المجلد الثاني - شهر القعدة سنة 1215

شهر القعدة سنة 1215

في ثالثه أمر وكيل الديوان أرباب الديوان بأن يكتبوا لساري عسكر مكتوبًا بالسلام ففعلوا ما أمروا به‏.‏

وفي سادسه توفي محمد آغا مستحفظان مطعونًا مرض يوم السبت وتوفي ليلة الأحد فوضعوه في نعش وخرج به الحمالون لا غير وأمامه الطرادون ولم يعملوا له مشهدًا ولا جماعة وكرتنوا داره وأغلقوها على من فيها ولم يقلدوا عواضه أحدًا بل أذنوا لعبد العال أن يركب عوضًا عنه وذلك بمعونة نصر الله النصراني ترجمان قائمقام فاستقر عبد العال المذكور أغات مستحفظان ومحتسبًا فكان ذلك من جملة النوادر والعبر فإن عبد العال هذا كان من أسافل العامة وكان أجبر البعض من نصارى الشوام بخان الحمزاوي يخدمه ثم توسط بمصطفى آغا السابق بسبب معرفته للنصارى المترجمين حتى تقدم بوساطته وقلدوه الأغاوية فجعله كتخداه ومشيره فلما تولى محمد آغا تقيد معه كما كان مع مصطفى آغا ولكن دون الحالة التي كان عليها مع ذلك لصلاحية محمد آغا المقتول فلما توفي في هذا الوقت ترك لعبد العال أمر المنصب لإشغال الفرنساوية بما هو الأهم من انفتاح الحروب والطاعون وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسعه أشيع في الناس وصول العثمانيين الى ناحية غزة وأن جواسيسهم وصلوا الى العريش وقدمت الهجانة الى الفرنساوية بالخبر فلما كان عشاء تلك الليلة طلبوا المشايخ الى الديوان فلما تكامل حضورهم حضر فوريه الوكيل وصحبته آخر من الفرنسيس من طرف قائمقام فتكلم فوريه كلامًا كثيرًا ليزيل عنهم الوهم ويؤانسهم بزخرف القول كقوله إنه يحب المسلمين ويميل بطبعه إليهم وخصوصًا العلماء وأهل الفضائل ويفرح لفرحهم ويغتم لغمهم ولا يحب لهم إلا الخير وسياسة الأحكام تقتضي بعض الأمور المخالفة للمزاج وأن ساري عسكر قبل ذهابه رسم لهم رسومًا وأمرهم بإجرائها والمشي عليها في أوقاتها وأنه عند سفره قصد أن يعوق المشايخ وأعيان الناس ويتركهم في الترسيم رهينة عن المسلمين فلما ظهر له وتحقق أن الذين وردوا الى أبي قير ليسوا من المسلمين وإنما هم انكليزية ونابلطية وأعداء للفرنساوية وللمسلمين أيضًا وليسوا من ملتهم حتى يتعصبوا من أجلهم والآن بلغنا أن يوسف باشا الوزير وعساكر العثمانية تحركوا الى هذا الطرف فلزم الأمر لتعويق بعض الأعيان وذلك من قوانين الحروب عندنا بل وعندكم ولا يكون عندكم تكدر ولا هم بسبب ذلك فليس إلا الإعزاز والإكرام أينما كنتم والوكيل دائمًا نظره معهم ولا يغفل عن تعليل مزاجهم في كل وقت ويوم ثم انتهى الكلام وانقضى المجلس على تعويق أربعة أشخاص من المشايخ وهم الشيخ الشرقاوي والشيخ المهدي والشيخ الصاوي والشيخ الفيومي فأصعدوهم الى القلعة في الساعة الرابعة من الليل مكرمين وأجلسوهم بجامع سارية ونقلوا الى مكانهم الشيخ السادات فاستمر معهم بالمسجد وأمروا الأربعة الباقية من أعضاء الديوان وهم البكري والأمير السرسي وكاتبه أن يكون نظرهم على البلد ويجتمعون بشيخ البلد ولا ينقطعون عنه وأن المشايخ المحجوزين لا خوف عليهم ولا ضرروهم معززون مكرمون وأطلقوا لكل شيخ منهم خادمًا يطلع إليه وينزل ليقضي له أشغاله وما يحتاج إليه من منزله والذي يريد من أحبابهم وأصحابهم زيارتهم يأخذ له ورقة بالإذن من قائمقام ويطلع بها فلا يمنع وكذلك أصعدوا ابراهيم أفندي كاتب البهار وأحمد ابن محمود محرم وحسين قرا ابراهيم ويوسف باشجاويش تفكجيان وعلي كتخدا يحيى أغات الجراكسة ومصطفى آغا أبطال وعلي كتخدا النجدلي ومحمد أفندي سليم ومصطفى أفندي جمليان ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم وأمروا المشايخ الباقية والذين لم يحبسوا بتقيدهم ونظرهم الى البلدة والعامة وأنهم يترددون على بليار قائمقام ويعلمونه بالأمور التي ينشأ عنها الشرور والفتن وأهمل ديوان المليون والمطالبة بثلثه وكذلك كسرة الفردة ونفس الله عن الناس وكذلك تسوهل في أمر الكرنتينة وإجازة الأموات وعدم الكشف عليهم وتصديق الناس بما يخبرون به في مرض من يموت وذلك لكثرة أشغالهم وحركاتهم وتحصنهم ونقل متاعهم وصناديقهم وفرشهم وذخائرهم الى القلعة الكبيرة على الجمال والحمير ليلًا ونهارًا والطاعون متعلق فيهم ويموت منهم العدة الكثيرة في كل يوم‏.‏

وفي حادي عشره أفرجوا عن الشيخ سليمان الفيومي وأنزلوا من القلعة ليكون مع من لم يحبس وأمرهم الوكيل بالتقيد والحضور الى الديوان على عادتهم ولا يهملونه فكانوا يحضرون ويجلسون حصة يتحدثون مع بعضهم ولا يرد عليهم إلا القليل من الدعاوى ثم ينصرفون الى منازلهم وكذلك أمروا الشيخ أحمد العريشي القاضي بأن يحضر ويجلس من غير سابقة له بذلك وذلك حفظًا للناموس لا غير‏.‏

وفي ثالث عشره نقل الكمثاري فوريه الوكيل متاعه الى القلعة وصعد إليها فلم ينزل وأرسل الى الشيخ سليمان الفيومي تذكرة يأمره فيها بأن ينقل فراش المجلس ويودعه في مكان بداره ففعل ما أمره به ولم يتركوا به إلا الحصر وأمر بحضور أرباب الديوان على عادتهم فكانوا يفرشون سجاجيدهم ويجلسون عليها حصة الجلوس ثم ينصرفون‏.‏

وفي رابع عشره نقلوا حسن آغا المحتسب من البرج الى جامع سارية صحبة المشايخ وكذلك فوريه الوكيل جعل سكنه الجامع المذكور وأظهر أن قصده مؤانستهم وليس إلا لضيق مساكن القلعة وازدحام الفرنسيس وكثرة ما نقلوه إليها من الأمتعة والذخائر والفلال والأحطاب مع ما هدموه من أماكنها حتى أنهم سدوا أبواب الميدان وجعلوه من جملة حقوقها فكانوا ينزلون إليه ويصعدون منه من باب السبع حدرات‏.‏

وفي تاسع عشره ورد مكتوب من كبير الفرنسيس من ناحية اسكندرية مؤرخ بثالث عشر القعدة وهو جواب عن المكتوب المرسل إليه السابق ذكره وصورته بعد الصدر المعتاد من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا الى كامل المشايخ والعلماء الكرام المقيمين بالديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله فضائلهم ورد لنا مكتوبكم العزيز ورأينا بكامل السرور ما فصلتم لنا به وثبت من مفهومنا صدق ودادكم لنا ولعساكر دولة جمهور الفرنساوية ودمتم حضراتكم وكافة أهالي مصر بالحمية والاستقامة الموعودة ومعلوم على فضائلكم أن الله يهدي كلا فما النصر إلا منه ووضعت عليه اعتمادي وما توفيقي إلا به وبرسوله الكريم عليه السلام الدائم وإن ابتغيت النصرة فما هو إلا لسهولة خيراتي الى بر مصر وسكان ولايتها وخير أمور أهلها والله تعالى يكون دائمًا معكم ويكرم وجوهكم بالسلامة‏.‏

وفيه سمع ونقل عن بعض الفرنسيس أنه وقع الحرب بين الفرنساوية والانكليزية وكانت الهزيمة على الفرنساوية وقتل بينهم مقتلة كبيرة وانحازوا الى داخل الاسكندرية ووقع بينهم الاختلاف واتهم منو ساري عسكر رينه وداماص ورابه منهما ما رابه وكان سببًا لهزيمته فيما يظن ويعتقد فقبض عليهما وعزلهما من إمارتهما وذلك أن رينه وداماص لما ذهبا على الصورة المتقدمة ونظر رينه وأرسل من كشف على متاريس الانكليز فوجدها في غاية الوضع والإتقان فاجتمعوا للمشورة على عادتهم ودبروا بينهم أمر المحاربة فرأى ساري عسكر منو رأيه فلم يعجب رينه ذلك الرأي وإن فعلنا ذلك وقعت الغلبة علينا وإنما الرأي عندي كذا وكذا ووافقه على ذلك داماص وكثير من عقلائهم فلم يرض بذلك منو وقال أنا ساري عسكر وقد رأيت رأيي فلم يسعهم مخالفته وفعلوا ما أمر به فوقعت عليهم الهزيمة وقتل منهم في تلك الليلة خمسة عشر ألفًا وتنحى رينه وداماص ناحية ولم يدخلا في الحرب بعسكرهما فاغتاظ منه ونسبهما للخيانة والمخامرة عليه وتسفيههم لرأيه وأكد ذلك عنده أنهما لما حضرا الى الاسكندرية أخذا معهما أثقالهما وما كان لهما بمصر لعلمهما عاقبة الأمر وسوء رأي كبيرهما فاشتد إنكاره عليهما وعزل عنهما العسكر وحبسهما ثم أطلقهما ونزلا الى المراكب مع عدة من أكابرهم وسافر الى بلادهما وكان منو أرسل الى بونابارته يخبر عن ورود الانكليز ويستنجده فأرسل إليه عسكرًا فصادفوا الجماعة المذكورين في الطريق فأخبروهم عن الواقع وردوهم من أثناء الطريق وقد أشاروا لذلك في بعض مكاتباتهم وأخبر أيضًا المخبرون أن الانكليز أطلقوا حبوس المياه الملحة حتى أغرقت طرق الاسكندرية وصارت جميعها لجة ماء ولم يبق لهم طريق مسلوك إلا من جهة العجمي الى البرية وأن الانكليز تترسوا اقبالهم من جهة الباب الغربي‏.‏

وفيه ورد الخبر بأن حسين باشا القبطان ورد بعساكره جهة أبي قير وطلع عسكره من المراكب الى البر وقويت القرائن الدالة على صحة هذه الأخبار وظهرت لوائح ذلك الفرنسيس مع شدة تجلدهم وكتمان أمرهم وتنميق كلامهم‏.‏

وفيه سدوا باب البرقية المعروف بباب الغريب وبنوه فضاق خناق الناس بسبب الخروج الى القرافة بالأموات فكان الذي مدفنه ببستان المجاورين يخرج بجنازته من باب النصر ويمرون بها من خلف السور المسافة الطويلة حتى ينتهوا الى مدفنهم فحصل للناس مشقة شديدة وخصوصًا مع كثرة الأموات فكلم يوم الأحد حادي عشرينه بعض المشايخ قائمقام في شأن ذلك فأرسل الى قبطان الحنطة ففتح بابًا صغيرًا من حائط السور جهة كفر الطماعين على قدر النعش والحمالين والمشاة‏.‏

وفي ثاني عشرينه سافر جماعة من أعيان الفرنساوية الى جهة بحري وهم استوف الخازندار العام ومدبر الحدود وفوريه وكيل الديوان وشنانيلو مدبر أملاك الجمهور وبرنار وكيل دار الدرب وريج خازندار دار الضرب ولابرت رئيس مدرسة المكتب وحافظ سجلاتهم وكتبهم وأخذوا معهم طائفة من رؤساء القبط وفيهم جرجس الجوهري وأشيع في الناس بأن سفرهما لتقرير الصلح وليس كذلك‏.‏

وفي ثالث عشرينه توكل بحضور الديوان كمثاري يقال له جيرار‏.‏

وحضر يوم الجمعة سادس عشرينه بصحبة كاتب سلسلة التاريخ محبنا الفاضل العمدة السيد اسمعيل المعروف بالخشاب وحضرة قاسم أفندي أمين الدين كاتب الديوان فلما استقر به الجلوس أخبر أنه ورد كتاب من كبيرهم جاك منو باللغة الفرنساوية مضمونه أنه مقيم بسكندرية وهو مؤرخ بعشرين القعدة ومثل ذلك من الكلام فارغ‏.‏

وفيه قدم ثلاثة أنفار من العرب صحبة جماعة من الفرنسيس وذهبوا بهم الى بيت قائمقام فاستفسر منهم فاختل كلامهم وتبين كذبهم فأمر بحبسهم‏.‏

وفيه حضر جماعة من الفرنسيس من جهة الشرق ومعهم دواب كثيرة وآلات حرب ومروا في شارع المدينة ومنعوا الناس من شرب الدخان خوفًا على البارود من النار ولم يعلم سبب قدومهم ثم تبين أنهم الذين كانوا محافظين بالصالحية وبعد أيام حضر أيضًا الذين كانوا بالقرين وكذلك الذين كانوا ببلبيس وناحية الشرق شيئًا بعد شيء‏.‏

شهر ذي الحجة الحرام سنة 1215 فيه حصل الاجتماع بالديوان وأخبر الوكيل أن كبيرهم قد بعث أخبارًا بالأمس منها أنه قد مات جماعة من كبراء الانكليز وأن أكثر عساكرهم مريضون بمرض الزحير والرمد وربما يحصل الصلح عن قريب ويرجعون الى بلادهم وأن العطش مضارهم وبعثوا عدة مراكب لتأتيهم بالماء فتعذر عليهم ذلك ثم سأل عن أحوال البلد وسكون الرعية والغلال والأقوات فأجيب بأن البلد مطمئنة والرعية ساكنة والغلال موجودة فقال لابد من اعتنائكم بجميع هذه الأمور الموجبة للراحة‏.‏

وفيه أشيع أن الانكليز ومن معهم من العثمانية ملكوا ثغر رشيد وأبراجها وحاربوا من كان بها من الفرنسيس حتى أجلوهم عنها ودخلوها‏.‏

وفي ذلك اليوم قبضوا على نيف وستين من مغاربة الفحامين وطولون والغورية ونفوهم وذلك من فعل عبد العال الآغا‏.‏

وفيه أمر بليار قائمقام بركوب أحد المشايخ صحبة عبد العال ويمرون بشوارع المدينة فكان يركب معه مرة الشيخ محمد الأمير ومرة الشيخ سليمان الفيومي وذلك لتطمئن الرعية‏.‏

وفي سادسه قرئ مكتوب زعموا أنه حضر من ساري عسكر منو من جهة الاسندرية وصورته بعد البسلمة والجلالة والصدر المعتاد الى حضرات كافة المشايخ العلماء الكرام المستشارين بمحفل اديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله تعالى فضائلهم وما النصرة إلا من الله وبشفاعة رسوله الكريم عليه السلام الدائم العساكر الفرنساوية والانكليزية هما الى هذا الآن حصيران قبلهما فحصنا أطرافنا بمتاريس وخنادق لا تغلب ولا تهجن وغير ذلك يلزم نخبر حضراتكم لتهدية تمشياتكم ولأجل انتظامها أن سلطان الروسية المحمية أعلن ببواسطة مرسله الى حضرة السلطان سليم أذعن الأمر الى عساكره لأجل مايتجانبوا ويتراووا ويخلو من بر مصر جميعًا وإلا لابد من سلطان الروسيات الجمعية الإقامة بالمحاربة بمعية مائة ألف عسكرية ضد العثمانية وضد قسطنطينية فبناء على ذلك أرسل السلطان سليم أوامره بفرمانه خطابه الى عساكره لتخلية بر مصر ولكامل من بالبر المذكور لكي وثم ولكن ذهب الانكليزية كفًا للارتشاء بعض من مقدار العسكر العثمانية وبتقديم امتثالهم الى أوامر سلطانهم فأعلنوا وأخبروا كل ذلك الى أهالي مصر فانتظموا كما كنتم دائمًا بالخير واعتمدوا واعتنوا بحماية وصيانة دولة الجمهور الفرنساوية والله تعالى يديم فضائلكم عن الإلهام بالخير والسلامات حرر في الخامس والعشرين من شهر جرمينيال سنة تسعة الموافق لثلاثة ذي الحجة سنة ألف ومائتين وخمسة عشر وكتب بألفاظه وحروفه من خط منشئه لوماكا الترجمان ثم قال الترجمان إن الفرنساوي الذي حمل هذا الكتاب نقل لي عن سر عسكر أنه ناشر لكم ألوية الشكر على قيامكم بوظائفكم فدوموا على ذلك فأجيب السمع والطاعة ثم أن بعض الحاضرين من المشايخ أخبر بأن رجلًا من المنوفية يقال له موسى خالد كان الفرنساوية أحسنوا إليه وقدموه على أقرانه فلما خرجوا من الموفية أفسد في البلاد وقطع الطريق ولا يتمكن أحد من أهل هذه الجهة أن يخرج من بلده لتحصيل معاشه وأنه قبض على الشيخ عابدين القاضي وصادره في نحو ثلاثة آلاف ريال وكذلك صادر كثيرًا من أغنياء منوف وغيرها وأخذ أموالهم فقال الوكيل ستسكن الفتنة ويعاقب المفسدون ثم أمر بكتابة مكاتيب ممضاة من مشايخ الديوان خطابًا للتجار والمتسببين ولمشايخ البلاد يأمرونهم وفيه كتبوا جوابًا من مشايخ الديوان لكبير الفرنسيس جوابًا عن المكتوب المذكور آنفًا‏.‏

