المجلد الثالث - شهر صفر بيوم الأحد سنة 1229

شهر صفر بيوم الأحد سنة 1229

مما وقع في ذلك اليوم من الحوادث أن صناع البارد الكائنين بباب اللوق حملوا نحو عشرة أحمال من الجمال أوعية ملآنة بارودًا وهي الظروف المصنوعة من الجلود التي تسمى البطط يريدون بها القلعة فمروا من باب الخرق إلى ناحية تحت الربع فلما وصلوا تجاه معمل الشمع وبصحبة الجمال شخص عسكري فتشاجر مع الجمال ورد عليه القول فحنق منه فضربه بفرد الطبنجة فأصابت إحدى البطط فالتهبت بالنار وسرت إلى باقي الأحمال فالتهب الجميع وصعد إلى عنان السماء فاحترقت السقيفة المطلة على الشارع وما بناحيتها من البيوت والذم أسفلها من الحوانيت وكذلك من صادف مروره في ذلك الوقت واحترق ذلك العسكري والجمال فيمن احترق واتفق مرور امرأة من النساء المحتشمات مع رفيقتها فاحترقت ثيابها مع رفيقتها وذهبت تجري والنار ترعى فيها وكانت دارها بالقرب من تلك الناحية فيما وصلت إلى الدار حتى احترق ما عليها من الثياب واحترق أكثر جسدها ووصلت الأخرى بعدها وهي محترقة وعريانة فماتت من ليلتها ولحقتها الأخرى في ضحوة اليوم الثاني ومات في هذه الحادثة أكثر من المائة نفس من رجال ونساء وأطفال وصبيان وأما الجمال فأخذوها إلى بيت أبي الشوارب وهي سود محترقة الجلود وفيها من خرجت عينه فإما يعالجوها أو ينحروها وكل هذا الذي حصل من الحرق والموت والهدم في طرفة عين‏.‏

وفي الاثنين وصل مصطفى بك أمير ركب الحجاج إلى مصر وترك الحجاج بالدار الحمراء فبات في داره وأصبح عائدًا إلى البركة فدخل مع المحمل يوم الأربعاء ودخل الحجاج وأتبعهم بحيث أنه أخذ المسافة في أحد وعشرين يومًا وسبب حضور المذكور أنه ذهب بعساكره وعساكر الشريف من الطائف إلى ناحية تربة والمتآمر عليها امرأة فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة فحنق عليه الباشا وأمره بالذهاب إلى مصر مع المحمل‏.‏

وفيه أرسل الباشا يستدعي اثنتين أو ثلاثة عينهن من محاظيه وصحبتهن خمسة من الجواري السود الأسطاوات في الطبخ وعمل أنواع الفطور فأرسلوهن في ذلك اليوم إلى السويس وصحبتهن نفيسة القهرمانة وهي من جواريه أيضًا وكانت زوجًا لقاضي أوغلي المحتسب الذي مات بالحجاز في العام الماضي‏.‏

وفيه أيضًا وصل حريم الشريف غالب فعينوا له دارًا يسكنها مع حريمه جهة سويفة العزى فسكنها ومعه أولاده وعليهم المحافظون واستولى الباشا على موجودات الشريف غالب من نقود وأمتعة وودائع ومخبآت وشرك وتجارات وبن وبهار ونقود بمكة وجدة والهند واليمن شيء لا يعلم قدره إلا الله وأخرجوا حريمه وجواريه من سرايته بما عليهن من الثياب بعد ما فتشوهن تفتيشًا فاحشًا وهتك حرمته قل اللهم مالك الملك هذا الشريف غالب انتزع من مملكته وخرج من دولته وسيادته وأمواله وذخائر وانسل من ذلك كله كالشعرة من العجين حتى أنه لما ركب وخرج مع العسكر وهم متوجهون به إلى جدة أخذوا ما في جيوبه فليعتبر من يعتبر وكل الذي وقع له بعد من التغريب وغيره فيما جناه من الظلم ومخالفة الشريعة والطمع في الدنيا وتحصيلها بأي طريق نسأل الله السلامة وحسن العاقبة‏.‏

وفي يوم الخميس خامسه طاف الآغا أيضًا بأسواق المدينة وأمامه المناداة على أبواب الخانات والوكائل من التجار بأنهم لا يتعاملون في بيع البن والبهار إلا بحساب الريال المتعارف في معاملة الناس وهو الذي يصرف تسعين نصفًا لأن باعة البن لا يسمون في بيعه إلا الفرانسة ولا يقبضون في ثمنه إلا إياها بأعيانها ولا يقبلون خلافها من جنس المعاملات فيحصل بذلك تعب للمتسببين الفقراء والقطاعين ومن يشتري بالقنطار أو دونه فبهذه المناداة يدفع المشتري ما يشاء من جنس المعاملات قروشًا أو ذهبًا أو فرانسة أو أي صنف من المعاملات ويحسبه المعاملة والريال المعروف بين الناس الذي صرفه تسعون نصفًا فضة وإذا سمى سعر القنطار فلا يسمي إلا بهذا الريال وهذه المناداة بإشارة السيد محمد المحروقي بسبب ما كان يقع من تعطيل الأسباب‏.‏

وفيه سافر محمود بك وصحبته المعلم غالي للكشف عن قياس الأراضي البحرية التي نزل إليها القياسون بصحبة مباشريهم من النصارى والمسلمين من وقت انحسار الماء عن الأراضي وانتشروا بالأقاليم البحرية وهم يقيسون بقصبة تنقص عن القصبة القديمة‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسعه وصل حريم الشريف غالب من السويس فأنزلوهن ببيت السيد محمد المحروقي وعدتهن خمسة إحداهن جارية بيضاء والأربعة حبشيات ومعهن جواري سود وطواشية وحضر إليهم سيدهم وصحبته أحمد أغا أخو كتخدا بك وصحبتهم نحو العشرين نفرًا من العسكر واستمر الجميع مقيمين بمنزل المذكور وهو يجري عليهم النفقات اللائقة بهم والمصاريف وفضل لهم كساوي من مقصبات وكشميري وتفاصيل هندية‏.‏

وفي يوم السبت رابع عشره خرج محو بك إلى ناحية الآثار بعساكره ليسافر من ساحل القصير إلى الحجاز باستدعاء الباشا فاستمر مقيمًا هناك عدة أيام لمخالفة الريح وارتحل في أواخره وفي أوائل هذا الشهر بل والذي قبله عملوا كورنتينه في إسكندرية ودمياط فيه رجع محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول 1229 وفيه انتقل الشريف غالب بعياله من بيت السيد محمد المحروقي إلى المنزل الذي أعدوه له وهو بيت لطيف باشا بسويقة العزى بعد ما أصلحوه وبيضوه وأسكنوه به وعليه اليسق والعسكر الملازمون لبابه وفيه أبرز كتخدا بك فرمانًا وصل إليه من الباشا يتضمن ضبط جميع الالتزام لطرف الباشا ورفع أيدي الملتزمين عن التصرف بل الملتزم يأخذ فائظه من الخزينة فلما أشيع ذلك ضج الناس وكثر فيهم اللغط واجتمعوا على المشايخ فطلعوا إلى كتخدا بك وسألوه فقال نعم ورد من أفندينا أمر بذلك ولا يمكنني مخالفته فقالوا له كيف تقطعون معايش الناس وأرزاقهم وفيهم أرامل وعواجز وللواحدة قيراط أن نصف قيراط يتعيشن من إيراده فينقطع عنهن فقال يأخذن الفائظ من الخزينة العامرة عرضحال وننتظر الجواب فأجابهم إلى ذلك من باب المسايرة وفك المجلس وشرع الشيخ المهدي في ترصيف العرضحال فكتبوه وختموا عليه بعد وفي خامسه حضر جمع كثير من النساء الملتزمات إلى الجامع الأزهر وصرخوا في وجوه الفقهاء وأبطلوا الدروس وبددوا محافظهم وأوراقهم فتفرقوا وذهبوا إلى دورهم وكان قد اجتمع معهم الكثير من العامة واستمروا في هرج إلى بعد العصر ثم جاءهم من يقول لهم كلامًا كذبًا سكن به حدتهم فانفض الجمع وذهب النساء وهن يقلن نأتي في كل يوم على هذا المنوال حتى يفرجوا لنا عن حصصنا ومعايشنا وأرزاقنا وفي ظن الناس وغفلتهم أن في الإناء بقية أوانهم يدفعون الرزية وما علموا أن البساط قد انطوى وكل قد ضل وأضل وغوى ومال عن الصراط واتبع الهوى وكلب الجور قد كشر أنيابه وعوى ولم يجد له طاردًا ولا معارضًا ولا معاندًا ولما وصل الخبر إلى كتخدا بك طلب بعض المشايخ وقال له ما خبر هذه الجمعية بالأزهر فقال لهم بسبب ما بلغهم عن قطع معاشهم وإنما أنتم الذين تسلطونهم على هذه الفعال لأغراضكم ولا بد أني أستخبر على من غراهم وأخرج من حقه وطلبه علي آغا الوالي وقال له أخبرني عن هؤلاء النساء من أي البيوت فقال وما علمي ومن يميزهن وغالبهن وأكثرهن نساء العساكر ولا قدرة لي على منعهن وانقض المجلس وبردت همتهم وانكمشوا وشرعوا في تنفيذ ما أمروا به وترتيبه وتنظيمه‏.‏

وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي فأقاما أيامًا وسافرا في ثالث عشره وفيه أحضروا حسن أغا محرم المعروف بنجائي من إقليم المنوفية وهو مريض وتوفي في ثاني يوم ودفن‏.‏

وفي خامس عشره مر الآغا والوالي وأغات التبديل وهم يأمرون الناس بكنس الأسواق ورشها حالًا في ذلك الوقت من غير تأخير فابتدر الناس ونزلوا من حوانيتهم وبأيديهم المكانس يكنسون بها تحت حوانيتهم ثم يرشونها‏.‏

وفي تاسع عشره حضر الشريف عبد الله ابن الشريف سرور أرسله الباشا إلى مصر من ناحية القصير منفيًا من أرض الحجاز فأنزلوه بمنزل أحمد آغا كتخدا بك محجوزًا عليه ولم يجتمع مع عمه ولم يره‏.‏

وفيه كثر الطلب للريال الفرانسة بسبب احتياج دار الضرب وما يرسل إلى الباشا من ذلك وألزموا التجار بإحضار جملة من ذلك ويأخذون بدلها قروشًا مقادير على أفرادهم بما يحتمله وجمعوا ما قدروا عليه منها‏.‏

وفيه شنق شخص يسمى صالح عند باب زويلة واستمر معلقًا يومين وسبب ذلك أنه يدعى الجذب والولاية وتزوج بامرأة وأخذ متاعها ومالها وحصل لها خلل في عقلها فأنهوا أمره إلى كتخدا بك فأمر بحبسه واستخلصوا منه جانبًا مما أخذه من متاع المرأة وكثر كلام الناس في حقه فأمر الكتخدا بشنقه‏.‏

وفي أواخره حضر إبراهيم بك ابن الباشا من الجهة القبلية ونزل بالبيت الذي اشتراه بناحية واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء سنة 1229 وفي ليلة الاثنين سادسه حضر ميمش آغا من ناحية الحجاز مرسلًا من عند الباشا باستعجال حسن باشا للحضور إلى الحجاز وكان قبل ذلك بأيام أرسل يطلب سبعة آلاف عسكري وسبعة آلاف كيس فشرع كتخدا بك في استكتاب أشخاص من أخلاط العالم ما بين مغاربة وصعايدة وفلاحي القرى فكان كل من ضاق به الحال في معاشه يذهب ويعرض نفسه فيكتبونه وإن كان وجيهًا جعله أميرًا على مائة أو مائتين ويعطيه أكياسًا يفرقها في أنفاره ويشتري فرسًا وسلاحًا ويتقلد بسيف وطبنجات وكذلك أنفاره ويلبسون قناطيش ولباسًا مثل لبس العسكر ويعاق له وزنة بارود تحت إبطه ويأخذ على كتفه بندقية ويمشون أمام كبيرهم مثل الموكب وفيهم أشخاص من الفعلة الذين يستعملون في شيل التراب والطين في العمائر وبرابرة وأرسل الكتخدا إلى الفيوم وغيرها بطلب رجال من أمثال ذلك وجمعوا الكثير من أرباب الصنائع مثل الخبازين والفرانين والنجارين والحدادين والبياطرة وغيرهم من أرباب الصنائع ويسحبونهم قهرًا فأغلق الفرانون مخابزهم وتعطل خبيز خبز الناس أيامًا وفيه ورد الطلب لحسن الباشا فشرع في تشهيل أحواله ولوازم سفره ثم حضر ميمش أغا باستعجاله واستعجال المطلوبات من الأموال وفيه قبضوا على اليهود الموردين الذين يوردون الذهب والفضة لدار الضرب بسبب إحضار الفرانسة وقد قلت بأيدي الناس جد الكثرة أخذها والطلب لها وانقطاع مجيئها من بلادها فحبسوهم وضربوهم ونزلوا في أسوأ حال متحيرين وذلك أن راتب الضربخانة سبعة آلاف في كل يوم عنها ثلاثة وستون ألف درهم وقدرها ثلاث مرات من النحاس يضربون ذلك قروشًا حتى بلغ سعر النحاس القراضة مائة وعشرين نصفًا فضة‏.‏

وفي تاسعه حضر محمود بك الدويدار والمعلم غالي من سرحتهما إلى مصر وهما المتآمران على مباشرة قياس الأراضي وتشهيل المال المفروض وسبب حضورهما أن إبراهيم باشا أرسل بطلبهما للحضور ليتشاور معهما في أمر فأقاما وعادا راجعين إلى شغلهما‏.‏

وفي منتصفه سافر إبراهيم باشا عائدًا إلى أسيوط وذهب صحبته أخوه إسمعيل باشا والبيكات الصغار خوفًا وهروبًا من الطاعون‏.‏

وفيه كمل تعمير الجامع الذي عمره دبوس أوغلي الذي بقرب داره التي بفيط العدة وهو جامع جوهر العيني وكان قد تخرب فهدمه جميعه وأنشأه وزخرفه ونقل لعمارته أنقاضًا كثيرة وأخشابًا ورخامًا من بيت أبي الشوارب وعمل به منبرًا بديع الصنعة واستخلص جهة أوقافه أطيانًا وأماكن من واضعي اليد‏.‏

وفيه أيضًا نادوا على سكان الجيزة بالخروج منها بعد عصر يوم السبت ومن لا يريد الخروج فلا يخرج بعد ذلك ومن خرج فلا يدخل وأمهلوهم إلى الغروب فخرجوا بأمتعتهم وأطفالهم وأولادهم وأوانيهم إلى خارج البلدة وبات الأكثر منهم تحت السماء لضيق الوقت على الرحيل إلى بلدة أخرى وخرج أيضًا الكثير من عساكرهم وأتباعهم ممن لا يريد المقام والحبس فكانوا كلما وجدوا من جمل متاعه من أهل البلدة على حمار ليذهب إلى جهة يستقر بها ورموا به إلى الأرض وأخذوا الحمار وحصل لأهل الجيزة في تلك الليلة ما لا مزيد عليه من الكرب والجلاء عن أوطانهم وكل ذلك مجرد وهم مع قلة وجود الطعن إلا التزر اليسير‏.‏

وفي ثالث عشرينه سافرت خزينة المال المطلوبة إلى الباشا إلى جهة السويس وأصحبوا معها عدة كبيرة من عسكر الدلاة لخفارتها وقدرها ألفان وخمسمائة كيس جميعها قروش‏.‏

شهر جمادى الأولى سنة 1229 استهل بيوم الجمعة في ثالثه خرج حسن باشا بعساكره ونزل بوطاقه وخيامه التي نصبت له بالعادلية قبل خروجه بيومين‏.‏

وفي رابعه وصلت هجانة من ناحية الحجاز بطلب حسن بك دالي باشا وأخشاب واحتياجات وجمال والذي أخبر به المخبرون عن الباشا وعساكره أن طوسون باشا وعابدين ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل ولأن العربان نفرت طباعهم من الباشا لما حصل منه في حق الشريف من القبض عليه وهاجر الكثير من الأشراف وانضموا إلى الأخصام وتفرقوا في النواحي ومنهم شخص يقال له الشريف راجح فأتى من خلف العسكر وقت قيام الحرب وحاربهم ونهب الذخيرة والأحمال من العربان المسالمين له بأغلى ثمن وأخبروا أيضًا أنه واقع بالحرمين غلاء شديد لقلة الجالب واحتكار الباشا للغلال الواصلة إليه من مصر فيبيعه حتى على عسكره بأغلى ثمن من التجبر على المسافرين والحجاج في استصحابهم شيئًا من الحب والدقيق فيفتشون متاعهم في السويس ويأخذون ما يجدونه معهم مما يتزودن يه في سفرهم من القمح أو الدقيق وما يكون معهم من الفرانسة لنفقتهم وأعطوهم بدلها من القروش‏.‏

وفيه بلغ صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية ثمانمائة وعشرين نصفًا عناه ثمانية قروش والمشخص عشرون قرشًا وقل وجود الفرانسة والمشخص والمحبوب المصري بأيدي الناس جدًا ثم نودي على أن يصرف الريال بسبعة قروش والمشخص بستة عشر قرشًا وشددوا قفي ذلك وعاقبوا من زاد على ذلك في قبض أثمان المبيعات وأطلقوا في الناس جواسيس وعيونًا فمن عثروا عليه في مبيع أو غيره أنه قبض بالزيادة أحاطوا به وأخذوه وعاقبوه بالحبس والضرب والتغريم وربما أرسلوا من طرفهم أشخاصًا متنكرين يأتي أحدهم للبائع فيساومه السلعة كأنه مشتر ويدفع له في ضمن الثمن ريالًا أو مشخصًا ويحسبه بحسابه الأول ويناكره في ذلك فربما تجاوز البائع خوفًا من بوار سلعته وخصوصًا إذا كانت البيعة رابحة أو بيعة استفتاح على زعم الباعة وقلة الزبون بسبب وقف حال الناس أو إفلاسهم فما هو إلا أن يتباعد عنه يسيرًا فما يشعر إلا وهو بين يدي الأعوان ويلاقي وعده‏.‏

وفي منتصفه وصلت قافلة من السويس وفيها جملة من العسكر المتمرضين ونحو العشرة من كبارهم نفاهم الباشا إلى مصر وفيهم حجو أوغلي ودالي حسن وعلي أغادرمنلي وترجوا وحسن أغا أزرجنلي ومصطفى ميسوا وأحمد أغا قنبور‏.‏

وعليه أيضًا خرج عسكر المغاربة ومن معهم من الأجناس المختلفة إلى مصر العتيقة ليذهبوا من الناحية القصير إلى الحجاز وأما محو بك فإنه لم يزل بقنا القلة المراكب بالقصير التي تحملهم إلى الحجاز‏.‏

وفي سادس عشره وصلت قافلة وفيها أنفار من أهل مكة والمدينة وسفار وبضائع تجارة بن وأقمشة وبياض شيء كثير وقد أتت إلى جدة من تجارات الشريف غالب ولم يبلغهم خبر الشريف غالب وما حصل له فلما حضر وضع الباشا يده عليه جميعه وأرسل إلى مصر فتولى ذلك السيد محمد المحروقي وفرقها على التجار بالثمن الذي قدره عليهم وألزمهم أن لا يدفعوه إلا فرانسة‏.‏

وفي هذا الشهر وصل الخبر بموت الشيخ مسعود كبير الوهابية وتولى مكانه ابنه عبد الله‏.‏

وفيه خرج طائفة الكتبة والأقباط والروزنامجي والجاجرتية وذهب الجميع إلى جزيرة شلقان ليحرروا دفاتر على الروك الذي راكوه من قياس الأراضي زيادة الأطيان وجفل الكثير من الفلاحين وأهالي الأرياف وتركوا أوطانهم وزرعهم وهالهم هذا الواقع لكونهم لم يعتادوه ويألفوه وباعوا مواشيهم ودفعوا أثمانها في الذي طلع عليهم في الزيادات الهائلة وسيعودون مثل الكلاب ويعتادون سلخ الإرهاب وأما الملتزمون فبقوا حيارى باهتين وارتفع أيدي تصرفهم في حصصهم ولا يدرون عاقبة أمرهم منتظرين رحمة ربهم وان وقت الحصاد وهم ممنوعون عن ضم زرع وسياهم إلى أن أذن لهم الكتخدا بذلك وكتب لهم أوراقًا وتوجهوا بأنفسهم أو بمن ينوب عن مخدومه وأراد ضم زرعه ولم يجد من يطيعه بهم وتطاولوا عليهم بالألسنة فيقول الحرفوش منهم إذا دعي للشغل بأجرته روح انظر غيري أنا مشغول في شغلي أنتم إيش بقالكم في البلاد قد انقضت أيامكم إحنا صرنا فلاحين الباشا وقد كانوا من الملتزمين أذل من العبيد المشترى فربما أن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهنه بالضرب وأما الفلاح فلا يمكنه ولا يسهل به أن يترك وطنه وأولاده وعياله ويهرب وإذا هرب إلى بلدة أخرى واستعلم أستاذه مكانه أحضره قهرًا وازداد ذلًا ومقتًا وإهانة وكان من طرائفهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتحضير طلب الملتزم أو قائم مقامه الفلاحين فينادي عليهم الغفير أمس اليوم المطلوبين في صبحه بالتبكير إلى شغل الملتزم فمن تخلف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه وأشبعه سبًا وشتمًا وضربًا وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة واعتادوا ذلك بل يرونه من اللازم الواجب وهذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدة والعهدة خصوصًا عند قبض المال فيخالطهم ويناكرهم وهم له أطوع من أستاذهم وأمره نافذ فيهم فيأمر قائمقام بحبس من شاء أو ضربه محتجًا عليهم ببواقي لا يدفعها وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قائمة المصروف وطلب من المعلم ورده وهي ورقة الغلاق وعده لوقت آخر حتى يحرر حسابه فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفًا منه فإذا سأله من بعد ذلك قال له بقي عليك حبتان من فدان أو أخروبتان أو نحو ذلك ولا يعطيه ورقة الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة وغير ذلك أمور وأحكام خارجة عن إدراك البهيمة فضلًا عن البشرية كالشكاوي ونحوها وذلك كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم وتمثل بين يديه قائلًا أشكو إليه فلانًا بمائة ريال مثلًا فبمجرد قول ذلك يأمر بكتابة ورقة خطابًا إلى قائمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكي واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلًا أو كثيرًا أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر ويرسل والورقة مع بعض أتباعه ويكتب بهامشها كراء طريقة قليلًا أو كثير أو يسمونه حق الطريق فعند وصوله أول شيء يطالب به الرجل حق الطريق المعين ثم الشكوى فإن بادر ودفعها وإلا حبس أو حضر به المعين إلى بيت أستاذه فيوعده الحبس ويعاقبه بالضرب حتى يوفي القدر الذي تلفظ به الشاكي وإن تأخر عن حضوره المعين أردفه بآخر وحق طريق الآخر كذلك ويسمونها الاستعجالة وغير ذلك أحكام وأمور غير معقولة المعنى قد ربوا عليها واعتادوا لا يرون فيها بأسًا ولا عيبًا وقد سلط الله على هؤلاء الفلاحين بسوء أفعالهم وعدم ديانتهم وخيانتهم وإضرارهم لبعضهم البعض من لا يرحمهم ولا يعفو عنهم كما قال فيهم البدر الحجازي وسبعة بالفلح قد أنزلت لما حووه من قبيح الفعال شيوخهم أستاذهم والمشد والقتل فيما بينهم والقتال مع النصارى كاشف الناحية وزد عليها كدهم في اشتغال وفقرهم ما بين عينيهم مع اسوداد الوجه هذا النكال وإذا التزم بهم ذو رحمة أزدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه وماطلوه في الخراج وسموه بأسماء النساء وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمهم لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم وكذلك أشياخهم إذا لم يكن الملتزم ظالمًا يتمكنون هم أيضًا من ظلم فلاحيهم لأنهم لم يحصلوا لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم فيأخذون لأنفسهم في ضمنهاما أحبوا وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين وقد انحرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن وما سيحدث بعد ذلك من الإحداثات التي تبدو قرائنها شيئًا بعد شيء‏.‏

وفي ثاني عشرينه برز حسن بك باشا دالي خيامه إلى خارج باب النصر وخرج هو في ثاني يوم في موكب ونزل بوطاقه ليتوجه إلى الحجاز على طريق البر‏.‏

وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه قبل الغروب بنحو نصف ساعة وصل جراد كثير مثل الغمام وصار يتساقط على الدور والأسطحة والأزقة مثل الغمام وأفسد كثيرًا من الأشجار وانقطع أثره في ثاني يوم‏.‏

وفي يوم الاثنين عاشره ارتحل حسن باشا من ناحية الشيخ قمر إلى بركة الحج‏.‏

وفي منتصفه حضر الروزنامجي والأفندية بعد أن استملى منهم القبط الدفاتر وأسماء الملتزمين ومقادير حصصهم ثم حضر محمود بك والمعلم غالي ومن معهم من الكتبة الأقباط وظهر للناس عند حضورهم نتيجة صنعوه ونظموه ورتبوه من قياس الأراضي ورك البلاد وهو أن الأراضي زادت في القياس بالقصبة التي قاسوا بها وحددوها مقدار الثلث أو الربع حتى قاسوا الرزق الأحباسية بأسماء أصحابها ومزارعيها وأطيان الوسايا على حدتها حتى الأجران وما لا يصلح للزراعة وما يصلح من البور الصالح وغير الصالح فلما تم ذلك حسبوها بزياداتها بالأفدنة ثم جعلوها ضرائب منها ضريبة خمسة عشر ريالًا وأربعة عشر واثني عشر وأحد عشر وعشرة مال الفدان بحسب جودة الإقليم والأرض فبلغ ذلك مبلغًا عظيمًا بحيث أن البلدة التي كانت يفرض عليها في مغارم الفرض التي كانوا فرضوها قبل ذلك في سنيهم الماضية ويتشكى منها الفلاحون والملتزمون ويستغيثون ويبقى منها بواقي ويعجزون عنها ألف ريال طلع عليها في هذه اللفة عشرة آلاف ريال إلى مائة ألف وأقل وأكثر وأحضر الكتخدا إبراهيم آغا الرزاز والشيخ أحمد يوسف وخلع عليهما خلعتين وجعلوا لهما ديوانًا خاصًا لمن يلتزم بالقدر الذي تحرر على حصته التي في تصرفه فيعطونه ورقة تصرف ويكتب على نفسه وثيقة بأجل معلوم يقوم بدفع ذلك ويتصرف في حصته بشرط ان لا يكون له إلا أطيان الأوسية إن شاء زرعها وأخذ غلتها وإن شاء أجرها لمن شاء وليس له من مال الخراج إلا المال الحر المعين بسند الديوان المعروف بالتقسيط وما زاد في قياس الأرض من طين الفلاحة والأوسية فهو للميري قل أو كثر وأما الرزق الأحباسية المرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات فإنهم مسحوها بقياسهم فما وجدوه زائدًا عن الحد الأصلي جعلوه للديوان وما يقي قيدوه وحرروه باسم واضع اليد عليها واسم واقفها وزارعها أو ما يمليه المزارع الحاضر وقت القياس وسؤال المباشرين وقرروا عليها المال مثل ضريبة البلد فإن أثبتها صاحبها وكان بيده سند جديد من أيام الوزير وشريف أفندي وما بعده على سبقه لوقت تاريخه قيدوا له نصف مال تآجرها والنصف الثاني الباقي للديوان ورسموا لكاتب الرزق أن يعمل ديوانًا لذلك ومعه عدة من الكتبة ويأتي إله الناس بأوراق سنداتهم فمن وجد بيده سندًا جديدًا كتب له صورة قيد الكشف بموجب ما هو بدفتره في ورقة فيذهب بها إلى الديوان فيقيدون ذلك بعد البحث والتعنت من الطرفين ويقع الاشتباه الكثير في أسماء أربابها وأسماء حيضانها وغيطانها فيكلفون صاحب الحاجة بإثبات ما ادعاه ويكتب له أوراقًا لمشايخ الناحية وقاضيها بإثبات ما يدعيه ويعود مسافرًا ويقاسي ما يقاسيه من مشقة السفر والمصرف ومعاكسة المشايخ وقاضي الناحية ثم يعود إلى الديوان بالجواب ثم يمكن الاحتجاج عليه بحجة أخرى وربما كان سعيه وتعبه على فدان واحد أو أقل أو أكثر وازدحم الناس على بيت كاتب الرزق وانفتح له بذلك باب لأنه لا يكتب كشفًا حتى يأخذ عليه دراهم تعينت على قدر الأفدنة وأضاع الكثير من الناس ما تلقوه من أسلافهم وما كانوا يرتزقون منه وأهملوا تجديد السندات واتكلوا على ما بأيديهم من السندات القديمة لجهلهم وظنهم انقضاء الأمر وعدم دوام الحال وتغير الدولة وعود النسق الأول أو لفقرهم وعدم قدرتهم على ما ابتدعوه من كثرة المصاريف التي تصرف على تجديد السند واشتغال مال الحماية التي قدرها شريف أفندي على أراضي الرزق على كل فدان عشرة أنصاف أو خمسة فكثير من الناس استعظم ذلك واعتمد على أوراقه القديمة فضاعت عليه رزقته وانحلت وأخذها الغير والذي لم يرض بالتوت بل ولا حصل حطبه رضي بالولاش وكان الشأن في أمر الرزق أن أراضيها تزيد عن موقع أراضي البلاد زيادة كثيرة وخراجها أقل من خراج أراضي البلاد الذي يقال له المال الحر الأصلي وليس عليها مصاريف ولا مغارم ولا تكاليف فالمزارع من الفلاحين إذا كان تحت رزقه أو رزقتين فإنه يكون مغبوطًا ومحسودًا في أهل بلده ويدفع لصاحب الأصل القدر النزر والمزارع يتلقى ذلك سلفًا عن خلف ولا يقدر صاحب الأصل ان يزيد عليه زيادة وخصوصًا إذا كانت تحت يد بعض مشايخ البلاد فلا يقدر أحد أن يتعدى عليه من الفلاحين ويستأجرها من صاحبها وإن فعل لا يقدر على حمايتها والكثير من الرزق واسعة القياس جدًا وما لها قليل جدًا وخصوصًا في الأراضي القبلية فإن غالبها رزق وشراوي ومتأخرات لم تمسح ولم يعلم لها فدادين ولا مقادير وقد تزيد أيضًا بانحسار البحر عن سواحلها وكذلك في البلاد البحرية ولكن دون ذلك ومعظم أراضي الرزق القبلية مرصدة على جهات الأوقاف بمصر وغيرها والواضعون أيديهم عليها لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتب ومقرر من الزمن الأول السابق وهو شيء قليل وليتهم لو دفعوه فإن في أوقاف السلاطين المتقدمة القطمة من الأراضي التي عبرتها أكثر من ألف فدان وخراجها خمسون زكيبة والزكيبة خمس ويبات أو من الدراهم ألفان فضة وأقل وأكثر وهي تحت يد بعض كبراء البلاد يزرعها ويأخذ منها الألوف من الأردب من أجناس الغلال ويضن ويبخل بدفع ذلك القدر اليسير لجهة وقفه ويكسر السنة على السنة فإن كانت يد صاحب الأصل قوية أو كان واضع اليد فيه خيرية وقليل ما هم دفع لأربابها ثمنها بعد أن يرد الخمسين إلى الأربعين بالتكسير والخلط ثم يبخس الثمن جدًا فإن كان ثمن الأردب أربعمائة حسبه بأربعين نصفًا أو أقل فيعود ثمن الخمسين زكيبة إلى ثمن زكيبتين وقس على ذلك والذي يكون تحت يده شيء من أطيان هذه الأوقاف وورثها من بعده ذريته فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من مورثهم ولا يرون أن لأحد سواهم فيها حقًا ولا يهون بهم دفع شيء لأربابه ولو قل إلا قهرًا وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم وكان معظم إدارات دوائر عظماء النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي تحت أيديهم بغير استحقاق إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك وسلب عنهم ما كانوا فيه من النعمة وتشتتوا في النواحي وتغربوا عن أوطانهم وخربت دورهم ومضايفهم وذهبت سيادتهم وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد وتسمع لهم ركزًا وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونسي أمره وبقي تحت يد من هو تحت يده من غير شيء أصلًا وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين ابن حمودة من مشايخ برما بالمنوفية عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير وخلاف المرصد على مساجد بلادهم التي لم يبق لها أثر وكذلك الأسبلة وغيرها وأطيانهم تحت أيديهم من غير شيء وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحاج وقد انتسخ ذلك كله‏.‏

