المجلد الثاني - شهر صفر بيوم الثلاثاء سنة 1215

شهر صفر بيوم الثلاثاء سنة 1215

في أوائله سافر بعض الأعيان من المشايخ وغيرهم الى بلاد الأرياف بعيالهم وحريمهم وبعض بعث حريمه وأقام هو مسافر الشيخ محمد الحريري وصحب معه حريم الشيخ السحيمي وصهره الشيخ المهدي فلما رآهم الناس عزم الكثير منهم على الرحلة وأكثروا المراكب والجمال وغير ذلك فلما أشيع ذلك كتب الفرنسيس أوراقًا ونادوا في الأسواق بعدم انتقال الناس ورجوع المسافرين ومن لم يرجع بعد خمسة عشر يومًا نهبت داره فرجع أكثر الناس ممن سافر أو عزم على السفر إلا من أخذ له ورقة بالإذن من مشاهير الناس أو احتج بعذر كائن في خدمة لهم أو قبض خراج أو مال أو غلال من التزامه‏.‏

وفيه قرروا فردة أخرى وقدرها أربعة ملايين وقدر المليون مائة وستة وثمانون ألف فرانسة وكان الناس ما صدقوا قرب تمام الفردة الأولى بعدما قاسوا من الشدائد ما لا يوصف ومات أكثرهم في الحبوس وتحت العقوبة وهرب الكثير منهم وخرجوا على وجوههم الى البلاد ثم دهوا بهذه الداهية أيضًا فقرروا على العقار والدور مائتي ألف فرانسة وعلى الملتزمين مائة وستين ألفًا وعلى التجار مائتي ألف وعلى أرباب الحرف المستورين ستين ألفًا وأسقطوا في نظير المنهوبات مائة ألف وقسموا البلدة ثمانية أخطاط وجعلوا على كل خطة منها خمسة وعشرين ألف ريال ووكلوا بقبض ذلك مشايخ الحارات والأمير الساكن بتلك الخطة مثل المحتسب بجهة الحنفي وعمر شاه وسويقة السباعين ودرب الحجر ومثل ذي الفقار كتخدا جهة المشهد الحسيني وخان الخليلي والغورية والصنادقية والأشرفية وحسن كاشف جهة الصليبة والخليفة وما في ضمن كل من الجهات والعطف والبيوت فشرعوا في توزيع ذلك على الدور الساكنة وغير الساكنة وقسموها عال وأوسط ودون وجعلوا العال ستين ريالًا والوسط أربعين والدون عشرين ويدفع المستأجر قدر ما يدفع المالك والدار التي يجدونها مغلقة وصاحبها غائب عنها يأخذون ما عليها من جيرانها‏.‏

وفي سادس عشرينه أفرجوا عن الشيخ السادات ونزل الى بيته بعد أن غلق الذي تقرر عليه واستولوا على حصصه وأقطاعه وقطعوا مرتباته وكذلك جهات حريمه والحصص الموقوفة على زاوية أسلافه وشرطوا عليه عدم الاجتماع بالناس وأن لا يركب بدون إذن منهم ويقتصد في أمور معاشه ويقلل أتباعه‏.‏

شهر ربيع الأول سنة 1215 فيه نادوا على الناس الخارجين من مصر من خوف الفردة وغيرها بأن من لم يحضر من بعد اثنين وثلاثين يومًا من وقت المناداة نهبت داره وأحيط بموجوده وكان من المذنبين واشتد الأمر بالناس وضاقت منافسهم وتابعوا نهب الدور بأدنى شبهة ولا شفيع تقبل شفاعته أو متكلم تسمع كلمته واحتجب ساري عسكر عن الناس وامتنع من مقابلة المسلمين وكذلك عظماء الجنرالات وانحرفت طباعهم عن المسلمين زيادة عن أول واستوحشوا منهم ونزل بالرعية الذل والهوان وتطاولت عليهم الفرنساوية وأعوانهم وأنصارهم من نصارى البلد الأقباط والشوام والأروام بالإهانة حتى صاروا يأمرونهم بالقيام إليهم عند مرورهم ثم شددوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه وأصعدوه الى الحبس بالقلعة وضربوه واستمر عدة أيام في الاعتقال ثم يطلق بشفاعة بعض الأعيان‏.‏

وفيه أنزلوا مصطفى باشا من الحبس وأهدوا إليه هدايا وأمتعة وأرسلوه الى دمياط فأقام بها أيامًا وتوفي الى رحمة الله تعالى‏.‏

شهر ربيع الثاني سنة 1215 فيه اشتد أمر المطالبة بالمال وعين لذلك رجل نصراني قبطي يسمى شكر الله فنزل بالناس منه ما لا يوصف فكان يدخل الى دار أي شخص كان لطلب المال وصحبته العسكر من الفرنساوية والفعلة وبأيديهم القزم فيأمرهم بهدم الدار إن لم يدفعوا له المقرر وقت تاريخه من غير تأخير الى غير ذلك وخصوصًا ما فعله ببولاق فإنه كان يحبس الرجال مع النساء ويدخن عليهم بالقطن والمشاق وينوع عليهم العذاب ثم رجع الى مصر يفعل كذلك‏.‏

وفيه أغلقوا جميع الوكائل والخانات على حين غفلة في يوم واحد وختموا على جميعها ثم كانوا يفتحونها وينهبون ما فيها من جميع البضائع والأقمشة والعطر والدخان خانًا بعد خان فإذا فتحوا حاصلًا من الحواصل قوموا ما فيه بما أحبوا بأبخس الأثمان وحسبوا غرامته فإن بقي لهم شيء أخذوه من حاصل جاره وإن زاد له شيء أحالوه على جاره الآخر كذلك وهكذا ونقلوا البضائع على الجمال والحمير والبغال وأصحابها تنظر وقلوبهم تتقطع حسرة على مالهم وإذا فتحوا مخزنًا دخله أمناؤهم ووكلاؤهم فيأخذون من الودائع الخفيفة أو الدراهم وصاحب المحل لا يقدر على التكلم بل ربما هرب أو كان غائبًا‏.‏

وفيه حرروا دفاتر العشور وأحصوا جميع الأشياء الجليلة والحقيرة ورتبوها بدفاتر وجعلوها أقلامًا يتقلدها من يقوم بدفع مالها المحرر وجعلوا جامع أزبك الذي بالأزبكية سوقًا لمزاد ذلك بكيفية يطول شرحها وأقاموا على ذلك أيامًا كثيرة يجتمعون لذلك في كل يوم ويشترك الإثنان فأكثر في القلم الواحد وفي الأقلام المتعددة‏.‏

وفيه كثر الهدم في الدور وخصوصًا في دور الأمراء ومن فر من الناس وكذلك كثر الاهتمام بتعمير القلاع وتحصينها وإنشاء قلاع في عدة جهات وبنوا بها المخازن والمساكن وصهاريج الماء وحواصل الجبخانات حتى ببلاد الصعيد القبلية‏.‏