وفيه ذكر قائمقام بليار لبعض الرؤساء أنه إذا رجع ساري عسكر منصورًا ودامت أهل البلد على طاعتهم وسكونهم رفع عنهم نصف المليون والظلم‏.‏

وفي عاشره أفرجوا عن ابن محرم التاجر بتوسل والدته بقائمقام بليار على مصلحة ألفين ريال فرانسة‏.‏

وفيه خرج عبد العال الى ناحية أبي زعبل ورجعل ومعه ثلاثة أشخاص من الفلاحين ضرب عنق أحدهم‏.‏

وفي ثاني عشره قبض عبد العال على أناس من الغورية والصاغة ومرجوش وغيرهم وألزمهم بمال وسئل عن ذلك فقال لهم أفعله من قبل نفسي بل عن أمر من الفرنسيس‏.‏

وفيه حفروا خندقًا عند تلال البرقية فكان الذين يخرجون بالأموات يصعدون بهم من فوق التل ثم ينزلون ويمرون على سقالة من الخشب على الخندق المحفور فحصل للناس غاية المشقة واتفق أن ميتًا سقط على رقاب الحمالين وتدحرج الى أسفل التل‏.‏

وفيه ورد الخبر بموت مراد بك بالوجه القبلي بالطاعون وكان موته رابع الشعر ودفن بسوهاج عند الشيخ العارف وأقيم عزاؤه عند زوجته الست نفيسة وبنت له قبرًا بمدفن علي بك واسمعيل بك بالقرافة بالقرب من قبة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأشيع نقله إليه ثم ترك ذلك وبطل وكان الفرنساوية عندما اصطلح معهم وأعطوه إمارة الصعيد رتبوا لزوجته المذكورة في كل شهر مائة ألف فضة واستمرت تقبض ذلك حتى أخرج الفرنساوية جوابات الى اأمراء المرادية يعزونهم في أستاذهم وتقريرًا الى عثمان بك الجوخدار المعروف بالطنبرجي بأن يكون أميرًا ورئيسًا على خشداشينه وعوضًا عن مراد بك ويستمرون على أمريتهم وطاعتهم‏.‏

وفيه حضرت جوابات المراسلات التي أرسلت الى البلاد بسبب الغلال والأقوات بأن المتسببين والتجار أجابوا بالسمع والطاعة غير أن المانع لهم قطاع الطريق وتعدى العرب ومنعهم السبيل وأن أبواب البلدان مغلوقة بحيث لا يمكن الخروج منها فإذا أمنت الطرق حضر المطلوب وكلام هذا معناه وأما الساعي المرسل الى المنصورة فإنه رجع من أثناء لطريق ولم يمكنه الوصول إليها لأن العساكر القادمة قد دخلوها وصارت في حكمهم‏.‏

وفيه أي في هذا الشهر زاد أمر الطاعون وطعن مصطفى آغا أبطال بالقلعة فلما ظهر فيه ذلك رفعوه بطريق مهانة وأنزلوه الى الكرنتينه بباب العزب وألقوه بها ثم تكلم في شأنه أرباب الديوان فأنزلوه الى داره فمات بها وكذلك وقع لحسين قرا ابراهيم التاجر وعلي كتخدا النجدلي وذلك في أوائله وفي كل يوم يموت من الفرنسيس الكائنين بالقلعة الثلاثون والأربعون وينزلون بهم من كرنتينة القلعة على الأخشاب مثل الأبواب كل ثلاثة أو أربعة سواء يحملهم الحمالون وأمامهم إثنان من الفرنسيس يمنعون الناس ويباعدونهم عن القرب منهم الى أن يخرجوا بهم من باب القرافة فيلقونهم في حفر عميقة قد أعدها الحفارون ويهيلون عليهم التراب حتى يعلوهم ثم يلقون صفا آخر ويغطونهم بالتراب وهكذا حتى تمتلئ الحفرة ويبقى بينها وبين الأرض نحو الذراع فيكبسونها بالتراب والأحجار ويحفرون أخرى غيرها كذلك فيكون في الحفرة الواحدة إثنا عشر وستة عشر وأكثر فوق بعضهم البعض وبينهم التراب ويرمونهم بثيابهم وأغطيتهم وتواسيمهم التي في أرجلهم وذلك المكان الذي يدفنون به في العلوة الكائنة خارج مزار القادرية بين الطريقين الموصلين الى جهة مزار الإمام الشافعي رضي الله عنه وفيه أنهى مشايخ الديوان تعرض عبد العال لمصادرة الناس وطلب المال بعد تأمينهم وتبشيرهم برفع نصف المليون عنه فأجيبوا بأن ذلك على سبيل القرض لتعطل المال الميري واحتياج العسكر الى النفقة وقيل لهم أيضًا إن كان يمكنكم أن تكتبوا الى البلاد بدفع الميري رفعنا الطلب عن الناس فقالوا هذا غير ممكن لحصول البلاد في حيازة القادمين وقطع الطريق من وقوف العرب بها وعدم الانتظام وإنما القصد الملاطفة والرفق فإن وظيفتنا النصح والوساطة في الخير‏.‏

وفي يوم الخميس سادس الحجة حضر استوف الخازندار وجرجس الجوهري ومن معهما من القبطة وغيرهم ما عدا الفرنسيس الذين ذهبوا معهم فأرسلت أوراق بحضور مشايخ الديوان والتجار والأعيان من الغد فلما كان في صبحها حصلت الجمعية وأحضر الخازندار والوكيل وعبد العال وعلي آغا الوالي وبعض التجار كالسيد أحمد الزور والحاج عبد الله التاودي شيخ الغورية والحاج عمر الملطيلي التاجر بخان الخليلي ومحمود حسن وكليمان الترجمان فتكلم استوف وترجم عنه الترجمان بقوله إن ساري عسكر الكبير منو يقرئكم السلام ويثني عليكم كثيرًا وسينجلي هذا الحادث إن شاء الله تعالى ويقدم في خير ويرى أهل مصر ما يسرهم وقد هلك من الانكليز خلق كثير وباقيهم أكثرهم مرمودون الأعين وبمرض الزحير وجاءت طائفة منهم الى الفرنساوية وانضموا إليهم من جوعهم وعطشهم ولتعلموا أن الفرنساوية لميسلموا في رشيد قهرًا عنهم بل تركوها قصدًا وكذلك أخلينا دمياط لأجل أن يطمعوا ويدخلوا الى البلاد وتتفرق عساكرهم فنتمكن عند ذلك من استئصالهم ونخبركم أنه قد وردت الى اسكندرية مركب من فرانسا وأخبرت أن الصلح قد تم مع كامل القرانات ما عدا الانكليز فإنهم لم يدخلوا في الصلح وقصدهم عدم سكون الحرب والفتن ليستولوا على أموال الناس واعلموا أن المشايخ المحبوسين بالقلعة وغيرهم لا بأس عليهم وإنما القصد من تعويقهم وحبسهم رفع الفتن والخوف عليهم وشريعة الفرنساوية اقتضت ذلك ولا يمكن مخالفتها ومخالفتها كمخالفة القرآن العظيم عندكم وقد بلغنا أن السلطان العثملي أرسل الى عسكره بالكف عن الفرنساوية والرجوع عن قتالهم فخالف عليه بعض السفهاء منهم وخرجوا عن طاعته وأقاموا الحرب بدون إذنه فأجابه بعض الحاضرين بقوله إن القصد حصول الراحة والصلح والفرنساوية عندنا أحسن حالًا من الانكليز لأننا قد عرفنا أخلاقهم ونعلم أن الانكليز إنما يريدون بانضمامهم الى العثملية تنفيذ أغراضهم فقط فإنهم يدلون العثملي ويغرونه حتى يوقعوه في المهالك ثم يتركوه كما فعلوا سابقًا ثم قال الخازندار إن الفرنساوية لا يحبون الكذب ولم يعهد عليهم فلازم أن تصدقوا كل ما أخبروكم به فقال بعض الحاضرين إنما يكذب الحشاشون والفرنساوية لا يأكلون الحشيش ثم قال الخازندار إن وقع من أهل مصر فشل أو فساد عوقبوا أكثر من عام أول واعلموا أن الفرنساوية لا يتركون الديار المصرية ولا يخرجون منها أبدًا لأنها صارت بلادهم وداخلة في حكمهم وعلى الفرض والتقدير إذا غلبوا على مصر فإنهم يخرجون منها الى الصعيد ثم يرجعون إليها ثانيًا ولا يخطر في بالكم قلة عساكرهم فإنهم على قلب رجل واحد وإذا اجتمعوا كانوا كثيرًا وطال الكلام في مثل هذه التمويهات والخرافات وأجوبة الحاضرين بحسب المقتضيات ثم قال الخازندار القصد منكم معاونة الفرنساوية ومساعدتهم وغلاق نصف المليون وتشفع بعد ذلك عند ساري عسكر في فوات النصف الثاني حكم ما عرفكم قائمقام بليار فاجتهدوا في غلاقه من الأغنياء واتركوا الفقراء فأجابوا في آخر الكلام بالسمع والطاعة فقال لكن ينبغي التعجيل فإن الأمر لازم لأجل نفقة العسكر ثم قال لهم ينبغي أن تكتبوا جوابًا بالساري عسكر تعرفوانه فيه عن راحة أهل البلد وسكون الحال وقيامكم بوظائفكم وهو إن شاء الله يحضر إليكم عن قريب وانفض المجلس وكتب الجواب المأمورية وأرسل‏.‏

وفيه ورد الخبر بوصول طاهر باشا الأرنؤدي بجملة من العساكر الأرنؤدية الى أبي زعبل‏.‏

وفيه خرج عدة من عساكر الفرنساوية وضربوا أربع قرى من الريف بعلة موالاة العرب وقطاع الطريق فنهبوهم وحضروا الى مصر بمتاعهم ومواشيهم‏.‏

وفيه أرسل بليار قائمقام يطلب من الوجاقلية بقية ما عليهم من المال المتأخر من فردة الملتزمين وقدره اثنا عشر ألف ريال وإن تأخروا عن الدفع أحاط العسكر بيوتهم ونقلهم الى أضيق الحبوس بل واستعملهم في شيل الأحجار فاعتذروا بضيق ذات يدهم وحبسهم فتصدر إليهم السيد أحمد الزور وتشفع عند قائمقام بأن يقوموا بدفع أربعة آلاف ريال ويؤجلوا بالباقي وينزلوا من القلعة لتحصيل ذلك فأجابه وأنزل علي آغا يحيى أغات الجراكسة ويوسف باشجاويش الى بيت عبد العال وحبسهم بمكان بداره وحبس معهم مصطفى كتخدا الرزاز فكان يتهددهم ويرسل إليهم أعوانه يقولون لهم شهلوا ما عليكم وإلا ضربكم الآغا بالكرابيج فسبحان الفعال لما يريد فإن عبد العال هذا الذي يتهددهم ربما كان لا يقدر على الوصول الى الوقوف بين يدي بعض أتباعهم فضلًا عنهم‏.‏

وفيه أحاط الفرنسيس بمنزل حسن آغا الوكيل المتوفي قبل تاريخه وذلك بسبب أنه وجد ببيته غلام فرنساوي مختف أسلم وحلق رأسه وقبضوا على أحد خشداشينه وحبسوه لكونه علم ذلك ولم يخبر به‏.‏

وفيه حضرت رسل من طرف عرضي الوزير لقائمقام بليار فاجتمعوا به وخلا بهم ووجههم من ليلتهم فلما حصلت الجمعية بالديوان سئل الوكيل عن ذلك فقال نعم إنهم أرسلوا يطلبون الصلح‏.‏

وفي ثامن عشره أفرجوا عن ابراهيم أفندي كاتب البهار ليساعد في قبض نصف المليون وفي رابع عشرينه قبضوا على أبي القاسم المغربي شيخ رواق المغاربة وحبسوه بالقلعة بسبب أنه كان يتكلم في بعض المجالس ويقول أنا شيخ المغاربة وأحكم عليهم ويتباهى بمثل هذا القول فنقل عنه ذلك الى عبد العال والفرنسيس وظنوا صحة قوله وأنه ربما أثار فتنة فقبضوا عليه وحبسوه وكذلك حبسوا محمد أفندي يوسف ثاني قلفة وآخر يقال له عبيد السكري‏.‏

وفي خامس عشرينه أبرزوا مكتوبًا وزعموا أنه حضر من ساري عسكرهم وقرئ بالديوانية وصورته بعد الصدر خطابًا الى كافة العلماء والمشايخ الكرام بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر حالًا أدام الله تعالى فضائلهم ورد لنا مكتوبكم وانشرح قلبي من كل ماشهدتم لنا فيه بأنه يثبت عقلكم السليم وصدقكم وتقييد قلوبكم في طارق الدستور فدوموا مهتدين بهذه الملكة ولابد لفضائلكم من دولة جمهورنا كامل الوفاء من حسن رضا واطمئنان عليكم منها ومن طرف عمدة أصحاب الجراءة والشجاعة حضرة القونصل أولها بونابارته وعلى الخصوص من طرفنا وكان ضد أوامري أن الستويان فوريه الذي كنت وضعته قرب فضائلكم ترك ذلك الموضع وتوجه الى اسكندرية وما تلك الفعلة إلا من نقص جسارته في ذي الوقعة فبدلناه جنب فضائلكم بالستويان جيرار رجل واجب الاستوصاء لأجل عرضه وفضله وخصوصًا لأجل غيرته وجسارته فلذلك هو كسب اعتمادي فاعتمدوا الى كل ما هو قائل بفضائلكم من جانبنا وبمنه وعونه تعالى عن قرب نواجهكم بمصر بخير وسلامة ودوموا حسب تدبيراتكم لتنظيم البلد ومماسكة الطاعة بين الأمة الحامدة والسياسة بين غيرهم وكذلك نرجو من رب الأجناد بحرمة سيد العباد أن تشدوا قلوبكم توكلًا له لأن عوننا اسمه العظيم حرر في ثلاثة عشر فلوريال سنة تسعة موافقًا لثمانية عشر ذي الحجة سنة ألف ومائتين وخمسة عشر ممضي عبد الله جاك منو انتهى بألفاظه وحروفه‏.‏

وفيه أفرجوا عن محمد كاشف سليم الشعراوي بشفاعة حسين كاشف وسافر الى جهة الصعيد‏.‏

وفي ثامن عشرينه وردت الأخبار بوصول ركاب الوزير يوسف باشا الى مدينة بلبيس وذلك يوم الجمعة رابع عشرينه‏.‏

وفيه أخبر وكيل الديوان أن ساري عسكر أرسل كتابًا الى الست نفيسة بالتعزية ورتب لها في كل شهر مائة ألف نصف وأربعين‏.‏

وانقضت هذه السنة بحوادثها وما حصل فيها فمنها توالي الهدم والخراب وتغيير المعالم وتنويع المظالم وعم الخراب خطة الحسينية خارج باب الفتوح والخروبي فهدموا تلك الأخطاط والجهات والحارات والدروب والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا وبركة جناق وما بها من الدور والقصور المزخرفة وجامع الجنبلاطية العظيم بباب النصر وما كان به من القباب العظام المعقودة من الحجر المنحوت المربعة الأركان الشبيهة بالأهرام والمنارة العظيمة ذات الهلالين واتصل هدم خارج باب النصر بخارج باب الفتوح وباب القوس الى باب الحديد حتى بقي ذلك كله خرابًا متصلًا واحدًا وبقي سور المدينة الأصلي ظاهرًا مكشوفًا فعمروه ورموا ما تشعث منه وأوصلوا بعضه ببعض بالبناء ورفعوا بنيانه في العلو وعملوا عند كل باب كرانك وبدنات عظامًا وأبوابًا داخلة وخارجة وأخشابًا مغروسة بالأرض مشبكة بكيفية مخصوصة وركزوا عند كل باب عدة من العسكر مقيمين وملازمين ليلًا ونهارًا ثم سدوا باب الفتوح بالبناء وكذلك باب البرقية وباب المحروق وأنشأوا عدة قلاع فوق التلال البرقية ورتبوا فيها العساكر وآلات الحرب والذخيرة وصهاريج الماء وذلك من حد باب النصر الى باب الوزير وناحية الصوة طولًا فمهدوا أعالي التلال وأصلحوا طرقها وجعلوا لها مزالق وانحدارات لسهولة الصعود والهبوط بقياسات وتحريرات هندسية على زوايا قائمة ومنفرجة وبنوا تلك القلاع بمقادير بين أبعادها وهدموا أبنية رأس الصوة حيث الحطابة وباب الوزير تحت القلعة الكبيرة وما بذلك من المدارس القديمة المشيدة والقباب المرتفعة وهدموا أعالي المدرسة النظامي ومنارتها وكانت في غاية من الحسن وجعلوها قلعة ونبشوا ما بها من القبور فوجدوا الموتى في توابيت من الخشب فظنوا داخلها دراهم فكسروا بعضها فوجدوا بها عظام الموتى فأنزلوا تلك التوابيت وألقوها الى خارج فاجتمع أهل تلك الجهة وحملوها وعملوا لها مشهدًا بجمع من الناس ودفنوها داخل التكية المجاورة لباب المدرج وجعلوا تلك المدرسة قلعة أيضًا بعد أن هدموا منارتها أيضًا وكذلك هدموا مدرسة القانبية والجامع المعروف بالسب سلاطين وجامع الجركسي وجامع خوند بركة الناصرية خارج باب البرقية وكذلك أبنية باب القرافة ومدارسها ومساجدها وسدوا الباب وعملوا الجامع الناصري الملااصق له قلعة بعد أن هدموا منارته وقبابه وسدوا أبواب الميدان من ناحية الرميلة وناحية عرب اليسار وأوصلوا سهور باب القرافة بجامع الزمر وجعلوا ذلك الجامع قلعة وكذلك عدة قلاع متصلة بالمجراة التي كانت تنقل الماء الى القلعة الكبيرة وسدوا عيونها وبواكيها وجعلوها سورًا بذاتها ولم يبقوا منها إلا قوصرة واحدة من ناحية الطبي جهة مصر القديمة جعلوها بابًا ومسلكًا وعليها الكرنك والغفر والعسكر الملازمين الإقامة بها ولقبض المكس من الخارج والداخل وسدوا الجهة المسلوكة من ناحية قنطرة السد بحاجز خشب مقفص وعليه باب بقفل مقفص أيضًا وعليه حرسجية ملازمون القيام عليه وذلك حيث سواقي المجراة التي كانت تنقل الماء الى القلعة وحفروا خلف ذلك خندقًا‏.‏