وفيه أخبر المخبرون أم مراكب الموسم وصلت في هذا العام إلى جدة وكان لها مدة سنين ممتنعة عن الوصول خوفًا من جور الشريف وزواله وتملك الدولة البلاد وظنهم فيهم العدل فاطمأنوا وعبروا متاجرهم وحضروا إلى جدة فجمع الباشا مكوسهم فبلغت أربعة عشرين لكًا واللك الواحد مائة ألف فرانسة فيكون أربعة وعشرين مائة ألف فرانسة فقبضها منهم بضائع ونقودًا وحسب البضائع بأبخس الأثمان ثم التفت إلى التجار الذين اشتروا البضائع وقال لهم إني طلبت منكم مرارًا أن تقرضوني المال فادعيتم الإفلاس ولما حضر الموسم بادرتم بأخذه وظهرت أموالكم التي كنتم تبخلون بها فلا بد أن تقرضوني ثلثمائة ألف فرانسة فصالحوه على مائتي ألف دفعوها له نقودًا وبضائع مشترواتهم حسبها لهم العشرة ستة ثم فرض على أهل المدينة ثلاثين ألف فرانسة‏.‏ واستهل

شهر رجب سنة 1229

في خامسه ضربوا عدة مدافع وأخبروا بوصول بشارة وأن عساكرهم حاربوا قنفدة واستولوا عليها ولم يجدوا بها غير أهلها‏.‏

وفي سادسه سار حسن بك دالي باشا بعساكره الخيالة برًا‏.‏

وفيه عزم على السفر والد محرم بك زوج ابنة الباشا إلى بلاده وذلك بعد عوده من الحجاز فأرسلوا إلى الأعيان تنابية بالأمر لهم بمهاداته ففعلوا وعبوا له بقجًا وبناوازًا وأقمشة هندية ومحلاوية كل أمير على قدر مقامه وفي ليلة الاثنين تاسعه حصلت في وقت أذان العشاء زلزلة نحو دقيقتين وكان المؤذنون طلعوا على المنارات وشرعوا في الأذان فلما اهتزت بهم ظن كل من كان على منارة سقوطها فأسرعوا في النزول فلما علموا أنها زلزلة طلعوا وأعادوا الأذان وسقط من شرائف الجامع الأزهر شرافة وتحركت الأرض أيضًا في خامس ساعة من الليل ولكن دون الأولى وكذلك وقت الشروق هزة لطيفة‏.‏

وفي حادي عشره هرب الشريف عبد الله ابن الشريف سرور في وقت الفجرية ولم يشعروا بهروبه إلا بعد الظهر فلما بلغ كتخدا بك الخبر فتكدر لذلك وأرسل إلى مشايخ الحارات وغيرهم وبث العربان في الجهات فلما كان ليلة السبت حضروا به في وقت الغروب وقد حجزوه بحلوان وأتوا به إلى بيت السيد محمد المحروقي فأخذه إلى كتخدا بك فأرسله إلى بيت أخيه أحمد آغا ومن ذلك الوقت ضيقوا عليه ومنعوه من الخروج والدخول بعد أن كان مطلق السراح يخرج من بيت أحمد أغا ويذهب إلى بيت عمه الشريف غالب ويعود وحده فعند ذلك ضيقوا عليه وعلى عمه أيضًا‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشره حضر المشايخ عند كتخدا بك وعاودوه في الحطاب فيما أحدثوه على الرزق وعرفوه أنه يلزم من هذه الأحداث إبطال المساجد والشعائر فتنصل من ذلك وقال هذا شيء لا علاقة لي فيه وهذا شيء أمر به أفندينا ومحمود بك والمعلم غالي ثم كلموه أيضًا في صرف الجامكية المعروفة بالساثرة والدعا جوى للفقراء والعامة فوعدهم بصرفها وقت ما يتحصل المال فإن الخزينة فارغة من المال‏.‏

وفي يوم السبت حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما فذهب إليهما المشايخ في ثاني يوم ثم خاطبوهما بالكلام في شأن الرزق فأجابهم المعلم غالي بقوله يا أسيادنا هذا أمر مفروغ منه بأمر أفندينا من عام أول من قبل سفره فلا تتعبوا خاطركم واجب عليكم مساعدته خصوصًا في خلاص كعبتكم ونبيكم من أيدي الخوارج فلم يردوا عليه جوابًا وانصرفوا في ويم الأحد تاسع عشرينه حصل كسوف شمس وكان ابتداؤه بعد الشروق ومتداره قريبًا من الجرم وثم انجلاؤه في ثاني ساعة من النهار وكانت الشمس ببرج السرطان أربعًا وعشرين درجة في حادي عشر أبيب القبطي‏.‏

وفيه وصلت القافلة من ناحية السويس وأخبر الواصلون عن واقعة قنفدة وما حصل بها بعد دخول العسكر إليها وذلك أنهم لما ركبوا عليها برًا وبحرًا وكبيرهم محمود بك وزعيم أوغلي وشريف أغا فوجدوها خالية فطلعوا إليها وملكوها من غير ممانع ولا مدافع وليس بها غير أهلها وهم أناس ضعاف فقتلوهم وقطعوا آذانهم وأرسلوها إلى مصر ليرسلوها إلى إسلامبول وعندما علم العربان بمجيء الأتراك خلوا منها ويقال لهم عرب العسير وترافعوا عنها وكبيرهم يسمى طامي فلما استقر بها الأتراك ومضى عليهم نحو ثمانية أيام رجعوا عليهم وأحاطوا بهم ومنعوهم الماء فعند ذلك ركبوا عليهم وحاربوهم فانهزموا وقتل الكثير منهم ونجا محو بك بنفسه في نحو سبعة أنفار وكذلك زعيم أوغلي وشريف آغا فنزلوا في سفينة وهربوا فغضب الباشا وقد كان أرسل لهم نجدة من الشفاسية الخيالة فحاربهم العرب ورجعوا منهزمين من ناحية البر وتواتر هذا الخبر‏.‏

واستهل شهر شعبان بيم الثلاثاء سنة 1229 في ثانيه حضر ميمش أغا من الديار الحجازية وعلى يده فرمانات خطابًا لدبوس أوغلي وآخرين يستدعيهم إلى الحضور بعساكرهم وكان دبوس أوغلي في بلده البرلس فتوجه إليه الطلب وكذلك شرع كتخدا بك في اكتتاب عساكر أتراك ومغاربة وعربان وغير ذلك‏.‏

وفي رابعه سافر طائفة من العسكر وأرسل كتخدا بك يمنع الحجاج الواردين من بلاد الروم وغيرهم من النزول إلى السفائن الكائنة بساحل السويس والقصير وبأن يخلوها لأجل نزول العساكر المسافرين وبتأخير الحجاج وذلك أنه لما وصلت البشائر إلى الديار الرومية بفتح الحرمين وخلاص مكة وجدة والطائف والمدينة ووصول ابن مضيان والمضايفي وغيرهم إلى دار السلطنة وهروب الوهابيين إلى بلادهم فعملوا ولائم وأفراحًا وتهاني وكتبت مراسيم سلطانية إلى بلاد الرومنلي والأنضول بالبشائر بالفتح والإذن والترخيص والإطلاق لمن يريد الحج إلى الحرمين بالأمن والأمان والرفاهية والراحة فتحركت همم مريدي الحج لأن لهم سنين وهم ممتنعون ومتخوفون عن ورود الحج فعند ذلك أقبلوا أفواجًا بحريمهم وأولادهم ومتاعهم حتى أن كثيرًا من المتصوفين منهم باع داره وتعلقاته وعزم على الحج والمجاورة بالحرمين بأهله وعياله ولم يبلغهم استمرار الحروب وما بالحرمين من الغلاء والقحط إلا عند وصولهم إلى ثغر إسكندرية ولم يتحققوها إلا بمصر فوقعوا في حيرة ما بين مصدق ومكذب فمنهم من عزم على السفر ولم يرجع عن عزمه وسلم الأمر لله ومنهم من تأخر بمصر إلى أن ينكشف له الحال وقرروا على كل شخص من المسافرين في مراكب السويس عشرين فرانسة وذلك خلاف أجرة متاعه وما يتزود به في سفره فإنهم يزنونه بالميزان وعلى كل أقة قدر معلوم من الدراهم وأما من يسافر في بحر النيل على جهة القصير في مراكب الباشا فيؤخذ على رأس كل شخص من مصر القديمة إلى ساحل قنا ثلاثون قرشًا ثم عليه أجرة حمله من قنا إلى القصير ثم أجرة بحر القلزم إن وجد سفينة حاضرة وإلا تأخر إما بالقصير أو السويس حتى يتيسر له النزول ويقاسي ما يقاسيه في مدة انتظاره وخصوصًا في المال وغلو ثمنه ورداءته ولا يسافر شخص ويتحرك من مصر إلا بإذن كتخدا بك ويعطيه مرسومًا بالإذن وبلغني أن الذين خرجوا من إسلامبول خاصة بقصد الحج نحو العشرة آلاف خلاف من وصل من بلاد الرومنلي والأنضول وغيرهما وحضر الكثير من أعيانهم مثل أمام السلطان وغيره فنزل البعض بمنزل عثمان آغا وكيل دار السعادة سابقًا والبعض بمنزل السيد محمد المحروقي وبيت شيخ السادات ومنهم من استأجر دورًا في الخانات والوكائل‏.‏

وفيه حضر قاصد من باب الدولة وعلى يده مرسوم مضمونه الأمر باسترجاع ما أخذ من الشريف غالب من المال والذخائر إليه وكان الباشا أرسل إلى الدولة بسجتي لؤلؤ عظام من موجودات الشريف فحضر بهما ذلك القبجي وردهما إلى الشريف غالب ثم سافر ذلك القبجي بالأوامر إلى الباشا بالحجاز‏.‏

وفي سابعه وصلت هجانة باستعجال العساكر وتولى حضور الهجانة لمخصوص الاستعجال‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشره أنزلوا الشريف غالبًا إلى بولاق بحريمه وأولاده وعبيده وكان قد وصل إلى مصر آغا معين بقصد سفر المذكور إلى سلانيك فنزل صحبته إلى بولاق وصالحوه عما أخذ منه من المال وغيره بخمسمائة كيس فأرادوا دفعها له قروشًا فامتنع قائلًا أنهم أخذوا مالي ذهبًا مشخصًا فرانسة فكيف آخذ بدل ذلك نحاسًا لأنفع بها في غير مصر فأعطوه مائتي كيس ذهبًا وفرانسة وتحول الباقي وكيله مكي الخولاني ثم زودوه وأعطوه سكرًا وبنًا وأرزًا وشرابات وغير ذلك ونزل مسافرًا إلى المراكب صحبة المعين إلى الحجاز من ناحية القصير وبرز ابن باشت طرابلس وصحبته عساكر أيضًا من ناحية العادلية وآخر يقال له قنجة بك ومعهم نحو الألف وفي يوم الخميس رابع عشرينه الموافق لسادس شهر مسرى القبطي أو في النيل المبارك أذرعه فداروا بالرايات ونودي بالوفاء وكسروا السد في صبح يوم الجمعة بحضرة كتخدا بك والقاضي والجم الغفير من العساكر‏.‏

وفي أواخره وصلت الأخبار بأن الباشا توجه إلى الطائف وأبقى حسن باشا بمكة‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأربعاء سنة 1229 في رابعه حضر موسى آغا تفكجي باشا من الديار الحجازية وكان فيمن باشر حرابة قنفدة ومن جملة من انهزم بها وهلكت جميع عساكره وخدمه ورجع إلى مصر وصحبته أربعة أنفار من الخدم‏.‏

وفي عاشره خرجت العساكر المجردة لسفر الحجاز إلى بركة الحج وهم مغاربة وعربان وارتحلوا يوم الأحد ثاني عشره‏.‏

وفي الأربعاء خامس عشره برز دبوس أوغلي خارج باب الفتوح ليسافر بعساكره إلى الحجاز وكذلك حسن آغا سرششمه ونصبوا خيامهم واستمروا يخرجون من المدينة ويدخلون غدوًا وعشيًا وهم يأكلون ويشربون جهارًا في نهار رمضان ويقولون نحن مسافرون ومجاهدون ويمرون بأسواق ويجلسون على المساطب وبأيديهم الأقصاب والشبكات التي يشربون فيها الدخان من غير احتشام ولا حياء ويجوزون بحارات الحسينية على القهاوي في الضحوة فيجدونها مغلوقة فيسألون عن القهوجي ويطلبونه ليفتح لهم القهوة ويوقد لهم النار ويغلي لهم القهوة ويسقيهم فربما هرب القهوجي واختفى منهم فيكسرون الباب ويعبثون بآلاته وأوانيه فما يسعه إلا المجيء وإيقاد النار وأشيع من ذلك أنه اجتمع بناحية عرضيهم وخيامهم الجم الكثير من النساء الخواطي والبغايا ونصبوا لهن خيامًا وأخصاصًا وانضم إليهن بياع البوظة والعرقي والحشاشون والغوازي والرقاصون وأمثال ذلك وانحشر معهم الكثير من الفساق وأهل الأهواء والعياق من أولاد البلد فكانوا جمعًا عظيمًا يأكلون الحشيش ويشربون المسكرات ويزنون ويلوطون ويشربون الجوزة ويلعبون القمار جهارًا في نهار رمضان ولياليه مختلطين مع العساكر كأنما سقط عن الجميع التكاليف وخلصوا من الحساب وسمعت ممن شاهد بعينه محمود بك المهردار الذي هو أعظم أعيانهم وهو المتولي على قياس الأراضي مع المعلم غالي وهو جالس في ديوانهم المخصوص بالقرب من سويقة اللالا وهو يشرب في النارجيلة التنباك ويأتونه بالغداء جهارًا ويقول أنا مسافر الشرقية لعمل نظام الأراضي‏.‏

وفي غايته وصلت هجانة باستعجال العساكر‏.‏

في ليلته قلدوا عبد الله كاشف الدرندالي أميرًا على ركب الحجاج‏.‏

وفي يوم السبت ثالثه خرج دبوس أوغلي في موكب إلى مخيمه وكذلك‏.‏

حسن آغا سرشه ليسافر إلى الحجاز‏.‏

وفي يوم السبت حادي عسره نزلوا بكسوة الكعبة بالطبول والزمور إلى المشهد الحسيني واجتمع الناس على عاداتهم للفرجة‏.‏

وفيه انتقل محمود بك والمعلم غالي إلى بيت حسن آغا نجاتي وعملوا ديوانهم فيه وتلقوا الجنينة التي به جلسوا تحت أشجارها وربط الأقباط حميرهم فيها وشرع محمود بك في عمارة الجهة القبلية منه وانزوت صاحبة المنزل في ناحية منه‏.‏

وفي سابع عشره ارتحل دبوس أوغلي وحسن آغا سرششمه ومن معهم من العساكر من منزلتهم متوجهين إلى الديار الحجازية‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشرينه رسم كتخدا بك بنفي طائفة من الفقهاء من ناحية طندتا إلى أبي قير بسبب فتيا أفتوها في حادثة ببلدهم وقضى بها قاضيهم وأنهيت الدعوى إلى ديوان مصر فطلبوا إلى إعادة الدعوى فحضروا وترافعوا إلى قاضي العسكر وأثبتوا عليهم الخطا فرسم بنفي الشاكي والمفتيين ولقاضي ربعهم‏.‏

وفي يوم السبت رابع عشرينه عملوا موكبًا لخروج المحمل واستعد الناس للفرجة على عادتهم فكان عبارة عن نحو مائة جمل تحمل روايا الماء والقرب وعدة من طائفة الدلاة على رؤوسهم طراطير سود قلابها وأمير الحاج على شكلهم وخلفه أرباب الأشاير ببيارقهم وشراميطهم وطبولهم وزمورهم وجاقاتهم وخلفهم المحمل فكان مدة مرورهم مع تقطيعهم وعدم نظامهم نحو ساعتين فأين ما كان يعمل من المواكب بمصر التي يضرب بحسنها وترتيبها ونظامها المثل في الدنيا فسبحان مغير الشؤون والأحوال‏.‏

وفيه خرجت زوجة الباشا الكبيرة وهي أم أولاده تريد الحج إلى خارج باب النصر في ثلاثة تخوت والمتسفر بها بونابارته الخازندار وقد حضر لوداعها ولدها إبراهيم باشا من الصعيد وخرج لتشييعها هو وأخوه إسمعيل باشا وصحبتهما محرم بك زوج ابنتها حاكم الجيزة ومصطفى بك دالي باشا ويقال أنه أخوها وكذلك محمد بك الدفتردار زوج ابنتها أيضًا وطاهر باشا وصالح بك السلحدار وارتحلت ومن معها في سدس عشرينه إلى بندر السويس وفي ذلك اليوم برزت عساكر المغاربة وغيرهم ممن تعسكر وارتحل أمير الحج من الحصوة إلى البركة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خرجت عساكر كثيرة مجردين للسفر‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشرينه ارتحل أمير الحج ومن معه من البركة في تاسع ساعة من النهار وفي ذلك اليوم هبت رياح غربية شمالية باردة واشتد هبوبها أواخر النهار وأطبقت السماء بالغيوم والقتام وأبرق البرق برقًا متتابعًا وأرعدت رعدًا له دوي متصل ولما قرب من سمت رؤوسنا كان له صوت عظيم مزعج ثم نزل مطر غزير استمر نحو نصف ساعة ثم سكن بعد أن تبحرت منه الأزقة والطرق وكان ذلك اليوم رابع شهر بابه القبطي‏.‏

وفيه ورد الخبر من السويس أن امرأة الباشا لما وصلت إلى هناك وجدت عالمًا كبيرًا من الحجاج المختلفة الأجناس ممنوعين من نزول المراكب فصرخوا في وجهها وشكوا إليها تخلفهم وأن أمير البندر مانعهم من النزول في المراكب وبذلك المنع يفوتهم الحج الذي تجشموا الأسفر وصرفوا أيضًا الأموال من أجله وهم في مشقة عظيمة من عدم الماء ولا يمكنهم الرجوع لعدم من يحملهم وأن أمير البندر يشتط عليهم في الأجرة ويأخذ على كل رأس خمسة عشر فرانسة فحلفت أنها لا تنزل من المركب حتى ينزل جميع من السويس من الحجاج المراكب ولا يؤخذ منهم إلا القدر الذي جعلته على كل فرد منهم فكان ما حكمت به هذه الحرمة صار لها به منقبة حميدة وذكرًا حسنًا وفرجًا لهؤلاء الخلائق بعد الشدة‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم السبت سنة 1229 وفي يوم الاثنين نادى المنادي بوقود قناديل سهارى على البيوت والوكائل وكل أربع دكاكين قنديل‏.‏

وفي ثامنه جرسوا شخصًا وأركبوه على حمار بالمقلوب وهو قابض بيده على ذنب الحمار وعمموه بمصارين ذبيحة وعلى كتفه كرش بعد أن حلقوا نصف لحيته وشواربه قيل أن سبب ذلك أنه زور حجة تقرير على أماكن تتعلق بامرأة أجنبية وباع تلك الأماكن وكانت تلك المرأة غائبة من مصر فلما حضرت وجدت مكانها مسكونًا بالذي اشتراه فرفعت قصتها إلى كتخدا بك ففعل به ذلك بعد وضوح القضية‏.‏

وفي ثاني عشره سافر عبد الله ابن الشريف سرور إلى الحجاز باستدعاء من الباشا فأعطوه أكياسًا وقضى أشغاله وخرج مسافرًا‏.‏

وفيه وقعت حادثة بحارة الكعكيين بين شخصين من الدلاتية رمحا خلف غلام بدوي عمل نفسه عسكريًا مع طائفة المغاربة يدعي أحدهما أن له عنده دراهم فهرب منهما إلى الخطة المذكورة فرمحا خلفه وبيد كل منهما سيفه مسلولًا فدخل الغلام إلى عطفة الحمام وفزعت عليهما المغاربة المتعسكرون القاطنون بتلك الناحية وضربوا عليهما بنادق فسقط حصان أحد الدلاة وأطيب راكبه وهرب رفيقه إلى كتخدا بك فأخبره فأمر بإحضار كبراء المغاربة وطالبهم بالضارب فلم يتبين أمره وقبضوا على الغلام الهارب فحبسوه وفي ذلك الوقت حصل بين الناس فزعة وأغلقت أهل سوق الغورية والشوائين والفحامين حوانيتهم وبقي ذلك الغلام محبوسًا ومات الدلاتي المضروب في ليلة السبت خامس عشره فأحضروا ذلك الغلام إلى باب زويلة وقطعوا رأسه ظلمًا ولم يكن هو الضارب‏.‏

وفي عشرينه سافر ابن باشت طرابلس وسافر معه عسكر المغاربة الخيالة‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة سنة 1229 في أوله ورد نجاب من الحجاز وأخبر بموت طاهر أفندي وهو أفندي ديوان الباشا وكان موته في شهر شوال بالمدينة حتف أنفه وورد الخبر أيضًا بصلح الشريف راجح مع الباشا وأنه قابله وأكرمه وأنعم عليه بمائتي كيس وأخبر أيضًا بأنه تركه الباشا بناحية الكلخة وهي ما بين الطائف وتربة وانقضت السنة بحوادثها‏.‏

وأما من مات في هذه السنة فمات العمدة الفاضل الفقيه النبيه الشيخ حسين المعروف بابن الكاشف الدمياطي ويعرف بالرشيدي تعلق بالعلم وانخلع من الآمرية والجندية وحضر أشياخ العصر ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي وانتقل من مذهب الحنفية إلى الشافعية لملازمته لهم في المعقول والمنقول وتلقى عن السيد مرتضى أسانيد الحديث والمسلسلات وحفظ القرآن في مبدأ أمره برشيد وجوده على السيد صديق وحفظ شيئًا من المتون قبل مجيئه إلى مصر واكب على الاشتغال بالأزهر وتزيا بزي الفقهاء بلبس العمامة والفرجية وتصدر ودرس في الفقه والمعقول وغيرهما ولما وصل محمد باشا إلى ولاية مصر اجتمع عليه عند قلعة أبي قير فجعله إمامًا يصلى خلفه الأوقات وحضر معه إلى مصر ولم يزل مواظبًا على وظيفته وانتفع بنسبته إليه واقتنى حصصًا وإقطاعات وتقلد قضايا مناصب البلاد البنادر ويأخذ ممن يتولاها الجعالات والهدايا وأخذ أيضًا نظر وقف أزبك وغيره ولم يزل تحت نظره بعد انفصال محمد باشا خسرو واستمر المذكور على القراءة والإقراء حتى توفي أواخر السنة‏.‏

ومات الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمل وهو أخو الشيخ سليمان الجمل تفقه على أخيه ولازم دروسه وحضر غيره من أشياخ العصر ومشى على طريقة أخيه في التقشف والانجماع عن خلطة الناس ولما مات أخوه وكان يملي الدروس بجامع المشهد الحسيني بين المغرب والعشاء على جمع مجاوري الأزهر والعامة تصدر للإقراء في محله في ذلك الوقت فقر الشمايل والمواهب والجلالين ولم يزل على حالته حتى توفي ثاني عشر ذي الحجة‏.‏

ومات الشيخ المفيد محمد الأسناري الشهير بجاد المولى ممن جاور بالأزهر دروس أشياخ الوقت من أهل عصره ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي في دروسه وبه تخرج وواظب عليه مجالس الذكر وتلقى عنه طريقة الخلوتية وألبسه التاج وتقدم في خطابة الجمعة والأعياد بالجامع الأزهر بدلًا عن الشيخ عبد الرحمن البكري عندما رفعوها عنه وخطب بجامع عمر وبمصر العتيقة يوم الاستسقاء عندما قصرت زيادة النيل في سنة ثلاث وعشرين وتأخر في الزيادة عن أوانه ولما حضر محمد باشا خسرو إلى مصر وصلى صلاة الجمعة بالأزهر في سنة سبع عشرة خلع عليه بعد الصلاة فروة سمور فكان يخرجها من الخزنة ويلبسها وقت خطبة الجمعة والأعياد وواظب على قراءة الكتب للمبتدئين كالشيخ خالد والأزهرية ثم قرأ شرح الأشموني على الخلاصة واشتهر ذكره ونما أمره في أقل زمن وكان فصيحًا مفوهًا في التقرير والإلقاء لتفهيم الطلبة ولم يزل على حالة حميدة في حسن السلوك والطريقة حتى توفي في شهر ذي الحجة وقد ناهز الأربعين‏.‏

سنة ثلاثين ومائتين وألف استهل شهر المحرم بيوم الثلاثاء في خامسه وصل نجاب من الحجاز وعلى يده مكاتبات بالأخبار عن الباشا والحجاج بأنهم حجوا ووقفوا بعرفة وقضوا المناسك‏.‏

وفي تاسعه حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية إلى داره بالجمالية‏.‏

وفي عاشره يوم الخميس وصل في ليلته قابجي وعلى يده تقرير للباشا من الحجاز إلى ساحل القصير فضربوا لذلك مدافع من القلعة‏.‏

وفي صبحها خرج ابن الباشا وأخوه وكذلك أكابر دولتهم إلى ناحية البساتين ومنهم من عدى النيل إلى البر الغربي لملاقاته على مقتضى عادته في عجلته في الحضور وعلى حساب مضي الأيام من يوم وصوله إلى القصير فغابوا في انتظاره حتى انقضى النهار ثم رجعوا‏.‏