والأمور من أنواع ذلك تتضاعف والظلومات تتكاثف وشرعوا في هدم أخطاط الحسينية وخارج باب الفتوح وباب النصر من الحارات والدور والبيوت والمساكن والمساجد والحمامات والحوانيت والأضرحة فكانوا إذا دهموا دارًا وركبوها للهدم لا يمكنون أهلها من نقل متاعهم ولا أخذ شيء من أنقاض دارهم فينهبونها ويهدمونها وينقلون الأنقاض النافعة من الأخشاب والبلاط الى حيث عمارتهم وأبنيتهم وما بقي يبيعون منه ما أحبوا بأبخس الأثمان ولوقود النيران وما بقي من كسارات الكشاب يحزمه الفعلة حزمًا ويبيعونه على الناس بأغلى الأثمان لعدم حطب الوقود ويباشر غالب هذه الأفاعيل النصارى البلدية فهدم للناس من الأملاك والعقار ما لا يقدر قدره وذلك مع مطالبتهم بما قرر على أملاكهم ودورهم من الفردة فيجتمع على الشخص الواحد النهب والهدم والمطالبة في آن واحد وبعد أن يدفع ما على داره أو عقاره وما صدق أنه غلق ما عليه إلا وقد دهموه بالهدم فيستغيث فلا يغاث فترى الناس سكارى وحيارى ثم بعد ذلك كله يطالب بالمنكسر من الفردة وذلك أنهم لما قسموا الأخطاط كما تقدم وتولى ذلك أمير الخطة وشيخ الحارة والكتبة والأعوان وزعوا ذلك برأيهم ومقتضي أغراضهم فأول ما يجتمعون بديوانهم يشرع الكتبة في كتابة التنابيه وهي أوراق صغار باسم الشخص والقدر المقرر عليه وعلى عقاره بحسب اجتهادهم ورأيهم وعلى هامشها كراء طريق المعينين ويعطون لكل واحد من أولئك القواسة عدة من تلك الأوراق فقبل أن يفتح الإنسان عينيه ما يشعر إلا والمعين واقف بابه وبيده ذلك التنبيه فيوعدوه حتى ينظر في حاله فلا يجد بدًا من دفع حق الطريق فما هو إلا أن يفارقه حتى يأتيه المعين الثاني بتنبيه آخر فيفعل معه كالأول وهكذا على عدد الساعات فإن لم يوجد المطلوب وقف ذلك القواس على داره ورفع صوته وشتم حريمه أو خادمه فيسعى الشخص جهده حتى يغلق ما تقرر عليه بشفاعة ذي وجاهة أو نصراني وما يظن أنه خلص إلا والطلب لاحقه أيضًا بمعين وتنبيه فيقول ما هذا فيقال له إن الفردة لم تكمل وبقي منها كذا وكذا وجعلنا على العشرة خمسة أو ثلاثة أو ما سولت لهم أنفسهم فيرى الشخص أن لابد من ذلك فما هو إلا أن خلص أيضًا إلا وكرة أخرى وهكذا أمرًا مستمرًا ومثل ذلك ما قرر على الملتزمين فكانت هذه الكسورات من أعظم الدواهي المقلقة ونكسات الحمى المطبعة‏.‏

وفي خامسه كان عيد الصليب وهو انتقال الشمس لبرج الميزان والاعتدال الخريفي وهو أول سنة الفرنسيس وهي السنة التاسعة من تاريخ قيامهم ويسمى عندهم هذا الشهر وندميير وذلك يوم عيدهم السنوي فنادوا بالزينة بالنهار والوقدة بالليل وعملوا شنكات ومدافع وحراقات ووقدات بالأزبكية والقلاع وخرجوا صبح ذلك اليوم بمواكبهم وعساكرهم وطبولهم وزمورهم الى خارج باب النصر وعملوا مصافهم فقرئ عليهم كلام بلغتهم على عادتهم وكأنه مواعظ حربية ثم رجعوا وفي هذه السنة زاد النيل زيادة مفرطة لم يعهد مثلها فيما رأينا حتى انقطعت الطرقات وغرقت البلدان وطف الماء من بركة الفيل وسال الى درب الشمسي وكذلك حارة الناصرية وسقطت عدة دور من المطلة على الخليج ومكث زائدًا الى آخر توت‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1215 فيه قرروا على مشايخ البلدان مقررات يقومون بدفعها في كل سنة أعلى وأوسط وأدنى فالأعلى وهو ما كانت بلده ألف فدان فأكثر خمسمائة ريال والأوسط وهو ما كانت خمسمائة فأزيد ثلثمائة ريال والأدنى مائة وخمسون ريالًا وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي وكيلًا في ذلك فيكون عبارة عن شيخ المشايخ وعليه حساب ذلك وهو من تحت يد الوكيل الفرنساوي الذي يقال له بريدون فلما شاع ذلك ضجت مشايخ البلاد لأن منهم من لا يملك عشاءه فاتفقوا على أن وزعوا ذلك على الأطيان وزادت في الخراج واستملوا البلاد والكفور من القبطة فأملوها عليهم حتى الكفور التي خربت من مدة سنين بل سموا أسماء من غير مسميات‏.‏

وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على نسق غير الأول من تسعة أنفار فيه خصوصي وعمومي على ما سبق شرحه بل هو ديوان واحد مركب من الشيخ الأمير والشيخ الصاوي وكاتبه والشيخ موسى السرسي والشيخ تسعة رؤساء هم الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان والمهدي كاتب السر خليل البكري والسيد علي الرشيدي نسي ساري عسكر والشيخ الفيومي والقاضي الشيخ اسمعيل الزرقاني وكاتب سلسلة التاريخ السيد اسمعيل الخشاب والشيخ علي كاتب عربي وقاسم أفندي كاتب رومي وترجمان كبير القس رفائيل وترجمان صغير الياس فخر الشامي والوكيل الكمثاري فوريه ويقال له مدبر سياسة الأحكام الشرعية ومقدم وخمسة قواسة متعممين لا غير وليس فيهم قبطي ولا وجاقلي ولا شامي ولا غير ذلك وليس واختاروا لذلك بيت رشوان بك الذي بحارة عابدين وكان يسكنه برطلمان فانتقل منه الى بيت الجلفي بالخرنفش وعمر وبيض وفرشت قاعة الحريم بمجلس الديوان فرشًا فاخرًا وعينوا عشر جلسات في كل شهر وانتقل إليها فوريه وسكنها بأتباعه وأعدوا للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانًا خاصًا يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام لترجمة أوراق الوقائع وغيرها وجعلوا لها خزائن للسجلات وفتحوا أيضًا بجانبها دارًا نفذوها إليها وشرعوا في تعميرها وتأنيقها وسموها بمحكمة المتجر وأخذوا يرتبون أنفارًا من تجار المسلمين والنصارى يجلسون بها للنظر في القضايا المتعلقة بقوانين التجار والكبير على ذلك كله فوريه ولم يتم ذلك المكان الثاني‏.‏

وفي خامس عشره شرعوا في جلسة الديوان وصورته أنه إذا تكامل حضور المشايخ يخرج إليهم الوكيل فوريه وصحبته المترجمون فيقومون له فيجلس معهم ويقف الترجمان الكبير رفائيل ويجتمع أرباب الدعاوى فيقفون خلف الحاجز عند آخر الديوان وهو من خشب مقفص وله باب كذلك وعنده الجاويش يمنع الداخلين خلاف أرباب الحوائج ويدخلهم بالترتيب الأسبق فالأسبق فيحكي صاحب الدعوة قضيته فيترجمها له الترجمان فإن كانت من القضايا الشرعية فإما أن يتمها قاضي الديوان بما يراه العلماء أو يرسلوها الى القاضي الكبير بالمحكمة إن احتاج الحال فيها الى كتابة حجج أو كشف من السجل وإن كانت من غير جنس القضايا الشرعية كأمور الالتزام أو نحو ذلك يقول الوكيل ليس هذا من شغل الديوان فإن ألح على أرباب الديون في ذلك يقول اكتبوا عرضًا لساري عسكر فيكتب الكاتب العربي والسيد اسمعيل يكتب عنده في سجله كل ما قال المدعى عليه وما وقع في ذلك من المناقشة وربما تكلم قاضي الديوان في بعض ما يتعلق بالأمور الشرعية ومدة الجلسة من قبيل الظهر بنحو ثلاث ساعات الى الأذان أو بعده بقليل بحسب الاقتضاء ورتبوا لكل شخص من مشايخ الديوان التسعة أربعة عشر ألف فضة في كل شهر عن كل يوم أربعمائة نصف فضة وللقاضي والمقيد والكاتب العربي والمترجمين وباقي الخدم مقادير متفاوتة تكفيهم وتغنيهم عن الارتشاء وفي أول جلسة من ذلك اليوم عملت المقارعة لرئيس الديوان وكاتب السر فطلعت للشرقاوي والمهدي على عادتهما وكذلك الجاويشية والترجمان وكتبت تذكرة من أهل الديوان خطًا بالساري عسكر يخبرونه فيها بما حصل من تنظيم الديوان وترتيبه وسر الناس بذلك لظنهم أنه انفتح لهم باب الفرج بهذا الديوان ولما كانت الجلسة الثانية ازدحم الديوان بكثرة الناس وأتوا إليه من كل فج يشكون‏.‏