وأما ما أنشأوه وعمروه من الأبراج والقلاع والحصون بناحية ثغر الاسكندرية ورشيد ودمياط وبلاد الصعيد فشيء كثير جدًا وذلك كله في زمن قليل‏.‏

ومنها تخريب دور الأزبكية وردم رصيفاتها بالأتربة وتبديل أوضاعها وهدم خطة قنطرة الموسكي وما جاورها من أول القنطرة المقابلة للحمام الى البوابة المعروفة بالعتبة الزرقاء حيث جامع أزبك وما كان في ضمن ذلك من الدور والحوانيت والوكائل وكوم الشيخ سلامة فيسلك المار من على القنطرة في رحبة متسعة تنتهي الى رحبة الجامع الأزبكي وهدموا بيت الصابونجي ووصلوه بجسر عريض ممتد ممهد حتى ينتهي الى قنطرة الدكة وفي متوسط ذلك الجسر ينعطف جسرآخر الى جهة اليسار عند بيت الألفي حيث سكن ساري عسكر ممتد ذلك الجسر الى قنطرة المغربي ومنها يمتد الى بولاق على خط مستقيم الى ساحل البحر حيث موردة التبن والشون وزرعوا بحافتيه السيسبان والأشجار وكذلك برصيفات الأزبكية وهدموا المسجد المجاور لقنطرة الدكة مع ما وجدوه من الأبنية والغيطان وعملوا هناك بوابة وكرنكًا وعسكرًا ملازمين الإقامة والوقوف ليلًا ونهارًا وذلك عند مسكن بليار قائمقام وهي دار جرجس الجوهري وما جاوره وكان في عزمهم إيصال ما انتهوا الى هدمه بقنطرة الموسكي الى سور باب البرقية ويهدمون من حد حمام الموسكي حتى يتصل المهدوم بناحية الأشرفية ثم الى خان الخليلي الى اسطبل الطارمة المعروف الآن بالشنواني الى ناحية كفر الطماعين الى البرقية ويجعلون ذلك طريقًا واحدًا متسعًا وبحافتيه الحوانيت والخانات وبها أعمدة وأشجار وتكاعيب وتعاريش وبساتين من أولها الى آخرها من حد باب البرقية الى بولاق فلما انتهوا في الهدم الى قنطرة الموسكي تركوا الهدم ونادوا بالمهلة ثلاثة أشهر وشرعوا في أبنية حوائط بحافتي القنطرة ومعاطف ومزالق الى حارة الإفرنج وحارة النباقة وذلك بالجر النحت المتقن الوضع وكذلك عمروا قناطر الخليج المتهدمة داخل مصر وخارجها على ذلك الشكل مثل قنطرة السد والقنطرة التي من بين أراضي الناصرية وطريق مصر القديمة وقنطرة الليمون وقنطرة قدبدار وقنطرة الأوز وغير ذلك ثم فاجأهم حادث الطاعون ووصول القادمين فتركوا ذلك واشتغلوا بأمور التحصين وسيأتي تتمة ذلك ومنها توالي خراب بركة الفيل وخصوصًا بيوت الأمراء التي كانت بها وأخذوا أخشابها لعمارة القلاع ووقود النيران والبيع وكذلك ما كان بها من الرصاص والحديد والرخام وكانت هذه البركة من جملة محاسن مصر وفيها يقول أبو سعيد الأندلسي وقد ذكر القاهرة وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ويسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب‏.‏

وتخرب أيضًا جامع الرويعي وجعلوه خمارة وبعض جامع عثمان كتخدا القزدغلي الذي بالقرب من رصيف الخشاب وجامع خير بك حديد الذي يدرب الحمام بقرب بركة الفيل وجامع البنهاوي والطرطوشي والعدوي وهدموا جامع عبد الرحمن كتخدا المقابل لباب الفتوح حتى لم يبق به إلا بعض الجدران وجعلوا جامع أزبك سوقًا لبيع أقلام المكوس‏.‏

ومنها أنهم غيروا معالم المقياس وبدلوا أوضاعه وهدموا قبته العالية والقصر البديع الشاهق والقاعة التي بها عامود المقياس وبنوها على شكل آخر لا بأس به لكنه لم يتم وهي على ذلك باقية الى الآن ورفعوا قاعدة العامود العليا ذراعًا وجعلوا تلك الزيادة من قطعة رخام مربعة ومنها أنهم هدموا مساطب الحوانيت التي بالشوارع ورفعوا أحجارها مظهرين أن القصد بذلك توسيع الأزقة لمرور العربات الكبيرة التي ينقلون عليها المتاع واحتياجات البناء من الأحجار والجبس والجير وغيره والمعنى الخفي الشافي خوفًا من التترس بها عند حدوث الفتن كما تقدم وكانوا وصلوا في هدم المساطب الى باب زويلة ومن الجهة الأخرى الى عطفة مرجوش فهدموا مساطب خط قناطر السباع والصليبة ودرب الجماميز وباب سعادة وباب الخرق الى آخر باب الشعرية ولو طال الحال لهدموا مساطب العقادين والغورية والصاغة والنحاسين الى آخر باب النصر وباب الفتوح فحصل لأرباب الحوانيت غاية الضيق لذلك وصاروا يجلسون في داخل فجوات الحوانيت مثل الفيران في الشقوق وبعض الزوايا والجوامع والرباع التي درجها خارج عن سمت حائط البناء لما هدموا درجه وبسطته بقي باب مدخله معلقًا فكانوا يتوصلون إليه بدرج من الخشب مصنوع يضعونه وقت الحاجة ويرفعونه بعدها وذلك عمل كثير‏.‏

ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء وهو أنه لما حضر الفرنسيس الى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقًا عنيفًا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذلك الأموال لهن وكان ذلك التداخل أولًا مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر‏.‏

ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حور الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهن لهن وموافقة مرادهم وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس الى الشهوات وخصوصًا عقول القاصرات وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات متزييات يزهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها على مثل شكلها وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل ما ومنها أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء الى الخليج وجرت فيه السفن وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وصحبتهم آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاديف بسخيف موضوعاتهم وكتائف مطبوعاتهم وخصوصًا إذا دبت الحشيشة في رؤوسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم وتقليد كلامهم شيء كثير‏.‏

وأما الجواري السود فإنهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفجواجًا فرادى وأزواجًا فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك‏.‏

ومنها أن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رؤوسهم مشابه لشكل البرنيطة وعليه قطعة فروة سوداء من جلد الغنم في غاية البشاعة مع ما يضاف إليها من قبح صورهم وسواد أجسامهم وزفارة أبدانهم وصيرهم عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام وكذلك بنى أبراجًا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق الرصاص على هيئة سور مصر الذي رمه الفرنساوية ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين للوقوف ليلًا ونهارًا وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية ومنها قطعهم الأشجار والنخيل من جميع البساتين والجنائن الكائنة بمصر وبولاق ومصر القديمة والروضة وجهة قصر العيني وخارج الحسينية وبساتين بركة الرطلي وأرض الطبالة وبساتين الخليج بل وجيمع القطر المصري كالشرقية والغربية والمنوفية ورشيد ودمياط كل ذلك لاحتياجات عمل القلاع وتحصين الأسوار في جميع الجهات وعمل العجل والعربات والمتاريس ووقود النار وكذلك المراكب والسفن وأخذ أخشابها أيضًا مع شدة الاحتياج إليها وعدم إنشاءالناس سفنًا جديدة لفقرهم وعدم الخشب والزفت والقار والحديد وباقي اللوازم حتى أنهم حال حلولهم الديار المصرية وسكنهم بالأزبكية كسروا جميع القنج والأغربة التي كانت موجودة تحت بيوت الأعيان بقصد التنزه وكذلك ما كان ببركة الفيل وبسبب ذلك شحت البضائع وغلت الأسعار وتعطلت الأسباب وضاقت المعايش وتضاعفت أجر حمل التجارات في السفن ومنها هدم القباب والمدافن الكائنة بالقرافة تحت القلعة خوفًا من تترس المحاربين بها فكانوا يهدمون ذلك بالبارود على طريقة اللغم فيسقط المكان بجميع أجزائه من وقود البارود وانحباسه في الأرض فيسمع له صوت عظيم ودوي فهدموا شيئًا كثيرًا على هذه الصورة وكذلك أزالوا جانبًا كبيرًا من الجبل المقطم بالبارود من الجهة المحاذية للقلعة خوفًا من تمكن الخصم منها والرمي على القلعة‏.‏ ومنها

زيادة النيل الزيادة المفرطة التي لم يعد مثلها

في هذه السنين حتى غرقت الأراضي وحوصرت البلاد وتعطلت الطرق فصارت الأرض كلها لجة ماء وغرق غالب البلاد التي على السواحل فتهدم من دورها شيء كثير وأما المدينة فإن الماء جرى من جهة الناصرية الى الطريق المسلوكة وطفح من بركة الفيل الى درب الشمسي وطريق قنطرة عمر شاه‏.‏

ومنها استمرار انقطاع الطرق وأسباب المتاجر وغلول البضائع المجلوبة من البلاد الرومية والشامية والهندية والحجازية والمغرب حتى غلت أسعار جميع الأصناف وانتهى سعر كل شيء الى عشرة أمثاله وزيادة على ذلك فبلغ الرطل الصابون الى ثمانين نصفًا واللوزة الواحدة بنصفين وقس على ذلك وأما الأشياء البلدية فإنها كثيرة موجودة وغالبها يباع رخيصًا مثل السمن والعسل النحل والأرز والغلال وخصوصًا الأرز فإنه بيع في أيامهم بخمسمائة نصف فضة الأردب وكانت النصارى باعة العسل النحل يطوفون به في بلاليص محملة على الحمير ينادون عليه في الأزقة بأرخص الأثمان‏.‏

ومنها وقوع الطاعون بمصر والشام وكان معظم عمله ببلاد الصعيد أخبرني صاحبنا العلامة الشيخ حسن المعروف بالعطار المصري نزيل أسيوط مكاتبة ونصه ونعرفكم يا سيدي أنه قد وقع في قطر الصعيد طاعون لم يعهد ولم تسمع بمثله وخصوصًا ما وقع منه بأسيوط وقد انتشر هذا البلاء في جميع البلاد شرقًا وغربًا وشاهدنا منه العجائب في أطواره وأحواله وذلك أنه أباد معظم أهل البلاد وكان أكثره في الرجال سيما الشبان والعظماء وكل ذي منقبة وفضيلة وأغلقت الأسواق وعزت الأكفان وصار المعظم من الناس بين ميت ومشيع ومريض وعائد حتى أن الإنسان لا يدري بموت صاحبه أو قريبه إلا بعد أيام ويتعطل الميت في بيته من أجل تجهيزه فلا يوجد النعش ولا المغسل ولا من يحمل الميت إلا بعد المشقة الشديدة وأن أكبر كبير إذا مات لا يكاد يمشي معه ما زاد على عشرة أنفار تكترى وماتت العلماء والقراء والملتزمون والرؤساء وأرباب الحرف ولقد مكثت شهرًا بدون حلق رأسي لعدم الحلاق وكان مبدأ هذا الأمر من شعبان وأخذ في الزيادة في شهر ذي القعدة والحجة حتى بلغ النهاية القصوى فكان يموت كل يوم من أسيوط خاصة زيادة على الستمائة وصار الإنسان إذا خرج من بيته لا يرى إلا جنازة أو مريضًا أو مشتغلًا بتجهيز ميت ولا يسمع إلا نائحة أو باكية وتعطلت المساجد من الأذان والإمامة لموت أرباب الوظائف واشتغال من بقي منهم بالمشي أمام الجنائز والصبح والسهر وتعطيل الزرع من الحصاد ونشف على وجه الأرض وأبادته الرياح لعدم وجدان من يحصده وعلى التخمين أنه مات الثلثان من الناس هذا مع سعي العرب في البلاد بالفساد والتخويف بسبب خلو البلاد من الناس والحكام الى أن قال ولو شئت أن أشرح لك يا سيدي ما حصل من أمر الطاعون لملأت الصحف مع عدم الإيفاء وتاريخه ثامن عشرين الحجة سنة تاريخه‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان مات الإمام الألمعي والذكي اللوذعي من عجنت طينته بماء المعارف وتآخت طبيعته مع العوارف العمدة العلامة والنحرير الفهامة فريد عصره ووحيد دهره الشيخ محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري وهو أحد الإخوة الثلاثة وأصغرهم ويعرف هو بالصغير ولد سنة إحدى وخمسين ومائة وألف ونشأ في حجر والده في عفة وصون وعفاف وقرأ عليه وعلى أخيه الأكبر الشيخ أحمد ابن أحمد وعلى الشيخ خليل المغربي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم من فضلاء الوقت وأجازه الشيخ محمد الملوي بما في فهرسته وحضر دروس الشيخ عطية الأجهوري في الأصول والفقه وغير ذلك فلازمه وبه تخرج في الإلقاء وحضر الشيخ علي الصعيدي والبراوي وتلقى عن الشيخ الوالد حسن الجبرتي كثيرًا من العلوم ولازم التردد عليه والأخذ منه مع الجماعة ومنفردًا وكان يحبه ويميل إليه ويقبل بكليته عليه وحج مع والده في سنة ثمان وستين وجاور معه فاجتمع بالشيخ السيد عبد الله الميرغني صاحب الطائف واقتبس من أنواره واجتنى من ثماره وكان آية في الفهم والذكاء والغوص والاقتدار على حل المشكلات وأقرأ الكتب وألقى الدروس بالأشرفية وأظهر التعفف والانجماع عن خلطة الناس والذهاب والترداد الى بيوت الأعيان والتزهد عما بأيديهم فأحبه الناس وصار له أتباع ومحبون وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده وإقبال الناس عليه ومدحتهم له وترغيبهم في زيادته وتزوج ببنت الخواجا الكريمي وسكن بدارها المجاورة لبيت والده بالأزبكية واتخذ له مكانًا خاصًا بمنزل والده يجلس فيه في أوقات وكل من حضر عند أبيه في حال انقطاعه من الأكابر أو من غيرهم للزيارة أو للتلقي يأمره بزيارة ابنه المترجم والتلقي عنه وطلبهم الدعاء منه ويحكي لهم عنه مزايا وكرامات ومكاشفات ومجاهدات وزهديات فازداد اعتقاد الناس فيه وعاشر العلماء والفضلاء من أهل عصره ومشايخه وقرنائه وتردد عليهم وترددوا عليه ويبيتون عنده ويطعمهم ويكرمهم ويتنزه معهم في أيام النيل مع الحشمة والكمال ومجانبة الأمور المخلة بالمروءة ولما مات أخوه الكبير الشيخ أحمد وقد كان تصدر بعد والده في إقراء الدروس أجمع الخاص والعام على تقدم المترجم في إقراء الدروس في الأزهر والمشهد الحسيني في رمضان فامتنع من ذلك وواظب على حالة انجماعه وطريقته وإملائه الدروس بالأشرفية وحج في سنة سبع وثمانين ومائة وألف وجاور سنة وعقد دروسًا بالحرم وانتفع به الطلبة ثم عاد الى وطنه وزاد في الانجماع والتحجب عن الناس في أكثر الأوقات فعظمت رغبة الناس فيه ورد هداياهم مرة بعد أخرى وأظهر الغنى عنهم فازداد ميل الناس إليه وجبلت قلوبهم على حبه واعتقاده وتردد الأمراء وسعوا لزيارته أفواجًا وربما احتجب عن ملاقاتهم وقلد بعضهم بعضًا في السعي ولم يعهد عليه أنه دخل بيت أمير قط أو أكل من طعام أحد قط إلا بعض أشياخه المتقدمين وكانت شفاعته لا ترد عند الأمراء والأعيان مع الشكيمة والصدع بالأمر والمناصحة في وجوههم إذا أتوا إليه وازدادت شهرته وطار صيته ووفدت عليه الوفود من الحجاز والغرب والهند والشام والروم وقصدوا زيارته والتبرك به وحج أيضًا في سنة تسع وتسعين لما حصلت الفتنة بين أمراء مصر فسافر بأهله وعياله وقصد المجاورة فجاور سنة وأقرأ هناك دروسًا واشترى كتبًا نفيسة ثم عاد الى مصر واستمر على حالته في انجماعه وتحجبه عن الناس بل بالغ في ذلك ويقرئ ويملي الدروس بالأشرفية وأحيانًا براويتهم بدرب شمس الدولة وأحيانًا بمنزله بالأزبكية ولما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري وتولى مشيخة الأزهر الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي باتفاق الأمراء والمتصدرين من الفقهاء وهاجت حفائظ الشافعية ذهبوا إليه وطلبوه للمشيخة فأبى ذلك ووعدهم بالقيام لنصرتهم وتولية من يريدونه فاجتمعوا ببيت الشيخ البكري واختاروا الشيخ أحمد العروسي لذلك وأرسلوا الى الأمراء فلم يوافقوا على ذلك فركب المترجم بصحبة الجمع الى ضريح الإمام الشافعي ولم يزل حتى نقض ما أبرمه العلماء والأمراء ورد المشيخة الى الشافعية وتولى الشيخ أحمد العروسي وتم له الأمر كما تقدم ذلك في ترجمة العريشي ولما توفي الشيخ أحمد العروسي كان المترجم غائبًا عن مصر في زيارة سيدي أحمد البدوي فأهمل الأمر حتى حضر وتولى الشيخ عبد الله الشرقاوي بإشارته ولم يزل وافر الحرمة معتقدًا عند الخاص والعام حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها وتراكمت عليه الهموم والأمراض وحصل له اختلاط ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر القعدة سنة تاريخه بحارة برجوان وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة وبالجملة فكان من محاسن مصر والفريد في العصر ذهنه وقاد ونظمه مستجاد وكان رقيق الطبع لطيف الذات مترفهًا في مأكله وملبسه‏.‏

