقوها من شباك داره ليراها من يمر بالسوق.
وفي ثالث عشره أشيع بأن كبير الفرنسيس سافر الى جهة بحري ولم يعلم أحد أي جهد يريد وسئل بعض أكابرهم فأخبر أن ساري عسكر المنوفية دعاه لضيافته بمنوف حين كان متوجهًا الى ناحية أبي قير ووعده بالعود إليه بعد وصوله الى مصر وراج ذلك على الناس وظنوا صحته.
ولما كان يوم الاثنين سادس عشره خرج مسافرًا من آخر الليل وخفي أمره على الناس.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه الموافق التاسع مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك فنودي بوفائه على العادة وخرج النصارى من القبطة والشوام والأروام وتأهبوا للخلاعة والقصف والتفرج واللهو والطرب وذهبوا تلك الليلة الى بولاق ومصر العتيقة والروضة واكتروا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم الآلات والمغاني وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم ورفضوا الحشمة وسلكوا مسلك الأمراء سابقًا من النزول في المراكب الكثيرة المقاذيف وصحبتهم نساؤهم وقحابهم وشرابهم وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية والكفريات ومحاكاة المسلمين وبعضهم تزيا بزي أمراء مصر وليس سلاحًا وتشبه بهم وحاكى ألفاظهم على سبيل الاستهزاء والسخرية وغير ذلك وأجرى الفرنساوية المراكب المزينة وعليها البيارق وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر ووقع في تلك الليلة بالبحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يكيف ولا يوصف وسلك بعض غوغاء العامة وأسافل العالم ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة ورذالة الرقاعة بدون أن ينكر أحد على أحد من الحكام أو غيرهم بل كل إنسان يفعل ما تشتهيه نفسه وما يخطر بباله وإن لم يكن من أمثاله.
وأكثر الفرنسيس في تلك الليلة وصباحها من رمي المدافع والسواريخ من المراكب والسواحل وباتوا يضربون أنواع الطبول والمزامير وفي الصباح ركب دوجا قائمقام وصحبته أكابر الفرنسيس وأكابر أهل مصر وحضروا الى قصر السد وجلسوا به واصطفت العساكر ببر الروضة وبر مصر القديمة بأسلحتهم وطبولهم وبعضهم في المراكب لضرب المدافع المتتالية الى أن انكسر السد وجرى الماء في الخليج فانصرف.
وفي خامس عشرينه طلبوا من كل طاحون من الطواحين فرسًا.
وفي سادس عشرينه كتبوا أوراقًا وألصقوها بالأسواق مضمونها أن الناس يذهبون الى بولاق يوم التاسع والعشرين ليحضروا سوق الخيل ويشتروا ما أحبوا من الخيل.
وفيه ألصقوا أوراقًا أيضًا مضمونها بأن من كان عليه مال ميري ملزوم بغلاقه ومن لم يغلق ما عليه بعد مضي عشرين يومًا عوقب بما يليق به ونادوا بموجب ذلك بالأسواق.
وفي سابع عشرينه كتبوا أوراقًا أيضًا مضمونها انقضاء سنة مؤاجرات أقلام المكوس ومن أراد استثمار شيء من ذلك فليحضر الى الديوان ويأخذ ما يريد بالمزاد.
وفيه أفرج عن الأنفار التي قدم بها الفرنساوية من غزة وحبست بالقلعة على مصلحة خمسة وسبعين كيسًا دفعوا بعضها وضمنهم أهل وكالة الصابون في البعض الباقي فأنزلوهم من القلعة على هذا الاتفاق بشرط أن لا يسافر منهم أحد إلا بعد غلاق ما عليه.
وفي ثامن عشرينه تشفع أرباب الديوان في أهل يافا المسجونين بالقلعة أيضًا فوقع التوافق معهم على الإفراج عنهم بمصلحة مائة كيس فاجتمع الرؤساء والتجار وترووا واشتوروا في مجلس خاص بينهم فاتفق الحال على تقسيطها وتأجيلها في كل عشرين يومًا خمسة وعشرين كيسًا فدفع التجار خمسة وعشرين كيسًا وأفرج عنهم من القلعة وأجلوا الباقي على الشرح المذكور.
وفيه ورد من بونابارته ساري عسكر الفرنساوية كتاب من الاسكندرية خطابًا لأهل مصر وسكانها فأحضر قائمقام دوجا الرؤساء المصرية وقرأ عليهم الكتاب مضمونه أنه سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور الى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر فيغيب نحو ثلاثة أشهر ويقدم مع عساكره فإنه بلغه خروج عمارتهم ليصفوا له ملك مصر ويقطع دابر المفسدين وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعًا كهلبر ساري عسكر دمياط فتحير الناس وتعجبوا في كيفية سفره ونزوله البحر مع وجود مراكب الانكليز ووقوفهم بالثغر ورصدهم الفرنساوية من وقت قدومهم الديار المصرية صيفًا وشتاء ولكيفية خلوصه وذهابه أنباء وحيل لم أقف على حقيقتها. وفي
فضربوا لقدومه المدافع من جميع القلاع وتلقته كبار الفرنساوية وأصاغرهم وذهب الى بيت بونابارته الذي كان ساكنًا به وهو بيت الألفي بالأزبكية وسكن مكانه وفي ذلك اليوم قدمت طائفة من العسكر من جهة الشرقية وصحبتهم منهوبات كثيرة من بلد عصت عليهم فضربوها ونهبوها ومعهم السبعين من الرجال والصغار وبعض النساء وهم موثوقون بالحبال فسجنوهم بالقلعة.