وفي ثالث عشرينه أمروا بجمع الشحاذين أي السؤال بمكان وينفق عليهم نظار الأوقاف‏.‏

وفيه أيضًا أمروا بضبط إيراد الأوقاف وجمعوا المباشرين لذلك وكذلك الرزق الأحباسية والأطيان المرصدة على مصالح المساجد والزوايا وأرسلوا بذلك الى حكام البلاد والأقاليم‏.‏

وفي غايته حضر رجل الى الديوان مستغيث بأهله وإن قلق الفرنسيس قبض على ولده وحبسه عند قائمقام وهو رجل زيات وسبب ذلك أن امرأة جاءت إليه لتشتري سمنًا فقال لها لم يكن عندي سمن فكررت عليه حتى حنق منها فقالت له كأنك تدخره حتى تبيعه على العثملي تريد بذلك السخرية فقال لها نعم رغمًا عن أنفك وأنوف الفرنسيس فنقل عنه مقالته غلام كان معها حتى أنهوه الى قائمقام فأحضره وحبسه ويقول أبوه أخاف أن يقتلوه فقال الوكيل لا لا يقتل بمجرد هذا القول وكن مطمئنًا فإن الفرنساوية لا يظلمون كل هذا الظلم فلما كان في اليوم الثاني قتل ذلك الرجل ومعه أربعة لا يدري ذنبهم وذهبوا كيوم مضى‏.‏

والطلب والنهب والهدم مستمر ومتزايد وأبرزوا أوامر أيضًا بتقرير مليون على الصنائع والحرف يقومون بدفعه في كل سنة قدره مائة ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسة ويكون الدفع على ثلاث مرات كل أربعة أشهر يدفع من المقرر الثلث وهو إثنان وستون ألف فرانسة فدهى الناس وتحيرت أفكارهم واختلطت أذهانهم وزادت وساوسهم وأشيع أن يعقوب القبطي تكفل بقبض ذلك من المسلمين ويقلد في ذلك شكر الله وأضرابه من شياطين أقباط النصارى واختلفت الروايات فقيل إن قصده أن يجعلها على العقار والدور وقيل بل قصده توزيعها بحسب الفردة وذلك عشرها لأن الفردة كانت عشرة ملايين فالذي دفع عشرة يقوم بدفع واحد على الدوام والاستمرار ثم قيدوا لذلك رجلًا فرنساويًا يقال له دناويل وسموه مدبر الحرف فجمع الحرف وفرض عليهم كل عشرة أربعة فمن دفع عشرة في الفردة يدفع أربعة الآن فعورض في ذلك بأن هذا غير منقول فقال هذا باعتبار من خرج من البلد ومن لم يدخل في هذه الفردة كالمشايخ والفارين فإن الذي جعل عليهم أضيف على من بقي فاجتمع التجار وتشاوروا فيما بينهم في شأن ذلك فرأوا أن هذا شيء لا طاقة للناس به من وجوه الأول وقف الحال وكساد البضائع وانقطاع الأسفار وقلة ذات اليد وذهاب البقية التي كانت في أيدي الناس في الفرد والدواهي المتتابعة الثاني أن الموكلين بالفردة السابقة وزعوا على التجار والمتسببين وكل من كان له اسم في الدفتر من مدة سنين ثم ذهب ما في يده وافتقر حاله وخلا حانوته وكيسه فألزموه بشخص من ذلك وكلفوه به وكتب اسمه في دفتر الدافعين ويلزم ما يلزمهم وليس ذلك في الإمكان الثالث أن الحرفة التي دفعت مثلًا ثلاثين ألفًا يلزمها ثلاث آلاف في السنة على الرأي الأول وعلى الثاني اثنا عشر ألفًا وقد قل عددهم وغلقت أكثر حوانيتهم لفقرهم وهجاجهم وخصوصًا إذا ألزموا بذلك المليون فيفر الباقي ويبقى من لا يمكنه الفرار ولا قدرة للبعض بما يلزم الكل‏.‏

وفيه أمر الوكيل بتحرير قائمة تتضمن أسماء الذين تقلدوا قضاء البلاد من طرف القاضي والذين لم يتقلدوا وأخبر أن السر في ذلك أن مناصب الأحكام الشرعية استقر النظر فيها له وأنه لابد من استئناف ولايات القضاة حتى قاضي مصر بالقرعة من ابتداء سنة الفرنساوية ويكتب لمن تطلع له القرعة تقليد من ساري عسكر الكبير فكتبت له القائمة كما أشار‏.‏

وفي رابعه قتل جماعة بالرميلة وغيرها ونودي عليهم هذا جزاء من يتداخل في الفرنسيس والعثملي‏.‏

وفي سادسه عملت القرعة على طهابل زاد تكرارها ثلاث مرات لقاضي مصر واستقرت للعريشي على ما هو عليه وخرج له التقليد بعد مدة طويلة‏.‏

وفي ثامنه قتل غلام وجارية بباب الشعرية ونودي عليهما هذا جزاء من خان وغش وسعى وفي تاسعه حضر جماعة من الوجاقلية الى الديوان وهم يوسف باشا جاويش ومحمد آغا سليم كاتب الجاويشية وعلي آغا يحيى باشجاويش الجراكسة ومصطفى آغا أبطال ومصطفى كتخدا الرزاز وذكروا أنهم كانوا تعهدوا بباقي الفردة المطلوبة من الملتزمين وقدرها خمسة وعشرين ألف ريال وقد استدانوا لذلك قدرًا من البن بخمسة وثالثين ألف ريال فرانسة ليوفوا ما عليهم من الديون وأنهم أرسلوا الى حصصهم يطالبون الفلاحين بما عليهم من الخراج فامتنع الفلاحون من الدفع وأخبروا أن الفرنساوية خرجوا عليهم ومنعوهم من دفع المال للملتزمين فكتب لهم عرض حال في شأن ذلك وأرسل الى ساري عسكر ولم يرجع جوابه‏.‏

وفي رابع عشره صنع الجرنال بليار المعروف بقائمقام عزومة لمشايخ الديوان والوجاقلية وأعيان التجار وأكابر نصارى القبط والشوام ومد لهم أسمطة حافلة وتعشوا عنده ثم ذهبوا الى بيوتهم‏.‏

وفي ثاني عشرينه طيف بامرأتين في شوارع مصر بين يدي الحاكم ينادي عليهما هذا جزاء من يبيع الأحرار وذلك أنها باعتا امرأة لبعض نصارى الأروام بتسعة ريالات‏.‏

وفيه طلب الخواجة الفرنسيسي المعروف بموسى كافو من الوجاقلية بقية الفردة المتقدم ذكرها فأجابوا بأن سبب عجزهم عن غلاقها توقف الفلاحين عن دفع المال بأمر الفرنساوية وعدم تحصيلهم المال من بلادهم ثم أحيلوا بعد كلام طويل على استيفاء الخازندار لأن ذلك من وظائفه وفي سابع عشرينه حضر الوجاقلية ومعهم بعض الأعيان وحريمات ملتزمات يستغيثون بأرباب الديوان ويقولون إنه بلغنا أن جمهور الفرنساوية يريدون وضع أيديهم على جميع الالتزام المفروج عنه الذي دفعوا حلوانه ومغارمه ولا يرفع أيدي الملتزمين عن التصرف في الالتزام جملة كافية وقد كان قبل ذلك أنهى الملتزمون الذين لم يفرجوا لهم عن حصصهم إما لفرارهم وعودهم بالأمان وإما لقصر أيديهم عن الحلوان وإما لشراقي بلادهم وإما لانتظارهم الفرج وعود العثمانيين فيتكرر عليهم الحلوان والمغارم فلما طال المطال وضاق حال الناس عضروا أمرهم وطلبوا من مراحم الفرنساوية الإفراج عن بعض ما كان بأيديهم ليتعيشوا به ووقع في ذلك بحث طويل ومناقشات يطول شرحها ثم ما كفى حتى بلغهم أن القصد نزع المفروع عنه أيضًا ونزع أيدي المسلمين بالكلية وأنهم يستشفعون بأهل الديوان عند ساري عسكر بأن يبقى عليهم التزامهم يتعيشون به ويقضون ديونهم التي استدانوها في الحلوان ومغارم الفردة فقال فوريه الوكيل هل بلغكم ذلك من طريق صحيح فقالوا نعم بلغنا من بعض الفرنساوية وقال الشيخ خليل البكري وأنا سمعته من الخازندار وقال الشيخ المهدي مثل ذلك وأنهم يريدون تعويضهم من أطيان الجمهور فقال الملتزمون إن بيدنا الفرمانات والتمسكات من سلفكم بونابارته ومن السلاطين السابقين ونوابهم وقائمون بدفع الخراج وأنهم ورثوا ذلك عن آبائهم وأسلافهم وأسيادهم وإذا أخذ منهم الالتزام اضطروا الى الخروج من البلد والهجاج وخراب دورهم ويصبحون صعاليك ولا يأتمنهم الناس وطال البحث في ذلك والوكيل مع هذا كله ينكر وقوع ذلك مرة ويناقش أخرى الى أن انتهى الكلام بقوله إن الكلام في هذا وأمثاله ليس من وظيفتي فإني حاكم سياسة الشريعة لا مدبر أمر البلاد نعم من وظيفتي المعاونة والنصح فقط‏.‏