ومات الأجل الأمثل العمدة الوجيه السيد عبد الفتاح بن أحمد ابن الحسن الجوهري أخو المترجم المذكور وهو أسن منه وأصغر من أخيه الشيخ أحمد ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف ونشأ في حجر أبيه وحضر الشيخ الملوي وبعض دروس أبيه وغيره ولم يكن معتنيًا بالعلم ولم يلبس زي الفقهاء وكان يعاني التجارة ويشارك ويضارب ويحاسب ويكاتب فلما توفي أخوه الأكبر الشيخ أحمد وامتنع أخوه الأصغر الشيخ محمد من التصدر للإقراء في محله اتفق الحال على تقدم المترجم حفظًا للناموس وبقاء لصورة العلم الموروث فعند ذلك تزيا بزي الفقهاء ولبس التاج والفراجة الواسعة وأقبل على مطالعة العلم وخالط أهله وصار يطالع ويذاكر وأقرأ دروس الحديث بالمشهد الحسيني في رمضان مع قلة بضاعته وذلك بمعونة الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد الفرماوي فكان يطالع الدرس الذي يمليه من الغد ويتلقى عنه مناقشات الطلبة وثبت على ذلك حتى ثبتت المشيخة وتقررت العالمية كل ذلك مع معاناته التجارة وتردد الى الحرمين وأثرى واقتنى كتبًا نفيسة وعروضًا وحشمًا واشترى المماليك والعبيد والجواري والأملاك والالتزام ولم يزل حتى حصلت حوادث الفرنساوية وصادروه وأخذوا منه خمسة عشر ألف فرانسة وداخله من ذلك كرب وانفعال زائد فسافر الى بلدة جارية في التزامه يقال لها كوم النجار فأقام بها أشهرًا ثم ذهب الى شيبين الكوم بلدة أقاربه وأقام بها الى أن مات في هذه السنة وذلك بعد وفاة ومات الإمام العلامة الثقة الهمام النحرير الذي ليس له في فضله نظير أبو محمد أحمد بن سلامة الشافعي المعروف بأبي سلامة اشتغل بالعلم وحضر العلوم النقلية والنحوية والمنطقية وتفقه على كثير من علماء الطبقة الأولى كالشيخ علي قايتباي والحفني والبراوي والملوي وغيرهم وتبحر في الأصول والفروع وكان مستحضرًا للفروع الفقهية والمسائل الغامضة في المذاهب الأربعة ويغوص ذهنه وقياسه في الأصول الغريبة ومطالعة كتب الأصول القديمة التي أهملها المتأخرون وكان الفضلاء يرجعون في ذلك إليه ويعتمدون قوله ويعولون في الدقائق عليه إلا أن الدهر لم يصافه على عادته وعاش في خمول وضيق عيش وخشونة ملبس وفقد رفاهية بحيث أن من يراه لا يعرفه لرثاثة ثيابه وكان مهذبًا حسن المعاشرة جميل الخلق والنادرة مطبوعًا فيه صلاح وتواضع ونزل مؤقتًا في مسجد عبد الرحمن كتخدا الذي أنشأه تجاه باب الفتوح بمعلوم قدره ثمانية أنصاف يتعيش بها مع ما يرد عليه من بعض الفقهاء والعامة الذين يحتاجون إليه في مراجعة المسائل والفتاوى فلما خرب المسجد المذكور في حادثة الفرنسيس وجهات أوقافه انقطع عنه ذلك المعلوم وكان ذا عائلة ومع ذلك لا يسأل شيئًا ولا يظهر فاقة توفي يوم الأحد حادي عشرين جمادى الآخرة من السنة عن خمسة وسبعين سنة تقريبًا رحمه الله‏.‏

ومات الأمير مراد بك محمد مات بسهاج قادمًا الى مصر باستدعاء الفرنسيس ودفن بها عند الشيخ العارف وكان موته رابع شهر الحجة كما تقدم وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب ومحمد بك مملوك علي بك وعلي بك مملوك ابراهيم كتخدا القازدغلي اشترى محمد بك مراد بك المذكور في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وذلك في اليوم الذي قتل فيه صالح بك الكبير فأقام في الرق أيامًا قليلة أعتقه وأمره وأنعم عليه بالإقطاعات الجليلة وقدمه على أقرانه وتزوج بالست فاطمة زوجة الأمير صالح بك وسكن باره العظيمة بخط الكبش‏.‏

ولما مات علي بك تزوج بسريته أيضًا وهي الست نفيسة الشهيرة الذكر بالخير ولما انفرد محمد بك بإمارة مصر كان هو وابراهيم بك أكبر أمرائه المشار إليهما دون غيرهما فلما سافر محمد بك الى الديار الشامية محاربًا للظاهر عم أقام عوضه في إمارة مصر ابراهيم بك وأخذ صحبته مراد بك وباقي أمرائه فلما مات محمد بك بعكا اجتمع أمراؤه على رأي مماليكه في رئاسة مراد بك فتقدم وقدمه عليهم وحملوا جثة سيدهم وحضروا بأجمعهم الى مصر فاتفق رأي الجميع على إمارة من استخلفه سيدهم وقدمه دون غيره وهو ابراهيم بك ورضي الجميع بتقدمه ورياسته لوفور عقله وسكون جأشه فاستقر بمشيخة مصر ورياستها ونائب نوابها ووزرائها وعكف مراد بك على لذاته وشهواته وقضى أكثر زمانه خارج المدينة مرة بقصره الذي أنشأه بالروضة وأخرى بجزيرة الذهب وأخرى بقصر قايماز جهة العادلية كل ذلك مع مشاركته لابراهيم بك في الأحكام والنقض والإبرام والإيراد والإصدار ومقاسمة الأموال والدواوين وتقليد مماليكه وأتباعه الولايات والمناصب وأخذ في بذل الأموال وإنفاقها على أمرائه وأتباعه فانضم إليه بعض أمراء علي بك وغيره ممن مات أسيادهم كعلي بك المعروف بالملط وسليمان بك الشابوري وعبد الرحمن بك عثمان فأكرمهم وواساهم ورخص لمماليكه في هفواتهم وسامحهم في زلاتهم وحظي عنده كل جريء غشوم عسوف ذميم ظلوم فانقلبت أوضاعهم وتبدلت طباعهم وشرهت نفوسهم وعلت رؤوسهم فتناظروا وتفاخروا وطمعوا في أستاذهم وشمخت آنافهم عليه وأغاروا حتى على ما في يده واشتهر بالكرم والعطاء فقصده الراغبون وامتدحه الشعراء والغاوون وأخذا الشيء من غير حقه وأعطاه لغير مستحقه‏.‏

ثم لما ضاف عليه المسلك ورأى أن رضا العالم غاية لا تدرك أخذ يتحجب عن الناس فعظم فيه الهاجس والوسواس وكان يغلب على طبعه الخوف والجبن مع التهور والطيش والتورط في الإقدام مع عدم الشجاعة ولم يعهد عليه أنه انتصر في حرب باشرها أبدًا على ما فيه من الادعاء والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم والجور‏.‏

ولما قدم حسن باشا الى مصر وخرج المترجم مع خشداشينه وعشيرته هاربين الى الصعيد حتى انقضت أيام حسن باشا واسمعيل بك ومن كان معه ورجعوا ثانيًا بعد أربع سنين وشيء من الشهور من غير عقد ولا حرب تعاظم في نفسه جدًا واختص بمساكن اسمعيل بك وجعل إقامته بقصر الجيزة وزاد في بنائه وتنميقه وبنى تحته رصيفًا محكمًا وأنشأ بداخله بستانًا عظيمًا نقل إليه أصناف النخيل والأشجار والكروم واستخلص غالب بلاد إقليم الجيزة لنفسه شراء ومعاوضة وغصبًا وعمر أيضًا قصر جزيرة الذهب وجعل بها بستانًا عظيمًا وكذلك قصر ترسا وبستان المجنون وصار يتنقل في تلك القصور والبساتين ويركب للصيد في غالب أوقاته واقتنى المواشي من الأبقار والجواميس الحلابة والأغنام المختلفة الأجناس فكان عنده بالجيزة من ذلك شيء كثير جدًا وعمل له ترسخانة عظيمة وطلب صناع آلات الحرب من المدافع والقنابر والبنب والجلل والمكاحل واتخذ بها أيضًا معامل البارود خلاف المعامل التي في البلد وأخذ جميع الحدادين والسباكين والنجارين فجمع الحديد المجلوب والرصاص والفحم والحطب حتى شحت جميع هذه الأدوات لكونه كان يأخذ كل ما وجده منها وكذلك حطب القرطم والترمس والذرة لحرق قمام الجير والجبس للعمارة وأوقف الأعوان في كل جهة يحجزون المراكب التي تأتي من البلاد بالأحطاب يأخذونها ويجمعونها للطلب ويبيعون لأنفسهم ما أحبوا ويأخذون الجعالات على ما يسمحون به أو يطلقونه لأربابه بالوسائط والشفاعات وأحضر أناسًا من القليونجية ونصارى الأروام وصناع المراكب فأنشأوا له عدة حربية وغلايين وجعلوا بها مدافع وآلات حرب على هيئة مراكب الروم صرف عليها أموالًا عظيمة ورتب بها عساكر وبحرية وأدر عليهم الجماكي والأرزاق الكثيرة وجعل عليهم رئيسًا كبيرًا رجلًا نصرانيًا وهو الذي يقال له نقولا بنى له دارًا عظيمة بالجيزة وأخرى بمصر وله عزوة وأتباع من نصارى الأروام المرتبين عسكرًا وكان نقولا المذكور يركب الخيل ويلبس الملابس الفاخرة ويمشي في شوارع مصر راكبًا وأمامه وخلفه قواسة يوسعون له الطريق في مروره على هيئة ركوب الأمراء كل ذلك خطرات من وساوسه لا يدري أحد لأي شيء هذا الاهتمام ولأي حاجة إنفاق هذا المال في الخشب والحديد وإعطاؤه لنصارى الأروام واختلفت آراء الناس في ذلك من قائل إن ذلك خوفًا من خشداشينه وقائل من مخافة العثمانية كما تقدم في قضية حسن باشا والبعض يظن خلاف ذلك وليس غير الوهم والتخيل الفاسد والخوف شيء وبقيت آلات الحرب جميعها والبارود بحواصله والجلل والبنبات حتى أخذ جميعه الفرنسيس فيقال إنه كان بحواصل الترسخانة من جنس الجلل أحد عشر ألف جلة كذا نقل عن معلم الترسخانة أخذ جميع ذلك الفرنسيس يوم استيلائهم على الجيزة والقصر‏.‏

ومما اتفق أنه وقعت مشاجرة في بعض نصارى الأروام القليونجية وبعض السوقة بمصر القديمة فتعصب النصارى على أهل البلد وحاربوهم وقتلوا منهم نيفًا وعشرين رجلًا وانتهت الشكوى الى الأمير فطلب كبيرهم فعصى عليه وامتنع من مقابلته وعمر مدافع المراكب ووجهها جهة قصره فلم يسعه إلا التغافل وراحت على من راح واستوزر رجلًا بربريًا وهو المسمى بابراهيم كتخدا السناري وجعله كتخداه ومشيره وبلغ من العظمة ونفوذ الكلمة بإقليم مصر ما لم يبلغه أعظم أمير بها وبنى له دارًا بالناصرية واقتنى المماليك الحسان والسراري البيض والحبوش والخدم وتعلم اللغة التركية والأوضاع الشيطانية واختص ذلك السناري أيضًا ببعض رعاع الناس وجعله متخدا يأتمر بأمره ويتوصل به أعاظم الناس في قضاء أشغالهم ولما حسن لمراد بك الإقامة بالجيزة واختار السكن بها وزين له شيطانه العزلة عن خشداشينه وأقرانه وترك لابراهيم بك أمر الأحكام والدواوين ومقتضيات نواب السلطنة العثمانية مع كونه لا ينفذ أمرًا دون رأيه ومشورته واحتجب هو عن الاجتماع بالناس بالكلية‏.‏

حتى عن الأمراء الكبار من أقرانه كان السفير بينه وبينهم ابراهيم كتخدا المذكور فكان هو عبارة عنه وربما نقض القضايا التي انبرم أمرها عند ابراهيم بك أو غيره بنفسه أو عن لسان مخدومه وأقام المترجم على عزلته بالبر الغربي نحو الست سنوات متوالية لا يعدى الى البر الشرقي أبدًا ولا يحضر الديوان ولا يتردد الى اأقران وإذا حضر الباشا المولى على مصر ووصل الى بر انبابة ركب وسلم عليه مع الأمراء ورجع الى قصره فلا يراه بعد ذلك أبدًا‏.‏

وتعاظم في نفسه وتكبر على أقرانه وأبناء جنسه فتزاحمت على سدته الطلاب وتكالبت على جيفته الكلاب فانزوى من نبشهم وتوارى من نهشهم فإذا بلغه قدوم من يختشيه أو وصول من يرتجيه وكان يستحي من رده أو يخشى عاقبة صده ركب في الحال وصعد الى الجبال وربما وصله الغريم على غفلة فيجده قد شمع الفتلة فإن صادفه واجتمع عليه أعطاه ما في يديه أو وعده بالخير أو وهبه ملك الغير فما يشعر الميسور إلا ولقمته قد اختطفتها النسور‏.‏

ثم أخذ يعبث بدواوين الأعشار والمكوسات والبهار فيحول عليهم الحوالات ويتابع لمماليكه ختم الوصولات فتجاذب هو وابراهيم بك ذلك الإيراد وتعارضت أوراقهما وخافا في المعتاد ثم اصطلحا على أن تكون له الدواوين البحرية ولقسيمه ما يرد من الأصناف الحجازية وما انضاف الى قلم البهار وحسب في دفاتر التجار فانفرد كل منهما بوظيفته وفعل بها من الإجحاف ما سطر في صحيفته فأحدث المترجم ديوانًا خاصًا بنفر رشيد على الغلال التي تحمل الى بلاد الافرنج وسموه ديوان البدعة وأذن ببيع الغلال لمن يحملها الى بلاد الإفرنج أو غيرها وجعل على كل أردب دينارًا خلاف البراني والتزم بذلك رجل سراج من أعوانه الموصوفين بالجور وسكن برشيد وبقيت له بها وجاهة وكلمة نافذة فجمع من ذلك أموالًا وإيرادًا عظيمًا وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري مع ما أضيف الى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجاراتهم وبضاعاتهم من غير ثمن واقتدى به أمراؤه وتناظروا في ذلك وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته واستخرجته فطنته واختص بالسيد محمد كريم الاسكندري ورفع شأنه بين أقرانه فمهد له الأمور بالثغر به وأجرى أحكامه به وفتح له باب المصادرات والغرامات ودله على مخبآت الأمور وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الإفرنج حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيس وكان هو من أعظم الأسباب في تملك الفرنسيس للثغر كما ذكر ذلك في قتلته وذلك أنه لما خرجت مراكب الفرنساوية وعمارتهم لا يدري أحد لأي جهة يقصدون تبعهم طائفة الانكليز الى الاسكندرية فلم يجدوهم وكانوا ذهبوا أولًا الى جهة مالطة فوقف الانكليزية قبالة الاسكندرية وأرسلوا قاصدهم الى الثغر يسألون عن خبر الفرنساوية فردهم الكذور ردًا عنيفًا فأخبروه الخبر على جليته وأنهم أخصامهم وعلموا بخروجهم فاقتفوا أثرهم ونريد منكم أن تعطونا الماء والزاد بثمنه ونقف لهم على ظهر البحر فلا نمكنهم من العبور الى ثغركم فلم يقبل منهم ولم يأذن في تزويدهم فذهبوا ليتزودوا من بعض الثغور فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان‏.‏