وفي صبح اليوم الثاني خرجوا ثم عادوا إلى دورهم آخر النهار واستمروا على الخروج والرجوع ثلاثة أيام ولم يحضر وكثر لغط الناس عند ذلك واختلفت رواياتهم وأقاويلهم مدة أيام ليلًا ونهارًا ثم ظهر كذب هذا الخبر وأن الباشا لم يزل بأرض الحجاز وقيل أن سبب إشاعة خبر مجيئه أنه وصل إلى ساحل القصير سفينة بها سبعة عشر شخصًا من العسكر فسألهم الوكيل الكائن بالقصير عن مجيئهم فأجابوه أنهم مقدمة الباشا وأنه واصل في أثرهم فعندما سمع جوابهم أرسل خطابًا إلى كاتب من الأقباط بقنا يعرفه بقدوم الباشا فكتب ذلك القبطي خطابًا إلى وكيل شخص من أعيان كتبة الأقباط بأسيوط يسمى المعلم بشارة فعندما وصله الجواب أرسل جوابًا إلى موكله بشارة المكور بمصر بذلك الخبر وفي الحال طلع به إلى القلعة وأعطاه لإبراهيم باشا فانتقل به إبراهيم باشا إلى مجلس كتخدا بك فخلع كتخدا بك على بشارة خلعة وأمر بضرب المدافع ونزلت المبشرون وانتشروا بالبشائر إلى بيوت الأعيان وأخذ البقاشيش في اختلاف الروايات والأقاويل كعادتهم فمنهم من يقول أنه حضر مهزومًا ومنهم من يقول مجروحًا ومنهم من يثبت موته والشيء الذي أوجب في الناس هذه التخليطات ما شاهدوه من حركات أهل الدولة وانتقال نسائهم من المدينة وطلوعهم إلى القلعة بمتاعهم وإخلاء الكثير منهم البيوت وانتقال طائفة الأرنؤد من الدور المتباعدة واجتماعهم وسكناهم بناحية خطة عابدين وكذلك انتقل إبراهيم باشا إلى القلعة ونقل إليها الكثير من متاعه وأغرب من هذا كله إشاعة اتفاق عظماء الدولة على ولاية إبراهيم باشا على الأحكام عوضًا عن أبيه في يوم الخميس ويرتبوا له موكبًا يركب فيه ذلك اليوم ويشق من وسط المدينة واجتمع الناس للفرجة عليه واصطفوا على المساطب والدكاكين فلم يحصل وظهر كذب ذلك كله وبطلانه واتفق في أثناء ذلك من زيادة الأوهام والتخيلات أن رضوان كاشف المعروف بالشعراوي سد باب داره التي بالشارع بخط باب الشعرية وفتح له بابًا صغيرًا من داخل العطفة التي بظاهره فأوشى بعض مبغضيه إلى كتخدا بك فعلته في هذا الوقت والناس يزداد بهم الوهم ويعتقدون صحة ما دار بينهم من الأكاذيب وخصوصًا كونه من الأعيان المعروفين فطلبه كتخدا بك وقال له لأي شيء سددت باب دارك وما الذي قاله المنجم لك فقال أن طائفة من العساكر تشاجروا بالخطة ودخلوا إلى الدار وأزعجونا فسددتها من ناحية الشارع بعدًا من الشر وخوفًا مما جرى على داري سابقًا من النهب فلم يلتفت لكلامه وأمر بقتله فشفع فيه صالح بك السلحدار وحسن آغا مستحفظان فعفا عنه من القتل وأمر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي ثم نزل بصحبته الآغا إلى داره وفتح الباب كما كان‏.‏

وفي رابع عشرينه وصلت مكاتبات من الديار الحجازية من عند الباشا وخلافه مؤرخة في ثالث عشر ذي الحجة يذكرون فيها ان الباشا بمكة وطوسون باشا ابنه بالمدينة وحسن باشا وأخاه عابدين بك وخلافهم بالكلخة ما بين الطائف وتربة‏.‏

ودخلت سنة 1230 واستهل شهر صفر الخير بيوم الخميس سنة 1230 في خامس عشرينه نودي بنقص مصارفة أصناف المعاملة وقد وصل صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية إلى ثلثمائة وأربعين نصفًا عنها ثمانية قروش ونصف فنودي عليه بنقص نصف قرش والمحبوب وصل إلى عشرة قروش فنودي عليه بتسعة قروش وشددوا في هذه المناداة تشديدًا زائدًا وقتل كل من زاد من غير معارضة وكتبوا مراسيم إلى جميع البنادر وفيها وفي أواخره التزم المعلم غالي بمال الجزية التي تطلب من النصارى على خمسة وثمانين كيسًا وسبب ذلك أن بعض أتباع المقيد لقبض الجوالي قبض على شخص من النصارى وكان من قسوسهم وشدد عليه في الطلب وأهانه فأنهوا الأمر إلى المعلم غالي ففعل ذلك قصدًا لمنع الإيذاء عن أبناء جنسه ويكون الطلب منه عليهم ومنع المتظاهرين بالإسلام عنهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت سنة 1230 في تاسعه وصلت قافلة طيارى من الحجاز قدم صحبتها السيد عبد الله القماعي ومعها هجانة من الحجاز وعلى يدهم مكاتبات وفيها الأخبار والبشرى بنصرة الباشا على العرب وأنه استولى على تربة وغنم منها جمالًا وغنائم وأخذ منهم أسرى فلما وصلت الأخبار بذلك انطلق المشردون إلى بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش وضربوا في صبحها مدافع كثيرة من القلعة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشره كان المولد النبوي فنودي في صبحه بزينة المدينة وبولاق ومصر القديمة ووقود القناديل والسهر ثلاثة أيام بلياليها فلما أصبح يوم الأربعاء والزينة بحالها إلى بعد أذان العصر نودي برفعها ففرح أهل الأسواق بإزالتها ورفعها لما يحصل لهم من التكاليف والسهر في البرد والهواء خصوصًا وقد حصل في آخر ليلة رياح شديدة‏.‏

وفي هذه الأيام سافر محمود بك والمعلم غالي ومن يصحبهما من النصارى الأقباط وأخذوا معهم طائفة من الكتبة الأفندية المختصين بالروزنامة ومنهم محمد أفندي المنفصل عن الروزنامة ونزلوا لإعادة قياس الأراضي وتحرير الري والشراقي وسبقهم القياسون بالأقصاب نزلوا وسرحوا قبلهم بنحو عشرة أيام وشرع كشاف النواحي في قبض الترويجة من المزارعين وفرضوا على كل فدان الأدنى تسعة ريالات إلى خمسة عشر بحسب جودة الأراضي ورداءتها وهذا الطلب في غير وقته لأنه لم يحصل حصاد للزرع وليس عند الفلاحين ما يقتاتون منه ومن العجب أنه لم يقع مطر في هذه السنة أبدًا ومضت أيام الشتاء ودخل فصل الربيع ولم يقع غيث أبدًا سوى ما كان يحصل في بعض الأيام من غيوم وأهوية غربية ينزل مع هبوبها بعض رشاش قليل لا تبتل الأرض منه ويجف بالهواء بمجرد نزوله‏.‏

وفي أواخره ورد لحضرة الباشا هدية من بلاد الإنكليز وفيها طيور مختلفة الأجناس والأشكال كبار وصغار وفيها ما يتكلم ويحاكى وآلة مصنوعة لنقل الماء يقال لها الطلمبه وهي تنقل الماء إلى المسافة البعيدة ومن الأسفل إلى العلو ومرآة زجاج نجف كبيرة قطعة واحدة وساعة تضرب مقامات موسيقى في كل ربع يمضي من الساعة بأنغام مطربة وشمعدان به حركة غريبة كلما طالت فتيلة الشمعة غمز بحركة لطيفة فيخرج منه شخص لطيف من جانبه فيقط رأس الفتيلة وفيه عملوا تسعيرة على المبيعات والمأكولات مثل اللحم والسمن والجبن والشمع ونادوا بنقص أسعارها نقصًا فاحشًا وشددوا في ذلك بالتنكيل والشنق والتعليق وخرم الآناف فارتفع السمن والزبد والزيت من الحوانيت وأخفوه وطفقوا يبيعونه في العشيات بالسعر الذي يختارونه على الزبون وأما السمن فلكثرة طلبه لأهل الدولة شح وجوده وإذا ورد منه شيء خطفوه وأخذوه من الطريق بالسعر الذي سعره الحاكم وانعدم وجوده عند القبانية وإذا بيع منه شيء بيع سرابًا قصى الثمن وأما السكر والصابون فبلغا الغاية في غلو الثمن وقلة الوجود لأن إبراهيم باشا احتكر السكر بأجمعه الذي يأتي من الصعيد وليس بغير الجهة القبلية شيء منه فيبيعه على ذمته وهو في الحقيقة لأبيه ثم صار نفس الباشا يعطي لأهل المطابخ بالثمن الذي يعنيه عليهم ويشاركهم في ربحه فزاد غلو ثمنه على الناس وبيع الرطل من السكر الصعيدي الذي كان يباع بخمسة أنصاف فضة بثمانين نصفًا وأما الصابون ففرضوا على تجاره غرامة فامتنع وجوده وبيع الرطل الواحد منه خفية بستين نصفًا وأكثر وفي هذه الأيام غلا سعر الحنطة والفول وبيع الأردب بألف ومائتي نصف فضة خلاف الكلف والأجرة مع أن الأهراء والشون ببولاق ملآنة بالغلال ويأكلها السوس ولا يخرجون منها للبيع شيئًا حتى قيل لكتخدا بك في إخراج شيء منها يباع في الناس فلم يأذن وكأنه لم يكن مأذونًا من مخدومه‏.‏

في ثامنه عمل محرم بك الكورنتينة بالجيزة على نسق السنة الماضية من إخراج الناس وإزعاجهم تطيرًا خوفًا من الطاعون‏.‏

وفيه خوزقوا شيخ عرب بلى فيما بين العرب والهلايل بعد حبسه أربعة أشهر‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه ضربت مدافع وأشيع الخبر بوصول شخص عسكري بمكاتبات من الباشا وخلافه والخبر بقدوم الباشا وانتشرت المبشرون إلى بيوت الأعيان وأصحاب المظاهر على عاداتهم لأخذ البقاشيش فمن قائل أنه وصل إلى القصير ومن قائل أنه نزل إلى السفينة بالبحر ومنهم من يقول أنه حضر إلى السويس ثم اختلفت الروايات وقالوا أن الذي وصل إلى السويس حريم الباشا فقط ثم تبين كذب هذه الأقاويل وأنها مكاتبات فقط مؤرخة أواخر شهر صفر يذكرون فيها أن الباشا حصل له نصر واستولى على ناحية يقال لها بيشة ورينة وقتل الكثير من الوهابيين وأنه عازم على الذهاب إلى ناحية قنفدة ثم ينزل بعد ذلك إلى البحر ويأتي إلى مصر ووصل الخبر بوفاة الشيخ إبراهيم كاتب الصرة‏.‏ واستهل

شهر جمادى الأول بيوم الثلاثاء سنة 1230

في سادسه يوم الأحد ضربت مدافع بعد الظهيرة لورود مكاتبة بأن الباشا استولى على ناحية وفي يوم الجمعة ثامن عشره وصل المحمل إلى بركة الحج وصحبته من بقي من رجال الركب مثل خطيب الجبل والصيرفي والمحملجية ووردت مكاتبات بالقبض على طامي الذي جرى منه ما جرى في وقائع قنفدة السابقة وقتله العساكر فلم يزل راجح الذي اصطلح مع الباشا ينصب له الحبائل حتى صاده وذلك أنه عمل لابن أخيه مبلغًا من المال إن هو أوقعه في شركه فعمل له وليمة ودعاه إلى محله فأتاه آمنًا فقبض عليه واغتاله طمعًا في المال وأتوا به إلى عرضي الباشا فوجهه إلى بندر جدة في الحال وأنزلوه السفينة وحضروا به إلى السويس وعجلوا بحضوره فلما وصل إلى البركة والمحمل إذ ذاك بها خرجت جميع العساكر في ليلة الاثنين حادي عشرينه وانجروا في صبحها طوائف وخلفهم المحمل مبعد مرورهم دخلوا بطامي المذكور وهو راكب على هجين وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في عنق الهجين وصورته رجل شهم عظيم اللحية وهو لابس عباءة عبدانية ويقرأ وهو راكب وعملوا في ذلك اليوم شنكًا ومدافع وحضر أيضًا عابدين بك وتوجه إلى داره في ليلة الاثنين‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس سنة 1230 في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس وحضروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة إعلامًا وإشارة بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم حتى أن طوسون باشا وحسن باشا كتبا في إمضائهما على المراسلات بعد اسمهما لفظة المغازي والله أعلم بخلقه‏.‏

وفي تاسعه أخرجوا عساكر كثيرة وجوههم إلى الثغور ومحافظة الأساكل خوفًا من طارق يطرق الثغور لأنه أشيع أن بونابارته كبير الفرنساوية خرج من الجزيرة التي كان بها ورجع إلى فرنسا وملكها وأغار على بلاد الجورنة وخرج بعمارة كبيرة لا يعلم قصده إلى أي جهة يريد فربما طرق ثغر الإسكندرية أو دمياط على حين غفلة وقيل غير ذلك وسئل كتخدا بك عن سبب خروجهم فقال خوفًا عليهم من الطاعون ولئلا يوخموا المدينة لأنه وقع في هذه السنة موثان بالطاعون وهلك الكثير من العسكر وأهل البلدة والأطفال والجواري والعبيد خصوصًا السودان فإنه لم يبق منهم إلا القليل النادر وخلت منهم الدور‏.‏

وفي منتصفه أخرج كتخدا بك صدقة تفرق على الأولاد الأيتام الذين يقرؤون بالكتاتيب ويدعون برفع الطاعون فكانوا يجمعونهم ويأتي بهم فقهاؤهم إلى بيت حسن كتخدا الكتخدا عند مصلى ويدفعون لكل صغير ورقة بها ستون نصفًا فضة يأخذ منها جزأ الذي يجمع الطائفة منهم ويدعى أنه معلمهم زيادة عن حصته لأن معلم المكاتب مغلوقة وليس بها أحد بسبب تعطيل الأوقاف وقطع إيرادهم وصار لهذه الأطفال جلبة وغوغاء في ذهابهم ورجوعهم في الأسواق وعلى بيت الذي يقسم عليهم‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1230 في سادسه يوم الأربعاء وصلت هجانة من ناحية قبلي وأخبروا بوصول الباشا إلى القصير فخلع عليهم كتخدا بك كساوى ولم يأمر بعمل شنك ولا مدافع حتى يتحقق صحة الخبر‏.‏

وفي ليلة الجمعة ثامنه احترق بيت طاهر باشا بالأزبكية والبيت الذي بجواره أيضًا‏.‏

وفي يوم الجمعة المذكور قبل العصر ضربت مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وذلك عندما ثبت وتحقق ورود الباشا إلى قنا وقوص ووصل أيضًا حريم الباشا وطلعوا إلى قصر شبرا وركب للسلام عليها جميع نساء الأكابر والأعيان بهداياهم وتقادمهم ومنعوا المارين من المسافرين والفلاحين الواصلين من الأرياف المرور من تحت القصر الذي هو الطريق المعتادة للمسافرين فكانوا يذهبون ويمرون من طريق استحدثوها منعطفة خلف تلك الطريق ومستبعدة بمسافة طويلة‏.‏

وفي ليلة الخميس رابع عشره انخسف جرم القمر جميعه بعد الساعة الثالثة وكان في آخر برج وفي ليلة الجمعة خامس عشره وصل الباشا إلى الجيزة ليلًا فأقام بها إلى آخر الليل ثم حضر إلى داره بالأزبكية فأقام بها يومين وحضر كتخدا بك وأكابر دولته للسلام عليه فلم يأذن لأحد وكذلك مشايخ الوقت ذهبوا ورجعوا ولم يجتمع به أحد سوى ثاني يوم وترادفت عليه التقادم والهدايا من كل نوع من أكابر الدولة والنصارى بأجناسهم خصوصًا الأرمن وخلافهم بكل صنف من التحف حتى السراري البيض بالحلي والجواهر وغير ذلك وأشيع في الناس في مصر وفي القرى بأنه تاب عن الظلم وعزم على إقامة العدل وأنه نذر على نفسه أنه إذا رجع منصورًا واستولى على أرض الحجاز أفرج للناس عن حصصهم ورد الأرزاق الأحباشية إلى أهلها وزادوا على هذه الإشاعة أنه فعل ذلك في جميع النواحي وباتوا يتخيلونه في أحلامهم ولما مضى من وقت حضوره ثلاثة أيام كتبوا أوراقًا لمشاهير الملتزمين مضمونها أنه بلغ حضرة أفندينا ما فعله الأقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في فائظهم فلم يرض بذلك والحال أنكم تحضرون بعد أربعة أيام وتحاسبون على فائظكم وتقبضونه فغن أفندينا لا يرضى بالظلم وعلى الأوراق إمضاء الدفتردار ففرح أكثر المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته وأشاعوا أيضًا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق للمعلم غالي وأكابر القبط‏.‏

وفي رابع عشرينه حضر الكثير من أصحاب الأرزاق الكائنين بالقرى والبلاد مشايخ وأشرافًا وفلاحين ومعهم بيارق وأعلام مستبشرين وفرحين بما سمعوه وأشاعوه وذهبوا إلى الباشا وهو يعمل رماحة بناحية القبة برمي بنادق كثيرة وميدان تعليم فلما رآهم وأخبروه عن سبب مجيئهم فأمر بضربهم وطردهم ففعلوا بهم ذلك ورجعوا خائبين‏.‏

وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما وقابلا الباشا وخلع عليهما وكساهما وألبسهما فراوي سمور فركب المعلم غالي وعليه الخلعة وشق من وسط المدينة وخلفه عدة كثيرة من الأقباط ليراه الناس ويكمد الأعداء ويبطل ما قيل من التقولات ثم أقام هو ومحمود بك أيامًا قليلة ورجعا لأشغالهما وتتميم أفعالهما من تحرير القياس وجبي الأموال وكانا أرسلا قبل حضورهما عدة كثيرة من الجمال الحاملة للأموال في كل يوم قطارات بعضها أثر بعض من الشرقية والغربية والمنوفية وباقي الأقاليم‏.‏

وفيه حضر شيخ طرهونة بجهة قبلي ويسمى كريم بضم الكاف وفتح الراء وتشديد الياء وسكون الميم وكان عاصيًا على الباشا ولم يقابله أبدًا فلم يزل يحتال عليه إبراهيم باشا ويصالحه ويمنيه حتى أتى إليه وقابله وأمنه فلما حضر الباشا أبوه من الحجاز أتاه على أمان ابنه وقدم معه هدية وأربعين من الإبل فقبل هديته ثم أمر برمي عنقه بالرميلة‏.‏

والناس في أمر مريج من قطع أرزاقهم وأرباب الالتزامات والحصص التي ضبطها الباشا ورفع أيديهم عن التصرف في شيء منها خلاطين الأوسية فإنه سامحهم فيه سوى ما زاد عن الروك الذي قاسوه فإنه لديوانه ووعدهم بصرف المال الحر المعين بالسند الديواني فقط بعد التحرير والمحاققة ومناقضة الكتبة الأقباط في القوائم وأقاموا منتظرين إنجاز وعده أيامًا يغدون ويروحون ويسألون الكتبة ومن له صلة بهم وقد ضاق خناقهم من التفليس وقطع الإيراد ورضوا بالأقل وتشوقوا لحصوله وكل قليل يعدون بعد أربعة أيام أو ثلاثة أيام حتى تحرر الدفاتر فإذا تحررت قيل أن الباشا أمر بتغييرها وتحريرها على نسق آخر ويكرر ذلك ثانيًا وثالثًا على حسب تفاوت المتحصل في السنين وما يتوفر في الخزينة قليلًا أو كثيرًا‏.‏

وفيه وصل رجل تركي على طريق دمياط يزعم أنه عاش من العمر زمنًا طويلًا وأنه أدرك أوائل القرن العاشر ويذكر أنه حضر إلى مصر مع السلطان سليم وأدرك وقته وواقعته مع السلطان الغوري وكان في ذلك الوقت تابعًا لبعض البيرقدارية وشاع ذكره وحكي من رآه أن ذاته تخالف دعواه وامتحنه البعض في مذاكرة الأخبار والوقائع فحصل منه تخليط ثم أمر الباشا بنفيه وإبعاده فأنزلوه في مركب وغاب خبره فيقال أنهم أغرقوه والله أعلم‏.‏

وفي خامس عشرينه عملوا الديوان ببيت الدفتردار وفتحوا باب صرف الفائظ على أرباب حصص الالتزام فجعلوا يعطون منه جانبًا وأكثر ما يعطونه نصف القدر الذي قرروه وأقل وأزيد قليلًا‏.‏

وفيه أمر الباشا لجميع العساكر بالخروج إلى الميدان لعمل التعليم والرماحة خارج باب النصر حيث قبة العزب فخرجوا من ثلث الليل الأخير وأخذوا في الرماحة والبندقة المتواصلة المتتابعة مثل الرعود على طريقة الإفرنج وذلك قبيل الفجر إلى الضحوة ولما انقضى ذلك رجعوا داخلين إلى المدينة في كبكبة عظيمة حتى زحموا الطرق بخيولهم من كل ناحية وداسوا أشخاصًا من الناس بخيولهم بل وحميرًا أيضًا وأشيع أن الباشا قصده إحصاء العسكر وترتيبهم على النظام الجديد وأوضاع الإفرنج ويلبسهم الملابس المقمطة ويغير شكلهم وركب في ثاني يوم إلى بولاق وجمع عساكر ابنه إسمعيل باشا وصنفهم على الطريقة المعروفة بالنظام الجديد وعرفهم قصده فعل ذلك بجميع العساكر ومن أبى ذلك قابله بالضرب والطرد والنفي بعد سلبه حتى من ثيابه ثم ركب من بولاق وذهب إلى شبرا وحصل في العسكر قلقلة ولغط وتناجوا فيما بينهم وتفرق الكثير منهم عن مخاديمهم وأكابرهم ووافقهم على النفور بعض أعيانهم واتفقوا على غدر الباشا ثم أن الباشا ركب من قصر شبرا وحضر إلى بيت الأزبكية ليلة الجمعة ثامن عشرينه وقد اجتمع عند عابدين بك بداره جماعة من أكابرهم في وليمة وفيهم حجو بك وعبد الله آغا صاري جلة وحسن آغا الأزرنجلي فتفاوضوا بينهم أمر الباشا وما هو شارع فيه واتفقوا على الهجوم عليه في داره بالأزبكية في الفجرية ثم إن عابدين بك غافلهم وتركهم في إنسهم وخرج متنكرًا مسرعًا إلى الباشا وأخبره ورجع إلى أصحابه فأسرع الباشا في الحال الركوب في سادس ساعة من الليل وطلب عساكر طاهر باشا فركبوا معه وحوط المنزل بالعساكر ثم أخلف الطريق وذهب على ناحية الناصرية ومرمى النشاب وصعد إلى القلعة وتبعه من يثق به من العساكر وانخرم أمر المتوافقين ولم يسعهم الرجوع عن عزيمتهم فساروا إلى بيت الباشا يريدون نهبه فمانعهم المرابطون وتضاربوا بالرصاص والبنادق وقتل بينهم أشخاص ولم ينالوا غرضًا فساروا على ناحية القلعة واجتمعوا بالرميلة وقراميدان وتحيروا في امرهم واشتد غيظهم وعلموا أو وقوفهم بالرميلة لا يجدي شيئًا وقد أظهروا المخاصمة ولا ثمرة تعود عليهم في رجوعهم وسكونهم بل ينكسف بالهم وتنذل أنفسهم ويلحقهم اللوم من أقرانهم الذين لم ينضموا إليهم فأجمع رأيهم لسور طباعهم وخبث عقيدتهم وطرائقهم أنهم يتفرقون في شوارع المدينة وينهبون متاع الرعية وأموالهم فإذا فعلوا ذلك فيكثر جمعهم وتقوى شوكتهم ويشاركهم المخلفون عنهم لرغبة الجميع في القبائح الذميمة ويعودون بالغنيمة ويحوصلون من الحواصل ولا يضيع سعيهم في الباطل كما يقال في المثل ما قدر على ضرب الحمار فضرب البرذعة ونزلوا على وسط قصبة المدينة على الصليبة على السروجية وهم يكسرون ويهشمون أبواب الحوانيت المغلوقة وينهبون ما فيها لأن الناس لما تسامعوا بالحركة أغلقوا حوانيتهم وأبوابهم وتركوا أسبابهم طلبًا للسلامة وعندما شاهد باقيهم ذلك أسرعوا للحوق وبادروا معهم للنهب والخطف بل وشاركهم الكثير من الشطار والزعر والعامة المقلين والجياع ومن لا دين له وعند ذلك كثر جمعهم ومضوا على طريقهم إلى قصبة رضوان إلى داخل باب زويلة وكسروا حوانيت السكرية وأخذوا ما وجدوه من الدراهم وما أحبوه من أصناف السكر فجعلوا يأكلون ويحملون ويبددون الذي لم يأخذوه ويلقونه تحت الأرجل في الطريق وكسروا أواني الحلو وقدور المربيات وفيها ما هو من الصيني والبياغوري والإفرنجي ومجامع الأشربة وأقراص الحلو الملونة والرشال والملبس والفانيد والحماض والبنفسج وبعد أن يأكلوا ويحملوا هم وأتباعهم ومن انضاف لهم من الأوباش البلدية والحرافيش والجعيدية يلقون ما فضل عنهم على قارعة الطريق بحيث صار السوق من حد باب زويلة إلى المناخلية مع اتساعه وطوله مرسومًا ومنقوشًا بألوان السكاكر وأقراص الأشربة الملونة وأعسال المربيات سائلة على الأرفن وكان أهل ذلك السوق المتسببون جددوا وطبخوا أنواع المربيات والأشربة عند وفور الفواكه وكثرتها في أوانها وهو هذا الشهر المبارك مثل الخوخ والتفاح والبرقوق والتوت والقرع المسير والحصرم والسفرجل وملئوا الأوعية وصففوها على حوانيتهم للمبيع وخصوصًا على موسم شهر رمضان ومضوا في سيرهم إلى العقادين الرومي والغورية والأشرفية وسوق الصاغة ووصلت طائفة إلى سوق مرجوس فكسروا أبواب الحوانيت والوكائل والخانات ونهبوا ما في حواصل التجار من الأقمشة المحلاوي والبز والحرير والزردخان ولما وصلت طائفة إلى رأس خان الخليلي وأرادوا العبور والنهب فزعت فيهم الأتراك والأرنؤد الذين يتعاطون التجارة الساكنون بخان اللبن والنحس وغيرهما وضربوا عليهم الرصاص وكذلك من سوق الصرماتية والأتراك الخردجية الساكنون بالرباع بباب الزهومة جعلوا يرمون عليهم من الطيقان بالرصاص حتى ردوهم ومنعوهم وكذلك تعصبت طائفة المغاربة الكائنون بالفحامين وحارة الكعكيين رموا عليهم بالرصاص وطردوهم عن تلك الناحية وأغلقوا البوابات التي على رؤوس العطف وجلس عند كل درب أناس ومن فوقهم أناس من أهل الخطة بالرصاص تمنع الواصل إليهم ووصلت طائفة إلى خان الحمزاوي فعالجوا في بابه حتى كسروا الخوخة التي في الباب وعبروا الخان وكسروا حواصل التجار من نصارى الشوام وغيرهم ونهبوا ما وجدوه من النقود وأنواع الأقمشة الهندية والشامية والمقصبات وبالات الجوخ والقطيفة والأسطوفة وأنواع الشيت والحرير الخام والإبريسم وغير ذلك وتبعهم الخدم والعامة في نهب وأخرجوا في الدكاكين والحواصل من أنواع الأقمشة وأخذوا ما أعجبهم واختاروه وانتقوه وتركوا ما تركوه ولم يقدروا على حمله مطروحًا على الأرض ودهليز الخان وخارج السوق يطئون عليه بالأرجل والنعالات ويعدو القوي على الضعيف فيأخذ ما معه من الأشياء الثمينة وقتل بعضهم البعض وكسروا أبواب الدكاكين التي خارج الخان بالخطة وأخرجوا ما فيها من الأواني والتحف الصيني والزجاج المذهب والكاسات البلور والصحون والأطباق والفناجين البيشة وأنواع الخردة وأخذوا ما أعجبهم وما وجدوه من نقود ودراهم وهمشوا البواقي وكسروه وألقوه على الأرض يحي الأرجل شقاقًا وما به من حوانيت العطارين وطرحوا أنواع الأشياء العطرية بوسط الشارع تداس بالأرجل أيضًا وفعلوا ما لا خير فيه من نهب أموال الناس والإتلاف ولولا الذين تصدوا لدفعهم ومنعهم بالبنادق والكرانك وغلق البوابات لكان الوقع أفظع من ذلك ولنهبوا أيضًا البيوت وفجروا بالنساء والعياذ بالله ولكن الله سلم وشاركهم في فعلهم الكثير من الأوباش والمغاربة المدافعين أيضًا فإنهم أخذوا أشياء كثيرة وكانوا يقبضون على من يمر بهم ممن يقدرون عليه من النهابين ويأخذون ما معهم لأنفسهم وإذا هشمت العساكر حانوتًا وخطفوا منها شيئًا ولحقهم من يطردهم عنها استأصل اللاحقون ما فيها واستباح الناس أموال بعضهم البعض وكان هذا الحادث الذي لم نسمع بنظيره في دولة من الدول في ظرف خمس ساعات وذلك من قبيل صلاة الجمعة إلى قبيل العصر حصل للناس في هذه المدة اليسيرة من الانزعاج والخوف الشديد ونهب الأموال وإتلاف الأسباب والبضائع ما لا يوصف ولم تصل الجمعة في ذلك اليوم وأغلقت المساجد الكائنة بداخل المدينة وأخذ الناس حذرهم ولبسوا أسلحتهم وأغلقوا البوابات وقعدوا على الكرانك والمرابط والمتاريس وسهروا الليالي وأقاموا على التحذر والتحفظ والتخوف أيامًا وليالي‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشرينه الموافق لآخر يوم من شهر أبيب القبطي أوفى النيل المبارك أذرعه وكان ذلك اليوم أيضًا ليلة رؤية هلال رمضان فصادف حصول الموسمين في آن واحد فلم يعمل فيها موسم ولا شنك على العادة ولم يركب المحتسب ولا أرباب الحرف بموكبهم وطبولهم وزمورهم وكذلك شنك قطع الخليج وما كان يعمل في ليلته من المهرجان في النيل وسواحله وعند السد وكذلك في صبحه وفي البيوت المطلة على الخليج فبطل ذلك جليعه ولم يشعر بهما أحد وصام الناس باجتهادهم وكان وفاء النيل في هذه السنة من النوادر فإن النيل لم تحصل فيه الزيادة بطول الأيام التي مضت من شهر أبيب إلا شيئًا يسيرًا حتى حصل في الناس وهم زائد وغلا سعر الغلة ورفعوها من السواحل والعرصات فأفاض المولى في النيل واندفعت فيه الزيادة العظيمة وفي ليلتين أوفى أذرعه قبل مظنته فإن الوفاء لا يقع في الغالب إلا في شهر مسرى ولم يحصل في أواخر أبيب إلا في النادر وإني لم أدركه في سنين عمري أو في أبيب إلا مرة واحدة وذلك في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فتكون المدة بين تلك وهذه المدة سبعًا وأربعين وفيه أرسل الباشا بطلب السيد محمد المحروقي فطلع إليه وصحبته عدة كبيرة من عسكر المغاربة لخفارته فلما واجهه قال له هذا الذي حصل للناس من نهب أموالهم في صحائفي والقصد أنكم تتقدمون لأرباب المنهوبات وتجمعونهم بديوان خاص طائفة بعد أخرى وتكتبون قوائم لكل طائفة بما ضاع لها على وجه التحرير والصحة وأنا أقوم لهم بدفعه بالغًا ما بلغ فشكر له ودعا له ونزل إلى داره وعرف الناس بذلك وشاع بينهم فحصل لأربابه بعض الاطمئنان وطلع إلى الباشا كبار العسكر مثل عابدين بك ودبوس أوغلي وحجو بك ومحو بك واعتذروا وتنصلوا وذكروا وأقروا أن هذا الواقع اشتركت فيه طوائف العسكر وفيهم من طوائفهم وعساكرهم ولا يخفاه خبث طباعهم فتقدم إليهم بأن يتفقدوا بالفحص وإحصاء ما حازه وأخذه كل من طوائفهم وعساكرهم وشدد عليهم في الأمر بذلك فأجابوه بالسمع والطاعة وامتثلوا لأمره وأخذوا في جمع ما يمكنهم وإرساله إلى القلعة وركبوا وشقوا بشوارع المدينة وأمامهم المناداة بالأمان وأحضر الباشا المعمار وأمره بجمع النجارين والمعمرين وإشغالهم في تعمير ما تكسر من أخشاب الدكاكين والأسواق ويدفع لهم أجرتهم وكذلك الأخشاب على طرف الميري‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الاثنين سنة 1230 والناس في أمر مريج وتخوف شديد وملازمون للسهر على الكرنك ويتحاشون المشي والذهاب والمجيء وكل أهل خطة ملازم لخطته وحارته كل وقت يذكرون وينقلون بينهم روايات وحكايات ووقائع مزعجات وتطاولت أيدي العساكر بالتعدي والأذية والفتك والقتل لمن ينفردون به من الرعية‏.‏