وفيه ذهب أكابر البلد من المشايخ والأعيان لمقابلة ساري عسكر الجديد للسلام عليه فلم يجتمعوا به ذلك اليوم ووعدوا الى الغد فانصرفوا وحضروا في ثاني يوم فقابلوه فلم يروا منه واستهل شهر ربيت الثاني بيوم الأحد سنة 1214 في أوائله ابتدأوا في عمل مولد المشهد الحسيني وقهروا الناس وكرروا المناداة بفتح الحوانيت والسهر ووقود القناديل عشر ليالي متوالية آخرها ليلة الخميس ثاني عشره.
وفيه طلب ساري عسكر الجديد من نصارى القبط مائة وخمسين ألف ريال فرانسة في مقابله بواقي سنة 1212 وشرعوا في تحصيلها.
وفي يوم الجمعة سادسه ركب ساري عسكر الجديد من الأزبكية ومشى في وسط المدينة في موكب حافل حتى صعد الى اقلعة وكان أمامه نحو الخمسمائة قواس وبأيديهم النبابيت وهم يأمرون الناس بالقيام والوقوف على الأقدام لمروره وكان صحبته عدة كثيرة من خيالة الإفرنج وبأيديهم السيوف المسلولة والوالي والآغا وبرطلمين بمواكبهم وكذلك القلقات والوجاقلية وكل من كان مولى من جهتهم ومنضمًا إليهم ما عدا رؤساء الديوان من الفقهاء فلم يطلبوهم للحضور ولا للمشي في ذلك الموكب ولما صعد الى القلعة ضربوا له عدة مدافع وتفرج على القلعة ثم نزل بذلك الموكب الى داره.
وفي يوم السبت سابعه ركب أغات الينكجرية في أبهة عظيمة وجبروت وأمامه عدة من عسكر الفرنسيس وأمامه المنادي يقول: حكم ما رسم ساري عسكر خطابًا للآغا: إن جميع الدعاوى والقضايا العامية لا تعمل إلا ببيت الآغا وكل من تعدى من الرعايا أو وقع منه قلة أدب يستأهل ما يجري عليه.
وفيه ركب ساري عسكر الكبير في موكب دون الأول ووصل الى بيت رئيس الديوان الشيخ عبد الله الشرقاوي ثم رجع الى داره.
وفي يوم الأحد ثامنه عمل ساري عسكر وليمة في بيته ودعا الأعيان والتجار والمشايخ فتعشوا عنده ثم انصرفوا الى ديارهم.
وفي يوم الثلاثاء عاشره كان آخر المولد الحسيني وحضر ساري عسكر الفرنساوية مع أعيانهم الى بيت شيخ السادات بعد العصر في موكب عظيم وأمامه الآغا والمحتسب وعدة كبيرة من عسكرهم وبيدهم السيوف المسلولة فتعشوا هناك وركبوا بعد المغرب وشاهدوا وقود القناديل.
وفي سادس عشره نودي بنشر الحوائج وكتبوا بذلك أوراقًا وألصقوها بالأسواق وشددوا في ذلك بالتفتيش والنظر بجماعة من طرف مشايخ الحارات ومع كل منهم عسكري من طرف الفرنساوية وامرأة أيضًا للكشف عن أماكن النساء فكان الناس يأنفون من ذلك ويستثقلونه ويستعظمونه وتحدثهم أوهامهم بأمور يتخيلونها كقولهم: إنما يريدون بذلك الاطلاع على أماكن الناس ومتاعهم مع أنه لم يكن شيء سوى التخوف من العفونة والوباء.
وفي عشرينه نودي بعمل مولد السيد علي البكري المدفون بجامع الشرايبي بالأزبكية بالقرب من الرويعي وأمروا الناس بوقود قناديل بالأزقة في تلك الجهات وأذنوا لهم بالذهاب والمجيء ليلًا ونهارًا من غير حرج وقد تقدم ذكر بعض خبر هذا السيد وأنه كان رجلًا من البله وكان يمشي بالأسواق عريانًا مكشوف الرأس والسوأتين غالبًا وله أخ صاحب دهاء ومكر لا يلتئم به واستمر على ذلك مدة سنين ثم بدا لأخيه فيه أمر لما رأى من ميل الناس لأخيه واعتقادهم فيه كما هي عادة أهل مصر في أمثاله فحجر عليه ومنعه من الخروج من البيت وألبسه ثيابًا وأظهر للناس أنه أذن له بذلك وأنه تولى القطبانية ونحو ذلك فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع ألفاظه والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم في كراماته وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بها في النفوس فانهمكوا على الترداد إليه وقلد بعضهم بعضًا وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شيء وخصوصًا من نساء الأمراء والأكابر وراج حال أخيه واتسعت أمواله ونفقت سلعته وصادت شبكته وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البو العظيم فلم يزل على ذلك الى أن مات في سنة سبع بعد المائتين كما تقدم فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حجر عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع وعمل عليه مقصورة ومقامًا وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في أعبابهم وصار ذلك المسجد مجمعًا وموعدًا فلما حضر الفرنساوية الى مصر تشاغل عنه الناس وأهمل شأنه في جملة المهملات وترك مع المروكات فلما فتح أمر الموالد والجمعيات ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات أعيد هذا المولد مع جملة ما أعيد.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الجمعة سنة 1214 فيه اهتم الفرنسيس بعمل عيدهم المعتاد وهو عند الاعتدال الخريفي وانتقال الشمس لبرج الميزان فنادوا بفتح الأسواق والدكاكين ووقود القناديل وشددوا في ذلك وعملوا عزائم وولائم وأطعمة ثلاثة أيام آخرها يوم الاثنين ولم يعملوه على هيئة العام الماضي من الاجتماع بالأزبكية عند الصاري العظيم المنتصب والكيفية المذكورة لأن ذلك الصاري سقط وامتلأت البركة بالماء فلما كان يوم الأحد نبهو على الأمراء والأعيان بالبكور الى بيت ساري عسكر.