ومما سولت به نفس المترجم بإرشاد بعض الفقهاء عمارة جامع عمرو ابن العاص وهو الجامع العتيق وذلك أنه لما خرب هذا الجامع بخراب مدينة الفسطاط وبقيت تلالًا وكيمانًا وخصوصًا ما قرب من ذلك الجامع ولم يبق بها بعض العمار إلا ما كان من الأماكن التي على ساحل النيل وخربت في دولة القزدغلية وأيام حسن باشا لما سكنتها عساكره ولم يبق بساحل النيل إلا بعض أماكن جهة دار النحاس وفم الخليج يسكنها أتباع الأمراء ونصارى المكوس وبها بعض مساجد صغار يصلي بها السواحلية والنواتية وسكان تلك الخطة من القهوجية والباعة والجامع العتيق لا يصل إليه أحد لبعده وحصوله بين الأتربة والكيمان وكان فيما أدركنا الناس يصلون به آخر جمعة في رمضان فتجتمع به الناس على سبيل التسلي من القاهرة ومصر وبولاق وبعض الأمراء أيضًا والأعيان ويجتمع بصحنه أرباب الملاهي من الحواة والقراداتية وأهل الملاعب والنساء الراقصات المعروفات بالغوازي فبطل ذلك أيضًا من نحو ثلاثين سنة لهدمه وخراب ما حوله وسقوط سقفه وأعمدته وميل شقته اليمنى بل وسقوطها بعد ذلك فحسن ببال المترجم هذه وتجديده بإرشاد بعض الفقهاء ليرقع به دينه الخلق فاهتم لذلك وقيد به نديمه الحاج قاسم المعروف بالمصلي فجعله مباشرًا على عمارته وصرف عليه أموالًا عظيمة أخذها من غير حلها ووضعها في غير محلها وأقام أركانه وشيد بنيانه ونصب أعمدته وكمل زخرفته وبنى به منارتين وجدد جميع سقفه بالخشب النقي وبيضه جميعه فتم على أحسن ما يكون وفرشه بالحصر الفيومي وعلق به القناديل وحصلت به الجمعية آخر جمعة برمضان سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فحضر الأمراء والأعيان والمشايخ وأكابر الناس وعامتهم وبعد انقضاء الصلاة عقد له الشيخ عبد الله الشرقاوي مجلسًا وأملى حديث من بنى لله مسجدًا وآية إنما يعمر مساجد الله وعند فراغه ألبس فروة من السمور وكذلك الخطيب فلما حضرت الفرنساوية في العام القابل جرى عليه ما جرى على غيره من الهدم والتخريب وأخذ أخشابه حتى أصبح بلقعًا أشوه مما كان فيا ليتها لم تتصدق وبالجملة فمناقب المترجم لا تحصى وأوصافه لا تستقصى وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومن مماليكه وأتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم فلعل الهم يزول بزواله‏.‏ومات

الأمير حسن بك الجداوي مملوك علي بك

وهو من خشداشين محمد بك أبي الذهب مات بغزة بالطاعون وكان من الشجعان الموصوفين والأبطال المعروفين ولما انفرد علي بك بمملكة مصر ولاه إمارة جدة فلذلك لقب بالجداوي وذلك سنة أربع وثمانين ومائة وألف وابتلي فيها بأمور ظهرت بها شجاعته وعرفت فروسيته ولذلك خير يطول شرحه ولما حصلت الوحشة بين اسمعيل بك والمحمديين كان المترجم ممن نافق معه وعضده هو وخشداشينه رضوان بك وعبد الرحمن بك وكانت لهم الغلبة ونما أمره عند ذلك وظهر شأنه بعد أن كان خمل ذكره وهو الذي تجاسر على قتل يوسف بك في بيته بين مماليكه وعزوته ثم خامر على اسمعيل بك وانقلب مع المحمديين عندما خرج لمحاربتهم بالصعيد فخادعوه وراسلوه وانضم إليهم بمن معه ورجعوا الى مصر وفر اسمعيل بك بمن معه الى الشام واستقر هو وخداشينه في مملكة مصر مشاركين لهم مظهرين عليهم الشمم طامعين في خلوص الأمر لهم متوقعين بهم الفرصة مع التهور الموجب لتحذر الآخرين منهم الى أن استعجلوا إشعال نار الحرب فجرى ما جرى بينهم من الحروب والمحاصرة بالمدينة وانجلت عن خذلانهم وهزيمتهم وظهور المحمديين عليهم وقتل بها عدة من أعيانهم ومواليهم ومن انضم إليهم وربما عوقب من لا جناية له كما سطر ذلك في محله وفر المترجم مع بعض من بقي من عشيرته الى القليونجية فقبض عليه وأتى به أتى مصر ففر الى بولاق بمفرده والتجأ الى بيت الشيخ الدمنهوري فأحاط به العساكر فنط من سطح الدار وخلص الى الزقاق وسيفه مشهور في يده فصادف جنديًا فقتله وأخذ فرسه فركبه وفر والعساكر خلفه تريد أخذه وتتلاحق به من كل جهة وهو يراوغهم ويقاتلهم حتى خلص الى بيت ابراهيم بك فأمنه واتفقوا على إرساله الى جدة فلما أقلع به في القلزم أمر رئيس المركب أن يذهب به الى القصير وخوفه القتل إن لم يفعل فذهب به الى القصير فتوجه منها الى أسنا وعلمت به عشيرته وخشداشينه ومماليكه فتلاقوا به واستقر أمرهم بها بعد وقائع يطول شرحها فأقام نيفًا وعشر سنين حتى رجع إليهم اسمعيل بك بعد غيبته الطويلة وانضم إليهم واصطلح معهم الى أن كان ما كان من وصول حسن باشا الى الديار المصرية وإخراج المحمديين وإدخاله للمذكور مع اسمعيل بك ورضوان بك وأتباعهم وتأميرهم بمصر واستقرارهم بها بعد رجوع حسن باشا الى بلاده ووقوع الطاعون الذي مات به اسمعيل بك ورضوان بك وغيرهم من الأمراء فاستقل بمن بقي من الأمراء وفعل معهم من التهور والحمق والشر ما أوجب لهم بغض النعيم والحياة معه وخامر عليه من كان يأمن إليه فلم يسعه ومن معه إلا الفرار ورضي ذاك لنفسه بالذل والعار ودخلت المحمديون الى مصر المحمية واستقر هو كما كان بالجهة القبلية فأقام على ذلك سبع سنين وبعض أشهر الى أن وقعت حادثة الفرنسيس واستولوا على الإقليم المصري وحضرت العساكر بصحبة الوزير يوسف باشا ووقع ما وقع من الصلح ونقضه وانحصر المترجم مع من انحصر بالمدينة المصرلية والعثمانية فقاتل وجاهد وأبلى بلاء حسنًا شهد له بالشجاعة والإقدام كل من العثمانية والفرنساوية والمصرلية فلما انفصل الأمر وخرجوا الى الجهة الشامية لم يزل محرصًا ومرابطًا ومجتهدًا حتى مات بالطاعون في هذه السنة وفاز بالشهادتين وقدم على كريم يغفر الذنوب جميعًا أنه هو الغفور الرحيم وأمراؤه الموجودون الآن عثمان بك المعروف بالحسيني وأحمد بك أمره الوزير عوضًا عن أستاذه‏.‏

ومات الأمير عثمان بك المعروف بطبل وهو من مماليك اسمعيل بك أمره في سنة اثنتين وتسعين ثم خرج مع سيده وتغرب معه في غيبته الطويلة فلما رجع الى مصر في أيام حسن باشا تولى إمارج الحج في سنة خمس ومائتين وألف وكان سيده يقدمه على أقرانه ويظن به النجاح ولما طعن وعلم أنه مفارق الدنيا أحضره وأوصاه وحذره من أعدائه وقال له إني حصنت لك مصر وسورتها وصيرتها بحيث تملكها بنت عمياء فلما مات سيده تشوق للإمارة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار فلم يرض كل منهما بالآخر وتخوفا من بعضهما فاتفق رأيهما على تأمير عثمان بك المذكور كبيرًا عوضًا عن سيده وسكن داره وعقدوا الدواوين عنده فنزل عن إمارة الحج لحسن بك تابع حسن بك قصبة رضوان واشتغل هو بأمور الدولة ومشيخة مصر فلم يفلح وخامر مع أخصامه وأخصام سيده والتف عليهم سرًا وصدق تمويهاتهم وخذل نفسه ودولته وذلك غيظًا من حسن بك كما سبقت إليه الإشارة وكل من حسن بك وعثمان بك الجداوي وعلي بك الدفتردار يتخوف نفاق صاحبه لتكرر ذلك منهما في الوقائع السابقة وانحراف طبع كل عن صداقة الآخر الباطنية ولم يخطر ببالهما بل ولا ببال أحد من المجانين فضلًا عن العقلاء ركون المشار إليه الى أعدائه وأعداء سيده العداوة الموروثة فكانا كلما شرعا في تدبير شيء من مكايد الحرب ثبطهما وأقعدهما وهما يظنان نصحه وقعتقدان خلوصه ومعرفته ولكونه تعلم سياسة الحروب من سيده لكثرة تجاربه وسياحته ولم يعلما أنه يمهد لنفسه طريقًا مع الأعداء الى أن كان ما كان من مساعدته لهم بالتغافل والتقاعد حتى تحولوا الى الجهة الشرقية وخص إليهم بمن انضم إليه من عشيرته فلم يسع الباقين إلا الهرب وأسلم هو نفسه لأعدائه فأظهروا له المحبة وولوه إمارة الحج حكم عهدهم بذلك وأن تكون له إمارة الحج مادام حيًا فخرج في تلك السنة أميرًا على الحج أعني سنة ست ومائتين وألف وكذلك سنة سبع ونهب الحج في تلك السنة وفر المترجم الى غزة فصودرت زوجاته واقتسمت أقطاعه ورجع بعد حين الى مصر وأهمل أمره وأقام بطالًا واستمر كآحاد الطائفة من الأجناد ويغدو ويروح إليهم ويرجو رفدهم الى أن حدثت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج الى الشام ولم يزل هناك حتى مات بالطاعون في السنة المذكورة وكان دائمًا يقول عند تذكره الدولة والنعيم ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏

ومات الأمير عثمان بك المعروف بالشرقاوي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب أيضًا الكبار وتأمر في أيامه وعرف بالشرقاوي لكونه تولى الشرقية ووقع منه ظلم وجبروت بعد موت أستاذه وصادر كثيرًا من الناس في أموالهم ثم انكف عن ذلك وزعم أن ذلك كان بإغراء مقدمه فشهره وقتله ولم يزل في إمارته حتى مات في الشام بالطاعون‏.‏

ومات أيوب بك الكبير وهو أيضًا من مماليك محمد بك وكان من خيارهم يغلب عليه حب الخير والسكون ويدفع الحق لأربابه وتأمر على الحج وشكرت سيرته واقتنى كتبًا نيسة واستكتب الكثير من المصاحف والكتب بالخطوط المنسوبة وكان لين الجانب مهذب النفس يحب أهل الفضائل ذا ثروة وعزوة وعفة لا يعرف إلا الجد ويجتنب الهزل ويلوم ويعترض على خشداشينه في أفعالهم ولا يعجبه سلوكهم ولا يهمل حقًا توجه عليه وإذا ساوم شيئًا وقال له البائع هذا بعشرة يقول له بل هو بخمسة مثلًا وهذا ثمنها حالًا وقد يكون ذلك رأس مالها أو بزيادة قليلة ويرضي البائع بذلك ويقبض الثمن في المجلس وهكذا كان شأنه وطريقته‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك وهو أيضًا من مماليك محمد بك تولى الصعيد وإمارة الحج عدة مرار وكان فظًا غليظًا متمولًا بخيلًا شحيحًا في إمارته على الحج ترك زيارة المدينة لخوفه من العرب وشحه بعوائدهم وقلة اعتنائه بشعائر الدين وانتقد ذلك على المصريين من الدولة وغيرها وكان ذلك من أعظم ما اجترحه من القبائح‏.‏

ومات الأمير سليمان بك المعروف بالآغا توفي بأسيوط بالطاعون وهو أيضًا من مماليك محمد بك الكبير وهو أخو ابراهيم بك المعروف بالوالي صهر ابراهيم بك الكبير وهو الذي مات غريقًا في وقعة الفرنسيس الأولى بإنبابة مدبرًا فارًا فسقط في البحر وغرق وكان هو وأخوه المترجم قبل تقلدهما الصنجقية أحدهما والي الشرطة والآخر أغات مستحفظان فلم يزالا يلقبان بذلك حتى ماتا وكان المترجم محبًا لجمع المال وله أقطاع واسعة خصوصًا بجهة قبلي وفي آخر أمره استوطن أسيوط لأنها كانت في أقطاعه وبنى بها قصرًا عظيمًا وأنشأ بعض بساتين وسواقي واقتنى أبقارًا وأغنامًا كثيرة ومما اتفق له أنه جز صوف الأغنام وكانت أكثر من عشرة آلاف ثم وزعه على الفلاحين وسخرهم في غزله بعد أن وزنه عليهم ثم وزعه على القزازين فنسجوه أكسية ثم جمع التجار وباعه عليهم بزيادة عن السعر الحاضر فبلغ ذلك مبلغًا عظيمًا‏.‏

ومات الأمير قائد آغا وهو من مماليك محمد بك أيضًا وكان يلقب أيام كشوفيته بقائد نار لظلمه وتجبره وولي أغات مستحفظان في سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فأخاف العامة وكان يتنكر ويتزيا بأشكال مختلفة ويتجسس على الناس وذلك أيام خروج ابراهيم بك الى قبلي ووحشته من مراد بك وانفراد مراد بك بإمارة مصر فلما تصالحا ورجع ابراهيم بك رد الأغاوية لعلي بك فحنق المترجم لذلك وقلق قلقًا عظيمًا وترامى على الأمراء وصار يقول إن لم يردوا لي منصبي قتلت علي آغا أو قتلت نفسي فلما حصل منه ذلك عزلوا علي آغا وقلدوا سليم آغا أمين البحرين أغاوية مستحفظان ولم يبلغ غرضه ولم ترض نفسه بالخمول وأكثر عنده من الأعوان والأتباع فيحضرون بين يديه الشكاوى والدعاوى ويضرب الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم ويركب وبين يديه العدة الوافرة من القواسة والخدم يحملون بين يديه الحراب والقرابين والبنادق وخلفه الكثير من الأجناد والمماليك واتخذ له جلساء وندماء يباسطونه ويضاحكونه ولم يزل كذلك حتى خرج مع عشيرته الى الصعيد عند حضور حسن باشا فاستولى على كثير من حصص الأقطاع فلما رجعوا في أواخر سنة خمس بعد المائتين سكن دار جوهر آغا دار السعادة سابقًا بالخرنقش وقد كان مات في الطاعون وتزوج سريته قهرًا واستكثر من المماليك والجند وتاقت نفسه للإمارة وتشوف الى الصنجقية وسخط على زملائه والأمراء الذين لم يلبوا دعوته ولم يبلغوه أمنيته وصارت جلساؤه وندماؤه لا يخاطبونه إلا بالإمارة ويقولون له يا بك ويكره من يخاطبه بدون ذلك وكان له من الأولاد الذكور اثنا عشر ولدًا لصلبه يركبون الخيول ماتوا في حياته وكان له أخ من أقبح خلق الله في الظلم اتخذ له أعوانًا وأتباعًا وليس عنده ما يكفيهم فكان يخطف كل ما مر بخطته بباب الشعرية من قمح وتين وشعير وغير ذلك ولا يدفع له ثمنًا هلك قبله بنحو ست سنين بناحية قبلي وأتوا بجيفته الى مصر مقرفصًا ودفن بمدفن أخيه بتربة المجاورين ومن جملة أفاعيله القبيحة أنه كان يجرد سيفه ويضرب رقاب الحمير ويزعم أنه يقطعها في ضربة واحدة ولم يزل المترجم أخوه على حالته حتى خرج من مصر عند مجيء الفرنسيس وعاد بصحبة عرضي العثملي ومات قاسم بك مع من مات من الأمراء والصناجق بالشام فقلده الوزير الصنجقية فيمن تقلد وأدرك أمنيته فأقام قليلًا وهلك فيمن هلك بالطاعون فكان كما قال القائل فكان كالمتمني أن يرى فلقًا من الصباح فلما آن رآه عمي‏.‏

ومات أيضًا حسن كاشف المعروف بجركس وهو أيضًا من مماليك محمد بك وإشراق عثمان بك الشرقاوي وكان من الفراعنة وهو الذي عمر الدار العظيمة بالناصرية وصرف عليها أموالًا عظيمة فما هو إلا أن تمم بناءها ولم يكمل بياضها حتى وصلت الفرنسيس فسكنها الفلكيون والمدبرون وأهل الحكمة والمهندسون فلذلك صينت من الخراب كما وقع بغيرها من الدور لكون عسكرهم لم يسكنوا بها وتقلد المذكور الصنجقية بالشام أيضًا ثم هلك بالطاعون‏.‏