وفي ثاني ليلة طلع السيد محمد المحروقي وطلع صحبته الشيخ محمد الدواخلي نقيب الأشراف وابن الشيخ العروسي وابن الصاوي المتعينون في مشيخة الوقت وصحبتهم شيخ الغورية وطائفته وقد ابتدؤا بهم في إملاء ما نهب لهم من حوانيتهم بعدما حرروها عند السيد محمد المحروقي وتحليفهم بعد الإملاء على صدق دعواهم وبعد التحليف والمحاققة يتجاوزعن بعضه لحضرة الباشا ثم يثبتون له الباقي فاستقر لأهل الغورية خاصة مائة وثمانون كيسًا فدفع لهم ثلثيها وأخر لهم الثلث وهو ستون كيسًا يستوفونها فيما بعد أما عن عروضهم إن ظهر لهم شيء منها أو من الخزينة ولازم الجماعة الطلوع والنزول في كل ليلة لتحرير بواقي المنهوبات وأيضًا استقر لأهل خان الحمزاوي نحو ثلاثة آلاف كيس كذلك ولطائفة السكرية نحو من سبعين كيسًا خصمت لهم من ثمن السكر الذي يبتاعونه من الباشا واستمر الباشا بالقلعة يدير أموره ويجب قلوب الناس من الرعية وأكابر دولته بما يفعله من بذل المال ورد المنهوبات حتى ترك الناس يسخطون على العسكر ويترضون عنه ولو لم يفعل ذلك وسارت العساكر هذه الثورة ولم يقع منهم نهب ولا تعد لساعدتهم الرعية واجتمعت عليهم أهالي القرى وأرباب الإقطاعات لشدة نكايتهم من الباشا بضبط الرزق والالتزامات وقياس الأراضي وقطع المعايش وذلك من سوء تدبير العسكر وسعادة الباشا وحسن سياسته باستجلابه الخواطر وتملقه بالكلام اللين والتصنع ويلوم على فعل العسكر ويقول بمسمع الحاضرين ما ذنب الناس معهم خصوصًا خصامهم معي أو مع الرعية ها أنا لي منزل بالأزبكية فيه أموال وجواهر وأمتعة وأشياء كثيرة وسراية ابني إسمعيل باشا ببولاق ومنزل الدفتردار ونحو ذلك ويتحسبل ويتحوقل ويعمل فكرته ويدبر أمره في أمر العسكر وعظمائهم وينقم عليهم ويعطيهم الأموال الكثيرة والأكياس العديدة لأنفسهم وعساكرهم وتنتبذ طائفة منهم ويقولون نحن لن ننهب ولم يحصل لنا كسب فيعطيهم ويفرق فيهم المقادير العظيمة فأنعم على عابدين بك بألف كيس ولغيره دون ذلك‏.‏

وفي أثناء ذلك أخرج جردة من عسكر الدلاة ليسافروا إلى الديار الحجازية فبرزوا إلى خارج باب الفتوح حيث المكان المسمى بالشيخ قمر ونصبوا هناك وطاقهم وخرجت أحمالهم وأثقالهم‏.‏

وفي ليلة الخميس ثارت طائفة الطبجية وخاضوا وضجوا وهم نحو الأربعمائة وطلبوا نفقة فأمر لهم بخمسة وعشرين كيسًا ففرقت فيهم الأربعمائة وطلبوا نفقة فأمر لهم بخمسة وعشرين كيسًا ففرقت فيهم فسكتوا وفي يوم الخميس المذكور نزل كتخدا بك وشق من وسط المدينة ونزل عند جامع الغورية وجلس فيه ورسم لأهل السوق بفتح حوانيتهم وأن يجلسوا فيها فامتثلوا وفتحوا الحوانيت وجلسوا على تخوف كل ذلك مع عدم الراحة والهدوء وتوقع المكروه والتطير من العسكر وتعدى السفهاء منهم في بعض الأحايين والتحزر والاحتراس وأما النصارى فإنهم حصنوا مساكنهم ونواحيهم وحاراتهم وسدوا المنافذ وبنو كرانك واستعدوا بالأسلحة والبنادق وأمدهم الباشا بالبارود ولآلات الحرب دون المسلمين حتى أنهم استأذنوا كتخدا بك في سد بعض الحارات النافذة التي يخشون وقوع الضرر منها فمنع من ذلك وأما النصارى فلم يمنعهم وقد تقدم ذكر فعله مع رضوان كاشف عندما سد باب داره وفتحه من جهة أخرى وعززه وضربه وبهدله بوسط الديوان‏.‏

وفيه وصل نجيب أفندي وهو قبي كتخدا الباشا عند الدولة إلى بولاق فركب إليه كتخدا بك وأكابر الدولة والآغا والوالي وقابلوه ونظموا له موكبًا من بولاق إلى القلعة ودخل من باب النصر وحضر صحبته خلع برسم الباشا وولده طوسون باشا وسفيان وشلنجان وهدايا وأحقاق تشوق مجوهرة وعملوا لوصوله شنكًا ومدافع من القلعة وبولاق‏.‏

وفيه ارتحل الدلاة المسافرون إلى الحجاز ودخل حجو بك إلى المدينة بطائفته‏.‏

وفي ضحوة ذلك اليوم بعد انفضاض أمر الموكب حصل في الناس زعجة وكرشات وأغلقوا البوابات والدروب واتصل هذا الإزعاج بجميع النواحي حتى بولاق ومصر القديمة ولم يظهر لذلك أصل ولا سبب من الأسباب مطلقًا‏.‏

وفي تلك الليلة ألبس الباشا حجو خلعة وتوجه بطرطور طويل وجعله أميرًا على طائفة من الدلاة وانخلع هو وأتباعه من طريقتهم التركية التي كانوا عليها وهؤلاء الطائفة التي يقال لهم دلاة ينسبون أنفسهم إلى طريقة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثرهم من نواحي الشام وجبال الدروز والمتاولة وتلك النواحي يركبون الأكاديش وعلى رؤوسهم الطراطير السود مصنوعة من جلود الغنم الصغار طول الطرطور نحو ذراع وإذا دخل لكنيف نزعه من على رأسه ووضعه على عتبة الكنيف وما أدرى ذلك تعظيم له عن مصاحبته معه في الكنيف أو الخوف والحذر من سقوطه إن انصدم باسفكة الباب في صحن المرحاض أو الملاقي وهؤلاء الطائفة مشهورة في دولة العثمانيين بالشجاعة والإقدام في الحروب ويوجد فيهم من هو على طريقة حميدة ومنهم دون ذلك وقليل ما هم ولكونهم من تمام النظام رتبهم الباشا من أجناسه وأتراكه خلاف الأجناس الغريبة ومن بقي من أولئك يكون تبعًا لا متبوعًا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادس عشره حصل مثل ذلك المتقدم من الانزعاج والكرشات بل أكثر من المرة الأولى ورمحت الرامحان وأغلقت الحوانيت وطلبت الناس السقائين الذين ينقلون الماء من الخليج وبيعت القربة بعشرة أنصاف فضة والراوية بأربعين فنزل الآغا وأغات التبديل وأمامهم المناداة بالأمان وينادون على العساكر أيضًا ومنهم من حمل البنادق ويأمرون الناس بالتحفظ واستمر هذا الأمر والارتجاج إلى قبيل العصر وسكن الحال وكثر مرور السقائين وبيعت القربة بخمسة أنصاف والراوية بخمسة عشر ولم يظهر لهذه الحركة سبب أيضًا وتقول الناس بطول نهار ذلك اليوم أصنافًا وأنواعًا من الروايات والأقاويل التي لا أصل لها‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشره حضر الشريف راجح من الحجاز ودخل المدينة وهو راكب على هجين وصحبته خمسة أنفار على هجن أيضًا معهم أشخاص من الأرنؤد من أتباع حسن باشا الذي بالحجاز فطلعوا به إلى القلعة ثم أنزلوه إلى منزل أحمد أغا أخي كتخدا بك‏.‏

وفي ليلة الخميس قلد الباشا عبد الله أغا المعروف بصاري جله وجعله كبيرًا على طائفة من الينكجرية أيضًا وجعل على رأسه الطربوش الطويل المرخي على ظهره كما هي عادتهم هو وأتباعه وكان من جملة المتهومين بالمخامرة على الباشا‏.‏

وفيه برز أمر الباشا لكبار العسكر بركوب جميع عساكرهم الخيول ومنعهم من حمل البنادق ولا يكون منهم راجل أو حامل للبندقية إلا من كان من أتباع الشرطة والأحكام مثل الوالي والآغا وأغات التبديل ولازم كتخدا بك وأيوب آغا تابع إبراهيم آغا أغات التبديل والوالي المرور بالشوارع والجلوس في مراكز الأسواق مثل الغورية والجمالية وباب الحمزاوي وباب زويلة وباب الخرق وأكثر أتباعهم مغطرون في نهار رمضان ومتجاهرون بذلك من غير احتشام ولا مبالاة بانتهاك حرمة شهر الصوم ويجلسون على الحوانيت والمساطب يأكلون ويشربون الدخان ويأتي أحدهم وبيده شبك الدخان فيدني مجمرته لأنف ابن البلد على غفلة منه وينفخ فيه على سبيل السخرية والهذيان بالصمائم وزادوا في الغي والتعدي وخطف النساء نهارًا وجهارًا حتى اتفق أوفي أن شخصًا منهم أدخل امرأة إلى جامع الأشرفية وزنى بها في المسجد بعد صلاة الظهر في نهار رمضان‏.‏

وفي أواخره عملوا حساب أهل سوق مرجوش فبلغ ذلك أربعمائة وخمسين كيسًا قبضوا ثلثيها وتأخر لهم الثلث كل ذلك خلاف النقود لهم ولغيرهم مثل تجار الحمزاوي وهو شيء كثير ومبالغ عظيمة فإن الباشا منع من ذكرها وقال لأي شيء يؤخرون في حوانيتهم وحواصلهم النقود ولا يتجرون فيها واتفق لتاجر من أهل سوق الجيوش أنه ذهب من حاصله من حواصل الخان ثمانية آلاف فرانسة فلم يذكرها ومات قهر وكذلك ضاع لأهالي خان الحمزاوي من صرر الأموال والنقود والودائع والرهونات والمصاغ والجوهر مما يرهنه النساء على ثمن ما يشترونه من التجار والتفاصيل والمقصبات أو على ما يتأخر عليهم من الأثمان ما لا يدخل تحت المحصر ويستحيا من ذكره وضاع لرجل يبيع الفسيخ والبطارخ تجاه الحمزاوي من حانوته أربعة آلاف فلم يذكرها وأمثال ذلك كثير وانقضى شهر رمضان والناس في أمر مريج وخوف وانزعاج وتوقع المكروه ولم ينزل الباشا من القلعة بطول الشهر وذلك على خلاف عادته فإنه لا يقدر على الاستقرار بمكان أيامًا وطبيعته الحركة حتى في الكلام وكبار العساكر والسيد محمد المحروقي ومن يصحبه من المشايخ ونقيب الأشراف مستمرون على الطلوع والنزول في كل يوم وليلة وللمتقيدين بالمنهوبين ديوان خاص وفرق الباشا كساوي العيد على أربابها ولم يظهر في هذه القضية شخص معين والكثير من العساكر الذين يمشون مع الناس في الأسواق يظهرون الخلاف والسخط ويظهر منهم التعدي ويخطفون عمائم الناس والنساء جهارًا ويتوعدون الناس بعودهم في النهب وكأنما بينهم وبين أهل البلدة عداوة قديمة أو ثارات يخلصونها منهم وفيهم من يظهر التأسف والتندم واللوم على المعتدين ويسفه رأيهم وهو المحروم الذي غاب على ذلك وبالجملة فكل ذلك تقادير إلهية وقضايا سماوية ونقمة حلت بأهل الإقليم وأهله من كل ناحية نسأل الله العفو والسلامة وحسن العاقبة ومما اتفق أن بعض الناس زاد بهم الوهم فنقل ماله من حانوته إلى منزله أو حرز آخر فسرقها السراق وحانوته أو حاصله لم يصبه ما أصاب غيره وتعدد نظير ذلك لأشخاص كثيرة وذلك من فعل أهل البلدة يراقبون بعضهم بعضًا ويداورونهم في أوقات الغفلات في مثل هذه الحركات ومنهم من اتهم خدمه وأتباعه وتهددهم وشكاهم إلى حكام الشرطة ويغرم مالًا على ذلك أيضًا وهم بريؤن ولا يفيده إلا ارتكاب الإثم والفضيحة وعداوة الأهل والخدم وزيادة الغرم وغالب ما بأيدي التجار أموال الشركاء والودائع والرهونات ويطلبه أربابها ومنهم قليل الديانة وذهب من حانوته أشياء وبقي أشياء فادعى ضياع الكل لقوة الشبهة‏.

 

‏ واستهل

شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1230

وهو يوم عيد الفطر وكان في غاية البرودة والخمول عديم البهجة من كل شيء لم يظهر فيه من علامات الأعياد إلا فطر الصائمين ولم يغير أحد ملبوسه بل ولا فصل ثيابًا مطلقًا ولا شيئًا جديدًا ومن تقدم له ثوب وقطعه وفصله في شعبان تأخر عند الخياط مرهونًا على مصاريفه ولوازمه لتعطيل جمع الأسباب من بطانة وعقادة وغيرها حتى أنه إذا مات ميت لم يدرك أهله كفنه إلا بمشقة عظيمة وكسد في هذا العيد سوق الخياطين وما أشبههم من لوازم الأعياد ولم يعمل فيه كعك ولا شريك ولا سمك مملح ولا نقل ولم يخرجوا إلى الجبانات والمدافن أيضًا كعادتهم ولا نصبوا خيامًا على المقابر‏.‏

ولم يحسن في هذه الحادثة إلا امتناع هذه الأمور وخصوصًا خروج النساء إلى المقابر فإنه لا يخرج منهن إلا بعض حرافيشهن على تخوف ووقع لبعضهن من العسكر ما وقع عند باب النصر والجامع الأحمر‏.‏

وفي ثالثه نزل الباشا من القلعة من باب الجبل وهو في عدة من عسكر الدلاة والأتراك الخيالة والمشاة وصحبته عابدين بك وذهب إلى ناحية الآثار فعيد على يوسف باشا المنفصل عن الشام لأنه مقيم هناك لتغيير الهواء بسبب مرضه ثم عدى إلى الجيزة وبات بها عند صهره محرم بك ولما أصبح ركب السفائن وانحدر إلى شبرا وبات بقصره ورجع إلى منزله بالأزبكية ثم طلع إلى القلعة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامنه عمل ديوانًا وجمع المشايخ المتصدرين وخاطبهم بقوله أنه يريد أن يفرج عن حصص الملتزمين ويترك لهم وساياهم يؤجرونها ويزرعونها لأنفسهم ويرتب نظامًا لأجل راحة الناس وقد أمر الأفندية كتاب الروزنامه بتحرير دفاتر وأمهلهم اثني عشر يومًا يحررون في ظرفها الدفاتر على الوجه المرضي فأثنوا عليه خيرًا ودعوا له فقال الشيخ الشنواني ونرجو من أفندينا أيضًا الإفراج عن الرزق الأحباسية كذلك فقال كذلك ننتظر في محاسبات الملتزمين ونحررها على الوجه المرضي أيضًا ومن أراد منهم أن يتصرف في حصته ويلتزم بخلاص ما تحرر عليها من المال الميري لجهة الديوان من الفلاحين بموجب المساحة والقياس صرفناه فيها وإلا أبقاها على طرفنا ويقبض فائظه الذي يقع عليه التحرير من الخزينة نقدًا وعدًا فدعوا له أيضًا وسكتوا فقال لهم تكلموا فإني ما طلبتكم إلا للمشاورة معكم فلم يفتح الله عليهم بكلمة يقولها أحدهم غير الدعاء له على أن الكلام ضائع لأنها حيل ومخادعة تروج على أهل الغفلات ويتوصل بها إلى إبراز ما يرومه من المرادات وعند ذلك انفض المجلس وانطلقت المبشرون على الملتزمين بالبشائر وهو الالتزام لتصرفهم ويأخذون منهم البقاشيش مع أن الصورة معلولة والكيفية مجهولة ومعظم السبب في ذكره ذلك أن معظم حصص الالتزام كان بأيدي العساكر وعظمائهم وزوجاتهم وقد انحرفت طباعهم وتكدرت أمزجتهم بمنعهم عنه وحجزهم عن التصرف ولم يسهل بهم ذلك فمنهم من كظم غيظه وفي نفسه ما فيها ومنهم من لم يطق الكتمان وبارز بالمخالفة والتسلط على من لا جناية عليه فلذلك الباشا أعلن في ديوانه بهذا الكلام بمسمع منهم لتسكن حدتهم وتبرد حرارتهم إلى أن يتم أمر تدبيره معهم‏.‏

وفيه وصلت هجانة وأخبار ومكاتبات من الديار الحجازية بوقوع الصلح بين طوسون باشا وعبد الله بن مسعود الذي تولى بعد موت أبيه كبيرًا على الوهابية وأن عبد الله المذكور ترك الحروب والقتال وأذعن للطاعة وحقن الدماء وحضر من جماعة الوهابية نحو العشرين نفرًا من الأنفار إلى طوسون باشا ووصل منهم اثنان إلى مصر فكأن الباشا لم يعجبه هذا الصلح ولم يظهر عليه علامات الرضا بذلك ولم يحسن نزل الواصلين ولما اجتمعا به وخاطبهما عاتبهما على المخالفة فاعتذرا وذكرا أن الأمير مسعودًا المتوفي كان فيه عناد وحدة مزاج وكان يريد الملك وإقامة الدين وأما ابنه الأمير عبد الله فإنه لين الجانب والعريكة ويكره سفك الدماء على طريقة سلفه الأمير عبد العزيز المرحوم فإنه كان مسالمًا للدولة حتى أن المرحوم الوزير يوسف باشا حين كان بالمدينة كان بينه وبينه غاية الصداقة ولم يقع بينهما منازعة ولا مخالفة في شيء ولم يحصل التفاقم والخلاف إلا في أيام الأمير مسعود ومعظم الأمر للشريف غالب بخلاف الأمير عبد الله فإنه أحسن السير وترك الخلاف وأمن الطرق والسبل للحجاج والمسافرين ونحو ذلك من الكلمات والعبارات المستحسنات وانقضى المجلس وانصرفا إلى المحل الذي أمرا بالنزول فيه ومعهما بعض أتراك ملازمون لصحبتهما مع أتباعهما في الركوب والذهاب والإياب فإنه أطلق لهما الإذن إلى أي محل أراده فكانا يركبان ويمران بالشوارع بأتباعهما ومن يصحبهما ويتفرجان على البلدة وأهلها ودخلا إلى الجامع الأزهر في وقت لم يكن به أحد من المتصدرين للإقراء والتدريس وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية واشتريا نسخًا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة المجمع على صحتها وغير ذلك وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أنسًا وطلاقة لسان واطلاعًا وتضلعًا ومعرفة بالأخبار والنوادر ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق وحسن الأدب في الخطاب والتفقه في الدين واستحضار الفروع الفقهية واختلاف المذاهب فيها ما يفوق الوصف واسم أحدهما عبد الله والآخر عبد العزيز وهو الأكبر حسنًا ومعنى‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشره خرجوا بالمحمل إلى الحصوة خارج باب النصر وشقوا به من وسط المدينة وأمير الركب شخص من الدلاة يسمى أوزون أوغلي وفوق رأسه طرطور الدالاتية ومعظم الموكب من عساكر الدلاة وعلى رؤسهم الطراطير السود بذاتهم المستشبعة وقد عم الإقليم المسخ في كل شيء فقد تغص الطبيعة وتتكدر النفس إذا شاهدت ذلك أو سمعت به وقد كانت نضارة الموكب السالفة في أيام المصريين ونظامها وحسنها وترتيبها وفخامتها وجمالها وزينتها التي لم يكن لها نظير في الربع المعمور ويضرب بها المثل في الدنيا كما قال قائلهم فيها مصر السعيدة ما لها من مثيل فيها ثلاثة من الهنا والسرور مواكب السلطان وبحر الوفا ومحمل الهادي نهار يدور فقد فقدت هذه الثلاثة في جملة المفقودات‏.‏

وفي ثالث عشرينه وصل قابجي وعلى يده تقرير ولاية مصر لمحمد علي باشا على السنة الجديدة فعملوا لذلك الواصل موكبًا من بولاق إلى القلعة وضربوا مدافع وشنكًا وبنادق‏.‏

في سادس عشره سافر الباشا إلى الإسكندرية وأخذ صحبته عابدين بك وإسمعيل باشا ولده وغيرهما من كبرائهم وعظمائهم وسافر أيضًا نجيب أفندي وسليمان أغا وكيل دار السعادة سابقًا تابع صالح بك المصري المحمدي إلى دار السلطنة وأصحب الباشا إلى الدولة وأكابرها الهدايا من الخيول والمهاري والسروج المكللة بالذهب واللؤلؤ والمخيش وتعابي الأقمشة الهندية المتنوعة من الكشمير والمقصبات والتحف ومن الذهب المضروب السكة أربعة قناطير ومن الفضة الثقيلة في الوزن والعيار عدة قناطير ومن السكر المكرر مرارًا وأنواع الشراب خافاه في القدور الصيني وغير ذلك‏.‏

وفيه وردت الأخبار بوصول طوسون باشا إلى الطور فهرعت أكابرهم وأعيانهم إلى ملاقاته وأخذوا في الاهتمام وإحضار الهدايا والتقادم وركبت الخوندات والنساء والستات أفواجًا أفواجًا يطلعن إلى القلعة ليهنين والدته بقدومه‏.‏

وفي غايته وصل طوسون باشا إلى السويس فضربوا مدافع إعلامًا بقدومه وحضر نجيب أفندي راجعًا من الإسكندرية لأجل ملاقاته لأنه قبي كتخدا اليوم أيضًا عند الدولة كما هو لوالده‏.‏

في رابعه يوم الاثنين نودي بزينة الشارع الأعظم لدخول طوسون باشا سرورًا بقدومه فلما أصبح يوم الثلاثاء خامسه احتفل الناس بزينة الحوانيت بالشارع وعملوا له موكبًا حافلًا ودخل من باب النصر وعلى رأسه الطلخان وشعار الوزارة وطلع إلى القلعة وضربوا في ذلك اليوم مدافع كثيرة وشنكًا وحراقات‏.‏

وفي ليلة الجمعة خامس عشره سافر طوسون باشا المذكور إلى الإسكندرية ليراه أبوه ويسلم هو عليه وليرى هو ولدًا له ولد في غيبته يسمى عباس بك أصحبه معه جده مع حاضنته وسنه دون السنتين يقال أن جده قصد إرساله إلى دار السلطنة فلم يمهل بأبيه ذلك وشق عليه ففارقه وخصوصًا كونه لم يره وسافر صحبة طوسون بك نجيب أفندي عائدًا إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم السبت عشرينه حضر طوسون باشا إلى مصر راجعًا من الإسكندرية في تطريدة ومعه ولده فكانت مدة غيبته ذهابًا وإيابًا ثمانية أيام فطلع إلى القلعة وصار ينزل إلى بستان بطريق بولاق ظاهر التبانة عمره كتخدا بك وبنى به قصرًا فيقيم به غالب الأيام التي أقامها بمصر وانقضت السنة وما تجدد فيها من استمرار المبتدعات والمكوس والتحكير وإهمال السوقة والمتسبيين حتى عم غلو الأسعار في كل شيء حتى بلغ سعر كل صنف عشرة أمثال سعره في الأيام الخالية مع الحجر على الإيراد وأسباب المعايش فلا يهنا يعيش في الجملة إلا من كان مكاسًا أو في خدمة من خدم الدولة مع كونه على خطر فإنه وقع لكثير ممن تقدم في منصب أو خدمة أنه حوسب وأهين وألزم بما رافعوه فيه وقد استهلكه في نفقات نفسه وحواشيه فباع ما يملكه واستدان وأصبح ميؤوسًا مديونًا وصارت المعايش ضنكًا وخصوصًا الواقع في اختلاف المعاملات والنقود والزيادة في صرفها وأسعارها واحتجاج الباعة والتجار والمتسببين بذلك وبما حدث عليها من مال المكس مع طمعهم أيضًا وخصوصًا سفلة الأسواق وبياعي الخضارات والجزارين والزياتين فإنهم يدفعون ما هو مرتب عليهم للمحتسب مياومة ومشاهرة ويخلصون أضعافه من الناس ولا رادع لهم بل يسعرون لأنفسهم حتى أن البطيخ في أوان كثرته تباع الواحدة التي كانت تساوي نصفين بعشرين وثلاثين والرطل من العنب الشرقاوي الذي كان يباع في السابق بنصف واحد يبيعونه يومًا بعشرة ويومًا بإثني عشر ويومًا بثمانية وقس على ذلك الخوخ والبرقوق والمشمش وأما الزبيب والتين واللوز والبندق والجوز والأشياء التي يقال لها اليميش التي تجلب من بلاد الروم فبلغت الغاية في الثمن بل قد لا يوجد في أكثر الأوقات وكذلك ما يجلب من الشام مثل الملبن والقمر الدين والمشمش الحموي والعناب وكذلك الفستق والصنوبر وغير ذلك ما يطول شرحه ويزداد بطول الزمان قله‏.‏