فاجتمع الجمع في صبح يوم الاثنين فركب ساري عسكر معهم في موكب كبير وذهبوا الى قصر العيني فمكثوا هناك حصة وعرضت عليهم العساكر جميعها على اختلاف أنواعها من خيالة ورجالة وهم بأسلحتهم وزينتهم ولعبوا لعبهم في ميدان الحرب وخلع ساري عسكر على الشيخ الشرقاوي والقاضي وأغات الينكجرية خلع سمور ثم رجع الى منازلهم ثم نودي في جميع الأسواق بوقود أربع قناديل على كل دكان في تلك الليلة ومن لم يفعل ذلك عوقب.
ثم عملوا بالأزبكية حراقة نفوط ومدافع وسواريخ ولعبوا في المراكب طول ليلهم.
وفي سابعه بعد عيد الصليب نقص ماء النيل وكان من أول زيادته قاصرًا عن العادة وزيادته شحيحة فضج الناس وانكبوا على شراء الغلة وازدحموا في الرقع والسواحل وطلب باعة الغلة الزيادة في السعر فجمع الفرنساوية كل من كان له مدخل في تجارة الغلال وزجروهم وخوفوهم وقالوا لهم: هذه الغلة الموجودة الآن إنما هي زراعة العام الماضي وأما هذا العام فلا تخرج زراعته إلا في العام المقبل فانزجروا وباعوا بالسعر الحاضر وقد كاد يقع الغلاء العظيم لولا ألطاف الله ورحمته ونعمه العميمة الشاملة حصلت.
وفيه أرسلوا جملة عساكر من الفرنساوية الى مراد بك بناحية الفيوم وعليهم كبير فوقع بينهم وبينه أمور لم أتحقق تفصيلها وترددت بينه وبين ساري عسكر الرسل والمراسلات ووقع بينه وبينهم الهدنة والمهاداة واصطلح معهم على شروط منها تقليده إمارة الصعيد تحت حكمهم.
وفي هذا الشهر كثرت الإشاعة باجتماع عساكر عثمانية جهة الشام فكثر اهتمام الفرنساوية بإخراج الجيخانات والمدافع وآلات الحرب والقومانية والعساكر وتحصين الصالحية والفرين وبلبيس.
واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1214 وفيه كثرت الأقوال وتواترت الأخبار بوصول الوزير الأعظم يوسف باشا الى الديار الشامية وصحبته نصوح باشا وعثمان آغا كتخدا الدولة وحسين آغا نزله أمين ومصطفى أفندي الدفتردار وباقي رجال الدولة وعسفوا في البلاد الشامية وضربوا عليهم الضرائب العظيمة وجبوا الأموال فلما كان في منتصفه وردت الأخبار بوصولهم الى غزة والعريش وأنهم حاصروا قلعة العريش وقاتلوا من بها من عسكر الفرنساوية حتى ملكوها في تاسع عشره.
واحتووا على ما كان فيها من الذخيرة والجبخانة وآلات الحرب وصعد مصطفى باشا الذي باشر أخذ القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية وضربت النوبة وحصل لهم الفرح العظيم فاتفق أنه وقعت نار على مكان الجبخانة والبارود المخزون بالقلعة وكان شيئًا كثيرًا فاشتعلت وطارت القلعة بمن فيها واحترقوا وماتوا وفيهم الباشا المذكور ومن معه ومحمد آغا أرنؤد الجلفي وغيره من المصرلية ومات كثير ممن كان خارجًا عنها وبقربها مما نزل عليهم من النار والأحجار المتطايرة في أسرع وقت ولما تحقق الفرنساوية أخذ العريش وأن عساكر العثمانيين زاحفة الى جهة الصالحية تهيأ ساري عسكر الفرنساوية واستعد للخروج والسفر في أسرع وقت وخرج بعساكره وجنوده الى الصالحية وقد كان قبل أخذ العثمانيين قلعة العريش أرسل الفرنساوية الى سينت كبير الانكليز مراسلات ليتوسط بينهم وبين العثمانيين ثم ورد فرمان من حضرة الوزير قبل وصوله لجهة العريش خطابًا الى جمهور الفرنساوية باستدعاء رجلين من رؤسائهم وعقلائهم ليتشاور معهم ويتفق معهم على أمر يكون فيه المصلحة للفريقين على ما سيشترطونه بينهم فوجهوا إليه من طرفهم بوسليك رئيس الكتاب وديزه ساري عسكر الصعيد فنزلوا في البحر على دمياط وطالت مدة غيابهم وبعث كلهبر ساري عسكر رسلًا من طرفه لاستفسار الأخبار.
واستهل شهر شعبان المعظم سنة 1214 فورد الخبر بقدومهما في اثنين وعشرين فيه الى الصالحية فأرسلوا لهما الخيول وما يحتاجان إليه وحضرا الى مصر وشاع أمر الصلح وحضر من طرف العثمانيين رئيس الكتاب والدفتردار لتقرير الصلح وجنح كل من الفريقين الى ذلك لما فيه من كف الحرب وحقن الدماء وأظهر الفرنساوية الخداع والخضوع حتى تم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطًا رسمت وطبعت في طومار كبير وورد الخبر بذلك الى مصر وفرح الناس بذلك فرحًا شديدًا.