وفي خامس عشرينه اتفق أن جماعة من أولاد البلد خرجوا الى النزهة جهة الشيخ قمر ومعهم جماعة آلاتية يغنون ويضحكون فنزل إليهم جماعة من العسكر الفرنساوية المقيمين بالقلعة الظاهرية خارج الحسينية وقبضوا عليهم وحبسوهم وأرسلوا شخصًا منهم الى شيخ البلد بليار وأخبروه بمكانهم ليستفسر عن شأنهم فلقيه ثم رده الى القلعة الظاهرية ثانيًا فبات عند أصحابه ثم طلبهم في ثاني يوم فذهبوا وصحبتهم جماعة من العسكر بالبندق تحرسهم فقابلوه ومن عليهم بالإطلاق وذهبوا الى منازلهم‏.‏

وفيه منعوا الآغا والوالي والمحتسب من عوائدهم على الحرف والمتسببين فإنها اندرجت في أقلام العشور ورتبوا لهم جامكية من صندوق الجمهور يقبضونها في كل شهر‏.‏

واستهل شهر شعبان سنة 1215 فيه أجيب الملتزمون بإبقاء التزامهم عليهم وأنكروا ما قيل في رفع أيديهم وعوتب من صدق هذه الأكذوبة وإن كانت صدرت من الخازندار فإنما كانت على سبيل الهزل أو يكون التحريف من الترجمان أو الناقل‏.‏

وفيه حضر التجار الى الديوان وذكروا أمر المليون وأن قصدهم أن يجعلوه موزعًا على الرؤوس ولا يمكن غير ذلك وطال الكلام والبحث في شأن ذلك ثم انحط الأمر على تفويض ذلك لرأي عقلاء المسلمين وأنهم يجتمعون ويدبرون ويعملون رأيهم في ذلك بشرط أن لا يتداخل معهم في هذا الأمر نصراني أو قبطي وهم الضامنون لتحصيله بشرط عدم الظلم وأن لا يجعلوا على النساء ولا الصبيان ولا الفقهاء ولا الخدامين شيئًا وكذلك الفقراء ويراعى في ذلك حال الناس وقدرهم وصناعتهم ومكاسبهم ثم قالوا نرجو أن تضيفوا إلينا بولاق ومصر القديمة فلم يجابوا الى ذلك لكونهم جعلوهما مستقلين وقرروا عليهما قدرًا آخر خلاف الذي قرروه على مصر‏.‏

وفيه لخصوا عرضًا ولطفوا فيه العبارة لساري عسكر فأجيبوا الى طلبهم ما عدا بولاق ومصر القديمة وأخرجوا من أرباب الحرف الصيارفة والكيالين والقبانية وجعلوا عليهم بمفردهم ستين ألف ريال خلاف ما يأتي عليهم من المليون أيضًا يقومون بدفعها في كل سنة والسر في تخصيص الثلاث حرف المذكورة دون غيرها أن صناعتهم من غير رأس مال‏.‏

وفيه أفردوا ديوانًا لذلك ببيت داود كاشف خلف جامع الغورية وتقيد لذلك السيد أحمد الزرو وأحمد بن محمود محرم وابراهيم أفندي كاتب البهار وطائفة من الكتبة وشرعوا في تحرير دفاتر بأسماء الناس وصناعاتهم وجعلوها طبقات فيقولون فلان من نمرة عشرة أو خمسة أو ثلاثة أو اثنين أو واحد ومشوا على هذا الاصطلاح‏.‏

وفيه أبطلوا عشور الحرير الذي يتوجه من دمياط الى المحلة الكبرى‏.‏

وفيه أرسل ساري عسكر يسأل المشايخ عن الذين يدورون في الأسواق ويكشفون عوراتهم ويصيحون ويصرخون ويدعون الولاية وتعتقدهم العامة ولا يصلون صلاة المسلمين ولا يصومون هذا جائز عندكم في دينكم أو هو محرم فأجابوه بأن ذلك حرام ومخالف لديننا وشرعنا وسنتنا فشكرهم على ذلك وأمر الحكام بمنعهم والقبض على من يرونه كذلك فإن كان مجنونًا ربط بالمارستان أو غير مجنون فإما أن يرجع عن حالته‏.‏

وفيه أرسل رئيس الأطباء الفرنساوي نسخًا من رسالة ألفها في علاج الجدري لأرباب الديوان لكل واحد نسخة على سبيل المحبة والهدية ليتناقلها الناس ويستعملوا ما أشار إليه فيها من العلاجات لهذا الداء العضال فقبلوا منه ذلك وأرسلوا له جوابًا شكرًا له على ذلك وهي رسالة لا بأس بها في بابها‏.‏وفي

حادي عشره وجدت امرأة مقتولة

بغيط عمر كاشف بالقرب من قناطر السباع فتوجه بسبب الكشف عليها رسول القاضي والآغا وأخذوا الغيطانية وحبسوهم وكان بصحبتهم أيضًا القبطان الحاكم بالخط ولم يظهر القاتل ثم أطلقوا الغيطانية بعد أيام‏.‏

وفيه كمل المكان الذي أنشؤوه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى في لغتهم بالكمرى وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليال واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل وذلك بلغتهم ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة‏.‏

وفي سادس عشره ذكروا في الديوان أن ساري عسكر أمر وكيل الديوان أنه يذكر لمشايخ الديوان أن قصده ضبط وإحصاء من يموت ومن يولد من المسلمين وأخبرهم أن ساري عسكر بونابارته كان في عزمه ذلك وأن يقيد له من يتصدى لذلك ويرتبه ويدبره ويعمل له جامكية وافرة فلم يتم مرامه والآن يريد تتميم ذلك ويطلب منه التدبير في ذلك وكيف يكون وذكر لهم أن في ذلك حكمًا وفوائد منها ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار فقال بعض الحاضرين وفيه معرفة انقضاء عدة الأزواج أيضًا ثم اتفق الرأي على أن يعلموا بذلك قلقات الحارات والأخطاط وهم يقيدون على مشايخ الحارات والأخطاط بالتفحص عن ذلك من خدمة الموتى والمغسلين والنساء القوابل وما في معنى ذلك ثم ذكر الوكيل أن ساري عسكر ولد له مولود فينبغي أن تكتبوا له تهنئة بذلك المولود الذي ولد له من المرأة المسلمة الرشيدية وجوابًا عن هذا الرأي فكتبوا ذلك في ورقة كبيرة وأوصلها إليه الوكيل فوريه‏.‏

وفي غايته سقطت منارة جامع قوصون سقط نصفها الأعلى فهدم جانبًا من بوائك الجامع ونصفها الأسفل مال على الأماكن المقابلة له بعطفة الدرب النافذ لدرب الأغوات وبقي مسندًا كذلك قطعة واحدة الى يومنا هذا وأظن أن سقوطها من فعل الفرنسيس بالبارود‏.‏