ومات في هذه السنة العلامة الأوحد والفهامة الأمجد محقق عصره ووحيد دهره الجامع لأشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم بقية الفصحاء والفضلاء المتقدمين والمتميز عن المتأخرين الشيخ محمد بن أحمد عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلدة دسوق من قرى مصر وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير وتلقى الكثير من العقولات عن الشيخ محمد الجناجي الشهير الشافعي وهو مالكي ولازم الوالد حسنًا الجبرتي مدة طويلة وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسمعيل النفراوي علم الحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت وحضر عليه أيضًا في فقه الحنفية وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر وتصدر للإقراء والتدريس وإفادة الطلبة وكان فريدًا في تسهيل المعاني وتبيين المباني يفك كل مشكل بواضح تقريره ويفتح كل مغلق برائق تحريره ودرسه مجمع أذكياء الطلاب والمهرة من ذوي الأفهام والألباب مع لين جانب وديانة وحسن خلق وتواضع وعدم تصنع وإطراح تكلف جاريًا على سجيته لا يرتكب ما يتكلفه غيره من التعاظم وفخامة الألفاظ ولهذا كثر الآخذون عليه والمترددون إليه‏.‏

ومات الأستاذ الفريد واللوذعي المجيد الإمام العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي المنطقي الشيخ محمد المهدي الحفني ووالده من الأقباط وأسلم هو صغيرًا دون البلوغ على يد الشيخ الحفني وحلت عليه أنظاره وأشرقت عليه أنواره وفارق أهله وتبرأ منهم وحضنه الشيخ ورباه وأحبه واستمر بمنزله مع أولاده واعتنى بشأنه وقرأ القرآن ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وحفظ أبا شجاع وألفية النحو والمتون ولازم دروس الشيخ وأخيه يوسف وغيرهما من أشياخ الوقت مثل الشيخ العدوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الدرير والبيلي والجمل والخرشي وعبد الرحمن المقري والشرقاوي وغيرهم واجتهد في التحصيل ليلًا ونهارًا ومهر وأنجب ولازم في غالب مجالس الذكر عن الشيخ الدردير بعد وفاة الشيخ الحفني وتصدر للتدريس في سنة تسعين ومائة وألف ولما مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه بالأزهر وقرأ شرح الألفية لابن عقيل ولازم الإلقاء وتقرير الدروس مع الفصاحة وحسن البيان والتفهم وسلاسة التعبير وإيضاح العبارات وتحقيق المشكلات وما أمره وذكره وبعد صيته ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو مع حسن السمت ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب واستحضار الصواب في ترداد الخطاب ومسايرة الأصحاب‏.‏

وفارق الدنيا وأرسلوا إلى أولاده فحضر وأحملوه في تابوت إلى الدار الكبيرة بالمرسكي ليلًا وشاع موته وجهز وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل جدًا ودفن عند الشيخ الحنفي بجانب القبر فسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏

ومات الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النبيه المهذب المتواضع الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الشهير بالصفوي القلعاوي الشافعي ولد في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وخمسين ومائة وألف وتفقه على الشيخ الملوي والسحيمي والبراوي والحفني ولازم شيخنا الشيخ أحمد العروسي وانتفع عليه وأذن له في الفتيا عن لسانه وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته وألف وصنف وكتب حاشية على ابن قاسم الغزي على أبي شجاع في الفقه وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازائي على التلخيص وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع وله منظومة في آداب البحث وشرحها ومنظومة المتن التهذيب في المنطق وشرحها وديوان شعر سماه إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين وعدة من الرسائل في معضلات المسائل وغير ذلك وكان سكنه بقلعة الجبل ويأتي في كل يوم إلى الأزهر للإقراء والإفادة فلما أمر الباشا سكان القلعة بإخلائها والنزول منها إلى المدينة فنزلوا إلى المدينة وتركوا دورهم وأوطانهم نزل المترجم مع من نزل وسكن بحارة أمير الجيوش جهة باب الشعرية ولم يزل هناك حتى تمرض أيامًا وتوفي ليلة السبت سابع عشري شهر رمضان وصلي عليه بالأزهر ودفن بزاوية الشيخ سراج الدين البلقبني بحارة بين السيارج رحمه الله تعالى فإنه كان من أحسن من رأينا سمتًا وعلمًا وصلاحًا وتواضعًا وانكسارًا وانجماعًا عن خلطة الكثير من الناس مقبلًا على شأنه راضيًا مرضيًا طاهرًا نقيًا لطيف المزاج جدًا محبوبًا للناس عفا الله عنه وغفر لنا وله‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الأجل الأمثل والوجيه المفضل الشيخ حسين بن حسن كناني بن علي المنصوري الحنفي تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي والشيخ عمر الديركي والشيخ محمد المصيلي وأقرأ في فقه المذهب دروسًا في محل جده لأمه بالأزهر وسكن داره بحارة الحبانية على بركة الفيل مع أخيه الشيخ عبد الرحمن ثم انتقلا في حوادث الفرنساوية إلى حارة الأزهر ولما كانت حادثة السيد عمر مكرم النقيب من مصر إلى دمياط وكتبوا فيه عرضًا للدولة وامتنع السيد أحمد الطحطاوي من الشهادة عليه كما تقدم وتعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية قلدوها المترجم فلم يزل فيها حتى تمرض وتوفي يوم الثلاثاء تاسع عشري لمحرم وصلي عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين رحمه الله وإيانا‏.‏

ومات البليغ النجيب والنبيه الأريب نادرة الزمان وفريد الأوان أخونا ومحبنا في الله تعالى ومن أجله السيد إسمعيل بن سعد الشهير بالخشاب كان أبوه نجارًا ثم فتح له مخزنًا لبيع الخشب تجاه تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة وولد له المترجم وأخوه إبراهيم ومحمد وهو أصغرهما فتولع السيد إسمعيل المترجم بحفظ القرآن ثم بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت وأنجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرائض وتنزل في حرفة الشهادة بالمحكمة الكبيرة لضرورة التكسب في المعاش ومصارف العيال وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ وأولع بذلك وحفظ أشياء كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية وما تكلموا فيه من الحقائق حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات والماجريات وقال الشعر الرائق ونثر النثر الفائق وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السرايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيرًا من رابا المظاهر والرؤساء من الكتاب والأمراء والتجار‏.‏

ولم يزل المترجم على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق وسكنى الدور الواسعة والحزم وكان له صاحب يسمى أحمد العطار بباب الفتوح توفي وتزوج هو بزوجته وهي نصف وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من المتوفي فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق به إضعاف والد بولده بلغ عمل له مهما وزوجته ودعا الناس إلى ولائمه وأنفق عليه في ذلك أنفاقًا كثيرة وبعد نحو سنة تمرض ذلك الغلام أشهرًا فصرف عليه وعلى معالجته جملة من المال ومات فجزع عليه جزعًا شديدًا ويبكي وينتحب وعمل له مأتمًا وعزاء واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت وقراء واتخذت مسكنًا ملاصقًا لقبره وأقامت به نحو الثلاثين سنة مع دوام عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين ثم ملازمة الميت واتخاذ ما ذكر في كل جمعة على الدوام والمترجم طوع يدها في كل ما طلبته وما كلفته به تسخيرًا من الله تعالى وكل ما وصل إلى يده من حرام أو حلال فهو مستهلك عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو في نفسه نحيف البنية ضعيف الحركة جدًا بل معدومها وابتلي بحصر البول وسلسه القليل مع الحرقة والتألم استدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أيامًا وتوفي يوم السبت ثاني شهر الحجة الحرام بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز بين القصرين وصلينا عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بالحسينية وكثيرًا ما كنت أتذكر قول القائل ومن تراه بأولاد السوي فرحًا في عقله عزه إن شئت وانتدب أولاد صلب الفتي قلت منافعهم فكيف يلمح نفع الأبعد الجنب مع أنه كان كثير الانتقاد على غيره فيما لا يداني فعله وانقياده إلى هذه المرأة وحواشيها نسأل الله السلامة والعافية وحسن العافية كما قيل من تكملة ما تقدم فلا سرور سوى نفع بعافية وحسن ختم وما يأتي من الشغب وأمن نكر نكير القبر ثمة ما يكون بعد من الأهوال والتعب‏.‏

واستهلت سنة 1231 استهل شهر المحرم بيوم السبت وحاكم مصر وصاحبها وأقطاعها وثغورها وكذلك بندر مكة وجدة والمدينة المنورة وبلاد الحجاز محمد علي باشا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولاظ محمد الذي هو كتخدابك قائم مقامه هو المتصدر لإجراء الأحكام بين الناس عن أمر مخدومه وإبراهيم آغا آغات الباب والدفتردار محمد أفندي صهر الباشا والروزنامجي مصطفى أفندي تابع محمد أفندي باش جاكرت سابقًا وغيطاس أفندي سرجي وسليمان أفندي الكماخي باشمحاسب ورفيقه أحمد أفندي باش زعيم مصر وهو الوالي وآغات التبديل أحمد آغا وهو أخو حسن آغا قلفة وصالح بك السلحدار وحسن آغا آغات الينكجرية وعلي آغا الشعراوي المذكور وكاتب الخزينة ولي خوجه ورئيس كتبة الأقباط المعلم غالي وأولاد الباشا إبراهيم باشا حاكم الصعيد وطوسون باشا فاتح بلاد الحجاز وإسماعيل باشا ببولاق ومحرم بك صهر الباشا أيضًا على ابنته بالجيزة أحمد آغا المعروف ببونابارته الخازندار وباقي كشاف الأقاليم وأكابر أعيانهم مثل دبوس أوغلي وحسن باشا وحسن آغا شرششمه وحجو بك وخلافهم‏.‏

وفي ذلك اليوم قبض كتخدا بك على المعلم غالي وأمر بحبسه وكذلك أخوه المسمى فرنسيس وخازنداره المعلم سمعان وذلك عن أمر مخدومه من الاسكندرية لأنه حول عليه الطلب بستة آلاف كيس تأخر أداؤها إياه من حسابه القديم فاعتذر بعدم القدرة على أدائها في الحين لأنها بواقي على أربابها وهو ساع في تحصيلها ويطلب المهلة إلى رجوع الباشا من غيبته فأرسل الكتخدا بمقالته واعتذاره إلى الباشا وانتبذ طائفة من الأقباط في الحط على غالي مع الكتخدا وعرفوه أنه إذا حوسب يطهر عليه ثلاثون ألف كيس فقال لهم وإن لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به إلى الخزينة فأجابوه إلى ذلك فأرسل يعرف الباشا بذلك فأرسل الأمر بالقبض عليه وعلى أخيه وخازنداره وحبسهم وعزله ومطالبته بستة آلاف كيس القديمة أولًا ثم حسبه بعد ذلك فأحضر المرافعين عليه وهم المعلم جرجس الطويل ومنقريوس البنتوني وحنا الطويل وألبسهم خلعًا على رياسة الكتاب عوضًا عن غالي ومن يليه واستمر غالي في الحبس ثم أحضره مع أخيه وخازنداره فضربوا أخاه أمامه ثم أمر بضربه فقال وأنا ضرب أيضًا قال نعم ثم ضربوه على رجليه بالكرابيج ورفع وكرر عليه الضرب وضرب سمعان ألف كرباج حتى أشرف على الهلاك ووجدوا في جيبه ألف شخص بندقي ومائتي محبوب عنها اثنان وعشرون ألف قرش ثم بعد أيام أفرجوا عن أخيه وسمعان ليسعيا في التحصيل وهلك سمعان واستمر غالي في السجن وقد رفعوا عنه وعن أخيه العقاب لئلا يموتا‏.‏

وفي عاشره رجع الباشا من غيبته من الاسكندرية وأول ما بدأ به إخراج العساكر مع كبرائهم إلى ناحية بحري وجهة البحيرة والثغور فنصبوا خيامهم بالبر الغربي والشرقي تجاه الرحمانية واستهل شهر صفر الخير سنة 1231 فيه تشفع جوني الحكيم في المعلم غالي وأخذه من الحبس إلى داره والعساكر مستهلون في التشهيل والخروج وهم لا يعلمون المراد بهم وكثرت الروايات والأخبار والإيهامات والظنون ومعنى الشعر في بطن الشاعر‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول سنة 1231 فيه سافر طوسون باشا وأخوه إسماعيل باشا إلى ناحية رشيد ونصبوا عرضيهما عند الحماد وناحية أبي منضور وحسين بك دالي باشا وخلافه مثل حسن آغا زجنلي ومحو بك وصارى جله وحجو بك جهة البحيرة وكل ذلك تواطين وتلبيس للعساكر بكونه إخراج حتى أولاده العزاز للمحافطة وكذلك الكثير من كبرائهم إلى جهة البحر الشرقي ودمياط‏.‏

وفي ثاني عشره صبيحة المولد النبوي طلب الباشا المشايخ فلما جلسوا مجلسهم وفيهم الشيخ البكري أحضروا خلعة وألبسوها له على منصب نقابة الأشراف عوضًا عن السيد محمد المحروقي وفاوضه في ذلك ورأى أن يقلده إياه فاعتذر السيد محمد المحروقي واستعفى وقال أنا متقيد بخدمة أفندينا ومهمات المتاجر والعرب والحجاز فقال قد قلدتك إياها فأعطها لمن شئت فذكرانها كانت مضافة للشيخ البكري وهو أولى من غيره فلما حضروا وتكاملوا لبسوه الخلعة واستوصب الجماعة ذلك وانصرفوا وفي الحال كتب فرما بإخراج الدواخلي منفيًا إلى قرية دسوق فنزل إليه السيد أحمد الملا الترجمان وصحبته قواس تركي وبيده الفرمان فدخلوا إليه على حين غفلة وكان بداخل حريمه لم يشعر بشيء مما جرى فخرج إليهم فأعطوه الفرمان فلما قرأه غاب عن حواسه وأجاب بالطاعة وأمروه بالركوب فركب بغلته وسارا به إلى بولاق إلى المنزل الذي كان شراه بعد موت ولده والشيخ سالم الشرقاوي وانسل مما كان فيه كانسلال الشعرة من العجين وتفرق الجمع الذي كان حوله وشرع الأشياخ في تنميق عرضحال عن لسانهم بأمر الباشا بتعداد جنايات الدواخلي وذنوبه وموجبات عزله وإن ذلك بترجيهم والتماسهم عزله ونفيه ويرسل ذلك العرضحال لنقيب الأشراف بدار السلطنة لأن الذي يكون نقيبًا بمصر نيابة عنه ويرسل إليه الهدية في كل سنة فالذي نقموه عليه من الذنوب أنه تطاول على حسين أفندي شيخ رواق الترك وسبه وحبسه من غير جرم وذلك أنه اشترى منه جارية حبشية بقدر من الفراسة فلما أقبضه الثمن أعطاه بدلها قروشًا بدون الفرط الذي بين المعاملتين فتوقف السيد حسين وقال أما تعطيني العين التي وقع عليهم الانفصال أو تكمل فرط النقص وتشلحنا وأدى ذلك إلى سبه وحبسه وهو رجل كبير متضلع ومدرس وشيخ رواق الأتراك بالأزهر وهذه القضية سابقه على حادثة نفيه ومنها أيضًا أنه تطاول على السيد منصور اليافي بسبب فتيا رفعت إليه وهي أن امرأة وقفت وقفًا في مرض موتها وأفتي بصحة الوقت على قول ضعيف فسبه في ملأ من الجمع وأراد ضربه ونزع عمامته من أعلى رأسه‏.‏

ومنها أيضًا أنه يعارض القاضي في أحكامه وينقص محاصيله ويكتب في بيته وثائق قضايا صلحًا ويسب أتباع القاضي ورسل المحكمة ويعارض شيخ الجامع الأزهر في أموره ونحو ذلك وعندما سطروه وتمموه وضعوا عليه ختومهم وأرسلوا إلى إسلامبول على أن جناياته عند الباشا ليست هذه النكات الفارغة بل ولا علم له بها ولا التفات وإنما هي أشياء وراء ذلك كله ظهر بعضها وخفي عنا باقيها وذلك أن الباشا يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مرام ولا يصطفي ويحب الأمن لا يعارضه ولو في جزئية أو يفتح له بابًا يهب منه ريح الدراهم والدنانير أو يدله على ما فيه من كسب وربح من أي طريق أو سبب من أي ملة كان ولما حصلت واقعة قيام العسكر في أواخر السنة الماضية وأقام الباشا بالقلعة يدبر أمره فيهم وألزم أعيان المتظاهرين الطلوع إليه في كل ليلة وأجل المتعممين الدواخلي لكونه معدودًا في العلماء ونقيبًا على الأشراف وهي رتبة الوالي عند العثمانيين فداخله الغرور وظن أن الباشا قد حصل في ورطة يطلب النجاة منها بفعل القربات والندور ولكونه رآه يسترضي خواطر الرعية المنهوبين ويدفع لهم أثمانها ويستميل كبار العساكر وينعم عليهم بالمقادير الكثيرة من أكياس المال ويسترسل معه في المسامرة والمسايرة ولين الخطاب والمذاكرة والمضاحكة فلما رأى إقبال الباشا عليه زاد طمعه في الاسترسال معه فقال له الله يحفظ أفندينا وينصره على أعدائه والمخالفين له ونرجو من إحسانه بعد هدوء سره وسكون هذه الفتنة أن ينعم علينا ويجرينا على عوائدنا في الحمايات والمسامحات بخصوص ما يتعلق بنا من حصص الالتزام والرزق فأجابه بقوله نعم يكون ذلك ولابد من الراحة لكم ولكافة الناس فدعا له وآنس فؤاده وقال الله تعالى يحفظ أفندينا وينصره على أعدائه كذلك يكون تمام ما أشرتم به من الراحة لكافة الناس الإفراج عن الرزق الأحباسية على المساجد والفقراء فقال نعم ووعده مواعيده العرقوبية فكان الدواخلي إذا نزل من القلعة إلى داره يحكي في مجلسه ما يكون بينه وبين الباشا من أمثال هذا الكلام ويذيعه في الناس ولما أمر الباشا الكتاب بتحرير حساب الملتومين على الوجه المرضي بديوان خاص لرجال دائرة الباشا وأكابر العسكر وذلك بالقلعة تطييبًا لخواطرهم وديوان آخر في المدينة لعامة الملتزمين فيحررون للخاصة بالقلعة ما في قوائم مصروفهم وما كانوا يأخذونه من المضاف والبراني والهدايا وغير ذلك والديوان العام التحتاني بخلاف ذلك فلما رأى الدواخلي ذلك الترتيب قال للباشا وأنا الفقير محسوبكم من رجال الدائرة فقال نعم وحرروا قوائمه مع الأكابر وأكابر الدولة وأنعم عليه الباشا بأكياس أيضًا كثيرة زيادة على ذلك فلما راق الحال ورتب الباشا أموره مع العسكر أخذ يذكر الباشا بإنجاز الوعد ويكرر القول عليه وعلى كتخدا بك بقوله أنتم تكذبون علينا ونحن نكذب على الناس وأخذ يتطاول على كتبة الأقباط بسبب أمور يلزمهم ويكلفهم بإتمامها وعذرهم يخفى عنه في تأخيرها فيكلمهم بحضرة الكتخدا ويشتمهم ويقول لبعضهم أما اعتبر ثم بما حصل للعين غالي فيحقدون عليه ويشكون منه للباشا والكتخدا وغير ذلك أمور مثل تعرضه للقاضي في قضاياه وتشكيه منه واتفق أنه لما حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية وكان بصحبته أحمد جلبي بن ذي الفقار كتخدا الفلاح وكأنه كان كتخداه بالصعيد وتشكت الناس من أفاعله وإغوائه إبراهيم باشا فاجتمع به الدواخلي عند السيد محمد المحروقي وحضر قبل ذلك إليه للسلام عليه وفي كل مرة يوبخه بالكلام ويلومه على أفاعيله بالقول الخشن في ملأ من الناس فذهب إلى الباشا وبالغ في الشكوى ويقول فيها أنا نصحت في خدمة أفندينا جهدي وأظهرت من المخبآت ما عجز عنه غيري فأجازي عليه من هذا الشيخ ما أسمعنيه من قبيح القول وتجبيهي بين الملأ وإذا كان محبًا لأفندينا فلا يكره نفعه ولا النصح في خدمته وأمثال ذلك مما يخفي عنا خبره فمثل هذه الأمور هي التي أوغرت صدر الباشا على الدواخلي مع أنها في الحقيقة ليست خلافًا عند من فيه قابلية للخير وأنا أقول أن الذي وقع لهذا الدواخلي إنما هو قاصا وجزاء فعله في السيد عمر مكرم فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر والجزاء من جنس العمل كما قيل‏:‏ فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي أظهر الكثير من نظرائه المتفقهين الشماتة والفرح وعملوا ولائم وعزائم ومضاحكات كما يقال‏.‏

أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عوافبها اللبيب وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم يتكالبون على الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين‏.‏

وفي أواخره شرعوا في عمل مهم عظيم بمنزل ولي أفندي ويقال له ولي جحا وهو كاتب الخزينة العامرة وهو من طائفة الأرنؤد واختص به الباشا واستأمنه على الأمور وضم إليه دفاتر الإيراد من جميع وجوه جبايات الأموال من خراج البلاد والمحدثات وحسابات المباشرين وأنشأ دارًا عظيمة بخطة باب اللوق على البركة المعروفة بأبي الشوارب وأدخل فيها عدة بيوت بجانبها وتجاهها على نسق واصطلاح الأبنية الإفرنجية والرومية وتأنق في زخرفتها واتساعها واستمرت العمارة بها على نحو السنتين ولما كملت وتمت أحضروا القاضي والمشايخ وعقدوا لولديه على ابنتين من أقارب الباشا بحضرة الأعيان ومن ذكر واحتفلوا بعمل المهم احتفالًا زائدًا وتقيد السيد محمد المحروقي بالمصاريف والتنظيم واللوازم كما كان في أفراح أولاد الباشا واجتمعت الماعيب والبهلوانات بالبركة وما حولها وبالشارع وعلقوا تعاليق قناديل ونجفات وأحمال بلور وزينات واجتمع الناس للفرجة وبالليل حراقات ونفوط ومدافع وسواريخ سبع ليلا متوالية وعملت الزفة يوم الخميس واجتمعت العربات لأرباب الحرف كما تقدم في العام الماضي بل أزيد وذلك لأن الباشا لم يشاهد أفراح أولاده لكونه كان غائبًا بالديار الحجازية وحضر الباشا للفرجة وجلس بمدرسة الغورية بقصد الفرجة وعمل له السيد محمد المحروقي الغداء وخرجوا بالزفة أوائل النهار وداروا بها دورة طويلة فلم يمروا بسوق الغورية إلا قريب الغروب أواخر النهار‏.‏ واستهل

شهر ربيع الثاني سنة 1231

وخروج العساكر إلى ناحية بحري مستمر وأفصح الباشا وذكر في كلامه في مجالسه وبين السر في إخراجهم من المدينة بأن العساكر قد كثروا وفي إقامتهم بالبلدة مع كثرتهم وإفساد وضيق على الرعية مع عدم الحاجة إليهم داخل البلدة الأولى والأحوط أن يكونوا خارجها وحولها مرابطين لحفظ الثغور من طارق على حين غفلة أو حادث خارجي وليس لهم إلا رواتبهم وعلائفهم تأتيهم في أماكنهم ومراكزهم والسر الخفي إخراج الذين قصدوا غدره وخيانته ووقع بسبب حركتهم ما وقع من لنهب والإزعاج على أواخر شعبان من السنة الماضية وكان قد بدأ بإخراج أولاده وخواصه من تحيله واحدًا بعد واحد وأسر إلى أولاده بما في ضميره وأصحب مع ولده طوسون باشا شخصًا من خواصه يسمى أحمد آغا البخورجي المدللي وأخذ طوسون باشا في تدبير الإيقاع مع من يريد به فبدأ بمحو بك وهو أعظمهم وأكثرهم جندًا فأخذ في تأليف عساكره حتى لم يبق معه إلا القليل ثم أرسل في وقت بطلب محو بك عنده في مشورة فذهب إليه أحمد آغا المدللي المذكور وأسر إليه ما يراد به وأشار إليه بعدم الذهاب فركب محو بك في الحال وذهب عند الدلاة فأرسلوا إلى مصطفى بك وهو كبير على طائفة من الدلاة وأخو زوجة الباشا وقريبه وإلى إسماعيل باشا ابن الباشا ليتوسطا في صلح محو بك مع الباشا وليعفوه ويذهب إلى بلاده فأرسلا إلى الباشا بالخبر وبما نقله أحمد آغا المدللي إلى محو بك فسفه رأيه في تصديق المقالة وفي هروبه عند الدلاة ثم يقول لولا أن في نفسه خيانة لما فعل ما فعل من التصديق والهروب وكان طوسون باشا لما جرى من أحمد آغا ما جرى من نقل الخبر لمحو بك عوقه وأرسل إلى أبيه يعلمه بذلك فطلبه للحضور إليه بمصر فلما مثل بين يديه وبخه وعزره بالكلام وقال له ترمي الفتن بين أولادي وكبار العسكر ثم أمر بقتله فنزلوا به إلى باب وزيلة وقطعوا رأسه هناك وتركوه مرميًا طول النهار ثم رفعوه إلى داره وعملوا له في صبحها مشهدًا ودفنوه‏.‏

وفيه حضر إسماعيل باشا ومصطفى بك إلى مصر‏.‏

وفي أواخره حضر شخص يسمى سليم كاشف من الأجناد المصرية مرسلًا من عند بقاياهم من الأمراء وأتباعهم الذين رماهم الزمان بكلكله وأقصاهم وأبعدهم عن أوطانهم واستوطنهم دنقلة من بلاد السودان يتقوتون مما يزرعونه بأيديهم من الدخن وبينهم وبين أقصى الصعيد مسافة طويلة نحو من أربعين يومًا وقد طال عليهم الأمد ومات أكثرهم ومعظم رؤساهم مثل عثمان بك حسن وسليم آغا وأحمد آغا شويكار وغيرهم ممن لا علم لنا بخبرة أخبارهم لبعد المسافة حتى على أهل منازلهم وبقي ممن لم يمت منهم إبراهيم بك الكبير وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي وعثمان بك يوسف وأحمد بك الألافي زوج عديلة ابنة إبراهيم بك الكبير وعلي بك أيوب وبواقي الصغار الأمراء والمماليك على ظن خيانتهم وقد كبر سن إبراهيم بك الكبير وعجزت قواه ووهن جسمه فلما طالت عليهم الغربة أرسلوا هذا المرسل بمكاتبة إلى الباشا يستعطفونه ويسألون فضله ويرجون مراحمه بأن ينعم عليهم بالأمان على نفوسهم ويأذن لهم بالانتقال من دنقلة إلى جهة من أراضي مصر يقيمون بها أيضًا ويتعيشون فيها بأقل العيش تحت أمانه ويدفعون ما يجب عليهم من الخراج الذي يقرر عليهم ولا يتعدون مراسمه وأوامره فلما حضر وقابل الباشا وتكلم معه وسأله عن حالهم وشأنهم ومن مات ومن لم يمت منهم وهو يخبره خبرهم ثم أمره بالانصراف إلى محله الذي نزل فيه إلى أن يرد عليه الجواب وأنعم عليه بخمسة أكياس فأقام أيامًا حتى كتب له جواب رسالته مضمونه أنه أعطاهم الأمان على أنفسهم بشروط شرطها عليهم إن خالفوا منها شرطًا واحدًا كان أمانهم منقوضًا وعهدهم منكرثًا ويحل بهم ما حل بمن تقدم منهم فأول الشروط أنهم إذا عزموا على الانتقال من المحل الذي هم فيه يرسلون أمامهم نجابًا يخبره بخبرهم وحركتهم وانتقالهم ليأتيهم من أعينه لملاقاتهم الثاني إذا حلوا بأرض الصعيد لا يأخذون من أهل النواحي كلفة ولا دجاجة ولا رغيفًا واحدًا وإنما الذي يتعين لملاقاتهم يقوم لهم بما يحتاجون إليه من مؤونة وعليق ومصرف الثالث أني لا أقطعهم شيئًا من الأراضي والنواحي ولا إقامة في جهة من جهات أراضي مصر بل يأتون عندي وينزلون على حكمي ولهم ما يليق بكل واحد منهم من المسكن والتعيين والمصرف ومن كان ذا قوة قلدته منصبًا أو خدمة تليق به أو ضمته إلى بعض الأكابر من رؤساء العسكر وإن كان ضعيفًا أو هرمًا أجريت عليه نفقة لنفسه وعياله الربع أنهم إذا حصلوا بمصر على هذه الشروط وطلبوا شيئًا من إقطاع أو رزقة أو قنطرة أو أقل مما كان في تصرفهم في الزمن الماضي أو نحو ذلك انتقض معي عهدهم وبطل أماني لهم بمخالفة شرط واحد من هذه الشروط وهي سبعة غاب عن ذهني باقيها فسبحان المعز المذل مقلب الأحوال ومغير الشؤون‏.‏