وأرسل ساري عسكر الفرنساوية مكاتبة بصورة الحال الى دوجا قائمقام فجمع أهل الديوان وقرأ عليهم ذلك ولما ورد ذلك الطومار المتضمن لعقد الصلح والشروط وعربوه وطبعوا منه نسخًا كثيرة فرقوا منها على الأعيان وألصقوا منها بالأسواق والشوارع.
وصورته: بما فيه من الفصول والشروط بالحرف الواحد ما عدا ترجمة الأسطر التي باللغة الفرنساوية وهذه صورة الشروط الواقعة لخلو مصر ما بين حضرة الجنرال ديزه متفرقة وحضرة بسليغ مدير الحدود العام نواب ساري العسكر العام كلهبر المفوضين بكامل السلطان.
وجناب سامي المقام مصطفى رشيد أفندي دفتردار ومصطفى راسيه أفندي رئيس كتاب الوكلاء المفوضين بكامل السلطان عن جناب حضرة الوزير سامي المقام أن للجيش الفرنساوي بمصر عندما قصد أن يوضح ما في نفسه من وفور الشوق لحقن الدماء ويرى نهاية الخصام المضر الذي قد حصل ما بين المشيخة الفرنساوية والباب العالي فقد ارتضى أن يسلم بخلو الإقليم المصري بحسب هذه الشروط الآتي ذكرها يأمل أن بهذا التسليم يمكن أن يتجه ذلك الى صلح العام في بلاد المغرب قاطبة.
الشرط الأول - أن الجيش الفرنساوي يلزمه أن يتنحى بالأسلحة والعزال بالأمتعة الى الاسكندرية ورشيد وأبو قير لأجل أن يتوجه وينتقل بالمراكب الى فرانسا إن كان ذلك في مراكبهم الخاص بهم أم في تلك التي يقتضي للباب العالي أن يقدمها لهم بقدر الكفاية ولأجل تجهيز المراكب المذكورة بأقرب نوال فقد وقع الاتفاق بعد مضي شهر واحد من تقرير هذه الشروط يتوجه الى قلعة اسكندرية نائب من قبل الباب العالي وصحبته خمسون نفرًا.
الشرط الثاني - فلا يدعن المهلة وتوقيف الحرب بمدة ثلاثة أشهر بالإقليم المصري وذلك من عهد إمضاء شروط الاتفاق هذه وإذا صادف الأمر أن هذه المهلة تمضي قبل أن المراكب الواجب تجهيزها من قبل الباب العالي تحضر جاهزة فالمهلة المذكورة يقتضي مطاولتها الى أن ينجز الرحيل على التمام والكمال ومن الواضح أنه لابد عن إصراف الوسايط الممكنة من قبيل الفريقين لكي لا يحصل ما يمكن وقوعه من التجسس إن كان ذلك من الجيش أم من أهل البلاد إذا كانت هذه المهلة قد حصل الاتفاق بها لأجل راحتهم.
الشرط الثالث - فرحيل الجيش الفرنساوي يقتضي تدبيره بيد الوكلاء القادمين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى وساري العسكر كلهبر وإذا حصل خصام ما بين الوكلاء المذكورين بوقت الرحيل في هذا الصدد فلينتخب من قبل حضرة سيد نهي سميت رجل لينهي المخاصمات المذكورة بحسب قواعد السياسة البحرية السالكون عليها ببلاد الانكليز.
الشرط الرابع - قطية والصالحية لابد من خلوهما عن الجيش الفرنساوي في ثامن يوم وأعظم ما يكون في عاشر يوم من إمضاء شروط الاتفاق هذه ومدينة المنصورة يكون خلوها من بعد خمسة عشر يومًا وأما دمياط وبلبيس من بعد عشرين يومًا وأما السويس فيكون خلوه ستة أيام قبل مدينة مصر وأما المحلات الكائنة في الجهة الشرقية من بحر النيل فيكون خلوها في اليوم العاشر والدلطا أي الإقليم البحرية يكون خلوها خمسة عشر يومًا من بعد خلو مصر.
ولكن من حيث أنها لابد أن تستمر بيد الفرنساوية الى أن يكون انحدار العسكر من جهات الصعيد فجهة الغربية وتعلقاتها كما ذكر فممكن أنه لا يتيسر خلوها إلا من بعد انقضاء وقت المهلة المعين إذا لم يمكن خلوها قبل هذا الميعاد والمحلات التي تترك من الجيش فتسلم الى الباب الأعلى كما هي في حالها الآن.
الشرط الخامس - ثم إن مدينة مصر إن أمكن ذلك يكون خلوها بعد أربعين يومًا وأكثر ما الشرط السادس - إنه لقد وقع الاتفاق صريحًا على أن الباب الأعلى يصرف كل اعتناء في أن الجيش الفرنساوي الموجود في الجهة الغربية من بحر النيل عندما يقصد التنحي: بكامل ما له من السلاح والعزال لنحو معسكرهم لا تصير عليه مشقة ولا أحد يشوش عليه إن كان ذلك مما يتعلق بشخص كل واحد منهم أو بأمتعته أو بكرامته وذلك إما من أهالي البلاد وإما من جهة العسكر السلطاني العثملي.
الشرط السابع - وحفظًا لإتمام الشرط المذكور أعلاه وملاحظة لمنع ما يمكن وقوعه من الخصام والمعاداة فلابد عن استعمال الوسائط في أن عسكر الإسلام يكون دائمًا متباعدًا عن العسكر الفرنساوي.