ومات الأمير حسن كتخدا المعروف بالجربان بالشام أيضًا وأصله من مماليك حسن بك الأزبكاوي وكان ممتهنًا في المماليك فسموه بالجربان لذلك فلما قتل أستاذه بقي هو لا يملك شيئًا فجلس بحانوت جهة الأزبكية يبيع فيها تنباكًا وصابونًا ثم سافر الى المنصورة فأقام بها مدة تحت قصر محمود جربجي ثم رجع الى مصر في أيام دولة علي بك وتنقلت به الأحوال فأنعم عليه علي بك بآمرية بناحية قبلي فلما حصلت الوحشة بين علي بك ومحمد بك وخرج محمد بك من مصر الى قبلي خرج إليه المترجم ولاقاه وقدم بين يديه ما كان عنده من الخيام واليرق والخيول وانضم إليه ولم يزل حتى تملك محمد بك واستوزر اسمعيل آغا الجلفي وكان يبغض المترجم لأمور بينهما فلم يزل حتى أوغر عليه صدر مخدومه وأدى به الحال الى الإقصاء والبعد الى أن انضم الي مراد بك وتقرب منه وكان مفوهًا لينًا مشاركًا قد حنكته الأيام والتجارب فجعله كتخداه ووزيره واشتهر ذكره وعمر دارًا بناحية باب اللوق بالقرب من غيظ الطواشي وصار من الأعيان المعدودين وقصدته أرباب الحاجات واحتجب في غالب الأوقات واتحد به محمد آغا البارودي فقربه من مراد بك وبلغ الى ما بلغ معه وكان يعتري المترجم مرض شبيه بالصرع فينقطع به أيامًا عن السعي والركوب ولم يزل حتى مات مع من مات بالشام‏.‏

ومات الأمير قاسم بك المعروف بالموسقو وكان من مماليك ابراهيم بك وكان لين الجانب قليل الأذى إلا أنه كان شيخًا لا يدفع حقًا توجه عليه ولما مات خشداشه حسن بك الطحطاوي تزوج بزوجته وشرع في بناء السبيل المجاور لبيته بحارة قوصون بالقرب من الداودية فما قرب إتمامه إلا وقد قدمت الفرنسيس لمصر فخربوه وشعثوا بنيانه وخرقوا حيطانه وأخذوا عواميده وبقي على حالته مثل ما فعلوه بدور تلك الخطة وغيرها ومات أيضًا المترجم بالشام‏.‏

ومات علي آغا كتخدا الجاويشية وهو من مماليك الدمياطي ونسب الى محمد بك وأخيه ابراهيم بك ورقاه واختص به ووالاه أغات مستحفظان في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف فلم يزل الى سنة ثمان وتسعين فخرج مع ابراهيم بك الى المنية عندما تغاضب مع مراد بك فلما تصالحها قلد الأغاوية كما كان فحنق قائد آغا وكان ما كان من عزله وولاية سليم آغا كما سبق الإلماع بذلك عند ذكر قائد آغا ثم تقلد كتخدا الجاويشيه في سنة ست ومائتين وألف ولم يزل متقلدًا ذلك حتى خرج مع من خرج في حادثة الفرنسيس وكان ذا مال وثروة مع مزيد شح وبخل واشترى دار عبد الرحمن كتخدا القازدغلي العظيمة التي بحارة عابدين وسكنها وليس له من المآثر إلا السبيل والكتاب الذي أنشأه بجوار داره الأخرى بدرب الحجر وهو من أحسن المباني وقد حماه الله من تخريب الفرنسيس وهو باق الى يومنا هذا ببهجته ورونقه‏.‏

ومات الأمير يحيى كاشف الكبير وهو من مماليك ابراهيم بك الأقدمين وكان لطيف الطباع حسن الأوضاع وعنده ذوق وتودد عطارديًا يحسب الرسومات والنقوش والتصاوير والأشكال ودقائق الصناعات والكتب المشتملة على ذلك مثل كليلة ودمنة والنوادر والأمثال واهتم في بناء السبيل المجاور لداره بخطة عابدين فرسم شكله قبل الشروع فيه في قرطاس بمعونة الأسطا حسن الخياط ثم سافر الى الاسكندرية وأحضر ما يحتاجه من الرخام والأعمدة المرمر الكبيرة والصغيرة وأنواع الأخشاب وحفر أساسه وأحكم وضعه واستدعى الصناع والمرخمين فتأنقوا في صناعته ونقش رخامه على الرسم الذي رسمه لهم كل ذلك بالحفر بالآلات في الرخام وموهوه بالذهب فما هو إلا أن ارتفع بنيانه وتشيدت أركانه وظهر للعيان حسن قالبه وكاد يتم ما قصده من حسن مآربه حتى وقعت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج قبل إتمامه وبقي على حالته الى الآن ولما خرج سكن داره برطلمين واستخرج مخبأة بين داره والسبيل فيها ذخائره ومتاعه فأوصلها للفرنسيس‏.‏

ومات الأمير رشوان كاشف وهو من مماليك مراد بك وكان له أقطاع بالفيوم فكان معظم إقامته بها فاحتكر الورد وما يخرج من مائه والخل المتخذ من العنب والخيش واتجر في هذه البضائع بمراده واختياره وتحكم في الإقليم تحكم الملاك في أملاكهم وعبيدهم وذلك قوة واقتدار‏.‏

ومات الأمير سليم كاشف بأسيوط مطعونًا وهو من مماليك عثمان بك المعروف بالجرجاوي من البيوت القديمة وخشداش عبد الرحمن بك عثمان المتوفى في سنة خمس ومائتين وألف بالطاعون الذي مات به اسمعيل بك وخلافه وتزوج ابنته بعد موته وكان ملتزمًا بحصة من أسيوط وشرق الناصري واستوطن بأسيوط وبنى بها دارًا عظيمة وعدة دور صغار وأنشأ بها عدة بساتين وغرس بها وبشرق الناصري أشجارًا كثيرة وعمر عدة قناطر وحفر ترعًا وصنع جسورًا وأسبلة في مفاوز الطرق وأنشأ دارًا بمصر بالمناخلية بسوق الأنماطيين واشترى دارًا جليلة كانت لسليمان بك المعروف بأبي نبوت بحارة عابدين وعمرها وزخرفها وأنشأ بأسيوط جامعًا عظيمًا ومكتبًا فما هو إلا أن أكمل بنيانه حتى قدمت الفرنسيس فاتخذوه سجنًا يسجنون به ثم لما قابل المذكور الفرنسيس وأمنوه أخذ في إصلاح ما تشعث من البناء وتقيم العمارة ولم يساعده الوقت إذ ذاك لقلة الأخشاب وآلات البناء فاشتغل بذلك على قدر طاقته فلما فرغ البناء وقارب التمام ولم يبق إلا اليسير وقع الطاعون بأسيوط فمات والمسجد باق على ما هو عليه الآن وهو من المباني العظيمة المزخرفة على هيئة مساجد مصر وكان المذكور ذا بأس وشدة وإقدام وشجاعة وتهور مشابه لحسن بك الجداوي في هذه الفعال وموائده مبسوطة وطعامه مبذول وداره بأسيوط مقصدًا للوارد والقاصد والصادر من الأمراء وغيرهم وله إغداقات وصدقات وأنواع من البر ومحبة في العمارة وغراس الأشجار واقتناء الأنعام وكان متزوجًا بثلاث زوجات إحداهن ابنة سيده عثمان بك توفيت بعصمته والثانية ابنة خشداشه عبد الرحمن المذكور آنفًا والثالثة زوجة علي كاشف المعروف بجمال الدين وكان ذا بأس وله صولة وظلم وتجاوزو على سفك الدماء فبذلك خافته عرب الناحية وأهل القرى وقاتل العرب مرارًا وقتل منهم الكثير وبسكناه بأسيوط كثرت عمارتها وأمنت طرقها برًا وبحرًا واستوطنها الكثير من الناس لحمايتها وعدم صولة أحد على أهلها وله مهاداة مع الأمراء المصرية وأرباب الحل والعقد بها والمتكلمين عندهم فيرسل إليهم الغلال والعبيد والجواري السود والطواشية وغير ذلك وله عدة مماليك بيض وسود أعتق كثيرًا من جملتهم عزيرتا الأمير أحمد كاشف المعروف بالشعراوي رقيق حواشي الطبع مهذب الأخلاق ذو فروسية في ركوب الخيل ومحبة في العلماء واللطفاء وهو من جملة محاسن سيده‏.‏

ومات كل من الأمير باكير بك والأمير محمد بك تابع حسين بك كشكش كلاهما بالشام ومات غير هؤلاء ممن لم تحضرني أسماؤهم‏.‏

وباستهلالها خف أمر الطاعون وفي ليلة الجمعة تلك أرسل عبد العال الآغا وأحضر الشيخ محمد الأمير ليلًا الى منزله فبيته عنده ولما أصبح النهار طلع به الى القلعة وحبسه عند المشايخ بجامع سارية والسبب في ذلك أن ولد الشيخ المذكور كان من جملة من يستحث الناس على قتال الفرنسيس في الواقعة السابقة بمصر فلما انقضت هرب الى جهة بحري ثم حضر بعد مدة الى مصر فأقام أيامًا ثم رجع الى قوة بإذن من الفرنسيس فلما حصلت هذه الحركة وتحذروا شدة التحذر وآخذوا الناس بأدنى شبهة وتقرب إليهم المنافقون بالتجسس والإغراء ذكر بعضهم ذلك لقائمقام وأدخل في مسامعه أن ابن الشيخ المذكور ذهب الى عرضي الوزير والتف عليهم فأرسل قائمقام الى الشيخ قبل تاريخه فلما حضر سأله عن ولده المذكور فأخبره أنه مقيم بفوة فقال له‏:‏ لم يكن هناك وإنما هو عند القادمين قال له‏:‏ لم يكن ذلك وإن شئتم إرسلت إليه بالحضور فقال له‏:‏ أرسل إليه وأحضره فقام من عنده على ذلك وأمهله ثمانية أيام مدة مسافة الذهاب والمجيء ثم خاطبه على لسان وكيل الديوان أيضًا فوعده بحضوره أو حضور الجواب بعد يومين واعتذر بعدم أمن الطريق فلما انقضى اليومان أمروا عبد العال بطلبه وإصعاده الى القلعة ففعل‏.‏

وفيه حضر جملة من عساكر الفرنساوية من جهة بحري وتواترت الأخبار بوصول القادمين من الانكليز والعثمانية الى الرحمانية وتملكهم القلعة ومابالقرب منها من الحصون الكائنة بالعطف وغيره وذلك يوم السبت خامس عشرين الحجة‏.‏

وفيه حضرت زوجة ساري عسكر كبير الفرنسيس بصحبة أخيها السيد علي الرشيدي أحد أعضاء الديوان وكان خرج بها من رشيد حين ما ملكها القادمون ونزل بها في مركب وأرسى بها قبالة الرحمانية فلما حصلت واقعة الرحمانية وأخذت قلعتها حضر بها الى مصر بعد مشقة وخوف من العربان وقطاع الطريق وغير ذلك فأقامت هي وأخوها ببيت الألفي بالأزبية نحو ثلاثة أيام ثم صعدا الى القلعة‏.‏

وفيه قربت العساكر القادمة من الجهة الشرقية وحضرت طوالعهم الى القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف فتأهب قائمقام بليار للقائهم وأمر العساكر بالخروج من أول الليل ثم خرج هو في آخر الليل فلما كان يوم الأحد رابعه رجع قائمقام ومن معه ووقع بينه وبينهم مناوشة فلم يثبت الفرنسيس لقلتهم ورجعوا مهزومين وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيئًا‏.‏

وفي خامسه رفعوا الطلب عن الناس بباقي نصف المليون وأظهروا الرفق بالناس والسرور بهم لعدم قيامهم عند خروجهم للحرب وخلوا البلدة منهم وكان يظنون منهم غير ذلك‏.‏

وفيه أخذت جملة من عدد الطواحين وأصعدت الى القلعة وأكثروا من نقل الماء والدقيق والأقوات إليها وكذلك البارود والكبريت والجلل والقنابر والبنب ونقلوا ما في الأسوار والبيوت من الأمتعة والفرش والأسرة وحملوه إليها ولم يبقوا بالقلاع الصغار إلا مهمات الحرب‏.‏

وفيه طلبوا الزياتين وألزموهم بمائتي قنطار شيرج وسمروا جملة من حوانيتهم وخرج جماعة من الجزارين لشراء الغنم من القرى القريبة فقبض عليهم عساكر العثمانية القادمة ومنعوهم من العود بالغنم والبقر وكذلك منعوا الفلاحين الذين يجلبون الميرة والأقوات الى المدينة‏.‏

فانقطع الوارد من الجهات البحرية والقليوبية وعزت الأقوات وشح اللحم والسمن جدًا وأغلقت حوانيت الجزارين واجتهد الفرنساوية في وضع متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية وحفروا خنادق وطلبوا الفعلة للعمل فكانوا يقبضون على كل من وجدوه ويسوقونهم للعمل وكذلك فعلوا بجهة القرافة وألقوا الأحجار العظيمة والمراكب ببحر انبابة لتمنع المراكب من العبور وابتدأوا المتاريس البحرية من باب الحديد ممدودة الى قنطرة الليمون الى قصر إفرنج أحمد إلى السبتية إلى مجرى البحر‏.

وفي ثامنه بعث قائمقام بليار فأحضر التجار وعظماء الناس وسألهم عن سبب غلق الحوانيت فقالوا له من وقف الحال والكساد والجلاء والموت فقال لهم‏:‏ من كان موجودًا حاضرًا فألزموه بفتح حانوته وإلا فأخبروني عنه ونزلت الحكام فنادت بفتح الحوانيت والبيع والشراء‏.‏

وفي عاشره شرعوا في هدم جانب من الجيزة من الجهة البحرية وقربت عساكر الانكليز القادمة من البر الغربي الى البلد المسماة بنادر عند رأس ترعة الفرعونية‏.‏

وفيه تواترت الأخبار بأن العساكر الشرقية وصلت أوائلها الى بنها وطحلا بساحل النيل وأن طائفة من الانكليز رجعوا الى جهة اسكندرية وأن الحرب قائم بها وأن الفرنساوية محصورون بداخل الاسنكدرية والانكليز ومن معهم من العساكر يحاربون من خارج وهي في غاية المنعة والتحصين وأن الانكليز بعد قدومهم وطلوعهم الى البر ومحاربتهم لهم المرات السابقة أطلقوا الحبوس عن المياه السائلة من البحر المالح منه الى الجسر المقطوع حتى سالت المياه وعمت الأراضي المحيطة بالاسكندرية وأغرقت أطيانًا كثيرة وبلادًا ومزارع وأنهم قعدوا في الأماكن التي يمكن الفرنسيس النفوذ منها بحيث أنهم قطعوا عليهم الطرق من كل ناحية‏.‏وفي

ثاني عشرة نزلت امرأة من القلعة بمتاعها واختفت بمصر

فأحضر الفرنسيس حكام الشرطة وألزموهم بإحضارها وهذه المرأة اسمها هوى كانت زوجة لبعض الأمراء الكشاف‏.‏

ثم أنها خرجت عن طورها وتزوجت نقولا وأقامت معه مدة فلما حدثت هذه الحوادثت جمعت ثيابها واحتالت حتى نزلت من القلعة وهي على حمار ومتاعها محمول على حمار آخر فنزلت عند بعض العطف وأعطت المكارية الأجرة وصرفتهم من خارج واختفت فلما وقع عليها التفتيش وأحضروا المكارية قالوا‏:‏ لا نعلم غير المكان الذي أنزلناها به وأعطتنا الأجرة عنده‏.‏

فشددوا على المكارية ومنعوهم من السروح وقبضوا على أهل الحارة وحبسوهم ثم أحضروا مشايخ الحارات وشددوا عليهم وعلى سكان الدور وأعلموهم أنه إن وجدت المرأة في حارة من الحارات ولم يخبروا عنها نهبوا جميع دور الحارة وعاقبوا سكانها فحصل للناس غاية الضجر والقلق بسبب اختفائها وتفتيش أصحاب الشرطة وخصوصًا عبد العال فإنه كان يتنكر ويلبس زي النساء ويدخل البيوت بحجة التفتيش عليها فيزعج أرباب البيوت والنساء ويأخذ منهن مصالح ومصاغًا ويفعل ما لا خير فيه ولا يخشى خالقًا ولا مخلوقًا‏.‏

وفي خامس عشره قبضوا على ألطون أبي طاقية النصراني القبطي وحبسوه بالقلعة وألزموه بمبلغ دراهم تأخرت عليه من حساب البلاد‏.‏

وفي سادس عشره أفرجوا عن محمد أفندي يوسف ونزل الى بيته وكذلك الشيخ مصطفى الصاوي لمرضه‏.‏

وفيه انقضت دعوة تهمة الشيخ خليل البكري ومحصلها أن خادم مملوكه ذهب عن لسان المملوك الى بليار قائمقام وأخبره أنه وصل الى أستاذه الشيخ خليل البكري المذكور فرمان من عرضي الوزير بالأمان وكان هذا بإغراء عبد العال ليوقعه في الوبال ويحرك عليه الفرنسيس لحزازة بينه وبينه فلما حضر الشيخ خليل على عادته عند قائمقام سأله عن ذلك‏.‏