فمن المعبر أنه لما حضر المصريون ودخلوا إلى مصر بعد مقتل طاهر باشا وتأمروا وتحكموا فكانت عساكر الأتراك في خدمتهم ومن أرذل طوائفهم وعلائفهم تصرف عليهم من أيدي كتابهم وأتباعهم وإبراهيم بك هو الأمير الكبير وراتب محمد علي باشا هذا من الخبز اللحم والأرز والسمن الذي عينه له من كباره نعوذ بالله من سوء المنقلب ورجع سليم كاشف المرسل إليهم بالجواب المشتمل على ما فيه من الشروط‏.‏

وفيه أمر الباشا بحبس أحمد أفندي المعايرجي بدار الضرب وحبس أيضا عبد الله بكتاش ناظر الضربخانة واحتج عليهما باختلاسات يختلسانها واستمر أيامًا حتى قرر عليهما نحو السبعمائة كيس وعلى الحاج سالم الجواهرجي وهو الذي يتعاطى إيراد الذهب والفضة إلى شغل الضربخانة مثلها ثم أطلق المذكوران ليحصلا ما تقرر عليهما وكذلك أطلق الحاج سالم وشرعوا في التحصيل بالبيع والاستدانة واشتد القهر بالحاج سالم ومات على حين غفلة وقيل أنه ابتلع فص الماس وكان عليه ديون باقية من التي استدانها في المرة الأولى والغرامة السابقة‏.‏

أنه لما مات إبراهيم بك المداد بالضربخانة قبل تاريخه تزوج بزوجته أحمد أفندي المعايرجي المذكور فلما عوق أحمد أفندي خافت زوجته المذكورة أن يدهمها أمر مثل الختم على الدار أو نحو ذلك فجمعت مصاغها وما تخاف عليه مما خف حمله وثقل ثمنه وربطته في صرة وأودعتها عند امرأة من معارفها فسطا على بيت تلك المرأة شخص حرامي وأخذ تلك الصرة وذهب بها إلى دار امرأة من أقاربه بالقرب من جامع مسكة وقال لها احفظي عندك هذه الصرة حتى أرجع ونزل إلى أسفل الدار فنادته المرأة اصبر حتى آتيك بشيء تأكله فقال نعم فإني جيعان وجلس أسفل الدار ينتظر إتيانها له بما يأكله وصادف مجيء زوج المرأة تلك الساعة فوجده فرحب به وهو يعلم بحاله ويكره مجيئه إلى داره وطلع إلى زوجته فوجد بين يديها تلك الصرة فسألها عنها فأخبرته أن قريبها المذكور أتى بها إليها حتى يعود لأخذها فجسها فوجدها ثقيلة فنزل في الحال ودخل على محمد أفندي سليم من أعيان جيران الخطة فأخبره فأحضر محمد أفندي أنفارًا من الجيران أيضًا وفيهم الخجا المنسوب إلى أحمد آغا لاظ المقتول ودخل الجميع إلى الدار وذلك الحرامي جالس ومشتغل بالأكل فوكلوا به الخدم وأحضروا تلك الصرة وفتحوها فوجدوا بها مضآغا وكيسًا بداخله أنصاف فضة عددية ذكروا أن عدتها أربعون ألفًا ولكنها من غير ختم وبدون نقش السكة فأخذوا ذلك وتوجهوا لكتخدا بك وصحبتهم الحرامي فسألوه وهددوه فأقر وأخبر عن المكان الذي اختلسها منه فأحضروا صاحبة المكان فقالت هو وديعة عندي لزوجة أحمد أفندي المعايرجي فثبت لديهم خيانته واختلاسه وسئل أحمد أفندي فحلف لأنه لا يعلم بشيء من ذلك وأن زوجته كانت زوجًا لإبراهيم المداد فلعل ذلك عندها من أيامه وسئلت هي أيضًا عن تحقيق ذلك فقالت الصحيح أن إبراهيم المداد كان اشترى هذه الدراهم من شخص مغربي عندما نهب عسكر المغاربة الضربخانة في وقت حادثة الأمراء المصرين وخروجهم من مصر عندما قامت عليهم عسكر الأتراك فلم يزيلوا الشبهة عن أحمد أفندي بل زادت وكانت هذه النادرة من عجائب الاتفاق فقدروا أثمانها وخصموها من المطلوب منه‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل وذلك أن القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمراء المصريين فلما استولت هؤلاء الأروام على الممالك والقاضي منهم فحش أمرهم وزاد طمعهم وابتدعوا بدعًا وابتكروا حيلًا لسلب أموال الناس والأيتام والأرامل وكلما ورد قاض ورأى ما ابتكره الذي كان قبله أحدث هو الآخر أشياء يمتاز بها عن سلفه حتى فحش الأمر وتعدى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل والباشا وصارت ذريعة وأمرًا محتمًا لا يحتشمون منه ولا يراعون خليلًا ولا كبيرًا ولا جليلًا وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية التزم بالقسمة بعض المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ أو المحلول وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية وباب سعادة والخرق وباب الشعرية وباب زويلة وباب الفتوح وطيلون وقناطر السباع وبولاق ومصر القديمة ونحو ذلك ولع عوائد وإطلاقات وغلال من الميري وليس له غير ذلك إلا معلوم الإمضاء وهو خمسة أنصاف فضة فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثهم أحضروا شاهدًا من المحكمة القريبة منهم فيقضي فيها ما يقضيه ويعطونه أجرته وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر ثم يضيها من القاضي ويدفع له معلوم الإمضاء لا غير وأما القضايا لمثل العلماء والأمراء فبالمسامحة والإكرام وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الأتراك وقضاتها ابتدعوا بدعًا شتى‏.‏

منها إبطال نواب المحاكم وإبطال القضاة الثلاثة خلاف مذهب الحنفي وأن تكون جميع الدعاوي بين يديه وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى كتخداه ليدفع المحصول فيطلب منهم المقادير الخارجة عن المعقول وذلك خلاف الرشوات الخفية والمصالحات السرية وأضاف التقرير والقسمة لنفسه ولا يلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق وإذا دعى بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة فلا يذهب لا بعد أن يأذن له القاضي أو يصحبه بجوخدار ليباشر القضية وله نصيب أيضًا وزاد طمع هؤلاء الجوخدارية حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في أول الأمر وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخاديمهم وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقدارًا أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول ثم التجهيز والتكفير والمصرف والديون وما بقي بعد ذلك يقسم بين الورثة فيتفق أن الوارث واليتيم لا يبقى له شيء ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضًا ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين أو ثلاثة وقد كان يصالح عليها بأدنى شيء وإلا إكرامًا وابتدع بعضها الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة ومن أين تلقوها وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر وفيها من هو باسم النساء وليسوا أهلًا لذلك وجمع من هذا النوع مقدارًا عظيمًا من المال ثم محاسبات نظار الأوقاف والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك وقرر على نصارى الأقباط والأروام قدرًا عظيمًا في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس ومما هو زائد الشناعة أيضًا أنه إذا ادعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها بأن قال أدعي عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول حقًا كان أو باطلًا معقولًا أو غير معقول ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي وسطره الكاتب يدفعه عليه للقاضي على دور النصف الواحد أو خلاف ما يؤخذ من الخصم الآخر وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول فأرسل الكتخدا يترجى في إطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من أعوانه من استخرجه من الحبس ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الإعلامات وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا ليقضي فيها وقضى فيها لأحد الخصمين طلب المقضي له إعلامًا بذلك إلى الكتخدا أو الباشا يرجع به مع القاصد تقييدًا وإثباتًا فعند ذلك لا يكتب له الإعلام إلا بما عسى لا يرضيه إلا أن يسلخ من جلده طاقًا أو طاقين وقد حكمت عليه الصورة وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له ويستعجله ويساعد كتخدا القاضي عليه ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم مع أن الفرنساوية الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة حددوا له حدًا في أخذ المحاصيل لا يتعداه بأن يأخذ على المائة اثنين فقط له منها جزء والكتاب جزء فلما زاد الحال وتعدى إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري كتبوا عرضًا محضرًا ذكروا فيه بعض هذه لإحداثات والتمسوا من ولي الأمر رفعها ويرجون من المراحم أن يجري القاضي ويسلك في الناس طريقًا من إحدى الطرق الثلاث أما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمراء المصريين وأما الطريقة التي كانت في زمن الفرنساوية أو الطريقة التي كانت أيام مجيء الوزير وهي الأقرب والأوفق وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور وتمموا العرض محضرًا وأطلعوا عليه الباشا فأرسله إلى القاضي فامتثل الأمر وسجل بالسجل على مضض منه ولم تسعه المخالفة‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1231 في منتصفه ورد الخبر بموت مصطفى بك دالي باشا بناحية الاسكندرية وهو قريب الباشا وأخو زوجته‏.‏

واستهل شهر رجب الأصم بيوم الثلاثاء سنة 1231 في ثالثه يوم الخميس قبل الغروب حصل في الناس انزعاج ولغط ونقل أصحاب الحوانيت بضائعهم منها مثل سوق الغورية ومرجوش وخان الحمزاوي وخان الخليلي وغيرهم ولم يظهر لذلك سبب من الأسباب وأصبح الناس مبهوتين ولغطوا بموت الباشا وحضر آغات الينكجرية وآغات التبديل إلى الغورية وأقاما بطول النهار وهما يأمران الناس بالسكون وفتح الدكاكين وكذلك علي آغا الوالي بباب زويلة وأصبح يوم السبت فركب الباشا وخرج إلى قبة العزب وعمل رماحة وملعبًا ورجع إلى شبرا وحضر كتخدا بك إلى سوق الغورية وجلس بالمدفن وأمر بضرب شيخ الغورية فبطحوه على الأرض في وسط السوق وهو مرشوش بالماء وضربه الأتراك بعصيهم ثم رفعوه إلى داره ثم أمر الكتخدا بكتاية أصحاب الدكاكين الذين نقلوا متاعهم فشرعوا في ذلك وهرب الكثير منهم وحبسهم في داره ثم ركب الكتخدا ومر في كريقه على خان الحزاوي وطلب البواب فلما مثل بين يديه أمر بضربه كذلك وضرب أيضًا شيخ مرجوش وأما طائفة خان الخليلي ونصارى الحزاوي فلم يتعرض لهم‏.‏

واستهل شهر شعبان بيوم الخميس سنة 1231 فيه من الحوادث أن بعض العيارين من السراق تعدوا على قهوة الباشا بشبرا وسرقوا جميع ما بالنصبة من الأواني والبكارج والفناجين والظروف فأحضر الباشا بعض أرباب الدرك بتلك الناحية وألزمه بإحضار السراق والمسروق ولا يبقبل له عذرًا في التأخير ولو يصالح على نفسه بخزينة أو أكثر من المال ولا يكون غير ذلك أبدًا وإلا نكل به نكالًا عظيمًا وهو المأخوذ بذلك فترجى في طلب المهلة فأمهله أيامًا وحضر بخمسة أشخاص أحضروا المسروق بتمامه لم ينقص منه شيء وأمر بالسراق فخوزقوهم في نواحي متفرقين بعد أن قرروهم على أمثالهم وعرفوا عن أماكنهم وجمع منهم زيادة على الخمسين وشنق الجميع في نواح متفرقة بالأقاليم مثل القليوبية والغربية والمنوفية‏.‏

وفي منتصفه يوم الجمعة الموافق لرابع مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وفتح سد الخليج يوم السبت‏.‏

وفيه وقع من النوادر أن امرأة ولدت مولودًا برأسين وأربعة أيد وله وجهان متقابلان والوجهان بكتفيهما مفروقان من حد الرأس وقيل لحد الصدر والبطن واحدة وثلاثة أرجل وإحدى الأرجل لها عشرة أصابع فيقال أنه قام يومًا وليلة حيًا ومات وشاهده خلق كثير وطلعوا به إلى القلعة ورآه كتخدا بك وكل من كان حاضرًا بديوانه فسبحان الخلاق العظيم‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة سنة 1231 حصل فيه من النوادر أن في تاسع عشره علق شخص عسكري غلامًا من أولاد البلد وصار يتبعه في الطرقات إلى أن صادفه ليلة بالقرب من جامع ألماس بالشارع فقبض عليه وأراد الفعل به في الطريق فخدعه الغلام وقال له إن كان ولا بد فادخل بنا في مكان لا يرانا فيه أحد من الناس فدخل معه درب حلب المعروف الآن بدرب الحمام خير بك حديد وهناك دور الأمراء التي صارت خرائب فحل العسكري سراويله فقال له الغلام أرني بتاعك فلعله يكون عظيمًا لا أتحمله جميعه وقبض عليه وكان بيده موسى مخفية في يده الأخرى فقطع ذكره بتلك الموسى سريعًا وسقط العسكري مغشيًا عليه وتركه الغلام وذهب في طريقه وحضر رفقاء ذلك العسكري وحملوه وأحضروا له سليمًا الجرائحي فقطع ما بقي من مذاكيره وأخذ في معالجته ومداواته ولم يمت العسكري‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم السبت سنة 1231 وكان حقه يوم الأحد وذلك أن أواخر رمضان حضر جماعة من دمنهور البحيرة وأخبروا عن أهل دمنهور أنهم صاموا يوم الخميس فطلب الباشا حضور من رأى الهلال تلك الليلة فحضر اثنان من العسكر وشهدا برؤيته ليلة الخميس فأثبتوا بذلك هلال رمضان ويكوت تمامه يوم الجمعة وأخبر جماعة أيضًا أنهم رأوا هلال شوال ليلة السبت وكان قوسه في حساب قواعد الأهلة تلك الليلة قليلًا جدًا ولم ير في ثاني ليلة منه إلا بعسر وإنما اشتبه على الرائين لأن المريخ كان مقارنًا للزهرة في برج الشمس من خلفها وبينهما وبين الشمس رؤيا بعدها في شعاع الشمس شبه الهلال فظن الراؤن أنه الهلال فلينتبه لذلك فإن ذلك من الدقائق التي تخفى على أهل الفطانة فضلًا عن غيرهم من العوام الذين يسارعون إلى إفساد العبادات حسبة بالظنون الكاذبة لأجل أن يقال شهد فلان ونحو ذلك‏.‏

وفي أواخره قلد الباشا شخصًا من أقاربه يسمى شريف آغا على دواوين المبتدعات وضم إليه جماعة من الكتبة أيضًا المسلمين والأقباط وجعلوا ديوانهم ببيت أبي الشوارب وهمروه عمارة عظيمة وواظبوا الجلوس فيه كل يوم التحرير المبتدعات ودفاتر المكوس‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة سنة 1231 فيه انهدم جانب من السواقي التي أنشأها الباشا بشبرا على حين غفلة وقد قوي عليها النيل فتهدمت وتكسرت أخشابها وسقط معها أشخاص كانوا حولها فنجا منهم من نجا وغرق منهم من غرق وكان الباشا بقصر شبرا مقيمًا به وهو يرى ذلك وانقضت السنة وأخبار بعض حوادثها واستمرار ما تجدد فيها من المبتدعات التي لا حصر لها‏.‏

ومنها الحجر على االمزارع التي يزرعها الفلاحون في الأراضي التي يدفعون خراجها من الكتاب والسمسم والعصفر والنيلة والقطن والقرطم وإذا بدا صلاحه لا يبيعون منه شيئًا كعادتهم وإنما يشتريه الباشا بالثمن الذي يفرضه ويقدره على يد أمناء النواحي والكشاف ويحملونه إلى المحل الذي يؤمرون بحمله إليه ويعطى لهم الثمن أو يحسب لهم من أصل المال فإن احتاجوا الشيء من ذلك اشتروه بالثمن الزائد المفروض وكذلك القمح والفول والشعير لا يبيعون منه شيئًا لغير طرف الباشا بالثمن المفروض والكيل الوافي‏.‏

ومنها الأمر لكشاف الأقاليم بالمناداة العامة بالمنع لمن يأخذ أو يأكل من الفول الأخضر والحمص والحلبة وأن المعينين في الخدم والمباشرين وكشاف النواحي لا يأخذون شيئًا من الفلاحين كعادتهم من غير ثمن فمن عثر عليه يأخذ شيء واو رغيفًا أو تبنًا أو من جميع البهائم حصل له مزيد الضرر ولو كان من الأعاظم وكذلك الأمر بتكميم أفواه المواشي التي تسرح للمرعي حوالي الجسور والغيطان‏.‏

ومنها أن نصرانيًا من الأرمن التزم بقلم الأبزار التي تأتي من بلاد الصعيد مثل الحبة السوداء والشمر والأنيسون والكمون والكراويا ونحو ذلك بقدر كبير من الأكياس ويتولى هو شراءها دون غيره ويبيعها بالثمن الذي يفرضه ومقدار ما التزم بدفعه من الأكياس للخزينة على ما بلغنا خمسمائة كيس وكانت في أيام الأمراء المصريين عشرة أكياس لا غير فلما تولى على وكالة دار السعادة صالح بك المحمدي زادها عشرة أكياس وكانت وكالة الأبزار والقطن وقفًا لمصطفى آغا السعادة سابقًا على خيرات الحرمين وخلافهما فلما كانت هذه الدولة تولاها شخص على مائتي كيس وعند ذلك سعر الأبزار أضعاف الثمن الأصلي ومن داخل الأبزار الثمر الإبريمي والسلطاني والخوص والمقاطف والسلب والليف وبلغ سعر المقطف الذي يسع الكيلة من البر خمسة وعشرين نصفًا وكان يباع بنصف أو نصفين إن كان جيدًا وفي الجملة أقل من ذلك‏.‏

ومنها أن كرابيت معلم ديوان الكمرك ببولا فالتزم بمشيخة الحمامية وأحدث عليها وعلى توابعها حوادث وعلى النساء البلانات في كل جمعة قدرًا من الدراهم وجعل لنفسه يومًا في كل جمعة يأخذ إيراده من كل حمام‏.‏

ومنها ما حصل في هذه السنة من شحة السابون وعدم وجوده بالأسواق ومع السراحين وهو شيء لا يستغني عنه الغني ولا الفقير وذلك أن تجارة بوكالة الصابون زادوا في ثمنه محتجين بما عليهم من المغارم والرواتب لأهل الدولة فأمر الكتخدا فيه بأمر ويسعر بثمن فيدعون الخسران وعدم الربح وتكرر الحال فيه المرة بعد المرة ويتشكون من قلة المجلوب إلى أن سعر رطله بستة وثلاثين نصفًا فلم يرتضوا ذلك وبالغوا في التشكي فطلب قوائمهم وعمل حسابهم وزادهم خمسة أنصاف في كل رطل وحلف أن لا يزيد على ذلك وهم مصممون على دعوى الخسران فأرسل من أتباعه شخصًا تركيًا لمباشرة البيع وعدم الزيادة فيأتي إلى الخان في كل يوم يباشر البيع على من يشتري بذلك الثمن لأربابه ويمكث مقدار ساعتين من النهار ويغلق الحواصل ويرفع البيع لثاني يوم وفي ظرف هاتين الساعتين تزدحم العسكر على الشراء ولا يتمكن خلافهم من أهل البلد من أخذ شيء وتخرج العسكر فيبيعون من الذي اشتروه على الناس بزيادة فاحشة فيأخذ الرطل بقرش ويبيعه على غيره بقرشين ورفع التشكي إلى كتخدا فأمر ببيعه عند باب زويلة في السبلين المواجه أحدهما للباب والبيل الذي أنشأته الست نفيسة المرادية عند الخان تجاه الجامع المؤيدي ليسهل على العامة تحصيله وشراؤه فلم يزداد الحال إلا عسرًا وذلك أن البائع يجلس داخل السبيل ويغلق عليه بابه ويتناول من خروق الشبابيك من المشتري الثمن ويناوله الصابون فازدحمت طوائف العسكر على الشراء ويتعلقون بأيديهم وأرجلهم على شبابيك السبيلين والعامة أسفلهم لا يتمكنون من أخذ شيء ويمنعون من يزاحمهم فيكون على السبيلين ضجة وصياح من الفريقين فلا يسع ابن البلد الفقير المضطر إلا أن يشتري من العسكري بما أحب وإلا رجع إلى منزله من غير شيء واستمر الحال على هذا المنوال أيامًا وفي بعض الأحايين يكثر وجود الصابون بين أيدي الباعة بوسط السوق ولا تجد عليه مزاحمة وأمام البائع كوم عظيم وهو ينتظر من يشتري وذلك في غالب الأسواق مثل الغورية والأشرفية وباب زويلة والبندقانيين والجهات الخارجة ثم يصبحون فلا يوجد منه شيء ويرجع الازدحام على السبيلين كالأول‏.‏

ومنها أن الباشا أطلق المناداة في البلدة وندب جماعة من المهندسين والمباشرين للكشف على الدور والمساكن فإن وجدوا به أو ببعضه خللًا أمروا صاحبه بهدمه وتعميره فإن كان يعجز عن ذلك فيؤمر بالخروج منها وإخلائها ويعاد بناؤها على طرف الميري وتصير من حقوق الدولة وسبب هذه النكتة أنه بلغ الباشا سقوط دار ببعض الجهات ومات تحت ردمها ثلاثة أشخاص من سكانها فأمر بالمناداة وأرسل المهندسين والأمر بما ذكر فنزل بأهالي البلد من الكرب أمر عزيم مع ما هم فيه من الإفلاس وقطع الإيراد وغلو الأسعار على أن من كان له نوع مقدرة على الهدم والبناء لا يجد من أدواته شيئًا بحسب التحجير الواقع على أرباب الأشغال واستعمال الجميع في عمائر الباشا وأكابر الدولة حتى أن الإنسان إذا احتاج لبناء كانون لا يجد من يبنيه ولا يقدر على تحصيل صانع أو فاعل أو أخذ شيء من رماد الحمام إلا بفرمان ومن حصل شيئًا من ذلك على طريق السرقة في غفلة وعثر عليه نكلوا به وبرئيس الحمام وحمير الباشا وهي أزيد من ألفي حمار تنقل بالمزابل والسرقانيات طول النهار ما يوجد بالحمامات من الرماد وتنقل أيضًا الطوب والدبش والأتربة وأنقاض البيوت المنهدمة لمحل العمائر بالقلعة وغيرها فترى الأسواق والعطف مزدحمة بقطارات الحمير الذاهبة والراجعة وإذا هدم إنسان داره التي أمروه بهدمها وصل إليه في الحال قطار من الحمير لأخذ الطوب الذي يتساقط إلا أن يكون من أهل القدرة على منعهم وربما كانت هذه الأوامر حيلة على أخذ الأنقاض وأما الأتربة فتبقى بحالها حتى في طرق المارة للعجز عن نقلها فترى غالب الطرق والنواحي مردومة بالأتربة وأما الهدم ونقل الأنقاض من البيوت الكبار والدور الواسعة التي كانت مساكن الأمراء المصريين بكل ناحية وخصوصًا بركة الفيل وجهة الحبانية فهو مستمر حتى بقيت خرابًا ودعائم قائمة وكيمان هائلة واختلطت بها الطرق وأصبحت موحشة ولا ماري بها حتى لليوم بعد أن كانت مراتع غزلان فكنت كلما رأيتها أتذكر قول القائل‏:‏ هذي منازل أقوام عهدتهم في خفض عيش نعيم ما له خطر صاحت بهم نوب الأيام فارتحلوا إلى القبور فلا عين ولا أثر وكذلك بولاق كانت نتزه الرفاق فإنه تسلط عليها سليمان آغا السلحدار وإسماعيل باشا في الهدم وأخذ أنقاض الأبنية ببر أنبابة والجزيرة الوسطى بين أنبابة وبولاق فإن سليمان آغا أنشأ بستانًا كبيرًا بين أنبابة وسوره وبنى به قصرًا وسواقي وأخذ يهدم أبنية بولاق من الوكائل والدور وينقل أحجارها وأنقاضها في المراكب ليلًا ونهارًا إلى البر الآخر وإسماعيل باشا كذلك أنشأ بستانًا وقصرًا بالجزيرة وشرع أيضًا في اتساع سرايته ومحل سكنه ببولاق وأخذ الدور والمساكن والوكائل من حد الشؤن القديم إلى آخر وكالة الأبزار العظيمة طولًا فيهدمون الدور وغيرها من غير مانع ولا شافع وينقلون الأنقاض إلى محل البناء وكذلك ولي خوجه شرع في بناء قصر بالروضة ببستان فهو الآخر يهدم ما يهدمه من مصر القديمة وينقل أنقاضه لبنائه وهلك قبل إتمامه وأما نصارى الأرمن وما أدراك ما الأرمن الذين هم أخصاء الدولة الآن فإنهم أنشؤا دورًا وقصورًا وبساتين بمصر القديمة لكنهم فهم يهدمون أيضًا وينقلون لأبنيتهم ما شاؤا ولا حرج عليهم وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط‏.‏

ومنها أن الباشا أمر ببناء مساكن للعسكر الذين أخرجهم من مصر بالأقاليم يسمونها القشلات بكل جهة من أقاليم الأرياف لسكن العساكر المقيمين بالنواحي لتضررهم من الإقامة الطويلة بالخيام في الحر والبرد واحتياج الخيام في ما حين إلى تجديد وترقيع وكثير خدمة وهي جمع قشلة بكسر القاف وسكون الشين وهي في اللغة التركية المكان الشتوي لأن الشتاء في لغتهم يسمى قش بكسر القاف وسكون الشين فكتب مراسيم إلى النواحي بسائر القرى بالأمر لهم بعمل الطوب اللبن ثم حرقه وحمله إلى محل البناء وفرضوا على كل بلد وقرية فرضًا وعددًا معينًا فيفرض على القرية مثلًا خمسمائة ألف لبنة وأكثر بحسب كبر القرية وصغرها فيجمع كاشف الناحية مشايخ القرى ثم يفرض على كل شيخ قدرًا وعددًا من اللبن عشرين ألفًا أو ثلاثين ألفًا أو أكثر أو أقل ويلزم بضربها وحرقها ورفعها وأجلهم مدة ثلاثين يومًا وفرضوا على كل قرية أيضًا مقادير من أفلاق النخل ومقادير من الجريد ثم فرضوا عليهم أيضًا أشخاصًا من الرجال لمحل الأشغال والعمائر يستعملونهم في فعالة نقل أدوات لعمارة في النواحي حتى الاسكندرية وخلافها ولهم أجرة أعمالهم في كل يوم لكل شخص سبعة أنصاف فضة لا غير ولمن يعمل اللبن أجرة أيضًا ولثمن الأفلاق والجريد قدر معلوم لكنه قليل‏.‏