الشرط الثامن - فمن تقرير وإمضاء هذه الشروط فكل من كان من الإسلام أم من باقي الطوائف من رعايا البلم الأعلى بدون تمييز الأشخاص أولئك الواقع عليها الضبط أم الذين واقع عليهم الترسيم ببلاد فرانسا أو تحت أمر الفرنساوية بمصر يعطى لهم الإطلاق والتعلق.
وبمثل ذلك فكل الفرنساوية المسجونين في كامل البلدان والأساكل من مملكة العثملي وكذلك كامل الأشخاص من أيما طائفة كانت أولئك الذين كانوا في تعلق خدمة المراسلات والقناصل الفرنساوية لابد عن انعتاقهم.
الشرط التاسع - فترجيع الأموال والأملاك المتعلقة بسكان البلاد والرعايا من الفريقين أم دفع مبالغ أثمانها لأصحابها فيكون الشروع به حالًا من بعد خلو مصر والتدبير في ذلك يكون بيد الوكلاء في اسلامبول المقامين بوجه خاص من الفريقين لهذا الصدد.
الشرط العاشر - فلا يحصل التشويش لأحد من سكان الإقليم المصري من أي ملة كانت.
وذلك لا في أشخاصهم ولا في أموالهم نظرًا الى ما يمكن أن يكون قد حصل من الاتحاد ما بينهم وبين الفرنساوية من إقامتهم بأرض مصر.
الشرط الحادي عشر - ولابد أن يعطى للجيش الفرنساوي إن كان من قبل الباب الأعلى أو من قبل المملكتين المرتبطين معه أعني بها مملكة انكلترة ومملكة المسكوب فرمانات الإذن والأوراق المحافظة بالطريق وبمثل ذلك السفن اللازمة لرجع الجيش المذكور بالأمن والأمان الى بلاد فرانسا.
الشرط الثاني عشر - وعند نزول الجيش الفرنساوي المذكور الكائن بمصر الآن فالباب الأعلى وباقي الممالك المتحدة معه يعاهدون بأجمعهم أنهم من وقت ينزلون بالمراكب الى حين وصولهم الى أراضي فرانسا لا يحصل عليهم شيء قط مما يكدرهم وبنظير ذلك فحضرة الجنرال كلهبر ساري العسكر لعام يعاهد من قبله وصحبته الجيش الفرنساوي الكائن بمصر بأنه لا يصدر منهم ما يؤول الى المعاداة على الإطلاق مادامت المدة المذكورة وذلك لا ضد العمارة ولا ضد بلدة من بلدان الباب الأعلى وباقي الممالك المرتبطة معه وكذلك أن السفن التي يسافر بها الجيش المشار إليه ليس لها أن ترى في حد من الحدود إلا بتلك التي تختص بأراضي فرانسا ما لم يكن ذلك في حادث ما ضروري.
الشرط الثالث عشر - ونتيجة ما قد وقع الاتفاق عليه من الإمهال المشترط أعلاه بما يلاحظ خلو الإقليم المصري فالجهات الواقع بينهم هذا الاشتراط قد اتفقوا على أنه إذا حضر في حد هذه المدة المذكورة مركب من بلاد فرانسا بدون معرفة غلايين الممالك المتحدة ودخل بمينا اسكندرية فلازم عن سفره حالًا وذلك من بعد أن يكون قد تحوج بالماء والزاد اللازم ويرجع الى فرانسا وذلك بسندات أوراق الإذن من قبل الممالك المتحدة وإذا صادف الأمر أن مركبًا من هذه المراكب يحتاج الى الترقيع فهذه لا غير يباح لها الإقامة الى أن ينتهي إصلاحها المذكور وفي الحال من ثم تتوجه الى بلاد فرانسا نظير التي قد تقدم القول عنها عند أول ريح يوافقها.
الشرط الرابع عشر - وقد يستطيع حضرة الجنرال كلهبر ساري العسكر العام أن يرسل خبرًا الى أرباب الأحكام الفرنساوية في الحال ومن يصحب هذا الخبر لابد أن تعطى له أوراق الإذن بالإطلاق كما يقتضي ليسهل بهذه الواسطة وصول الخبر الى أصحاب الحكم بفرانسا.
الشرط الخامس عشر - وإذا قد اتضح أن الجيش الفرنساوي يحتاج الى المعاش اليومي مادامت الثلاثة أشهر المعينة لخلو الإقليم المصري وكذلك لمعاش الثلاثة الأشهر الأخرى التي يكون مبتدأها من يوم نزولهم بالمراكب فقد وقع الاتفاق على أنه يقدم له مقدار ما يلزم من القمح واللحم والأرز والشعير والتبن وذلك بموجب القائمة التي تقدمت الآن من وكلاء الجمهور الفرنساوي إن كان ذلك مما يخص إقامتهم أو ما يلاحظ سفرهم والذي يكون قد أخذه الجيش المذكور مقدار ما كان من شؤونه وذلك من بعد إمضاء هذه الشروط فينخصم مما قد لزم ذاته بتقدمته الباب الأعلى.
الشرط السادس عشر - ثم إن الجيش الفرنساوي منذ ابتدأ وقوع إمضاء هذه الشروط المذكورة ليس له أن يفرد على البلاد فردة ما من الفرائد قطعًا بالإقليم المصري لا بل وبالعكس فإنه يخلي للباب الأعلى كامل فرد المال وغيره مما يمكن توجيه قبضه وذلك الى حين سفرهم.