واستهل شهر رمضان سنة 1215 ثبت هلاله ليلة الجمعة وعملت الرؤية وركب المحتسب ومشايخ الحرف بالطبول والزمور على العادة وأطلقوا له خمسين ألف درهم لذلك نظير عوائده التي كان يصرفها في لوازم الركبة‏.‏

وفي خامسه وقع السؤال والفحص عن كسوة الكعبة التي كانت صنعت على يد مصطفى آغا كتخدا الباشا وكملت بمباسرة حضرة صاحبنا العمدة الفاضل الأريب الأديب الناظم الناثر السيد اسمعيل الشهير بالخشاب ووضعت في مكانها المعتاد بالمسجد الحسيني وأهمل أمرها الى حد تاريخه وربما تلف بعضها من رطوبة المكان وخرير السقف من المطر فقال الوكيل إن ساري عسكر قصده التوجه بصحبتكم يوم الخميس قبل الظهر بنصف ساعة الى المسجد الحسيني ويكشف عنها فإن وجد بها خللًا أصلحه ثم يعيدها كما كانت وبعد ذلك يشرع في إرسالها الى مكانها بمكة وتكسى بها الكعبة على اسم المشيخة الفرنساوية فقالوا لهم شأنكم وما تريدون وقرئ في المجلس فرمان بمضمون ذلك‏.‏

وفي ذلك اليوم قرئ فرمان مضمونه أنه وردت مكاتبات من فرانسا بوقوع الصلح بينهم وبين أهل الجزائر وتونس بشروط ممضاة مرضية وقد أطلقا الإذن للتجار من أهل الجهتين بالسفر للتجارة فمن سافر له الحماية والصيانة في ذهابه وإيابه وإقامته باسم دولة الجمهور الفرنساوية الى آخره ولم يظهر لذلك أثر‏.‏

وفيه قرئ تقليد الشيخ أحمد العريشي بقضاء مصر ووصل أيضًا تقليد القضاء بدمياط لأحمد أفندي عبد القادر وأبيار للعلامة الشيخ رضوان نجا ومحلة مرحوم للشيخ عبد الرحمن طاهر الرشيدي وذلك على موجب القرعة السابقة من مدة شهرين أو أكثر وقرئ ذلك بالديوان ولم يحصل بعد ذلك غيرهم فلما كان صبح ذلك اليوم أرسل شيخ البلد بليار الى العريشي ومشايخ الديوان والوجاقلية فلما تكاملوا خلع على القاضي العريشي فروة سمور بولايته القضاء وركب بصحبته الجميع وجملة من العساكر الفرنساوية وشيخ البلد بجانبه ومشوا من وسط المدينة الى أن وصلوا المحكمة بين القصرين فجلسوا ساعة من النهار وقرئ تقليده بحضرة الجميع ووكيل الديوان فوريه ثم رجعوا الى منازلهم‏.‏

وفي يوم الخميس الموعود بذكره توجه الوكيل ومشايخ الديوان الى المشهد الحسيني لانتظار حضور ساري عسكر الفرنسيس بسبب الكشف على الكسوة وازدحم الناس زيادة على عادتهم في الازدحام في رمضان فلما حضر ونزل عن فرسه عند الباب وأراد العبور للمسجد رأى ذلك الازدحام فهاب الدخول وخاف من العبور وسأل ممن معه عن سبب هذا الازدحام فقالوا له هذه عادة الناس في نهار رمضان يزدحمون دائمًا على هذه الصورة في المسجد ولو حصل منكم تنبيه كنا أخرجناهم قبل حضوركم فركب فرسه ثانيًا وكر راجعًا وقال نأتي في يوم آخر وانصرف حيث جاء وانصرفوا‏.‏

وفي ليلة السبت تاسعه حصلت كائنة سيدي محمود وأخيه سيدي محمد المعروف بأبي دفية وذلك أن سيدي محمود المذكور كان بينه وبين علي باشا الطرابلسي صداقة ومحبة أيام إقامته بالجيزة وحج صحبته في سنة تسع ومائتين وألف فلما وقعت حادثة الفرنساوية وخرج علي باشا المذكور مع من خرج الى الشام ووردت العساكر العثمانية صحبة يوسف باشا الوزير في العام الماضي وصحبته علي باشا المذكور وله به مزيد الوصلة والعناية والمرجع في المشورة لخبرته بالأقطار المصرية ومعرفته أهالي البلاد استثاره في شخص يعرفه يكون عينًا بمصر ليراسله ويطالعه بالأخبار فأشار عليه بمحمود أفندي المذكور فكانوا يراسلونه ويطالعهم بالأخبار سرًا فلما قدموا الى مصر في السنة الماضية وجرى ما جرى من نقض الصلح ورجوع الوزير ولم يزل سيدي محمود تأتيه المراسلات بواسطة السيد أحمد المحروقي أيضًا ولأن علي باشا ارتحل الى الديار الرومية فيطالعهم كذلك بالأخبار مع شدة الحذر خوفًا من سطوة الفرنساوية وتجسس عيونهم المقيدة لذلك فكان يذهب القاصد ويرد له الجواب فلما كان في التاريخ ورد عليه رسول ومعه جواب وأربعة أوراق مكتوبة باللغة الفرنساوية وفيها الأمر بتوزيعها ووضعها في أماكن معينة حيث سكن الفرنساوية فوزع اثنين وقصد وضع الثالثة في موضع جمعيتهم فلم يمكنه ذلك إلا ليلًا فأعطاها خادمه وأمره أن يشكها بمسمار في حائط ذلك المكان وهو بالقرب من الحمام المعروف بحمام الكلاب ففعل وتلكأ في الذهاب فاطلع عليه بعض الفرنسيس من أعلى الدار فنزل إليه وأخذ الورقة وقبضوا على ذلك الخادم وصادف ذلك مرور حسن القلق وهو يتوقع نكتة تكون له بها الوجاهة عند الفرنساوية فاغتنم هذه الفرصة وقبض على الخادم مع الفرنساوية وسيده ينظر إليه من بعيد وعلم أنه وقع في خطب لا ينجيه منه إلا الفرار فرفع الى داره وتناجي مع أخيه واستشاره فيما وقع فيه وكيف يكون العمل فأشار عليه بالاختفاء ويستمر أخوه بالمنزل مستهدفًا للقضاء وليكون وقاية على منزله وعرضه وليس هو مقصودًا بالذات فكان كذلك وتغيب سيدي محمود وأصبح الطلب قاصده فلما لم يجده قبضوا على أخيه سيدي محمد أفندي ومن كان معه بالبيت وهو الشيخ خليل المنير وقرابته اسمعيل حلبي ونسيبه البرنوسي والسقاء وشيخ حارتهم وحبسوهم ببيت قائمقام وهم سبعة أنفار بالخادم المقبوض عليه أولًا وأوقفوا حرسًا بدارهم واجتهدوا في الفحص عن سيدي محمود وتكرار السؤال عليه من أخيه ورفقائه أيامًا فلما لم يقفوا له على خبر أحاطوا بالدار ونهبوا ما فيها وصحبتهم الخادم يدلهم على المتاع والمخبآت ثم أصعدوهم الى القلعة وضيقوا عليهم وأرسلوا خلف الشواربي شيخ قليوب ومن كان ينتقل عندهم وألزموهم بإحضاره فأنكروه وجحدوه ثم أطلقوا خادمه بعد أن أعطوه خمسين ريالًا فرانسة وجعلوا له ألفًا إن دلهم عليه وقيدوا به عينًا يتبعه أينما توجه فاستمر أيامًا يغدو ويروح في مظناته فلما لم يقع له على خبر فردوه الى السجن ثانيًا عند أصحابه ولم يزالوا حتى فرج الله عنهم وأما المطلوب فوقع له مزيد المشقة في مدة اختفائه وتبرأ منه غالب أصحابه ومعارفه من العربان وغيرهم وتنكروا منه ولم يزل حتى استقر عند شيخ العرب موسى أبي حلاوة وأولاده بناحية أمييه بالقليوبية باطلاع الشواربي فأكرموه وواسوه وأخفوا أمره ولم يزل مقيمًا عندهم في غاية الإكرام حتى فرج الله عنه‏.‏