فجحده فأحضروا الخادم الذي بلغ ذلك فصدق على ذلك وأسند الى المملوك سيده فأحضروا المملوك وسألوه فقال نعم فقالوا له وأين الفرمان فقال قرأه وقطعه فقال الفرنساوية وكيف يقطعه هذا دليل الكذب لأنه لا يصح أن يتلقاه بالقبول ثم يقطعه فقيل له ومن أتى به قال فلان فألزموا الشيخ بإحضار ذلك الرجل وحبس المملوك عند عبد العال يومين وحضر الرجل فسألوه فجحد ولم يثبت عليه وظهر كذب الغلام والخادم فعند ذلك طلب الشيخ غلامه فقال قائمقام إن قصاصه في شريعتنا أن يقطع لسانه فتشفع فيه سيده وأخذه بعد أمور وكلام قبيح قاله الغلام في حق سيده‏.‏

وفيه حضر حسين كاشف اليهودي الى قائمقام وأخبره أن الأمراء الذين بالصعيد خرجوا عن طاعة الفرنساوية وردوا مكاتبتهم التي أرسلوها لهم بعد موت مراد بك وأنهم مروا وتوجهوا الى بحري من البر الغربي وعثمان بك الأشقر ذهب من خلف الجبل الى جهة الشرق فلما حصل ذلك ركب قائمقام وذهب للست نفيسة وأمنها وطيب خاطرها وأخبرها أنها في أمان هي وجميع نساء الأمراء والكشاف والأجناد ولا مؤاخذة عليهن بما فعله رجالهن‏.‏

وفي عشرينه توكل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل متاريس فتعدى على بعض الأعيان وأنزلهم من على دوابهم وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه فتشكى الناس من ذلك القبطي وأنهوا شكواهم الى بليار قائمقام فأمر بالقبض على ذلك القبطي وحبسه بالقلعة ثم فردوا على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة‏.‏

وفيه وردت الأخبار بأن الوزير وصل دجوة‏.‏

وفي يوم الاثنين سمع عدة مدافع على بعد وقت الضحوة‏.‏

وفي ذلك اليوم قبل العصر طلبوا مشايخ الديوان فاجتمعوا بالديوان وحضر الوكيل والترجمان وطلبهم للحضور الى قائمقام فلما حصلوا عنده قال لهم على لسان الترجمان نخبركم أن الخصم قد قرب منا ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية وأن تنصحوا أهل البلد والرعية بأن يكونوا مستمرين على سكونهم وهدوهم ولا يتداخلوا في الشر والشغب فإن الرعية بمنزلة الولد وأنتم بمنزلة الوالد والواجب على الوالد نصح ولده وتأديبه وتدريبه على الطريق المستقيم التي يكون فيها الخير والصلاح فإنهم إن داموا على الهدوء حصل لهم الخير ونجوا من كل شر وإن حصل منهم خلاف ذلك نزلت عليهم النار وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم ومتاعهم ويتمت أولادهم وسبيت نساؤهم وألزموا بالأموال والفرد التي لا طاقة لهم بها فقد رأيتم ما حصل في الوقائع السابقة فاحذروا من ذلك فإنهم لا يدرون العاقبة ولا نكلفكم المساعدة لنا ولا المعاونة لحرب عدونا وإنما نطلب منكم السكون والهدوء لا غير فأجابوه بالسمع والطاعة وقولهم كذلك وقرئ عليهم ورقة بمعنى ذلك وأمروا الآغا وأصحاب الشرطة بالمناداة على الناس بذلك وأنهم ربما سمعوا ضرب مدافع جهة الجيزة فلا ينزعجوا من ذلك فإنه شنك وعيد لبعض أكابرهم وأن يجتمع من الغد بالديوان الأعيان والتجار وكبار الأخطاط ومشايخ الحارات ويتلى عليهم ذلك فلما كان ضحوة يوم الثلاثاء اجتمعوا كما ذكر وحصلت الوصية والتحذير وانتهى المجلس وذهبوا الى محلاتهم‏.‏

وفي ذلك اليوم أشيع حضور الوزير الى شلقان وكذلك عساكر الانكليز بالناحية الغربية وصلوا الى أول الوراريق‏.‏

وفي يوم الجمعة غايته اجتمع المشايخ والوكيل بالديوان على العدة وحضر استوف الخازندار وترجم عنه رفاييل بقوله إنه يثني على كل من القاضي والشيخ اسمعيل الزرقاني باعتنائهما فيما يتعلق بأمر المواريث وبيت المال والمصالح على التركات المختومة لأن الفرنساوية لم يبق لهم من الإيراد إلا ما يتحصل من ذلك والقصد الاعتناء أيضًا بأمر البلاد والحصص التي انحلت بموت أربابها فلازم أيضًا من المصالحة والحلوان والمهلة في ذلك ثمانية أيام فمن لم يصالح على الالتزام الذي له فيه شبهة في تلك المدة ضبطت حصته ولا يقبل له عذر بعد ذلك واعلموا أن أرض مصر استقر ملكها للفرنساوية فلازم من اعتقادكم ذلك وأركزوه في أذهانكم كما تعتقدون وحدانية الله تعالى ولا يغرنكم هؤلاء القادمون وقربهم فإنه لا يخرج من أيديهم شيء أبدًا وهؤلاء الانكليز ناس خوارج حرامية وصناعتهم إلقاء العداوة والفتن والعثملي مغتر بهم فإن الفرنساوية كانت من الأحباب الخلص للعثملي فلم يزالوا حتى أوقعوا بينه وبينهم العداوة والشرور وأن بلادهم ضيقة وجزيرتهم صغيرة ولو كان بينهم وبين الفرنساوية طريق مسلوك من البر لا تمحي أثرهم ونسي ذكرهم من زمان مديد وتأملوا في شأنهم وأي شيء خرج من أيديهم فإن لهم ثلاثة أشهر من حين طلوعهم الى البر والى الآن لم يصلوا إلينا والفرنسيس عند قدومهم وصلوا في ثمانية عشر يومًا فلو كان فيهم همة أو شجاعة لوصلوا مثل وصولنا وكلام كثير من هذا النمط في معنى ذلك من بحر الغفلة ثم ذكر البكري والسيد أحمد الزر وأنه حضر مكتوب من رشيد على يد رجل حناوي لآخر من منية كنانة يذكر فيه أنه حضر الى اسكندرية مراكب وعمارة من فرانسا وأن الانكليز رجعت إليهم وأن الحرب قائمة على ظهر البحر فقال الخازندار يمكن ذلك وليس ببعيد ثم نقلوا ذلك الى بليار قائمقام فطلب الرجل الراوي لذلك فأحضر الزر ورجلًا شرقاويًا حلف لهم أنه سمع ذلك بأذنه من الرجل الواصل الى منية كنانة من شهر صفر الخير سنة 1216 استهل بيوم السبت وفي ذلك اليوم قبل المغرب مشى عبد العال الآغا وشق في شوارع المدينة وبين يديه منادي يقول‏:‏ الأمن والأمان على جميع الرعايا وفي غد تضرب مدافع وشنك من الفلا في الساعة الرابعة فلا تخافوا ولا تنزعجوا فإنه حضرت بشارة بوصول بونابارته بعمارة عظيمة الى الاسكندرية وأن الانكليز رجعوا القهقرى فلما أصبح يوم الأحد في الساعة الرابعة من الشروق ضربت عدة مدافع وتابعوا ضربها من جميع القلاع وصعد أناس الى المنارات ونظروا بالنظارات فشاهدوا عساكر الانكليز بالجهة الغربية وصلوا الى آخر الورايق وأول انبابة ونصبوا خيامهم أسفل انبابة وعند وصولهم الى مضاربهم ضربوا عدة مدافع فلما سمعها الفرنساوية ضرب الآخرون تلك المدافع التي ذكروا أنها شنك وأما العساكر الشرقية فوصلت أوائلهم الى منية الأمراء المعروفة بمنية السيرج والمراكب فيما بينها من البرين بكثرة فعند ذلك عزت الأقوات وشبحت زيادة على قلتها وخصوصًا السمن والجبن والأشياء المجلوبة من الريف ولم يبق طرق مسلوكة الى المدينة إلا من جهة باب القرافة وما يجلب من جهة البساتين من القمح والتبن فيأتي ذلك الى عرصة الغلة بالرميلة ويزدحم عليه النساء والرجال بالمقاطف فيسمع لهم ضجة عظيمة وشح اللحم أيضًا وغلا سعره لقلة المواشي والأغنام فوصل سعر الرطل تسعة أنصاف والسمن خمسة وثلاثين نصفًا والبصل بأربعمائة فضة القنطار والرطل الصابون بثمانين فضة والسيرج عشرين نصفًا وأما الزيت فلا يوجد البتة وغلت الأبزاز جدًا واتفق الى قصة غريبة وهو أني احتجت الى بعض أنيسون فأرسلت خادمي الى الأبزارية على العادة يشتري لي منه بدرهم فلم يجده وقيل له إنه لا يوجد إلا عند فلان هو يبيع الأوقية بثلاثة عشر نصفًا ثم أتاني منه بأوقيتين بعد جهد في تحصيله فحسبت على ذلك سعر الأردب فوجدته يبلغ خمسمائة ريال أو قريبًا من ذلك فكان ذلك من النوادر الغريبة‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالثه حصلت الجمعية بالديوان وحضر التجار ومشايخ الحارات والآغا وحضر مكتوب من بليار قائمقام خطابًا بالأرباب الديوان والحاضرين يذكر فيه أن حضر إليه مكتوب من كبيرهم منوبًا بالإسكندرية صحبة هجانة فرنسيس وصلوا إليهم من طريق البرية‏.‏

مضمونه أنه طيب بخير والأقوات كثيرة عندهم يأتي بها العربان إليهم وبلغهم خبر وصول عمارة مراكب الفرنساوية الى بحر الخزر وأنها من قريب تصل الاسكندرية وأن العمارة حاربت بلاد الانكليز واستولت على شقة كبيرة منها فكونوا مطمئنين الخاطر من طرفنا ودوموا على هدوئكم وسكونكم الى آخر ما فيه من التمويهات وكل ذلك لسكون الناس وخوفًا من قيامهم في هذه الحالة وكان وصول هذا المكتوب بعد نيف وأربعين يومًا من انقطاع أخبر من في اسكندرية ولا أصل لذلك‏.‏

وفي ذلك اليوم قتل عبد العال رجلًا ذكروا أنه وجد معه مكتوب من بعض النساء مرسل الى بعض أزواجهن بالعرضي قتل ذلك الرجل بباب زويلة ونودي عليه‏:‏ هذا جزاء من ينقل الأخبار الى العثملي والانكليز‏.‏

وفيه وصلت العساكر الشرقية الى العادلية وامتد العرضي منها الى قبلي منية السيرج وكذلك الغربية الى انبابة ونصبوا خيامهم بالبرين والمراكب بينهم في النيل وضربوا عدة مدافع وخرج عدة من الفرنساوية خيالة فترامحوا معهم وأطلقوا بنادق ثم انفصلوا بعد حصة من الليل ورجع كل الى مأمنه واستمر هذا الحال على هذا المنوال يقع بينهم في كل يوم‏.‏

وفي سادسه زحفت العساكر الشرقية حتى قربوا من قبة النصر وسكن ابراهيم بك زاوية الشيخ دمرداش وحضر جماعة من العسكر وأشرفوا على الجزارين من حائط المذبح وطلبوا شيخ الجزارين ووجدوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس فضربوا عليهم بنادق فأصيب أحدهم في رجله فأخذوه وهرب الإثنان وأصيب جزار يهودي ووقع بين الفريقين مضاربة على بعد وقتل بعض قتلى وأسر بعض أسرى ولم يزل الضرب بينهم الى قريب العصر والفرنسيس يرمون من وفي سابعه وقعت مضاربة بين الفريقين ببنادق ومدافع من الصباح الى العصر أيضًا‏.‏

وفيه أشيع موت السيد أحمد لمحروقي بدجوة وكان مريضًا بها وامتنع الوارد من الجهة البحرية بالكلية‏.‏

وفيه قبضوا على رجل يشبه خدام ظنوه جاسوسًا فأحضروه عند قائمقام فسألوه فلم يقر بشيء فضربوه عدة مرار حتى ذهل عقله وصار كالمختل وكرروا عليه الضرب والعقاب وضربوه بالكرابيج على كفوفه ووجهه وراسه حتى قيل إنهم ضربوه نحو ستة آلاف كرباج وهو على حاله ثم أودعوه الحبس‏.‏

وفيه أطلقوا محبوسًا يقال الشيخ سليمان حمزة الكاتب وكان محبوسًا بالقلعة من مدة أشهر فطلق على مصلحة ألفي ريال‏.‏

وفي ثامنه وقعت مضاربة أيضًا بطول النهار ودخل نحو خمسة وعشرين نفرًا من عسكر العثمانية الى الحسينة وجلسوا على مساطب القهوة وأكلوا كعكًا وخبزًا وفولًا مصلوقًا وشربوا قهوة ثم انصرفوا الى مضربهم وأخذ الفرنساوية عسكريًا من أتباع محمد باشا والى غزة والقدس المعروف بأبي مرق فحبسوه ببيت قائمقام وأغلقوا في ذلك اليوم باب النصر وباب العدوي‏.‏

وفيه زحفت عساكر البر الغربي الى تحت الجيزة فحضر في صبحها بني وأخبر قائمقام فركب من ساعته وعدى الى بر الجيزة فسمع الضرب أيضًا من ناحية الجيزة وسمعت طبول الأمراء ونقاقيرهم واستمر الأمر الى يوم الثلاثاء حادي عشره فبطل الضرب في وقت الزوال ولما حصلوا جهة الجيزة انتشروا الى قبلي منها ومنعوا المعادي من تعدية البر الشرقي فانقطع الجالب من الناحية القبلية أيضًا فامتنع وصول الغلال والأقوات والبطيخ والعجور والخضراوات والخيار والسمن والجبن والمواشي فعزت الأقوات وغلت الأسعار في الأشياء الموجودة منها جدًا واجتمع الناس بعرصة الغلة بالرميلة يريدون شراء الغلة فلم يجدوها فكثر ضجيجهم وخرج الأكثر منهم بمقاطفهم الى جهة البساتين ورجع الباقون من غير شيء فأحضر عبد العال القبانية وألزمهم بإحضار السمن وضرب البعض منهم فأحضروا له في يومين أربعة عشر رطلًا بعد الجهد في تحصيلها وبيعت الدجاجة بأربعين نصفًا وامتنع وجود اللحم من الأسواق واستمر الأمر على ذلك الأربعاء والخميس والمضاربة بين الفريقين ساكنة وأشيع وقوع المسالمة والمراسلة بينهما والمتوسط في ذلك الانكليز وحسين قبطان باشا فانسر الناس وسكن جأشهم لسكون الحرب‏.‏

وفي ذلك اليوم أغلقوا باب القرافة وباب المجراة ولم يعلم سبب ذلك ثم فتحوهما عند الصباح من يوم الجمعة ورفعوا عشور الغلة‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع عشره أطلقوا المحبوسين بالقلعة من أسرى العثمانية وأعطوا كل شخص مقطع قماش وخمسة عشر قرشًا وأرسلوهم الى عرضي الوزير وكان بلغ بهم الجهد من الخدمة والفعالة وشيل التراب والأحجار وضيق الحبس والجوع ومات الكثير منهم وكذلك أفرجوا عن جملة من العربات والفلاحين‏.‏

وفي ليلة الاثنين المذكور سمع صوت مدفع بعد الغروب عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينية ثم سمع منها أذان العشاء والفجر فلما أضاء النهار نظر الناس فإذا البيرق العثماني بأعلاها والمسلمون على أسوارها فعلموا بتسليمها وكان ذلك المدفع إشارة الى ذلك ففرح الناس وتحققوا أمر المسالمة وأشيع الإفراج عن الرهائن من المشايخ وغيرهم وباقي المحبوسين في الصباح وأكثر الفرنساوية من النقل والبيع في أمتعتهم وخيولهم ونحاسهم وجواريهم وعبيدهم وقضاء أشغالهم‏.‏

وفي ذلك اليوم أنزلوا عدة مدافع من القلعة وكذلك من قلعة باب البرقية وأمتعة وفرش وبارود وفي يوم الثلاثاء عمل الديوان وحضر الوكيل وأعلن بوقوع الصلح والمسالمة ووعد أن في الجلسة الآتية يأتي إليهم فرمان الصلح وما اشتمل عليه من الشروط ويسمعونه جهارًا‏.‏

وفي ذلك اليوم أكثر اهتمام الفرنساوية بنقل الأمتعة من القلعة الكبيرة وباقي القلاع بقوة السعي‏.‏

وفيه أفرجوا عن محمد جلبي أبي دفية واسمعيل القلق ومحمد شيخ الحارة بباب اللوق والبرنوسي وفيه سافر عثمان بك البرديسي الى الصعيد وعلى يده فرمانات للبلاد بالأمن والأمان وسوق المراكب بالغلال والأقوات الى مصر ويلاقي ستة آلاف من عسكر الانكليز حضروا من القلزم الى القصير‏.‏

وفيه شنق الفرنساوية شخصًا منهم على شجرة ببركة الأزبكية قيل إنه سرق‏.‏

وفيه أرسل الفرنساوية الى الوزير وطلبوا منه جمالًا ينقلون عليها متاعهم فأمر لهم بإرسال مائتي جمل وقيل أربعمائة مساعدة لهم وفيها من جمال طاهر باشا وابراهيم بك‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه أفرجوا عن بقية المسجونين والمشايخ وهم الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والشيخ محمد المهدي وحسن آغا المحتسب ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم فنزلوا الى بيت قائمقام وقابلوه وشكروه فقال للمشايخ إن شئتم اذهبوا فسلموا على الوزير فإني كلمته ووصيته عليكم‏.‏