وبمثل ذلك الجمال والهجن والجبخانة والمدافع وغير ذلك مما يتعلق بهم ولا يريدون أن يحملوه معهم ونظير ذلك شون الغلال الواردة لهم من تحت المال وأخيرًا مخازن الخراج فهذه كلها لابد عن الفحص عنها وتسعيرها من أناس وكلاء موجهين من قبل الباب الأعلى لهذه الغاية ومن أمين البحر الانكليزي وبرفقة الوكلاء المتصرفين بأمر الجنرال كلهبر ساري العسكر وهذه الأمتعة لابد عن قبولها من وكلاء الباب الأعلى المتقدم ذكرهم بموجب ما وقع عليه السعر الى حد قدر مبلغ ثلاثة آلاف كيس التي تقتضي للجيش الفرنساوي المذكور لسهولة انتقاله عاجلًا ونزوله بالمراكب وإذا كانت الأسعار في هذه الأمتعة المذكورة لا توازي المبلغ المرقوم أعلاه فالخسيس والنقص في ذلك لابد عن دفعه بالتمام من قبل الباب الأعلى على جهة السلفة تلك التي يلزم بوفائها أرباب الأحكام الفرنساوية بأوراق التمسكات المدفوعة من الوكلاء المعينين من الجنرال كلهبر ساري العسكر العام لقبض واستلام المبلغ المذكور.
الشرط السابع عشر - ثم إنه إذا كانت تقتضي للجيش الفرنساوي بعض مصاريف لخلوهم مصر فلابد أن تقبض وذلك من بعد تقرير تمسك الشروط المذكورة القدر المحدد أعلاه بالوجه الآتي ذكره أعني فمن بعد مضي خمسة عشر يومًا خمسمائة كيس وفي غلاق الثلاثين يومًا خمسمائة كيس أخرى وبتمام الأربعين يومًا ثلثمائة كيس أخرى وعند تمام الخميس يومًا ثلثمائة كيس شرحه وعند غلاق الستين يومًا ثلثمائة كيس أخرى وفي السبعين يومًا ثلثمائة كيس أخرى وعند تمام الثمانين يومًا ثلثمائة كيس أخرى وعند غلاق التسعين يومًا خمسمائة كيس أخرى وكل هذه الأكياس المذكورة هي عن كل كيس خمسمائة غرش عثملي ويكون قبضها على سبيل السلفة من يد الوكلاء المعينين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى ولكي يسهل إجراء العمل بما وقع الاعتماد عليه فالباب الأعلى من بعد وضع الإمضاء على النسختين من الفريقين الشرط الثامن عشر - ثم إن فرد المال الذي يكون قد قبضه الفرنساوية من بعد تاريخ تحرير الشروط المذكورة وقبل أن يكون قد اشتهر هذا الاتفاق في الجهات المختلفة بالإقليم المصري فقد تخصم من قدر مبلغ الثلاثة آلاف كيس المتقدم القول عنها.
الشرط التاسع عشر - ثم إنه لكي يسهل خلو المحلات سريعًا فالنزول في المراكب الفرنساوية المختصة بالحمولة والموجودة في المين بالإقليم المصري مباح به مادامت مدة الثلاثة أشهر المذكورة المعينة للمهلة وذلك من دمياط ورشيد حتى الى الاسكندرية ومن اسكندرية حتى الى رشيد ودمياط.
الشرط العشرون - فمن حيث أنه للطمأن الكلي في جهات البلاد الغربية يقتضي الاحتراس الكلي لمنع الوبا الطاعوني عن أنه يتصل هناك فلا يباح ولا لشخص من المرضى أو من أولئك الذين مشكوك بهم برائحة من هذا الداء الطاعوني أن ينزل بالمراكب بل أن المرضى بعلة الطاعون أو بعلة أخرى أينما كانت تلك التي بسببها لا يقتضي أن يسمح بسفرهم بمدة خلو الإقليم المصري الواقع عليها الاتفاق يستمرو نفي بيمارستان المرضي حيث هم الآن تحت أمان جناب الوزير الأعظم عالي الشأن ويعالجونهم الأطباء من الفرنساوية أولئك الذين يجاورونهم بالقرب منهم الى أن يتم شفاهم يسمح لهم بالرحيل الشيء الذي لابد عن اقتضاء الاستعجال به بأسرع ما يمكن ويحصل لهم ويبدو نحوهم ما ذكر في الشرطين الحادي عشر والثاني عشر من هذا الاتفاق نظير ما يجري على باقي الجيش ثم إن أمير الجيش الفرنساوي يبذل جهده في إبراز الأوامر الأشد صرامة لرؤساء العساكر النازلة بالمراكب بأن لا يسمحوا لهم بالنزول بمينا خلاف المين التيتتعين لهم من رؤساء الأطباء تلك المين التي يتيسر لهم بها أن يقضوا أيام الكارنتينة بأوفر السهولة من حيث أنها من مجرى العادة ولابد عنها.
الشرط الحادي والعشرون - فكل ما يمكن حدوثه من المشاكل التي تكون مجهولة ولم يمكن الاطلاع عليها في هذه الشروط فلابد عن تجاوزها بوجه الاستحباب ما بين الوكلاء المعينين لهذا القصد من قبل الجناب الوزير الأعظم عالي الشأن وحضرة الجنرال كلهبر ساري العسكر العام بوجه يسهل ويحصل الإسراع بالخلو.
الشرط الثاني والعشرون - وهذه الشروط لا تعد صحيحة إلا من بعد إقرار الفريقين وتبديل النسخ وذلك بمدة ثمانية أيام ومن بعد حصول هذا الإقرار لابد عن حفظ هذه الشروط الحفظ اليقين من الفريقين كليهما.