ولما كان يوم الخميس رابع عشره تقيد للحضور بسبب الكشف على الكسوة استوفوا خازندار الجمهور وفوريه وكيل الديوان فحضر صحبتهم المشايخ والقاضي والآغا والوالي والمحتسب بعدما أخلى المسجد من الناس وأحضروا خدامين الكسوة الأقدمين وحلوا رباطاتها وكشفوا عليها فوجدوا بها بعض خلل فأمروا بإصلاحه ورسموا لذلك ثلاثة آلاف فضة وكذلك رسموا للخدمة الذين يخدمونها ألف نصف فضة ولخدمة الضريح ألف نصف ثم ركبوا الى منازلهم ثم طويت ووضعت في مكانها بعد إصلاحها‏.‏

وفي رابع عشرينه ضربت مدافع كثيرة بسبب ورود مركبين عظيمين من فراسن افيهما عساكر وآلات حرب وأخبار بأن بونابارته أغار على بلاد النيمسا وحاربهم وحاصرهم وضايقهم وأنهم نزلوا على حكمه وبقي الأمر بينهم وبينه على شروط الصلح وأنه استغنى عن هذه الأشياء المرسلة وسيأتي في أثرهم مركبان آخران فيهما أخبار تمام الصلح ويستدل بذلك على أن مملكة مصر صارت في حكم الفرنسيس لا يشركهم غيرهم فيها هكذا قالوا وقرؤوه في ورقة بالديوان‏.‏

واستهل شهر شوال سنة 1215 فيه بدا أمر الطاعون فانزعج الفرنساوية من ذلك وجردوا مجالسهم من الفرش وكنسوها وفي ثامنه قال وكيل الديوان للمشايخ إن حضرة ساري عسكر بعث إلي كتابًا معناه إيضاح ما يتعلق بأمر الكرنتينه ويرى رأيكم في ذلك وهل توافقون على رأي الفرنساوي أم تخالفون فقالوا حتى تنظر ما هو المقصود فقال حضرة أرباب الديون يجب عليهم أن يعملوا الطريق الذي يكون سببًا لانقطاع هذه العلة فإننا نبغي لهم ولغيرهم الخير فإن أجابوا فذاك وإلا فليزموا ولو قهرًا وربما استعملنا القصاص ولو بالموت عند المخالفة ومن الذي يتغافل عما يكون سببًا لقطع هذا الداء فإن رأينا قد انعقد على ذلك ويجب أن يتفق معنا أرباب الديوان لأن حفظ الصحة واجب ولذا نرى كثيرًا من الناس ولاسيما المتشرعون يستعمل الطبيب عند المرض وغايته حفظ الصحة وما نحن فيه من ذلك ونذكر لكم أن بلاد الغرب قد اعتمدوا فعل الكرنتينة الآن فعلماء القاهرة أولى بأن لا يتأخروا عن استعمال الوسائط إذ قد ربطت الأسباب بالمسببات فقيل له وما الذي تأمرون به أن يفعل فقال هو الحذر لا غير وهو الغاية والنتيجة وهو أنه إذا دخل الطاعون بيتًا ألا يدخل فيه أحد ولا يخرج منه أحد مع ما يترتب على ذلك من القوانين المختصة به وخدمة المريض وعلاجه وسيوضح لكم ذلك فيما بعد يعني أن تذعنوا للطاعة وعدم المخالفة وظل البحث والمناقشة في ذلك بين أرباب الديوان والوكيل وانفض المجلس على أن الوكيل سيفاوض ساري عسكر في ذلك ثم يدبرون أمرًا وطريقة يكون فيها الراحة للناس البلدية وفي ثالث عشره ضربت عدة مدافع من القلاع لا يدرى سببها‏.‏

وفي رابع عشره قرئ فرمان من ساري عسكر بالديوان وألصقت منه نسخ في مفارق الطرق والأسواق‏.‏

ونصه‏:‏ بعد البسملة والحمدلة من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا الى كامل الأهالي كبير وصغير غني وفقير المقيمين حالًا بمحروسة مصر وبمملكة مصر الناس الذين هم من الأشقياء والمفسدين ولا يفتشون إلا على الإضرار بالناس وإضراركم يظهرون في وسط المدينة بينكم أخبارًا رديئة تزويرًا لتخويفكم وتخويف المملكة وكل ذلك كذب وافتراء فإنما نحن نخبركم جميعًا أن كلًا من الأهالي المذكورة من أي طائفة وملة كان الذي يثبت عليه بالإشهاد أو النشر من نفسه بينكم تلك الأخبار الرديئة المكذوبة تخويفًا لكم وإضلالًا بالناس ففي الحال ذلك الرجل يمسك وترمى رقبته بوسط واحدة طرق مصر ويا أهالي مصر انتبهوا وتذكروا هذه الكلمات وكونوا مسترحين البال ومترفهين الحال إنما دولة الجمهور الفرنساوي حاضرة لحمايتكم وصيانتكم ولكن ناظر كذلك الى تعذيب العصاة والسلام على من اتبع الهدى والصدق والاستقامة تحرير في شهر وافتور سنة تسع الموافق لحادي عشر شهر شوال انتهى‏.‏

فعلم الناس من ذلك الفرمان ورود شيء وحصول شيء على حد كاد المرتاب أن يقول خذني وليس للناس ذكر ولا فكر إلا في بواقي الفردة وما لزمهم في المليون ولا شغل لكل فرد إلا بتحصيل ما فرض عليه ولعل ذلك بسبب الأوراق الواصلة على يد سيدي محمود أبي دفية باللغة الفرنساوية التي تقدم ذكرها واشتهر أيضًا أنه وردت عليهم أخبار بوصول مراكب انكليز جهة أبي قير وفي ذلك المجلس سئل الوكيل عن ضرب المدافع لأي شيء فقال لابد وأن أحيط علمكم ببعض ذلك في هذا المجلس وهو أن الفرنساوية كانت تحارب القرانات والآن وقع صلح بينهم وبين القرانات ما عدا الانكليز فإنه الآن مضيق عليه وربما كان ذلك سببًا لرضاه بالدخول في الصلح وقد خرج من فرانسا عمارة ربما توجهت على الهند وربما أنهم يقدمون الى مصر وقد وصل لساري عسكر أمر من المشيخة بوصول مراكب الموسقو التي تحمل الذخائر الى الفرنساوية وأن يمكنهم من دخول اسكندرية وقد خرج سنة غلايين من فرانسا الى بحر الهند فربما قدموا بعد ذلك الى جهة السويس وبورود هذه الأخبار تعين خلوص مصر الى جمهور الفرنساوية وفي سالف الزمان كانت جميع القرانات التي بالجهة الشمالية ضدًا للفرنساوية وقد زالت الآن هذه الضدية ومتى انقضى أمر الحرب عمت الرحمة والرأفة والنظر بالملاطفة للرعية والذي أوجب الاغتصاب والعسف إنما هو الحرب ولو دامت المسالمة لما وقع شيء من هذا فقال بعض أهل الديوان سنة الملوك العفو والصفح وما مضى لإبعاد فارحموا واعفوا عما سلف فقال الوكيل قد وقع الامتحان ولم يبق إلا السلم والمسامحة‏.‏

وفيه قبضوا على القلق المعروف بعمر آغا وهو أغات المغاربة المرتبة عندهم عسكرًا وعلى شخصين آخرين يدعى أحدهما علي جلبي والآخر مصطفى جلبي وسجنا بالقلعة وسبب ذلك أنه حضر الى مصطفى جلبي مكتوب من نسيبه بجهة الشام يطلب منه بعض حوائج فقرئ ذلك المكتوب بحضرة عمر القلق ورفيقه الآخر فوشي بهم رجل قواس فقبضوا على الجميع وكان مصطفى جلبي المذكور سكن ببيته محمد أفندي ثاني قلفة فدخلوا يفتشون عليه في الدار فلم يجدوه فألزموا به محمد أفندي المذكور وأزعجوه وأحاط به عدة من العسكر ولم يمكنوه من القيام من مجلسه ولا من اجتماعه بأحد وبعد أن وجدوا ذلك الإنسان لم يفرجوع عن محمد أفندي بل استمر معهم في الترسيم ووجدوا مكانًا بالدار به أسلحة وأمتعة فنهبوه وانتهبت الدار والحارة وحصل عندهم غاية الكرب والمشقة حتى أن بعض جيران ذلك المحل كبر عنده الخوف وغلب عليه الوهم فمات فجأة رحمه الله ثم فرج الله عن محمد أفندي بعد ثلاثة أيام وأطلق عمر القلق لظهور براءته ولم يكن له جرم غير العلم والسكوت وانتقل محمد أفندي من تلك الدار وما صدق بخلاصة منها وبقي علي جلبي ومصطفى جلبي في الحبس وفي سابع عشره استفيضت وفي ثامن عشره خرج جملة من العسكر الفرنساوية وسافروا الى الجهة البحرية برًا وبحرًا‏.‏