ومنها أنه توجه الأمر لكشاف النواحي عند انكشاف الماء عن الأراضي بأن يتقدموا إلى الفلاحين بأن من كان زراعًا في العام الماضي فداني كنان أو حمص أو سمسم أو قطن فليزرع في هذه السنة أربعة أفدنة ضعف ما تقدم لأن المزارعين عزموا على عدم زراعة هذه الأشياء لما حصل لهم من أخذ ثمرات متاعهم وزراعاتهم التي دفعوا خراجها الزائد بدون القيمة التي كانوا يبيعون بها مع قلة الخراج الذي كانوا يماطلون فيه الملتزمين السابقين مع التظلم والتشكي فيزرع الزارع ما يزرعه من هذه الأشياء من التقاوى المتروكة في مخزنه ثم يبيع الفدان من الكتان الأخضر في غيطه إن كان مستعجلًا بالثمن الكثير وإلا أبقاه إلى تمام صلاحه فيجمعه ويدقه ويبيع ما يبيعه من البزر خاصة بأغلى ثمن ثم يتمم خدمته من التعطين والنشر والتمحير إلى أن يصفى وينظف من أدرانه وخشوناته وينصلح للغزل والنسج فيباع حينئذ بالأوقية والرطل وكذا القطن والنيلة والعصفر فلما وقع عليهم التحجير وحرموا من المكاسب التي كانوا يتوسعون بها في معايشهم باقتناء المواشي والحلي للنساء قالوا ما عدنا نزرع هذه الأشياء وظنوا أن يتركوا على هواهم ونسوا مكر أوليائهم فنزل عليهم الأمر والإلزام بزرع الضعف فضجوا وترجوا واستشفعوا ورضوا بمقدار العام الماضي فمنهم من سومح ومنهم من لم يسامح وهو ذو المقدرة وبعد إتمامه وكمال صلحه يؤخذ بالثمن المفروض على طرف الميري ويباع لمن يشتري من أربابه أو خلافهم بالثمن المقدر وربح زيادته لطرف حضرة الباشا مع التضييق والحجر البليغ والفحص عن الاختلاس فمن عثروا عليه باختلاس شيء ولو قليلًا عوقب عقابًا شديدًا ليرتدع خلافه والكتبة والموظفون لتحرير كل صنف ووزنه وضبطه في تنقلات أطواره وعند تسليم الصناع ونتج من ذلك وأثمر عزة الأشياء وغلو الأسعار على الناس منها أن المقطع القماش الذي كان ثمنه ثلاثين نصفًا بلغ سعره عشرة قروش مع عزة وجدانه بالأسواق المعدة لبيعه مثل سوق مجوش وخلافه خلا الطوافين به والثوب البطانة الذي كان ثمنه قرشين بلغ ثمنه شبعة قروش وأدركناه في الأزمان السابقة يباع بعشرين نصفًا وبلغ ثمن الثوب من البفتة المحلاوي أربعة عشر قرشًا وكان يباع فيما أدركنا بدكان التاجر بستين نصفًا وقس على ذلك وبسبب التحجير على النيلة غلا صبغ ثياب الفقراء حتى بلغ صبغ الذراع الواحد نصف قرش والله يلطف بحال خلقه وما دام توزون له امرأة مطاعة فالميل في الجمر‏.‏

ومنها استمر التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق حيث أن الزراعين له التعبانين فيه لا يمكنون من أخذ حبة منه فيؤخذ بأجمعه لطرف الباشا بما قدره من الثمن ثم يخدم ويبيض في المداوير والمدقات والمناشر بأجرة العمال على طرفه ثم يباع بالثمن المفروض واتفق أن شخصًا من أبناء البلد يسمى حسين جلبي عجوة ابتكر بفكره صورة دائرة وهي التي يدقون بها الأرز وعمل لها مثالًا من الصفيح تدور بأسهل طريقة وقدم ذلك المثال إلى الباشا فأعجبه وأنعم عليه بدراهم وأمره بالمسير إلى دمياط ويبني بها دائرة ويهندسها برأيه ومعرفته وأعطاه مرسومًا بما يحتاجه من الأخشاب والحديد والمصرف ففعل وصح قوله ثم فعل أخرى برشيد وراج أمره بسبب ذلك‏.‏

ومنها أن الباشا لما رأى هذه النكتة من حسين شلبي هذا قال أن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف فأمر ببناء مكتب بحوش السراية ويرتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا وجعل معلمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات واستخراج المجهولات مع مشاركة شخص رومي يقال له روح الدين أفندي بل وأشخاص من الإفرنج وأحضر لهم آلات هندسية متنوعة من أشغال الإنكليز يأخذون بها الأبعاد والإرتفاعات والمساحة ورتب لهم شهريات وكساوي في السنة واستمروا على الاجتماع بهذا المكتب وسموه مهندس خانه في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهيرة يم ينزلون إلى بيوتهم ويخرجون في بعض الأيام إلى الخلاء لتعليم مساحات الأراضي وقياساتها وهو الغرض المقصود للباشا‏.‏

ومنها استمرارا الإنشاء في السفن الكبار والصغار لنقل الغلال من قبلي وبحري لناحية الإسكندرية لتباع على الإفرنج من سائر أصناف الحبوب فيشحنون السفن من سواحل البلاد القبلية وتأتي إلى ساحل بولاق ومصر القديمة فيصبونها كيمانًا هائلة عظيمة صاعدة في الهواء فتصل المراكب البحرية لنقلها فتصبح ولا يبقى شيء منها ويأتي غيرها وتعود كما كانت بالأمس ومثل ذلك بساحل رشيد وأما الحبوب البحرية فإنها لا تأتي إلى هذه السواحل بل تذهب من سواحلها إلى حيث هي برشيد ثم إلى الإسكندرية ولما بطل البغاز جمعوا الحمير الكثيرة والجمال ينقلون عليها على طريق البر بالأجرة القليلة فكانت تموت من قلة العلف ومشقة الطريق وتوثق بها السفن الواصلة بالطلب إلى بلاد الإفرنج بالثمن عن كل أردب من البر ستة آلاف فضة وأما الفول والشعير والحلبة والذرة وغيرها من الحبوب والأدهان فأسعارها مختلفة ويعوض بالبضائع والنقود من الفرانسة معبأة في صناديق صغيرة تحمل الثلاثة منها على بعير إلى الخزينة وهي مصفحة بالحديد يمرون بها قطارات إلى القلعة وعند قلة الغلال ومضي وقت الحصاد يتقدم إلى كشاف النواحي القبلية والبحرية بفرض مقادير من الغلال على البلدان والقرى فيلزمون مشايخ البلدان بما تقرر على كل بلد م القمح والفول والذرة ليجمعوه ويحصلوه من الفلاحين وهم أيضًا يعملون بفلاحي بلادهم ما يعملون بجورهم وأغراضهم ويأخذون الأقوات المدخرة للعيال وذلك بالثمن عن كل أردب من البر ثمانية ريالات يعطى له نصفها ويبقى له النصف الثاني ليحسب له من أصل المال الذي سيطالب به في العام القابل‏.‏

ومنها أن الباشا سنح له أن ينشئ بالمحل المعروف برأس الوادي بشرقية بلبيس سواقي وعمارات ومزارع وأشجار توت وزيتون فذهب هناك وكشف عن أراضيه فوجدها متسعة وخالية من المزارع وهي أراضي رمال وأودية فوكل أناسًا لإصلاحها وتمهيدها وأن يحفروا بها جملة من السواقي تزيد عن الألف ساقية ويبنوا أبنية ومساكن ويزرعوا أشجار التوت لتربية دود القز وأشجارًا كثيرة من الزيتون لعمل الصابون وشرعوا في العمل والحفر والبناء وفي إنشاء توابيت خشب للسواقي تصنع ببيت الجبجي بالتبانة وتحمل على الجمال إلى رأس الوادي شيئًا بعد شيء وأمر أيضًا ببناء جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية وأن يعمل مصبنة لصناعة الصابون وطبخه مثل الذي يصنع ببلاد الشام وتوكل بذلك السيد أحمد بن يوسف فخر الدين وعمل به أحواضًا كبيرة للزيت والقلي‏.‏

ومن المتجددات أيضًا محل بخطة تحت الربع يعمل به وتسبك أوان ودسوت من النحاس في غاية الكبر والعظم‏.‏

ومنها شغل البارود وصناعته بالمكان والصناع المعدة لذلك بجزيرة الروضة بالقرب من المقياس بعد أن يستخرجوه من كيمان السباخ في أحواض مبنية ومخففة ثم يكررونه بالطبخ حتى يكون ملحه غاية في البياض والحدة كالذي يجلب من بلاد الإنكليز والمتقيد كبيرًا على صناعة شخص أفرنكي ولهم معاليم تصرف في كل شهر ومكان أيضًا بالقلعة عند باب الينكجرية لسبك المدافع وعملها وقياساتها وهندستها والبنبات وارتفاعها ومقاديرها وسمى ذلك المكان بالطبخانة وعليه رئيس وكتبة وصناع ولهم شهريات‏.‏

ومنها شدة رغبة الباشا في تحصيل الأموال والزيادة من ذلك من أي طريق بعد استيلائه على البلاد والإقطاعات والرزق الأحباسية وإبطال الفراغ والبيع والشراء والمحلول عن الموتى من ذلك والعلوفات وغلال الأنبار ونحو ذلك فكل من مات عن حصته أو رزقته أو مرتب انحل بموته ما كان على اسمه وضبطه وأضيف إلى ديوانه ولو له أولادًا وكان هو كتبه باسم أولاده وماتت أولاده قبله انحل عنه وأصبح هو وأولاده من غير شيء فإن عرض حاله على الباشا أمر بالكشف عن إيراده فإن وجدوا بالدفاتر جهة أو وظيفة أخرى قيل له هذه تكفيك وإن لم يوجد في حوزه خلافها أمر له بشيء يستغله من أقلام المكوس إما قرش أو نصف قرش في كل يوم أو نحو هذا مع التفاته ورغبته في أنواع النجارات والشركات وإنشاء السفن ببحر الروم والقلزم وأقام له وكلاء بسائر الأساكل حتى ببلاد فرانسة والإنكليز ومالطة وإزمير وتونس والنابلطان والونديك والبنادقة واليمن والهند وأعطى أناسًا جملًا عظيمة من أموال يسافرون بها ويجلبون البضائع وجعل لهم الثلث في الربح في نظير شفرهم وخدمتهم فمن ذلك أنه أعطى للرئيس حسن المحروقي خمسمائة ألف فرانسة يسافر بها إلى الهند ويشتري البضائع الهندية ويأتي بها إلى مصر ولشخص نصراني أيضًا ستمائة ألف فرانسة وكذلك لمن يذهب إلى بيروت وبلاد الشام لمشترى القز والحرير وغير ذلك وعمل بمصر أماكن ومصانع لنسج القطاني التي يتخذها الناس في ملابسهم من القطن والحرير وكذلك الجنفس والصندل واحتكر ذلك بأجمعه وأبطل دواليب الصناع لذلك ومعلميهم وأقامهم يشتغلون وينسجون في المناسج التي أحدثها بالأجرة وأبطل مكاسبهم أيضًا وطرائقهم التي كانوا عليها فيأخذ من ذلك ما يحتاجه في اليلكات والكساوى وما زاد يرميه على التجار وهم يبيعونه على الناس بأغلى ثمن وبلغ ثمن الدرهم من الحرير خمسة وعشرين نصفًا بعد أن كان يباع بنصفين‏.‏

ومنها أنه أبطل ديوان المنجرة وهي عبارة عما يؤخذ من المعاشات وهي المراكب التي تغدو وتروح لموارد الأرياف مثل شيبين الكوم وسمنود والبلاد البحرية وعليها ضرائب وفرائض للملتزم بذلك وهو شخص يسمى عليا الجزار وسبب ذلك أن معظم المراكب التي تصعد ببحر النيل وتنحدر من إنشاء الباشا ولم يبق لغيره إلا القليل جدًا والعمل والإنشاء بالترسخانة مستمر على الداوم والرؤساء والملاحون يخدمون فيها بالأجرة وعمارة خللها وأحبالها وجميع احتياجاتها على طرف الترسخانة ولذلك مباشرون وكتاب وأمناء يكتبون ويقيدون الصادر والوارد وهذه الترسخانة بساحل بولاق بها الأخشاب الكثيرة والمتنوعة وما يصلح للعمائر والمراكب ويأتي إليها المجلوب من البلاد الرومية والشامية فإذا ورد شيء من أنواع الأخشاب سمحوا للخشابة بشيء يسير منها بالثمن الزائد ورفع الباقي إلى الترسخانة وجميع الأخشاب الواردة والأحطاب جميعها في متاجر الباشا وليس لتجارها إلا ما كان من داخل متاجره وهو القليل‏.‏

ومن النوادر أنه وصل إلى بلاد الإنكليز سواقي بآلات الحديد تدور بالماء فلم يستقم لها دوران على بحر النيل‏.‏

ومنها أنه أنشأ جسرًا ممتدًا من ناحية قنطرة الليمون على يمنة السالك إلى طريق بولاق متصلًا إلى شبرا على خط مستقيم وزرعوا بحافتية أشجار التوت وعلى هذا النسق جسور بطرق الأرياف والأقاليم‏.‏

ومنها أن اللحم قل وجوده من أول شهر رجب إلى غاية السنة وغلا سعره مع رداءته وهزاله حتى بيع الرطل بعشرين نصفًا وأزيد وأقل مع ما فيه من العظام وأجزاء السقط والشغت وسبب ذلك رواتب الدولة وأخذها بالثمن القليل فيستعوض الجزارون خسارتهم من الناس وكان البعض من العسكر يشتري الأغنام ويذبحها ويبيعها بالثمن الغالي وينقص الوزن ولا يقدر ابن البلد على مراجعته‏.‏

ومنها أن إبراهيم آغا الذي كان كتخدا إبراهيم باشا قلده الباشا كشوفية المنوفية فمن أفاعيله أنه يطلب مشايخ البلدة أو القرية فيسأل الشخص منهم على من شيخه فيقول أستاذ البلدة فيقول له في أي وقت فيقول سنة كذا فيقول وما الذي قدمته له في سياختك ويهدده أو يحبسه على الإنكار أو يخبر من بادئ الأمر ويقول أعطيته كذا وكذا إما دراهم أو أغنامًا فيأمر الكاتب بتقييده وتحريره وضبطه على الملتزم وسطر بذلك دفترًا وأرسله إلى الديوان ليخصم على الملتزمين من فائظهم المحرر لهم بالديوان فيتفق أن المحرر عليه يزيد على القدر المطلوب له فيطالب الباقي أو يخصم عليه من السنة القابلة‏.‏

ومنها التحجير على القصب الفارسي فلا يتمكن أحد من شراء شيء منه ولو قصبة واحدة إلا بمرسوم من كتخدا بك فمن احتاج منه في عمارة أو شباك أو لدوارات الحرير أو أقصاب الدخان أخذ فرمانًا بقدر احتياجه واحتاج إلى وسائط ومعالجات واحتجاجات حتى يظفر بمطلوبه‏.‏

ومنها وهي من محاسن الأفعال أن الباشا أعمل همته في إعادة السد الأعظم الممتد الموصل إلى الإسكندرية وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه ماء البحر المالح وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع وتكلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدول في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الثغر فكانوا يجسرون عليه بالأتربة والطين فلما اعتنى الباشا بتعمير الإسكندرية وتشييد أركانها وأبراجها وتحصينها ولم تزل بها العمارات اعتنى أيضًا بأمر الجسر وأرسل إليه المباشرين والقومة والرجال والفعلة والنجارين والبنائين والمسامير وآلات الحديد والأحجار والمؤن والأخشاب العظيمة والسهوم والبراطيم حتى تممه وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه وأما أمر المعاملة فلم يزل حالها في التزايد حتى وصل صرف الريال الفرانسة إلى تسعة قروش وهو أربعة أمثال الريال المتعارف ولما بطل ضرب القروش من العام الماضي ضربوا بدلها أنصاف قروش وأرباعها وأثمانها وتصرف بالفرط والأنصاف العددية لا وجود لها بأديد الناس إلا ما قل جدًا فإذا أراد إنسان منها دفع في إبدالها عشرة قروش عنها أربعمائة نصف فضة زيادة على المبدل إن كان ذهبًا أو فرانسة أو قروشًا ووصل صرف البندقي إلى ثمانمائة نصف والمجر ثمانية عشر قرشًا والمحبوب المصري إلى أربعمائة والإسلامبولي إلى أربعمائة وثمانين كل ذلك أسماء لا مسميات لانعدام الأنصاف مع أنه يضرب منها المقادير والقناطير يأخذها التجار الشاميون والروميون بالفرط ثم يرسلونها متاجر بدلًا عن البضائع لأن الريال في تلك البلاد صرفه ثلاثمائة نصف فقط فيكون فيه الربح ستون نصفًا في كل ريال ولما علم الباشا ذلك جعل يرسل لوكلائه بالشام في كل شهر ألف كيس من الفضة العددية ويأتيه بدلها فرانسة فيضيف عليها ثلاثة أمثالها نحاسًا ويضربها فضة عددية فيربح فيها ربحًا بدون حاء عظيمًا وهكذا من هذا الباب فقط‏.‏

ومن حوادث السنة الآفاقية واقعة الإنكليز مع أهل الجزائر وهو أن لأهل الجزائر صولة واستعدادًا وغزوات في البحر ويغزون مراكب الإفرنج ويغتنمون منها غنائم ويأخذون منهم أسرى وتحت أيديهم من أسارى الإنكليز وغيرهم شيء كثير ومينتهم حصينة يدور بها سور خارج في البحر كنصف الدائرة في غاية الضخامة والمتانة ذو أبراج مشحونة بالمدافع والقنابر والمرابطين والمحاربين ومراكبهم من داخله فوصل إليهم بعض مراكب الإنكليز ومعهم مرسوم من السلطان العثماني ليفتدوا أساراهم بمال فأعطوهم ما يزيد عن الألف أسير ودفعوا عن ك رأس أسير مائة وخمسين فرانسًا ورجعوا من حيث أتوا وبعد مدة وصل منهم بعض سافئن إلى خارج المينا رافعين أعلام السلم والصلح فعبروا داخل المينا من غير ممانع ونزل منهم أنفار في فلوكة وبيدهم مرسوم بطلب باقي الأسرى فامتنع حاكمهم من ذلك وترددوا في المخاطبات وفي أثناء ذلك وصلت عدة مراكب من مراكبهم وشلنبات وهي المراكب الصغار لمعدة للحرب وعبروا مع مساعدة الريح إلى المينا وأثاروا الحرب والضراب بطرائقهم المستحدثة فأحرقوا مراكب أهل الجزائر مع المضاربة أيضًا من أهل المدينة مع تأخر استعدادهم وسرعة استعداد الخصم ومدافع الأبراج الداخلة لا تصيب الشلنبات الصغيرة المتسفلة وهم لا يخطؤون ثم هم في شدة الغارة والحرب إذ قيل للحاكم بأن عساكره الأتراك تركوا المحاربة واشتغلوا بنهب البلدة وإحراق الدور فقط في يده واحتار في أمره ما بين قتال العدو الواصل أو قتال عسكره ومنعهم وكفهم عن النهب والإحراق والفساد وهذا شأنهم فلم يسعه إلا خفض الأعلام وطلب الأمان من الإنكليز فعند ذلك أبطلوا الحرب وكفوا عن الضراب وترددوا في الصلح على شرائطهم التي منها تسليم بواقي الأسرى واسترداد المال الذي سلموه في الفداء السابق حالًا من غير مهلة فكان ذلك وتسلموا الأسرى وفيهم من كان صغيرًا وأسلم وقرأ القرآن واتفقوا على المتاركة والمهلة زمنًا مقداره ستة أشهر ورجعوا إلى بلادهم بالظفر والأسرى والأمر لله وحده ثم أن الجزائرلية اجتهدوا في تعمير ما تهدم وتخرب من السور والأبراج والجامع في الحرب وكذلك ما أخربه عساكرهم الذين هم أعدى من الأعداء وأضر ما يكون على الإسلام وأهله وصارت الأخبار بذلك في الآفاق وأمدهم سلطان المغرب مولاي سليمان وبعث إليهم مراكب عوضًا عن الذي تلف من مراكبهم فأرسل إليهم معمرين وأدوات ولوازم عمارات وكذلك حاكم تونس وغيرها ومن السلطان العثماني أيضًا ولم يتفق فيما نعلم لأهل الجزائر مثل هذه الحادثة الهائلة ولا أشنع منها وكانت هذه الواقعة غرة شهر شوال من السنة وهو يوم عيد الفطر وكان عيدًا في غاية الشناعة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ وأما

من مات في هذه السنة ممن له ذكر

مات الشيخ الفهامة والنحرير العلامة الفقيه النحوي الأصولي إبراهيم البسيوني البجيرمي الشيخ الصالح المقتصد الورع الزاهد حضر جل الأشياخ المتقدمين وهو في عداد الطبقة الأولى ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة بل غالب الناس كان طارحًا للتكلف متقشفًا مع التواضع والانكسار ملازمًا على العبادة مستحضرًا للفروع الفقهية والمعقولية والمناسبات الشعرية والشواهد النحوية والأدبية جيدًا لحافظة لا تمل مجالسته ومؤانسته ولم يزل على حالته وإفادته وانجماعه وعفته حتى تمرض وتوفي يوم السبت منتصف المحرم من السنة عن نحو الخمسة وسبعين وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل رحمه الله تعالى وإيانا‏.‏

ومات الشيخ العلامة الأصولي الفقيه النحوي على الحصاوي الشافعي نسبة إلى بلدة بالقليوبية تسمى الحصة حضر إلى الجامع الأزهر صغير وحفظ القرآن والمتون وحضر دروس الأشياخ كالشيخ علي العدوي المنسفيسي الشهير بالصعيدي والشيخ عبد الرحمن النحريري الشهير بالمقري ولازم الشيخ سليمان الجمل وبه تخرج وحضر على الشيخ عبد الله الشرقاوي مصطلح الحديث وكان يحفظ جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي في الأصول ومختصر السعد ويقرأ الدروس ويفيد الطلبة وكان إنسانًا حسنًا مهذبًا متواضعًا ولا يرى لنفسه مقامًا عاش معانقًا للخمول في جهد وقلة من العيش مع العفة وعدم التطلع لغيره صابرًا على مناكدة زوجته وبآخره أصيب بداء الفالج انقطع بسببه أشهرًا ثم انجلى عنه يسيرًا مع سلامة حواسه وعاد إلى الإقراء والإفادة ولم يزل على حسن حاله ورضاه وانشراح صدره وعدم تضجره وشكواه للخلوقين إلى أن توفي في شهر جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف رحمه الله وإيانا‏.‏

ومات الشيخ العلامة والنحرير الفهامة السيد أحمد بن محمد بن إسماعيل من ذرية السيد محمد الدوقاطي الطهطاوي الحنفي والده رومي حضر إلى أرض مصر متقلدًا القضاء بطهطا بلدة بالقرب من أسيوط بالصعيد الأدنى فتزوج بامرأة شريفة فولد له منها المترجم وأخوه السيد إسماعيل ولم يزل مستوطنًا بها إلى أن مات وترك ولديه المذكورين وأختًا لهما حضر المترجم إلى مصر سنة إحدى وثمانين ومائة وألف وكان قد بدأ نبات لحيته بعدما حفظ القرآن ببلده وقرأ شيئًا من النحو فدخل الأزهر ولازم الحضور في الفقه على الشيخ أحمد الحماقي والمقدسي والحريري والشيخ مصطفى الطائي والشيخ عبد الرحمن العريشي حضر عليه من أول كتاب الدر المختار إلى كتاب البيوع وتمم حضوره على المرحوم الوالد مع الجماعة لتوجسه الشيخ عبد الرحمن لدار السلطنة لبعض المقتضيات عن أمر علي بك في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فالتمس الجماعة تكملة الكتاب على الوالد فأجابهم لذلك فكانوا يأتون للتلقي عنه في المنزل والمترجم معهم وفي أثناء ذلك قرأت مع المترجم عن الوالد متن نور الإيضاح بعد انصراف الجماعة عن الدرس ويتحلف المترجم وذلك لعلو السند فإن الوالد تلقاه عن ابن المؤلف وهو جد الوالد عن المؤلف وجد الوالد والمؤلف يسميان بحسن فهو من عجيب الاتفاق وكان المترجم يلائم طبع الفقير في الصحبة فكنت معه في غالب الأوقات إما في الجامع أو في المنزل للطاقة طبعه وقرب سني من سنه وكان الوالد يرى ذلك ويسألني عنه إذا تخلف في بعض الأحيان ويقول أين رفيقك الصعيدي فكان يعيد معي ويفهمني ما يصعب علي فهمه ولم يزل يدأب في الاشتغال والطلب مع جودة ذهنه وخلو باله وتفرغه والفقير بخلاف ذلك وتلقى المترجم الحديث سماعًا وإجازة عن كل من الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد العليم للفيومي ثلاثتهم عن الشيخ علي العدوي المنسفيسي عن الشيخ محمد عقيلة بسنده الشمهور والمترشح للإفادة والتدريس وكان مسكنه بناحية الصليبة وجلس للإقراء بالمدرسة الشيخونية والصرغشمشية احتف به سكان تلك الناحية وأكابرهم واعتنوا بشأنه وأسكونه في دار تليق به وهادوه وواسوه وأكرموه وكانت تلك الناحية عامرة بأكابرها وانفرد المترجم عندهم لكونه على مذهبهم وأصله من جنس الأتراك وخلو تلك النواحي من أهل العلم وخصوصًا الأحناف وملازمة المترجم للحالة المحمودة من الإفادة مع شرف النفس والتباعد عما يخل بالمروءة إلا ما يأتيه عفوًا فازدادت محبتهم له ووثقوا فيما يقضيه ثم تصدى لوقف الشيخونيتين وإبرادهما واستخلاص أماكنهما وشرع في تعميرهما وساعده على ذلك كل من كان يحب الإصلاح فجدد عمارة المسجد والتكية وأنشأ بها صهريجًا وفي أثناء ذلك انتقل بأهله إلى دار مايحة بجوار المسجد بالدرب المعروف بدرب الميضاة وقفها بانيها على المسجد كل ذلك والمترجم لم ينقطع عن الحضور إلى الأزهر في كل يوم ويقرأ دروسه أيضًا بالجامع ولما كثرت جماعته انتقل إلى المدرسة العينية بالقرب من الأزهر وملا عمر محمد أفندي الودنلي الجامع المجاور لمنزله تجاه القنطرة المعروفة بعمار شاه والمكتب قرر المترجم في درس الحديث بها في كل يوم بعد العصر وقرر له عشرة من الطلبة ورتب للشيخ والطلبة معلومًا وافرًا يقبض من الديوان ولما مات الشيخ إبراهيم الحريري تعين المترجم لمشيخة الحنفية فتقلدها على امتناع منه فاستمر إلى أن أخرج السيد عمر مكرم من مصر منفيًا وكتبوا في شأنه عرضحال إلى الدولة نسبوا إليه فيه أشياء لم تحصل منه وطلبوا الشهادة فيها فامتنع فشنعوا عليه وبالغوا في الحطط عليه وعزلوه من المشيخة وقلدوها الشيخ حسينًا المنصوري فلما مات المذكور أعيد المترجم إلى مشيخة الحنفية وذلك في غرة شهر صفر سنة ألف ومائتين وثلاثين ولبس الخلع من الشيخ الشنواني شيخ الجامع ثم من الباشا وباقي المشايخ أرباب المظاهر ولم يختلف عليه اثنان وفي هذه السنة استأذن الفقير في بناء مقبرة يدفن فيها إذا مات بجوار الشيخ أبي جعفر الطحاوي بالقرافة لكوني ناظرًا عليها فأذنت له في ذلك فبنى له قبرًا بجانب مقام الأستاذ ولما توفي دفن فيه وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد الغروب خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف وله من المآثر حاشية على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في أربع مجلدات جمع فيها المواد التي في الكتاب وضم إليها غيرها‏.‏

ومات النجيب الأريب والنادرة العجب أعجوبة الزمان وبهجة الخلان حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي كما أخبر عن نفسه الذكي الألمعي والسميذع اللوذعي كان إنسانًا عجيبًا في نفسه مميزًا شهيرًا في مصره طاف البلاد والنواحي وجال في الممالك والضواحي واطلع على عجائب المخلوقات وعرف الكثير من الألسن واللغات ويعتزى لكل قبيل ويخالط كل جيل فمرة ينتسب إلى فارس وأخرى إلى بني مكانس فكأنه المعني بما قيل طور إيمان إذا لاقيت ذا يمن وإن رأيت معديًا فعدناني هذا مع فصاحة لسان وقوة جنان والمشاركة في كل فن من الرياضيات والأدبيات حتى يظن سامعه أنه مجيد في ذلك الفن منفرد به وليس الأمر كذلك وإنما ذلك بقوة الفهم والحفظ وما فيه من القابلية فيستغني بذلك عن التلقي من الأشياخ وأيضًا فقد انقرض أهل الفنون فيحفظ اصطلاحات الفن وأوضاع أهله ويبرزه في ألفاظ ينمقها ويحسنها ويذكر أسماء كتب مؤلفة وأشياخًا وحكمًا يقل الاطلاع عليها والوصول إليها ولمعرفته باللغات خالط كل ملة حتى يظن كل أهل ملة أنه واحد منهم ويحفظ كثيرًا من الشبه والمدركات العقلية والبراهين الفلسفية وأهمل الواجبات الشرعية والفرائض القطعية وربما قلد كلام الملحدين وشكوك المارقين ويزلق لسانه في بعض المجالس بغلطات من ذلك ووساوس فلذلك طعن الناس عليه في الدين وأخرجوه عن اعتقاد المسلمين وساءت فيه الظنون وكثر عليه الطاعنون وصرحوا بعد موته بما كانوا يخفونه في حياته لاتقاء شره وسطوته وكان له تداخل عجيب في الأعيان ومع كل أهل دولة وزمان ورؤساء الكتبة والماشرين من الأقباط والمسلمين بالمعزة الزائدة واستجلاب الفائدة لا تمل مجالسته ولا معاشرته وبأخره لما رغب الباشا في إنشاء محل لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة تعين المترجم رئيسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب وذلك أنه تداخل بتحيلاته لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك ورتب له خروجًا وشهرية ونجب تحت يده بعض المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها وأعجب الباشا ذلك فذاكره وحسن له بأن بفرد مكانًا للتعليم ويضم إلى مماليكه من يريد التعليم من أولاد الناس فأمر بإنشاء ذلك المكتب وحضر إليه أشياء من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكلز وغيرهم واستجلب من أولاد البلد ما ينيف على الثمانين شخصًا من الشبان الذين فيهم قابلية التعليم ورتبوا لكل شخص شهرية وكسوة في آخر السنة فكان يسعى في تعجيل كسوة الفقير منهم ليتجمل بها بين أقرانه ويواسي من يستحق المواساة ويشتري لهم الحمير مساعدة لطلوعهم ونزولهم إلى القلعة فيجتمعون للتعليم في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهر وأضيف إليه آخر حضر من إسلامبول له معرفة بالحسابيات والهندسيات لتعليم من يكون أعجميًا لا يعرف العربية مساعدًا للمترجم في التعليم يسمى روح الدين أفندي فاستمرا نحوًا من تسعة أشهر ومات المترجم وذلك أنه اقتصد وطلع إلى القلعة فحنق على بعض المتعلمين وضربه فانحلت الرفادة فسال منه دم كثير فحم حمى مختلطة واستمر أيامًا وتوفي ودفن بجامع السراج البلقيني بين السيارج وعند ذلك زاد قول الشامتين وصروحوا بما كانوا يخفونه في حياته فيقول البعض مات رئيس الملحدين وآخر يقول انهدم ركن الزندقة ونسبوا إليه أن عنده الكتاب الذي ألفه ابن الراوندي لبعض اليهود وسماه دافع القرآن وأنه كان يقرؤه ويعتقد به وأخبروا بذلك كتخدا بك فطلب كتبه وتصفحوها فلم يجدوا بها ذلك الكتاب وما كفى مبغضه وحاسده من الشناعات حتى رأوا له منامات شنيعة تدل على أنه من أهل النار والله ألم بخلقه وبالجملة فكان غريبًا في بابه وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشر جمادى الثانية من السنة وانفرد برياسة المكتب روح الدين أفندي المذكور‏.‏