صح وثبت وتقرر بختوماتنا الخاصة بنا بالمعسكر حيث وقعت المداولة بحد العريش في شهر يلويوز سنة ثمان من إقامة المشيخة الفرنساوية وفي رابع عشرينه شهر كانون الثاني غربي من سنة ألف وثمانمائة الواقع في ثامن عشرين شهر شعبان هلالية سنة 1224 هجرية.
الممضيين الجنرال متفرقة ذره البلدي بوسيهلغ المفوضين بكامل سلطانه الجنرال كلهبر وجناب سامي مقام مصطفى رشيد أفندي دفتردار ومصطفى راسيسه أفندي رئيس الكتاب المفوضين بكامل سلطان جناب الوزير الأعظم عالي الشأن منقولة عن النسخة الأصلية الموافقة لتلك الموجهة بالفرنساوية الى الوكلاء العثملي بدلًا من التي قد وجهوها باللغة التركي ممضي دزه وبوسيهلغ تقرير الجنرال ساري العسكر العام محرر في آخر السنة التركية التي بقيت محفوظة بيد الوزير الأعظم إنني أنا الواضع اسمي أدناه الجنرال ساري العسكر العام أمير الجيش الفرنساوي بالإقليم المصري أثبت وأقرر شروط الاتفاق المذكور أعلاه للحصول على إجرائه بالعمل بالنوع والصورة إن كان من اللازم أن أتيقن بأن الاثنين وعشرين شرطًا المشروحة الى الآن هي موافقة على التدقيق باللغة الفرنساوية الممضي عليها من الوكلاء أصحاب ولاية الوزير الأعظم والمقررة من جناب عالي الشأن الترجمة التي لابد عن الاعتماد بإجرائها كل مرة إن كان لسبب أم لآخر ممكن حصول بعض الاختلافات ومن ثم فتقلد بعض المشاكل.
صح وجرى بمحل العسكر العام بالصالحية في ثامن شهر يلويوز سنة ثمان من المشيخة.
ممضي كلهبر عن نسخة صحيحة الجنرال متفرقة رأس صاحب ختام في الجيش الفرنساوي.
ممضي داماس انتهى بحروفه وما فيه من خطأ أو تحريف فهو طبق الأصل المطبوع بالمطبعة الفرنساوية باللغة العربية ولم أغير منه سوى ما في تواريخ الأشهر والسنين بالأرقام الهندية والله أعلم.
استهل شهر رمضان المعظم بيوم الأحد سنة 1214 في ثانيه حضر ساري عسكر الفرنساوية كلهبر الى ناحية العادلية وصحبته آغا من رجال الدولة العثمانية يسمى محمد آغا فأرسل ساري عسكر الى حسن آغا نجاتي المحتسب يأمره بأن يتلقاه وينزله في بيته ويكرمه إكرامًا زائدًا فلما كان بعد العشاء دخل ذلك الآغا الى مصر في موكب فحصل للناس ضجة عظيمة وازدحموا على مشاهدتهم له والفرجة عليه وارتفعت أصواتهم وعلا ضجيجهم وركبوا على مصاطب الدكاكين والسقائف وانطلقت النساء والزغاريت من الطيقان واختلفت آراؤهم في ذلك القادم ولم يعلموا ما هو فدخل من باب النصر وشق القاهرة ولم يزل سائرًا حتى وصل الى بيت حسن آغا بسويقة اللالا فنزل هناك فلما استقر به الجلوس ازدحم الناس والأعيان للسلام عليه ولمشاهدته بالمشاعل والفوانيس.
فلما كان صبح تلك الليلة عمل ديوانًا وجمع العلماء والوجاقلية وأعيان الناس وكبار النصارى من الأقباط والشوام فلما تكاملوا أبرز لهم فرمانًا من الوزير فقرئ عليهم بالمجلس فدل مضمونه على أنه أغات الجمارك أي المكوس بمصر بولاق ومصر القديمة وفيه التحكير على جميع الواردات من أصناف الأقوات فيشتريها بالثمن الذي يسعره هو بمعرفة المحتسب ويودعه في المخازن وأبرز فرمانًا آخر قرئ بالمجلس مضمونه أن الوزير أقام مصطفى باشا الذي كان أسر بأبي قير وكيلًا عنه وقائمقام بمصر الى حين حضوره وأن السيد أحمد المحروقي كبير التجار ملزوم ومقيد بتحصيل الثلاثة آلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساوية.
وانفض المجلس على ذلك وأخذ السيد أحمد المحروقي في تحصيل ذلك القدر من الناس وفرضوه على التجار وأهل الأسواق والحرف وشرعوا في تحكير الأقوات فغلت أسعارها وضاقت مؤن الناس ودهى الناس من أول أحكامهم بهاتين الداهيتين وكان أول قادم منهم أمير المكوسات ومحكر الأقوات وأول مطلوبهم مصادرة الناس وأخذ المال منهم وتغريمهم واجتهد السيد أحمد المحروقي في توزيع ذلك وجمعه في أيام قليلة فكان كل من توجه عليه مقدار من ذلك اجتهد في تحصيله وأخرجه عن طيفه قلب وانشراح خاطر وبادر بالدفع من غير تأخير لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساوية ويقول سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة كل ذلك بمشاهدة الفرنسيس ومسمعهم وهم يحقدون ذلك عليهم وحضر مصطفى باشا من الجيزة وسكن ببيت عبد الرحمن كتخدا بحارة عابدين.