وفي عشرينه اجتمع أهل الديوان فيه على العادة فبدأ الوكيل يقول إنه كان يظن أنه يكون حرب ولكن وردت أخبار أن المراكب التي حضرت الى اسكندريةوهي نحو مائة وعشرين مركبًا قد رجعت فقيل له وما هذه المراكب فقال مراكب فيها طائفة من الانكليز وصحبتهم جماعة من الأروام ليس فيها مراكب كبار إلا قليل جدًا وباقيها صغار تحمل الذخيرة ثم قال إن حضرة ساري عسكر قد كان وجه إليكم فرمانًا في شأن ذلك قبل أن يتبين الأمر وهو وإن كان قد فات موضعه من حيث أنه كان يظن أن هناك حربًا ولكن من حيث كونه قد برز الى الوجود فينبغي أن يتلى على مسامعكم ثم أمر رفائيل الترجمان بقراءته ونصه‏:‏ من عبد الله جاك منو سر عسكر أمين عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا الى جميع الكبير والصغير الأغنياء والفقراء المشايخ والعلماء وجميعهم الذين يتبعون الدين الحق والحاصل لجميع أهالي بر مصر سلمهم الله بمقام السر عسكر الكبير بمصر في أربعة عشر شهر ونتوز سنة تسع من قيام الجمهور الفرنساوية واحد ولا ينقسم ثم كتب تحت ذلك البسملة ولفظ الجلالة وتحته أن الله هو هادي الجنود ويعطي النصرة لمن يشاء والسيف الصقيل في يد ملاكه يسابق دائمًا الفرنساوية ويضمحل أعداؤهم أن الانكليزية الذين يظلمون كل جنس للشر في كل المواضع فهم ظهروا في السواحل وإن كان يتجرأوا يضعوا أرجلهم في البر فيرتدوا في الحال على أعقابهم في البحر والعثمانيين متحركين كهؤلاء الانكليزية يعملون أيضًا بعض حركات فإن كان يقدموا ففي الحال يرتدوا وينقلعوا في غبار وعفار البادية فأنتم يا أهالي مملكة ومحروسة مصر إني أنا أخبركم إن كان تسلكوا في طريق الخائفين الله وتبقوا مستريحين في بيوتكم ومقيمين كما كنتم في أشغالكم وأغراضكم فحينئذ لا خوف عليكم ولكن إن كان واحد منكم يسلك للفساد وإضلالكم بالعداوة ضد دولة الجمهور الفرنساوي فأقسمت بالله العظيم وبرسوله الكريم أن رأس ذلك المفسد ترمى تلك الساعة فتذكروا في كل المواقع حين محاصرة مصر الأخيرة وجرى دماء آفائكم ونسائكم وأولادكم في كل مملكة مصر وخصوصًا محروسة مصر وخواصكم انتهبوا تحت الغارات وطرحوا عليكم فردة قوية غير المعتاد فأدخلوا في عقولكم وأذهانكم كل ما قلت لكم الآن والسلام على كل من هو في طريق الخير فالويل ثم الويل على كل من يبعد من طريق الخير ممضي خالص الفؤاد عبد الله جاك منو‏.‏

وفي ذلك اليوم عملوا شنكًا وضربوا عدة مدافع من القلاع فارتاع الناس لذلك واضطربوا اضطرابًا شديدًا فسئل من الفرنسيس فأخبروا أن ذلك سرور بقدوم مركبين من فرانسة الى اسكندرية‏.‏

وفي ذلك اليوم أيضًا وقع بمجلس الديوان بين الوكيل والمشايخ مفاوضة ومناقشة وذلك أنه لما أشيع خبر ورود المراكب الى أبي قير شحت الخلال وارتفعت من الرقع على العادة وزادت أثمانها فتفاوضوا في شأن ذلك وأنه لابد من الاعتناء من الحكام وزجر الباعة وطواف المحتسب وشيخ البلد على الرقع والسواحل ولما قرئ الفرمان المذكور قال بعض الحاضرين العقلاء لا يسعون في الفساد وإذا تحركت فتنة لزموا بيوتهم فقال الوكيل ينبغي للعقلاء ولأمثالكم نصيحة المفسدين فإن البلاء يعم المفسد وغيره فقال بعضهم هذا ليس بجيد بل العقاب لا يكون إلا على المذنب قال تعالى كل نفس بما كسبت رهينة وقال آخر من أهل المجلس ولا تزروا وزرة وزر أخرى فقال الوكيل المفسدون فيما تقدم وهاجوا الفتنة فعمت العقوبة والمدافع والبنبات لا عقل لها حتى تميز بين المفسد والمصلح فإنها لا تقرأ القرآن وقال آخر المخلص نيته تخلصه فقال الوكيل إن المصلح من يشمل صلاحه الرعية فإن صلاحه في حد ذاته يخصه فقط والثاني أكبر نفعًا وطال البحث والمناقشة في نحو ذلك فلما كان عصر ذلك اليوم ورد فرمان من ساري عسكر الى وكيل الديوان فأرسل خلف الشيخ اسمعيل الزرقاني فاستداعاه وسلمه إليه وأمره أن يطوف به على مشايخ الديوان في بيوتهم فيقرؤه وهو مبني على جواب المناقشة المذكورة وصورته بعد البسملة والجلالة من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا الى كافة المشايخ والعلماء الكرام المقيمين بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله تعالى فضائلهم وألهمهم الحكمة الواجبة لإجراء فرائضهم نرسل لحضراتكم يا مشايخ ويا علماء الكرام نداء جديدًا خطابًا الى جميع أهالي مملكة مصر وخصوصًا أهل محروسة مصر ولا شبهة لي في تقييدكم لتنبيههم بكل ما هو محرر فيها وغير ذلك تذكروا أن هذا التنبيه هو غرضكم إنما حضراتكم ههنا رجال دولة الجمهور الفرنساوي فيبقى في عقولكم وأذهانكم كل ما وقع حين قصاص مصر الأخيرة تفهموا بناء على ذلك كيف هو واجب الى أمنيتكم وراحتكم ضبط الخلائق لأه إن كان يصير أصغر الحركات فلابد ثقلها يقع على رؤوسكم وغير ذلك ورد لنا في الحال أخبار من فرانسا أنه كملت المصالحة مع إمبراطور النمسا وأن قيصر الروسيا بيزو أقام المحاربة ضد دولة العثمانية والسلام‏.‏