ومات الأجل المكرم الشريف غالب بسلانيك وهو المنفصل عن إمارة مكة وجدة والمدينة وما انضاف إلى ذلك من بلاد الحجاز فكانت إمارته نحوًا من سبع وعشرين سنة فإنه تولى بعد موت الشريف سرور في سنة ثلاث ومائتين وألف وكان من دهاة العالم وأخباره ومناقبه تحتاج إلى مجلدين ولم يزل حتى سلك الله عليه بأفاعيله هذا الباشا فلم يزل يخادعه حتى تمكن منه وقبض عليه وأرسله إلى بلدة سلانيك وخرج من سلطنته وسيادته إلى بلاد الغربة ونهبت أمواله وماتت أولاده وجواريه ثم مات هو في هذه السنة‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك دالي باشا ونسيبه أيضًا وكان من أعاظم أركان دولته شهير الذكر موصوفًا بالإقدام والشجاعة ومات بالإسكندرية ولما وصل خبره إلى الباشا اغتم غمًا شديدًا وتأسف عليه وكان الباشا ولاه كشوفية الشرقية وقرن به علي كاشف فأقام بها نحو السنتين ومهد البلاد وأخاف العربان وأذلهم وقتل منهم الكثير وجمع لمخدومه أموالًا جمة وكان جسيمًا بطينًا يأكل التيس المخصي وحده ويشرب عليه الزق من الشراب ثم يتبعه بشالية أو اثنتين من اللبن ويستلقي نائمًا مثل العجل العظيم ذي الخوار إلا أنه كان يقضي حاجة من التجأ إليه ويحب أولاد الناس ويواسيهم يتجاوز عن الكثير ويعطي ما يلزمه من الحقوق لأربابها ولما تحققت أخته التي هي زوج الباشا وكذلك والدته أمرتا بإحضار رمته إلى مصر ويدفن بمدفنهم وتعين لذلك سليمان آغا السلحدار فسافر إلى الإسكندرية ووضعه في صندوق مزفت على عربية ووصل به بعد اثني عشر يوما ً من موته وكان وصوله في ثاني ساعة من ليلة الجمعة سادس عشرة جمادى الثانية وذهبوا به إلى المدفن في المشاعل من خلف المجراة فلما وصلوا إلى المدفن أرادوا إنزاله إلى القبر بالصنجوق فلم يمكنهم فكسروا الصندوق فبقت رائحته وقد تهرى فهرب كل من كان حاضرًا فكبوه على حصير ولفوه فيه وأنزلوه إلى الحفرة وغشي على الفحارين وخزعت النفوس من رائحة أخشاب الصندوق فحثوا عليه الأتربة وليس من يفتكر ويعتبر‏.‏

ومات أيضًا حسن آغا حاكم بندر السويس مطعونًا فولى الباشا عوضه السيد أحمد الملا الترجمان‏.‏

ومات أيضًا سليمان آغا حاكم رشيد‏.‏

ومات الأمير الكبير المشهير بإبراهيم بك المحمدي عين أعيان أمراء الألوف المصريين ومات بدنقلة متغربًا عن مصر وضواحيها وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب تقلد الأمرة والإمارة في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف في أيام علي بك الكبير وتقلد مشيخة البلد ورياسة مصر بعد موت أستاذه في سنة تسع وثمانين ومائة وألف مع مشاركة خشداشه مراد بك وباقي أمرائهم والجميع راضون برياسته وإمارته لا يخالفهم ولا يخالفونه ويراعي جانب الصغير منهم قبل الكبير ويحرص على جمعية أمرهم وألفة قلوبهم فطالت أيامه وتولى قائم مقامية مصر على الوزراء نحو العشرة مرار وطلع أميرًا على الحج سنة ست وثمانين وتولى الدفتردارية في سنة سبع وثمانين وكلاهما في حياة أستاذه واشترى المماليك الكثيرة ورباهم وأعتقهم وأمر وقلد منهم صناجق وكشافًا وأسكنهم الدور الواسعة وأعطاهم الإقطاعات ومات الكثير منهم في حياته وأقام خلافهم من مماليكه ورأى أولاد أولاده بل وأولادهم وما زال يولد له وأقام في الإمارة نحو ثمان وأربعين سنة وتنعم فيها وقاسى في أواخر أمره شدائد واغترابًا عن الأهل والأوطان وكان موصوفًا بالشجاعة والفروسية وباشر عدة حوب وكان ساكن الجأش صبورًا ذا تؤدة وحلم قريبًا للانقياد للحق متجنبًا للهزل إلا نادرًا مع الكمال والحشمة لا يحب سفك الدماء مرخصًا لخشداشينه في أفاعيلهم كثير الغافل عن مساويهم مع معارضتهم له في كثير من الأمور وخصوصًا مراد بك وأتباعه فيغضي ويتجاوز ولا يظهر غمًا ولا خلافًا ولا تأثرًا حرصًا على دوام الألفة وعدم المشاغبة وإن حدث فيما بينهم ما يوجب وحشة تلافاه وأصلحه وكان هذا الإهمال والترخص والتغافل سببًا لمبادئ الشرور فإنهم تمادوا في التعدي وداخلهم الغرور وغمرتهم الغفلة عن عواقب الأمور واستصغروا من عداهم وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار وبضائع الإفرنج الفرنساوية وغيرهم بدون الثمن مع الحقارة لهم ولغيرهم وعدم المبالاة والاكتراث بسلطانهم الذي يدعون أنهم في طاعته مع مخالفة أوامره ومنع خزينته واحتقار الولاة ومنعهم من التصرف والحجر عليهم فلا يصل للمولى عليهم إلا بعض صدقاتهم إلى أن تحرك عليهم حسن باشا الجزائرلي في سنة مائتين وألف وحضر على الصورة التي حضر فيها وساعدته الرعية وخرجوا من المدينة إلى الصعيد وانتهكت حرمتهم ثم رجعوا بعد الفصل في سنة ست ومائتين إلى إمارتهم ودولتهم وعادوا إلى حالتهم الأولى بل وأزيد منها في التعدي فأوجب ذلك ركوب الفرنساوية عليهم ولم يزل الحال يتزايد والأهوال يتلو بعضها بعضًا حتى انقلبت أوضاع الديار المصرية وزالت حرمتها بالكلية وأدى الحال بالمترجم إلى الخروج والتشتيت والتشريد هو ومن بقي من عشيرته إلى بلاد العبيد يزرعون الدخن ويتقوتون منه وملابسهم القمصان التي يلبسها الجلابة في بلادهم إلى أن وردت الأخبار بموته في شهر ربيع الأول من السنة وأما جملة أخباره فقد ومات الأمير الأجل أحمد آغا الخازندار المعروف ببونابارته وهو أيضًا شهير الذكر من أعاظم الدولة وقد تقدم كثير من أخباره وسفره إلى الحجاز وكان عمر دارًا عظيمة على بركة الأزبكية جهة الرويعي ثم عمل مهمًا كبيرًا لزواج ابنه وهو إذ ذاك مريض في حياض الموت حتى أشيع في الناس يوم زفة العروس ثم مات بعد أيام قليلة مضت على الفرح وذلك يوم الأربعاء ثالث شهر جمادى الثانية‏.‏

وماتت الست الجليلة خاتون وهي سرية علي بك بلوط قبان الكبير وكانت محظيته وبنى لها الدار العظيمة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق والساقية والطاحون بجانبها ولما مات علي بك وتأمر مراد بك فتزوج بها وعمرت طويلًا مع العز والسيادة والكلمة النافذة وأكثر نساء الأمراء من جواريها ولم يأت بعد الست شويكار من اشتهر ذكره وخبره سواها وكان أيام الفرنساوية واصطلح معهم مراد بك حصل لها منهم غاية الكرم ورتبوا لها من ديوانهم في كل شهر مائة ألف نصف فضة وشفاعتها عندهم مقبولة لا ترد بالجملة فإنها كانت من الخيرات ولها على الفقراء بر وإحسان ولما من المآثر الخان الجديد والصهريج داخل باب زويلة توفيت يوم الخميس لعشرين من شهر جمادى الأولى بمنزلها المذكور بدرب عبد الحقودفنت بحوشهم في القرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي وأضيفت الدار إلى الدولة وسكنها بعض أكابرها وسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏

ومات المقر الكريم المخدوم أحمد باشا الشهير بطوسون ابن حضرة الوزير محمد علي باشا مالك الأقاليم المصرية والحجازية والثغور وما أضيف إليها وقد تقدم ذكر رجوعه من البلاد الحجازية وتوجهه إلى الإسكندرية ورجوعه إلى مصر ثم عوده إلى ناحية رشيد وعرضى خيامه جهة الحماد بالعسكر على الصورة المذكورة وهو ينتقل من العرضي إلى رشيد ثم إلى برنبال وأبي منضور والعزب ولما رجع في هذه المرة أخذ صحبته من مصر الغنين وأرباب الآلات المطربة بالعود والقانون والناي والكمنجات وهم إبراهيم الوراق والحباني وقشوة ومن يصحبهم من باقي رفقائهم فذهب ببعض خواصه إلى رشيد ومعه الجماعة المذكورون فأقام أيامًا وحضر إليه من جهة الروم جوار وغلمان أيضًا رقاصون فانتقل بهم إلى قصر برنبال ففي ليلة حلوله بها نزل به ما نزل من المقدور فتمرض بالطاعون وتململ نحو عشر ساعات وانقضى نحبه وذلك ليلة الأحد سابع شهر القعدة وحضر خليل أفندي قوللي حاكم رشيد وعندما خرجت روحه انتفخ جسمه وتغير لونه إلى الزرقة فغسلوه وكفنوه ووضعوه في صندوق من الخشب ووصلوا به في السفينة منتصف ليلة الأربعاء عاشره وكان والده بالجيزة فلم يتجاسروا على إخباره فذهب إليه أحمد آغا أخو كتخدا بك فلما علم بوصوله ليلًا استنكر حضوره في ذلك الوقت فأخبره عنه أنه ورد إلى شبرا متوعكًا فركب في الحين القنجة وانحدر إلى شبرا وطلع إلى القصر وصار يمر بالمخادع ويقول أين هو فلم يتجاسر أحد أن يصرح بموته وكانوا ذهبوا به وهو في السفينة إلى بولاق ورسوا به عند الترسخانة وأقبل كتخدا بك على الباشا فرآه يبكي فانزعج انزعاجًا شديدًا وكاد أن يقع على الأرض ونزل السفينة فأتى بولاق آخر الليل وانطلقت الرسل لإخبار الأعيان فركبوا بأجمعهم إلى بولاق وحضر القاضي والأشياخ والسيد المحروقي ثم نصبوا تظلك ساترًا على السفينة وأخرجوا الناووس والدم والصديد يقطر منه وطلبوا القلافطة لسد خروقه ومنافسه ونصبوا عودًا عند رأسه ووضعوا عليه تاج الوزارة المسمى بالطلخان وانجروا بالجنازة من غير ترتيب والجميع مشاة أمامه وخلفه وليس فيها من جوقات الجنائز المعتادة كالفقهاء وأولاد الكتاتيب والأحزاب شيء من ساحل بولاق على طريق المدابغ وباب الخرق على الدرب الأحمر على التبانة إلى الرميلة فصلوا عليه بمصلى المؤمنين وذهبوا به إلى المدفن الذي أعده الباشا لنفسه ولموتاه كل هذه المسافة ووالده خلفه ينظر إليه ويبكي ومع الجنازة أربعة من الحمير تحمل القروش وربعيات الذهب ودراهم أنصاف عددية ينثرون صبها على الأرض وعلى الكيمان وعن يمين الكتخدا ويساره شخصان يتناول منهما قراطيس الفضة يفرق على من يعترض له من الفقراء والصبيان فإذا تكاثروا عليه نثر ما بقي في يده عليهم فيشتغلون عنه بالتقاطها من الأرض فكان جملة ما فرق وبدر من الأنصاف العددية فقط خمسة وعشرين كيسًا عنها خمسمائة ألف فضة وذلك خلاف القروش وساقوا أما الجنازة ستة رؤوس من الجواميس الكبار أخذ منها خدمة التربة ومن حولهم وخدمة ضريح الإمام الشافعي ولم ينل الفقراء إلا ما فضل عنهم وأخرجوا لإسقاط صلاة المتوفي خمسة وأربعين كيسًا تناولها فقراء الأزهر وفرقت بجامع الفاكهاني بحسب الأغراض للغني منهم أضعاف قسم الفقير وأكثر الفقراء من الفقهاء لم ينالوا ولا القليل ولما وصلوا إلى المدفن هدموا التربة وأنزلوه فيها بتابوته الخشب لتعسر إخراجه منه بسبب انتفاخه وتهربه حتى أنهم كانوا يطلقون حول تابوته البخورات في المجامر الذهب والرائحة غالبة على ذلك وليس ثم من يتعظ أو يعتبر ولما مات لم يخبروا والدته بموته إلا بعد دفنه فجزعت عليه جزعًا شديدًا ولبست السواد وكذلك جميع نسائهم وأتباعهم وصبغوا براقعهم بالسواد والزرقة وكذلك من ينافقهم من الناس حتى لطخوا أبواب البيوت ببولاق وغيرها بالوحل وامتنع الناس بالأمر عليهم من عمل الأفراح ودق الطبول مطلقًا ونوبة الباشا وإسمعيل باشا وطاهر باشا حتى ما يفعله دراويش المولوية في تكاياهم عند المقابلة من الناي والطبل أربعين يومًا وأقاموا عليه العزاء عند القبر وعدة من الفقهاء والمقرئين يتناوبون قراءة القرآن مدة الأربعين يومًا ورتبوا لهم ذبائح ومآكل وكل ما يحتاجونه ثم ترادفت عليهم العطايا من والدته وأخواته والواردين من أقاربه وغيرهم على حد قول القائل مصائب قوم عنج قوم فوائد ومات وهو مقتبل الشبيبة لم يبلغ العشرين وكان أبيض جسيمًا كما قد دارت لحيته بطلًا شجاعًا جواجًا له ميل لأولاد العرب منقادًا لملة الإسلام ويعترض على أبيه في أفعاله تخافه العسكر وتهابه ومن اقترف ذنبًا صغيرًا قتله مع إحسانه وعطاياه للمنقاد منهم ولأمرائه ولغالب الناس إليه ميل وكانوا يرجون تأمره بعد أبيه ويأبى الله إلا ما يريد‏.‏

ومات الوزير المعظم يوسف باشا المنفصل عن إمارة الشام وحضر إلى مصر من نحو ثلاث سنوات هاربًا وملتجئًا إلى حاكم مصر وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وأصله من الأكراد الدكرلية وينسب إلى الأكراد الملية وابتداء أمره بإخبار من يعرفه أنه هرب من أهله وعمره إذا ذاك خمس عشرة سنة فوصل إلى حماة وتعاطى بيع الحشيش والسرجين والروث ثم خدم عند رجل يسمى ملا حسين مدة سنين إلى أن ألبسه قلبق ثم خدم بعده ملا إسماعيل بلكتاش وتعلم الفروسية والرماحة فلعب يومًا في القمار وخسر فيه وخاف على نفسه فخرج هاربًا إلى عمر آغا باسيلي من إشراقات إبراهيم باشا المعروف بالأزدن فتوجه معه إلى غزة وكان مع المترجم جواد أشقر من جياد الخيل فقلد علي آغا متسلم غزة عمر آغا المذكور وجعله دالي باشا ففي بعض الأيام طلب المتسلم من المترجم الجواد فقال له إن قلدتني دالي باشا قدمته لك فأجابه إلى ذلك وعزل عمر آغا وقلد المترجم المنصب عوضًا عنه وامتنع من إعطائه ذلك الجواد وأقام في خدمته فوصل مرسوم من أحمد باشا الجزار خطابًا للمترجم بالقبض على المتسلم وإحضاره إلى طرفه وإن فعل ذلك ينعم عليه بمبلغ خمسين كيسًا ومائة بيرق ففعل ذلك وأوقع القبض على علي آغا المتسلم وتوجع إلى عكا بلدة الجزار فقال المتسلم للمترجم في أثناء الطريق تعلم أن الجزار رجل سفاك دماء فلا توصلني إليه وإن كان وعدك بمال أنا أعطيك أضعافه وأطلقني أذهب حيث شاء الله ولا تشاركه في دمي فلم يجبه إلى ذلك وأوصله إلى الجزار فحبسه ثم قتله ورماه في البحر وأقام المترجم بباب الجزار أيامًا ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى حيث يريد فإنه لا خير فيه لخيانته لمخدومه فذهب إلى حماة وأقام عند آغاته إسماعيل آغا وهو متول من طرف عبد الله باشا المعروف بابن العظم فأقام في خدمته كلارجي زمنًا نحو الثلاث سنوات وكان بين عبد الله باشا وأحمد باشا الجزار عداوة فتوجه عبد الله باشا إلى الدورة فأرسل الجزار عساكره ليقطع عليه الطريق فسلك طريقًا أخرى فلما وصل إلى جنيني وهي مدينة قريبة من بلاد الجزار وجه الجزار عساكره عليه فلما تقارب العسكران وتسامعت أهل النواحي امتنعوا من دفع الأموال فما وسع عبد الله باشا إلا الرحيل وتوجه إلى ناحية نابلس مسافة يومين وحاصر بلدة تسمى صوفين وأخذ مدافع من يافا وأقام محاصرًا لها ستة أيام ثم طلبوا الأمان فأمنهم ورحل عنهم إلى طرف الجبل مسيرة نصف ساعة وفرق عساكره لقبض أموال الميري من البلاد وأقام هو في قلة من العسكر فوصل إليه خيال وقت العصر في يوم من الأيام يخبره بوصل عساكر الجزار وأنه لك يكن بينه وبينهم إلا نصف ساعة وهم خمسة آلاف مقاتل فارتبك في أمره وأرسل إلى النواحي فحضر إليه من حضروهم نحو الثلاثمائة خيال وهو بدائرته نحو الثمانين فأمر بالركوب فلما تقربا هاله كثرة عساكر العدو وأيقنوا الهلاك فتقدم المترجم إلى العسكر وأشار عليه و بالثبات وقال لهم لم يكن غير ذلك فإننا إن فررنا هلكنا عن آخرنا وتقدم المترجم مع آغاته ملا إسماعيل وتبعهم العسكر وولجوا أوسط خيل العدو وصدقوا الحملة جملة واحدة فحصلت في العدو الهزيمة وركبوا أقفيتهم وتبعهم المترجم حتى حال الليل بينهم فرجعوا برؤوس القتلى والقلائع فلما أصبح النهار عرضوها على الوزير وهي نحو الألف رأس وألف قليعة فخلع عليهم وشكرهم وارتحلوا إلى دمشق وذهب المترجم مع آغاته إلى مدينة حماة واستمر هناك إلى أن حضر الوزير الأعظم يوسف باشا المعروف بالمعدن إلى دمشق بسبب الفرنساوية ففارق المترجم مخدومه في نحو السبعين خيالًا وجعل يدور بأراضي حماة بطالًا ويقال له قيس فيراسل الجزار لينضم إليه وكان الجزار عند حضور الوزير انفصل حكمه عن دمشق ووجه ولايتها إلى عبد الله باشا العظم فلما بلغ المترجم ذلك توجه إلى لقاء عبد الله باشا بالمعرة فأكرمه عبد الله باشا وقلده دالي باشا كبيرًا على جميع الخيالة حتى على آغاته ملا إسماعيل وأقام بدمشق مدة إلى أن حاصر عبد الله باشا مدينة طرابلس فوصل إليه الخبر بأن عساكر الجزار استولوا على دمشق وبلادها فركب عبد الله باشا وذهب إلى دمشق ودخلها بالسيف ونصب عرضيه خارجها فوصل خبر ذلك إلى الجزار فكاتب عساكر عبد الله باشا يستميلهم لأن معظمهم غرباء فاتفقوا على خيانته والقبض عليه وتسليمه إلى الجزار وعلم ذلك وثبته فركب في بعض مماليكه وخاصته إلى وطاق المترجم وهو إذ ذاك دالي باشا وأعلمه الخبر وأنه يريد النجاة بنفسه فركب بمن معه وأخرجه من بين العسكر قهرًا عنهم وأوصله إلى شول بغداد ثم ذهب على الهجن إلى بغداد ورجع المترجم إلى حماة فقبل وصوله إليها ورد عليه مرسوم الجزار يستدعيه فذهب إليه فجعله مقدم ألف وقلده باش الجردة فسافر إلى الحجاز بالملاقاة وكان أمير الحاج الشامي إذ ذاك سليمان باشا عوضًا عن مخدومه أحمد باشا الجزار فلما حصلوا في نصف الطريق وصلهم خبر موت الجزار فرجع يوسف المترجم إلى الشام واستولى إسماعيل باشا على عكا وتوجه منصب ولاية الشام إلى إبراهيم باشا المعروف بقطر آغاسي أي آغات البغال وفي فرمان ولايته الأمر بقطع رأس إسماعيل باشا وضبط مال الجزار فذهب المترجم بخيله وأتباعه إلى إبراهيم باشا وخدم عنده وركب إلى عكا وحصروها وحظا في أرض الكرداني مسيرة ساعة من عكا وكانت الحرب بينهم سجالًا وعساكر إسماعيل باشا نحو العشرة آلاف والمترجم يباشر الوقائع وكل وقعة يظهر فيها على الخصم ففي يوم من الأيام لم يشعروا إلا وعسكر إسماعيل باشا نافذ إليهم من طريق أخرى فركب المترجم وأخذ صحبته ثلاثة مدافع وتلاقى معهم وقاتلهم وهزمهم إلى أن حصرهم بقرية تسمى دعوق ثم أخرجهم بالأمان إلى وطاقه وأكرمهم وعمل لهم ضيافة ثلاثة أيام ثم أرسلهم إلى عكا بغير أمر الوزير ثم توجه إبراهيم باشا إلى الدورة وصحبته المترجم وتركوا سليمان باشا مكانهم وخرج إسماعيل باشا من عكا وأغلقت أبوابها فاتفقت عساكره وقبضوا عليه وسلموه إلى إبراهيم باشا فعند ذلك برز أمر إبراهيم باشا بتسليم عكا إلى سليمان باشا وذهب بالمرسوم المترجم فأدخله إليها ورجع إلى مخدومه وذهب معه إلى الدورة ثم عاد معه إلى الشام وورد الأمر بعزل إبراهيم باشا عن الشام وولاية عبد الله باشا المعروف بالعظم على يد باشت بغداد فخرج المترجم لملاقاته من على حلب فقلده دالي باشا على جميع العسكر فلما وصل إلى الشام ولاه على حوران وإربد والقنيطرة ليقبض أموالها فأقام نحو السنة ثم توجه صحبة الباشا مع الحج وتلاقوا مع الوهابية في الجديدة فحاربهم المترجم وهزمهم وحجوا واعتمروا ورجعوا ومكثوا إلى السنة الثانية فخرج عبد الله باشا بالحج وأبقى المترجم نائبًا عنه بالشام فلما وصل إلى المدينة المنورة منعه الوهابيون ورجع من غير حج ووصل خبر ذلك إلى الدولة فورد الأمر بعزل عبد الله باشا عن ولاية الشام وولاية المترجم على الشام وضواحيها فارتاعت النواحي والعربان وأقام السنة ولم يخرج بنفسه إلى الحج بل أرسل ملا حسن عوضًا عنه فمنع أيضًا عن الحج فلما كانت القابلة انفتح عليه أمر الدورة وعصى عليه بعض البلاد فخرج إليها وحاصر بلدة تسمى كردانية ووقع له فيها مشقة كبيرة إلى أن ملكها بالسيف وقتل أهلها ثم توجه إلى جبل نابلس وقهرهم وجبى منهم أموالًا عظيمة ثم رجع إلى الشام واستقام أمره وحسنت سيرته وسلك طريق العدل في الأحكام وأقام الشريعة والسنة وأبطل البدع والمنكرات واستتاب الخواطيء وزوجهن وطفق يفرق الصدقات على الفقراء وأهل العلم والغرباء وابن السبيل وأمر بترك الإسراف في المآكل والملابس وشاع خبر عدله في النواحي ولكن ثقل ذلك على أهل البلاد بترك مألوفهم ثم إنه ركب إلى بلاد النصيرية وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأولادهم وكان خيرهم بين الدخول في الإسلام أو الخروج من بلادهم فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا وبيعت نساؤهم وأولادهم فلما شاهدوا ذلك أظهروا الإسلام تقية فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم ورحل عنهم إلى طرابلس وحاصرها بسبب عصيان أميرها بربر باشا على الوزير وأقام محاصرًا لها عشرة أشهر حتى ملكها واستولى على قلعتها ونهبت منها أموال التجار وغيرهم ثم ارتحل إلى دمشق وأقام بها مدة فطرقه خبر الوهابية أنهم حضروا إلى المزيريب فبادر مسرعًا وخرج إلى لقائهم فلما وصل إلى المزيريب وجدهم قد ارتحلوا من غير قتال فأقام هناك أيامًا فوصل إليه الخبر بأن سليمان باشا وصل إلى الشام وملكها فعاد مسرعًا إلى الشام وتلاقى مع عسكر سليمان باشا وتحارب العسكران إلى المساء وبات كل منهم في محله ففي نصف الليل في غفلتهم والمترجم نائم وعسكره أيضًا هامدة فلم يشعروا إلا وعساكر سليمان باشا كبستهم فحضر إليه كتخداه وأيقظه من منامه وقال له إن لم تسرع وإلا قبضوا عليك فقام في الحين وخرج هاربًا وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط ونهبت أمواله وأرزاقه وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة ولم يزل حتى وصل إلى حماه فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها وطردوه فذهب إلى سيجر وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود ومنها إلى بلدة تسمى ريمة ونزل عند سعيد آغا فأقام عنده ثلاثة أيام ثم توجه إلى نواحي أنطاكية بصحبته جماعة من عند سعيد آغا المذكور ثم إلى السويدة ولم يبق معه سوى فرس واحد ثم أنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر واستأذنه في الحضور إلى مصر فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور فلاقاه صاحب مصر وأكرمه وقدم إليه خيولًا وقماشًا ومالًا وأنزله بدار واسعة بالأزبكية ورتب له خروجًا زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب وجميع اللوازم المحتاج إليها وأنعم عليه بجوار وغير ذلك وأقام بمصر هذه المدة وأرسل في شأنه الدولة وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا ما عدا ولاية الشام وحصلت فيه علة ذات الصدر فكن يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيدًا عنه ويذهب إليه جماعة الحكماء من الإفرنج وغيرهم ويطالع من كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين فلم ينجع غيه علاج وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهواء ولم يزل مقيمًا هناك حتى اشتد به المرض ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة وحملت جنزته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلاء ودفن بالحوش الذي أنشأه الباشا وأعده لموتاه وكانت مدة إقامته بمصر نحو ستة سنوات فسبحان الحي الذي لا يموت الدائم الملك السلطان‏.‏