وأرسل الوزير فرمانات الى البلاد وعين المعينين والمباشرين بطلب المال والغلال والكلف من الأقاليم وأرسل الى البنادر وجعل في كل بندر أميرًا ووكيلًا لجمع الغلال والمطلوبات من الذخيرة وجمعها بالحواصل ولا يخفى ما يحصل في ضمن ذلك من الجزئيات التي سيتضح بعضها فيما بعد وأما الرعايا وهمج الناس من أهل مصر فإنهم استولى عليهم سلطان الغفلة ونظروا للفرنسيس بعين الاحتقار وأنزلوهم عن درجة الاعتبار وكشفوا نقاب الحياء معهم بالكلية وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية ولم يفكروا في عواقب الأمور ولم يتركوا معهم للصلح مكانًا حتى أن فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقًا وطوائف حسبة وهم يجهرون ويقولون كلامًا مقفى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رؤسائهم كقولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان ونحو ذلك وظنوا فروغ القضية ولم يملكوا لأنفسهم صبرًا حتى تنقضي الأيام المشروطة على أن ذلك لم يثمر إلا الحقد والعداوة التي تأسست في قلوب الفرنسيس وأوجبت ما حصل بعد ذلك من وقوع العذاب البئيس.
وقال الشعبي من جملة كلام: وصادفنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وأخذ الفرنساوية في أهبة الرحيل وشرعوا في بيع أمتعتهم وما فضل عن سلاحهم ودوابهم وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصالحية وبلبيس ودمياط والسويس ثم إن العثمانيين تدرجوا في دخول مصر وصار في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة وأخذوا يشاركون الناس في صناعاتهم وحرفهم مثل القهوجية والحمامية والخياطين والمزينين وغيرهم فاجتمع العامة وأصحاب الحرف الى مصطفى باشا قائمقام وشكوا إليه فلم يلتفت لشكواهم لأن ذلك من سنن عساكرهم وطرائقهم القبيحة.
ووصل الخبر بوصول حضرة الوزير الى بلبيس وصحبته الأمراء المصرية وأرسلوا الى مراد بك ومن معه بالحضور الى العرضي فأجاب بالاعتذار عن الحضور لأنه في الصعيد.
فلم يقبلوا عذره فأكدوا عليه بالحضور فاستأذن الفرنساوية سرًا فاستأذنوا له في المقابلة وكان سفيره في ذلك عثمان بك البرديسي ثم إنه حضر وقابل الوزير بصحبة ابراهيم بك وخلع عليهما ورجع مراد بك فخيم جهة العادلية وحضر حسن آغا نزله أمين ودخل مصر وأخلى افرنساوية قلعة الجبل وباقي القلاع التي أحدثوها ونزلوا منها فلم يطلع إليها أحد من العثمانيين ولم يلتفتوا لتحصينها ولا ربطها بالعساكر والجبخانة وأعرضوا عن المحاذرة وركبهم الغرور لأجل نفاذ المقدور وحضر أيضًا غالب المصريين الفارين من مصر وقت مجيء الفرنساوية إليها من الأغوات والوجاقلية والأفندية والكتبة مثل ابراهيم أفندي الروزنامجي وثاني قلفة وغيرهما بنسائهم وأولادهم يظنون فروغ القضية والذي خافوا منه وقعوا فيه كما ستراه وأرسل ابراهيم بك الى السيد أحمد المحروقي يطلب كساوى وثيابًا وطرابيش وسراويل للمماليك ولخاصة نفسه فأرسل إليه مطلوبه وأخرجت لهم الخيام والتراتيب والنظام وهيأت نساء الأمراء والأجناد احتياجاتهم وترتيباتهم وجروا على عادتهم في العالي ولازمت الخدم والفراشون الغدو والرواح الى خيم ساداتهم وهم راكبون البغال والرهونات والحمير الفارهة وفي جحورهم تعابي الثياب والبقج المزركشة بالذهب والفضة.
وكذلك الخدم الذين يحملون الخوانات وطبالي الأطبخة والأطعمة وعليها الأغطية الحرير والوشي الملون وهم يتغنون برفع أصواتهم ويتجاوبون بكلام وسخريات ولعن للنصارى البلدية والفرنسيس بمرأى منهم ومسمع الى غير ذلك مما يحرك الحفائظ ويوغر الصدور.
ولما استقر الوزير بمدينة بلبيس وذلك في الثاني والعشرين من شهر رمضان استأذن العلماء والتجار والأعيان المصرية مصطفى باشا في التوجه للسلام فاستأذن ثم أذن لهم فذهبوا أيضًا الى ساري عسكر كلهبر واستأذنوه فأذن لهم أيضًا فذهبوا عند ذلك للسلام عليه فوصلوا الى نصوح باشا والي مصر وسلموا عليه وباتوا بوطاقه فلما وصلوا إليه واستقر بهم الجلوس سأل عن أسمائهم وكذلك عن التجار وأكابر النصارى ثم خلع عليهم خلعًا وانصرفوا من عنده فطافوا على أكابر الدولة بالعرضي وكذلك على الأمراء المصرية ورجعوا الى مصر ودخلوها وعليهم تلك الخلع وصحبتهم قاضي العسكر وهو لابس قبوط أسود ووصل نصوح باشا والأمراء الى جهة الخانكاه ثم الى المطرية.
وفيه حضر درويش باشا والي الصعيد الى خارج القاهرة جهة الشيخ قمر فمكث أيامًا ثم توجه الى قبلي وصحبته نحو المائة نفر وكذلك ذهبت طائفة الى السويس والى دمياط والمنصورة وانبثوا في البلاد ودخلوا مصر شيئًا فشيئًا.