ولما أصبح ثاني يوم اجتمع المشايخ ببيت الشيخ عبد الله الشرقاوي وحضر الآغا والوالي والمحتسب وأحضروا مشايخ الحارات وكبراء الأخطاط ونصحوهم وأنذروهم وأمروهم بضبط من هو دونهم وأن لا يغفلوا أمر عامتهم وحذروهم وخوفوهم العاقبة وما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين وأنهم هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم فالعاقل يشتغل بما يعنيه على أنه لم يبق في الناس إلا رسوم هافتة وانفصلوا على ذلك هذا وديوان المليون يعملون فيه بالجد والاجتهاد وبث المعينين من القواسة والفرنساوية في المطالبة بالثلث والكسرة الباقية من الفردة والتشديد في أمر الكرنتينة وإزعاج الناس من ذلك وخوفهم من حصول الطاعون وأشاعوا فيما بينهم أن من أصابه هذا الداء في مكان كشفوا عليه فإن كان مريضًا بذلك الداء أخذوا ذلك المصاب الى الكرنتينة عندهم وانقطع خبره عن أهله إلا أن كان له أجل باق ويشفى من ذلك ويعود إليهم صحيحًا وإلا فلا يراه أهله بعد ذلك أصلًا ولا يدرى خبره لأنه إذا مات أخذه الموكلون بالكرنتينة ودفنوه بثيابه في حفرة وردموا عليه التراب وأما داره فلا يدخلها أحد ولا يخرج منها مدة أربعة أيام ويحرقون ثيابه التي تختص به ويقف على بابه حرس فإن مر أحد ولمس الباب أو الحد المحدود قبضوا عليه وأدخلوه الدار وكرتنوه وإن مات الشخص في بيته وظهر أنه مطعون جمعوا ثيابه وفرشه وأحرقوها وغسله الغاسل وحمله الحمالون لا غير وأخرجوه من غير مشهد وأمامه ناس تمنع المارين من التقرب منه فإن قرب منه أحد كرتنوه في الحال وبعد دفنه يكرتنون على كل من باشره بغسل أو حمل أو دفن فلا يخرجون إلا لخدمة أخرى مثلها بشريط لا مساس فهال الناس هذا الفعل واستبشعوه وأخذوا في الهرب والخروج من مصر الى الأرياف لذلك والتوهم وقوع الفتنة بورود أخبار المراكب الى أبي قير وتحذر الفرنساوية واستعدادهم وتأهبهم ونقل أمتعتهم الى القلعة‏.‏

وفي تاسع عشره خرجت عساكر كثيرة بحمولهم وفرشهم وذهبوا الى جهة الشرق وأشيع حضور عرضي العثمانية ووصولهم الى العريش صحبة يوسف باشا الوزير‏.‏

وفيه أصعدوا الشيخ السادات الى القلعة من غير إهانة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه قبضوا أيضًا على حسن آغا المحتسب وأصعدوه الى القلعة أيضًا بشخص يخدمه فحبسوه بالبرج الكبير فأما الشيخ السادات فسأل الموكل به عن ذنبه وجرمه الموجب لحبسه فقال لم يكن إلا الحذر من إثارة تلك الفتن في البلد وإهاجة العامة لبغضك الفرنسيس لما سبق لك منهم من الإيذاء وأما المحتسب فإن الشيخ البكري والسيد أحمد الزور ذهبا الى قائمقام والى ساري عسكر وتكلما في شأنه فأجابهما بأن هذا لم يكن من شغلكما وقيل للسيد أحمد إنك رجل تاجر وذاك أمير وليس من جنسك حتى تشفع فيه فقال إننا محتاجون إليه لأجل مساعدته معنا في قبض المليون ولا نعرف له ذنبًا يوجب حبسه لأنه ناصح في خدمة الفرنسيس فقالا على لسان الترجمان الله يعلم ذنبه وساري عسكر وهو أيضًا يعلم ذلك من نفسه ولما سجنوه لم يقلدوا مكانه غيره فكان كتخداه يركب مع الآغا وأمامهم الميزان ونوبة الحسبة وفيه نادوا في الأسواق بالأمان وعدم الانزعاج من أمر الكرنتينه وأن من مات لا تحرق إلا ثيابه التي على بدنه لا غير وكان أشيع في الناس ما تقدم وزادوا على ذلك حرق الدار التي يموت فيها أيضًا وأن قصدهم أيضًا عمل كرنتينه على البلد بتمامها فحصل من هذا المشاع في الناس كرب عظيم ووهم جسيم فنودي بذلك ليسكن روع الناس‏.‏

وفي يوم الخميس سادس عشرينه أرسل كبير الفرنسيس وطلب رؤساء الديوان والتجار فحضروا الى منزله فأعلمهم أنه مسافر الى بحري وترك بمصر قائمقام بليار وجملة من العسكر والكتبة والمهدنسي وأوصاهم بأن يكون نظرهم على البلد وكان في العزم حبسهم رهينة فاستثار في ذلك فاقتضى رأيهم تأخير ذلك وركب من فوره مسافرًا ولم يرجع من هذه السفرة الى مصر وحضر الجماعة الى اديوان واجتمعوا بالوكيل فوريه فأخبرهم أنه حضر الى ناحية أبي قير طائفة من الانكليز وصحبتهم طائفة من المالطية وأخرى نابلطية وطلعوا الى قطعة أرض رخوة بين سلسولين من الماء وأن الفرنساوية محيطون بهم من كل جهة‏.‏

وفي سابع عشرينه رجعت العساكر التي كانت توجهت الى جهة الشرق بحمولهم وأثقالهم وصحبتهم ساري عسكر الشرقية رينه فسافروا من يومهم ولحقوا بكبيرهم برًا وبحرًا أو أخبروا عنهم أنهم لم يزالوا سائرين حتى وصلوا الى الصالحية وأرسلوا هجانة الى العريش فلم يجدوا أحدًا فكروا راجعين وأشاعوا أن الجهة الشرقية لم يأت إليها أحد مطلقًا وأصل الخبر أن ساري عسكر رينه كاشف القليوبية والشرقية أخبره بعض عربان المويلح بأنهم شاهدوا مراكب انكليزية ترددت بالقلزم فأرسل بخبر ذلك الى ساري عسكر منو ويقول له في ضمن ذلك ويشير عليه بأن تيوجه صحبة جانب من العسكر ويحصن نواحي الاسكندرية خوفًا من ورود الانكليز تلك الناحية وأن رينه يتكفل له بمن يرد الى ناحية الشرق وأكد عليه في ذلك فأجابه ساري عسكر بقوله إن الانكليز لا يأتون من هذه الناحية وأنهم يأتون من ساحل الشام ويأمره الارتحال والذهاب الى الصالحية يرابط فيها فتوانى في الحركة وأرسل إليه ثانيًا بمعنى الجواب الأول ويحثه على تحصين ثغور الاسكندرية وترددت بينهما المراسلات في ذلك ومضت أيام فيما بين ذلك فورد الخبر للفرنساوية بورود مراك الانكليز وتردادها تجاه الاسكندرية ثم رجوعها فكتب ساري عسكر منو يقول لرينه إنهم تراؤوا ليوهموا بأن قصدهم ورود الاسكندرية ثم غابوا وأنهم رجعوا ليطلعوا بناحية الطينة ويستحثه على الرحلة والذهاب الى الصالحية فلم يسعه إلا الامتثال والارتحال وكتب إليه كتابًا يقول فيه إنهم لا يريدون إلا ثغر الاسكندرية وإنما لم يسعفهم الريح فلا تغتر برجوعهم وأنه رحل امتثالًا للأمر ويشير عليه هو أيضًا بعدم تأخره عن الذهاب الى الاسكندرية ويقبل إشارته فلم يستمع وتأخر عن ذلك ورحل رينه الى جهة البركة ولم يستعجل الذهاب ثم انتقل الى الزوامل ثم الى بلبيس وفي كل يوم ووقت يرسل إليه ساري عسكر منو ويأمره بالذهاب الى الصالحية وهو يتلكأ في الرحيل ثم أرسل له آخرًا يقول له إنه وردت علينا أخبار بأن يوسف باشا الوزير متحرك الى القدوم ويحتم عليه في الرحيل الى الصالحية فعند ذلك جمع رينه سواري عسكره وعرض عليهم ذلك وسفه رأيه وأن هذا الخبر لا أصل له وأنا أعلم أننا لا نصل الى الصالحية حتى يأتي الخبر بخلاف ذلك ويأتينا الأمر بالرجوع والذهاب الى الاسكندرية فلا نستفيد إلا التعب والمشقة وارتحل بمن معه من غير استعجال فوصلوا الى القرين في ثلاثة أيام وإذا بمراسلة ساري عسكر منو الى رينه يخبره بأن الانكليز وصلوا الى أبي قير وطلعوا الى البر وتحاربوا مع أمير الاسكندرية ومن معه من الفرنساوية وظهروا عليهم ويستعجله في الرجوع والذهاب الى الاسكندرية فقال رينه هذا ما كنت أخمنه وأظنه وارتحل راجعًا وعدى على بر انبابة بعساكره وتقدم ساري عسكر منو وسبقه الى الاسكندرية‏.