وفيه حضر الوزير ومن معه من العساكر الى ناحية شبرا وكذلك الانكليز وصحبتهم قبطان باشا الى الجهة الغربية والعساكر تجاههم ونصبوا الجسر فيما بينهم أعلى البحر وهو من مراكب مرصوصة مثل جسر الجيزة بل يزيد عنه في الإتقان بكونه من ألواح في غاية الثخن وله درابزين من الجهتين أيضًا وهو عمل الانكليز‏.‏

وفيه ألصقوا أوراقًا بالطرق مكتوبة بالعربي والفرنساوي وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة ونصها‏:‏ ثم أنه أراد الله تعالى بالصلح ما بين عسكر الفرنساوية وعساكر الانكليز وعساكر العثمانية ولكن مع هذا الصلح أنفسكم وأديانكم ومتاعكم ما أحد يقارشكم ورؤوس عساكر الثلاثة جيوش قد اشترطوا بهذا كما ترونه الشرط الثاني عشر‏:‏ كل واحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت الذي يريد أن يسافر مع الفرنساوية يكون مطلق الإرادة وبعد سفره كامل ما يبقى عياله ومصالحه ما أحد يعارضهم الشرط الثالث عشر‏:‏ لا أحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت يكون قلقًا من قبل نفسه ولا من قبل متاعه‏.‏

جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنساوي بمدة إقامة الجمهور بمصر ولكن الواجب أن يطيعوا الشريعة ثم يا أهالي مصر وأقاليمها جميع الملل أنتم ناظرون لحد آخر درجة الجمهور الفرنساوي ناظر لكم ولراحتكم فيلزم أنتم أيضًا تسلكون في الطريق المستقيمة وتفتكرون أن الله جل جلاله هو الذي يفعل كل شيء وعليه إمضاء بليار قائمقامز وفي يوم الجمعة عملوا الديوان وحضر المشايخ والوكيل فقال الوكيل هل بلغكم بقية الشروط الثلاثة عشر فقالوا لا فأبرز ورقة من كمه بالقلم الفرنساوي فشرع يقرؤها والترجمان يفسرها وهي تتضمن الأحد عشر شرطًا الباقية فقال إن الجيش الفرنساوي يلزم أن يخلوا القلاع ومصر ويتوجهوا على البر بمتاعهم الى رشيد وينزلوا في مراكب ويتوجهوا الى بلادهم وهذا الرحيل ينبغي أن يسرع به وأقل ما يكون في خمسين يومًا وأن يساق الجيش من طريق مختصر وسر عسكر الانكليز والمساعد يلزم أن يقوما لهم بجميع ما يحتاجونه من نفقة ومؤونة وجمال ومراكب والمحل الذي يبدأ منه السعي يكون بالتراضي بين الجمهور والانكليز والمساعد وكامل الأمتعة والأثقال تتوجه من البحر ومعهم جيش من الفرنساوي لأجل الحراسة ولابد من كون المؤونة التي تترتب لهم كالمؤونة التي كانوا يعطونها هم لجيش الانكليز ورؤسائهم وعلى رؤساء عساكر الانكليز وحضرة العثملي القيام بنفقة الجميع‏.‏

والحكام المتقيدون بذلك يحضرون لهم المراكب ليسفروهم الى فرانسا من جهة البحر المحيط‏.‏

ولن يقدم كل من حضرة العثملي والانكليز أربعة مراكب للعليق والعلف للخيل التي يأخذونها في المراكب وأن يسيروا معهم مراكب للمحافظة عليهم الى أن يصلوا الى فرانسا وأن الفرنساوية لا يدخلون مينة إلا مينة فرانسا والأمناء والوكلاء يقدمون لهم ما يحتاجون إليه نظرًا لكفاية عساكرهم والمدبرون والأمناء والوكلاء والمهندسون الفرنساوية يستصحبون معهم ما يحتاجونه من أوراقهم وكتبهم ولو التي شروها من مصر وكل من أهل الإقليم المصري إذا أراد التوجه معهم فهو مطلق السراح مع الأمن على متاعه وعياله وكذلك من داخل الفرنساوية من أي ملة كانت فلا معارضة له إلا أن يجري على أحواله السابقة‏.‏

ويجرحى الفرنساوية يتخلفون بمصر ويعالجهم الحكماء وينفق عليهم حضرة العثلمي وإذا عوفوا توجهوا الى فرانسا بالشروط المتقدم ذكرها وحكام العثملي يتعهدون من بمصر منهم ولابد من حاكمين من طرف الجيشين يتوجهان بمركبين الى طولون فيرسلون خبرًا الى فرانسا ليطلعوا حكامها على الصلح وسائر الرسوم وكل جدال وخصام صدر بين شخصين من الفرنساوية فلابد أن يقام شخصان حاكمان من الطائفتين ليتكلما في الصلح ولا يقع في ذلك نقض عهد الصلح وعلى كل طائفة معين من العثملي والفرنساوي أن تسلم ما عندها من الأسرى ولابد من رهائن من كل طائفة واحد يكون عند الطائفة الأخرى حتى يتوصلوا الى فرانسا ثم قال الوكيل‏:‏ وقد علمنا بالشروط وما ندري ماذا يكون فقيل له هذه شروط عليها علامة القبول وهذا الصلح رحمة للجميع وسيكون الصلح العام قال الوكيل إني أرجو أن يكون هذا الصلح الخصوصي مبدأ للصلح العمومي‏.‏

وفيه كثر خروج الناس ودخولهم من الأتباع والباعة والمتنكرين من نقب البرقية المعروف بالغريب فصار الحرسجية من الفرنساوية يأخذون من الداخل والخارج دراهم ولا يمنعونهم‏.‏

فلما علم الناس بذلك كثر ازدحامهم فلما أصبحوا منعوهم فدخلوا وخرجوا من باب القرافة فلم يمنعهم الواقفون به من الفرنسيس بل كانوا يفتشون البعض ويمنعون البعض وكل ذلك حذرًا من أفعال الطموش وسوء أخلاقهم وتولد الشر بسببهم وقد دخل بعضهم أكابر الانكليز وصحبتهم فرنساوية يفرجونهم على البلدة والأسواق وكذلك دخل بعض أكابر العثمانية فزاروا قبر الإمام الشافعي والمشهد الحسيني والشيخ عبد الوهاب الشعراوي والفرنساوية ينتظرونهم بالباب‏.‏

وفي ليلة الاثنين رابع عشرينه نادوا في الأسواق برمي مدافع في صبحه وذلك لنقل رمة كلهبر فلا يرتاع الناس من ذلك فلما كان في صبح ذلك اليوم أطلقوا مدافع كثيرة ساعة نبش القبر بالقرب من قصر العيني وأخرجوا الصندوق الرصاص الموضوع فيه رمته ليأخذوه معهم الى بلادهم‏.‏

وفيه أرسلوا أوراقًا ورسلًا للاجتماع بالديوان وهو آخر الدواوين فاجتمع المشايخ والتجار وبعض الوجاقلية واستوف الخازندار والوكيل والترجمان فلما استقر بم الجلوس أخرج الوكيل كتابًا مختومًا وأخبر أن ذلك الكتاب من ساري عسكر منو بعث به الى مشايخ الديوان ثم ناوله لرئيس الديوان ففضه وناوله للترجمان فقرأه والحاضرون يسمعون وصورته‏:‏ بعد البسملة والجلاة والصدر نخبركم أنا علمنا بكثرة الانبساط أنكم تهتدون بكثرة الحكمة والإنصاف في الموضع الذي أنتم مستمرون فيه وإن لم تقدروا لتنظيم أهالي البلد بالهدى والطاعة الموجبة منه لحكومة الفرنساوي فالله تعالى بسعادة رسوله الكريم عليه السلام الدائم ينعم عليكم في الدارين عض خيراتكم وأخبرنا المقدام الجسور بونابارته المشهور عن كل ما فعلتم حاكمًا ونافعًا بوصايا لأجلكم سارة رضي واستراح لتلك الفعال الجيدة وعرفني أيضًا أنه عن قريب يرسل لكم بذاته جواب جميع مكاتيبكم إليه فدمتم الآن بخير الهدى وبقوته تعالى نرى فضائلكم عن قريب ونواجه سكان محروسة مصر كما هو مأمولنا لكن يسركم أن الجمهور المنصور غلب في أقاليم الروم جميع أعدائه وبعون الله هادي كل شيء سيغلب كذلك العدا في مصر‏.‏

واعتمدوا بأكثر الاعتماد على الستويان جيرار هذا الذي وضعناه قربكم لأنه هو رجل مشهور بالعدل والاستقامة ونوجه إلى هممكم النصيحة الى زوجتنا الكريمة السيدة زبيدة وولدنا العزيز سليمان مراد أن كليهما حالا كائنان في حصننا في مصر الخ وذكر كثيرًا من أمثال هذه الخرافات والتمويهات ثم أخرج ورقة بالفرنساوي وقرأها بنفسه حتى فرغ منها ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان رفاييل ومضمونها‏:‏ حصول الصلح وتمويهات وهلسيات ليس في ذكرها فائدة ولما انتهى من قراءتها أبرز أيضًا استوف الخازندار ورقة وقرأها بالفرنساوي‏.‏

ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان وهي في معنى الأولى‏.‏

وركب المشايخ وخرجوا للسلام على الوزير يوسف باشا الذي يقال له الصدر الأعظم‏.‏

والسلام على القادمين معه أيضًا من أعيان دولتهم والأمراء المصرية وكانوا عزموا على الذهاب في الصباح فعوقوا لبعد الديوان وأما الشيخ السادات فإنه خرج للسلام من أول النهار‏.‏

وكتب لهم قائمقام أوراقًا للحرسجية لأنهم مستمرون في منع الناس من الدخول والخروج وأبواب البلد مغلقة وكان خروجهم من طريق بولاق فلما وصلوا الى العرضي سلموا على ابراهيم بك وتوجه معهم الى الوزير فلما وصلوا الى اصيوان أمروهم برفع الطياسانات التي على أكتافهم وتقدموا للسلام عليه فلم يقم لقدومهم فجلسوا ساعة لطيفة وخرجوا من عنده‏.‏

وسلموا أيضًا على محمد باشا المعروف بأبي مرق وعلي المحروقي والسيد عمر مكرم وباتوا تلك الليلة بالعرضي ثم عادوا الى بيوتهم‏.

وفي ثاني يوم عدوا الى البر الغربي وسلموا على قبطان باشا ورجعوا الى منازلهم‏.‏

وفيه أرسل ابراهيم بك أمانًا لأكابر القبط فخرجوا أيضًا وسلموا ورجعوا الى دورهم‏.‏

وأما يعقوب فإنه خرج بمتاعه وعازقه وعدى الى الروضة وكذلك جمع إليه عسكر القبط وهرب الكثير منهم واختفى واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا الى قائمقام وبكوا وولولوا وترجوه في إبقائهم عند عيالهم وأولادهم فإنهم فقراء وأصحاب صنائع ما بين نجار وبناء وصائغ وغير ذلك فوعدهم أنه يرسل الى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه‏.‏

وفيه ذهب بليار قائمقام وصحبته ثلاثة أنفار من عظماء الفرنسيس الى العرضي وقابلوا وفي يوم الأربعاء تاسع عشره خرج المسافرون مع الفرنساوية الى الروضة والجيزة بمتاعهم وحريمهم وهم جماعة كثيرة من القبط وتجار الإفرنج والمترجمين وبعض مسلمين ممن تداخل معهم وخاف على نفسه بالتخلف وكثير من نصارى الشوام والأروام مثل يني وبرطلمين ويوسف الحموي وعبد العال الآغا أيضًا طلق زوجته وباع متاعه وفراشه وما ثقل عليه حمله من طقم وسلاح وغيره فكان إذا باع شيئًا يرسل خلفه المشتري ويلزمه بإحضار ثمن في الحال قهرًا ولم يصحب معه إلا ما خف حمله وغلا ثمنه‏.‏

وفيه حضر وكيل الديوان الى الديوان وأحضر جماعة من التجار وباع لهم فراش المجلس بثمن قدره ستة وثلاثون ألف فضة على ذمة السيد أحمد الزرو‏.‏

وفي ذلك اليوم أيضًا فتحوا باب الجامع الأزهر وشرعوا في كنسه وتنظيفه‏.‏

وفي ذلك اليوم وما بعده دخل بعض الانكليز ومروا بأسواق المدينة يتفرجون وصحبتهم إثنان أو واحد من الفرنسيس يعرفونهم الطرق‏.‏

وأشيع في ذلك اليوم ارتحال الفرنساوية ونزولهم من القلاع وتسليمهم الحصون من الغد وقت الزوال‏.‏

فلما أصبح يوم الخميس ومضى وقت الزوال لم يحصل ذلك فاختلفت الروايات فمن الناس من يقول ينزلون يوم الجمعة ومنهم من يقول إنهم أخذوا مهلة ليوم الاثنين وبات الناس يسمعون لغط العساكر العثمانية وكلامهم ووطء نعالاتهم فنظروا فإذا الفرنساوية خرجوا بأجمعهم ليلًا وأخلوا القلعة الكبيرة وباقي القلاع والحصون والمتاريس وذهبوا الى الجيزة والروضة وقصر العيني ولم يبق منهم شبح يلوح بالمدينة وبولاق ومصر العتيقة والأزبكية ففرح الناس كعادتهم بالقادمين وظنوا فيهم الخير وصاروا يتلقونهم ويسلمون عليهم ويباركون لقدومهم والنساء يلقلقن بألسنتهن من الطيقان وفي الأسواق وقام للناس جلبة وصياح وتجمع الصغار والأطفال كعادتهم ورفعوا أصواتهم بقولهم نصر الله السلطان ونحو ذلك وهؤلاء الداخلون ودخلوا من نقب الغريب المثقوب في السور وتسلقوا أيضًا من ناحية العطوف والقرافة وأما باب النصر والعدوي فهما على حالهما مغلوقان لم يأذنوا بفتحهما خوفًا من تزاحم العسكر ودخولهم المدينة دفعة واحدة فيقع فيهم الفشل والضرر بالناس وباب الفتوح مسدود بالبناء فلما تضحى النهار حضر قبي قول وفتح باب النصر والعدوي وأجلس بهما جماعة من الينكجرية ودخل الكثير من العساكر مشاة وركبانًا أجناسًا مختلفة ودخلت بلوكات الينكجرية وطافوا بالأسواق ووضعوا نشاناتهم وزنكهم على القهاوي والحوانيت والحمامات فامتعض أهل الأسواق من ذلك وكثر الخبز واللحم والسمن والشيرج بالأسواق وتواجدت البضائع وانحلت الأسعار وكثرت الفاكهة مثل العنب والخوخ والبطيخ وتعاطى بيع غالبها الأتراك والأرنؤد فكانوا يتلقون من يجلبها من الفلاحين بالبحر والبر ويشترونها منهم بالأسعار الرخيصة ويبيعونها على أهل المدينة وبولاق بأغلى الأثمان ووصلت مراكب من جهة بحري وفيها البضائع الرومية واليميش من البندق واللوز والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي‏.‏

فلمما كان قبل صلاة الجمعة وإذا بجاويشية وعساكر وأغوات وتلا ذلك حضرة يوسف باشا الصدر فشق من وسط المدينة وتوجه الى المسجد الحسيني فصلى فيه الجمعة وزار المشهد الحسيني ودعاه حضرة الشيخ السادات الى داره المجاورة للمشهد فأجابه فدخل معه وجلس هنيهة ثم ذهب الى الجامع الأزهر فتفرج عليه وطاف بمقصورته وأروقته وجلس ساعة لطيفة وأنعم على الكناسين والخدمة بدراهم وكذلك خدمة المسجد الحسيني ثم ركب راجعًا الى وطاقه بناحية الحلي بشاطئ النيل وعملوا في ذلك الوقت شنكًا وضربوا مدافع كثيرة من العرضي والقلعة ودخل قلقات الينكجرية وجلسوا برؤوس العطف والحارات وكل طائفة عندها بيرق ونادوا بالأمان البيع والشراء وطلب أولئك القلقات من أهل الأخطاط المآكل والمشارب والقهوات وألزموهم بذلك وانحاز الفرنساوية الى جهة قصر العيني والروضة والجيزة الى حد قلعة الناصرية وفم الخليج وعليها بنديراتهم ووقف حرسهم عند حدهم يمنعون من يأوي الى جهتهم من العثمانية فلا يمر العثماني إلا الى الجهة الموصلة الى بولاق وأما إذا كان من أهل البلد فيمر حيث أراد وفي مدة إقامة المشار إليه بساحل الحلي ببولاق خرب عساكره ما قرب منهم من الأبنية والسواقي والمتريز الذي صنعه الفرنساوية من حد باب الحديد الى البحر وأخذوا ما بذلك من الأفلاق الكثيرة المتهدمة والأخشاب المنجرة المرصوصة فوق المتريز وتحته وف يالخندق فخربوا ذلك جميعه في هذه المدة القليلة وذلك لأجل وجود النار والمطابخ‏.‏

وفي يوم السبت دخل قبي قول وهو المسمى عند المصريين كتخدا الينكجرية وشق المدينة وأمر بمحو نشانات الانكشارية من الحوانيت ولم يترك إلا القهاوي‏.